إلى ما تثلم السن من القوة، وتقلم من أظفار الفتوة، وتعجز من تلحقه عن التطلع إلى الطفرة، وتطامن من جماح أمله طلبا للسلامة من العثرة. فاحكم أنت بعد هذا: أكانت فترة الشيوخ عن صحة تدبير وصدق حساب، أم عن تراخ في المنة وعجز عن الوثاب؟!
وجاء الانتخاب «للجمعية التشريعية» فظفر علي بك الشمسي بالعضوية فيها عن مديرية الشرقية، ولا أدري أكان ظفره بذاك، على شدة التنافس وقسوة الخصومة السياسية، لإدراك الناخبين صدق وطنيته وما له من المواهب السامية، أم لأنهم إنما أخرجوه للنيابة عنهم لحسبه، وأصالة عرقه، ومواضع بيته في تلك البلاد؟
على أنه ما كاد يتبوأ كرسيه في «الجمعية التشريعية»، وكان أصغر أعضائها سنا، حتى انفسح له بين رجالاتها في مكان الرأي والحكمة مكان خطير!
ودارت رحى الحرب العظمى، وظهر للسلطة القوية أن علي الشمسي «من غير المرغوب فيهم» فكفوه عن العودة إلى بلاده، ويلبث في ديار الغرب منفيا طوال زمن الحرب، فاغتنم هو هذا النفي ليدعو فيه لمصر وليستزيد من فضل الوقت لطلب العلم في أعظم جامعات الغرب.
وأراد الله وأغمد السيف، وهتف هاتف السلام، وأذن «للمغضوب عليهم» في العودة إلى بلادهم، فعاد علي الشمسي لا ليستريح من ذلك النصب الطويل، ولكن ليستقبل في قضية بلاده ذلك الجهاد الطويل.
وشخص الوفد المصري إلى أوروبا، فسرعان ما اتصل به علي الشمسي، وظل يمده بجهوده ويصله بصادق الدعوة في مواطن الدعوة، ثم انتظم فيه عضوا.
وبعد، فأنت أخبر بمساعيه للوفد المصري وبخاصة في بلاد الغرب، مما أجدى عليه بقوة ذكائه وعظيم اختباره ووثيق صلاته برجال السياسة هناك أعظم الجدوى. •••
ولقد حدثتك في أول هذا المقال أن علي الشمسي لم يكن من يوم نشأته منكور المحل، وإنما أردت بهذا علم الناس بنشأته في المجد والحسب، وثقتهم بما له من شدة فطنة وواسع علم، وإيمانهم بما أدرك من اختبار وتمرين في السياسة وصدق جهاد في الوطن. أما أنه يصلح لأن يكون وزيرا، وفي وزارة المعارف، يضطلع بتلك الإدارة الواسعة ويعالج أضخم مشكلة تعترض حياة البلاد، وهي مشكلة التعليم؛ فذلك ما كان محل نظر كبير، إن لم أقل إنه كان موضع خوف كبير! حتى لقد سلم كثير من الناس الأمر لله في هذا وللزعماء تسليما! وحتى قال بعض الصادقين المخلصين حين رأوا إجماع الزعماء على تقليد علي بك الشمسي وزارة المعارف: «اللهم إيمانا كإيمان العجائز!»
وأول ما ظن به أنه سينبعث بهوى السياسة وحدها في عمله الجديد، فلا يرى أثرا إلا عفاه، ولا بناء إلا هدمه، ولا عملا لأسلافه إلا نقضه، ولكن علي الشمسي لم يكن عند رأي أحد من أولئك المتعجلين جميعا! فقد ارتفع به علمه عن أن يغير في نظم التعليم لمجرد الشهوة في التغيير، وارتفعت به وطنيته عن أن يغضب العلم ليرضي السياسة. وحين فارت فورة بعض أعضاء مجلس النواب على ما صنع سلفه، أبت على علي الشمسي كرامته وكرامة العلم عليه أن يشايع بظهر الغيب، بل لقد صارح القوم بأنه لا يستطيع أن يحكم على عمل سلفه إلا بعد أن يراجعه ويصيب فيه مكان الرأي، فما كان منه خيرا أثبته وأقره، وما كان شرا رده إلى الخير. وأسرع لساعته فدعا بالأفذاذ من أقطاب العلماء وأهل البصر في هذا الموضوع، وألف منهم «لجنة» برياسته لمراجعة نظم التعليم بجميع درجاته، ووضع الخطة الحكيمة التي تحقق في العلم أماني البلاد. وها هي تي تعمل جاهدة في هذه السبيل، فلا تنتقل من خطوة إلى خطوة إلا بعد البحث وتقليب النظر وطول المراجعة، حتى لا ترسل خطوتها إلا إلى الثابت المطمئن، مستهدية بالحكمة والاختبار وحاجة البلاد وطبيعة أهلها، وما انتهى إليه رأي علماء التربية في نظم التعليم. وإنا لنرجو الله تعالى أن يوفق هذه «اللجنة» في مهمتها حتى تبلغ غايتها، وبهذا ندعو لعلي باشا الشمسي بتسجيل أبلغ فخر أثبته التاريخ لوزير المعارف في مصر. •••
وعلي باشا الشمسي رجل جم الأدب وافر التهذيب، يروى عنه أنه لا يلقى أصغر عماله إلا باللطف والهشاشة، على أنه مع هذا شديد الحزم، لا تأخذه هوادة في موطن الحق. يغار على عمله غيرته على أوثق أسبابه، فلا يدع صغيرة ولا كبيرة من أعمال وزارته إلا سلط عليها ذكاءه وقلبها على كل نواحي الرأي، فإن اجتمع فيها وجه المصلحة الخالصة أمضاها وأجازها، وإلا فلأم هوى النفس وهوى «الرجاء» الثكل.
Bog aan la aqoon