57

وكذلك أصبحت البلاد بنعمة الله صفا واحدا، يرمي في غرض واحد بعد أن كانت صفوفا يرمي بعضها بعضا. وصدقي باشا رجل شديد في رأيه يعمل له بكل ما أوتي من قوة، وهو من أكبر العاملين على ترك سياسة الفرقة إلى سياسة الوئام، وصل الله في عمرها إلى غاية الزمان، فكان شديدا في الأولى كما كان شديدا في الثانية، ومن ينكر عليه هذا فهو لا يدين بمنافع البلاد حيث كانت، ولكن يدين بعبادة الأشخاص حيث تكون!

وهل كان هذا في شرع السياسة بدعا؟ وهذه دول الغرب التي نأخذ عنها أساليب الحكم، ونتروى وجوه التصرف في السياسة، لقد تتعادى أحزابها وتتفانى، وينضح بعضها بعضا بالمكروه، حتى إذا حدثت الأحداث تصافحت الأيدي، واتحدت الكلمة وتلاحمت الصفوف، ودخل رجال من بعضها في وزارة ينمى رئيسها لآخرين، والأمثلة على هذا أوفر من أن يتناولها البيان.

ولقد كان سعد وعدلي وثروت وصدقي من فجر النهضة حزبا واحدا، يدينون برأي واحد، ويسعون لغرض واحد، فهل يعد عليهم اليوم أن تنحسر الفتنة بينهم، وأن يعودوا كما بدءوا قلبا واحدا، وقد جدت الأحداث، لإنقاذ حياة البلاد؟! •••

ولعل صدقي باشا يمتاز عن أصحابه بشدة العصبية لأهله ومعشره، فلا يفتأ يتفقدهم ويتوافى لهم ويصلهم بكل ما دخل في ذرعه، ولقد يفرط في هذا إلى الحد الذي يبعث ضعاف الأحلام، على إنكار ما أوصت به المكارم من صلة الأرحام!

وصدقي باشا، في بابه، عدة قوية للبلاد، وهو لا يكل من العمل، على فرط ذكائه، ولا يمل. ومما تحدث به عنه أعرف الناس به، أنه حين كان وزيرا للمالية لم يكن يرهق كبار موظفيها بطول المراجعة والاستخبار، بل كان يتكئ على فطنته واختباره وحدهما في مذاكرة ما يدفعونه إليه من الأوراق. ومما تحدثوا به عنه في هذا الباب أيضا، أنه كان في غاية اليوم تحمل إلى داره خرائط ثلاث أو أربع تجن كل ما يجري من الأعمال في وزارة المالية، فيكب على دراستها من الساعة الخامسة من صباح اليوم التالي فلا تدخل الساعة التاسعة إلا وقد قتلها بحثا ومراجعة، واستوى له في كل منها الرأي النصيح.

وإن خطئا عظيما ألا يستخدم على الدوام للنفع العام، فإذا أخذه شانئوه بهنة فما كان هذا ليتنقص أقدار الرجال، إلا إذا تنقصت الكهوف أقدار الجبال، ولعلهم في هذا أيضا كانوا مسرفين!

من صدقي باشا إلى محرر المرآة

وقد تفضل حضرة صاحب المعالي إسماعيل صدقي باشا، فبعث إلى محرر «المرآة» بالكتاب الآتي:

عزيزي الأستاذ الفاضل

أشكر فضيلتكم كثيرا لمرآتكم الناصعة وإن كنت لا أخفي عنكم أنني لم أتعرف صورتي تماما خلالها، بل أخشى أن تكونوا قد بالغتم في تجميلها وتزيينها.

Bog aan la aqoon