53

مضيت إلى الموعد ورأسي يزدحم بجلائل الأفكار عن هذه السيدة النبيلة، المزدحم تاريخها بجلائل الأعمال، ولقد ثار المصريون في صدر سنة 1919 يطلبون نصيبهم في الحياة، وأبت كرائم السيدات أن يتخلفن في الخدور، فنفرن في خفة إلى الجهاد، وفي طليعتهن كانت السيدة هدى هانم شعراوي. ولقد يسيغ الرجل الرجعي «مثلي» هذا؛ لأننا كنا في جهاد، وهل خلا جهاد من أثر للسيدات عظيم؟ وهادننا الإنجليز وهادناهم، وسكت المدفع وتكلمت السياسة، وآبت أكثر العقائل إلى خدورهن تاركات ذاك للرجال، فذلك، في رأيي، من شأن الرجال وحدهم. وأبت هدى هانم، في سرب من ربات الحجال، إلا أن تجول في السياسة مجالا، ولعله عز على بنت سلطان باشا الذي مثل خديو مصر في البلاد يوم حاصر العرابيون الخديو في الإسكندرية وكفوه عن ولاية الحكم، والذي جرد عليه بعض الثائرين السيف فلم يتتعتع عن التشبث بما اعتقده منجاة للوطن، ولعله عز على زوجة علي شعراوي باشا الذي كان ثالث ثلاثة خاضوا، في يوم الروع، مدافع السلطة وأسنتها، وراحوا يقولون لعميدها في شمم وقوة: إن مصر تريد حريتها لأنها لا تطيق حياة الرق، فإذا كنتم ترومون أن تتصلوا بها، فلتكن صلة الأكفاء بالأكفاء لا السادة بالعبيد، لعله عز على هذه السيدة التي خاضت المجد من كل أطرافه أن تسكن أو تبلغ مصر غاية مناها من الحرية والاستقلال.

على أنها ما لبثت في ميدان السياسة أن فطنت إلى أن لها مهمة أخرى لو حررت لها مواهبها العظيمة، لكان ذلك أزد على بني وطنها، بل على قضية هذا الوطن، ولقد اجتمع للسيدة هدى هانم ما لم يجتمع لكثيرات في هذه البلاد، اجتمع لها الحسب، والغنى، والذكاء، والنشاط، والغيرة الشديدة على النفع العام.

وشاء الله لهدى هانم، أو على الصحيح، شاء لحظ مصر أن تقبل هذه السيدة بكل مواهبها على ما هو أخلق بها، فرأت أن المرأة المصرية مظلومة فحق أن تنصف، محرومة فحق أن تعطى، جاهلة فحق أن تتعلم، وأنفقت ما شاء الله من مالها وجاهها ومساعيها حتى شرعت الحكومة قانونا لسن زواج البنت، وحتى فرضت من عنايتها نصيبا عظيما لتعليم البنات. وما زالت السيدة تلح بمساعيها على الحكومة في شأن المرأة، وما زالت عناية الحكومة تتسع لهذا الإلحاح الكريم.

أما من جهتها هي، فقد راحت تعمل على تهذيب المرأة المصرية وتعليمها، ورفع شأنها بكل دخل في إمكانها من الذرائع: فمن إنشاء مدرسة، إلى إقامة ملجأ، إلى تشييد مشغل، إلى نشر مجلة، إلى إلقاء المحاضرات العامة في شئون التربية والتعليم.

ولم تقنع بكل ذلك، فأقامت مصنعا للخزف؛ تحيي به صناعة وطنية قديمة من جهة، وتعصم به من جهة أخرى طائفة كبيرة من الفتيان المتبطلين من التشرد والاطراد في طرق الشر والإجرام، ويضيق العمل في داخل البلاد عن مساحة همتها، فتهاجر كل عام إلى ديار الغرب؛ لتهتف باسم مصر وتعلي من قدر المرأة المصرية هناك.

وأظن السيدة هدى هانم شعراوي أول سيدة مصرية مثلت بنات جنسها في بلاد الغرب، فقد وفدت على روما من بضع سنين وانتظمت عضوا في المؤتمر النسوي الذي عقد هناك، وألقت بين أهله خطابا نفيسا دل القوم على أنهم كانوا في عقيدتهم في السيدة المصرية جد مخطئين.

ووفدت صيف هذا العام على باريس، ودخلت عضوا تنوب عن نساء مصر في المؤتمر النسوي الذي حضره رئيس الوزارة ووزير المعارف كلاهما، ومما يذكر لها بالإعجاب، أنها لاحظت أنه قد رفعت في قاعة المؤتمر أعلام الدول التي ينتمي إليها الأعضاء جميعا ما خلا مصر، فلم تتوان عن الجهر بما لاحظت، فاعتذر إليها القائمون بشأن المؤتمر، وأكدوا لها جهد قواهم أن الأمر لا يمكن أن يصرف إلا على مجرد السهو، وبادروا إلى العلم المصري فرفعوه بين التحية والتصفيق، ولما انتخب أعضاء لجنة المؤتمر التنفيذية كان بينهن، ولا فخر، ممثلة نساء مصر هدى هانم شعراوي.

كل هذه الأفكار كانت تساورني في طريقي إلى قصر السيدة هدى هانم شعراوي، إلا أنني، كما أسلفت إليك، في مسألة «النهضة النسوية» رجعي، وإذا كنت أخاف شيئا من وفادتي تلك، فهو أن تغير السيدة هدى هانم رأيي في المرأة، والمرأة المصرية على وجه الخصوص!

وأنت إذا جددت في التفكير، انتهيت إلى أن أكثر ما يستريح إليه الناس وما يختمون عليه قلوبهم في معاقد آرائهم مدين لهذا النوع من الأنانية في الإنسان، وإن المرء ليؤمن بالرأي حتى ليقاتل في سبيله ويبذل مهجته من دونه، وما كان هذا الرأي نتيجة منطق سليم، ولا وليد تفكير صحيح، بل لقد يكون أثرا من آثار التقليد، أو طول الاعتياد، أو حكم الظرف الخاص، أو غير ذلك من مختلف الأسباب، وإن الزمن ليعقد بين المرء ورأيه ألفا ومودة، وتلك العلة في نفورك من كل من يكشف لك عن مواقع الخطأ في رأيك، ويحاول أن يزعجك عنه إلى ما ربما كان الصواب. ولقد لمس المتنبي هذا المعنى في قوله:

خلقت ألوفا لو رجعت إلى الصبا

Bog aan la aqoon