51

وهو، كما حدثتك، حاضر البديهة، رائع «النكتة»، يتعلق فيها بأدق المعاني في جميع فنون القول، فلا يحتويه مجلس إلا رأيته يتنزى تنزيا من ضحك ومن طرب ومن إعجاب، وهو كذلك شديد الفطنة، حلو الملاحظة، لا يكاد يعرض لسمعه أو لبصره شيء إلا وجه عليه رأيا طريفا يصوغه في «نكتة» عجيبة قد تستقر على سطوح الأشياء، وأحيانا تتغلغل إلى الصميم حتى تتكشف الأيام منها لا عن طرفة متطرف ولكن عن رأي حكيم! وهو لا يتحامى في تطرفه ولا يتحرج، فتراه يقتحم عليك بتندره كل مداخلك أنى سنحت له اقتحاما، فيصيب من خلقك ومن ثيابك ومن أثاث بيتك ومن طعامك، على أنه في كل هذا مرضيك ومؤنسك وباسط أسارير وجهك إن لم يفرج بالضحك من ثناياك، فأما إذا كنت رجلا ضيق العطن متزمت النفس، فلا خير لك في مجلس حافظ إبراهيم.

وهو أجود من الريح المرسلة، ولو أنه ادخر قسطا مما أصابت يده من الأموال لكان اليوم من أهل الثراء، على أنه ما فتئ طوال أيامه يشكو البؤس حتى إذا طالت يده الألف جن جنونه، أو ينفقها في يوم إن استطاع، فإذا استغلقت عليه أحيانا وجوه السبل لإتلاف الأموال، عد هذا أيضا من معاكسة الأقدار! ولعل هذا من أنه نضجت شاعريته في باب «شكوى الزمان»، وقال فيه ما لم يتعلق بغباره شاعر، فهو ما يبرح يطلب البؤس طلبا ويتفقده تفقدا؛ إيثارا لتجويد الصنعة والتبريز في صياغة الكلام، وتلك دعوة كانت للمرحوم الشيخ محمد عبده أحسب حافظا يحققها بيده إذا قصرت في تحقيقها الأيام. وإنه لفنان

Artiste

حقا، وإن فيه لكل أخلاق الفنانين، توله بالطعن من جميع أقطاره، فقد يسامحك ويتراخى بالصفح عنك، أما أن تتولى فنه وتسلك بالطعن صنعته، فذلك الكسر الذي لا يجبر، وذلك الذنب الذي لا يغفر، وذلك مثار الدمع ما يزال هاميا، وذلك متنزى الجرح ما يفتأ على الزمان داميا.

والعجب أن حافظا نفسه ضيق العطن، قليل الصبر، سريع الغضب، ويا ويل الأرض منه والسماء إذا تعجل أمرا فألبث دونه دقيقة واحدة، إذن لهاج هياج الصبي، فما يجدي فيه التصبير ولا التعليل، وما أبدع غضبته وما أحلاها ساعة يهم بركوب مركبة في الطريق، فيرى الخيل قد خلعت عنها أرسانها، وهناك تسمع منه وهو يكاد يتميز من الغيظ، أبدع النكات وأدقها، وقد عجلت إليه الشيخوخة قبل السن، وضربته أعراض السبعين، إذ هو لم يذرف كثيرا على الخمسين، ففاض من أنسه غير قليل، وشغل بالمرض أو بتوهم المرض، فما يلقاك إلا أبثك علة طارئة وطالعك بشكاة جديدة، وتتقسم أوهامه مراجعة الأطباء والمتطببين، وترديد النظر في كتب الصحة والأقرباذين، فما سمع بعلة إلا أحس أعراضها، ولا وقع على عقار من العقاقير إلا اتخذه وتداوى به!

ومن أظرف نوادره، أن صديقا له لقيه مرة في الطريق، وهو منقبض النفس متربد الوجه، فسأله ما به، فقال له: إن المصران الأعور عندي ملتهب، فقال له صاحبه: وبماذا تشعر؟ فقال: أشعر بوجع شديد هاهنا، وأشار بيده إلى جنبه الأيسر، فقال له: إن المصران الأعور إنما يكون في الجنب الأيمن لا الأيسر! فأجابه حافظ من فوره: يمكن أكون أنا يا سيدي أعور شمال! •••

ولا أحسب شاعرا يجيد الإنشاد كما يجيده حافظ، وإن له لصوتا جهيرا، فخما، رائع المقاطع، فإذا هو وقف ينشد الجماهير هزها هزا، ورفع بالترتيل حظ الكلام درجات على درجات.

ولا ننس لحافظ يدا جليلة على اللغة العربية بما نظم وما نثر إنشاء وترجمة، فلقد طالما استخرج من مجفوها صيغا طريفة بليغة أدت كثيرا من الأسباب الدائرة بين الناس، مما تتحرك معانيه في الأنفس ويعيي أداؤه على الأقلام.

وحافظ إبراهيم - ولا شك - من مفاخر هذا العصر ومن مباهجه معا. أسأل الله أن يبسط في عمره، وأن يرزقه العافية، على أن يقتنع هو أنه في عافية!

وبعد، فإذا كنت يا صديقي قد وترتك بعض حقك ولم أعرض جميع مزاياك؛ فلكيلا أجعل لأحد سبيلا إلى الاتهام، وإذا ظن بي شانئ أني لم أتسقط كل هناتك، إن كانت لك هنات أخرى، فما كان الود ليريني إلا الخير في أصدقائي، على أنني أعتذر إليك في الأولى، وأعتذر إلى القراء في الثانية، وأستغفر الله في الحالين، وأسأله تعالى أن يصرف عني محنة الكتابة، ويتوب علي من فن الكلام.

Bog aan la aqoon