Ku cusbooneysiinta Dhaqanka Carabta
في تحديث الثقافة العربية
Noocyada
لقد كان من حقنا - بداهة - أن نحصن هويتنا تحصينا يصونها؛ حتى لا تنجرف فيما يشوه قسماتها، فلا تصبح هي ما هي؛ لأنه لو حدث ذلك لشقينا بنقمتين نقمة من فقد نفسه، ونقمة من انقطعت الصلة بينه وبين ماضيه، فليس العيب - إذن - هو في الحفاظ على جوهر ذواتنا، بل العيب هو في أننا أخطأنا الطريق المؤدي إلى تحقيق ما أردناه؛ فحسبنا أن سبيلنا إلى ما نبتغيه، وهو أن نظل على قوميتنا وعلى عقيدتنا وما تمليه علينا من مبادئ نقيم عليها صور الحياة، أقول إننا حسبنا أن سبيلنا إلى ذلك هو أن نكيل السباب إلى بناة الحضارة العصرية، بدل أن نلتمس لأنفسنا بكل ما يميزنا من خصائص مكانا في حضارة عصرنا ودورا نؤديه في بنائها، وفي التصدي لمعالجة أوجه النقص في تلك الحضارة.
كان للوقفة المغلوطة التي وقفناها من حضارة العصر وثقافته عندما أردنا أن نأخذ الحيطة صونا لذواتنا من الضياع، أقول إن تلك الوقفة المغلوطة قد ترتبت عليها نتائج خطيرة تهدد حياتنا بالضعف والانهيار، وأسوق لك مثلا واحدا، ولكنه مثل جسيم في خطورته؛ إذ هو يشبه أن يكون مثلا لمن أخذته عزة بإثمه فألقى بنفسه في مهلكة، والمثل الذي أسوقه هو تلك الدعوة التي تزداد كل يوم تضخما واتساعا وارتفاع صوت، حتى ليوشك باطلها أن يقع موقع الحق في نفوس سامعيها، وهي الدعوة إلى أسلمة العلوم الإنسانية التي فيها - وفي مقدمتها - علم النفس وعلم الاجتماع، وعلم الاقتصاد؛ فأصحاب الدعوة - بكل نية حسنة - يقولون للناس: لماذا نأخذ هذه العلوم التي تدور موضوعات بحثها حول الإنسان في طرائق حياته عن علماء الغرب في تلك الميادين مع أن لنا نحن - عن الإنسان وحياته ومبادئه وقيمه - مصادرنا الدينية والعلمية، فأما المصادر الدينية فهي ملزمة لنا بحكم العقيدة الدينية، وأما المصادر العلمية التي ورثناها عن أسلافنا فهي أعظم قدرا وألصق بنا مما كتبه علماء الغرب والمعاصرون منهم بوجه خاص، شيء كهذا يقوله أصحاب الدعوة إلى أن تكون علومنا الإنسانية علوما إسلامية! وفي هذا القول خطأ منطقي يظهر من مجرد النظر بدقة في عبارة علوم إسلامية وتبين ما تنطوي عليه من تناقض بحيث يرفضها العقل حتى قبل أن يجاوزها إلى مجالات العلوم التي تعنيها، والتي منها علوم النفس والاجتماع والاقتصاد، وأول ما نذكره على سبيل التوضيح هو هذه البديهة الآتية: إن العلوم الإنسانية «علوم» أفرأيتم ما هو أيقن يقينا من هذه الجملة؟ ويقينها مستمد من ذاتها على نحو ما يكون الأمر في أية جملة رياضية؛ ففي الجملة المذكورة - كما في أي جملة رياضية - نوع من تكرار المبتدأ في الخبر، فإذا كان قولك عن المثلث إنه سطح تحيط به ثلاثة أضلاع يفرض نفسه على العقل فرضا لأنه تحصيل حاصل - كما يقولون - فكذلك يكون موقفنا بالنسبة إلى قولنا العلوم الإنسانية علوم هو شبيه بقولنا أشجار الزيتون أشجار، أو قولنا أسماك البحر أسماك، فإذا اتفقنا على أن العلوم الإنسانية «علوم»؛ انتقل بنا الحديث على الفور إلى البحث عن الخصائص الضرورية التي لا بد من توافرها في أي علم يريد أن يسلك في زمرة العلوم، وليس هنا موضع الإفاضة في تلك الخصائص، لكن يكفينا منها واحدة، وهي المحايدة بالنسبة إلى الجوانب الذاتية من حياة الإنسان؛ أي إن الحقيقة العلمية تظل هي هي الحقيقة العلمية بغض النظر عما قد يختلف فيه الأفراد، أو تختلف فيه الشعوب؛ إذ لا تتغير الحقيقة العلمية بتغيير الأجناس والألوان والديانات والأعراف والتقاليد، والأذواق؛ فهذه كلها أمور بالغة الأهمية لحياة الإنسان إلا أنها رغم ذلك ليست مما يرد في مجال العلوم، على أن ذلك لا ينفي أن اختلاف الثقافات بين الأفراد والشعوب قد يؤدي إلى اختلاف في تطبيق تلك العلوم؛ فالعلم النووي - مثلا - قد خلص إلى القوانين الطبيعية التي على أساسها يمكن استخراج القوة الذرية، لكن ذلك العلم إذ يعرض نتائجه على الناس لا يكون من شأنه أن يملي عليهم مجالات خاصة لاستعمالها، والذي يحدد هذه المجالات للناس هو ثقافتهم، أو قل هي أخلاقهم؛ فلقد رأت حكومة الولايات المتحدة الأمريكية سنة 1945م أن تنهي حربها مع اليابان بإسقاط قنبلة ذرية على هيروشيما وأخرى على ناجازاكي، فوقفت الحرب، ومن الجائز جدا ألا ترى هذا الرأي دولة أخرى في حربها مع عدوها، محرجة من أن تنزل هذا الدمار كله على سكان المدن، وذلك هو معنى قولنا إن العلم موضوعي؛ أي إن الذي يجعله علما هو منهج خاص ينصب على موضوع البحث دون أن يتدخل الإنسان بميوله وعقائده، وأما في أي مجال يجوز تطبيق نتائج العلم، وفي أيها لا يجوز ذلك؛ فليس ذلك من شأن العلم ذاته، وإنما هو أمر موكول لضوابط أخرى في حياة الإنسان.
تلك - إذن - واحدة في فهمنا لعبارة علوم إنسانية ، وأما النقطة الثانية؛ فهي أن هنالك فرقا بعيدا بين ما نتوقع أن يؤديه طالب العلوم الإنسانية وبين ما نتوقع أن يؤديه العالم من علماء العلوم الإنسانية، فبينما نحتم على الطالب أن يراجع الكتب الأساسية القائمة بالفعل في الموضوع الذي يدرسه من موضوعات العلوم الإنسانية بما في ذلك - بالطبع - ما هو موجود في المكتبة من مؤلفات أسلافنا؛ فليس ذلك بالضبط هو ما يضطلع به العالم الباحث في موضوع مما يندرج في أحد العلوم الإنسانية، فقد يرى ضرورة ذلك وقد لا يرى؛ لأن تلك العلوم قد أصبحت اليوم تقيم بحوثها على الواقع الطبيعي للظاهرة التي هي موضوع البحث، فعلماء النفس - وأعني العلماء الذين يضيفون إلى العلم جديدا - لا يستخرجون القوانين العلمية الجديدة الخاصة بسلوك الإنسان من بطون كتب، سواء أكان مؤلفوها من أسلافنا أم كانوا من الغرباء وأسلافهم، وإنما تستخرج الإضافة العلمية الجديدة من التجارب العلمية التي تجرى على عينات بشرية يختارها الباحث العلمي بناء على ما تقتضيه ضرورات بحثه؛ فواضح - إذن - أن سؤال السائل عما يقوم به عالم النفس من تجارب علمية، وإحصاءات ... إلخ؛ ليس هو: هل قدم لنا ذلك العالم نتائج إسلامية؟ بل السؤال هو: هل قدم نتائج عملية قائمة على منهج علمي سليم؟
وأما النقطة الثالثة التي أذكرها تعليقا على دعوة الدعاة بأن نجعل العلوم الإنسانية علوما إسلامية؛ فهي أن العلوم الإسلامية هي علوم وليست إسلاما، من حيث إن الإسلام دين، إنني لأرجو القارئ أصدق رجاء وأخلصه؛ أن يركز انتباهه فيما نعرضه عليه إنقاذا له من خلط فكري غرقنا فيه حتى رءوسنا أشكالا وألوانا. مرة أخرى أقول: إن العلوم الإسلامية ليست إسلاما، بل هي علوم، والفرق بعيد بين الحالتين؛ فالإسلام دين يقع منا موقع الإيمان، وما دمنا نظل بالنسبة للدين في دائرة الإيمان؛ فليس ثمة مجال للتصويب والتخطيء، وليس ثمة موضع للنقد أو لتعدد الآراء.
فكل مسلم يؤمن بأن الله واحد أحد، وفي حدود هذه الصيغة الإسلامية - أو ما شئت من العقائد الإيمانية عند المسلم - يتساوى جميع المؤمنين؛ فلا يصحح أحد منهم لأحد شيئا، ولكننا في حدود الصيغة الإيمانية لا نكون قد جاوزناها إلى علم يقام عليها، فإذا فعلنا ذلك، فأولا قد تتعدد ميادين العلوم التي تقام عليها، فربما اختار باحث أن يبحث في المفردات اللغوية وطريقة تركيبها في الصيغة المعينة، وقد يختار باحث آخر أن يستخلص من منطوق الصيغة الإيمانية ما يجب على المؤمن بها من سلوك يسلكه في حياته العملية، وقد يختار باحث ثالث أن يجري مقارنة تحليلية بين وحدانية المسلم وبين وحدانيات أخرى كفكرة الخير عند أفلاطون أو فكرة الصورة الخالصة عند أرسطو، وأمثال هذه المقارنات قام بها الفلاسفة المسلمون الأوائل، وهكذا، وهكذا.
وواضح أنه وإن يكن كل مسلم يؤمن بوحدانية الله وأحديته؛ فليس كل مسلم بقادر على أن يجاوز الصيغة الإيمانية إلى النظر فيها نظرا عقليا علميا تحليليا، بل ليس كل مسلم قادر على مثل ذلك النظر العقلي العلمي فيما قد آمن به براغب فيه، على أن الراغبين القادرين على النظر العلمي الذين يجاوزون الصيغ الإيمانية إلى تحليلها على منهج التحليل العلمي قد يتفقون في النتائج التي توصلهم إليها عقولهم وعلومهم، وقد يختلفون، وعندئذ لا ضير في اختلافهم؛ لأنهم لم يعودوا وهم في مجال علم ملزمين بالاتفاق كما كانوا ملزمين وهم في دائرة الإيمان؛ فالإسلام عند المسلم هو الإسلام من حيث هو دين لا يختلف فيه مؤمن عن مؤمن، أما صيغ الإيمان الإسلامي حين ينتقل بها العلماء إلى مجال البحث العلمي، فهي في هذا الوضع الجديد موضوع للبحث العلمي، ومن ثم يجوز للباحثين أن يختلفوا في النتائج والأحكام، كالفقهاء وهم يستدلون الأحكام الشرعية من النص القرآني الكريم، أو علماء اللغة حين يدرسون ويستدلون أسرار بلاغة القرآن الكريم، لا بل في الأمر ما هو أكثر من اختلاف الباحثين، وهو أنه من الممكن أن يكون الباحث العلمي في نص إيماني من غير المسلمين؛ لأن البحث العلمي في نص إسلامي ليس هو نفسه الإسلام من حيث هو دين.
فماذا يريد الدعاة إلى أسلمة العلوم الإنسانية أن يقولوا؟
إنه إذا كان المراد هو أن نختار من الكتاب الكريم آيات ينظر إلى نصوصها نظرة التحليل العلمي لاستخراج الأحكام المستنبطة فيها والخاصة بميدان معين من ميادين العلوم الإنسانية كعلوم النفس والاجتماع والاقتصاد؛ فذلك جهد علمي مشكور على أن يكون واضحا أن العلم الإسلامي الذي يخرجه مثل ذلك البحث هو علم يجوز لأصحابه الاختلاف فيما بينهم حول نتائجه وأحكامه، ثم ما هو أهم من ذلك، وهو أن يكون كأي علم آخر يقبل أن يضاف إليه ما قد استحدث من نتائج علمية عبر الزمن؛ فلقد أوضحنا للقارئ أن العلوم الإسلامية كلها هي علوم يقبل الاختلاف على نتائجها، وليست هي إسلاما لا يقبل فيه من الناحية الإيمانية اختلاف المؤمنين.
إن حياتنا الثقافية كانت لتحيا في صورة أقوى نبضا وأفعل أثرا، لو أتيح لها نقاد الفكر كما قد أتيح لها نقاد الأدب، وليس الناقد في الحالة الأولى مرادفا في الوظيفة مع الناقد في الحالة الثانية؛ فنقاد الأدب، رغم اختلاف مدارسهم بحيث كان منهم من جعل هدفه هو اختراق النص الأدبي إلى ما وراءه، والذي وراءه هو إما نفسية مبدع القطعة الأدبية المنقودة، وإما الحياة الاجتماعية التي أحاطت بذلك المبدع، وكان منهم كذلك من يجعل هدفه النص الأدبي ذاته يحلله ليرى كيف ركبت أجزاؤه وتسلسلت لكي تكون مؤثرة على نحو ما تؤثر. أقول إن نقاد الأدب على اختلاف مدارسهم قد اضطلعوا بواجبهم - قديما وحديثا - على نحو ربما كان عاملا فعالا في ترشيد الإبداع الأدبي، وأما الفكر العربي الحديث؛ فقلما وجد نقدا فكريا رشيدا، بل إن نقد الفكرة عملية غير معلومة ولا مفهومة للكثرة الغالبة منا؛ إذ قد يظن أن المقصود بنقد الفكر أن يبين صحة الفكرة المعينة أو خطأها، وإذا كان ذلك هو ما يؤديه ناقد الفكر فهو موجود في حياتنا بكثرة لا نريد لها مزيدا؛ فنحن - ما شاء الله - لا نوصى لهجوم بعضنا على بعض بالتصويب والتخطيء، لكننا إذ نفعل ذلك لا نفعله على أساس التحليل الذي يبين كيف ركبت جملة معينة تركيبا يجعلها مستوفية لشروط المعرفة العلمية أو غير مستوفية لها ، فإن كانت الثانية رفضت الجملة من الأساس دون حاجة منا إلى الدخول في مضمونها لنتفق عليه أو نختلف، ولن أدخل في نفسك الفزع بأن أحدثك عن مقدار ما تجري به أحلامنا من أقوال لو حللنا تركيبها قبل أن نلتفت إلى معناها لسقطت ميتة عند أول ضربة من مشرط التحليل. ولما غاب نقد الفكر من حياتنا تقريبا؛ غابت بغيابه حساسية القارئ التي تميز له معقول الكلام من غير المعقول، حتى جاز أن تشيع فينا بكل اليسر دعوة لأن نجعل العلوم الإنسانية علوما إسلامية على أن تفهم عبارة العلوم الإسلامية على أنها هي نفسها دين الإسلام.
إننا حتى ونحن نقسم أنفسنا - وكثيرا جدا ما نفعل - إلى من نطلق عليهم أنصار القديم، ومن نطلق عليهم أنصار الجديد، لا نقف لحظة واحدة متأنية متروية لنسأل أنفسنا ما الذي نعنيه بهذه اللافتات التي نرفعها إيذانا بحرب فكرية بين الفريقين؟ فماذا فعل نصير القديم وماذا فعل نصير الجديد مما استحقا به أن يقفا في معسكرين متقاتلين؟ ألا يجوز أن نجد أن الخلاف بينهما هو في الحقيقة لا خلاف وإن كلا منهما قد اكتفى بنصف الطريق دون نصفه الثاني؟ وإذا كان هذا هو هكذا؛ علمنا أن الرجلين متكاملان؛ أي أنك لو جمعت واحدا من أنصار القديم إلى آخر من أنصار الجديد، لوجدت حاصل الجمع هو الحياة الثقافية التي نسعى إلى استحداثها، ولم يعد منها ناقص إلا ضرورة أن يجتمع النصفان في كل فرد على حدة؛ ليتفاعلا ولينتجا بالتفاعل حاصلا ثقافيا جديدا، فالمسألة كلها بين الرجلين هي خلط منهما معا بين الوسيلة والغاية؛ فالأول منهما إذا اكتفى بدراسة التراث ووقف عنده يجب أن يعلم أنه قد اكتفى بالوسيلة ووقف عندها، لأن التراث ضروري من حيث هو مصدر إلهام نستوحيه إبداعا غير مسبوقين فيه من حيث هو نهايات يوقف عندها، وكذلك الثاني منهما إذا اكتفى بلحظته الحاضرة يجب أن يعلم بأنه كمن أراد أن يستغني بالغاية عن وسيلتها؛ فهذه اللحظة الحاضرة لا تقف وحدها في خلاء الزمن، بل هي حلقة من سلسلة، ولا بد أن تكون كذلك تأخذ عما قبلها لتضيف، ثم تخلي الطريق لما بعدها. والعجيبة في نصير اللحظة الحاضرة أنه يثور على قديمه معبرا عن ثورية باللغة العربية، واللغة العربية لم يصنعها هو في لحظتها الراهنة، بل تلقاها ثمرة جاهزة من سالفيه؛ لتضيف قوة إلى قوتها، ويتركها لمن يجيء بعده أكثر نبضا بالحياة - ذلك لو استقامت لنا حياة ولغة.
Bog aan la aqoon