Ku cusbooneysiinta Dhaqanka Carabta
في تحديث الثقافة العربية
Noocyada
أما أولئك الذين يوهمهم حبهم وإخلاصهم للسلف، بأن إعادة حياتهم إلى عصرنا لنعيش على نهجها، لا من حيث «المبادئ» فقط، بل كذلك من حيث المضمون الكيفي لتلك المبادئ؛ فهم إنما يتطلبون محالا، وهو محال بحكم منطق العقل ذاته، فضلا عن مجافاته لمجرى التغيرات الحضارية، ولماذا هو محال من جهة المنطق العقلي؟ هاك جواب ذلك مشروحا في إيجاز:
اللغة هي أهم وسيلة للتواصل بين أفراد الشعب المتعاصرين؛ كما أنها أيضا أهم وسائل التواصل بين الأجيال المتعاقبة في ذلك الشعب الواحد؛ فالمتعاصرون من أبناء الشعب المعين مشتركون جميعا في واقع معين؛ فإذا ما أرادوا التفاهم حول ذلك الواقع المشترك، تبادلوا وسائل اللغة التي يشيرون بمفرداتها ومركباتها، إلى أجزاء الواقع الذي يعيشونه؛ فهم يعرفون - مثلا - معنى كلمة «طعام» وكلمة «إفطار» وكلمة «ساعة» وكلمة «سيارة»؛ فإذا قال عامل لزميله «ركبت السيارة العامة بعد تناولي طعام الإفطار؛ لأكون في مكان العمل الساعة الثامنة.» فهم السامع على وجه الدقة ما أراد أن ينقله إليه المتحدث، وأعني «بالدقة» هنا أن عملية الفهم لم تقتصر على مجمل المعنى، بل تتسع لتشمل تفصيلاته؛ فهو يعرف ماذا تكون أنواع الطعام التي تكون منها عادة وجبة الإفطار، وماذا تعني كلمة سيارة عندما تكون سيارة عامة للجمهور، وماذا يعني تحديد الزمن بأنه الساعة الثامنة، هل هو شديد التبكير في الصباح، أو هو وقت يتسع للفراغ من أعمال الصباح قبل مغادرة العامل منزله إلى مكان عمله، لكن هذه العبارة نفسها إذا وجدناها في أثر قديم من آثار التراث؛ لاستحال على القارئ أن يكون صورة دقيقة عما حدث لقائلها، إذ لا ندري على وجه قريب من الدقة ماذا كان يعني أهل القرن العاشر الميلادي مثلا في مصر، بكلمة «إفطار» وبكلمة «سيارة» وماذا كان الشكل العام للأعمال وأمكنتها ... إلخ ... إلخ.
فمفردات اللغة وإن تكن ثابتة على صورتها؛ فإنها اكتسبت معانيها من الحالات الواقعية التي يعيشها الناس، فلا «مصباح» أهل القرن العاشر الميلادي هو مصباحنا اليوم، ولا «القلم» هو على صورة القلم الذي نكتب به اليوم، ولا بنيان المنزل هو كالبنيان الذي نتخذ منه مساكن اليوم، ولا أي شيء مما تتحدث عنه اللغة، هو اليوم على صورة ما كان بالأمس، مع بقاء اللغة، من حيث مفرداتها وطرائق تركيبها ثابتة أو فيما يقرب من الثبات؛ فمن أين - إذن - يستمدون معرفتهم عن حياة الأسلاف ليحاكوها - أولئك الذين يجعلون من تلك المحاكاة مثلهم الأعلى؟ أليس مصدرهم هو ما يقرءونه في مراجع التراث؟ فهل في مستطاعهم أن يترجموا تلك المادة المقروءة إلى كائنات الواقع المعاش، في العصر الذي كتبت فيه العبارات المقروءة؟ وإذا كان ذلك مستحيلا عليهم، بحكم ثبات اللفظة المعينة مع تغير مدلولها في تفصيلاته، فمن أين تأتيهم النماذج التي يحاكونها؟ لا، إنه لا مفر من أن تكون الصور المجردة والمفرغة من مضامينها، كالمبادئ، والأسماء الكلية في اللغة، هي محاور الثبات، في استمرارية التيار التاريخي بين الماضي والحاضر، مع تغير المضمونات الكيفية عصرا بعد عصر، وإني لأدعوك - أيها القارئ - إلى التأمل في كثير مما يدور عليه اختلاف الرأي بين سلفي ومجدد؛ لترى إلى أي حد يقوم اختلافهما على الخلط بين المبادئ المجردة التي يجوز عليها الثبات، ومضموناتها التي لا بد لها أن تتغير.
تخليص وتلخيص (3)
ترى هل نصيب إذا زعمنا أن أعمق أساس مما أقمنا عليه بناءنا الثقافي هو تلك الزاوية التي انفرجت بين تصوراتنا الداخلية من جهة وواقع الدنيا وأحداثها من جهة أخرى؟ إننا إذا أردنا أن نلخص العلة التي تفسر عددا كبيرا من ظواهر حياتنا الفكرية والأدبية؛ لما وجدنا ما هو أصدق من القول بأن ثمة فاصلا بين ما نتوهمه في أنفسنا وبين حقائق الأشياء والحوادث التي نظن أننا نتعامل بها ومعها في حياتنا العملية.
فالكاتب في كثير جدا من الحالات التي يزعم فيها لنفسه وللناس أنه إنما يصور حقائق الناس الأشياء، بل حقائق التاريخ، يكتب عما ينبغي أن يكون من وجهة نظره متوهما أنه بذلك إنما يكتب عن الحقيقة الواقعة أو التي يظن لها أن تقع في ميقاتها المحتوم، وإن هذا الخلط بين وهم وحقيقة ليحدث معنا في كل ميدان نتعرض للحديث عنه. فأذكر أني ذات يوم كنت أراجع تفسير المفسرين لقول الله تعالى:
فويل للمصلين * الذين هم عن صلاتهم ساهون ؛ فأول ما صدمني أن أجد مفسرا من أعظم المفسرين مكانة قد أخذ يروي عن معنى الويل فيقول إنه كذا وكذا من الأهوال التي أخذ يصفها بالتفصيل مما هو مقدر في جهنم لذلك الآثم الذي تتحدث عنه الآيات الكريمة، فدار سؤال في نفسي من أين أتى هذا المفسر بذلك المعنى لكلمة ويل؟ ما مصدره في كل هذه التفصيلات التي جعل يرسم بها الصورة التي رسمها؟ وعن لي عندئذ أن أراجع هذا المعنى نفسه في مواضع أخرى من الكتاب الكريم ورد فيها كلمة ويل، وإذا به يتخيل صورة مختلفة في كل موضع من مواضع الكلمة مما ازددت به إلحاحا على سؤالي الأول: من أين أتى المفسر بتلك المعاني التصويرية؟ ولماذا لم يلتزم معنى الويل كما تحدده معاجم اللغة؟ أفليس من حقنا في هذه الحالة أن نقول إن المفسر قد وضع خياله فيما يود للآثم أن يعاقب به في كل حالة على حدة؟!
ومثل هذا يقع إذا كتب كاتب عن السلف في أي مجال من جوانب حياتهم؛ فهو يكتب وفي ذهنه فرض مسبق بأن حياة السلف صواب كلها فضيلة كلها؛ فلا خطأ فيهم ولا انحراف، ولو أن الكاتب الذي يروي عن الأسلاف أدرك منذ البداية أنه ما دام يتحدث عن بشر - إذن - فلا بد أن تكون الصورة مزيجا من قوة وضعف ومن صواب وخطأ، على أن الرجل العظيم ترجح فيه القوة والصواب، ثم تتغير النسبة بين الجانبين، كلما هبطنا في أقدار الرجال، حتى نصل إلى من ترجح فيه كفة الضعف والخطأ، فتخرجه من زمرة العظماء، وبهذا التصوير الحي الأمين نلتزم جانب الحق من جهة ونؤثر في القارئ أثرا أعمق وأصدق. وانظر كم كتب الكاتبون عن أعلام السلف وكم بقي القارئ على حالة لم تغير الصور التي عرضت عليه منه شيئا! وذلك لأنه - دون أن يعي - أحس بأنه يقرأ وعظا ولا يقرأ تاريخا ولا أدبا، والوعظ لا يغير من سامعه أو قارئه لا كثيرا ولا قليلا.
بل انظر إلى ما يكتبه كتابنا اليوم كلما أرادوا تصوير حياتنا متمثلة في أفرادها؛ تجد هؤلاء الكتاب وكأنما هم قد أخذوا على أنفسهم عهودا بألا يذكروا الريفي إلا بالخير الذي لا تشوبه ذرة من الشر وخبثه؛ لأن الشر وخبثه - في معاجمهم الحديثة - مكانه أبناء المدن! وفيم العجب؟ أليس التعليم قد ارتفعت نسبته في المدينة عنه في القرية؟ ثم أليس التعليم ومعه النظافة والتمدن مصدر البلاء؟ ولعل سر هذه النظرة الغريبة هو تفسير خاطئ للثورة الاجتماعية الأخيرة، وهي ثورة أرادت - بحق وعدل - أن تضيق الفجوة بين فئات الشعب فاقتضى ذلك - بالضرورة - أن تأخذ بأيدي العاملين الكادحين فترفع عنهم بعض الظلم الذي أحاق بهم. ولما كان هؤلاء العاملون الكادحون في الأعم الأغلب على درجات متواضعة من العلم ومن الثراء؛ وقعنا في خلط عجيب حين أخذ كتابنا يصورون من هم أجهل على أنهم أنقى سريرة ممن هم أعلم! ومن هم أفقر وأضعف على أنهم أعرف بواجبات الشهامة والشجاعة وواجبات الوطنية الصادقة والأريحية الخالصة من أولئك الذين سكنوا المدينة ونالوا حظا من التعليم ونصيبا من الثراء! وتتبع - إذا شئت - أفلام السينما ومسلسلات التلفزيون، كلما نشأت مواقف منها مقارنة بين من يمثل البساطة والسذاجة والجهل، ومن يمثل تهذيب الحضارة وسعة المعرفة وطموح الارتقاء.
على أن الفجوة بين الوهم والحقيقة، في حياتنا الفكرية والثقافية، إنما تبلغ أوسع حالاتها كلما تعرض متحدث أو كاتب لحضارة هذا العصر، الذي كان ينبغي أن يكون عصرنا من الناحية الفكرية والثقافية كما هو عصرنا بالفعل من حيث موقعه وموقعنا من التاريخ الزمني، فما أسرع ما نكيل على الغرب وأهله كل ما وسعته اللغة من صفات التحلل والتهتك والرجس والفسق والدنس، وكأن الناس هناك يعيشون في مواخير الدعارة، وليسوا هم الذين بلغوا من آفاق العلم ما بلغوه وأبدعوا في الفن والأدب ما أبدعوه، وأقاموا من النظم الاجتماعية والاقتصادية والتعليمية وغيرها ما أقاموه! إننا بالطبع لا نريد أن نجعل منهم ملائكة، ولكننا في الوقت نفسه لا يحق لنا أن نجعلهم من زمر الأبالسة والشياطين، على أن ما يكشف افتراءنا هو أن من يهاجمون حضارة الغرب وأهلها تراهم في اللحظة ذاتها التي يوجهون فيها ذلك الهجوم يحيطون أنفسهم من ألف حياتهم العملية إلى يائها بما أمدتهم به تلك الحضارة مما صنعه أهلها هؤلاء الذين نرميهم بما نرميهم من لعنات! ولو قال الكاتب لقارئه كلمة صدق لكان له عند ربه ثواب من توخي الحق؛ حتى لا يضل قارئه سواء السبيل.
Bog aan la aqoon