قلت: شغلت بسؤال عن حياتنا، ما الذي جمدها فلم تعد تخطو خطوة إلى الأمام، برغم ما قد يخدع عين الرائي من حركة ونشاط، كنت أبحث عن السر، وكنت لأمر ما ، أحوم حول اللغة التي نكتب بها ما نكتبه، ونذيع بها ما نذيعه؛ إذ كنت أشعر شعورا غامضا أن علة فقرنا الفكري تكمن في اللغة كما نستخدمها وكما نفهمها، لكنني لم أضع أصابعي على موضع الداء، إلا بإيحاء من روايتك التي رويتها عن صعودك للجبل فوق الورق.
قال: كيف كان ذلك؟ وضح.
قلت: لو كانت اللغة كما نستخدمها، وكما نفهمها، محكومة بالواقع في تفصيلاته، لكانت كل عبارة منها بمثابة خريطة يسير على هداها السائرون، كان سؤالي الذي طرحته على نفسي هو: لماذا نكتب لنغير وجه حياتنا، فلا يتغير منها شيء؟ والآن قد وجدت الجواب، وهو أننا نكتب على نحو يؤكد السكون ولا يبعث على الحركة، وحتى إذا وجدنا بين أيدينا ما كتب ليحرك، قرأناه قراءة السكون.
قال صاحبي ساخرا: وضح يا أخانا وضح!
قلت: أنت تعلم أن اللغة التي يستخدمها الإنسان - منطوقة أو مكتوبة - هي بمثابة عقله ووجدانه قد ظهرا في عالم الأشياء بعد أن كانا كامنين، فاللغة هي حقيقة ذلك الإنسان وقد أصبحت مجسدة ظاهرة، في صوت يتموج مع الهواء، أو في كتابة مرقومة على ورق، وأذن المتلقي في الحالة الأولى هي التي تسمع، وعينه في الحالة الثانية هي التي ترى، ومعنى ذلك هو أنك إذا وجدت في لغة المتكلم أو الكاتب خصائص تميزه، كانت تلك الخصائص هي نفسها ما يميز حقيقته الباطنية من عقل ووجدان.
ولو أمعنت النظر فيما يقوله الإنسان أو يكتبه، لرأيت صنفين مختلفين من العبارة اللغوية: فصنف منهما يتمثل في العبارة التي تصل إلى المتلقي، فتمده بمعرفة معينة، لكنها لا تحمله على أن ينشط بعمل ما، كأن تقول لصديق لك ساعة لقائه: إنني سعد بلقائك، فيسمع صديقك منك هذا التقرير الذي تصف به نشوتك الباطنية في لحظة اللقاء، لكنه موقف إدراكي لا يترتب عليه أن يؤدي صديقك عملا، وأما الصنف الثاني من عبارات اللغة، فهو صنف من شأنه أن يحرض المتلقي على فعل يؤديه، كأن تقول لصديقك ذاك الذي التقيت به إن غبارا علق بردائه، فلا يكاد يسمع منك ذلك حتى يسرع بحركة يزيل بها ذلك الغبار.
وليست كل المواقف بهذه الدرجة من البساطة والوضوح، إذ قد تكون حقيقة الموقف اللغوي بين المتكلم وسامع، أو بين كاتب وقارئ، على درجة من الخفاء والإضمار، ثم يأتي صاحب التحليل فيصب فاعليته التحليلية على المركب اللغوي الذي يتناوله بالدراسة، فيكشف له تحليله ذاك إن كان ذلك المركب اللغوي من الصنف الذي يتلقاه من يتلقاه، فلا يجد نفسه مدفوعا إلى فعل يؤديه، أو كان من الصنف الثاني الذي من شأنه أن يحرك المتلقي إلى عمل ما. على أن الأمر في هذه التفرقة لا ينحصر في المقارنة بين جملة من هذا النوع وجملة أخرى من ذلك النوع، ولو كان الأمر كذلك لما اهتممنا به لكن هذه التفرقة قد يتسع مداها ويتسع حتى يشمل كاتبا وكاتبا آخر في جملة ما يكتبانه، بل إنه ليتسع حتى يشمل ثقافة بأسرها لشعب معين، مقارنة بثقافة أخرى لشعب آخر، وها هنا بيت القصيد.
فإذا قارنت مجمل القول الذي قيل أو كتب في مصر خلال الثلث الأول من هذا القرن، بمجمل القول الذي نذيعه اليوم نطقا أو نثبته كتابة، وجدتني أحس بأن ذلك المجمل في الحالة الأولى كان من شأنه أن يحفز المتلقي إلى حركة يؤديها بينما المجمل في الحالة الثانية يقف بالمتلقي حيث هو؛ لأنه لا يرى نفسه مدفوعا إلى عمل يؤديه، ونضرب مثلا آخر على نطاق أوسع مرحلتين من التاريخ الفكري في الأمة العربية، إحداهما أربعة قرون امتدت من ظهور الإسلام إلى نهاية القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي) والأخرى أربعة قرون امتدت من القرن العاشر الهجري إلى الرابع عشر (السادس عشر الميلادي إلى العشرين)، فهنا كذلك نرى الفرق واضحا بين حياة ثقافية كانت في مجملها تحرك أصحابها إلى ضروب من النشاط مختلفة، في الحالة الأولى، وحياة ثقافية في الحالة الثانية، قد تعج بحركة الأجساد وبالصراخ والضجيج، لكنها من الوجهة الفكرية تترك أصحابها في مواضعهم لا يتقدمون، إذا لم نقل إنهم في أحيان كثيرة يدوسون أرضا زلقة فينكفئون إلى وراء. وأستأذن القارئ في ذكر حقيقة عن شخصي وما أشعر به، عندما أقارن حالتي المحصلة من جملة ما أقرؤه مما يكتبه أعلام الفكر في أوروبا وأمريكا، بحالتي المحصلة من جملة ما أقرؤه لأعلام القلم في الأمة العربية بصفة عامة؛ إذ أجدني في الحالة الأولى وكأنني أستيقظ من سبات، أو أنتبه بعد غفوة، وأما في الحالة الثانية فأحس بأنني أقرب إلى وقدة تنطفئ، واندفاعة تخمد، ورجاء يخيب.
ولنعد إلى مصر بين مرحلتين: الثلث الأول من هذا القرن والمرحلة التي نجتازها اليوم، ففي الفترة الأولى، من ذا يقرأ للشيخ محمد عبده ولا يجد في نفسه بعد ذلك ميلا نحو أن يضع عقيدته تحت ضوء يظهر ما بينها وبين العلم الحديث من وشائج القربى، ومن ذا يقرأ لقاسم أمين ولا يجد نفسه بعد ذلك وقد ازداد إيمانا بحق المرأة في التعليم وفي العمل، ومن ذا يقرأ لأحمد لطفي السيد، ولا يكتسب بعد ذلك إيثارا للعقل على العاطفة والهوى، عندما يكون مجال النظر مشكلة تمس السياسة أو التعليم أو ما إلى ذلك من شئون الحياة، ومن ذا يقرأ لطه حسين ولا تشتد به الرغبة في أن تتحقق للإنسان العربي صيغة للحياة جديدة، تندمج فيها الهوية العربية بمقومات الرؤية العصرية، ومن ذا يقرأ للعقاد ولا يجد نفسه مدفوعا إلى هدف يحقق له فرديته الحرة المستقلة التي لا تنطمس معالمها أمام جبروت خارجي، لكن انظر إلى ما نقرؤه اليوم، ماذا يفعل بك سوى أن تحمد الله على لقمة العيش إذا وجدتها.
أريد للقارئ أن يفرق ين ضربين من النشاط والحركة، فهناك ذلك الضرب المألوف المعتاد المكرر كل يوم على طريق ممهد مدقوق بأقدام السائرين، وأعني به تلك الحركة التي ينشط بها الإنسان في أدائه لواجباته اليومية، والتي هي حركة قوامها عادات تكررت مع صاحبها حتى صيرته كالآلة، يؤدي ما يؤديه وهو سارح الفكر مغمض العينين، كالزارع يحرث أرضه ويرويها، وكالصانع يسوي الخشب ويقطعه ليجعل منه بابا أو نافذة، وكربة البيت تنظف البيت وترتبه وتطهو الطعام، وكسائر العاملين حيث تكون الحياة رتيبة تجيء في يومها كما جاءت في أمسها ، فمثل هذه الحياة لا فضل فيها لإنسان على حيوان، بل إن العكس يجوز أن يكون هو الصحيح؛ إذ أين تجد الإنسان الذي تبلغ حياته العملية الرتيبة المكررة، في دقتها دقة النحل في خلاياه ودقة النمل في بيوته، ودقة الطير في أعشاشه، في مثل هذه الحياة العملية الحيوية قد يخطئ الإنسان سبيله، لكن الحيوان لا يخطئ.
Bog aan la aqoon