أصبح شتاء أمي يتربص بي، يتعلق بقمة مظلتي السوداء التي كبر محيطها مع كبري، تعجزه تعويذات أمي عن الوصول إلي، فما جربت الشتاء يوما، بفعل المخاوف، والتعليمات؛ الشراب الساخن صباحا ومساء، وجواربي وقفازاتي المثقلة بصوفها، معطفي الذي يجعل مني دمية بنصف وجه.
مع الكبر عرفت وجوها أخرى للشتاء في مدينتي، جعلتني أبكر من نزولي إلى الشارع قبل موعدي المعتاد للذهاب إلى مدرستي الثانوية ثم الجامعة، أرقب من تحت درعي القماشي طهارة المدينة وهي تتكشف ببطء للصباح كانكشاف عذراء في ليلتها الأولى.
في تلك الصباحات السخية الجميع يتعرف على معنى الحميمية، البعض يحتمي بملابسه وكأنه يكتشف لذة الستر للمرة الأولى، وعشاقك يا مدينتي يختلسون القبلات خلف مظلاتهم، يلتمسون بها بضع درجات مئوية إضافية تشعل في أرواحهم وأجسادهم وهج اللذة.
أتابع كسل الحيوانات الضالة، وسكنها بالجدران والأعشاش وأسقف العربات التي تستعطفها لتكون دفئا وسلاما على أرواحها. في ذلك الموسم لا أخشى كلابا أو حتى ذئابا، فهي تلحظني وروائح الخوف تسبقني، فلا تأبه لمروري، وترد علي بخلاعة عيونها المتكاسلة.
في صباحاتك تعلمت متابعة الأحذية ذات الرقاب، ولعبت ألاعيب حسابية حول أطوالها، وأعمارها، ونسجت القصص حول أصحابها.
وعندما رحلت جدتي ظللت أعواما أبحث عن وجهها بين الطرقات، مطمئنة أنني سأعثر عليها يوما تائهة عن مسكنها الذي غابت عنه تفاصيل عنوانه بفعل ذلك المرض اللعين.
بدأ الشتاء هذا العام من دونك يا أمي، ورغم ذلك فصوتك يطن في رأسي، يشغل صباحاتي الشتوية، يلح علي حتى لا أنسى مظلتي. تعمدت نثر تعليماتك على وريقاتي الملونة، أتعثر فيها مواجهة لسريري، وعلى منضدة مطبخي، وعلى باب حجرتي ومسكني، أتابعها كل يوم كصلاة يومية سادسة.
أتدثر بمعطفي، وأحتمي بمظلتي، أستقبل أول صباحات الموسم الشتوي محمية بصوت أمي وتعويذاتها. ألحظ على بعد أطفالا في ملابسهم المدرسية، يشغلون طريقهم بنثر ضحكاتهم، ومداعبة الطرقات كإحدى ألاعيبهم السحرية.
في شكل مسرحي يشير أحدهم إلى السماء، يأمرها فتطيعه، تتراقص زخاتها الأولى؛ فيبدءون استعراضهم. أتابعهم وأمي تقف بيننا، تحول رؤيتي، فتمتد الأيادي الصغيرة تدعوني للمشاركة. تلحظ أمي إقبالي؛ فتعنفني؛ فأحتمي برأسها. يفقدون الأمل؛ فينشغلون عني بلحنهم. وقبل أن يرحلوا ألمح على جانب الطريق قطيطات في يومها الأول تتدثر بجسد أمها، وصوت موائها الخجول برد يتردد في روحي؛ فأستأذن أمي، وقبل أن أسمع رفضها، أخلع مظلتي وأمنحها للأجساد الصغيرة، وألحق بالصبية وأبدأ معهم الرقص على معزوفتي الخاصة، وصدى صوت أمي من بعيد يلومني.
الصيد
Bog aan la aqoon