إهداء
المظلة
الصيد
الإغراء الحلو
رسالة
الخلطة السرية
ترنيمة موسيقية
في انتظار سانتا
شغف صباحي
في البحث عن بداية
Bog aan la aqoon
ريحة الكحك
ترويض
مركز ثقافي
كيس مقرمشات
بطاقة هوية
رحيل
في القفص
الطابور
البيت الرطب
المقهى
Bog aan la aqoon
على الطريق
دقات الساعة
لقد أكلت البيض كله
الساحر
الحرز
إهداء
المظلة
الصيد
الإغراء الحلو
رسالة
Bog aan la aqoon
الخلطة السرية
ترنيمة موسيقية
في انتظار سانتا
شغف صباحي
في البحث عن بداية
ريحة الكحك
ترويض
مركز ثقافي
كيس مقرمشات
بطاقة هوية
Bog aan la aqoon
رحيل
في القفص
الطابور
البيت الرطب
المقهى
على الطريق
دقات الساعة
لقد أكلت البيض كله
الساحر
الحرز
Bog aan la aqoon
في انتظار سانتا
في انتظار سانتا
تأليف
شرين يونس
إهداء
كنت أجمل كثيرا مما تمنيت، أغويتني فطاوعتك؛ فبعثتني من جديد.
المظلة
«صباحات الشتاء أكثر حميمية، وفي مدن العشاق يكون الصباح الشتوي أكثر بهاء وطهرا.» هكذا قرأت دوما، ورغم ذلك فأنا أخاف الشتاء، أقتحمه دائما محتمية بمظلتي التي ما إن يبدأ الشتاء حتى أسكنها.
ربما هي مخاوف أمي التي أودعتها لدي، وفزعها الأمومي، فجعلها تسد فسحة جسدي بطبقات تدثرني بها؛ فتحبس أنفاسي ورؤيتي.
كم كانت سببا في صغري لتلقي سخرية أقراني بالمدرسة، «البطانية المتحركة»، هكذا لقبوني، فما إن يلمحوني حتى يبدءوا عادتهم الصباحية في إحصاء عدد الطبقات على جسدي، وتساؤلاتهم ملء شفاههم: «كيف تتحركين مقيدة بكل هذا الشغف القماشي؟!»
Bog aan la aqoon
أصبح شتاء أمي يتربص بي، يتعلق بقمة مظلتي السوداء التي كبر محيطها مع كبري، تعجزه تعويذات أمي عن الوصول إلي، فما جربت الشتاء يوما، بفعل المخاوف، والتعليمات؛ الشراب الساخن صباحا ومساء، وجواربي وقفازاتي المثقلة بصوفها، معطفي الذي يجعل مني دمية بنصف وجه.
مع الكبر عرفت وجوها أخرى للشتاء في مدينتي، جعلتني أبكر من نزولي إلى الشارع قبل موعدي المعتاد للذهاب إلى مدرستي الثانوية ثم الجامعة، أرقب من تحت درعي القماشي طهارة المدينة وهي تتكشف ببطء للصباح كانكشاف عذراء في ليلتها الأولى.
في تلك الصباحات السخية الجميع يتعرف على معنى الحميمية، البعض يحتمي بملابسه وكأنه يكتشف لذة الستر للمرة الأولى، وعشاقك يا مدينتي يختلسون القبلات خلف مظلاتهم، يلتمسون بها بضع درجات مئوية إضافية تشعل في أرواحهم وأجسادهم وهج اللذة.
أتابع كسل الحيوانات الضالة، وسكنها بالجدران والأعشاش وأسقف العربات التي تستعطفها لتكون دفئا وسلاما على أرواحها. في ذلك الموسم لا أخشى كلابا أو حتى ذئابا، فهي تلحظني وروائح الخوف تسبقني، فلا تأبه لمروري، وترد علي بخلاعة عيونها المتكاسلة.
في صباحاتك تعلمت متابعة الأحذية ذات الرقاب، ولعبت ألاعيب حسابية حول أطوالها، وأعمارها، ونسجت القصص حول أصحابها.
وعندما رحلت جدتي ظللت أعواما أبحث عن وجهها بين الطرقات، مطمئنة أنني سأعثر عليها يوما تائهة عن مسكنها الذي غابت عنه تفاصيل عنوانه بفعل ذلك المرض اللعين.
بدأ الشتاء هذا العام من دونك يا أمي، ورغم ذلك فصوتك يطن في رأسي، يشغل صباحاتي الشتوية، يلح علي حتى لا أنسى مظلتي. تعمدت نثر تعليماتك على وريقاتي الملونة، أتعثر فيها مواجهة لسريري، وعلى منضدة مطبخي، وعلى باب حجرتي ومسكني، أتابعها كل يوم كصلاة يومية سادسة.
أتدثر بمعطفي، وأحتمي بمظلتي، أستقبل أول صباحات الموسم الشتوي محمية بصوت أمي وتعويذاتها. ألحظ على بعد أطفالا في ملابسهم المدرسية، يشغلون طريقهم بنثر ضحكاتهم، ومداعبة الطرقات كإحدى ألاعيبهم السحرية.
في شكل مسرحي يشير أحدهم إلى السماء، يأمرها فتطيعه، تتراقص زخاتها الأولى؛ فيبدءون استعراضهم. أتابعهم وأمي تقف بيننا، تحول رؤيتي، فتمتد الأيادي الصغيرة تدعوني للمشاركة. تلحظ أمي إقبالي؛ فتعنفني؛ فأحتمي برأسها. يفقدون الأمل؛ فينشغلون عني بلحنهم. وقبل أن يرحلوا ألمح على جانب الطريق قطيطات في يومها الأول تتدثر بجسد أمها، وصوت موائها الخجول برد يتردد في روحي؛ فأستأذن أمي، وقبل أن أسمع رفضها، أخلع مظلتي وأمنحها للأجساد الصغيرة، وألحق بالصبية وأبدأ معهم الرقص على معزوفتي الخاصة، وصدى صوت أمي من بعيد يلومني.
الصيد
Bog aan la aqoon
نظر خلسة يمنة ويسرة، وما لبث أن بلغ غايته، يمد يديه باحثا عن أمل، يرى كيسا كبيرا مكوما، فيفتحه بلهفة ما تلبث أن يتعكر صفوها؛ فالعلب البلاستيكية التي ملأت الكيس كانت فارغة.
انتظر لحظة، فالتقت عيناه مشاهد رواد المطعم؛ ظاهرهم لا يختلف كثيرا عنه ، ولكن بالتأكيد لم يعصف بهم الحال الذي منعه من امتلاك بضعة دراهم تكفي لشراء وجبته الخاصة.
امتعضت ملامحه لحظة، قبل أن تلمع عيناه مرة أخرى لهدف أكثر ثراء؛ فعلى الجهة الأخرى من الرصيف أنوار متلألئة لمطعم شهير للأطعمة السريعة. أسرع الخطى وهو يطمئن نفسه بأن يكون رواد هذا المطعم أكثر كرما في فضلاتهم.
يفتش الصندوق هذه المرة وسط نظرات مستهجنة من موظفي أمن المطعم، يتشبث بمحتويات العلب البلاستيكية والورقية؛ بضع شرائح من البطاطس، وبقايا شطيرة بها فتات من لحم، وأوراق من الكاتشاب. يحملها بين يديه، ويجلس غير بعيد، في نشوة، يتناول وجبته من صيد اليوم.
الإغراء الحلو
تنزل بسرعة درجات الطوابق الثلاثة، تتشبث بتلك الورقة العشرينية داخل جيب بيجامتها الكستور ذات اللون الفسفوري الباهت، تتردد في ذهنها تعليمات أمها: «امسكي الفلوس كويس، اوعي تقع منك»؛ فتثقل مخاوفها وقع خطواتها.
اتجهت مباشرة إلى وجهتها، إلى دكان البقال على ناصية الشارع، حاولت أن تلعب مع نفسها لعبة «الذاكرة»، فأخذت ترص للبائع طلبات أمها 1، 2، 3، 4، ... ثمة شيء خامس، هي متيقنة؛ فصورة أمها وإشارتها لها بكل أصابع يدها مطبوعة في ذاكرتها، خسرت رهانها، فأخرجت القائمة المكتوبة من جيبها الآخر وأعطتها للبائع.
دخل صاحب الدكان لتجميع طلباتها، فيما تلذذت عيناها بالنظر إلى كل تلك العلب المتراصة، أصناف تعشقها رغم أن الكثير منها لم تذقه بسبب قواعد أمها الصحية الصارمة، يدور بصرها بين لفائف اللبان، ولمعان أغلفة الشوكولاتة، وألوان ونكهات البسكويت، تثير العلب لعابها. «عايزة حاجة تاني؟» يطرح البائع سؤاله الختامي المغري فيما يلاحظ انشغالها، تجيبه بإيماءة رفض، وعيناها لا تزالان معلقتين بمراكز الإغراء، فيعيد إليها البائع قائمتها الورقية وكيسا به طلبات أمها.
تعود أدراجها منكسة الرأس، وإغراء الحلوى يمنحها مزيدا من الشجن، تسير ببطء هذه المرة بفعل أحمالها.
تلحظه على بعد خطوتين، مستترا بوشاح الطريق، يظهر نصف وجهه المستدير، فيجذبها بلونه الفضي ذي الإطار المذهب، فلا تنتبه لتلك الدراجة وسائقها الشقي الذي يشاكسها بحركته اللولبية، يقترب منها، ثم يتفاداها في لحظته الأخيرة، مطلقا صفارة الساخر.
Bog aan la aqoon
تعود إليه فتجده وقد خلع نقابه، وعادت إليه استدارته الكاملة، فتمسكه بقبضتها وتحكمها عليه، تعود إلى البائع الذي يشاركها نصرها، فتختاره، وفي طريقها تتباطأ خطواتها بوقع اللذة. «جبت الحاجة كلها؟» تنتبه إلى صوت أمها، فتسلمها أشياءها ونقودها، وطعم القرمشة ما يزال يداعب روحها.
رسالة
تتابع بلهفة وميض شاشة الحاسوب، تعدل من وضع مقعدها في هذا المكان الذي اختارته بعناية بعيدا عن أعين المتلصصين.
تخاطب ساعتها: خمس دقائق فقط ويحين موعدهما. ترى أسيكون في انتظارها أم سيلتزم بالموعد كعهده معها منذ عرفته؟
في عقلها تزدحم عشرات الأسئلة وعلامات الاستفهام التي صرعتها طوال اليومين الماضيين، منذ آخر محادثة بينهما، حينما أبلغها في نهايتها بأنه سيخبرها المرة القادمة بأمر مهم يشغله ويريد مشاركتها فيه.
لم تنفع معه عبارات الاستجداء، هو الملتزم جدا، والجاد جدا، هذا الالتزام الذي جعلها ترتب أمور حياتها وفقا لموعديه الأسبوعيين اللذين حرص منذ تعارفهما على الالتزام بهما، رافضا كل الأعذار لتغييرهما، حتى إنها طوعت حياتها وتراتيبها وفقا لهما، وله.
أسئلة عديدة: هل سيطلب أخيرا مقابلتها، بعد لقاءات «أثيرية» دامت ستة شهور؟ أم سيطلب أن يطبع تقاربهما بالنهاية التي طالما تمنتها؟ هل أفلحت إشاراتها الخفية في أحاديثها معه عن مكانته، وإطلاعه على مشاكلها وأحداث يومها المعتادة؟
أتعبت عقلها وروحها كثرة الأسئلة، وفشلت محاولات التهدئة الزائفة في إقناع نفسها بأنه ربما سيكون حديثه لشأن آخر لا يخصها.
أخيرا استكمل الجهاز استعدادته، وذيلت الصفحة بطلب كلمة السر لبريدها الإلكتروني، التي غيرتها منذ فترة لتكون حروف لقبهما سويا على برنامج المحادثة الذي جمع بينهما، وتاريخ أول لقاء.
ما إن انفتحت صفحتها الخاصة حتى ومضت الصفحة بإشعار عن رسالة باسمه، دق قلبها وتساءلت: هل سيعتذر أم إنها مجرد تحية منه كما يفعل أحيانا، فلا يترك للوقت فرصة مداواة اشتياقها له؟ لامت نفسها لأنها لم تتابع بريدها الإلكتروني خلال اليومين الأخيرين.
Bog aan la aqoon
فتحت الرسالة، كانت سطرا واحدا:
سأرحل إلى دولة ... بعدما انغلقت الطرق أمامي في وطني، حاولت أن أبقى لتوديعك، ولكنني لم أستطع، فأنا أكره ألم الوداع والفراق.
انطفأ وميض روحها، وأغلقت شاشتها دون أن تدري هل أغلقت حسابها الإلكتروني أم لا.
على الجهة المقابلة يتابع خطواتها المثقلة بخيبتها. في خروجها تلمحه، فترمقه هو والمكان بنظرة باهتة، ينتظر لحظات ثم يقف بصعوبة بالغة، يلحظه عامل المقهى، فيأتيه، لمساعدته، كما اعتاد أن يفعل، يتحمل ترنح ثقل جسده لثوان حتى يعدل موضع عكازه، ويلحقها، فيتبعها حتى يختفي بهاؤها عن مدى بصره.
الخلطة السرية
«مين هيعمل الفول؟» «بابا.» ترد الأفواه الخمسة في نفس واحد، فتبتسم الأم، وتفرغ دماسة الفول متمتمة: «طازة ولسه مستوي حالا.»
يتحلق الأطفال الخمسة الذين تتراوح أعمارهم بين الاثني عشر والثلاثة أعوام حول أبيهم، يتابعونه وهو يعد الطبق الرئيسي على مائدة إفطار يوم الإجازة الأسبوعي، بخلطته السرية التي يمتاز بها.
بحرفنة، يقلب ويهرس حبيبات الفول حتى يروضها بين يديه، رشة كمون، وفص ثوم مدقوق، شوية «زيت تموين»، «هو الأصل مش زيت الأيام دي، لا لون ولا طعم» كما يصفه، ليمونة كاملة، وتكتمل الوصفة.
يبدأ الكل: «بسم الله.» الألسنة تلتهم اللقيمات بتلذذ تتبعها كلمات الإطراء. الأم تقول: «الرك على تدميسة الفول.» بنبرة ساخرة يرد الأب: «الرك على النفس وأنت الصادقة.» ثم يرمقها بنظرة متعالية، يخففها بكلماته: «مطرح ما يسري يمري.»
يغيب الأب لفرصة عمل بدولة خليجية، فتحاول الأم الحفاظ على العادة الأسبوعية، ولكن الأطفال يعقدون المقارنات دائما بين الخلطتين؛ فتفشل المحاولات، ويبقى الفول في قدره أياما حتى يجف.
Bog aan la aqoon
اكتفى الجميع بشراء الفول الجاهز من المطعم، خاصة بعدما بدأ أصحابه استخدام خلاطات الفول لهرسه، وابتكار الخلطات.
سنوات مرت، وكبر الأطفال، فعاد الأب، وانتظرت الأم عودة العادة الأسبوعية، قامت بتدميس الفول في أول إجازة أسبوعية، وانتظرت إعداد الأب لخلطته السرية، ولكن الأب جاء محملا بأكياس من السوبر ماركت، وبها كثير من الفول المعلب بخلطات مختلفة.
ترنيمة موسيقية
على وقع أنفاس اللحن غزلنا سويا ترنيمتنا الخاصة، عشرون ثانية فقط هي عمر رقصتنا، ينطلق اللحن بمجرد إضاءة المنصة. أنا وأنت فقط رغم العيون المتلصصة.
ينكشف أمامنا المدى، تدعوني فأتردد لحظة، فتحمل بين كفيك يدي، نتمايل معا على وقع اللحن، فلا أعلم إن كنت أتوه في فلك عينيك أم بين ذراعيك. يرسم لنا اللحن خطواتنا المحسوبة؛ فندور في دائرة عشقنا الأبدي.
تطلقني بأطراف أصابعك؛ فأسقط فريسة لاشتياقي، ثم ترفق بي فتلملمني مرة أخرى وتعيدني لعوالمك المتمايلة. أغمض عيني وينتصب جسدي، ثم تتقوس أجسادنا وتنفرج لتكمل لوحة قلبينا مطيعة أوامر النغمات.
تمتد يداك لخصري، ثم ترفعني لحدود أخرى، ترسم بعطرك لوحة أحلامنا، وتصبغها بألواني المفضلة، ألوان بلا نهايات كرقصتي معك.
وفجأة يتوقف اللحن، وتشهق رقصتنا أنفاسها الأخيرة، وقبل إذعاننا للصمت، تطبع قبلتك الأخيرة على جبيني.
ينطلق حماس طفولي بتصفيق عال، وتلح الطفلة على أمها بالسماح لها بالحصول على «رقصتنا»، فتحملنا ملفوفين في ورق لامع، وتنطلق ووقع اللحن في أذنها.
في انتظار سانتا
Bog aan la aqoon
في تلك البلاد الباردة التي يتدثر أهلها بالعشق، يتابع وحده من شرفته سكان المدينة.
تلك الليلة على الأخص، الوجوه مختلفة، تسير متخففة من ثقل الروتين النهاري وراء طقوس احتفالية. اللون الأحمر مزدهر، والأخضر يعلن نفسه ملكا متوجا بتاج البهجة، والشجر ذو الشكل المثلث يصبح فجأة بطل المدينة الأوحد.
حتى فقراء المدينة حاولوا المشاركة بطقوس تسول مبهجة؛ فلونوا وجوههم، وزينوا صناديقهم الصغيرة، استقبلوا الهبات على وقع أغان ورقصات تناسب الاحتفال.
أما هو فشجرته فقيرة من البهجة والألون والأنوار، اشتراها من باب الوصال الرمزي مع المدينة التي يسكنها منذ عقدين.
ينتظر سانتا كلوز يأتيه على عربته؛ ليحقق له أمنياته التي يحفظها له منذ سنوات، تأخر موعده، ولكنه على يقين بمجيئه. هكذا أعلموه.
فجأة يطرق سانتا بابه، يبحث في جرابه الأحمر عن أمنياته، وبحركة سحرية يخرج له قناعا مغلفا وصورتين، وساعة كبيرة منضبطة عقاربها على منتصف الليل تماما، ففهم أنه موعد تحقيق أمنيته. فرح وهلل، واطمأن؛ لأن سانتا لم يكن كجني علاء الدين الذي وضع لطلباته شروطا.
يعد نفسه فيرتدي أفضل ما لديه. حزن ولام نفسه لأنه لم يشتر رداء جديدا للعيد. يعيد تنظيف شجرته، ويزينها ببعض الشرائط الملونة والورود الصناعية والمصابيح الصغيرة، ويخبز فطائر العيد.
في تمام الثانية عشرة، يجلس مترقبا، فيزيح عن القناع غلافه؛ فيجد وجها أقل شيبة، رآه قبل ذلك، معلقا في أحد إطاراته، إنه وجهه يوم أن جاء إلى هذه البلاد، كان في منتصف العقد الثاني، حاول أن يرتديه، فلم يستطع؛ أبعاد وجهه تغيرت بفعل السنوات، حاول مرارا، ثم أحبط، فوضعه جانبا.
فتح غلاف الصورة الأولى؛ كانوا جميعا فيها، أسرة كبيرة، فرح بداية، رغم التحيات الباردة المتبادلة، وحين جلسوا اكتشف أنه لم يعرف معظم الوجوه؛ أطفال ومراهقون من أعمار مختلفة، انشغل بعضهم بمتابعة حواسبهم وهواتفهم النقالة، وتحدثوا بلغة لم يستوعبها، فظن أن سانتا قد أخطأ ومنحه أسرة غير أسرته. «سأكتفي بالأمنية الأخيرة»، قالها لنفسه، وفتح الصورة الأخرى؛ معالم حفظها في دروس اللغة العربية والتاريخ، قلعة صلاح الدين، وجامع محمد علي، والأهرامات، وتمثال أبي الهول. كتب اسمه حسب تعليمات سانتا؛ فأصبح هناك. فاجأته نوبة سعال شديدة بفعل عوادم السيارات التي تملأ المكان.
حاول أن يعبر الطريق، فبحث عن إشارة للمرور فلم يجد، انتظر طويلا فوجد الجميع يمرون، بشرا وسيارات وحميرا، لمح نظرات السخرية من المارين به لانتظاره الطويل، وحينما حاول المرور سقط في إحدى البالوعات المفتوحة، صرخ فلم يجد مجيبا، وجد سانتا يرحل بعربته. ناداه؛ فابتسم سانتا، وأخبره أنه سيعود في العام القادم ليحقق أمنيته الجديدة.
Bog aan la aqoon
شغف صباحي
لا أتذكر متى ولد عشقي لك، أو كيف أصبح على مدى سنوات موعدك أهم طقوسي الصباحية، أسرع من تناول إفطاري حتى لا أتأخر عنه، وأحيانا أكتفي ببضع لقيمات أو ملعقة عسل؛ فموعدك مقدس لا يقبل التأخير.
أبدأ طقوس مقابلتك؛ أغلق ستائري، وزجاج شرفتي؛ لأهرب من المتلصصين. أسقي ورود شرفتي؛ زهور الياسمين، ووريقات الريحان؛ فأنا أحب أن أختلي بك في شرفتي؛ ليكون ثالثنا ضوء السماء. آنس بصحبتك؛ لترتوي روحي من عبقك.
حاضرة دائما في مسراتي وأحزاني، تتوسطين جلساتنا العائلية، وتشاركيننا سمرنا وضحكنا، وفي أعياد الميلاد تحضرين دائما، فأنت «صاحبة واجب».
ولم تسأمي مني في فترات اكتئابي، رغم كثرتها، فكنت رفيقة دائما، وكنت خير شاهد على إبداعاتي الكتابية.
زاد شغفي بك، فلم أعد أكتفي بلقاء واحد، ولم أعبأ يوما بهالاتي السوداء، أو ما تسببينه من فقدان لشهيتي؛ فكلها أعراض معتادة للعشق.
سقطت يوما من أثر عشقك، فاستعرض لي الطبيب شكوى جسدي بفعل هواك، وصدمني بقراره: «لا بد من إنهاء تلك العلاقة فورا.» حاولت مفاوضته؛ لقاءان في اليوم، أو لقاء واحد، فرفض وأصر. أحزنني قراره، وسكنت سريري أياما، لا أعلم إن كان للتداوي من عشقك أم لفراقك.
أمر على الواجهات الزجاجية، أتغزل بشبيهاتك، وأتتبع رائحتك، وأتابع وجهك المستدير على شاشة التلفاز، فأتعجب لهذا الكائن الصغير كيف له كل هذا السحر، أضعف، فأبحث عنك، وأتابع بشغف فورانك البطيء، وأعد فنجانك، وأختلس لحظاتك في شرفتي على شرف رائحة الياسمين والريحان.
في البحث عن بداية
في رحلتي ألملم متاعي؛ ورقا، وحواسا أشحذها جيدا. أتلصص إلى ثرثرة الجميع؛ لألتقط البدايات وأنسج بها الحبكات. أوصي هدهدي بتتبع الأخبار، وأن يأتيني بأنبائه العظيمة.
Bog aan la aqoon
أحمل في حقيبتي العديد من تذاكر الحافلات العامة، والميكروباصات والقطارات، تبدأ عادتي مع الصباحات الجديدة، تلتقط عيني صور البؤس في الوجوه، وترتيبات الفقر التي تجيد مدينتي نسجها.
أختبئ بين جناحي تلك الطائرة الورقية التي ورطتني صغيرة، فأبحر عبرها، وأتباهى بذاتي وأنا أتطلع إلى ضآلة البشر.
يوسوس لي شيطاني باختلاس النظر إلى عهر الطرقات وعورات الشرفات المغلقة، وأكتب بها آلاف الحكايات، فأجعل من ساكنة الخيمة المهترئة سندريلا هذا العصر، لن تنتظر الخادم ليحضر لها حذاءها الضائع، وإنما ستبحث عنه في إشارات المرور وبين صناديق القمامة.
وهذا الطفل النائم مستترا بسقف العربة، يحاكم في أحلامه الجني عن عمره الذي سرقه تجار الأزقة والطرقات.
أجيد مزاحمة الطوابير، فأمد أذني بامتداد الأيادي، أتابع ملامح العشق المولود، وثرثرات النساء وخيباتهن، وأداعب الأطفال فوق الأكتاف، لأسرق براءتهم وأهبها لأبطالي.
وكلما حل دوري، أستعرض لطفا متكلفا، فأقدم علي هذا العجوز الذي قضى العمر في صفوف لا تنتهي للحصول على الدعم، والدواء، وبعض الكسوة، أو ربة المنزل التي تختلس لحظات العيش بين آلاف الفرص للموت جوعا وكمدا وقهرا .
وحينما يواجهني الخباز بانتهاء الطابور، أشتري رغيفا أو اثنين أسد بهما تربصه وتحفزه.
أسافر في حقيبة علي بابا الذي اختار التصالح مع «الأربعين حرامي»، وشاركهم سرقتهم، وناسبهم، وأنجب آلاف اللصوص.
في نهاية يوم أبحث عن هدهدي، وحينما أكتشف هروبه، أتوعده بعقاب لن أنفذه، ثم أجمع أوراقي وأعد قلمي للمقصلة. أكتب جملا افتتاحية عدة، وأمارس ألاعيبي الكتابية. أتربص بمرآتي وأسألها عن أفضل حكاياتي، وحينما تجيبني؛ أحطمها بغرور كتابي. أبدأ في محو بعض الكلمات، ثم أمزق وجه ورقتي؛ فلا تعجبني البدايات، وأبدأ من جديد للبحث عن قصتي.
ريحة الكحك
Bog aan la aqoon
تراقص سيدات العائلة العجين باحتراف في طقس نسائي يتباهين به أمام رجالهن، تتوسطهن جدتي كمايسترو، ورغم تهالك عظام يديها تبقى إشاراتها الأكثر سحرا.
تتابع وضع المقادير، وتشعر بعطش العجين أو ارتوائه، وتلقي بالتعليمات، فتكافئ أمي بابتسامة، وتعاتب أخرى بإيماءة.
تجلس الصغيرات مسحورات بطقوس أمهاتهن، تتابع الأيادي، تتمطى كالأمواج في مدها وجزرها. يتحول الطقس إلى سيمفونية لها موسمها السنوي الوحيد.
لم تؤمن جدتي يوما بالتكنولوجيا، رغم محاولات أبنائها إقناعها باستعمال خلاط العجين، تجيبهم أن على المرأة الإحساس بما تقدمه لأهل بيتها، فحبها هو ما يضفي السحر على طعامها.
هذا العام تضاف لجدتي مهمة إطلاعنا نحن الصغيرات على سر الخلطة، وأصول الطقس النسائي، تجيب عن أسئلتنا البلهاء بصوتها المعطر بطيبتها.
تلاحظ انبهارنا فتمنحنا قطعة عجين، نحملها كقطعة ماسية نخشى خدشها، تدفعنا جدتنا لغرس أسنان «المنقاش»، والضغط لإثبات النقشة، فتعلمنا النحت بدروس عملية. ترسم لنا بقبضة يديها وانفراجها تعليماتها، لا يسكب الحليب مرة واحدة، ولكن مع العجن المستمر، عدم الإكثار من الماء لكيلا يفقد الكحك ليونته. «يعني إيه ريحة الكحك يا تيتة؟» تجيبني: «حاجة كدة صغيرة ميبقاش الكحك كحك من غيرها.» ثم تبدأ اختبارها لها، تمنح كلا منا قليلا على يدها، تحثنا على إغماض عيوننا واختبار طزاجتها، نقلدها بعيون نصف مغلقة، نتلصص عليها وهي تغازل ما بين يديها؛ فنتبادل الضحكات المستترة؛ فتنتبه وتؤنبنا بابتسامتها.
ينتهي العيد ويودعنا هذا العام حاملا معه أجمل روائح العائلة، نودعه إياها كأفضل أماناتنا. تبقى الأواني بأماكنها في الخزائن التي صنعت خصيصا لها، يسكنها الحزن والذكرى بعدما فقدت رائحتها المميزة. ولبستنا نحن الصغيرات تلك العادة؛ نشتري بقليل من مدخراتنا تلك الرائحة، نبسط كفوفنا، ونغمض عيوننا ونبدأ في الغزل.
ترويض
لم يكن الأمر سهلا أبدا، هو الخوف الذي لا يمكن أن تتجاهله، علاقة بين نقيضين وثالثهما الشك، قواعد اللعبة إما غالب أو مغلوب، نفهمها كذلك، حتى لو كان أحدنا بلا عقل.
تعاملني برأسك المغرور، فأعلن عصياني وتمردي، أنا الذي عاملت العالم بإحساسي وغريزتي فكانت سببا لبقائي.
Bog aan la aqoon
تعرفني بصوتي، وأعرفك برائحتك، والروائح مثيرة للذكريات، فتبقى في ركنها البعيد مستعصية على النسيان.
تبحث عن ترويضي؟ من منا يحتاج إليه؟ أنت بغرورك، أم أنا بخوفي؟ تعلم أنني حساس مثلك، تداعبني الألحان لحد الرقص، فلا تغضبني بغرورك؛ فغضبي يشبه العواصف، لا تطلب مني الثقة بك، بل أطلب منك أنا أن تطلق لجامنا، وأن ننطلق معا، أن نتهادى فوق اللاحدود، حتى يملأ عيوننا البياض.
دعك من صوتك، وصهيلي، فلا أعترف بالأصوات لغة، يمكنك الاكتفاء بالهمس، واربت على ظهري، وحاور خصلي؛ فاللمس لغة لا يفقهها إلا أمثالي، ولا تخش؛ فقطعة سكر تكفي بالنهاية كمكافأة.
مركز ثقافي
جلست متململا في كرسيي، أحاول أن أواري سوءة خجلي، أسائل نفسي كيف طاوعت شيطاني للمجيء، يجيبني عقلي ببراءة مصطنعة: «إنه الفضول.» فأرده بسخرية: «اعترف، ولا ترم صديقك بحجر التحريض.» ثم أبدأ شماتتي، وأعدد له خطاياه؛ فلطالما ضبطت شياطينه وهي تحيك الحواديت بمجرد المرور بهذا البناء.
يختلق ذهني الضحكات المستترة والآهات التي تعصف بها الرغبات، والشائعات التي رسمت في خيالاتي صورة لساكنيه بجرأتهم وألوانهم الصاخبة. وتلك اللافتة بحروفها اللاتينية المتراقصة، وهذا الهدوء النهاري الذي يعوض الصخب الليلي متفردا عما حوله من مؤسسات حكومية. كلها أسباب دفعتني لترضية فضولي بالاطلاع على ما وراء هذا العالم الخلفي الذي يقبع ساكنا «هائجا» في قاع المدينة، رغم بنائه في أحد أشهر شوارعها.
كان المكان هادئا على غير توقعي، لا ضحكات خليعة متناثرة، ولا أشباه عراة على جوانب الغرف ، فقط أبواب مغلقة، راسمة جدرانا خرسانية عازلة للصوت والغرائز، هدوء هدم تلك الخيالات والقصص في رأسي.
استقبلتنا امرأة في منتصف الثلاثينيات تبدو وكأنها تدير المكان، هادئة الملامح، تولى صديقي التفاوض معها، وحينما دعاني، كان خجلي قد أنهى جولة عنتريتي المصطنعة لصالحه، فاكتفيت بجلستي المتململة لحين عودة صديقي من جولته.
خوفا من جولة أخرى، وهزيمة متجددة؛ شغلت بصري بملاحقة المكان، وجلساته المستديرة، الموضوعة بشكل يحفظ بعض خصوصيتها، وبعض المناضد العالية التي تسمى «البار» للزائرين الفرادى، وضعت بحيث تقابل ظهورهم تلك الجلسات المستديرة.
على إحدى الأرائك لمحتها، بفستانها الذي بالكاد يغطي ركبتيها، والمنحسر عن أكمامها، مظهرها لا يتناسب مع سيجارتها التي تمسكها بأطراف أصابعها وتنفثها بعصبية، وجهها باهت من الألوان، ولكنه لا يخلو من حلاوة طبيعية، دخل أناس عدة ألقوا إليها نظرة سريعة ثم ما لبثوا أن بلعتهم الأبواب المغلقة بعنفوانها.
Bog aan la aqoon
انتبهت إلى نظراتي؛ فأشارت إلي بنصف ابتسامة، تاه ردها على فمي، فأجبتها بمزيد من البحلقة، ترجمتها هي تجاوبا، فتبعتها بدعوة صريحة بإيماءة من رأسها.
عاد الصراع خفقانا في القلب وارتعاشة في اليد، حاولت أن أدير وجهي لإيقاف تطلعاتها، وحينما ظهر إشعاع جرأة آخر؛ عدت بنظري إليها فوجدتها ما زالت على موقفها.
عرفت نوعي، توقعت ذلك حينما وجدتها تبادر بالقيام من مجلسها، وتقترب من مكاني، ألح علي هذا اللعين لصيق حياتي بالهروب. كم أكرهه! كم من تجربة أضاعها علي! كم من جولات فتتني فيها! لم تكن تعنيني مغامرة ليلية، ولكنني تمنيت فقط مغالبة غريمي، الذي جعلني مضحكة بين أصدقائي.
قررت فض طهري بأكثر الطرق صخبا؛ حملت لها ابتسامة عريضة بدت بلهاء، شجعتها على الحضور بخطوات متسارعة، ثم جلست بجانبي، وحينما مدت يدها لتلمسني؛ انتبهت إلى غريمي وقد أعلن انتهاء الجولة. صفقت الباب ورائي وسط نظرات دهشتها المعجونة بخيبتها. •••
ترددت لحظة ولحظتين قبل أن أعيد الطرق، حتى انتبهت إلى أن الباب مفتوح، دخلت مترددا، لمحتها تجلس في ركن، بفستانها الذي يشبه بساطتها وجمالها الطبيعي. ما إن لمحتني حتى باركتني بنصف ابتسامة، ثم عادت لتصفح هذا الكتاب بين يديها.
فحصت المكان بنظرات مضطربة؛ المنضدة ذاتها في استقبال الداخل، وهدوء تلك الجالسة وراءه التي انشغلت بمتابعة بعض الملفات الورقية.
فوقها تماما تتوسط الحائط لافتة تبدو جديدة بإطاراتها المذهبة، وبخط نسخ جميل كتب عليها:
في عهد الرئيس جمال عبد الناصر، تم افتتاح المركز القومي للتنمية الثقافية.
وكأنها انتبهت فجأة لوجودي، سألتني: «أيوة يا فندم؟» فأجبتها: «من فضلك، أريد الاستفسار حول ورشة كتابة القصة.»
كيس مقرمشات
Bog aan la aqoon
نظرت إلي بعيون مشاغبة خلف عباراتها المتوسلة، تعجبت لها. ورغم شغبها عسكت ملامحها براءة لا تناسب من هم مثلها فقدت أرواحهم على جوانب الطرقات.
أشحت برأسي بعيدا عنها، وتظاهرت بعدم انتباهي لوجودها؛ فقد كنت عاهدت نفسي منذ زمن على تجاهل المتسولين، مهما كانت أعمارهم وطرقهم المبتكرة للتسول.
أعطيت ابنتي كيس المقرمشات ألهيها به، فيما تسمرت قدماها هي عند باب الميكروباص، ومدت نصفها الأعلى للأمام، فاستندت بذراعيها على المقعد المجاور. كنت الراكبة الأولى، وكان اليوم عطلة، وبعيدا عن ساعة ذروته، فيما كان السائق منشغلا بكوب شايه، أو ربما بحكم عشرتهما لهذا الميدان تجاهل وجودها.
مرت دقائق ظننت بعدها أنها رحلت، ولكنها كانت لا تزال هنا صامتة، تلتفت ثم تعود لتسمر نظراتها على وجه ابنتي، يسكرها طربا صوت المضغ، وتلهيها بقايا الطعام على فم ابنتي عن صياحات بعض الراكبين الذين بدءوا في التوافد، طالبين منها الابتعاد عن الباب.
ظلت واقفة، وظللت أدعي عدم الانتباه، وامتنعت هي عن ممارسة ألاعيبها اللفظية. سكننا الصمت فشعرت بتقديسها للموقف، غلبتني بشبح ابتسامتها، وصمتها الرائق الذي لا يناسب مظهرها الرث.
فتحت حقيبة يدي وأخرجت الكيس الآخر من المقرمشات، وحينما مددت يدي إليها؛ انفرجت ابتسامتها وتحولت لفرح كبير تشوبه الدهشة. شعرت بترددها وهي تمد يديها، فطمئنتها بابتسامة، فاحتضنت الكيس وانسحبت.
بطاقة هوية
«ابقوا في منازلكم، ابقوا في منازلكم.» تتعالى وتتردد النداءات عبر مكبرات الصوت، دون أن يكملوا عبارتهم: «الموت سيأتي لمضاجعكم؛ فلا تتعبوا أنفسكم، ولا تتعبونا»! هكذا علمتنا السياسة والصراع. «أنت بأمان.» أحاول أن أطمئن طفل جارنا الذي تعثرت به مختبئا بحديقتهم، عيناه تتهمني بالكذب، بعدما تلطخ جسده بدماء أبيه الذي حاول أن يلهيهم عنه.
الوجوه متشابهة؛ فالملامح الغاضبة واحدة. تحمل العصا أو البندقية، لا يهم، فنية القتل واحدة لا تقبل التأويل.
هل تستطيع غلق العيون وطمأنة تلك الوجوه المتكدسة في عربة محتمية خلف شعار الملاجئ والمستشفيات، غير واعين أنهم أول الضحايا، فلا سعر أو قيمة لهم؟
Bog aan la aqoon
على الطريق قابلنا فريقا من أربعة يعتصرون تحت أقدامهم وعصيهم وسيوفهم إنسانية آخر، لا يختلف عنهم كثيرا في ملامحهم، فيما تتواصل أحاديث البحث عن مخرج ومنقذ.
وحينما وصلنا إلى الفندق، كانت الحشود الجريحة تحاول اقتحامه للحصول على فرصة لمداواة جروحهم وأرواحهم. تردد المدير خشية على سمعة فندقه ذي النجوم الخمس، وفي النهاية وافق على منح بعضهم غرفتين من غرف الموظفين يداوون فيها تشوهاتهم.
تكدس الجميع، وحينما سألتهم عن هويتهم، أجابت عيونهم: «ليتنا نستطيع تمزيق بطاقاتنا لتكون أضحية عن أرواحنا.» هذا الختم اللعين كان سببا لكل هذا، لو كان يدرك آباؤنا، ما كانوا حاربوا طويلا من أجله. ولا تزال آذان الجميع تنصت إلى التلفاز حول مجهودات الإنقاذ.
سألني عجوز في احتضاره: «لماذا البشر قساة لهذا الحد؟» وتوقفت الإجابة في حلقي، فيما حلقت أنفاسه هو لحدود أخرى أكثر براحا.
على وقع الرصاص أرغمت على السير للحصول على مؤنة تضمن لنا الصمود بضعة أيام، تتحرك الحافلة، أحاول أن أمني نفسي بحماية المتمردين أو الثوار أو القوات الحكومية أو الأممية، ولكن هذا لا يمنح الحق في الحياة والاطمئنان.
في طريق العودة أرشدونا إلى طريق «نظيف»، وسارت بنا الحافلة تتهادى على وقع الجثث الطازجة، أخبرونا أن الطريق آمن، ولكن كيف يأمنون أرواحا تلعنهم آلاف المرات تحوم حولنا وحولهم. «أتستطيع حمايتي؟» أردد السؤال على رئيس الشرطة، وحينما لاحظت تردده، تابعت: «أستطيع أن أمنحك زجاجة جعة تشرب نخب دمائنا وأوطاننا، أو أعطيك عشرات من الدولارات التي ادخرتها من أصدقائي حينما كنت في خدمتهم وقبل رحيلهم عند بدء القتال.»
نردد لأطفالنا: «سيأتون لإنقاذنا.» رغم الشك، نمني أنفسنا بها، ثم نستمر في متابعة أجهزة الإذاعة والتلفزة، نتشبث بها كأمل أخير. الجميع يدلون بأحاديثهم حول مجهوداتهم، ويتجاهلون مجهوداتنا في توفير الرشاوى التي تكفيهم.
أصدقاؤنا من خلف المكاتب يؤكدون تحركاتهم لتوصيل معوناتهم، وحينما جاءت أخيرا؛ حملوا جميع اللحم الأبيض، ورحلوا. تركوا لنا فضلاتهم، ووطنا إما أن تصبح فيه قتيلا أو قاتلا، وطنا أصبح سببا إضافيا للقتل.
رحيل
أخيرا أعلنت المضيفة عن ضرورة ربط أحزمة الأمان، وبدء إقلاع الطائرة، أحاول جاهدة أن أغمض عيني لأنال قسطا من الراحة التي خاصمتني طوال الأسبوعين الماضيين، وسط النوم المضطرب والأحداث المتسارعة.
Bog aan la aqoon
ينازعني النوم، فيأبى إطاعة أوامري؛ فأفتح النافذة وأتطلع بعيون نصف زائغة، فيما يطن في أذني صوت محركات الطائرة. أودع المدينة التي عاشتني بتفاصيلها، ولهجاتها المتعددة، ووجوه ساكنيها، ومبانيها الزجاجية، وناطحاتها، والتي جاء قرار الترحيل منها مفاجئا، ونصف سار في الوقت ذاته.
ما زالت تفاصيل ذلك اليوم حاضرة في ذهني، أعيدها عشرات المرات، أحاول جاهدة أن أغير بعض تفاصيله، ولكن تفاجئني النهاية ذاتها مع كل محاولة.
حينما جاء زوجي من عمله في موعده المعتاد، ولكن عينيه الزائغتين نبأتاني بأن يومه لم يكن عاديا، سألته، فطلب تأجيل الحديث لما بعد الغداء، ولكنه أمام إلحاحي أخبرني بأن مديره أبلغه بقرار إنهاء عمله، وضرورة ترحيلنا خلال عشرة أيام، دون أية تفاصيل؛ لأنه هو ذاته لم يكن لديه سوى خطاب إنهاء الخدمة فقط.
في تلك اللحظة شعرت بأنني السبب، وألحت علي تحذيرات طالما سمعتها من زوجي وزملاء العمل، بالكف عن التطرق إلى الكتابة في السياسة ومجاوزة الخطوط الحمراء، والاكتفاء بالتقارير الثقافية أو الاقتصادية الاعتيادية، ولكنني في كل مرة كنت أتهمهم بالمبالغة في المخاوف، وأكرر أن ما أكتبه ليس على هذه الدرجة من الأهمية.
ثم تذكرت ذلك التقرير الذي نشرته قبل بضعة أيام، والذي تلقيت بمجرد نشره تعليقات حامية من أصدقائي وأفراد عائلتي، ولوما مستورا من زوجي.
أخبرته بهواجسي، فأجابني بأنه لا داعي لاستباق الأحداث، ولكن عندما عاد لعمله في اليوم التالي، عرف بشكل سري أن تقريري هو السبب وراء قرار الجهة الأمنية بإنهاء وجودنا بالبلد.
تلك الليلة طلب مني ولأول مرة منذ سنوات أن أترك ابنتي مع أمي التي تزورنا منذ أسبوع، والخروج معه، فظننت أنه يريد أن يلقي على مسامعي لومه ومسئوليتي، خرجت معه متحفزة، فقد سمعت من الأهل والأصدقاء طوال اليوم ما يكفي من اتهامات.
شعر باضطرابي، فاحتضنت يده يدي، وأشعرني بدفء مفقود في تلك الليلة الشتوية، فطمأنتني لمساته وكلماته، وأخبرني بأن تقريري أهم عنده من مؤسسة خدمها تسع سنوات فلم تحفظ موظفيها ولم تدافع عنهم.
وتوالت الأحداث سريعا، بين إجراءات تسليم لعهدته، وإنهاء لإجراءات سفرنا، وشحن ما تيسر لنا، والبحث عن مشتر لما بقي لنا من أثاث وأجهزة، وسط سقوط لأقنعة من حولنا، وأصدقاء ادعوا يوما تلك الصداقة، فمنهم من رفض الرد على اتصالاتنا، والبعض اكتفى بكلمات الوداع الروتينية، وآخرون أجابوا عن رسائلي بطلب البحث عن فرص أخرى بالعمل بحجج واهية كسياسة التوطين التي تنفذها مؤسساتهم، وصعوبة توظيف جنسيات معينة بفعل الأحداث السياسية في بلدانهم.
تطاردني المخاوف في وطني؛ فلا عمل، وبيت نصف مجهز، وعائلة تتربص بلومها، وطفلة لم يتعد عمرها سنوات أربع، فرحة بعودتها لأحضان عائلتها، ومتخوفة من مستقبل لها لم نخطط له بعد. ينتفض جسدي قلقا، فيلاحظ اضطرابي، فيحمل يدي مرة أخرى يهدهدها بين يديه، وهو نصف نائم ونصف مستيقظ، ويستمر الأزيز يطن في أذني.
Bog aan la aqoon