إن العلم كان وسيلة صحيحة لتحسين كيف نعيش، ولكن العلم لا يكفى للإجابة عن بقية الأسئلة، فلم يكن وسيلة صحيحة لها.
لقد ابتكرت المدنية الحديثة فكرة الوطنية فكانت سبب شقائها، ومصدر محنتها، وفقدانها روحانيتها.
لقد كانت الأسرة هي الوحدة، ثم كانت القبيلة، ثم كانت المدينة، ثم كانت أهل الدين الواحد، ثم كانت في المدنية الحديثة الأمة؛ ولكن في كل ذلك شقاء، ولا يمكن أن يسعد العالم حتى تأتي مدنية تجعل الإنسانية كلها هي الوحدة، وهي الغاية، وهي المثل الأعلى.
فكر في أكثر شرور هذا العالم، وكلما بدأ سبب فأرجعه إلى علته الأولى، تصل أخيرا إلى أن علة العلل ضيق هذا النظر في جعل الأمة لا الإنسانية هي الوحدة؛ فالتسلح، والحروب الماضية، والحروب المستقبلة، وكثرة العاطلين، وغلاء الأسعار، والخصومات بين الأحزاب، والخصومات بين الأمم، وعدم وجود المال الكافي للإصلاح الاجتماعي، سببه كله هذه النظرة الضيقة، نظرة الساسة المستبدين إلى أمتهم، يؤيدهم من وراء ستار رجال الأموال والأعمال، وحتى الرجال الذين كانوا موضع الأمل في إعزاز جانب الروح، وهم رجال الدين أصبحوا - كذلك - رجال سلطة.
هذه المدنية التي شرحتها طغت على كل شيء؛ فالأخلاق أساسها هذه المادية، وبرامج التعليم أساسها الوطنية، ومالية الدولة مشلولة بالأغراض الحربية، والآلات المخترعة جعلت أصحاب الأموال والحكومات ينظرون إلى الإنسان نظرهم إلى ترس في آلة، واستغرقت المادة كل تفكير المفكرين، من اقتصاديين وماليين وعلماء وحكوميين؛ ومن اتسع تفكيره لإصلاح روحي أو لإصلاح اجتماعى صدم بميزانية الدولة التي أسست على النظرة المادية، وصدم بالحالة الدولية العامة، كالذي كان في عصبة الأمم؛ فقد خذلت وأصيبت في صميمها؛ لأنها حاولت محاولة بسيطة أن توجه تيار المدنية الحديثة إلى الناحية الروحية، فلما كانت البيئة التي حولها لا تساعدها اختنفت وأصبحت هي الأخرى جسما بلا روح؛ ثم أصبح الناس جميعا وقد فقدوا حريتهم الحقيقية، على الرغم من الطلاء الكاذب من المناداة بالحرية؛ فالحالة الاقتصادية المادية سلبت الناس حريتهم، وجعلتهم يعانون أشد المعاناة وسائل العيش، ولا حرية لهم في التخلص منها؛ وكلما زادت المدنية زادت مطالب الحياة، وتعقدت سبل الحصول عليها، وشعر الناس بضيق من شدة الضغط؛ وهل مع هذا حرية؟ والناس يرون الحرب أزمة المدنية؟ ولكن هذا خطأ؛ فالحرب نتيجة سوء المدنية، ومظهر لحقيقة سوء الحال الاقتصادية والمادية، لا أن الحرب نفسها هي الأزمة؛ فالحرب هي عقرب الساعة التي نراها، ولكن العقارب نفسها ليست إلا مظهرا للآلات الدقيقة المستورة تحت العقارب، وإذا رفعت العقارب لم يتغير سير الآلات في شيء، وكل ما فقدناه هو المظهر والعلامة.
لقد أعلت المدنية الحديثة شأن العقل وغالت في تقديره، وآمن رجالها بأنه وحده هو الأساس الصالح للحياة، فكان من نتيجة ذلك ازدهار العلم إلى حد بعيد، وزادهم تحمسا له ما كان من نتائجه الباهرة في المخترعات والآلات؛ ولكنهم بعد سيرهم الطويل، ونجاحهم الباهر في هذه السبيل، اصطدموا بحقيقة مؤكدة، وهي أن العلم وحده وما تبعه لم يكن السبيل لإسعاد الإنسان.
وأظن أن قد ظهرت موجة علت نفوس الناس تشعرهم بأنهم لم يكونوا بعد العلم أسعد مما كانوا قبل العلم، وتشعرهم بأن المدنية ينقصها شيء كبير.
ما هو هذا الشيء؟
هذا هو الجانب الروحي الذي أشرت إليه؛ ولست أنكر مزية العلم، ولكني أعتقد أنه وحده لا يكفي. إني أفهم من المدنية معنى خاصا، هو أنها «التقدم الذي يقوم به الناس في كل جانب من جوانب الحياة، وفي كل وجهة من وجهات النظر المختلفة»؛ فإذا انحصر التقدم في المادة وحدها والعلم وحده، كانت المدنية ناقصة، كما إذا انحصر التقدم في الروحانية وحدها.
لقد رجحت في المدنية الحديثة كفة المادية، فيجب أن نضع في الكفة الخفيفة روحانية كثيرة حتى تتوازن؛ ولكن ما هذه الروحانية التي نريد وضعها؟
Bog aan la aqoon