الرأي والعقيدة
الكيف لا الكم
صديق
مشروع مقالة
أدب القوة وأدب الضعف
من غير عنوان
الإشعاع
حلقة مفقودة
شاعر
الذوق العام
كيف يرقى الأدب؟
بين اليأس والرجاء
سيبويه المصري
القلب
الجامعة كما أتصورها
سلطة الآباء
والراديو أخيرا!
عدو الديمقراطية
الموت والحياة1
الضحك
سيدنا
نعمة الألم
ديمقراطية الطبيعة
ما فعلت الأيام
لذة الشراء
صندوق الكتاكيت
الأحنف بن قيس
أكاذيب المدنية
المصالحة
المادة لا تنعدم
نجار ونجار
عاطف بركات
محضر جلسة
أدبنا لا يمثلنا
ولود وعقيم
مقياس الرقي
كتابة المقالات
الراحة في التغيير
في المسجد
منطق اللغة
ظاهرة وتعليلها
أمس وغدا
ما نعلم وما لا نعلم
فى رأس البر
بين الصحف والكتب
إلى أخي الزيات1
إنسان ناجح
امتيازات من نوع آخر
علي بك فوزي
الشمس
الرجولة في الإسلام
قيمة الثقافة
الرجل والمرأة
فن الحكم
مقياس الشباب
نظرة في النجوم
صفحة سوداء
هما
الصدق في الأدب
لحظات التجلي
أدب اللفظ وأدب المعنى
ندرة البطولة
السكون في الظلام
ملق القادة
اللون الأصفر
الليل
فقدان الثقة
كيمياء الأفكار والعواطف
في الحر
الشخصية
ثروة تضيع
النقد الأدبي
الرأي والعقيدة
الكيف لا الكم
صديق
مشروع مقالة
أدب القوة وأدب الضعف
من غير عنوان
الإشعاع
حلقة مفقودة
شاعر
الذوق العام
كيف يرقى الأدب؟
بين اليأس والرجاء
سيبويه المصري
القلب
الجامعة كما أتصورها
سلطة الآباء
والراديو أخيرا!
عدو الديمقراطية
الموت والحياة1
الضحك
سيدنا
نعمة الألم
ديمقراطية الطبيعة
ما فعلت الأيام
لذة الشراء
صندوق الكتاكيت
الأحنف بن قيس
أكاذيب المدنية
المصالحة
المادة لا تنعدم
نجار ونجار
عاطف بركات
محضر جلسة
أدبنا لا يمثلنا
ولود وعقيم
مقياس الرقي
كتابة المقالات
الراحة في التغيير
في المسجد
منطق اللغة
ظاهرة وتعليلها
أمس وغدا
ما نعلم وما لا نعلم
فى رأس البر
بين الصحف والكتب
إلى أخي الزيات1
إنسان ناجح
امتيازات من نوع آخر
علي بك فوزي
الشمس
الرجولة في الإسلام
قيمة الثقافة
الرجل والمرأة
فن الحكم
مقياس الشباب
نظرة في النجوم
صفحة سوداء
هما
الصدق في الأدب
لحظات التجلي
أدب اللفظ وأدب المعنى
ندرة البطولة
السكون في الظلام
ملق القادة
اللون الأصفر
الليل
فقدان الثقة
كيمياء الأفكار والعواطف
في الحر
الشخصية
ثروة تضيع
النقد الأدبي
فيض الخاطر (الجزء الأول)
فيض الخاطر (الجزء الأول)
مقالات أدبية واجتماعية
تأليف
أحمد أمين
مقدمة
بقلم أحمد أمين
6 رمضان سنة 1357
هذه مقالات نشر بعضها في مجلة «الرسالة» وبعضها في مجلة «الهلال» وبعضها لم ينشر في هذه ولا تلك. استحسنت أن أجمعها في كتاب؛ لا لأنها بدائع أو روائع؛ ولا لأن الناس ألحوا علي في جمعها، فنزلت على حكمهم، وائتمرت بأمرهم؛ ولا لأنها ستفتح في الأدب فتحا جديدا لا عهد للناس به؛ ولكن لأنها قطع من نفسي أحرص عليها حرصي على الحياة، وأجتهد في تسجيلها إجابة لغريزة حب البقاء، وهي - مجموعة - أدل منها مفرقة، وفي كتاب أبين منها في «أعداد».
ثم لعلي أقع على قراء مزاجهم من طبيعة مزاجي، وعقليتهم من جنس عقلي، وفنهم من فني، يجدون فيها صورة من نفوسهم وضربا من ضروب تفكيرهم، فيشعرون بشيء من الفائدة في قراءتها، واللذة في مطالعتها، فيزيدني ذلك غبطة ويملؤني سرورا.
بعض هذه المقالات وليد مطالعات هادئة، وبعضها نتيجة عاطفة مائجة، وكلها تعبيرات صادقة.
أصدق كاتب في نظري من احتفظ بشخصيته، وجعل أفكاره وعواطفه تمتزج امتزاجا تاما بأسلوبه، وخير أسلوب عندي ما أدى أكثر ما يمكن من أفكار وعواطف في أقل ما يمكن من عسر وغموض والتواء، وراعك بجمال معانيه أكثر مما شغلك بزينة لفظه، وكان كالغانية تستغني بطبيعة جمالها عن كثرة حليها.
ولم يكن لي شرف إدراك هذه الغاية، ولكن كان لي شرف السير في سبيلها.
الرأي والعقيدة
فرق كبير بين أن ترى الرأي وأن تعتقده؛ إذا رأيت الرأي فقد أدخلته في دائرة معلوماتك، وإذا اعتقدته جرى في دمك، وسرى في مخ عظامك، وتغلغل إلى أعماق قلبك.
ذو الرأي فيلسوف، يقول: إني أرى الرأي صوابا وقد يكون في الواقع باطلا، وهذا ما قامت الأدلة عليه اليوم وقد تقوم الأدلة على عكسه غدا، وقد أكون مخطئا فيه وقد أكون مصيبا. أما ذو العقيدة فجازم بات لا شك عنده ولا ظن، عقيدته هي الحق لا محالة، هي الحق اليوم وهي الحق غدا، خرجت عن أن تكون مجالا للدليل، وسمت عن معترك الشكوك والظنون.
ذو الرأي فاتر أو بارد، إن تحقق ما رأى ابتسم ابتسامة هادئة رزينة، وإن لم يتحقق ما رأى فلا بأس، فقد احترز من قبل بأن رأيه صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيره خطأ يحتمل الصواب. وذو العقيدة حار متحمس لا يهدأ إلا إذا حقق عقيدته؛ هو حرج الصدر، لهيف القلب، تتناجى في صدره الهموم، أرق جفنه وأطال ليله، تفكيره في عقيدته، كيف يعمل لها، ويدعو إليها؛ وهو طلق المحيا مشرق الجبين، إذا أدرك غايته، أو قارب بغيته.
ذو الرأي سهل أن يتحول ويتحور، هو عبد الدليل، أو عبد المصلحة تظهر في شكل دليل. أما ذو العقيدة فخير مظهر له ما قاله رسول الله: «لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أدع هذا الذي جئت به ما تركته»، وكما يتجلى في دعاء عمر: «اللهم إيمانا كإيمان العجائز».
لقد رووا عن «سقراط» أنه قال: «إن الفضيلة هي المعرفة». وناقشوه في رأيه، وأبانوا خطأه، واستدلوا بأن العلم قد يكون في ناحية والعمل في ناحية، وكثيرا ما رأينا أعرف الناس بمضار الخمر شاربها، وبمضار القمار لاعبه؛ ولكن لو قال سقراط: إن الفضيلة هي العقيدة، لم أعرف وجها للرد عليه: فالعقيدة تستتبع العمل على وفقها لا محالة - قد ترى أن الكرم فضيلة ثم تبخل؛ والشجاعة خيرا ثم تجبن؛ ولكن محال أن تؤمن بالشجاعة والكرم، ثم تجبن أو تبخل.
العقيدة حق مشاع بين الناس على السواء، تجدها في السذج، وفي الأوساط، وفي الفلاسفة - أما الرأي فليس إلا للخاصة الذين يعرفون الدليل وأنواعه، والقياس وأشكاله؛ والناس يسيرون في الحياة بعقيدتهم، أكثر مما يسيرون بآرائهم؛ والمؤمن يرى بعقيدته ما لا يرى الباحث برأيه، وقد منح المؤمن من الحواس الباطنة والذوق ما قصر عن إدراكه القياس والدليل.
لقد ضل من طلب الإيمان بعلم الكلام وحججه وبراهينه ، فنتيجة ذلك كله عواصف في الدماغ أقصى غايتها أن تنتج رأيا؛ أما الإيمان والعقيدة فموطنهما القلب، ووسائلهما مد خيوط بين الأشجار والأزهار والبحار والأنهار وبين قلب الإنسان؛ ومن أجل هذا كانت
أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت * وإلى السماء كيف رفعت * وإلى الجبال كيف نصبت * وإلى الأرض كيف سطحت
أفعل في الإيمان من قولهم: «العالم متغير وكل متغير حادث»؛ فالأول عقيدة والثاني رأي.
الناس إنما يخضعون لذي العقيدة، وليس ذوو الرأي إلا ثرثارون، عنوا بظواهر الحجج أكثر مما عنوا بالواقع، لا يزالون يتجادلون في آرائهم حتى يأتي ذو العقيدة فيكتسحهم.
قد يجود الرأي، وقد ينفع وقد ينير الظلام، وقد يظهر الصواب؛ ولكن لا قيمة لذلك كله ما لم تدعمه العقيدة، وقل أن تؤتى أمه من نقص في الرأي، ولكن أكثر ما تؤتى من ضعف في العقيدة، بل قد تؤتى من قبل كثرة الآراء أكثر مما تؤتى من قلتها.
الرأي جثة هامدة، لا حياة لها ما لم تنفخ فيها العقيدة من روحها، والرأي كهف مظلم لا ينير حتى تلقي عليه العقيدة من أشعتها، والرأي مستنقع راكد يبيض فوقه البعوض؛ والعقيدة بحر زاخر لا يسمح للهموام الوضيعة أن تتولد على سطحه؛ والرأي سديم بتكوس، والعقيدة نجم يتألق.
ذو الرأي يخضع للظالم وللقوي؛ لأنه يرى أن للظالم والقوي رأيا كرأيه، ولكن ذا العقيدة يأبى الضيم ويمقت الظلم؛ لأنه يؤمن أن ما يعتقده من عدل وإباء هو الحق، ولا حق غيره.
من العقيدة ينبثق نور باطني يضيء جوانب النفس، ويبعث فيها القوة والحياة، يستعذب صاحبها العذاب، ويستصغر العظائم، ويستخف بالأهوال؛ وما المصلحون الصادقون في كل أمة إلا أصحاب العقائد فيها.
الرأي يخلق المصاعب، ويضع العقبات، ويصغي لأماني الجسد، ويثير الشبهات، ويبعث على التردد؛ والعقيدة تقتحم الأخطار، وتزلزل الجبال، وتلفت وجه الدهر، وتغير سير التاريخ، وتنسف الشك والتردد؛ وتبعث الحزم واليقين، ولا تسمح إلا لمراد الروح.
ليس ينقص الشرق لنهوضه رأي، ولكن تنقصه العقيدة؛ فلو منح الشرق عظماء يعتقدون ما يقولون لتغير وجهه وحال حاله ، وأصبح شيئا آخر.
وبعد ، فهل حرم الإيمان مهبط الإيمان؟
الكيف لا الكم
روي أن ابن «سينا» كان يسأل الله أن يهبه حياة عريضة وإن لم تكن طويلة؛ ولعله يعني بالحياة العريضة حياة غنية بالتفكير والإنتاج؛ ويرى أن هذا هو المقياس الصحيح للحياة؛ وليس مقياسها طولها إذا كان الطول في غير إنتاج؛ فكثير من الناس ليست حياتهم إلا يوما واحدا متكررا، برنامجهم في الحياة: أكل وشرب ونوم؛ أمسهم كيومهم، ويومهم كغدهم؛ هؤلاء إن عمروا مائة عام فابن سينا يقدره بيوم واحد؛ على حين أنه قد يقدر يوما واحدا - طوله أربع وعشرون ساعة - بعشرات السنين إذا كان عريضا في منتهى العرض؛ فقد يوفق المفكر في يومه على فكرة تسعد الناس أجيالا، أو إلى عمل يسعد آلافا؛ فحياة هذا - وإن قصرت - تساوي أعمار آلاف، بل قد تساوي عمر أمة؛ لأن العبرة بالكيف لا بالكم.
وليس على الله بمستنكر
أن يجمع العالم في واحد
ولعل ساعة اجتمع فيها أقطاب الأمم الأربعة، فانتهوا فيها إلى السلم، وأنقذوا أرواح الملايين من البشر، ومنعوا من الكوارث ما لا يعلم هوله إلا الله، خير آلاف آلاف من سنين صرفت في التسلح وما إليه.
وتقدير الأشياء بالكيف لا بالكم، منزلة لا يصل إليها العقل إلا بعد نضجه. أما الطفل في نشأته، والأمة في طفولتها، فأكثر ما يعجبهما الكم؛ فالريفي خير «الخيار» عنده ما كبر حجمه وبيع بالكوم، والمدني خير «الخيار» عنده ما نحف جسمه وكان «كالقشة» وبيع بالرطل. والطفل وأشباهه يرغبون بكثرة العدد لا بجودة الصنف؛ فحيثما مررت في الشارع أو زرت متجرا رأيت أكثر الترغيب بالكم «فأربعون ظرفا وجوابا بتعريفه»، و«دستة أقلام رصاص بصاغ»، وهكذا؛ وسبب هذا أن البيع والشراء يعتمدان على أدق قوانين علم النفس، والباعة من أعرف الناس بهذه القوانين التي تتصل بعقلية الجمهور؛ فهم يعلمون أنهم أكثر تقويما للكم، وأكثر انخداعا بالعدد؛ فهم يأتونهم من نواحى ضعفهم وموضع المرض منهم، وقل أن يرغبوهم في الشيء بأنه من «العال» أو «عال العال»؛ لأن هذا تقدير للكيف، وليس يقدره إلا الخاصة.
وكل إنسان قد مر بدور الطفولة، والأمم جميعها مرت كذلك بهذا الدور؛ فعلق بأذهانهم تقدير الكم، ولم يستطيعوا أن يتحرروا منه مهما ارتقوا؛ وأصبحوا - حتى الخاصة منهم - ينخدعون بالكم من غير شعور وبلا وعي؛ وصار هذا مرضا ملازما، إنما يتحرر منه الفلاسفة وإلى حد. ألا ترانا نرى الرجل الضخم حسن الهيئة جميل الطلعة فنمنحه الاحترام ولو لم نعرف قيمته؛ ونرى الرجل صغير الجسم غير مهندم الثياب فنحتقره أول وهلة من غير أن نعرفه؛ وأساس معاملتنا بالإجمال احترام ذوي المظاهر الجميلة حتى يثبت العكس، واحتقار ذوي المظاهر الوضيعة حتى يثبت العكس، وليس ذلك إلا من خداع الكم؛ ولو أنصفنا لوقفنا على الحياد من الجميع حتى نتبين الكيف.
ونرى ذا العمامة الكبيرة واللحية الطويلة، فنعتقد فيه العلم والدين، مع أنه لا علاقة بين كبر العمامة وطول اللحية وبين العلم والدين؛ وإن كانت ثمة علاقة فعلاقة الضدية؛ لأن الدين محله القلب، والعلم موطنه الدماغ؛ وإذا ملئ القلب دينا والدماغ علما احتقر المظهر وأبى أن يدل على دينه أو علمه بمظهر خارجي؛ بل هو إن امتلأ دينا وعلما أنكر على نفسه الدين والعلم، واعتقد أنه أبعد ما يكون عما ينشده من دين وعلم؛ وكذلك الشأن في اللباس الجامعي واللباس الكهنوتي.
وقديما أدرك العرب خداع الكم، فقالوا: «ترى الفتيان كالنخل وما يدريك ما الد خل».
وقال شاعرهم:
ترى الرجل النحيف فتزدريه
وفي أثوابه أسد مزير
1
ويعجبك الطرير فتبتليه
فيخلف ظنك الرجل الطرير
وفي كل شأن من شئون الحياة، وضرب من ضروب العلم والفن ترى خداع الكم.
فالمؤلفون يعلنون عن كتبهم أنها في أربعمائة صفحة - مثلا - من القطع الكبير، والمتعلمون كثيرا ما باهوا بكثرة ما قرأوا، والكتاب
بكثرة ما كتبوا؛ والصحافة كثيرا ما خدعت القراء بالكم، فكان مما اصطنعته زيادة عدد الصفحات في الجرائد والمجلات، مع أن الصفحات وحدها كم، ولا قيمة لها ما لم يصحبها الكيف. وكم أتمنى أن أرى جريدة أو مجلة ترغب قراءها بالكيف فقط، وإن كنت أجزم بأن مصيرها الفشل؛ لأن أكثر الناس لم يمنحوا - بعد - ميزان الكيف.
وقد جرت كثرة الصفحات في الجرائد والمجلات إلى تحوير الأسلوب إلى ما يناسبها؛ فكان الأسلوب أحيانا كالعهن المنفوش، يصاغ منه في صفحة ما يصح أن يصاغ في عمود، وفي عمود ما يصح أن يصاغ في سطر واحد - ولست أدري لم كان الناس إذا أرسلوا برقية، تخيروا أوجز الألفاظ لأغزر المعاني؛ ولم يفعلوا من ذلك شيئا في كتبهم ورسائلهم ومقالاتهم؛ ولعلهم يفعلون ذلك؛ لأن الكلمات في البرقية تقدر بالقروش، وليس كذلك فيما عداها - إن كان هذا هو السبب دل على تقدير القرش أكثر مما يقدر زمن القارئ والكاتب؛ وفي هذا منتهى الشر، وفي هذا أقسى مثل لغفلة الناس في تقدير الكم لا الكيف.
وقديما عرض علماء البلاغة للكيف والكم في الأدب، وسموها اسما خاصا هو الإيجاز والإطناب؛ وعدوا الإيجاز أشرف الكلام؛ والإجادة فيه بعيدة المنال؛ لما فيه من لفظ قليل يدل على معنى كثير، ومثلوا للإيجاز والإطناب بالجوهرة الواحدة بالنسبة إلى الدراهم الكثيرة؛ فمن ينظر إلى طول الألفاظ يؤثر الدراهم لكثرتها، ومن ينظر إلى شرف المعاني يؤثر الجوهرة الواحدة لنفاستها، ولا يعدل عن الإيجاز إلى الإطناب إلا لإيضاح معنى أو تأكيد رأي.
والحق أن الأدب العربي في هذا الباب من خير الآداب، فأكثر ما صدر في عصوره الأولى حبات من المطر تجمعت من سحاب منتشر، أو قطرات من العطر استخلصت من كثير من الزهر.
وبعد، فلست أحب أن تكون كتابتنا كلها برقيات، وإذا لعدمنا ما للأسلوب من جمال، وما لتوضيح الفكرة وتجليتها وتحليتها من قيمة؛ وإنما أريد أن يكون المعنى هو القصد وهو المقياس، فإن أطنبنا فللمعنى، وإن أوجزنا فللمعنى.
وأريد أن يقوم الناس الكيف للكيف، وإذا قدروا الكم فللكيف. ولعل من ألطف ما كان أني حين بلغت هذا الموضع من مقالاتي أخذت أعد صفحات ما كتبت، فوجدتها قليلة العدد، فآلمني ذلك؛ لأني لم أبلغ ما حذرت أن يكون، وفرحت بهذه الملاحظة؛ لأنها سدت فراغا في المقالة، يكمل بعض ما فيها من قصر. ألسنا جميعا عباد (كم)، أوليس هذا من نوع تقدير الخيار «بالكوم»؟
صديق
لي صديق، اصطلحت عليه الأضداد، وأتلفت فيه المتناقضات، سواء في ذلك خلقه وخلقه وعلمه.
حيي خجول، يغشى المجلس فيتعثر في مشيته، ويضطرب في حركته، ويصادف أول مقعد فيرمي بنفسه فيه، ويجلس وقد لف الحياء رأسه، وغض الخجل طرفه، وتقدم له القهوة فترتعش يده، وترتجف أعصابه؛ وقد يداري ذلك فيتظاهر أن ليس له فيها رغبة، ولا به إليها حاجة؛ وقد يشعل لفافته فيحمله خجله أن ينفضها كل حين، وهي لا تحترق بهذا القدر كل حين؛ وقد يهرب من هذا كله فيتحدث إلى جليسه لينسى نفسه وخجله، ولكن سرعان ما تعاوده الفكرة فيعاود الهرب؛ وهكذا دواليك حتى يحين موعد الانصراف، فيخرج كما دخل، ويتنفس الصعداء حامدا الله على أنه لم يخر صعقا، ولم يدركه حينه كربا وقلقا.
من أجل هذا أكره شيء عنده أن يشترك في عزاء أو هناء، أو يدعى إلى وليمة أو يدعو إليها. يشعر أنه عبء ثقيل على الناس وأنهم عبء عليه. يحب العزلة لا كرها للناس ولكن سترا لنفسه، ويأنس بالوحدة وهي تضنيه وتبريه.
ثم هو - مع هذا - جريء إلى الوقاحة، يخطب فلا يهاب، ويتكلم في مسألة علمية فلا ينضب ماؤه، ولا يندى جبينه، ويعرض عليه الأمر في جمع حافل فيدلي برأيه في غير هيبة ولا وجل، وقد تبلغ به الجرأة أن يجرح حسهم، ويدمي شعورهم، فلا يأبه لذلك، ويرسل نفسه على سجيتها فلا يتحفظ ولا يتحرز.
يحكم من يراه في حالته الأولى أنه أحيا من مخدرة، ومن يراه في الثانية أنه أوقح من ذئب وأصلب من صخر، ومن يراه فيهما أنه شجاع القلب، جبان الوجه. •••
وهو طموح قنوع، نابه خامل، يرمي بهمته إلى أبعد مرمى، وتنزع نفسه إلى أسنى المراتب، وتحفزه إلى أبعد المدارك؛ فيوفر على ذلك همه، ويجمع له نفسه، ويتحمل فيه أشق العناء، وأكبر البلاء، ولا يسأم ولا يضجر؛ وكلما نال منزلة ملها وطلب أسمى منها. وبينا هو في جده وكده، وحزمه وعزمه، إذ طاف به طائف من التصوف، فاحتقر الدنيا وشئونها، والنعيم والبؤس، والشقاء والهناء. وسمع قول المتنبي:
ولا تحسبن المجد زقا وقينة
فما المجد إلا السيف والطعنة البكر
وتركك في الدنيا دويا كأنما
تداول سمع المرء أنمله العشر
فهزئ به وسخر منه، واستوطأ مهاد الخمول ورضي من زمانه ما قسم له. وبينا يأمل أن يكون أشهر من قمر، ومن نار على علم، يسافر في الشرق والغرب ذكره، ويطوي المراحل اسمه، إذا به يخجل يوم ينشر اسمه في صحيفة، ويذوب حين يشار إليه في حفل، ويردد مع الصوفية قولهم: «ادفن وجودك في أرض الخمول، فما نبت مما لم يدفن لا يتم نتاجه» يعجب من يراه مجدا خاملا، ومعرفة نكرة، وعاملا مغمورا.
وأغرب ما فيه أنه متكبر يتجاوز قدره، ويعدو طوره، ومتواضع ينخفض جناحه، وتتضاءل نفسه. يتكبر حيث يصغر الكبراء، ويتصاغر حيث يكبر الصغراء. يتأله على العظماء حتى تظن أنه نسل الأكاسرة ووارث الجبابرة، ويجلس إلى الفقير المسكين يؤاكله ويستذل له؛ هو نسر أمام الأغنياء، وبغاث لدى الفقراء، لا تلين قناته لكبير، ويخزم أنفه الصغير.
يحب الناس جملة، ويكرههم جملة. يدعوه الحب أن يندمج فيهم، ويدعوه الكره أن يفر منهم، حار في أمره فامتزج الحب بالكره، فاستهان بهم في غير احتقار.
صحيح الجسم مريضه. ليس فيه موضع ضعف. ولكن كذلك ليس فيه موضع قوة. يشكو المرض، فيحار في شأنه الطبيب، فيحنق على الأطباء ويرميهم بالعجز وما العاجز إلا جسمه لم يستطع أن ينوء بنفسه.
كذلك كان رأسه: مضطرب، مرتبك، كأنه مخزن مهوش، أو دكان مبعثر، وضعت فيه النعل القديمة بجانب الحجر الكريم، يؤمن بقول الفقهاء: القديم على قدمه، ثم يدعو إلى التجديد. ويتلاقى فيه مذهب أهل السنة بمذهب أهل النشوء والارتقاء، ومذهب الاختيار بمذهب الجبر، وحب الغنى بمذهب «أبي ذر». وتجتمع في مكتبته كتب خطية قديمة قد أكلتها الأرضة، ونسج الزمان عليها خيوطه، وأحدث الكتب الأوربية فكرا وطبعا وتجليدا. ولكل من هذين ظل في عقله، وأثر في رأسه. يسره «تأبط شرا» في بدواته وصعلكته ، و«جوته» في حضارته وإمارته، ويؤمن بشاعرية هذا وذاك. يسمع إلى الملحدين فيصغي إليهم، وإلى المؤمنين فيحن شوقا لذكراهم. ويهمل في صلاته ويحافظ على صومه، إن ألحد فكره لم تطاوعه طبيعته، وإن كفر عقله آمن قلبه. ومن أصدقائه السكير الزاهد، والفاجر الداعر والعابد؛ وكلهم على اختلاف مذاهبهم يصفه بأنه يجيد الإصغاء كما يجيد البليغ الكلام. •••
سرت معه سيرة من جنسه، فأحببته وكرهته، ونقمت منه ورحمته، وكنت آنس به وأستوحش منه؛ يبعد عني فأتوق إليه، ويطول مقامي معه فأتبرم به.
وأخيرا، لم يقو جسمه على هذه الأضداد مؤتلفة، والمتناقضات مجتمعة. فعاجله الشيب في شبابه، وتقوس ظهره في ربيع عمره، وأصبح مترهل العضل، منسرق القوى، يظنه من رآه أنه بلغ أرذل العمر، ولداته في رونق الشباب وميعة النشاط.
بلغني مرضه، فلم أدركه إلا جنازة، فشيعته إلى أن أنزل حفرته، وأجن في رمسه ونفضت من ترابه الأيدي!
وعدت موجع القلب باكيا، ضيق الصدر، مكروب النفس، أخذني من الحزن عليه ما تنقض منه الجوانح، وتنشق له المرائر؛ فعلمت أن حبي له كان أعمق من كرهي إياه، وأن نقمتي عليه لم تكن إلا مظهرا من عطفي عليه، وأني كنت أقسو عليه رحمة به!
رحمة الله عليه فقد حطم بعضه بعضا، ومضى قتيل روحه وشهيد نفسه.
مشروع مقالة
جلست إلى مكتبي وأمسكت بالقلم واستعرضت ما مر علي أثناء الأسبوع لأختار منه موضوعا أكتب فيه، فخطر لي:
1
أن أكتب في المساجلات الأدبية التي دارت بين شيخ العروبة والأستاذ مسعود في (الطرطوشي ولاردة)، وبين الدكتور زكي مبارك والأستاذ عبد الله عفيفي في كتاب (زهرات منثورة)، وبين الدكتور طه حسين والأستاذ العقاد في (اللاتينيين والسكسونيين)، وقلت: إن هذا موضوع طريف جدير أن يكتب فيه الكاتب ويعرض فيه لنوعي النقد اللذين ظهرا في كتابة هؤلاء الأدباء؛ فأحد النوعين قاس عنيف، حتى يخيل إلي أن أصحابه لم يبق لهم إلا أن يتسابوا بالآباء، أو يتضاربوا بالأكف، أو يتبارزوا بالسيوف! والآخر عفيف خفيف فيه لذع، ولكن بالإيماء والإشارة ، وفيه مهاجمة عنيفة، ولكن للفكرة لا لقائلها؛ ويخيل إلي أنهما إذا تقابلا تعانقا، ومهما أطالا فلن يتباغضا. وليس في أسلوبها إدلال وفخر وإعجاب وعجب، وليس فيه إسفاف وتنابذ بالألقاب، وإدخال للعمامة والقبعة في وسط المعمعة، يدعو أحدهما الآخر إلى التلمذة له، ويلقي كلاهما درسا في النحو على أخيه.
وقلت: من الحق أن تصرخ في وجه هؤلاء، وأن تعلن أن نقدهم يعجبك موضوعا ولا يعجبك شكلا، وأن الذوق إذا رقى اكتفى في الخصام بلمحة، وأن الأديب يعجبه التعريض والتلميح، ويشمئز من الهجو المكشوف والتصريح، وأن العامة إذا تسابوا أقذعوا، وأن أولي الذوق إذا تخاصموا كان لهم في الكناية ومراتبها، والإيماء ودرجاته، والتعريض ومقاماته، مندوحة من الأسلوب العريان والصراحة المخزية، وأن الحقيقة الواحدة يمكن أن تقال على ألف وجه، يتخير الأديب أحسنها، على حين لا يعرف العامي إلا وجها واحدا يتلوه الضرب، وأن في أعماق شيوخ الأدب حقا للناشئة من المتعلمين الذين يضربون على قالبهم ويسيرون على منوالهم، وإن هؤلاء الناشئة ليجدون في هذه الصحف والمجلات مدرسة تثقفهم وتغذيهم. ثم هم بعد قادة الأدب وهداة الأمة؛ فلو أنا علمنا النشء هذا النقد الذي لا يراعي صداقة ولا يأبه لوفاء كان علينا وزرهم ووزر الأجيال بعدهم، وكانت مدرستنا التي ننشئها قاسية البرامج فاسدة الطريقة.
وقلت: إن هذه الطريقة لا تخدم الحق كما يزعم أصحابها، فلسنا نطلب منهم أن يسكتوا على باطل، وأن يغمضوا عن خطأ؛ بل نحمد منهم جدهم في خدمة الحق، وسهرهم في كشف الصواب، ولكنهم يسيئون إلى الحق إذا ظنوا أنه لا يؤدى إلا بهجر، ولا يكشف إلا بسباب. والحق إذا عرض في أدب كان أجمل وأجدى على رواده، وإذا عرض في سفه حمل المعاند أن يصر على عناده وحمل الخجول أن يكتم آراءه في نفسه حتى لا ينهش عرضه ولا تبتذل كرامته، فقل التأليف وضعف الإنتاج.
جال كل هذا في نفسي، ولكني خفت أن أكتب مقالتي في هذا الموضوع، وقلت: إنك إن فعلت هاجوا بك، وتركوا خصومتهم لخصومتك، وتصادقوا لعداوتك ، وقالوا: أتلقي علينا درسا في الأدب ونحن أساتذة الأدب؟ ومن أنت؟ وما شأنك؟ وجلسوا مني مجلس الملكين يسألون ويسفهون. وأنت ما أغناك عن هذا الموقف وما أبعدك من هذا المأزق! فتركت هذا الموضوع، وعدلت عن المشروع.
ففيم أكتب إذا؟
2
كنت في الترام عصر يوم من هذا الأسبوع، فصاح بائع الجرائد: المقطم! البلاغ! فلم ألتفت إليه لأني كنت قرأتهما، فلم يصدق أني سمعت، فصاح صيحة أنكر من الأولى، فكان موقفي منه موقفي، فأمعن في الصراخ وأمعنت في البرود؛ فما وسعه إلا أن صعد الترام، ومسني بالمقطم والبلاغ، فاضطررت إلى أن أقول: إني قرأتهما ليصدق أني سمعت وفهمت.
وقلت: إن هذا الموضوع للكتابة طريف، أدعو فيه إلى دقة الحس ورقة الشعور وظرف المعاملة؛ فإن ذلك لو كان لأغنانا من كثير مما نلاقي من عناء وجفاء؛ وما معاملاتنا إلا كالآلة بلا زيت: تسير ولكن تصدع.
على أني قلت: إن هذا الموضوع من جنس الأول، فلو أن أساتذة الأدب رقوا في نقدهم، لرق بائعوا الجرائد في عرضهم، فأعرضت عن هذه إذا أعرضت عن تلك.
3
وجلست في مجلس يجمع طائفة مختارة من الأدباء، فعرضت بعض القصائد والمقالات، فما من قصيدة أو مقالة إلا استحسنها قوم واستهجنها آخرون؛ ورأيت من استحسن لم يستطع أن يقنع من استهجن، ولا من استهجن قد استطاع أن يقيم الدليل على من استحسن؛ ورأيتهم إذا تناقشوا في المعقولات أطالوا حججهم وسددوا براهينهم، وذكروا لقولهم الأسباب والنتائج، وهم أعجز ما يكونون عن ذلك في الفنون والآداب.
فقلت: هذا الموضوع جيد، أليس من الممكن أن يوضع للذوق منطق كما وضع أرسطو للعقل منطقا، فلتكتب في «الذوق الفني»، ولتحاول أن تبين أسباب الخلاف ووجه الصواب ووجه الخطأ، وترسم سلما للرقي في الذوق تعرف به من أخطأ ومن أصاب، وتبين به علة الخطأ في المخطئ والإصابة للمصيب، وكيف تحكم على ذوق بأنه أرقى من ذوق، كما تحكم على عقل بأنه أرقى من عقل.
ولكني رأيت الموضوع عميقا يحتاج أن أفرغ له، وأهجم عليه ابتداء من غير أن أشتت فكري في موضوعات مختلفة، فأرجأته إلى حين.
وقلت: ما الذي يمنع أن أجعل مشروع المقالة مقالة؟ فليكن!
أدب القوة وأدب الضعف
يروون أن جماعة من آل الزبير كانوا يجتمعون إلى مغنية فيسمعون ويطربون، حتى إذا استخف الطرب أحدهم (وهو عبد الله بن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير) قال فيها:
أحلف بالله يمينا ومن
يحلف بالله فقد أخلصا
لو أنها تدعو إلى بيعة
بايعتها ثم شققت العصا
فبلغت هذه البيات أبا جعفر المنصور، فدعاه إليه وعنفه على قوله، وعيره بضعف آل الزبير من هذه الناحية، إلى أن قال له: «حتى صرت أنت آخر الحمقى تبايع المغنيات، فدونكم يا آل الزبير وهذا المرتع الوخيم!»
وسخر المنصور من هذا الضرب من القول، وهذا النوع من الحياة، وقال: إنما يعجبني أن يحدى لي بهذه الأبيات:
إن قناتى لنبع لا يؤيسها
غمز الثقاف ولا دهن ولا نار
1
متى أجر خائفا تأمن مسارحه
وإن أخف آمنا تقلق به الدار
هذه القصة تمثل نوعين من الأدب: فنوع يصح أن تسميه أدبا رقيقا، وإن كنت أشد صراحة فسمه أدبا ضعيفا أو أدبا «مائعا»، كما يصح أن تسمي النوع الثاني أدبا قويا أو أدبا رصينا.
ولست أعني بالضعف أو القوة ضعف الأدب أو قوته من الناحية الفنية، وإنما أعني ضعفه وقوته من الناحية الخلقية والاجتماعية، فقد يكون هذا النوع الذي أسميه ضعيفا أو مائعا في منتهى الرقي من الناحية الفنية، كما قد يكون الأدب القوي ليس قويا بالمقياس الفني.
وهذه القصة تمثل لنا أيضا أن الأدب المائع والقوي أثر من آثار الحوادث والظروف، فقد فشل آل الزبير سياسيا ولم تتحقق مطامعهم. فاستولى عليهم اليأس وانصرفوا إلى اللهو وأنسوا بالسماع وما إليه، واحتقروا الخلافة حتى ليهمون أن يبايعوا جارية مغنية؛ ويحدث عبد الله بن مصعب هذا عن نفسه فيقول:
إذا غنتنى هذه الجارية:
حسيت أني مالك جالس
حفت به الأملاك والموكب
فلا أبالي وإله الورى
أشرق العالم أم غربوا
أما المنصور فنجح وأسس ملكا ضخما، ووصل إلى هذا النجاح بقوته وحزمه، فكان أحب شعر إليه شعر القوة والعظمة والحمية. •••
يخيل إلي أنا إذا ألقينا نظرة عامة على الأدب العربي من هذه الناحية رأينا الأدب الجاهلي قويا - كجلمود صخر حطه السيل من عل - حماسة قوية، وفخر قوي، بل وغزل قوي؛ والأدب الإسلامي إلى آخر العهد الأموي، أدب قوي فيه عزة الفاتح، وإعجاب الظافر، ونشوة المنتصر؛ وإن كان فيه نغمات ضعف فنغمات الحزب الذي غلب على أمره، أو المحب الذي يئس في حبه؛ أما ما عدا هذا ففخر وإعجاب، وهجاء في أعلى درجات القوة.
فإذا نحن انتقلنا إلى العصر العباسي رأينا العزة العربية تأخذ في الضعف، ورأينا الانهماك في اللهو يبعث أدبا جميلا في فنه، ضعيفا في روحه، فيقول رئيس المجددين في عصره بشار بن برد:
قد عشت بين الريحان والراح وال
مزهر في ظل مجلس حسن
وقد ملأت البلاد ما بين فغ
فور
2
إلى القيروان فاليمن
شعرا تصلى له العواتق وال
ثيب صلاة الغواني للوثن
وتوالت النكبات على الشرق من ظلم وجور وسوء في كل نظم الحياة الاجتماعية؛ فكان الأدب العربي ظلا لهذه الحياة - كان أدبا ضعيفا، إن أنت حصرته وجدته بين باك على مصائب الدهر كأبي العلاء، ومادح للولاة والأمراء والأغنياء، ومستهتر يصف استهتاره وصفا أنيقا بديعا يرضي الفن ولا يرضي الروح؛ وما اخترع من الفنون كان من هذا الضرب، مقامات للبديع والحريري بنيت على التسول والاستجداء، وإفراط في المجون، أو إفراط في التصوف، وكلاهما فرار من حياة الجد، والنثر حمل كل أنواع الزينة من سجع وبديع، فكان كالفتاة تسرف في التجمل الصناعي لما شعرت بنقص جمالها الطبيعي.
ولم يظفر العالم العربي من العهد العباسي إلا بأفراد قلائل منحوا من القوة في أدبهم ما كان موضع الإعجاب كالمتنبي والبارودي، وكلاهما كانت قوته صدى لحياته: فالمتنبي فارس شجاع، كان في أكثر شعره يسجل وقائع سيف الدولة مع الروم، ويدون مظاهر القوة والفروسية؛ والبارودي كذلك رب سيف وقلم، فكان قلمه مسجلا لآثار سيفه؛ وأمثال هؤلاء قليل ، وإلا فخبرني عن شعر البطولة والفروسية والحياة والقوة بعد؛ وأين الشعر الغنائي الذي صدر عن شعور بالعزة القومية في الأدب العربي؟ أليس عجيبا أن نرى شعر «البهاء زهير» وقد كان في أسمى منصب من مناصب الدولة، وكان مشرفا على الحروب الصليبية ومساهما في تدبير شئونها - لا يذكر لنا في شعره بيتا من أغاني الفروسية؟ ثم ينصرف بكله إلى الغزل المائع! على حين أن الصليبين خلفوا لقومهم أغانى وأشعارا صليبية قوية؛ ولم يخلف لنا الأدب العربي في هذا الباب إلا ما كان تافها ضعيفا - لعل السبب في هذا أن المسلمين كان موقفهم في هذا موقف دفاع لا هجوم «وما غزي قوم في عقر دارهم إلا ذلوا».
وبعد، فكل عاطفة من عواطف الإنسان - على كثرتها وتعددها - موضوع للأدب وخير الأدب ما انبعث عن عاطفة صحيحة لا مريضة؛ فالشعر المتناهي في وصف ما يلاقي المحب في عذاب والذي يذوب رقه وحنانا، ليس - في نظري - مؤسسا على عاطفة صحيحة، كالذي في شعر العباس بن الأحنف وأمثاله؛ وهذا الشعر إن أرضى الجمهور ولذهم هو في كثير من الأحيان أجوف، وهو في كثير من الأحيان نتاج عاطفة مريضة. وليس من الحق أن يبيع الإنسان عواطفه بهذه السهولة - والشاعر المثير هو الذي يثير العواطف بقدر، ويبينها على أساس عميق؛ أما إن هو غالى في ذلك وأثار عواطف حادة لأسباب واهية كان أدبه أدبا خفيفا ضعيف القيمة مهما استلذه الناس وأعجبوا به.
هناك عواطف حنان، وعواطف إجلال، وعواطف جمال، وعواطف قوة؛ وهناك ما يثير الحزن، وما يثير السرور، وما يثير الشهوة، وما يثير البطولة، وما يدفع إلى المجد، وما يدفع إلى اللهو؛ وكلها صالحة للأدب، وكلها في نظر الأدب سواء، وإن اختلفت قيمتها في نظر الأخلاق ونظر دعاة الإصلاح؛ فالأخلاقي يرى أن الأدب الذي يثير لذة حسية أقل رقيا من أدب يثير شعورا أخلاقيا، كالإعجاب بالبطولة، واحتمال الآلام في سبيل أعمال جليلة - وأرقى الأدب في نظرنا ما أحيا الضمير وزاد حياة الناس قوة.
وأغرب ما في الأمر أن أدباءنا الذين انتفعوا بالأدب الغربي، وعملوا على نقله إلى الأدب العربي أفرطوا في نقل هذا النوع من الأدب المائع، وفرطوا في نقل الأدب القوي؛ وسبب ذلك أنهم جاروا ميول الجمهور، وسايروا رغباته؛ فكانوا تجارا أكثر منهم قادة؛ والجمهور إنما استلذ هذا النوع؛ لأنه من قديم ألف البكاء، وكانت حالته الاجتماعية تدعو إليه؛ ولأنه ترك جده على كاهل غيره ففرغ للهو.
وكان هذا النوع من الأدب أضر بالشرقي من ضرره بالغربي؛ لأن الغربي عنده بجانب هذا الأدب الضعيف أدب آخر قوي؛ فإذا بعث الأول حنانا ورقة، بعث الآخر قوة وجلدا، فتعادلت حياته وتغذت نواحي عواطفه؛ أما الشرقي فليس له تراث حاضر من أدب قوي يسند ضعفه ويحيي نفسه. وسبب آخر وهو أن الشرقي - على العموم - ذو عاطفة أحد، وهو لها أقل ضبطا؛ فإذا نحن غذيناه دائما بهذا الأدب الحاد، زادت عواطفه ميوعة، مع أنه أحوج ما يكون إلى ما يقوي عاطفته ويضبط جموحها. •••
الحق أن الأدب عود ذو أوتار، ويجب أن تكون أوتاره على نظام ما عند الإنسان من عواطف جدية وهزلية، ورقيقة وقوية؛ وضاحكة وباكية، ورخيصة وغالية. والعود الذي يوقع عليه الأديب الشرقي ناقص الأوتار، تنقصه الأوتار القوية، والأوتار التي تبعث الحياة، والأوتار التي تبعث الضحك ليتلوه جد، والأوتار التي تهز النفس لتملأها أملا، والأوتار التي تبعث النغم يصور بطولة، والتي تبعث النغم ليوقظ من سهاد - عود الأديب الشرقي على نحو عود المغني الشرقي - أشجى أغانيه أحزنها، وخير نغماته أبكاها.
فهل يتقي الله الفنانون والأدباء في الجيل الناشئ فيصلحوا أغانيهم ويكملوا ما نقص من أوتارهم، ويستدركوا ما فاتهم؛ وينشدوا طويلا نشيد الحياة، كما أنشدوا من قبل طويلا نشيد الموت؟
من غير عنوان
أكلت أكلة ساء هضمها، فانقبضت نفسي، وغاضت بشاشتي، وتقطب ما بين عيني، وسئمت كل شيء حولي، وبرمت بمخالطة الناس كما برمت بالعزلة عنهم، وكرهت السكوت كما كرهت الكلام.
ونظرت إلى العالم فتجهمته، رأيته ثقيل الروح، فاسد المنطق، يمج السمع نغماته، ويعاف الطبع منظره، وتأخذ بخناقى ألاعيبه وأحداثه.
أي شيء فيه يسر؟ إن هو إلا جيفة تنبحها الكلاب، وميتة يتساقط عليها الذباب، عدو كل ألفة، ومصدع كل شمل، يبلي الجديد ولا يجد البالي، ليست لذته إلا ألما مفضضا، ولا مسرته إلا حزنا مبهرجا!
ودعوت ربي بالسلامة جاهدا
ليصحني فإذا السلامة داء •••
ما حال من آفته بقاؤه
نغص عيشي كله فناؤه
أليس عجيبا ألا تكون لذة حتى يحدها ألمان، ولا راحة حتى يكتنفها عناآن؟
سعيد وشقي، وفقير وغني، وذكي وغبي، ليست إلا ألفاظا اصطلح عليها، فإن أنت تأملتها لم تجد كبير فرق بين مدلولاتها.
ما الظافرون بعز ها ويسارها
إلا قريبو الحال من خيابها
أكبر الناس قيمة الأشياء وأضاعها الموت! وتفاوتوا في الجاه والثراء وسوى بينهم القبر!
ومن ضمه جدث لم يبل
على ما أفاد ولا ما اقتنى
يصير ترابا سواه علي
ه مس الحرير وطعن القنا!
ليست الدنيا إلا قطرة من شهد في بحار من علقم، وذرة من سعادة في أمواج من شقاء، يمعن الدهر في بؤسه وعنته؛ حتى إذا استيأست النفس وبلغت الروح التراقي سخا بقبس من نعيم ثم أطفأه بريح عاتية من عذاب!
قد فاضت الدنيا بأدناسها
على براياها وأجناسها
وكل حي فوقها ظالم
وما بها أظلم من ناسها
نظام كله فوضى! وحياة كلها فساد، رذيلة تسعد وفضيلة تشقي!
والناس شتى فيعطى المقت صادقهم
عن الأمور ويحبى الكاذب الملق
بحار تشكو الري، وصحراء تشكو الظمأ، وماء ولا شارب، وشارب ولا ماء! وغني عقيم، وفقير عائل:
سبحان من قسم الحظو
ظ فلا عتاب ولا ملامه!
أعمى وأعشى ثم ذو
بصر وزرقاء اليمامه!
عيش كله هذيان، أعاليل بأباطيل، والدنيا تلعب بنا لعب الكرة!
ترينا الدجى في هيئة النور خدعة
وتطعمنا صابا فنحسبه شهدا
كذب المؤرخون فسموا زمنا سلما وزمنا حربا، وما السلم إلا حرب صامتة شر من الحرب الناطقة! كل شيء في العالم مفترس، أسد يفترس ذئبا، وذئب يفترس حملا، وإنسان يفترس كل شيء حتى نفسه!
كان العالم عالم سوء فتوج الإنسان شروره:
كلما أنبت الزمان قناة
ركب المرء في القناة سنانا
عالم كله أحاجي وألغاز، وعقل قاصر عنيد، منذ خلقه الله يحاول أن يفهم فلا يفهم، يحوم حول العالم يريد أن يعرف الغرض منه فلا هو يصل ولا هو يعدل.
نفارق العيش لم نظفر بمعرفة
أي المعاني بأهل الأرض مقصود •••
الله صورني ولست بعالم
لم ذاك، سبحان القدير الواحد!
حياة حار فيها الحكيم وضل فيها الفيلسوف؛ مبادئ تتضارب، وصور تتنازع، وكلام مزخرف، ظاهره جميل وباطنه مزيف. وكلما ظنوا أن قد حلوا مشكلة نجمت مشكلات. وقديما قضى الفلاسفة حياتهم في الجوهر والعرض والكمية والكيفية وأيس وليس، ثم عادوا آخر المطاف يعترفون بالفشل ويقرون بالعجز، ويقولون مع القائل:
نهاية إقدام العقول عقال
وأكثر سعي العالمين ضلال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا
وحاصل دنيانا أذى ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا
سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
زاد تلبك معدتي، فزادت من الحياة نقمتي!
فيا موت زر إن الحياة ذميمة
ويا نفس جدي إن دهرك هازل •••
تناولت دواء هاضما فأخذت أهش للحياة وأبش، وبدأت أنظر إلى العالم بوجه منطلق، ومحيا منبسط. ها هو ذا قد تألقت صفحته، وأصفرت غرته، وانقشعت غمامته.
الحق أن العالم جميل، فهذا نسيم يعطر الجو بعرفه، ويحيي النفوس برقته ولطفه؛ وهذا الربيع نزهة العين، ومنطق الطير؛ وهذه الحديقة عقد منظوم، ووشي مرقوم:
أصبحت الدنيا تروق من نظر
بمنظر فيه جلاء للبصر
والأرض في روض كأفواف الحبر
تبرجت بعد حياء وخفر
كل شيء حولي يضحك! ليس في الإمكان أبدع مما كان:
قلبي وثاب إلى ذا وذا
ليس يرى شيئا فيأباه
يهيم بالحسن كما ينبغي
ويرحم القبح فيهواه
إن الحياة غنية باللذائذ، وليست الآلام فيها إلا توابل تهيئ لاستمراء اللذة.
والشوك في شجرات الورد محتمل
ما الدنيا إلا قيثارة يوقع عليها شجى الألحان! أو مائدة شهية صففت عليها صنوف الألوان!
وقد تخمد الشمس الصباح بضوئها
تفاوتت الأنوار والكل رائق
إن كان في الدنيا سخف وهذيان، فكن الفيلسوف الضاحك، ولا تكن الفيلسوف الباكي!
وإن كانت الدنيا ألغازا وأحاجي، فكم نجح العقل في حلها واستجلاء غامضها، وكل يوم تتسع دائرة المعلوم، وتضيق دائرة المجهول، والعقل يلذه البحث، ولو لم يصل، ويشعر بالغبطة ولو لم ينل، وفي نجاحه فيما أدرك، عدة له فيما لم يدرك. •••
رحماك اللهم! إن كان درهم من دواء هاضم يغير وجه العالم، ويحيل السواد بياضا، والشقاء سعادة، والقبح جمالا، والظلام نورا، والحزن سرورا، فأين الحق؟
الإشعاع
كتب أخي الدكتور أحمد زكي في مجلة الرسالة مقالا ممتعا في الإشعاع العلمي، تكلم فيه عن إشعاع الشمعة والنجوم والشمس، والإشعاع اللاسلكي، وموجات الضوء واختلافها، فأوحت مقالته إلى معاني في الإشعاع النفسي.
إن للنفوس والعقول إشعاعات لا تقل جمالا عن إشعاعات النجوم والكواكب، نشعر بها وقد لا نستطيع التعبير عنها، وهي أشد غموضا وتعقدا من الإشعاع الحسي، وهي مختلفة أكثر من الاختلاف بين أشعة الألوان، من حمراء وبنفسجية وتحت الحمراء وفوق البنفسجية وما بين ذلك، وهي مختلفة في القوة أشد من اختلاف المصابيح الكهربائية؛ فلئن كانت قوة المصباح شمعة أو شمعتين أو ألفا أو ألفين، فللنفوس قوة تختلف إلى ما لا نهاية له صغرا وضآلة، وإلى ما لا نهاية عظمة وسناء.
لعلك تشعر معي أنك ترى الرجل أو تحادثه أو تجالسه أو تسمع لمحاضرته، فيشع عليك نوعا من الإشعاع يخالف الآخر كل المخالفة، قد تحسن التعبير عنه وقد لا تحسن؛ فهذا يشع عليك سرورا وأريحية واطمئنانا، وهذا يشع حزنا ووجدا ورقة وحنانا، وذاك يشع هيبة وجلالا ووقارا، وآخر يشع ضعة وذلة وهوانا؛ وقد تحس من رجل بنوع من الأشعة تدركه وتستطعمه ولكنك لا تستطيع وصفه، كما إذا أكلت كمثرى وتذوقتها وأردت أن تصف طعمها لمن لم يذقها.
في الناس من إذا جالسته أشع عليك نورا أضاء لك ما بين جوانبك فأدركت نفسك، وأشع نورا على العالم الذي حولك، فتبينته وعرفت محاسنه ومساويه، وأدركت مكانك منه، ورأيت كل شيء حولك صافيا بينا كأنك تنظر إليه من مصباح
المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار .
وفي الناس من يجالسك فتتلقى منه أشعة مظلمة تنقبض لها نفسك، وتظلم جوانبها، وتحس بميل إلى الفرار منها، وتتنفس الصعداء إذا بعدت عنها ونجوت من ظلامها وخرجت إلى النور.
قديما قالوا: «درة عمر أهيب من سيف الحجاج»؛ ذلك لأن عصا عمر كان معها يد عمر ومعها نفس عمر؛ وهي تشع جلالا وعظمة، وتخضع أمام أشعتها نفوس الجبارة، ويحس كل من وقعت عليه هذه الأشعة أنها صادرة من مستودع قوى دونه المصباح الكهربائي، البالغ ما وصل إليه العلم من القوة. وأما سيف الحجاج فمعه نفس الحجاج، وهي تشع من غير شك قوة، ولكنها قوة على الجسم لا على الروح، قوة تخاف وترهب، ولكن لا تحترم ولا تحب؛ أشعة عمر كانت تطاع سرا وعلنا، وأشعة الحجاج تطاع علنا لا سرا؛ لذلك كفت عمر عصاه، ولم يغن الحجاج سيفه.
هذا الإشعاع هو السر في أنك تلقى عظيما فيملؤك حياة ويملؤك قوة، بهيئته وبنبرات صوته، وبطريقة تعبيره وبنظراته، وبإشارته وبهزة رأسه وبحركة يديه؛ فكأن في كل عمل من هذه الأعمال يوصل بينك وبينه تيارا كهربائيا قويا يهزك هزا عنيفا. قد لا يحدثك طويلا، وقد لا يكون لكلامه في الواقع قيمة ذاتية؛ ولكنه يوقظ نفسك ويحيي روحك، وتبقى رنات كلماته في الأذن الأيام والليالي، تعمل عملها في هدوء حينا وعنف حينا. وأصدقك إني لقيت عظيما من هذا النوع يوما فخرجت من مجلسه مملوءا حماسة وقوة وحياة، حتى إذا بلغت إلى محطة الترام لأركبه إلى مسافة بعيدة عفت الركوب؛ لأنه يبعث علي السكون، ونفسي ثائرة، والمشي في شدة القيظ ظهرا أفضل لها وأكثر موافقة لما هي فيه من نشاط وقوة - إذا ذكرت الآن كلامه لم أجده ذا قيمة؛ وكثير من الناس يتكلمونه ويتكلمون خيرا منه وأسمى وأعمق، ولكن أحدا منهم ليس له هذا الإشعاع ولا قوته وعظمته. وحدثني من أثق به أن الأستاذ جمال الذين الأفغاني كان يرتطن عجمة، ولم يكن فصيح اللسان ولا سلس القول؛ ولكن تجلس معه فيشعلك نارا دونها فصاحة الفصيح وبلاغة البليغ؛ لأنها النفس مستودع كهربائي قوي يصعق أحيانا، ويضيء أحيانا، ويدفع للحركة أحيانا.
والرجل العظيم، أو الكاتب الكبير، أو المؤلف القدير، يخرج ما ينتجه كتلة من الأشعة من جنس نفسه. ألست تقرا المقالة أو الكتاب فيشع عليك معاني مختلفة، منها الهادئ الرزين، ومنها القوي المتين، منها المضحك، ومنها المبكي، منها الذي يأخذ بيدك فيصعد بك إلى السماء، ومنها ما يدفعك إلى الحضيض؟ وآية هذا الإشعاع أنك تقرأ المقالة أو الكتاب فيبعث عندك من المعاني ما لا تدل عليه الألفاظ من طريق الحقيقة ولا المجاز، بل ما بين السطور يشع كالسطور نفسها؛ أو لست ترى مقالة الإشعاع في باب العلوم أشعت علي معاني في باب الأدب؟
ليسم هذا علماء النفس تداعي المعاني، أو ليسموه إيعازا أو اقتراحا، أو ليسموه ما شاءوا، فليست إلا إشعاعات نفسية من جنس الإشعاعات التي يشعها الأشخاص في كلامهم وحديثهم وحركاتهم فتلقف منها من المعاني ما يقرب وما يبعد.
وفي الأماكن كذلك أشعة مختلفة؛ فشارع عماد الذين يشع رغبة في اللهو وميلا إلى مسرات الحياة، والمساجد تشع ميلا للعبادة، وتمجيدا لله، والبحر الجليل يشع عظمة وجلالا، ونجوم السماء تشع حسنا وجمالا، والبنك يشع حبا في المال، والجامعة تشع حبا في العلم، بل وكل بلد يشع نوعا من الأخلاق؛ وإلا فلم يذهب المصري إلى إنجلترا وقد اعتاد الفوضى في حياته ومواعيده وصحوه ونومه، فما هو إلا أن يطأ أرضها حتى ينقلب خلقا آخر، دقيقا في نظامه، دقيقا في معيشته؟ ويذهب المصري إلى ألمانيا فيكون في بيئة علمية، فيشرب من مشربهم ويسير سيرتهم؛ فإذا عاد هذا وذاك إلى مصر عادا سيرتهما الأولى! ما هو إلا الجو النفسي تلقى فيه أشعة نفسية مختلفة الأثر، مختلفة الألوان.
ومن قوانين هذا الإشعاع النفسي أنه في كثير من الأحيان يعتمد على الفاعل والقابل معا، واعتماده على القابل أبين فيه من الإشعاع الحسي؛ فاللون الأبيض أبيض عند كل الناس، إلا من أصيب بعمى اللون؛ وليس كذلك الإشعاع النفسي؛ فالخطيب يخطب وإشعاعه يختلف باختلاف السامعين، والكلمة قد تهدي ضالا، وقد تضل هاديا، كما يقول المثل الإنجليزي: «إن الليل الذي يغمض عين الدجاج يفتح عين الخفاش»؛ وهذا هو السبب في أنك تستخف روح إنسان وغيرك يستثقله، وتعجب بقول متحدث ومن بجانبك يستخفه، وتتفتح نفسك لكتاب وغيرك ينقبض منه؛ ما هذا إلا لأن الإشعاع الواحد يختلف باختلاف من وقع عليه الشعاع، وأن هناك تفاعلا قويا بين مصدر الإشعاع وقابله؛ ومن أجل هذا قد ترى لصا في مسجد وعابدا في حانة.
وموسى الذي رباه جبريل كافر
وموسى الذي رباه فرعون مرسل
والأرض يمطرها السحاب، فمنها جنان ناضرة، ومنها صحراء مجدبة قاحلة، والنار تضيء للساري فيهتدي وللفراش فيحترق.
لقد أثبت العلم الإشعاع اللاسلكي، وأصبحنا نسمع الآن من الراديو أصوات الموسيقى في أوربا، وسنسمعها من أمريكا، وسنسمعها من أنحاء العالم؛ ومعنى هذا أن في جو مصر تموجات من أوربا وأمريكا وأنحاء العالم؛ وإذا كان هذا في المادة فإشعاع النفوس أبعد مدى، وأنفذ شعاعا، وأسرع سيرا؛ وإذا كان في حجرتي أمواج هوائية من مناحي العالم يظهرها الراديو، فإن في حجرتي ملايين وأكثر من الملايين من إشعاعات نفسية تشع من السماء ومن الأرض ومن النفوس البشرية، ومما لا يعلمه إلا الله. وما الفكرة تصدر عني، ولا الإلهام ألهم به فلست أعرف له مصدرا وليس يخضع لقوانين المنطق، ولا نظريات الاستنتاج، ولا الظواهر النفسية تتعاقب علي فلا أعرف تعليلها من انقباض وانبساط، وسمو وانحطاط، وكدورة وصفاء، وظلمة وضياء، إلا أثر من هذا الإشعاع.
إن وراء هذا العالم المادي عالما روحانيا نفسيا أسنى وأبهى؛ وإذا كان للأجسام والحواس جو يحيط بها قد امتلأ أشعة من نجوم وكواكب وشموع ومصابيح، فللنفس جو يحيط بها اشتبكت فيه أشعة نفسية لا عداد لها؛ وإذا كان للعين أفق يختلف باختلاف النظر قصرا وطولا، فللنفوس أفق يختلف كذلك؛ فبعضها ينفذ إلى ما وراء الحجب، ويستمد منه ما يستخرج العجب، وبعضها قصير المدى قريب المتناول؛ ولئن كانت قوانين الإشعاع الحسي لما يستكشف منها إلا قليل، فقوانين الإشعاع النفسي أشد تعقدا وأكثر التواء وغموضا، والعاكفون على دراستها، والموفقون لاستكشاف بعضها أقل وأندر. خضع كل الناس للإشعاع المادي، وخضع كل الناس للإشعاع النفسي، ولكن آمن بالأول كل الناس، وما آمن بالثاني إلا قليل.
هل تنبعث من عالم النفس شرارة قوية تضيء جوانب النفوس؟ وهل يبعث العالم النفسي موجة قوية تعم العالم وتهزه هزة عنيفة فتنبهه من سباته، ويهب علماؤه لتنظيم الحياة الروحية كما نظموا الحياة المادية، ويتخصص علماء النفس لاستكشاف قوانين الإشعاع النفسي كما استكشف الماديون قوانين الإشعاع الحسي، ثم ينتفعون وينفعون الناس، كما انتفعوا بقوانين الضوء وما إليه، وإذ ذاك يكون الناس أسعد حالا وأهدأ بالا وأكثر اطمئنانا؟ من يدري؟!!
حلقة مفقودة
في مصر حلقة مفقودة لا نكاد نشعر بوجودها في البيئات العلمية، مع أنها ركن من أقوى الأركان التي نبني عليها نهضتنا، وفقدانها سبب من أسباب فقرنا في الإنتاج القيم والغذاء الصالح.
تلك الحلقة هي طائفة من العلماء جمعوا بين الثقافة العربية الإسلامية العميقة، والثقافة الأوربية العلمية الدقيقة؛ وهؤلاء يعوزنا الكثير منهم، ولا يتسنى لنا أن ننهض إلا بهم، ولا نسلك الطريق إلا على ضوئهم.
إن أكثر من عندنا قوم تثقفوا ثقافة عربية إسلامية بحتة، وهم جاهلون كل الجهل بما يجري في العصر الحديث من آراء ونظريات في العلم والأدب والفلسفة؛ لا يسمعون بكانت، وبرجسون، ولا بأدباء أوربا وشعرائها، ولا بعلمائها وأبحاثهم، إلا أسماء تذكر في المجلات والجرائد والكتب الخفيفة، لا تغني فتيلا ولا تستوجب علما. وطائفة أخرى تثقفت ثقافة أجنبية بحتة، يعرفون آخر ما وصلت إليه نظرات العلم في الطبيعة والكيمياء والرياضة، ويتبعون تطورات الأدب الأوربي الحديث، وما أنتج من كتب وروايات وأشعار، ويعلمون نشوء الآراء الفلسفية وارتقاءها إلى عصرنا؛ ولكنهم يجهلون الثقافة العربية الإسلامية كل الجهل؛ فإن حدثتهم عن جرير والفرزدق والأخطل، أشاحوا بوجوههم وأعرضوا عنك، كأنك تتكلم في عالم غير عالمنا، وإن ذكرت الكندي والفارابي وابن سينا، قالوا: إن هي إلا أسماء سميتموها ما لنا بها من علم، وماذا نحصل من هؤلاء إلا على جمل غامضة ومعان مبهمة، لا تفيد علما ولا تبعث حياة؟ وبالأمس كنت أتحدث مع طائفة من المتعلمين عن «البيروني» العالم الإسلامي الرياضي، المتوفى سنة 440ه، وما كشف من نظريات رياضية وفلكية، وأن المستشرق الألماني «سخاو» يقرر أنه أكبر عقلية عرفها التاريخ في كل عصوره، وأنه يدعو إلى تأليف جمعية لتمجيده وإحياء ذكره تسمى جمعية «البيروني»، فحدثني أكثرهم أنه لم يسمع بهذا الاسم، ولم يصادفه في جميع قراآته، وهو يعرف عن ديكارت وبيكون وهيوم وجون ستوارت مل كثيرا، ولكنه لا يعرف شيئا عن فلاسفة الإسلام. ومثل ذلك قل في الأدب العربي والأوربي، والعلم العربي والأوربي؛ كل ثقافته العربية تنحصر في كتاب القواعد وأدب اللغة للمدارس الثانوية، إن كان قد بقي منها شيء في ذاكرته.
هاتان الطائفتان عندنا؛ يمثل الأولى خريجو الأزهر ودار العلوم ومدرسة القضاء، ويمثل الأخرى نوابغ خريجي المدارس العصرية والبعثات الأوربية. أما الذين حذقوا العربية والعلوم الإسلامية، ونالوا حظا وافرا من الثقافة الأجنبية، فأولئك هم الحلقة المفقودة في مصر، وفقدانها سبب الركود في الحياة العقلية والأدبية.
ذلك أن الأولين إذا أنتجوا، فعيب إنتاجهم أنهم لم يستطيعوا أن يفهموا روح العصر، ولا لغة العصر، ولا أسلوب العصر؛ وإنما التزموا التعبير القديم في الكتابة، والنمط القديم في التأليف، وتحجرت أمثلتهم؛ ومل الناس بلاغتهم، وعمادها رأيت أسدا في الحمام، وعضت على العناب بالبرد، وعشرة أمثلة من هذا الطراز! ومل الناس نحوهم، ومداره ضرب زيد عمرا، ورأيت زيدا حسنا وجهه؛ وسئم الناس منطقهم، وكله الإنسان حيوان، وكل حيوان يموت، فالإنسان يموت؛ وهذا حجر، وكل حجر جماد، فهذا جماد - ضجوا بالشكوى؛ لأن الناس لا يسمعون منهم؛ وضج الناس بالشكوى لأنهم لا يأتون بجديد، ولا يضعون القديم في شكل جذاب، ولا يلمسون الحياة التي يحيونها، ولا البيئة التي يعيشون فيها؛ فانصرفوا عن الناس، وانصرف الناس عنهم. ورضوا أن يعيشوا في جوهم الخاص، ورضي الناس منهم بذلك، وسلكوا سبيلا غير سبيلهم، واتبعوا دليلا غير دليلهم.
وأما الآخرون فضعفت ثقافتهم العربية الإسلامية، فلما أرادوا أن يخرجوا شيئا لقومهم وأمتهم أعجزهم الأسلوب والروح الإسلامي، فلم يستطيعوا التأليف ولا الترجمة، وحاولوا ذلك مرارا، فلم يفهم الناس منهم ما يريدون، وسبوا القراء ورموهم بالضعف والانحطاط، وسبهم القراء ورموهم بالعي، وأنهم لا يفهمون ما يكتبون، فعاشوا في أنفسهم ولأنفسهم، ورضوا من ذلك بالإياب.
كان من نتيجة ذلك أن الأدب العربي الإسلامي، والعلم العربي الإسلامي، والفلسفة العربية الإسلامية على غناها، ظلت مهجورة لا ينتفع بها، تنتظر جيلا جديدا يسيغها ويهضمها، ويبرزها في شكل يألفه الناس؛ وأن الأدب الغربي، والعلم الغربي، والفلسفة الغربية، حرم منها أكثر الشرقيين، ولم يصل إليهم إلا نوع خفيف ينشر في المجلات والجرائد وأمثالها، يقرؤه الناس ليطردوا به الضجر، أو يستعطفوا به النوم؛ وأما أدب غزير، وعلم عميق، وكتب محترمة، ومجلات قيمة، فقليل نادر.
والذي جر إلى فقدان هذه الحلقة أن التعليم عندنا سار في خطين متوازيين لم يلتقيا: فالتعليم العربي الإسلامي سار في خط، والتعليم المدني الحديث سار في خط آخر، ولم تكن هناك محاولات جدية لتلاقي الخطين أو ربط بعضهما ببعض.
لا أمل في إصلاح هذه الحال إلا بالعمل على إيجاد الحلقة المفقودة، وهي تذوق الثقافتين، والاغتراف من المنهلين، وإخراج أدب وعلم وفلسفة غذيت بما للعرب والإسلام من الثقافة، ولقحت بما للأوربيين من ثقافة ومنهج، فيها اللغة العربية قوية رصينة، وروح الإسلام قوية متينة. وفيها ما للأوربيين من عرض للمسائل جذاب، ونهج في الكتابة رشيق، وفيها مقارنة شهية بين ما أنتجه الأولون والآخرون.
لو تم ذلك لرأيت التاريخ الإسلامي يعرض على القراء في شكل محبوب يقرءونه ويستسيغونه، ورأيت الأدب العربي يقدم إلى الجمهور في ثوبه الجديد فيألفونه ويحبونه، ورأيت الفلسفة الإسلامية يغاص عليها غوصا عميقا، ثم تخرج من أصدافها وتجلي للقراء درة لامعة.
هذا هو السبب في نجاح رفاعة باشا ومدرسته، فأنتجت إنتاجا غذى عصرهم بل كان فوق كفايتهم؛ فقد أرسل رفاعة إلى فرنسا بعد أن درس في الأزهر وتعمق في العربية والعلوم الإسلامية، فلما حصل على الثقافة الفرنسية وضع يده على المنبعين فأخرج هو ومدرسته للناس ما استساغوه وأحبوه ونهضوا به، ولم يكن كذلك من لحق بهم وخلف من بعدهم.
وقد كان إخواننا الهنود أسبق منا إلى إيجاد هذه الحلقة والانتفاع بها، أخرجوا التاريخ الإسلامي في ثوب جديد على نمط ما يكتب الغربيون ولكن بروح إسلامي، وكتبوا في الدين الإسلامي والفقه الإسلامي بلغة العصر، وروح العصر، ونظام العصر، كما فعل السيد أمير علي والسيد محمد إقبال؛ فقد تضلع هذان العالمان الجليلان من الثقافة الإسلامية والأوربية، وأشرب قلباهما حب الإسلام، فأخرجا كتبا يقرؤها الشباب المثقف فيحبها ويحب موضوعها، ويستزيد منها، ويقرأها الشباب المتعلم المتخصص في الطبيعة والكيمياء، فيجدها تتمشى مع العلم الذي تثقفه، والنهج الذي ألفه - وتقرأ للسيد محمد إقبال، فتجده يعرض لفلسفة «كانت»، فإذا هو فيها دارس عميق، والغزالي فإذا هو باحث دقيق، ويقارن بين النصرانية والإسلام فيكشف عن باحث خبير فيما يكتب، ويعرض لشعراء الألمان كجوته فيحلله تحليلا يدعو إلى الإعجاب، ويتكلم في المعتزلة والصوفية فإذا هو قد تغلغل في أعماقهم، واستبطن دخائلهم، ثم عرض تعاليمهم كما يعرض الأوربي فلسفة قومه شائقة عذبة لذيذة.
ولكن الهنود يعرضون ذلك باللغة الإنجليزية، فلا يغذون جمهورنا، ولا يسدون حاجة العالم العربي؛ إنما يتغذى الشرق بهذا يوم توجد هذه الحلقة المفقودة في العالم العربي كمصر والشام، فتحيي آثار الأولين بأسلوب الآخرين، ويوم يكسر هذا الحاجز الذي يحجز بين علم الشرق وعلم الغرب، ويوم يلوى الخطان المتوازيان فيلتقيان.
شاعر
شاعرنا اليوم نشأ جاهليا، ونشأ في الطائف. والطائف مدينة في الجنوب الشرقي من مكة، تبعد عنها خمسة وسبعين ميلا، اشتهرت بطيب هوائها وجودة مزارعها. وقد اعتاد المترفون من العرب أن يقضوا الصيف بها، والشتاء بمكة. قال النميري يصف أخت الحجاج بالنعمة:
تشتو بمكة نعمة
ومصيفها بالطائف
أخصبت أرضها، وجرى الماء في وديانها، فكثرت مزارعها، وجادت فواكهها. بها جبل يقال له: «غزوان» كثرت كرومه، وكان عنبه العذب وزبيبه الحلو مضرب المثل جودة وكثرة، حتى ليروون أن سليمان بن عبد الملك لما حج رأى بيادر الزبيب فظنها حرارا
1 .
وقد حسدهم العرب على ما هم فيه من نعمة، فسوروا بلدتهم وحصنوها من أعدائهم، فصارت ملجأ الهارب وملاذ الخائف، وضرب المثل بمناعتها حتى قال القائل:
منعنا أرضنا من كل حي
كما امتنعت بطائفها ثقيف
كان يسكن الطائف قبيلة ثقيف، وقد أكسبتهم أرضهم وثروتهم وطبيعة بلادهم وجوهم رقيا في الحياة من الناحيتين الاجتماعية والعقلية، فاقوا فيهما من حولهم من السكان، وشعروا بعظمتهم فأكثروا من الفخر بأنفسهم؛ وقال قائلهم:
وقد علمت قبائل جذم قيس
وليس ذوو الجهالة كالعليم
بأنا نصبح الأعداء قدما
سجال الموت بالكأس الوخيم
وأنا نبتنى شرف المعالي
وننعش عثرة المولى العديم
وأنا لم نزل لجأ وكهفا
كذاك الكهل منا والفطيم
وقد أنجبت ثقيف شعراء مجيدين في الجاهلية والإسلام، كما أنجبت سلسلة وقادة نبه ذكرهم، وعظم أمرهم، فاشتهر منها من شعراء الجاهلية الشاعر المتأله أمية بن أبي الصلت، وفي العصر الأموي الشاعر الشريف طريح الثقفي، والشاعر الحكيم الأجرد الثقفي - واشتهر من أمرائها وساستها وقادتها الأمير القوي الحجاج بن يوسف الثقفي، والقائد الشاب محمد بن القاسم الثقفي فاتح السند ولم يكتمل العشرين، والذي قال فيه القائل:
ساس الجيوش لسبع عشرة حجة
يا قرب ذلك سؤددا من مولد
كما أن ثروتهم وحضارتهم استتبعت شهرتهم بالفجور والربا، حتى إن رسول الله لما صالحهم كان من شروط الصلح أن يسلموا وألا يزنوا ولا يربوا.
كذلك كانت كثرة العنب والزبيب في بلادهم سببا في شيوع الخمر بينهم وولوع أهلها بشربها.
وقد كانت الخمر شائعة بين العرب في الجاهلية، ولكن بين خاصتهم لا بين عامتهم، إذ إن عامتهم قد عدموا القوت وحرموا ضرورات العيش. أما المترفون فشربوا كثيرا وقالوا في شربها كثيرا. وقل أن نجد شاعرا جاهليا لم يتمدح بشربها وإتلاف ماله في سبيلها.
وكانت الخمر تأتيهم من الشام ومن اليمن ومن الطائف، وكان الأعشى الشاعر يتجر فيها، وكان له بقرية في اليمن يقال لها: «أثافت» معصرة يعصر فيها ما يقدم له من أعناب.
ونلاحظ من تاريخ العرب في الجاهلية وتراجم رجالها أن قد كان هناك طبقة من الشباب اعتادت أن تتلف مالها في الشراب؛ هم فئة من أولاد السراة، نشأوا في ثروة وجاه، وألفت بينهم وحدة النزعة، يجتمعون في المواسم والأعياد والمناسبات فينحرون الجزور ويهيأ لهم، ويشربون عليه وتغنيهم القيان والموالي من الفرس والروم والأحباش؛ ولكن هذه الطبقة لم تفقد مع شربها ولهوها شرفها وإباءها؛ فهي مع ذلك كله نبيلة كل النبل، شريفة كل الشرف - ثارت على كل شيء إلا قانون المروءة، وقانون المروءة يتلخص في الشجاعة والكرم. لا يعبأون بالحياة يبذلونها - في سخاء - لإنجاد من استنجد بهم، ونصرة الضعيف يستصرخهم ويلجأ إليهم؛ لا قيمة لحياتهم إذا مست كرامتهم أو كرامة قبيلتهم أو اعتدى أحد على جارهم أو حليفهم أو عبدهم، ولا قيمة للمال يوم يسألهم سائل أو يدعوهم لبذله داع، ولا بأس بالفقر يحل بهم وينزل بساحتهم، ولا ضرر إذا خسروا المال وكسبوا الشرف؛ وويل لزوجاتهم إذا لمنهم في الاستهتار بالحياة أو إتلاف المال، إذ ذاك يصبون عليهن نقمتهم، ويملأون الدنيا شعرا في لومهن وتأنيبهن.
شاعرنا اليوم كان من هذه الطبقة، فتى، غني، من ثقيف، من الطائف، شجاع، كريم، يكثر الشراب، ويتلف المال ويحتفظ بالمروءة ويقول:
لا تسألي الناس عن مالي وكثرته
وسائلي الناس عن حزمي وعن خلقي
القوم أعلم أني من سراتهم
إذا تطيش يد الرعديدة الفرق
2
قد أركب الهول مسدولا عساكره
وأكتم السر فيه ضربة العنق
عف المطالب عما لست نائله
وإن ظلمت شديد الحقد والحنق
وقد أجود وما مالي بذي فنع
3
وقد أكر وراء المجحر البرق
4
سيكثر المال يوما بعد قلته
ويكتسى العود بعد الجدب بالورق
وظلت ثقيف على جاهليتها لا تذعن لدعوة الإسلام حتى أسلم من حولها ورأت نفسها بمعزل، فاضطرت إلى الإسلام في السنة التاسعة للهجرة. وسمع شاعرنا بالإسلام وتعاليمه فوقف حائرا؛ إن الإسلام يدعو إلى المروءة، وهو ذو مروءة، والإسلام يدعو إلى الصدق ومكارم الأخلاق، وكل هذا حسن «فليسلم»، ولكنه يأمر المؤمنين أن يغضوا من أبصارهم، ولا يمدوا أعينهم إلى نساء غيرهم، كما ينهى عن الخمر ويعاقب على شربها ؛ فكيف يسلم وقد ألف الغزل ؟ وكيف يهجر الخمر ولا حياة له بغير الخمر؟ وقف قليلا ولكنه أسلم مع قومه وفوض إلى الله أمره؛ ولم نسمع عنه في حياة رسول الله وأبي بكر شيئا، ولكنا نراه اصطدم مع عمر وهو الشديد في الحق لا تأخذه فيه هوادة؛ فعاد شاعرنا يتغزل ويشرب، يرى امرأة من الأنصار تسمى «الشموس» فيحبها ويحاول رؤيتها بكل حيلة فلا يستطيع، فيؤجر نفسه ويعمل في حائط يبنى بجانب منزلها، ويطل عليها من كوة البستان ويقول:
ولقد نظرت إلى الشموس ودونها
حرج من الرحمن غير قليل
ويشرب ويقول الشعر في الخمر:
إن كانت الخمر قد عزت وقد منعت
وحال من دونها الإسلام والحرج
فقد أباكرها صرفا وأمزجها
ريا وأطرب أحيانا وأمتزج
فيحده عمر حد الشراب، فيفكر شاعرنا ويطيل التفكير: هل يترك الغزل والخمر؟ - لقد كان ذلك قبل الحد أما بعده فلا. إن من العار أن يتحدث الناس أني تركت الخمر خوفا من العقوبة وأنا الأبي الشجاع الذي لا يعبأ بالحياة - إذا فلأشرب وليحدني عمر - وفعلا شرب فحد، وشرب فحد، وبلغ ذلك سبع مرات أو ثمانيا، وهو لا يزال على رأيه، مصمم على تفكيره، ماض في غزله وشربه، حتى يئس عمر من علاجه وضاق به ذرعا، فقرر أن ينفيه في جزيرة كانت تنفي فيها العرب في الجاهلية خلعاءها، وبعث معه حرسيا يحافظ عليه حتى لا يهرب، وأوصاه ألا يأخذ سجينه سيفا معه؛ وقد عرف عمر كيف ينتقم، فلم يألم شاعرنا من شيء ألمه من هذا الرأي - سيكون في جزيرة وحده لا غزل ولا شراب؛ ولكن ليس هذا ما آلم نفسه وأدمى قلبه، إنما آلمه أن يعيش عيشة الضعفاء المساكين والرجال في غزوات الحرب يقتلون ويقتلون، وأن يعيش عيشة النساء في خدورهن وهو الفارس الكمي. لا. لا. الموت أهون من هذا.
تظاهر شاعرنا بأنه يحمل غرارتين ملئتا دقيقا، وعمد إلى سيفه فجعل نصله في غرارة، وجفنه في غرارة، ودفنهما في الدقيق؛ حتى إذا جاوز هو والحرسي المدينة ولقيا من سفرهما هذا نصبا جلسا للغذاء، فقام شاعرنا يوهم أنه يخرج دقيقا فأخرج سيفه ووثب على الحرسي فخرج يعدو على بعيره راجعا إلى المدينة، وظل صاحبنا وحده. الآن، لا أعود إلى المدينة وفيها عمر، ولا أطوف في البلاد ألهو فلست بعد اليوم لاهيا، ولكن إلى حيث يحيا الرجال والفرسان حياة النجدة والشهامة - إلى مواقع الغزوات، إلى أشدها هولا، وأصعبها مراسا، إلى «القادسية» حيث المواقع الفاصلة بين سيادة العرب وسيادة الفرس.
ولكن عمر الساهر على كل شيء في مملكته، لم يخف عليه أمر شاعرنا، فعرف أين توجه؛ فما وصل إلى القادسية إلا وقد سبقه كتاب عمر يأمر سعد بن أبي وقاص بحبسه، ففعل ذلك وحبسه في قصره وقيده؛ فمشى يرسف في قيوده ويستعطف سعدا أن يطلقه فيأبى؛ فذهب إلى سلمى زوج سعد وقال لها: هل لك إلي خير؟ قالت: وما ذاك؟ قال: تخلين عني وتعيرينني البلقاء (فرس سعد) فلله علي إن سلمني الله أن أرجع إليك حتى تضعي رجلي في قيدي. فأبت، فقام ثائرا حزينا، يرى القتال على الباب وهو يرسف في القيد، وانطلق لسانه بهذه الأبيات:
كفى حزنا أن تطعن الخيل بالقنا
وأترك مشدودا علي وثاقيا
إذا قمت عناني الحديد وغلقت
مغاليق من دوني تصم المناديا
وقد كنت ذا أهل كثير وإخوة
فقد تركوني واحدا لا أخا ليا
هلم سلاحي لا أبا لك إنني
أرى الحرب لا تزداد إلا تماديا
ولله عهد لا أخيس بعهده
لئن فرجت ألا أزور الحوانيا
5
سمعت سلمى هذا الشعر فرقت له، ورأت الصدق في قوله فأطلقته، واقتاد فرس سعد وخرج إلى موطن القتال وإذا به أمام الناس يقف بين الصفين ويحمل على العدو حملات صادقة، حتى عجب الناس من أمره، ورأوا الفرس فرس سعد والطاعن لم يشهد الحرب معهم قبل اليوم، حتى إذا انتصف الليل وتحاجز العسكران رجع صاحبنا إلى القصر وأعاد رجليه في القيد!
فلما أصبح الصباح تحدث الناس به وأخبرت سلمى سعدا بما كان منه، فأطلقه وعاهده ألا يحده أبدا إذا شرب.
الآن ظهرت نفس شاعرنا في شرفها ونبلها وقال لسعد : كنت آنف أن أتركها من أجل الحد، فأما إذا بهرجتني فلا والله لا أشربها أبدا. •••
لقد كان مما أخذه عمر عليه قوله:
إذا مت فادفني إلى أصل كرمة
تروي عظامي بعد موتي عروقها
ولا تدفنني بالفلاة فإنني
أخاف إذا ما مت ألا أذوقها
ويشاء قاص من الظرفاء فيروي أنه رأى قبره بنواحي أذربيجان أو جرجان، وقد نبتت عليه ثلاث كروم قد طالت وأثمرت واعترشت، وعلى قبره مكتوب:
هذا قبر أبي محجن الثقفي
أفاض الله عليه سجال رحمته، فقد كان رجلا وكان نبيلا.
الذوق العام
يظهر لي أن للأمة ذوقا عاما كما أن لها رأيا عاما وعرفا عاما، ولكل دائرة اختصاص لا يتعداها.
فالرأي العام مداره الآراء والأفكار والمعقولات، والعرف العام مداره العادات، أما الذوق العام فمداره الفن والجمال.
وكما أن هناك قدرا مشتركا بين المصريين في لونهم وتقاطيع وجهوهم وملامحهم، حتى لنستطيع في سهولة ويسر أن نميز المصري من الأجنبي؛ وكما أن هناك قدرا مشتركا في الرأي العام الأوربي، فكذلك الشأن في الذوق العام.
يتجلى هذا في كل أنواع الفنون كالطعوم، فلكل أمة أنواع من الطعوم تستلذها وتغرم بها، هي نتيجة ذوقها؛ ومن أجل هذا كان طهي كل أمة يخالف طهي الأمة الأخرى؛ ولا يقتصر هذا على نوع المأكول، بل يتعداه إلى كيفية إعداده، وبذا نستطيع أن نحكم على الأمة بأنها تستجيد كذا من ألوان الطعام وأنواعه، على حين أن الأمة الأخرى لا تستسيغه ولا تتذوقه.
ومثل الطعوم غيرها من الفنون، فالذوق العام المصري يقدر الموسيقى المصرية أكثر مما يقدر الموسيقى الغربية، بل لا يستلذها ولا يرى فيها جمالا، كما أن أكثر الغربيين لا يجد في الموسيقى الشرقية طعما، ولا يقيم لها وزنا.
وكذلك أشكال البناء وما يستجاد منها وما لا يستجاد، وأنواع الملابس وألوانها وما يستجمل منها وما يستهجن: كلها خاضعة للذوق العام في الأمة، ولكل أمة في هذه الشئون ذوقها؛ يميزها من غيرها ويضعها في درجة خاصة من سلم الرقي.
وهذا الذوق العام في كل أمة هو الذي يقوم الأدب ويتذوقه؛ وهو الذي يجعل لكل أمة أدبا خاصا؛ فالأدب المصري مثله مثل الطعوم المصرية، والغناء المصري، والبناء المصري، إنما يتذوقه المصريون بذوقهم العام، ولا يتذوقه الغربيون بذوقهم العام، كما لا يتذوقون طعومنا وغناءنا، فالنوادر المصرية التي تعجب المصري حتى تبعثه على أشد الضحك وأعمقه، قد لا تحمل الأجنبي على التبسم، والقصص و«الحواديت» المصرية التي تسترق لب المصري وتستهويه، قد لا يأبه لها الأوربي ولا يعيرها التفاتا إذا ترجمت له. نعم قد يعجب المصري بآيات من الآداب الغربية، ولكنه لا يتم له ذلك إلا بعد أن يحور ذوقه ويمرنه تمرينا طويلا على تذوق هذا الأدب، كما يمرن المصري ذوقه على استجادة الموسيقى الغربية، فيستجيدها بعد طول المران، ولكن هذا ليس من الذوق العام في شيء.
كما لا نستطيع أن ننكر أن هناك نوعا من الآداب عالميا، إذا ترجم إلى أي لغة استجيد، كنوع من القصص ونوع من الأمثال، ولكن سبب ذلك أن هناك قدرا مشتركا بين الأذواق، كما أن هناك قدرا مشتركا بين العقول، فاستجادة المصريين لبعض الأدب الغربي، أو الغربيين لبعض الأدب العربي، شأنها كشأن اشتراك الناس جميعا في استجادة بعض الطعوم أو بعض قطع الموسيقى، وهذا لا يغير فيما ادعينا شيئا من أن لكل أمة ذوقا عاما خاصا بها.
وهذا الذوق العام للأمة يستبد بالأفراد استبدادا لا حد له، فالناس جميعا خاضعون لأنواع شتى من الاستبداد، كاستبداد النظم السياسية، واستبداد العقول، واستبداد الرؤساء، ولكن هذه كلها محدودة الدائرة. أما استبداد الذوق العام فلا حد له، ولا سلطان يشبه سلطانه؛ ذلك أنه بجانب الذوق العام للأمة ذوق خاص بالفرد؛ فكل فرد له ذوقه الخاص يستجيد به بعض الأشياء ولا يستجيد بعضا، ويستحسن به ويستهجن، ويستجمل ويستقبح؛ ولكنه في كل ذلك مسلوب الحرية، خاضع خضوعا تاما للذوق العام. قد يشتد الحر فلا يطيق الإنسان نفسه، وقد يكون في نوع من الثياب ما يخفف وطأته ويكسر من حدته؛ ولكن لا بد أن يخضع للذوق العام، فيلبس الخناق أو رباط الرقبة وما إلى ذلك، خضوعا للذوق العام وخشية من استهجانه؛ فليس إنسان يلبس ما يحب ولا يأكل ما يحب على النمط الذي يحب، ولا يتكلم كما يحب على النمط الذي يحب؛ إنما هو في كل ذلك عبد أسير ذليل مقيد مغلول، في كل خطوة يخطوها، وفي كل نفس يتنفسه. لقد قيدتنا القوانين بأعمال يجب أن نعملها، وأعمال يجب أن نتجنبها، ولكنها ليست شيئا بجانب أوامر الذوق العام ونواهيه. وعقوبات الذوق العام سريعة فاتكة متنوعة، فهو يعاقب بالاحتقار والازدراء، ويعاقب بالنظر الشزر، والكلمة الجارحة القاسية، ويعاقب بالنقد والتجريح؛ وهو في كل ذلك لا يسمع دفاعا، ولا يقبل عذرا، ولا يؤجل عقوبة، ولا يقبل حكمة نقضا، ولا يعرف حكما مع وقف التنفيذ - لا شيء من ذلك كله، ولكن حكمه حكم صارم، قاس ظالم.
وكذلك الشأن في كل نوع من أنواع الفنون؛ فإذا اشتهر مغن وأعجب ذوق الجمهور فلا حق لك أن تعيبه وإذا عبته فعبه سرا، وحذار أن تجهر بذلك فيكون دليلا على فساد ذوقك وضعف حسك.
ومثل ذلك في الأدب - إذا قال الناس: إن سحبان وائل خطيب يضرب به المثل في البيان، فيقال: أفصح من سحبان، فقل مثلهم، وإن كنت لم تقف على شيء يثبت فصاحته ويبرهن على بلاغته، وإن فتشت عن كل أقواله فلم تجد إلا أسطرا ثلاثة قال فيها: (إن الدنيا دار بلاغ، والآخرة دار قرار) إلخ. ولم تستجد هذا فإنهم ذوقك وكرر قولهم: «أبلغ من سحبان».
وإذا قالوا: إن من أبلغ خطب العرب خطبة قس بن ساعدة: (أيها الناس، اسمعوا وعوا، وإذا وعيتم فانتفعوا) إلخ، فقل كما قالوا، وإن لم تتذوق.
وكذلك فاخضع دائما لحكمهم وذوقهم؛ فمن قالوا فيه: إنه إمام الأدب أو سيد الشعراء غير مدافع، أو قالوا: إنه شاعر متكلف، أو أديب متخلف، فإياك أن تحدثك نفسك بأن تقلب أوضاعهم أو تخالف إجماعهم.
هكذا استبداد الذوق العام، ولست تستطيع الخروج عليه وإعلان استقلال ذوقك عنه إلا بثورة عنيفة على الذوق، وتعرض لكل أنواع العقوبات الذوقية. •••
ثم إن كل ما ترى في الأمة من مظاهر القبح علته ضعف الذوق العام؛ فإذا رأيت الأمة تصدف عما في بلادها من أزهار، ولا يخفق قلبها لرؤية جمالها وجمال طبيعتها، ولا تتغزل في محاسنها، فاعلم أن سبب ذلك ضعف الذوق العام؛ وإذا رأيت الأمة لا تقدس النظافة، ولا تشمئز من القذارة اشمئزازها من أبغض شيء وأقبحه، فعلل ذلك بضعف الذوق العام؛ وإذا رأيتنا في المجتمعات لا نرعى نظاما، ولا ننصت لفن، ولا نتقيد بآداب اللياقة، فقل: إنه ضعف الذوق العام، وهكذا ...
ومن غريب الأمر أن هذا الذوق العام، الذي يستبد بي في مأكلي وملبسي ومسمعي - كما رأيت - لا يستبد في هذه الأشياء، ولا يبدي أي سلطان على هذا النوع من الضعف، فهو لا يحتقر المرء لا يقوم الزهر، ولا يزدري من يسيء في المجتمعات العامة؛ ولكن يزدريني إذا خرجت من غير طربوش أو رباط رقبة في يوم حار؛ وسبب ذلك أن الذوق العام لا يعاقب إلا على ما يتذوق، وفي دائرة ما يفهم؛ فهو إذا قوم مناظر الطبيعة عاقب من لم يتذوقها؛ وإذا أدرك جمال النظام وآداب المجتمعات عاقب من مسها بسوء، ولما يصل إلى هذه الدرجة. •••
وبعد، فشأن الذوق العام شأن الرأي العام: كلاهما قابل للإصلاح والرقي؛ فالرأي العام ضعيف وسخيف إذا صدر عن أمة جاهلة، ويرقى الرأي العام بانتشار الثقافة وتعميم التربية؛ ويدل تاريخ كل أمة على أنها في أول أمرها لا يكون لها رأي عام، ثم تمنح أفرادا قليلين أقوياء، زعماء مثقفين يوفقون في دعوتهم فيخلقون رأيا عاما، وإن هؤلاء القادة يجب أن يسبقوا بنوع من الثقافة العامة في الأمة حتى تستطيع أن تفهم قادتها وآراءهم، فيأتي هؤلاء القادة فيكونون إرادة عامة للأمة، ويؤلفون بين تجاهاتها ويكونون منها وحدة.
ومما نأسف له أن مجهودات كبيرة بذلت في ترقية الثقافة العقلية، وبرامج كثيرة وضعت في تعميم التربية العقلية وفي تكوين الرأي العام، ولكن لم توضع برامج لتربية الذوق العام، ولا بذل مجهود في ترقيته ورفع مستواه، فكان لنا زعماء سياسيون وزعماء عقليون، ولكن لم يكن لنا زعماء فنيون.
وفي ظني أن الذين يبحثون في ترقية الفنون عامة من موسيقى ونقش وتصوير وأدب مخطئون كل الخطأ؛ لأنهم يحاولون أن يصلحوا النتائج من غير أن يصلحوا المقدمات؛ فليس الفنان في الأمة إلا صدى لذوقها العام، فإذا صح الذوق صح الفن وإلا فلا. ليس الفن والأدب من جنس النباتات التي تنبت من تلقاء نفسها، ولا هو مما يظهر مصادفة واتفاقا؛ وإنما هو نتيجة لازمة لعوامل طبيعية سأحاول أن أبينها.
كيف يرقى الأدب؟
أشرت في مقالي السابق إلى العلاقة بين الذوق العام ورقي الأدب، وأعود الآن إلى هذه العلاقة، أزيدها بسطا وإيضاحا.
يذهب بعض المفكرين إلى أن الفنون - ومنها الأدب - ترتقي وتنحط، وتعلو وتسفل، وتتقدم وتتأخر، في الأمم اعتباطا من غير أن يكون لذلك أسباب، أو على الأقل أسباب ظاهرة؛ فالناظر لتاريخ الفنون في العالم يرى أن أمة في عصر من العصور قد ترقى في فن من الفنون كالموسيقى أو الحفر أو التصوير أو الشعر، على حين أن أمة أخرى ترقى في فن آخر من هذه الفنون، ثم بعد رقي عظيم تنحط الأمة في هذا الفن، ويحل محل الفن فن آخر، أو لا يحل محله شيء؛ وتتبادل الأمم ذلك من غير أن يكون لهذا التقدم وهذا التأخر علة مفهومة. وشأن الفنون شأن النابغين الفنانين، فقد ينبغ النابغ في أمة ولا نعرف لم نبغ وكيف نبغ؛ وتحاول الأمة أن تخلق نابغين فلا ينخلقوا - بل ترى الأمر عجبا؛ فقد يوجد النابغة والأمة على أسوأ ما يكون من ضعف في الخلق، وضعف في العقل؛ ثم ترقى الأمة عقلا وترقى خلقا وتتلفت فلا تجد نبوغا، وكان مقتضى هذا أن يكثر عدد النابغين فيها ويزدادوا نبوغا بازدياد الأمة رقيا؛ ولكن ينعكس الأمر حتى لتجد الأمة وأعضاؤها قوية ولا رأس، بينما كان لها في حال ضعفها رأس قوي ولا أعضاء - ما ذاك إلا؛ لأن النابغة يوهب ولا يخلق؛ وقد قال هؤلاء: إن الفنون في ذلك ليست كالعلوم، فالرقي في العلوم سبيله ميسور ممهد، وتستطيع الأمة أن تضع لها خطة تسير عليها لترقى في الطبيعة أو الكيمياء والرياضة، فإذا هي جدت في ذلك وصلت إلى درجة من الرقي تناسب جدها واستعدادها؛ ولكنها لا تستطيع أن تضع خطة تسير عليها للرقي في الشعر والموسيقى والتصوير؛ لأن ذلك نوع من الإلهام، والإلهام بيد الله، يمنحه من يشاء كيف شاء متى شاء. ولعل الكاتب يشعر بهذا تمام الشعور في نوع ما يكتب؛ فهو إذا أراد أن يكتب بحثا علميا، أو يحقق لفظا لغويا، أو يحرر حادثا تاريخيا، فهو في أكثر أوقاته مستعد لذلك، ما لم يكن مريضا أو مهموما؛ ولكنه إذا شاء أن يكتب قطعة فنية أدبية إنشائية لا يستطيع ذلك إلا ذاك إلا في حالة نفسية صافية، ومزاج يتناسب والقطعة الفنية التي ينشئها، من حزن أو سرور، وحلم أو غضب؛ ويصادفه وقت هو كما يسميه الصوفية - وقت تجل، يجيد فيه ويغزر، ويسمو فيه ويصفو. ويعجب كيف أجاد وكيف غزر؛ ثم هو يحاول بعد مرارا أن يخلق مثل هذا التجلي، فيفشل ثم يفشل؛ ويحار في تعليل ذلك، وتعليله ما قاله علماء الكلام: «ولم تكن نبوة مكتسبة» - هو في العلم مالك وقته يصرفه كما يشاء، وهو في الأدب ينتظر الإلهام.
وقالوا: إن رقي الأمة في الأدب لا يرتبط بدرجة ثقافتها، ولا برقيها العقلي، ولا بأي سبب من الأسباب؛ فالأمة المصرية - قديما - رقيت في فنون النحت والنقش والبناء رقيا بديعا جعلها من أساتذة العالم في هذا الباب، وخلفت على مر الأزمان ثروة لا تقوم؛ ولا تزال قبلة الفنانين إلى الآن تستخرج إعجابهم، وتلهم أذواقهم؛ والمصريون الآن ليسوا أساتذة في الفن، حتى ولا تلامذة، مع أن أحدا لا يستطيع أن يقول: إن المصريين القدماء كانوا أرقى منا عقلا وأعلى ثقافة؛ وكذلك يشكو كثير من الأوربيين من أن الفن - ما عدا الموسيقى - أخذ يتدهور من القرن السادس عشر، مع أن أنواع العلوم في رقي مستمر، وعقليات الأمم في تقدم دائم؛ ولو كان الأمر بالعلل والأسباب المنطقية لوجب أن يكون المصريون اليوم أعلى فنا وأكثر نبوغا، ولكان الفن الأوربي الآن أسمى وأتم منه في القرون الوسطى. فأما وقد عجز المنطق عن تقديم مقدمات ونتائج صحيحة فليس إلا الإلهام، وليس للأمة إلا أن تنتظر ما يأتي به القدر.
هكذا قالوا، أو حاولوا أن يقولوا، وبذا احتجوا، أو حاولوا أن يحتجوا؛ ولكن هل هذا صحيح؟ - إن في هذا الرأي غلوا مفرطا؛ فهو يخرج الأدب عن دائرة الإرادة، ويجعله مجرد انتظار للوحي والإلهام؛ ومن الحق أن للأدب خطة تنتهج كمنهج العلم، وأن من نعده للأدب يجب أن نثقفه ثقافة خاصة كالذي نعده للعلم؛ ولكن من الحق أيضا أننا لا نخلق الأديب ببرنامجنا، بل لا بد أن يكون قد هيأته الطبيعة ومنحته استعدادات خاصة، وكفايات ممتازة، وهيأته لقبول الإلهام؛ ولكنه في كل ذلك كالعالم، فبرنامج العلم لا يخلق نابغة في العلم إنما يعده، والعالم لا بد أن يكون مهيأ للإلهام كالأديب؛ وأكثر المخترعات والمستكشفات في العالم كانت نتيجة إلهام أكثر منها نتيجة لمقدمات منطقية وتجارب علمية؛ وإنما التجارب تهيئ للإلهام وتحقق ما يأتي به، وتبين صحيحه من فاسده، وتسمي هذه الإلهامات فروضا.
ويظهر أن اتجاه هؤلاء الباحثين هذا الاتجاه سببه عقيدة سادت بين رجال الفن عهدا طويلا، وهي «أن الذوق لا يعلل»؛ فالناظر ينظر إلى الصورة فيستجملها أو يستقبحها، فإن أنت سألته: لم استجملها أو لم استقبحها؟ لم يحر جوابا؛ وإذا أجاب أجاب بكلمات منمقة، ولكنها جوفاء، لا تحوي علة ولا توضح سببا؛ وإنما هي نفس الدعوى بألفاظ رشيقة جميلة؛ وإذا رأيت طاقة من الزهر قلت: ما أجملها، ولكن إن سألت: لم كانت جميلة؟ قلت: إنها منسقة، إنها بديعة الألوان، إن نفسي لترتاح إلى رؤيتها، إنها لتسر النظر، وتبهر العقل؛ وأنت غني بعد عن أن أقول لك: إن هذه ألفاظ وجمل قد ترضي البلاغة، ولكن لا ترضي المنطق؛ وقد تعرض صورة أو يظهر إنسان أمام جمع من النظارة؛ فهذا يستحسنه وذاك يستقبحه، وثالث لا يستحسنه ولا يستقبحه ، فإذا سألت من استحسن لم استحسن، ومن استهجن لم استهجن، ومن حايد لم حايد؟ كانت الإجابات مثارا للعجب، وموضعا للضحك. وقد ترى إنسانا وكل عضو من أعضائه على انفراد جميل، ولكنه ليس جميلا ككل، فما الذي كونه هذا التكوين؟ وما الذي وضعه هذا الوضع؟ ولم استحسنته مفرقا، ولم تستحسنه جملة؟ لا شيء في الحقيقة إلا الذوق الذي لا يعلل، وهذا هو الشأن في الأدب؛ وأظهر مثل لذلك ما فعله عبد القاهر الجرجاني في أسرار البلاغة ودلائل الإعجاز، فماذا صنع؟ إنه يأتي بالبيت الجميل ثم يقف ويتساءل: فيم كان جماله؟ فما هو إلا أن يصوغ لك جملا رشيقة، فيقول: إن هذا اللفظ يروقك ويؤنسك، وغيره يثقل عليك ويوحشك، وهذا الوضع يبهرك جماله، وهذا النظم يأخذ بلبك ما فيه من نسج وصياغة، ووشي وتحبير؛ ويعلل سبب ذلك أحيانا بالتقديم والتأخير، وأحيانا بالفصل والوصل - وكلها علل لا تصلح، فأنا كفيل بأن آتيك بتقديم يحسن، وتقديم مثله يقبح، وفصل يروعك، وفصل مثله يسوءك، وقد تحاول أن تفرق بينهم فلا تستطيع، ثم تسلم سلاحك وتكتفي بأن تقول: هذا جميل، وهذا قبيح، وهذا يحسن في ذوقي وهذا لا يحسن، وبذلك تكون قد قطعت شوطا بعيدا، ثم في آخر الأمر عدت إلى النقطة التي بدأت منها سيرك. وما علوم البلاغة كلها إلا محاولة لتعليل الذوق الأدبي، ولكن هل أفلحت في التعليل؟ إنا لنخشى أن تكون قد دارت حول نفسها، ولم تأت بشيء؛ «لأن الذوق لا يعلل».
وإذا كان الذوق لا يعلل فكل ما ترتب عليه لا يعلل، وإذا كان الفن وليد الذوق فالفن لا يعلل، لا يعلل كيف ظهر وكيف قوي وكيف ضعف.
هكذا أيضا قالوا أو يصح أن يقولوا - وهذه الآراء - وإن كان فيها شية من الحق - ليست حقا كلها، وليست حقا في أساسها؛ وقد بذل بعض العلماء المحدثين مجهودا حميدا في بيان ما فيها من حق وباطل، وحاولوا أن يفلسفوا الذوق، ويفلسفوا الجمال، ووضعوا للذوق والجمال علما، وعدوه فرعا من فروع الفلسفة، وحاربوا فيه الفكرة السائدة: «إن الذوق لا يعلل »، ووضعوا قواعد لتعليله نجحوا فيها أحيانا وفشلوا أحيانا، ولا يزال مجال البحث أمامهم فسيحا؛ وكان لهذا الاتجاه الجديد في علم الجمال أثر كبير في خلق نظريات في الأدب، ووضع أسس جديدة للبلاغة والنقد الأدبي مما ليس هذا موضعه.
والذي أميل إليه أن الفن نتيجة الذوق لا محالة، وأن الذوق يمكن تربيته وترقيته؛ فالطفل إذا لفت نظره إلى الأزهار وجملها تكون فيه الميل إلى حبها والاستمتاع بها؛ فإذا كان بعد أدبيا اتصلت حياته الأدبية بها، وظهر في نتاجه الفني هذا الحب وهذا التقدير.
والذوق العام للأمة في قوته وضعفه ورقيه وانحطاطه، ليس يظهر فجأة ولا هو نتيجة المصادفة البحتة، إنما هو نتيجة لكل ما يحيط بالأمة من ظروف وأحداث، هو نتيجة النظم السياسية، والحياة الاقتصادية والاجتماعية، والثقافة العقلية وغير ذلك. وإن شئت فقل: إن ذوق الأمة هو تعبيرها عما تقوم؛ فالأمة إذا قومت المناظر الطبيعية تذوقتها، وإذا قومت جمال الأزهار تذوقته، وإذا لم تقوم النظام في المجتمعات لم تتذوقه، ولم يجرح ذوقها تهويش على محاضر أو مغن أو ممثل - والفنان ليس إلا معبرا عن ذوق الأمة، والأديب ليس إلا الموقع للأصوات التي تستلذها الأمة.
ومن أهم أسباب ضعف الأدب العربي مسألتان تتصلان بهذه الحقيقة: الأولى أن الأدب العربي لا يتصل بالذوق العام للأمة اتصالا وثيقا؛ لأنه يصاغ بلغة غير لغة الشعوب، ولا يتصل إلا بذوق خاص وهو ذوق محترفي الأدب، ومن تكون ذوقهم تكونا «كلاسيكيا»؛ ولا أمل في نجاحه إلا أن نعمل بأي شكل كان على أن نصل الأدب أو أكثره بالذوق العام. والثانية تتصل بالأولى، وهي أن.الآداب في أكثر الأمم كانت أرستقراطية النزعة يوم كانت القوة في يد الأرستقراطيين؛ فلما انتشرت الديمقراطية تبعها الأدب، فأصبح ديمقراطي الموضوع، ديمقراطي النزعة. أما الأدب العربي فقد أصبح أرستقراطيا منذ العهد الأموي، وأصبح أهم أنواع الأدب إنما ينشأ حول قصور الأمراء والأغنياء، وفي الموضوعات التي تناسبهم من مديح لهم وهجاء لأعدائهم؛ فلما عمت النزعة الديمقراطية العالم لم تؤثر في الأدب العربي أثرها في غيره من الآداب، بل ظل محتفظا إلى حد ما بأرستقراطيته، وهذا قلل من غير شك اتصاله بالذوق العام للأمة.
على كل حال لا وسيلة لترقية الفن ومنه الأدب إلا بترقية الذوق، وربط الفن به، ولذلك وسائل:
من أهمها التأذين في الناس بصوت عالي يهزهم هزا عنيفا حتى يشعروا بأن أذواقهم مريضة، لا يشعرون بالجمال كما ينبغي، ولا يهيمون بالحسن كما يجب؛ ولست أعني جمال الوجوه وحدها ولكن جمال الأزهار، وجمال الطبيعة، وجمال الموسيقى، وجمال الحركة، وجمال النظام، وجمال النظافة، وجمال المعاني. ويجب ألا يقتصر دعاة الفن على الدعوة لجمال الكرنك وأنس الوجود والمساجد الأثرية؛ بل يجمعون إلى الدعوة لجمال الماضي جمال الحاضر - وهذا أكثر وضوحا في الأدب، فدعوة الأدباء دائما وقول الأدباء دائما إنما هو إلى الماضي وفي الماضي، وهذا حسن لدرجة ما، ولكن يجب أن يقرن به الدعوة القوية أيضا إلى النظر إلى أنفسنا والقول في أنفسنا.
يجب أن نغير تسعيرة الأشياء، ونضع تسعيرة جديدة لما يدور حولنا، ونضع أمام ناشئتنا قيما جديدة لما يقع عليه نظرهم؛ فإذا كانت بيوتنا تعني بكمية الأكل وتعطيها أكبر قيمة، وجب أن نرفع قيمة الكيفية فنضع قيمة كبرى للأزهار على المائدة ولجمال الترتيب والنظام ولجمال الحديث.
يجب أن نوجه إرادتنا في ترقية الذوق كما نوجه إرادتنا لترقية العلم ولترقية النظام السياسي، ونضع للذوق برامج كالتي نضع لبرامج التعليم.
إنا إن فعلنا ذلك تمخض المجتمع عن فنان ماهر، وأديب قادر.
بين اليأس والرجاء
صوتان لا بد أن يرتفعا في كل أمة ويجب أن يتوازنا حتى لا يطغى أحدهما على الآخر: صوت يبين عيوب الأمة في رفق وهوادة، ويستحث على التخلص منها والتحرر من قيودها، وصوت يظهر محاسنها ويشجع على الاحتفاظ بها والاستزادة منها. والصوتان معا إذا اعتدلا كونا موسيقى جميلة منسقة تحدو الأمة إلى السير إلى الأمام دائما؛ هي موسيقى الجيش تبعث الرجاء والأمل، وتمني بالنصر والظفر؛ فإن بغى أحد الصوتين على الآخر كانت موسيقى مضطربة تهوش النفس وتدعو إلى الفوضى والارتباك؛ وإذا كان «الدور» في الموسيقى يكون منسجما كله، ويشذ أحد أصواته لحظة فيكون «نشازا» يخدش السمع ويجرح النفس، فما ظنك «بدور» كله «نشاز»؟ •••
مما يدعو إلى الأسف أن صوتا في الشرق علا كل صوت، وهو ليس خير الأصوات وأحبها إلى النفس؛ هو صوت اليأس والتثبيط يتغنى به كل أصناف الدعاة؛ فخطيب المسجد تدور خطبته دائما على أن من يخطبهم ليسوا مؤمنين حقا، فقد ارتكبوا من الأوزار، واجترموا من الآثام ما أخرجهم عن الإيمان الحق، وأبعدهم عن الدين الصحيح، ولو آخذهم الله بأعمالهم لأمطرهم حجارة من السماء، أو خسف بهم الأرض؛ ثم يصب هذا المعنى كل أسبوع في قالب، وكل القوالب متشابهة متقاربة، ويخرج السامع دائما وقد ملأه اليأس، وانقطع به الرجاء، إلا أن يتداركه الله بعفو ليس جزاء على عمل.
ودعاة اللغة والأدب يلحون في أن اللغات الأجنبية خير من اللغة العربية، وأن الأدب الأجنبي أدب الثقافة والفن والعلم، ولا شيء من ذلك في الأدب العربي، وأن من شاء أن يفتح عينيه فليفتحهما على أدب أجنبي ولغة أجنبية، وإلا ظل أعمى؛ وموجز دعوتهم أن يتحول الشرق في لغته وأدبه إلى الغرب في لغته وأدبه، لا أن يختار من لغة الغرب وأدب الغرب ما تلقح به لغة العرب، وأدب العرب.
ودعاة الاجتماع أدهى وأمر، فليس في الشرق كله ما يسر، قد جرده الله من كل حسن، فلا طبيعته جميلة، ولا مناظره جذابة، ولا شيء فيه يأخذ باللب ويدعو إلى الإعجاب، والقمر في الغرب أنور منه في الشرق، والبحر الأبيض قد جمل منه ما لامس الغرب، وقبح ما لامس الشرق، وكل شيء في عادات الشرق وتقاليده تعافه النفس، وينفر منه الطبع؛ وعلى الجمله فالله تعالى الواهب ما شاء لمن شاء قد جمع الحسن كله في ناحية، وقال له: كن الغرب فكان، وجمع القبح كله في ناحية وقال له: كن الشرق فكان؛ وهم إذا لم يقولوا ذلك كله جهارا آمنوا به إيمانا، وصدرت عنه أفعالهم، واتجهت إليه حياتهم.
ودعاة العلم من هذا الطراز، فكتب العلم العربي إنما تصلح لدارس التاريخ أو طعمة للنار، وماذا فيها إلا تخريف وتحريف؟ قد كانت نتاج القرون الوسطى، ونحن نتاج العصر الحديث. ومجالسنا صدى لهذا الصوت، فإذا استثنيت عشر معاشرها فكلها نقد للأخلاق، وطعن في حياة الشرق، وتهجم على حال أمتهم، وتجهم لكل ما يصدر منهم، وقل أن تسمع صوتا ينطق بمدح أو يعجب ببطولة، أو يتغنى بعمل مجيد.
هذه نغمة مملولة كانت أجنى على الشرق من كل عيوبه؛ ولن تفلح أمة من غير ذخيرة تعتز بها، ومجد طارف وتليد تعتد به، ونعرة قومية تدعوها إلى الفخر والإعجاب. ولأمر ما قال تعالى:
كنتم خير أمة أخرجت للناس . وليس عبثا أن يكون في أناشيد الألمان «ألمانيا فوق الجميع»، وأن يعتقد بعض الأمم في أنفسهم أنهم شعب الله المختار، ونحو هذا مما ينعش الأمل، ويدعو إلى العمل.
تلك ظاهرة نفسية لا مجال لإنكارها؛ فاعتقد الغباوة في طفلك وكرر عليه اعتقادك تقتل كل ما فيه من ذكاء، وأعلن أنه ذكي وشجعه على ما يبدو منه من ضروب الذكاء تستخرج أقصى ما عنده من عقل. وفي المثل الإنجليزي: «دعوا الكلب عقورا فشنق» بعنوان أنهم اعتقدوا في كلب سوءا وسموه عقورا وظلوا يطلقون عليه هذا الاسم حتى صدر منه من أفعال السوء ما استوجب قتله. وفي أمثالنا العامية «قالوا للفلاح: يا حرامي شرشر منجله» ذلك أن الاتهام يحمل على ارتكاب الجريمة من ناحيتين: من ناحية الإيعاز، فمن اتهمته فقد أوعزت إليه واقترحت عليه العمل، وأظهرت له الجريمة ماثلة أمام عينه حينا بعد حين، ومن ناحية أن أكبر ما كان يمنعه من الشر خوفه أن يتهم بالشر، فإذا اتهمته فقد كان ما يخشاه، وأقدم على ما كان يتحاماه؛ هذا إلى ما يوحيه الاتهام الدائم من شعور باطني يسيره نحو العمل وفق الاتهام؛ وهذا هو السر في أن بعض القوانين تسن لمعاقبه بعض أنواع الإجرام فتكون سببا لكثرة الإجرام، ثم ترفع فيقل الإجرام فتكون سببا لكثرة الإجرام؛ لأن وجود القوانين كان موعزا بارتكابها. ولعل أنواعا من الآثام زادت بكثرة الكلام فيها من جهلة الوعاظ ممن لم يحسنوا دراسة النفوس وقوانينها.
إذا سقط الفتى فأريته أن سقطته قابلة للعلاج، وأخذت بيده لانتشاله، كفر عن سقطته وعاد إلى حاله؛ وإن أنت أريته أن سقطته لا تغتفر، وأنه لم يصبح إنسانا، استمر يسقط أبدا - وكثير من الساقطين والساقطات لو أحسوا في الناس استعدادا لقبولهم، وشعروا أنهم يفسحون لهم في صدورهم، لعدلوا عن سقطتهم، ونهضوا من عثرتهم. •••
وبعد، فليس الشرق بدعا من الخلق، إن اعتز أحد بماض فليس أمجد من ماضيه. وإن كان لكل أمة غريبة محاسن ومساو فللشرق محاسنه ومساويه، وإن كانت مساوي الغرب لم تمنعه من نهوضه فلم تمنع الشرق مساويه من نهوضه؟ ليس أعوق للشرق من هذا الصوت الكريه يصدر من دعاته فيبعث اليأس وينفث السم!
أيها الدعاة: كسروا قيثارتكم هذه التي لا توقع إلا نغمة واحدة بغيضة؛ واستبدلوا بها قيثارة ذات ألحان صنعها طب بأدواء النفوس عليم؛ وأكثروا من ألحان تبعث الأمل، وتدعو إلى العمل، وتزيد الحياة قوة؛ ولا تشهروا برذيلة إلا إذا أشدتم بفضيلة، ولا تسمعونا صوت المعاول إلا إذا أريتمونا حجر البناء.
سيبويه المصري
شخصية غريبة كانت في مصر في عهد الدولة الإخشيدية قبل بناء القاهرة، وكان يدوي اسمها في الفسطاط والقطائع وما بينهما قبيل مجيء الفاطميين؛ كانت شخصية ترهب وتحب، ويضحك منها، ويعتبر بها، إن شئت علما فعالم، أو شعرا فشاعر، أو أدبا فأديب، أو وعظا فواعظ، أو فكاهة ففكه، أو نقدا مقذعا فناقد، أو جنونا فمجنون.
ولد بمصر سنة 284ه، وعاش أربعا وسبعين سنة، وأتقن النحو حتى لقب بسيبويه.
ألطف ما فيه لوثة كانت بعقله؛ هي سر عظمته، فقد جرؤ على ما لم يجرؤ عليه أحد في عصره؛ كان معتزليا يقف في المسجد وفي الشارع فيصرح بآرائه في الاعتزال، ويصيح بأن القرآن مخلوق، فيقولون: مجنون، ويتركونه يقول ما يشاء، حيث لا يقول أحد شيئا من ذلك إلا همسا، أو من وراء حجاب؛ ويتعرض للناس بالقول اللاذع، سواء في ذلك كافور الإخشيد أو وزيره، أو العلماء أو التجار، فيتضاحكون منه ويتقون لسانه ببره والإهداء إليه سرا وجهرا.
كانت نوادره كثيرة، تتلقفها الألسنة، ويتناقلها الرواة، فتشيع في الناس، وتكون سلوتهم ومثار ضحكهم.
وقديما عرف المصريون بالفكاهة الحلوة والنادرة اللطيفة، كما عرفوا بالإعجاب بها والجد في طلبها والإمعان في الضحك منها.
من أجل هذا ألف ابن زولاق المصري كتابه اللطيف في نوادر سيبويه، لم يذكر فيه إلا قليلا عن علمه، ولم يذكر شيئا عن نحوه ولا عن جده، وإنما ملأه كله بفكاهته ولوثته.
عرف منذ شب بهذه اللوثة، تظهر في حركاته ورمش عينه، وزادت بترديه في بئر أمام بيته، يهيج أحيانا فيطرح ثيابه ويمشي عاريا في الطريق، على عورته خرقة، وعلى أكتافه خرقة، وبيده عصا ومصحف، ويروح إلى الجامع وهو على هذا الحال يعظ ويتزهد؛ وأحيانا تهدأ ثأرته فينادم الأمراء والوزراء، ويعجبون بلطفه وظرفه، وتقول زوجه: إنه إنما كان يهيج إذا لم يأكل اللحم والدسم، فإذا أكلهما هدأ.
قلت: إن لوثته سر عظمته، فإذا هاج أتى بالنوادر الطريفة والكلم السيار؛ ولذلك قالوا فيه: «إنه إذا لم يكن له من يهيجه لم يخرج علمه».
سب مرة خازن الإخشيد أو وزير ماليته، فأخذه وعذبه، ثم أطلقه وأجرى عليه الرزق؛ فكان الصبيان أحيانا إذا رأوه يتصايحون: «يا خازن اخرج عليه» فيهيج ما به وينطق بالقول اللطيف.
كان يقول القول على سجيته، لا يرهب أحدا ولا يخشى سلطانا، قد أدخل مرة مستشفى المجاذيب، ثم أخرجه كافور الإخشيد، فلما مثل بين يديه قال له سيبويه: «ما مثلك يصطنع بعشرين ألف دينار ولا بثلاثين ألفا إذا كنت عادلا، فأما إذا كنت جائرا فأسود بعشرة دنانير يقوم مقامك».
وكان أكثر قوله سجعا، ومن ثم كان أكثر دورانا على الألسنة وأسهل حفظا.
لقي المحتسب وبين يديه أجراسه فقال: «ما هذه الأجراس يا أنجاس، والله ما ثم حق أقمتموه، ولا سعر أصلحتموه، ولا جان أدبتموه، ولا ذو حسب وقرتموه، وما هي إلا أجراس تسمع، لباطل يوضع، وأقفاء تصفع، وبراطيل تقطع ، لا حفظ الله من جعلك محتسبا ، ولا رحم لك ولا له أما ولا أبا».
وكان مخشي اللسان، يهرب الوجهاء والأعيان إذا سمعوا صوته من بعيد، حتى لا يقذفهم بقذيفة من لذعاته تسير في الناس؛ وكان كافور يعجب كيف يسكت المصريون على سبه ويقول: «سبحان من سلط سيبويه عليكم ينتقم منكم وما تقدرون على الانتصار».
وما السبب في هذا إلا أنه كان يعمد إلى الرؤساء فيرميهم بكلماته القارصة، تصيب منهم مقتلا، ويسر الشعب من هذا؛ لأنه يعبر عما في نفوسهم، وينتقم من خصومهم، ويجرؤ بجنونه على ما لم يجرؤ عليه عقلاؤهم؛ وكان يستطيع بلسانه أن يصل إلى ما يتحرج من ذكره المتدينون. لقد كان يوما يؤاكل ابن المادراني الوزير وعنده هارون العباسي، فقدمت هريسة، فقال هارون: أكثر منها يا سيبويه فإنها تذهب بالوسواس من رأسك؛ فكف سيبويه عن الطعام وأخذ يفكر، فقالوا: فيم تفكر؟ قال: أفكر في امتناع إبليس عن السجود لآدم، والآن ظهر عذره - علم إبليس أن هذا في صلب آدم فلم يسجد له، ولو عرض على كلاب اليهود أن تسجد لنسبة هذا في ظهرها ما فعلت.
ونحو هذا من أنواع الهجاء القاسي.
وهو مع هذا أديب ظريف، له نظرات في الأدب جميلة. يقول: إن أفضل الكلام ما اعتدلت مبانيه، وعذبت معانيه، واستسلس على ألسنة ناطقيه، ولم يستأذن على آذان سامعيه.
وقد هجا بعض الناس شيخا من شيوخه فقال سيبويه:
ما يضر البحر أمسى زاخرا
أن رمى فيه صبي بحجر
وسمع بيت المتنبي:
ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى
عدوا له ما من صداقته بد
فقال: هذا كلام فاسد؛ لأن الصداقة ضد العداوة، ولو قال:
ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى
عدوا له ما من مداراته بد
لكان أحسن وأجود.
وبلغ المتنبي هذا النقد فذهب إلى سيبويه وسمعه منه فتبسم وانصرف؛ فصاح سيبويه: «انبكم!»
ومع هذا فلما سمع قول المتنبي:
ما كنت آمل قبل نعشك أن أرى
رضوى على أيدي الأنام تسير. إلخ
صاح سيبويه: لبيك لبيك أنا عبد هذه الأبيات.
مما يدل على ذوق حسن ونقد صحيح وتقدير للأدب.
ولقد كان عالي النفس، دقيق الحس، يرى الناس كلهم دونه، فلا يذل لعظيم، ولا يهين لكبير. طلبه أبو جور بن الإخشيد أمير مصر لينادمه، فقال: على شرط أن أنزل حيث تنزل، وأركب حيث تركب، وأجلس متكئا. فأجابه إلى شرطه.
وكان سيبويه يحدث عظيما فجاء خادم يسر حديثا إلى هذا الجليس فسمع له وقطع الاستماع لسيبويه. فقام سيبويه مغضبا، فسأله: إلى أين؟ قال: لا تجالسن من لا يرى مجالستك رفعة، ولا تحدثن من لا يرى حديثك متعة، ولا تسألن من لا تأمن منعه، ولا تأمرن من لا تأمن طوعه.
ولما ماتت أم سيبويه حضر في جنازتها كل كبير في مصر إلا ابن المادراني الوزير، وعاد والناس حوله، فأخذ سيبويه يطلق لسانه في هجاء ابن المادراني، وما نجاه من لسانه إلا أن لقيه في الطريق يأتي مسرعا ليدرك الجنازة.
وعلى الجملة كان سيبويه طرفة مصر في عصره علما وأدبا وفكاهة وجنونا - كان يقوم فيهم مقام العالم والواعظ والأديب، ومقام الجريدة السيارة الناقدة اللاذعة، وكان منظره بديعا، يدور في الأسواق على حماره أو حمار غيره، وما أكثر من كان يتقي لسانه بتقديم حماره!
فبحق قال «جوهر الصقلي» لما دخل مصر وذكرت له أخباره: «لو أدركته لأهديته إلى مولانا المعز في جملة الهدية».
وبحق لما سمع به «فاتك» ممدوح المتنبي قال: «ذكروني به لعلي أستدعيه فإنه نزهة».
القلب
رمتني آنسة «بأن لا قلب لي، وإن كان فليس يخفق»؛ لأني كتبت موضوعا في مجلة الرسالة عنوانه «أدب القوة وأدب الضعف» سميت فيه الأدب الذي يضعف النفس ويمرض العاطفة أدبا ضعيفا مائعا.
لك الله يا آنسة! أفتدرين أن أشنع سبة يسب بها الإنسان: أنه لا قلب له؟ وهل المرء إلا قلبه؟
ليس الإنسان جسما بعضه القلب، لكنه قلب غلافه الجسم.
لقد قالوا: «إن المرء بأصغريه قلبه ولسانه»، ولكنهم - بقولهم - قد رفعوا شأن اللسان إذ قرنوه بالقلب، ووضعوا من قيمة القلب إذ قرنوه باللسان. وهل اللسان إلا حاك بكئ لأحط حركات القلب وانفعالاته؟ وكيف يعبر المحدث عن القديم؟ أم كيف يحيط المحدود باللامحدود؟ وأين يقع معجم اللغة من معجم العالم.
إن القلب يقرأ ما رسمه الله على السماء والأرض من أشعار، ولا يسمح منها للسان إلا بالقليل التافه، وما الشعر الملفوظ بجانب الشعر المحسوس؟
القلب لا يكذب أبدا واللسان لا يصدق إلا قليلا.
لعلك يا آنسة إن فتشت عن أعجب ما خلق الله في السماء وفي الأرض لم تجدي أعجب ولا أروع ولا أدق ولا أجمل من قلب الإنسان - تصلح أوتاره فيفيض رحمة وشفقة وحبا وحنانا، ومعاني لطافا وشعورا رقيقا، حتى يتجاوز في سموه الملائكة المقربين؛ وتفسد أوتاره فينضج قسوة وسوءا حتى يهوي إلى أسفل سافلين.
حوى على دقته كنه العالم، فما أدقه وأجله! وما أصغره وأعظمه!
يكبر - ولا نرى كبره - فيتضاءل أمامه كل كبير، ويصغر - ولا نرى صغره، فيتعاظم عليه كل صغير.
اتحد شكل القلب واختلفت معانيه؛ فقلب كالجوهر الكريم صفا لونه، وراق ماؤه، يتلقى الإشعاع ويعكسه وهو على أشد ما يكون ضوءا ولمعانا، وقلب كالصخر قوي متين، ينفع ولا يلمع، وقلب هواء، خف وزنه، وحال لونه، وقلب ... وقلب ... مما لا يحصيها إلا خالقها. إن اتحدت عيون الناس وآذانهم ووجوههم ورءوسهم نوعا من الاتحاد فإن لكل إنسان قلبا وحده، ينبض بنوع من حب وكره، وقسوة وحنان، وإعظام واحتقار، ورفعة وانحطاط لا يشركه فيه قلب آخر؛ وبهذا - وبهذا وحده - اختلفت قيم الناس وتعددت مراتبهم.
يموت القلب ثم يحيا، ويحيا ثم يموت. ويرتفع إلى الأوج، ويهبط إلى الحضيض؛ وبينما هو يساوي النجوم رفعة، إذا به قد لامس القاع ضعة، وهكذا يتذبذب في لحظة بين السماء والأرض والطول والعرض؛ وخير الناس من احتفظ برفعة قلبه، وسمو نفسه.
هو إن شئت فردوس، وإن شئت جحيم. هو إن شئت ملك، وإن شئت شيطان، هو إن شئت نار تتقد بالحب:
هل الوجد إلا أن قلبي لو دنا
من الجمر قيد الرمح لاحترق الجمر
وإن شئت سلا فكان بردا وسلاما:
وقلت لقلبي حين لج به الهوى
وكلفني ما لا أطيق من الحب
ألا أيها القلب الذي قاده الهوى
أفق لا أقر الله عينك من قلب
القلب مركز العاطفة، والرأس مركز العقل، وما العقل لولا العاطفة؟ إن العقل أكثر ما ينفع للهدم، والقلب أكثر ما ينفع للبناء؛ إن القلب يؤمن والعقل يلحد، والقلب يحب، والعقل يحذر.
القلب يؤسس العالم، والعقل يسكنه، والقلب يخلق الشيء، والعقل يغضبه سلي التاريخ: أليس أعظم بناة العالم قد امتازوا بكبر القلب، وصدق الشعور، وقوة الإرادة، أكثر مما امتازوا بسعة العقل وقوة الإدراك؟
القلب بنى البناء والعقل نقده، والقلب أحيا الشعور والعقل حده.
هل تعلمين - يا آنسة - أن من وجد كل شيء وفقد قلبه لم يجد شيئا، وأن من جرد من قلبه لا يعرف صداقة ولا يدين بوطنية ولا يشعر بحنان، ولا ينطوي على إيمان؟
أو تعلمين أن من سلب القلب فقد سلب الفن والأدب؛ لأن الفن مناطه القلب، والعلم مناطه العقل؟ وقد سئل مصور ماهر: كيف تمزج ألوانك؟ فقال: أمزجها بدم قلبي؛ وكذلك الأدب الحق، هو ما كان ذوب القلب.
يا آنسة: لقد رميت فأصميت، ولشد ما خفق قلبي لسبتك، كأنه يريد أن يثبت وجوده.
الجامعة كما أتصورها
للجامعة - كما أتصورها - وظيفتان: وظيفة علمية ووظيفة خلقية، وكلتا الوظيفتين متصلة بالأخرى أتم اتصال؛ فالضعف العلمي يتبعه ضعف خلقي والعكس، كما أن القوة العلمية تتبعها قوة خلقية والعكس.
فمن الناحية العلمية أرى أن وظيفتها تخالف الوظيفة العلمية للمدارس الابتدائية والثانوية؛ ففيهما توجه العناية إلى وسائل التعليم أولا، وكمية من العلم أثبت العلم صحتها ثانيا. أما في الجامعة فوسائل التعليم فيها ثانوية، وإنما القصد الأول إلى البحث العلمي ووضع القضايا العلمية والأدبية موضع البحث والنظر؛ من أجل هذا لا يمكنك أن تتصور مدرسة ابتدائية أو ثانوية من غير طلبة؛ لأنه لا يمكن تعليم من غير متعلم؛ ولكن يمكنني أن أتصور دراسة في كلية أو جامعة من غير طلبة، وذلك بعكوف طائفة من العلماء ومساعديهم يبحثون وينقبون - بل ولو كان هناك طلبة فالجزء الأهم من الجامعة لا يقضى بين الفصول، ولكنه يقضى في مكاتب الأساتذة والمكاتب العامة والمعامل.
وقديما قالوا: «العلم لا يعطيك بعضه إلا إذا أعطيته كلك» وهذا أكثر انطباقا على العلم الجامعي والبحث الجامعي.
فأستاذية الجامعة - كما أتصورها - نوع من الرهبنة؛ فكما ينقطع الراهب للعبادة في دير ينقطع الأستاذ للعلم وخدمته، أو بعبارة أخرى إن الراهب يعبد الله عن طريق الصوم والصلاة، وهذا يعبده عن طريق العلم أيضا.
فإذا شغل الراهب بالمال وطرق تحصيله وحب الشهرة والرياسة والجاه فهو راهب فسد، كذلك العالم إذا شغلته العلاوات والدرجات وحب الشهرة والجاه فهو عالم فسد؛ إنما يجب على الأمة والحكومة أن توفرا له وسائل راحته الضرورية التي تتناسب مع تفرغه للعلم وتضحيته للذائذ الحياة من أجل العلم، فإن هو بعد ذلك ضل عن منهجه العلمي فاللوم عليه.
هذا العالم - في هذا الوضع - قد وطن نفسه على خدمة العلم، وخدمة الأمة من طريق العلم، وخدمة الإنسانية من طريق العلم، لا غرض له في حياة إلا ذلك؛ العلم مثله الأعلى والعلم لذاته العظمى، والعلم يشغل أهم جزء في مخه، في أكله وشربه وراحته ورياضته وأحيانا في نومه؛ هو يحب الحقيقة كما أحب المجنون ليلى؛ يرى أنه لا يخفف آلام الإنسانية إلا الإخلاص في الفكر، والإخلاص للعلم، ومواجهة الحقائق كما تبدو له، كائنة ما كانت ولو خالف الناس جميعا.
من أجل هذا كله تتطلب حياته الاستقلال التام، بل إن الاستقلال له ألزم من الاستقلال السياسي؛ لأن العلم لا يمكن أن ينهض إلا إذا كان حرا؛ والعالم لا يعد عالما إلا إذا عشق الحق، سواء كان ما اعتقده حقيقة يرضي الحكومة أو لا يرضيها، يرضي السياسة أو لا يرضيها، يرضي الآراء الشائعة أو لا يرضيها. إن كانت السياسة تعترف بأن من وسائلها المشروعة تقريب وجهات النظر فالعلم لا يعرف ذلك، إنما يعرف أن هذا أسود أو أبيض ولا شيء غير ذلك. أما أن يكون أغبش فلا - لا يبيع رأيه بمال ولا بجاه ولا بمنصب، بل ولا بالدنيا كلها بل ولا بحياته ، فكثير ضحوا حياتهم لنظريتهم العلمية.
هذا ما أتصوره في الأستاذ الجامعي، فإن انحرف عن هذا النهج لم يكن أستاذا بحتا، بل كان أستاذا وتاجرا، وكل ما في الأمر أنه تاجر بعلمه والآخر تاجر بسلعته؛ بل هو شر من التاجر البحت؛ لأنه اتخذ من العلم سلعة فقلب الوضع وتاجر في غير متجر.
مثل هذا الأستاذ عزيز، وإذا ظفرنا بواحد من هذا الصنف في كل بيئة جامعية ضمنا نجاحها؛ لأنه إذ ذاك يصبح منارا يهتدي به المدرسون والطلبة في الظلمات؛ هو مثل حي للتضحية، ومثل حي في سمو الخلق، ومثل حي لغلبة المعنويات على الماديات، هو خير على العلم والخلق جميعا.
هناك عامل آخر في البناء الخلقي الجامعي يعين الأستاذ على تحقيق مثله، هو الجامعة ككل، ممثلة في مجالس كلياتها ومجالس جامعتها ومديرها وإدارتها.
وهي أن تكون متمشية مع الأستاذ في استقلاله، تصل الواجب بقطع النظر عن كل اعتبار آخر، لا تخدم إلا شيئين: العلم والخلق، ليست تخدم حزبا سياسيا، ولا تخدم رغبة وزير؛ إنما تخدم العلم كعلم عالي لا وطن له، وتخدم الخلق كخلق إنساني؛ فإن كان ولا بد من حصر هذه الدائرة الخلقية فإنها تخدم أمتها ككل، تتخذ لنفسها مركز النجم في السماء يسترشد به الساري، سواء أكان مؤمنا أو كافرا، وسواء أكان لونه السياسي أبيض أم أسود، تعتقد أنها الجامعة المصرية لا الجامعة السياسية الحزبية؛ فإذا هي موضع التقديس من كل حزب، وموضع الإكبار من كل هيئة؛ ومتى اتخذت هذا الوضع كانت كل العواصف السياسية والحزبية تهب بعيدا عنها ولا تلمسها؛ تهب حولها لا عليها؛ فإن أريد منها أن تتنحى قيد شعرة عن هذا النهج قال كل من فيها: «لا» بملء فيه، حرة في معالجة مسائلها، حرة في وضع برامجها، حرة في تصريف مالها في حدود ميزانيتها، حرة في معالجة مشكلاتها كما يتراءى لها؛ قد تخطئ في ذلك ولكنها تتعلم من الخطأ كما تتعلم من الصواب، وتسترشد بضلالها كما تسترشد بهدايتها، وهي بهذا تنمو من الداخل لا تنمو من الخارج، تكون كالإنسان يكبر ويترعرع من الأكل الصحي والهواء الصحي، لا كإنسان يضخم بكثرة الملابس عليه.
إن الجامعة إن فعلت ذلك كانت مثلا للطلبة يحتذى في تصرفاتهم. إنهم يخجلون أن يتحزبوا إذا كان كل الجو الجامعي حولهم لا يتحزب. إنهم يعودون إلى آبائهم الروحيين إذا لعبت بهم الأهواء. إنهم يسمعون نبضات قلوب أساتذتهم كما يسمعون دقات ساعاتهم، يضبطون بأعمال أساتذتهم أخلاقهم كما يضبطون على ساعة الجامعة ساعاتهم. أما إن عكس الوضع وسير الخارج الأساتذة وسير الطلبة الأساتذة والخارج، كان ذلك هرما مقلوبا أو كان رجلا يمشي على رأسه، أو كان ضبطا لساعة المرصد على ساعة رجل الشارع، وفي ذلك إنذار بالخيبة.
بجانب أستاذ الجامعة وهيئة الأساتذة والإدارة عامل آخر كبير سو عوامل الخلق الجامعي، هو تكوين رأي عام بين الطلبة يشعر بالواجب ... المسئولية؛ وأعتقد أن تسعين في المائة من زلات الطلبة ترجع إلى فقدان هذا العامل الهام؛ فلو أن هناك رأيا عاما يحتقر الطالب إذا كلم فاه كلمة نابية أو نظر إليها نظرة شاذة فهل يجرؤ الطالب على ارتكاب هذا الخطأ؟ وإذا كان الرأي العام بين الطلبة يحتقر الكاذب ويحتقر المستهتر ويحتقر الهازل فما أعظم الإصلاح الذي يرجى من وراء ذلك!
إن معظم الزلات الخلقية من الطلبة لا تقع تحت سلطان القانون، فليس القانون يؤاخذ على كذبة ولا نظرة نابية ولا كلمة جارحة ولا ضحكة مستهترة ولا نحو ذلك من الشرور؛ إنما يترك ذلك كله للرأي الجامعي يعقب عليه بالازدراء والاحتقار والمقت؛ فما لم يوجد رأي عام من هذا القبيل واكتفى بالقانون فلا أمل في النجاح.
لا بد من الإكثار من اجتماع الطلبة بمناسبات مختلفة يتعرضون فيها للخطأ، ويهيأ الرأي العام فيها للنقد على هذا الخطأ، حتى يتبلور الرأي العام ويأخذ سبيله في سلطانه على النفوس - يجب أن يعودوا أن يحكموا أنفسهم بتكوين قضاة منهم يحكمون على زلاتهم وينفذون قضاءهم بأيديهم وألسنتهم؛ بهذا يسود في الطلبة الشعور بالشرف والندم على الهفوة - يجب أن تكون للجامعة تقاليد قد أسست على قانون الشرف، يخشى كل طالب من كسرها كما يخشى من ارتكاب السرقة أو الخيانة.
حكى لي أستاذي المرحوم عاطف بركات باشا، أنه لما سافر في بعثة إلى جامعة من جامعات إنجلترا، وكان حديث عهد بها، دخن في حجرة كان التدخين فيها محرما، فمر بعض رجال الجامعة في هذه الحجرة وشم رائحة الدخان، فسأل: من المدخن؟ فلم يجب أحد ولا عاطف بركات، فتركهم الأستاذ وانصرف. قال عاطف باشا: فأحسست أن كل من حولي من الطلبة ينظرون إلي نظرة فيها شيء كثير من الاحتقار. فمن ذلك اليوم عظم شأن الصدق في نفسي واستفظعت غلطتي ولم أعد بعد إلى مثلها.
ومما يتصل بهذا بث الروح بين الطلبة بشدة ارتباطهم بكليتهم؛ فيفخرون بأستاذهم الشهير بعلمه ومؤلفاته، ويفخرون بالنابغة فيها من أساتذتهم وطلبتهم، وبانتصار كليتهم في الألعاب وفي جميع أفعال البطولة وفي ميادين الأعمال الشريفة؛ ويستهجنون أعمال النذالة والسلوك الوضيع، وعلى الجملة يشعر كل طالب بأنه جزء من كل، يعتز بعزة الكل ويهون بهوانه. •••
أستاذ صالح يقوم مقام المنارة في الكلية، وهيئة صالحة من الأساتذة والإدارة، ورأي عام من الطلبة له سلطان على نفوسهم، هي أهم ما أرى من عوامل الإصلاح للخلق الجامعي والعلم الجامعي.
سلطة الآباء
رحم الله زمانا كان الأب فيه الآمر الناهي، والحاكم المطلق، والملك غير المتوج؛ ينادي فيتسابق من في البيت إلى ندائه، ويشير فإشارته أمر، وطاعته غنم؛ تحدثه الزوجة في خفر وحياء، ويحدثه الابن في إكبار وإجلال؛ من سوء الأدب أن يرفع إليه بصره، أو يرد عليه قوله، أو يراجعه في رأي، أو يجادله في أمر. أما البنت فإذا حدثها لف الحياء رأسها، وغض الخجل طرفها؛ قليلة الكلام، متحفظة الضحك، خافضة الصوت، تتوهم أنها أخطأت في التافه من الأمر فيندى جبينها، ويصبغ الخجل وجهها؛ وإذا جاء حديث الزوج والزواج فإلى أمها الحديث لا إلى أبيها، وبالتلويح والتلميح لا بالتصريح، والأمر إلى الأب فيما يقبل وفيما يرفض، وفيما يفعل وما لا يفعل.
في جملة الأمر أن البيت ينقسم إلى قسمين: حاكم وهو الأب، ومحكوم وهو سائر الأسرة؛ منه الأمر ومنهم الطاعة، له السيادة وعليهم الخضوع، يرسم الخط وهم ينفذونها، يجلب الرزق ويتولى الإنفاق وهم يسيرون على ما رسم، وويل لمن عارض أو تبرم! فإن أحس الابن حاجة ملحة إلى مال، أو شعر بضرورة ملجئه إلى أكثر مما أخذ، لم يجرؤ أن يجابه بالطلب، إنما يحاور ويداور ويلمح ويرمز؛ فإن أعياه الأمر وسط الأم لعلها تستطيع أن تعبر تعبيرا أوضح وأصرح، وقل أن تنجح.
وبجانب سلطة الأب الدنيوية كانت سلطته الدينية. فهو يوقظهم قبل الشمس ليصلوا الصبح أداء لا قضاء، ويسألهم في أكثر الأوقات عن صلاتهم كيف صلوا، وعن وضوئهم كيف توضأوا، يعلم الجاهل ويؤم المتعلم، ويجمعهم حوله من آن لآن يصلي بهم، ويذكرهم ويعظهم، ويقص عليهم قصص الأنبياء، وحكايات الأولياء والصالحين. وإن أنس لا أنس جمال المواسم الدينية - كيوم نصف شعبان، إذ تشعر في البيت من الصباح بحركة غير عادية: هذه ترتب البيت، وهذه تعد الأكل الحافل، ويتهيأ الجميع قبل الغروب استعدادا لصلاة المغرب، قد لبس النساء البياض؛ وتقنعن بالشاش الأبيض، وإذا رب البيت يؤم جميع من في البيت، ثم يخرج دعاء نصف شعبان من جيبه ويتلوه عليهم، يقول جملة فيرددونها، ويبتهل معهم إلى الله أن يسعده ويسعدهم، ويصلحه ويصلحهم، ويبارك له في ماله وفي نفسه وفي ذريته، ثم يأخذون حظهم لبطونهم، كما أخذوا حظهم لأرواحهم، وشملتهم السعادة، وعمهم البشر والهناءة. •••
لقد ودعنا ذاك الزمان بخيره وشره، وحلوه ومره، واستقبلنا زمانا سار فيه الأبناء آباء، والمرءوس رئيسا والرئيس مرءوسا.
قالت الخطيبة لخطيبها: الناس أحرار، وأنا إنسانة وأنت إنسان، فإن اعتززت بالكسب اعتززت بالإنفاق، وإن اعتززت بالرجولة اعتززت بالأنوثة، وإن اعتززت بأي شيء فأنا أعتز بمثله وبخير منه؛ فأنا وأنت شريكان لا سيد وأمة، ولا مالك ومملوك، لي كل الحقوق التي لك، وقد يكون علي بعض الواجبات التي عليك؛ فإن سفرت سفرت، وإن غشيت دور الملاهي غشيتها؛ عليك أن تحصل المال وعلي الإنفاق، ولك السلطان التام في اختيار طرق التحصيل، ولي الخيار التام في وجوه التبديد. أنت للبيت والبيت لي؛ وإن كان لك أم شبعت سلطة في الماضي أيام كانت زوجة، فلا حق لها أن تنعم بسلطانها وسلطان غيرها، فليس لها الحق إلا أن تأكل، كما ليس لك الحق في حبها؛ فالحب كله للزوجة، إنما لك أن ترحمها. والدين لا شأن لك فيه بتاتا، فهو علاقة بين العبد وربه؛ وكل إنسان حر أن يحدد هذه العلاقة كما يوحي إليه قلبه؛ فإن شئت أن تتدين فتدين، على شرط ألا تقلب نظام البيت، وتقلق راحتي وراحة الخدم.
ورأى الرجل أن الأحكام قاسية، والشروط فادحة، وهام يبحث بين الممدنات عمن يرضى به زوجا على الشروط القديمة فأعياه البحث.
وأخيرا نزل على حكم القضاء، وأسلم نفسه لسلطان الزمان، وقدم الطاعة للزوجة، بعد أن كانت هي تقدم الطاعة له، ولا يزال في دار الآثار في المحاكم الشرعية قضايا اسمها قضايا الطاعة، يحكم فيها للأزواج على الزوجات، حفظ شكلها وبطل روحها؛ ولو كانت المحاكم محاكم عصرية لحكمت بالطاعة على الزوج لزوجته وحكمت بالنفقة على الزوجة لزوجها.
وتم الزواج، وفرحت الزوجة بالظفر فغالت في الطلب، وابتدعت كل يوم مطلبا جديدا، وأرادت أن تنتقم لأمهاتها من آبائه في شخصه، فطالما أطعن وطالما خضعن، فليطع دائما وليخضع دائما، جزاء وفاقا على ما جنى آباؤه وأجداده.
قالت: إن رقصت رقصت، فذلك حقك وحقي. قال: نعم. قالت: بل إن لم ترقص رقصت؛ لأنك إن أضعت حقك لم أضع حقي، وإن خاللت خاللت فالجزاء من جنس العمل، بل إن لم تخالل ربما خاللت؛ لأن حياة الزوجية البحتة قد يعتريها الركود والسأم والملل؛ فصرخ ولف الغضب وجهه، وحاول أن ينكل بها فتراجعت، وسجلت مطلبها الأخير، ورأت المحكمة أن تتريث بعض الشيء حتى يبلع ريقه من أثر الصدمة الأولى، ويستعد للصدمة الثانية، فإن لم يسعفها الزمان أوصت بناتها بشروطها الجديدة.
قالت: وسيكون أول ما أوصي به ابنتي أن تتخذ قياس خطيبها، ثم يكون من أول جهازها أن تفضل له بردعة ولجاما على قدره، فتضع البردعة عليه وتركبه إذا شاءت، وتشكمه باللجام إذا حاول أن يتحرك يمينا أو شمالا على غير رغبتها. •••
وشاء الله أن يرزقا بنين وبنات.
وقد رأوا أن الأم لا تجل الأب فلم يجلوه، ولم تعره كبير التفات فلم يعيروه، ورأوها تبذر في مال الأب فبذروا، ورأوها حرة التصرف فتحرروا، ورأوها تخرج من البيت من غير إذن الأب فخرجوا خروجها، وتعود متى شاءت ففعلوا فعلها، ورأوها لا تتدين فلم يتدينوا، ورأوها تطالب الأب ألا يفتح رسائلها فطالبوا، ورأوها تتكلم في المسائل الدقيقة أمام أبنائها وبناتها في صراحة فتفتحت شهواتهم، وتحركت رغباتهم، وجمحت تخيلاتهم.
وقال الأبناء لأبيهم: إنا مخلوقون لزمان غير زمانك فاخضع لحكم الزمان، وقد نشأنا في زمن حرية في الآراء، وحرية في الأعمال، وحرية في التصرف، لا كما نشأت في جو من الطاعة والقيد والأسر والتقاليد، فمحال أن يسع ثوبك الضيق أبداننا، وتقاليدك العتيقة البالية نفوسنا، فإن حاولت ذلك فإنما تحاول إدخال الثورة في قارورة، أو لف القصر الكبير بمنديل صغير! قال: نعم. قالوا: وأنت الذي سمح لنا بادئ ذي بدء أن نغشى دور السينما والتمثيل، وأن نسمع الأغاني البلدية، ونشاهد المراقص الأوربية، فإذا أقررت المقدمة فلا تهرب من النتيجة، وأنت الذي عودنا ألا نضع للبيت «ميزانية» فأنت تعطي «ماهيتك» لأمنا تنفق من غير حساب، فإن انتهت في نصف الشهر طلبت منك أن تقترض فاقترضت، وأن تشتري ما لا حاجة لنا به فاشتريت، وأن تقدم الكمالي على الضروري فأطعت؛ فليس لك أن تطالبنا بالاقتصاد في الجدول الصغير، والنهر الكبير ليس له ضابط. وخرق أن تحاول أن تضع ميزانية دقيقة لمصلحة، وميزانية الدولة مبعثرة! قال: نعم. قالوا: وقد أضعت سيادتك على أمنا فلم تفرض سيادتك علينا؟ ورضيت بالخضوع لها فلم تأباه علينا، وهي أم الحاضر وأنت أبو الماضي ونحن رجال المستقبل؟ قال: نعم. قالوا: وأنت نشأت في زمن خضوع تام: خضعت لأبيك في المهد صبيا، وخضعت للفقيه في المكتب وللمدرس في المدرسة، فإذا قلت برأسك هكذا، قال الأستاذ بعصاه هكذا، فنكست رأسك، وغضضت بصرك، وأسعفتك عينك بالبكاء، ولم يسعفك لسانك بالقول؛ فلما صرت «موظفا» وقفت من رئيسك موقفك من أبيك وأستاذك، تنفذ دائما وتطيع دائما؛ ولم يجر على ذهنك يوما تفكير في استقلال، ولا على لسانك نداء بحرية. أما نحن فحريتنا في بيتنا حررتنا على أساتذتنا، ونادينا بالحرية القومية فتبعتمونا في شيء من الرياء، تظهرون الطاعة لرؤسائكم، وتبطنون الرضا عن حركاتنا، وتريدون أن تجمعوا بين الحرص على ماهيتكم والحرص على وطنيتكم المكبوته. قال: نعم. قالوا: فلما قدناك وقدنا رجالنا في السياسة فلنقدكم جميعا في كل شيء. في البيت وفي المال وفي العلم وفي رسم الخطط، ولنقلب الوضع فنكون قادة وتكونوا جنودا، وإلا لم نرض عنكم جنودا ولا قادة.
وقالت البنات لأبيهن: يا أبانا الذي ليس في السماء! رقصت أمنا فرقصنا، وشربت أمنا فشربنا، وشربت سرا فلتسمح لنا بحكم تقدم الزمان أن نشرب جهرا، ورأينا في روايات السينما والتمثيل حبا فأحببنا، ورأينا عريا على الشواطئ فتعرينا، وتزوجت أمنا بإذن أبيها فلنتزوج نحن بإذننا. قال: نعم. قلن: وقد أوصتنا أمنا أن نركب الزوج، ولكننا أمام مشكلة يشغلنا حلها. فإنا نرى شبان اليوم متمردين لا يخضعون خضوعك ولا يستسلمون استسلامك، فإرادتهم قوية كإرادتنا، وهم يحبون السلطة حبنا؛ فهم أحرار ونحن حرائر، وهم مستبدون ونحن مستبدات، فكيف نتفق؟ هل يمكن أن يبقى البيت بعدة استبدادات؟ ولكن لا بأس يا أبانا! هل البيت ضرورة من ضرورات الحياة؟ أو ليس نظام الأسرة نظاما عتيقا من آثار القرون الوسطى؟ قال: نعم. قلن: على كل حال فيصح أن يجرب جيل النساء الجديد مع جيل الرجال الجديد، فإن وقع ما خشينا عشنا حرائر وعاشوا أحرارا، وطالبنا بتسهيل الطلاق وبهدم المحاكم الشرعية على رءوس أصحابها، وتعاقدنا تعاقدا مدنيا. قال الأب: وماذا تفعلن بما ترزقن من أبناء وبنات؟ قلن: لك الله يا أبانا! إنك لا تزال تفكر بعقل جدنا وجدتنا! لقد كنت أنت وأبوك وجدك تحملون أنفسكم عناء كبيرا في التفكير في الأولاد، وتضحون بأنفسكم وأموالكم في سبيلهم، وتعيشون لهم لا لكم. أما عقليتنا أهل الجيل الحاضر فأن نعيش لأنفسنا لا لغيرنا. لقد ضحك عليكم الدين والأخلاق ففهمتم أن الواجب كل شيء، وكشفنا اللعبة ففهمنا أن اللذة كل شيء، فنحن نمنع النسل، فإذا جاء قسرا فليعش كما يشاء القدر؛ ولنقدم حظنا على حظه، وسعادتنا على سعادته، ولا نفكر فيه طويلا، ولا يتدخل في شئوننا كثيرا ولا قليلا.
قال الأب: وأمر المال كيف يدبر؟ كيف تعشن أنتن وأولادكن إذا كان طلاق وكان فراق؟ قلن: هذا ظل آخر ظريف من ظلال تفكيرك، دع هذا يا أبانا والبركة أخيرا فيك. •••
أما بعد، فقد خلا الأب يوما إلى نفسه، وأجال النظر في يومه وأمسه، فبكى على أطلال سلطته المنهارة، وعزته الزائلة، ورأى أنهم خدعوه بنظرياتهم الحديثة، وتعاليمهم الجديدة - قال: لقد قالوا: إن زمان الاستبداد قد فات ومات، فلا استبداد في الحكومة، ولا استبداد في المدرسة، فيجب ألا يكون استبدادا في البيت؟ إنما هناك ديمقراطية في كل شيء، فيجب أن يكون البيت برلمانا صغيرا يسمع فيه الأب رأي ابنه ورأي ابنته ورأي زوجه، وتؤخذ الأصوات بالأغلبية في العمل وفي المال وفي كل شيء؛ وقالوا: تنازل عن سلطتك طوعا، وإلا تنازلت عنها كرها، وقالوا: إن هذا أسعد للبيت، وأبعث للراحة والطمأنينة، وقالوا: إن هذا يخفف العبء عنك، فنحن نقسم البيت إلى مناطق نفوذ: فمنطقة نفوذ للمرأة، وأخرى للرجل، وثالثة للأولاد، وكلهم يتعاونون في الرأي ويتبادلون المشورة. سمعت وأطعت فماذا رأيت؟ رأيت كل إنسان في البيت له منطقة نفوذ إلا شخصي، ولم أر البيت برلمانا، بل رأيته حماما بلا ماء، وسوقا بلا نظام، إن حصلت على مال أرادته المرأة فستانا، وأرادته البنت بيانو، وأراده الابن سيارة؛ ولا تسل عما يحدث بعد ذلك من نزاع وخصام. وإن أردنا راحة في الصيف أردت رأس البر لأستريح، وأرادت الأم والبنت الإسكندرية قريبا من ستانلي باي، وأراد الابن أوربا؛ إلى ما لا يحصى، ولا يمكن أن يستقصى؛ وأخيرا يتفقون على كل شيء إلا على رأيي. فوالله لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما تزوجت، فإن كان ولا بد ففلاحة صعيدية، لم تسمع يوما بمدينة، ولم تركب يوما قطارا إلى القاهرة والأسكندرية، لها يد صناع في عمل «الأقراص» ورأس صناع في حمل «البلاص».
أيتها الزوجة! ويا أيها الأبناء والبنات! ارحموا عزيز قوم ذل!
والراديو أخيرا!
نشأت في حي وطني، لم يأخذ من المدنية الحديثة بحظ قليل ولا كثير، يعيش أهله عيشة وادعة هادئة بطيئة، لم تتغير عن معيشة القرون الوسطى إلا قليلا. ولم تنقطع الصلة بينهم وبين آبائهم وأجدادهم؛ إذا عرضت عليهم صفحة من حياة مصر قبل بضع مئات من السنين فهموها حق الفهم، وقرءوها في أنفسهم وفي معيشتهم، فكانت الصلة بيني وبين سكان القاهرة في عهد الفاطميين أو الأيوبيين أو المماليك أقرب من الصلة بين ابني وعهد إسماعيل؛ فالحياة في السنين الأخيرة غيرت سكان المدن تغييرا كبيرا، ونقلتهم نقلة مفاجئة سريعة، حتى ليحملق الطفل في عينك استغرابا إذا حدثته بحديث يتصل بالحياة الاجتماعية في عهد جده أو جدته، ويرى كأن الدنيا خلقت خلقا جديدا.
كانت حارتنا تمثل طبقات الشعب المختلفة: يسكنها البائع الجوال، يظل نهاره وشطرا من ليله متنقلا في الحارات والشوارع، ينادي على البلح في موسم البلح، والخيار في موسم الخيار. وأسرته وأقاربه يعيشون جماعات في بيت كبير عيشة بائسة تعسة، كل جماعة في حجرة.
وطائفة من الموظفين من رئيس قلم في وزارة الأوقاف، وكاتب في وزارة الأشغال يمثلون الطبقة الوسطى في حياتهم الاجتماعية والمدنية.
وبيت أرستقراطي واحد، كان ربه نائب المحكمة الشرعية العليا، وكان متقدما في السن، عظيم الجاه، وافر المال، له الخدم والحشم، يرهبه الكبير، والصغير، وله عربة فخمة، تضرب خيولها الأرض بأرجلها فتملأ القلوب هيبة؛ وكان كل سكان الحارة يسمونه «الشيخ» من غير حاجة إلى ذكر اسم، فالشيخ ركب، والشيخ جاء، وعند بيت الشيخ - وكان الشيخ نعمة على الحارة، فلا تستطيع امرأة أن ترمي ماء قذرا أمام بيتها خوفا من الشيخ، ولا يستطيع قوم أن يرفعوا أصواتهم في السباب والنزاع خوفا من الشيخ؛ ولذلك امتازت حارتنا عن مثيلاتها وعما يجاورها بالنظافة والهدوء.
كان بين سكان الحارة رابطة تشبه الرابطة بين أفراد القبيلة، يعتز الأولاد بحارتهم ويهتفون بها في النداء، ويكون بينهم وبين أولاد الحارة الأخرى منافرة فيحتكمون إلى القوة، ويعتزون بالناشئ الشجاع يظهر بينهم يذود عنهم، ويجلب النصر لحارتهم - ويرعى سكان الحارة حق الجوار بأدق معانيه، يعودون أحدهم إذا مرض، ويهنئونه إذا عوفي، ويواسونه في مأتمه، ويشاركونه في أفراحه، وهم في ذلك سواسية، لا يتعاظم غني لغناه، ولا يتضاءل فقير لفقره.
وكان لكل بيت من بيوت الطبقة الوسطى منظرة (مندرة) لاجتماع الأصدقاء في إحداها. فيسمرون فيها السمر الحلو اللطيف، وأحيانا يجتمعون فيحلو لهم العشاء معا فيرسل كل رسولا إلى بيته يحضر منه خير ما عنده، وأحيانا يحيون الليلة في سماع قرآن أو حفلة طرب؛ ولحسن حظي كان بجوار بيتنا موظف في الأوقاف يهوى الناي ويتقنه، فكان كثيرا ما يحيي أصدقاؤه في منظرته حفلات شائقة بديعة، إليها يعود الفضل فيما لي من أذن موسيقية، وميل لسماع الغناء والافتنان به. •••
كان من المناظر التي لا أنساها طائفة من الرجال، قد لبس كل منهم على جلبابه الأزرق ميدعة من الجلد، يحمل القربة على ظهره ويمشي بها في ركوع، وهم يغدون في الحارة ويروحون، ينادي أحدهم بعد أن يفرغ قربته في الزير: «سقا عوض»، وهي كلمة كنت أفهم منها المناداة على الماء، ولكن ما كنت أفهم معناها تفصيلا، بل لعلني لم أفهمه إلى الآن. فإذا سمعته سيدة أطلت من الشباك وأمرته أن يأتي لها بقربة حلوة أحيانا، ومالحة أحيانا، وربما تصنعت في مناداتها فرققت من صوتها وتدللت في نغمتها، فكانت فتنة للسامعين.
وكثيرا ما طال النزاع بين السقاء وربة البيت، فهو يقول: إن القرب صارت سبعا، وهي تأبى إلا ستا، ويطول الحوار والجدل والقسم بالأيمان، وأحيانا يتفادى السقاء هذا الجدل بطريقة من طريقتين: إحداهما أن يوزع خرزا، من نوع خاص على صاحبة البيت عشرا عشرا، أو عشرين عشرين، وكلما أتى أخذ خرزة، فإذا فرغ الخرز علم أنه تم العدد فأخذ حسابه . وثانيتهما أنه كلما أتى بقربة خط على الباب بحجر أبيض خطا - ولم يكن يعرف الطباشير ولا كتابة الأرقام - وأحيانا يتهم السقاء ربة البيت بأنها مسحت خطا، وأحيانا تتهمه هي أنه خط خطين لقربة واحدة، فإذا تكرر مثل ذلك أبى السقاء معاملة هذا البيت إلا أن يأخذ نصف القرش ثمن القربة الحلوة قبل أن يتحرك من مركزه أمام باب الحارة.
وفي يوم من الأيام حول سنة 1900 رأيت الحارة قد مزقت وحفرت فيها الحفر طولا وعرضا، ومدت المواسير وأدخلت في بيتنا الحنفية واستغنينا عن السقاء، وأراحنا الله من سماع النزاع حولنا، وأصبح الماء في كل طبقة من بيتنا، في أسفله وأوسطه وأعلاه، وشعرت أن البيت قد دبت فيه الحياة. فالله يقول: «وجعلنا من الماء كل شيء حي». وما أنس لا أنس خادما أتت منزلنا إذ ذاك من قرية من قرى الفلاحين فعجبت أشد العجب من الماء يخرج من الحائط ثم لا ينقطع إلا إذا شئنا، وحارت في تعليل ذلك، وأظنها حائرة إلى اليوم إن كانت على قيد الحياة. •••
وألفنا الماء يخرج من الحائط، وذهب لإلف بالعجب، ولكن ظللنا نستضيء بالجاز، وهو ما يسميه سادتنا العلماء زيت البترول، وكان لمضايقاته أشكال من العذاب وألوان، فيوم ضربت لأني أرسلت لأشتري زجاجة لمبة فكسرت مني في الطريق، وكثيرا ما فسد ... فإذا أدرناه يمينا أخذ يرتفع اللهب ثم يرمينا بالهباب، وإذا أدرناه شمالا أخذ يهبط حتى لا نرى، وهكذا دواليك، حتى يضيق الصدر ويذهب إلى النوم قبل الموعد. وكثيرا ما نكون في سمر لذيذ أو حديث ظريف أو قراءة ملحة، ثم نسمع الزجاجة كسرت فيكسر قلبنا؛ لأن الوقت ليس وقت بيع وشراء، أو ننظر فإذا الجاز قد فرغ ولا جاز لنا!
ثم رأينا الأسلاك تخرم البيت، وتخرم كل حجرة فيه وتدخل بيتنا الكهرباء، فندير المفتاح مرة فتضيء الحجرة، ونديره مرة فتظلم. وأبى الله إلا أن يرزقنا هذه المرة أيضا بخادم خطبت في قريتها وأرادت السفر لتتزوج، فطلبت منا أن نعطيها لمبة من اللمبات الكهربائية أو لمبتين لتنيرهما في حجرتها ليلة زفافها؛ وكان لهذا الخادم فصل أظرف من هذا وألطف؛ فقد نظرت أول ما أتت من قريتها إلى السقف فلم تر فيه عروقا تحمل ألواح الخشب؛ (لأنه كان من الأسمنت المسلح) فصعدت إلى السطح لتحقق الأمر لعل السقف مقلوب، ولعل العروق من فوق والأخشاب من تحت، فلما لم تر عروقا فوق ولا تحت، أحست بالخيبة في تعليلها، وفوضت إلى الله أمرها ... •••
ثم دار الزمن دورته وإذا بعامل يأتي ليخرم البيت من جديد، وإذا بالأسلاك تمتد وآلة صغيرة تركب وجرس يدق، وإذا بالتليفون، وإذا بنا نتصل بمن في القاهرة وضواحيها، بل بمن في أنحاء القطر، ويتصل بنا من أحب؛ وأحسست إذ ذاك أن البيت قد استوفى حظه من الحياة كما يستوفيها الجسم الحي الراقي من شرايين وأوردة على أدق ما تكون من نظام - وكان لي مع التليفون متاعب أود معها لو لم يكن، وأحيانا محامد أحمد الله أن كان - فقد كنت قاضيا، وبيتي وحده من بين القضاة فيه تليفون يصلني برئيس المحكمة، فقد يتغيب قاض فجأة عن الجلسة فيدق التليفون - آلو - انتدبنا كم اليوم لمحكمة العياط، ومرة أخرى لمحكمة الصف، وقد يكون الجو قاسيا، حر يذيب رأس الضب، أو برد يقف منه الجلد. على كل حال، كثيرا ما كان نذيرا بشر، وكثيرا ما كان بشيرا بخير. •••
وأخيرا أتى العامل أول أمس يزيد الأحزمة حزاما، ولكنه في هذه المرة حزام ناقص - خط رأس وخط أفقي، وآلة لا يأبه لها النظر، وفي ذلك سر عجب، هذا هو الراديو - فيه علم إن شئت، وفن إن أردت، وناطق إن أصغيت، وساكت إن أعرضت، ومتحدث بكل لسان، وواصلك بكل مكان. إن شئت معلما فمعلم، أو غناء فمغن، أو فنا ففنان - يهزل حيث تحب الهزل، ويجد حيث تهوى الجد، يمتاز عن التليفون بأن التليفون طالب ومطلوب، فإذا كان طالبا فقد يفجعك بخبر، أو يوقظك من نوم، أو يحملك مطلبا يشق عليك. أو يصلك بمحدث يثقل على نفسك، ثم تريد أن تتخلص منه فلا تستطيع فقد لزم الأمر، وحم القضاء. أما الراديو فليس إلا مطلوبا، وهو عبد مطيع، وخادم أمين. إما ساكت أو متكلم بما أحببت، نديم ظريف، جهينة أخبار، وحقيبة أسرار، ترياق الهم، ورقية الأحزان، قد تكون له مساو لم أتعرفها، فإن جربتها فسأحدثك عنها.
أين أنت أيتها الخادمة التي عجبت من حنفية الماء، وأين أنت أيتها الأخرى التي عجبت من مصباح الكهرباء، ولو كنتما اليوم في بيتنا لشاركتكما العجب، ولوقفت معكما حائرا من العلم الحديث، والفن الحديث، ولانفردت عنكما بالحزن العميق على أن ليس لنا من هذه المخترعات إلا المشاركة في الاستهلاك لا في الإنتاج، وأننا - في مواسير الماء ومصابيح الكهرباء، وآلات الراديو والتليفون، وما إلى ذلك من شؤون المدنية - لنا أن نشتري وليس لنا أن نبيع لنا أن نكون من النظارة، ولكن ليس لنا أن نكون من الممثلين، ولنا أن نستورد ولكن ليس لنا أن نصدر.
إن كنت أيها الراديو قد دخلت البيت أخيرا فلست آخر ما يدخل، فهم يحدثوننا عن سلك آخر سيدخل قريبا يحمل الصور كما تحمل أنت الصوت؛ فإن كنا الآن نسمع لك فسنسمع بعد ونرى. ومن يدري! لعل أسلاكا أخرى تدخل فتوزع الحرارة والبرودة بقدر، وأسلاكا وأسلاكا؛ بل لعل هذه الأسلاك لا تعجب الجيل القادم فيراها بعد أن يتحرر رمزا لعصر بغيض أولع الناس فيه بالقيود حتى سلسلوا بيوتهم بهذه السلاسل، وسيهزأون بهذا النوع من الحياة الساذجة التي تستعين على الرغبات بالمواسير والأسلاك، وسينظرون إلينا كما ننظر نحن إلى سكان ما قبل التاريخ، وسيعجبون إذا فرحنا باتصالنا بأهل الأرض مع أنهم اتصلوا بأهل السماء. وستعود البيوت من غير أسلاك ولكنها وافية بالمطالب التي نستمتع بها. والتي نصبوا إليها، والتي لا يقدر أجيالنا الآن حتى على الحلم بها، ويخلق ما لا تعلمون.
عدو الديمقراطية
لندع الديمقراطية السياسية، فلها نظرياتها ورجالها، ولها نزاعها الحار بين أنصارها وأعدائها.
ولنتكلم في الديمقراطية الاجتماعية وأعدائها - فأكبر مظاهرها الاشتراك في مرافق الحياة من غير أن تتميز طبقة من طبقة؛ فإذا رأيت في القطار درجة أولى وثانية وثالثة فهذا مظهر أرستقراطي ، وإذا رأيت ذلك في عربات الترام والسيارات العامة والسينما والتمثيل فهذا أيضا مظهر من مظاهر الأرستقراطية؛ وإذا رأيت أحياء يعنى فيها بالكنس والرش والنور، وأحياء لا يعنى فيها هذه العناية فهذا مظهر من مظاهر الأرستقراطية، وإذا رأيت في المآتم والأفراح كراسي ضخمة مذهبة، وأخرى بسيطة ساذجة، وقوما يستقبلهم آل الميت وآل العرس بالحفاوة فيجلسونهم في الصدر، وآخرين يستقبلون في غير حفاوة فيجلسون في الذيل؛ فهذا أيضا مظهر من مظاهر الأرستقراطية؛ وإذا رأيت قاعات المحاضرات أماكن حجزت لكبار المدعوين وأخرى حقا مشاعا للدهماء، فهذا كذلك مظهر من مظاهر الأرستقراطية؛ وإذا رأيت الحجاب على الأبواب يفتحونها لمن نزل من سيارة، ويغلقونها في وجه ذي الجلباب الأزرق، فذلك نوع من الأرستقراطية؛ وإذا رأيت مقهى أفرنجيا فيه فنجان القهوة بخمسة قروش أو تزيد، ومقهى بلديا فيه فنجان القهوة بخمسة مليمات أو تنقص، فهذا مظهر من مظاهر الأرستقراطية؛ ولا أسترسل في ذلك، فلعلك - يا صاحبي - فهمت مظاهر الأرستقراطية والديمقراطية، وعلمت أنك في كل خطوة تخطوها ترى هذه المظاهر في أشكالها المختلفة، وألوانها المتعددة.
وهناك دعاة يدعون إلى هذه الديمقراطية الاجتماعية، كما أن هناك دعاة يدعون إلى الديمقراطية السياسية، ولهم على ذلك حجج وبراهين.
ولكن لعل أعدى أعداء الديمقراطية وأهم طعنة توجه إلى دعاتها، وأقوى حجة يتسلح بها دعاة الأرستقراطية شيء واحد هو «القذارة»؛ فأكثر تصرفات الأرستقراطيين وأشباههم عذرهم فيها طلب النظافة والترفع عن القذارة.
قد يركب راكب الدرجة الأولى في القطار أو الترام أو السيارات طلبا للوجاهة وخشية أن يراه الناس بين الناس بين جمهور الفقراء، أو نحو ذلك من أعذار كلها سخيفة، ولكن عذرا واحدا يصح أن يقام له وزن، وهو قذارة بعض ركاب الدرجة الثالثة والخوف من أذاهم ومن عدواهم.
وقد يتطلب بعض الناس أعلى مطعم وأغلى مقهى حبا في الظهور ورغبة في الجاه. وطلبا لمخالطة العظماء، ولكن العذر صحيح أنه ينشد النظافة في هذا المطعم وهذا المقهى، ويفر من قذارة المطاعم الرخيصة والمقاهي الرخيصة.
فلو عني الناس بالنظافة، وكان من لبس لبس نظيفا، ومن فتح مطعما أو مقهى عني بنظافته، وكان الفرق بين لبس الغني والفقير، والمطعم الغني والفقير ليس فرقا في الكيف، فالكل نظيف، وإنما هو فرق في النوع والكم، لانهارت الأرستقراطية الاجتماعية في كثير من نواحيها، ولما تقززت أوساط الناس وخيارهم من أن يخالطوا الفقراء في مأكلهم ومشربهم ومركبهم، ولسلحوا الديمقراطية بسلاح قوي متين؛ ولهذا ترى الأمم التي عنيت بالنظافة والتزمتها في صغيرها وكبيرها، وفي فقرها وغناها قد أفسحت الطريق أمام محبي المساواة ودعاة الديمقراطية. وتراهم وقد قضوا على اختلاف الدرجات في السيارات العامة، وقل منهم من يركب الدرجة الأولى في القطار، وقل من يتطلب أفخم مطعم وأغلى مقهى، علما منهم بأن الكل نظيف والكل مريح. وأن الذين يركبون بجوارهم أو يجلسون بجانبهم لا يؤذونهم بمنظرهم ولا برائحتهم ولا بأي شيء فيهم، إنما تتميز هذه الطبقات بوضوح وجلاء، في مرافق الحياة الاجتماعية حيث تفشو القذارة.
إن عقلاء الناس يحتملون الديمقراطية الاجتماعية بل يتعشقونها، ولكن إذا وصل الأمر إلى احتمال عدوى مرض، أو آلمت أنوفهم رائحة كريهة، أو آلم عيونهم منظر بغيض، سهل عليهم بيع الديمقراطية للأرستقراطية. •••
لو جرى الأمر على المعقول لكان المسلم من أنظف الناس في العالم، فقد ربطت صلواته الخمس بالوضوء، وفرض عليه الاستحمام في أوقات، وكان أول باب من أبواب فقهه باب الطهارة.
وأغتبط إذ أسمع وصف «ابن سعيد» لمسلمي الأندلس فيقول فيهم: «إنهم أشد خلق الله اعتناء بنظافة ما يلبسون وما يفرشون، وغير ذلك مما يتعلق بهم. وفيهم من لا يكون عنده إلا ما يقوته يومه فيطويه صائما، ويبتاع صابونا يغسل به ثيابه، ولا يظهر فيها ساعة على حالة تنبو العين عنها».
ويؤلمنى أشد الألم ما ذكره ابن سعيد نفسه، وقد زار القاهرة، وركب منها حمارا إلى الفسطاط إذ يقول: «فأثار الحمار من الغبار الأسود ما أعمى عيني، ودنس ثيابي، وعاينت ما كرهت، وقلت:
لقيت بمصر أشد البوار
ركوب الحمار وكحل الغبار»
ألم من منظر الفسطاط، وقال: إنه رأى شوارعها غير مستقيمة، ورأى حول أبوابها من التراب الأسود والأزبال ما يقبض نفس النظيف، ويغض طرف الظريف، ورأى البياعين يبيعون في مسجد عمرو، والناس يأكلون فيه، ورأى في زوايا المسجد العنكبوت، قد عظم نسجه في السقوف والأركان والحيطان، ورأى حيطانه مكتوبا عليها بالفحم والحمرة بخطوط قبيحة مختلفة من كتابة فقراء العامة، إلخ ...
آلمني هذا الوصف لمصر، ولو زارها اليوم لما عثر بحماره، ولأقلته سيارة فخمة من باب زويلة إلى الفسطاط في أرض معبدة ممهدة، لا تثير غبارا ولا تدنس ثيابا، ولرأى مسجد عمرو نظيفا، لا يأكل فيه آكل، ولا يكتب على حيطانه كاتب.
ولكن هل كان يعدل عن حكمه القاسي في مقارنته بين أهل مصر وأهل الأندلس في النظافة؟ ذلك ما أشك فيه كل الشك.
لست أدري: لم لم يلتفت الدعاة إلى هذا الأمر في الأمة، فيدعون ويلحون في الدعوة إلى النظافة، ويضعون الخطط الدقيقة لها، فإنها خير وسيلة للتقريب بين طبقات الأمة، فلا يأنف بعد مثقف أن يجلس مع المثقفين، ولا متعلم أن يجالس غير المتعلمين، وفي هذا الاختلاط نشر للثقافة، ودعوة للآداب العامة وغلبة للعنصر المهذب.
يظن الناس أن النظافة غالية، وأنها مرتبطة بالغنى، وهذا خطأ بين، فكم من غني قذر، ومن فقير نظيف؛ والأمر يتوقف على تعود النظافة أكثر مما يتوقف على المال، فليست النظافة أن تلبس أغلى اللباس، وأن تأكل أفخم الطعام، وإنما النظافة أن تلبس نظيفا ولو كان أحقر الثياب، وأن تأكل نظيفا ولو كان أحقر الطعام.
هذه بديهيات أولية، ولكنا مع الأسف مضطرون أن نقولها. •••
لعل الأمر في العلماء والأدباء على نحو ما بينا في الماديات؛ فالذي يفرق بين عالم أرستقراطي وعالم ديمقراطي، وأديب أرستقراطي وأديب ديمقراطي، هو نظافة آراء الأولين وأفكارهم وأسلوبهم؛ وعكس ذلك في الآخرين. ولو التزم كل العلماء والأدباء نظافة نظرياتهم، ونظافة كتاباتهم مهما اختلفت في النوع والقيمة لانهارت الأرستقراطية العلمية والأدبية أيضا، ولكان الكل سواء في الاحترام.
الموت والحياة1
أبت علي نفسي أن تكتب اليوم إلا في الموت، وهل نتاج الكاتب إلا قطعة من نفسه؟ يفرح فيرقص قلبه ، وينقبض فيسيل قلمه بالدمع، وقد كرهت للقراء عنوان الموت، فأضفت إلى الموت الحياة. ولست أدري لم يلطف ذكر الحياة الموت، ولا يلطف ذكر الموت الحياة!
دعا إلى هذا أني فجعت هذه الأيام بموت أصدقاء كأنهم كانوا على ميعاد، وكأن لموت الأصدقاء أيضا موسما كسائر المواسم وإن لم يحدد زمنه ويعرف مداه.
تنفك تسمع ما حيي
ت بهالك حتى تكونه
والمرء قد يرجو الحيا
ة مؤملا والموت دونه
وكان آخر صديق استعجل الموت فأنشب في المنية أظفاره قبل أن تنشب فيه أظفارها، وقطع حظه من الدنيا قبل أن تستوفي حظها منه، لم يصبه سهم القضاء فأخذ السهم منه ورماه بنفسه في نفسه، فمضى سابقا أجله - غربت شمسه ضحى، واستكملت ساعته دقاتها قبل ميعادها.
كان سري النفس، نبيل الخلق، طيب العنصر، يغبطه كل من عرفه على ما وهب من خلال، وما تهيأ له من وسائل الرفاهة وأسباب النعيم؛ وما دروا أن الأمر في السعادة والشقاء إلى ما في داخل النفس لا ما في خارجها، وأن نفوسا قد تشقى في النعيم، ونفوسا قد تسعد في الشقاء.
جزعت لموته واستكنت للعبرة، وفقدت بفقده السلطان على دمعي وقلبي، فرحمه الله ورحمني. •••
ولكن ما الجزع من الموت وقد طال عهدنا به وعرفه بنو آدم منذ عرفوا الحياة؟ ولم لم يألفوه كما ألفوا كثيرا من المر حتى اعتادوه؟ وليس الموت في ذاته مرا ولا أليما، وكما قال أحد الرواقين: «إن الموت هو وحده المصيبة التي لا تمسنا، ففي حياتنا لا موت، وإذا جاء الموت فلا حياة». وقد نظم المتنبي هذا المعنى فقال:
والأسى قبل فرقة الروح عجز
والأسى لا يكون بعد الفراق
ولكن أعظم الناس شأن الموت لما أحاط به من ظروف، وما اتصل به من خيالات، وأثير حوله من رعب - بالغ بعض رجال الدين في تفظيع الموت، وهولوا من شأنه تهويلا تنخلع له القلوب، وتقشعر منه الجلود؛ لأنهم رأوا في ذلك درسا قاسيا يردع المجرم عن إجرامه، ويزع الآثم عن إثمه؛ ولكن أخشى أن يكونوا قد أفرطوا إفراطا شل النفس وأشاع فيها اليأس، وأنهم - وقد عهد إليهم أن يعادلوا بين الترغيب والترهيب - قد أرهقوا كفة الترهيب حتى ثقلت وهوت، وخففوا كفة الترغيب حتى شالت وعلت؛ ولعل هذا كان من الأسباب التي جعلتنا نتسخط الحياة ونتبرم بها، ثم ما هذه الأخلاق التي هي أشبه ما تكون بأخلاق العبيد! لا ندعى للخير إلا بالعصا، ولا تطلب منا الفضيلة إلا بالسياط! - أليس خيرا من ذلك أن يحدونا إلى خير الحب، لا أن يسوقونا إليه الرعب؟
ثم زاد الموت سوءا ما أحاطه به الأحياء من مظاهر الفزع والألم؛ فصراخ تنفطر له المرائر، وبكاء يذيب لفائف القلوب، والناس حول الميت بين ساهم البصر، ومطرق الطرف، ومكروب النفس، وناكس الرأس، يتأوه الآهة تنقصف منها ضلوعه، ويزفر الزفرة تتصدع منها نفسه. لست أظن أن هذا وأمثاله من طبيعة الإنسان. قد يكون من طبيعته الحزن على فقد القريب والصديق، ولكن ليس من طبيعته الجزع؛ فلو اعتاد قوم أن يقابلوا الموت كما يقابلون أي ظاهرة طبيعية في الحياة لزال الجزع وخف الألم، كما حدث عند بعض الأمم، استطاعوا أن يضبطوا عواطفهم وينفقوا من الحزن بقدر، وأن يرددوا قول القائل: «مات الميت فليحيى الحي»، وتفاخروا بالجلد كما نتفاخر بالجزع، وتواسوا بالثبات، كما نتواسى بالهلع.
ثم كان من الأدباء ما كان من رجال الدين: حزنوا للشيب إذ فقدوا الشباب أكثر مما فرحوا بالشباب يوم أن كان، ووقفوا في مراثيهم موقف النادبات في المآتم، يعجبون كيف كان الموت وكيف نزل، ويلهبون عواطف الناس، ويثيرون أشجانهم، ويعدون أقدارهم على القول وأقربهم إلى الإجادة من عرف كيف يستخرج الدمع ويستنزف الشئون، فكان من هذا وذاك إفساد عواطف الناس من الموت ودفعهم إلى المغالاة في المشاعر.
ثم أخطأ الناس في القياس، فظنوا أن النفس تألم في الحياة الأخرى بما تألم به في الحياة الدنيا؛ ظنوا أن القبر يوحش بعزلته كما يستوحش الحي من عزلته، وأن القبر يرهب بضيقه وظلمته، كما يتبرم الحي بضيق المكان وظلمته، وأن الميت يألم من البرد القارس كما نألم، ويضجر من الحر القاسي كما نضجر، وغاب عنهم إدراك الفرق بين الحياتين، والاختلاف الواسع بين الطبيعتين:
إذا افترقت أجزاء جسمي لم أبل
حلول الرزايا في مصيف ولا مشتى •••
إن تفظيع الموت يدعو إلى نوع من الحياة لا هو حياة ولا هو موت. ولعل كثيرا من رذائل الشرق سببه ما اعتاده قادتهم من تهويل الموت وتفظيع شأنه؛ وإلا فما الذي يجعلنا نرضى بالعيش الذليل بين أحضان آبائنا وأمهاتنا، ولا نتطلب العيش السعيد بالهجرة والارتحال؟ وما الذي يدعونا إلى الفرار من المغامرة في شئون الحياة، والركون إلى عيش الدعة والاطمئنان، إلى كثير من أمثال ذلك؟ لا شيء إلا المغالاة في الخوف من الموت، للمغالاة في تهويل الموت.
لقد جل خطب الحياة إن كان كلما مات قريب أو صديق ذابت النفس حسرات، وأظلمت في وجوهما الدنيا، وتطرق إلينا اليأس؟
لا.لا. اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا، وتبا لهؤلاء الذين يخلعون قلوبنا بالموت فنكون طعمة لمن يحبون الحياة.
ولنبدأ دعوة جديدة قوامها العمل للحياة «ولا بأس بالموت إذا الموت نزل».
الضحك
ما أحوجني إلى ضحكة تخرج من أعماق صدري فيدوي بها جوي ضحكة حية صافية عالية، ليست من جنس التبسم، ولا من قبيل السخرية والاستهزاء، ولا هي ضحكة صفراء لا تعبر عما في القلب؛ وإنما تعبر عما في القلب؛ وإنما أريدها ضحكة أمسك منها صدري، وأفحص منها الأرض برجلي، ضحكة تملأ شدقي، وتبدي ناجذي، وتفرج كربي، وتكشف همي.
ولست أدري: لماذا تجيبني الدمعة، وتستعصي على الضحكة، ويسرع إلي الحزن، ويبطئ عني السرور، حتى لئن كان تسعة وتسعون سببا تدعو إلى الضحكة وسبب واحد يدعو إلى الدمعة، غلب الدمع وانهزم الضحك، وأطاع القلب داعي الحزن ولم يطع دواعي السرور!
ولي نفس قد مهرت في خلق أسباب الحزن، ونبغت في اقتناص دواعيه، تخلقها من الكثير، ومن القليل، ومن لا شيء، بل وتخلقها من دواعي الفرح أيضا؛ وليست لها هذه المهارة ولا بعضها في خلق أسباب السرور، كأن في نفسي مستودعا كبيرا من اللون الأسود ، لا يظهر مظهر أمام العين حتى تسرع النفس فتغترف منه غرفة تسود بها كل المناظر التي تعرض لها؛ ثم ليس لها مثل هذا المستودع من اللون الأحمر أو اللون الأبيض!
يقولون لي: اضحك يدخل على قلبك السرور. وأنا أقول لهم: أدخلوا السرور على قلبي أضحك. ففي المسألة «دور»، كما يقول علماء الكلام، وكما يقول الشاعر:
مسالة «الدور» جرت
بيني وبين من أحب
لولا مشيبي ما جفا
لولا جفاه لم أشب
وإلى الآن لم أدر من المصيب! هل الضحك يبعث السرور، أو السرور يبعث الضحك؟ ودخلت المسألة في دور من الفلسفة مظلم كالعادة، وانتقلت إلى بحث بيزنطي، فلنغلق هذا الباب، ولنعد إلى «الضحك».
يقول المناطقة في أحد تعريفاتهم للإنسان: «الإنسان حيوان ضاحك»، وهذا عندي أظرف من تعريفهم الآخر: «الإنسان حيوان ناطق»، فالإنسان في هذا الزمان أحوج إلى الضحك منه إلى التفكير، أو على الأصح نحن أحوج ما نكون إلى التفكير والضحك معا.
ولكن لم خصت الطبيعة الإنسان بالضحك؟
السبب بسيط جدا. فالطبيعة لم تحمل حيوانا آخر من الهموم ما حملته الإنسان، فهم الحمار والكلب والقرد وسائر أنواع الحيوان أكلة يأكلها في سذاجة وبساطة، وشربة يشربها في سذاجة وبساطة أيضا؛ فإذا نال الحمار قبضة من تبن وحفنة من فول وغرفة من ماء، فعلى الدنيا العفاء؛ ولكن تعال معي فانظر إلى الإنسان المعقد المركب! يحسب حساب غده كما يحسب حساب يومه، وكما يحسب أمسه؛ ويخلق من هموم الحياة ما لا طاقة له به، فيحب ويهيم بالحب حتى الجنون، ويشتهي ويعقد شهواته حتى لا يكون لعقدها حل، فإذا حلت من ناحية عقدها من ناحية؛ ثم إذا سذجت اللذة وتبسطت لم تعجبه، بل أخرجها من باب اللذة، وعقد أملا على لذة معقدة؛ وإذا تفلسف - والعياذ بالله من فلسفته - خرج بها عن المعقول، وحاول أن ينال ما فوق عقله، ولم تعجبه الأرض والسماوات مجالا لبحثه؛ إنما يريد الحقيقة والماهية والكنه، وويل له من كل ذلك! أستغفر الله؛ فقد نسيت أن أذكر هموم الموظف بالعلاوات والترقيات، وما كان منها استثنائيا، وما كان غير استثنائي، وما يترتب على ذلك من معاشات وحساب تمغة، وما إلى ذلك من أمور لا تنتهي، وهذا أيضا من ضروب الفلسفة المظلمة، فلنعد إلى الضحك.
أقول: إن الطبيعة عودتنا أن تجعل لكل باب مفتاحا، ولكل كرب خلاصا، ولكل عقدة حلا، ولكل شدة فرجا؛ فلما رأت الإنسان يكثر من الهموم ويخلق لنفسه المشكلات والمتاعب التي لا حد لها، أوجدت لكل ذلك علاجا، فكان الضحك.
والطبيعة ليست مسرفة في المنح، فلما لم تجد للحيوانات كلها هموما لم تضحكها، ولما وجدت الإنسان وحده هو المهموم المغموم، جعلته وحده هو الحيوان الضاحك. •••
لو أنصف الناس لاستغنوا عن ثلاثة أرباع ما في «الصيدليات» بالضحك، فضحكة واحدة خير ألف مرة من «برشامة أسبيرين» وحبة «كينين» وما شئت من أسماء أعجمية وعربية؛ ذلك لأن الضحكة علاج الطبيعة، والأسبيرين وما إليه علاج الإنسان؛ والطبيعة أمهر علاجا وأصدق نظرا وأكثر خنكة. ألا ترى كيف تعالج الطبيعة جسم الإنسان بما تمده من حرارة وبرودة، وكرات حمر وبيض، وآلاف من الأشياء يعالج بها الجسم نفسه ليتغلب على المرض ويعود إلى الصحة، ولا يقاس بذلك شيء من العلاج المصطنع.
فانفجار الإنسان بضحكة يجري في عروقه الدم؛ ولذلك يحمر وجهه، وتنتفخ عروقه؛ وفوق هذا كله فللضحكة فعل سحري في شفاء النفس وكشف الغم، وإعادة الحياة والنشاط للروح والبدن، وإعداد الإنسان لأن يستقبل الحياة ومتاعبها بالبشر والترحاب.
ولو أنصفنا - أيضا - لعددنا مؤلفي الروايات المضحكة والنكت والنوادر البارعة التي تستخرج منك الضحك وتثير فيك الإعجاب والطرب، وهؤلاء الذين يضحكون بأشكالهم وألاعيبهم وحركاتهم - أقول: لو أنصفنا لعددنا كل هؤلاء أطباء يداوون النفوس، ويعالجون الأرواح، ويزيحون عنا آلاما أكثر مما يفعل أطباء الأجسام، ولعددنا من يستكشف الضحكات في عداد من يستكشف دواء للسل أو للسرطان أو نحو ذلك من الأدواء المستعصية؛ فكلاهما منقذ للإنسان من آلام، مصلح لما ينتابها من أمراض.
والضحك بلسم الهموم ومرهم الأحزان؛ وله طريقة عجيبة يستطيع بها أن يحمل عنك الأثقال، ويحط عنك الصعاب، ويفك منك الأغلال - ولو إلى حين - حتى يقوى ظهرك على النهوض بها، وتشتد سواعدك لحملها. •••
ومن مظاهر رقي الأمم أن نجد نواحي المضحكات ملائمة لاختلاف الطبقات: فللأطفال قصصهم وألاعيبهم ومضحكاتهم، ولعامة الشعب مثل ذلك، وللخاصة وذوي العقول الراقية المثقفة ملاهيهم وأنديتهم ومضحكاتهم. فإن رأيت أمما - كأممنا الشرقية - حرم مثقفوها من معاهد الضحك، وكانت مسلاتهم الوحيدة أن ينحطوا ليضحكوا، أو يرتشفوا من الأدب الغربي والتمثيل الغربي ليضحكوا، فهي أمم ناقصة في أدبها، فقيرة في معاهدها؛ وهذا أيضا ضرب من ضروب الفلسفة المظلمة، فلنعد إلى الضحك. •••
تعال معي نتعاهد على أن نرعى في حياتنا جانب الضحك كما نرعى جوانب الصحة والمرض، وجانب الهزل بجوار جانب الجد، ولنتخذ علاجا في بعض أمورنا.
قال لي صديق مرة: إنه حاول أن يتغلب على همومه وأحزانه بعلاج بسيط فنجح؛ ذلك أنه إذا اشتد به الكرب، وتعقدت أمامه الأمور حتى لا يظن لها حلا، انفجر بضحكة مصطنعة فسري عنه وتبخرت همومه.
ويروى أنه كان عند اليونان فيلسوفان يلقب أحدهما الفيلسوف الضاحك، والآخر الفيلسوف الباكي؛ كان أولهما يضحك من كل شيء ضحك جد أحيانا، وضحك سخرية أحيانا. يضحك من سخف الناس ومن وضاعتهم وحقارتهم، ويبكي الثاني مما يضحك منه الأول.
وقرات مرة قصة لطيفة أن بئرا ركب عليه دلوان، ينزل أحدهما فارغا، ويطلع الآخر ملآن، فلما تقابلا في منتصف البئر سأل الفارغ الملآن: مم تبكي؟ فقال: وما لي لا أبكي؟ أخذ الرجل مائي وسيأخذه وسيعيدني إلى قاع البئر المظلم! وأنت مم تضحك وترقص؟ فقال الفارغ: وما لي لا أضحك؟ سأنزل البئر وأمتلئ ماء صافيا وأطلع بعد إلى النور والضياء.
وقد أراد مؤلف القصة أن يصور نفس الموقفين اللذين وقفهما الفيلسوف الضاحك والفيلسوف الباكي، وأن الحياة مليئة بأشخاص يتولون عملا واحدا، ثم هذا ينظر إليه من الجانب السار الفرح، وذاك ينظر إليه من الجانب الحزين القابض.
فكن الفيلسوف الضاحك، ولا تكن الفيلسوف الباكي. وكن الدلو الراقص، ولا تكن الدلو الدامع. وجرب أن تلقى الحياة باسما أحيانا، ضاحكا أحيانا، ولأجرب معك!
سيدنا
كان لسيدنا الشيخ «سيد عبد الرحمن» كتاب في حي وطني في قسم الخليفة، أسلمني له أبي وأنا في السادسة من عمري.
كان هذا الكتاب بيتا من بيوت الوقف، يتكون من طابقين، طابق أرضي فيه حجرتان إحداهما «سبيل» لسقي الماء كان قد هجر عند ما ذهبت إليه، والأخرى لسيدنا ينام فيها أحيانا؛ وفي الطابق العلوي حجرتان كذلك، إحداهما لأولاد الكتاب يقرءون فيها، والأخرى لسيدنا أيضا، وبين الحجرتين «فسحة» في أحد أركانها زير ماء لا تعرف لونه مما توالى عليه من أحداث الزمان، وعليه غطاء من خشب، قد كسر ولم يهتم أحد بإصلاحه، وعلى الغطاء كوز صفيح قد شد بحبل في مسمار في الحائط، حتى لا يذهب به الأولاد من مكان إلى مكان، وخشية أن يقع الكوز في أسفل الزير، فإذا كان مربوطا ووقع استطعنا أن نشده بالحبل، والماء إن تلوث بوقوع الحبل فيه، فهو أقل ضررا من مد اليد عارية وغوصها لاستخراجه.
وأدوات الكتاب: حصير فرش على البلاط، يبلى أحيانا فتتناثر عيدانه، ومع ذلك يبقى إلى أن يحنن الله على سيدنا فيشتري حصيرا جديدا، وصندوق من صناديق السكر أو الجاز وضع في زاوية من زوايا الحجرة، نضع فيها ألواحنا؛ وهذه الألواح أكثرها من صفيح، تسود أحيانا ويذهب طلاؤها حتى لا نتبين الكتابة منها - وكيف يبين أسود من أسود؟ وأقلها خشب قد طلي بدهان أبيض، وله إطار لون بلون بني، وذلك خاص بأولاد الذوات وأشباههم.
هذا كل ما بالكتاب من أدوات؛ ومعاذ الله أن أنسى شيئا أهم من ذلك كله، وهو مجموعة عصى من جريد النخل، تختلف طولا وقصرا. أما القصيرة فيستعملها سيدنا لمن يسمع اللوح أو «الماضي» فيخطئ فتدركه هذه العصا. وأما الطويلة فعندما يرى سيدنا طفلا في آخر الحجرة لا يهتز وقت قراءته أو يتهاون في حفظه، فما يشعر إلا والعصا الطويلة نزلت عليه وصحبها من سيدنا «اهتز يا ولد». وقد كان لهذه العصا - ما طال منها وما قصر - أثر في نفوسنا لا ينكر ؛ فكثيرا ما رعبنا لأن خيالنا صور لنا أن سيدنا يريد أن يهوي علينا بعصاه؛ وفي الواقع لم يكن شيء من ذلك، وإنما هو الرعب ملك نفوسنا؛ ويحصل هذا أحيانا حتى في البيت، فننسى أننا خرجنا من الكتاب، وأننا بين أهلينا، فنرتجف بغتة لحركة تشبه حركة سيدنا في الكتاب.
وإلى جانب هذه العصى «فلقة»، وهي عصا غليظة من خشب متين قد ثقب في وسطها ثقبان يبعد ما بينهما نحو شبر، وركب في هذين الثقبين سير من جلد أو نحوه؛ فإذا شكا الولد أبوه أو غضب عليه سيدنا أدخل رجليه في هذا السير ولواه عليهما، وأمسك بطرفي الفلقة ولدان كبيران شديدان من أولاد الكتاب، فلم تستطع الرجلان حركة، وانهال عليه سيدنا ضربا بالعصا والولد يصيح: «في عرضك يا سيدنا» «حرمت» «أتوب»! ولست أنسى مرة أفرط فيها سيدنا فشق عقبي وسال منه الدم، وكان عزائي الوحيد أني مكثت بعيدا عن سيدنا نحو أسبوعين.
وهذا كل ما كان في الكتاب من «موبيليات».
كان سيدنا يحفظ القرآن حفظا جيدا، ويكتب كتابة عاجزة، وهذا هو ما له من ثقافة؛ كان يطوف في الصباح على البيوت يقرأ فيها ما تيسر من القرآن ويخرج من بيت إلى بيت حتى يتم دورته، وكان موظفا في مسجد يؤذن فيه، فإذا حان وقت الظهر أو العصر خرج من الكتاب للأذان والصلاة؛ وفي غيابه صباحا أو ظهرا أو عصرا يتركنا لعريف يقوم مقامه، ولكن كان العريف ولله الحمد أهون علينا من سيدنا، فكنا نتنفس الصعداء إذا خرج، ونصاب بالرعشة إذا حضر.
وكان برنامج الكتاب ينحصر في كلمة هي «تحفيظ القرآن» فيبتدئ بتعليم حروف الهجاء على طريقة غريبة، فأول درس كان هو «أ ألف» وهي كلمة حفظتها ولم أفهمها إلا وأنا طالب في مدرسة القضاء؛ إذ فهمت أننا لو تهجينا كلمة ألف لكانت ألفا ولاما وفاء، وما أدري ما السر في هذا البدء على هذا الوضع - حتى إذ عرف الولد شيئا من القراءة والكتابة بدأ بكتابة جزء من القرآن في اللوح يحفظه كل يوم، وهو في أثناء ذلك «يثبت الماضي » ويمضي النهار كله في هذا الباب، فلا إملاء ولا حساب، ولا يعرف سيدنا شيئا من ذلك ولا نستريح من هذا الباب إلا وقت الغداء.
فإذا حان الظهر جمع «سيدنا» من كل ولد مليمين أو ثلاثة أو خمسة، ثم بعث بولد كبير فأتى له بماجورين مملوءين: أحدهما فيه قليل من فول نابت وكثير من مرق، والآخر مملوء مخللا بمائه وخله؛ وتحلق الأولاد حلقة، وأخرج كل رغيفه، وكان قد أحضره معه في الصباح تحت إبطه، وضربوا بأيديهم في الماجورين وأكلوا هنيئا مريئا؛ وقد رحمني الله من تمثيل هذا الفصل إذ كان بيتنا بجوار الكتاب أستطيع أن آكل فيه وأعود - وبين هؤلاء المريض والقذر ومن تلوثت يده بالحبر ومن أصيب بعاهة.
لا تعجبن من هالك كيف ثوى
بل فاعجبن من سالم كيف نجا •••
كان سيدنا غريب الأطوار، عرف في الحي باسم الشيخ سيد المجذوب، يلبس المرقع من الثياب، فلم أره يوما يلبس «مركوبا» جديدا ولا عمة نظيفة ولا قباء ولا عباءة جديدين، فكأنه كان يتحرى القديم من كل شيء ويشتريه؛ كان يتزهد في أكله ولبسه وحديثه، ويهزأ بالناس ولا يعيرهم التفاتا؛ فهو يمشي مشيا يشبه الجري، ويأكل في الشارع وهو على هذه الحال، وإذا ناداه مناد لا يلتفت إليه؛ فكان بذلك يلفت أنظار الناس والأطفال، ويعجب منه بعضهم، ويتبرك به بعضهم، وكان في المجالس العامة غريبا ينتحي ناحية وحده ويفر من الناس ويستوحش منهم، وفي مجالسه الخاصة واعيا أنيسا لطيفا.
لم أره مرة يقرأ في كتاب، وما أظنه كان يعرف ذلك، ولكني مع هذا أذكر له حادثة حيرتني حقا - فقد خرجت من كتابه، وأتممت التعليم في مدرسة ابتدائية، ثم قطعت مرحلة بعدها في التعلم، ثم ذهبت إلى مدرسة القضاء ومكثت فيها نحو أربع سنوات؛ ثم لقيت سيدنا في الطريق فسلمت عليه في احترام وإجلال اعترافا بفضله علي في أول مراحل التعليم، ولكني أطوي بين جنبي إدلالا بنفسي عليه، فأين هو الآن مني؟ لقد درست طبيعة وكيمياء ، ودرست رياضة نظرية واسعة من حساب المثلثات وتوافيق وتراتيب لوغارتمات، ودرست علوما دينية مختلفة الأشكال والأنواع، وعلوما مدنية من تاريخ وأصول قوانين ونظام إدارة وما إلى ذلك - فأين سيدنا من هذا كله وهو لا حظ له من علم إلا أن يحفظ القرآن؟ ولكن ما أدهشني حقا أنه أخذ يسألني عن حالي، وجرى من ذلك إلى الإدلاء برأيه في العالم وفلسفة الكون عن طريق صوفي، فإذا أنا أسير معه ملتذا من حديثه معجبا بقوله إعجابا يفوق ما كنت أضمره لأساتذتي في المدارس العالية، وإذا أنا أذهب معه حيث يذهب وأجلس معه حيث يجلس حتى أتم حديثه الممتع اللذيذ في ساعتين أو أكثر، ولوددت أنه أطال أكثر مما كان - لست أذكر الآن حديثه وقوله، ولا أذكر ماذا كانت نظراته في الحياة، ولكني أذكر لذة حديثه وفائدة درسه. •••
ثم ذهبت أيام وجاءت أيام، وإذا لي ولد، وإذا بي أرسله إلى «روضة الأطفال»، وإذا مكان الكتاب ذي السبيل والحصر، بناء فسيح ذو حديقة غناء، وتخت وأدوات شتى، ومكان العصى و«الفلقة» بيانو وآلات موسيقية، ومكان مواجير الفول والمخلل، لبن وبسكوت في الساعة العاشرة، وأكل نظيف يشرف عليه الطبيب في الظهر، ومكان برنامج كتابنا الذي ليس فيه إلا حفظ القرآن برنامج دقيق مفصل محدود بالساعة والدقيقة، فيه غناء وفيه لعب، وفيه مبادئ القراءة، وفيه ما شئت من تنوع واختلاف، ومكان سيدنا الشيخ سيد عبد الرحمن آنسات عزيزات.
وأتى ابني يوما يقول: إن «أبلة» فلانة علمتهم اليوم درسا جديدا قالت: هذه «ستي» ا، وهذه «ستي» ب، وستي ا لا شيء عليها، وستي ب من تحتها نقطة؛ فقلت: «أين هذا مما كنا نتعلمه من أ ألف، با با ليف، بو با واو، بي بايه»؟
ورأيته ينشد أناشيد «سمير الأطفال» ونحوها، فقلت: أين أنت من أبيك، وقد كان ينشد في العصر قبل الذهاب إلى البيت الأناشيد الدينية.
ورأيته يزكم فيجلس في البيت، ثم يذهب إلى المدرسة فتأبى عليه إلا أن يأتي بشهادة طبيب بأنه برئ ولم يكن مرضه معديا، فقلت: لحا الله زمانا لم نكن نعرف فيه طبيبا، وكان حولنا في الكتاب مرضى لا يعرفون أن الزكام مرض، وكان أصحاؤهم ومرضاهم يشربون من زير واحد بكوز واحد.
ورأيته في سنه لا يحفظ شيئا، وكنت وأنا في سنه أحفظ جزءا كبيرا من القرآن.
ورأيته يعرف من الأشغال اليدوية والرسم والتلوين ما لا أعرفه إلى اليوم. ورأيته ورأيته، ورأيتني ورأيتني. •••
أخشى أنا نكون في كلا الحالين مفرطين ومفرطين، وأن نكون في (كتابنا) قد غلونا، وفي رياض أطفالنا قد غلونا.
أخشى أن يكون الكتاب قسا وأسرف في القسوة، ورياض الأطفال ماعت وأسرفت في الميوعة. أخشى أن نكون في كتابنا قد وضعنا أمام الطفل كل العقبات فلم يستطع أن يجتازها إلا القليل، ونحينا في «رياض الأطفال» كل العقبات فاجتازوها جميعا؛ ولكنهم خرجوا لا يعرفون كيف يجتازون عقبة عرضت، ولا يصبرون على شدة ألمت، ولا يتحملون مشقات العلم ومعاناة الدرس، ولا يعالجون ما يعن من مصاعب الحياة؛ وآية ذلك أن الجيل السابق - مع كثرة من تخلف - كانوا أصبر على الدرس وأحمل للمكاره والمشاق، وأن الجيل الحاضر أنعم وأظرف وألبق، ولكنهم لا يصبرون على مكروه حتى العلم.
نعمة الألم
لندع الآن جانبا وصف ما كان من الخلاف بين علماء النفس في الألم، والفرق بينه وبين اللذة؛ ولندع كذلك بحوثهم الطويلة في تقسيم الألم إلى أنواع: فنوع منه كالذي نشعر به عند وجع الأسنان، ونوع كالذي نشعر به عند الفشل في محاولة، ونوع كالذي نشعر به عند مواجهة ما نكره ... إلخ.
ولندع أيضا بحوث علماء الأخلاق في أن الإنسان في جميع أفعاله يطلب اللذة، ولا يطلب شيئا غيرها، ويهرب من الألم، ولا يهرب من شيء غيره؛ وأنه حين يفر من لذة فإنما يفعل ذلك لطلب لذة أكبر منها، وأنه حين يتحمل الألم، فإنما هو يفر من ألم أكبر منه، أو يتطلب بألمه لذة أكبر مما تحمل - ولندع التعرض لما قام حول هذه النظرية من نزاع.
لندع هذا كله، ولننظر إلى أثر اللذة في الحياة العامة وأثر الألم فيها، فيخيل إلي أنا مدينون للألم بأكثر مما نحن مدينون للذة؛ وأن فضل الألم على العالم أكبر من فضل اللذة.
إن شئت فتعال معي نبحث في عالم الأدب: أليس أكثره وخيره وليد الألم؟ أوليس الغزل الرقيق نتيجة لألم الهجر أو الصد أو الفراق؟ ذلك الألم الطويل العريض العميق تتخلله لحظات قصيرة من وصال لذيذ؛ وليس هذا الوصال اللذيذ بمنتج أدبا كالذي ينتجه ألم الفراق. وإن الأديب كلما صهره الحب، وبرح به الألم، كان أرقى أدبا، وأصدق قولا، وأشد في نفوس السامعين أثرا. ولو عشق الأديب فوفق كل التوفيق في عشقه، وأسفه الحبيب دائما، ومتعه بما يرغب دائما، ووجد كل ما يطلب حاضرا دائما لسئم ومل، وتبلدت نفسه، وجمدت قريحته، ولم يخلف لنا أدبا ولا شبه أدب؛ ولو كان مكان مجنون ليلى عاقل ليلى لكان كسائر العقلاء - إنما فضل المجنون؛ لأن نفسه كانت أشد حسا وأكثر ألما.
لولا علو همة المتنبي ما كان شعره، وما علو همته؟ أليست كراهية الحياة الدون، والألم من أن يعد من سقط المتاع، والتطلع لأن يكون له الصدر أو القبر؟ وعلى هذا المحور دارت حياته، ودار شعره؛ ولو نشأ قانعا لما فارق بلدته، ولكان سقاء كأبيه يروي الماء ولا يروي الشعر.
وما قيمة المعري لولا ألمه من الفقر والعمى؟ لو كان غنيا بصيرا لما رأيت لزومياته ولا أعجبت بكلماته، ولكان إنسانا آخر ذهب فيمن ذهب؛ إنما خلده ألم نفسه، وأبقى اسمه قوة حسه.
ولو شئت لعددت كثيرا من أدباء العرب والغرب، أنطقهم بالأدب حينا ألم الفقر، وحينا ألم الحب، وحينا ألم النفي، وحينا ألم الحنين إلى الأوطان، إلى غير هذا من أنواع الآلام.
نعم قد أجدت اللذة على الأدب كثيرا - لقد أنتجت لهو امرئ القيس وطرفة، وخمر أبي نواس، وفخر أبي فراس، ومجون الماجنين، وفكاهة العابثين؛ وكان غنى ابن المعتز ولذته ينبوعا صافيا لحسن التشبيهات، وجمال الاستعارات - وخلفت لذة هؤلاء أدبا ضاحكا، كما خلف الألم أدبا باكيا. خلفت اللذة أدب المسلاة (الكوميديا)، وخلف الألم أدب المأساة (التراجيديا)؛ ولكن أي الأدبين أفعل في النفس؟ وأيهما أدل على صدق الحس؟ وأيهما أنبل عاطفة؟ وأيهما أكرم شعورا؟ أي النفسين خير: أمن يبكي من رؤية البائسين، أم من ضحك من رؤية الساخرين! أمن رأى فقيرا فعطف عليه، أو هزأة فضحك منه؟! •••
على أني خشيت أن تكون اللذة التي أخرجت الأدب الضاحك ليست إلا ألما مفضضا أو علقما مبهرجا. أليست خمر أبي نواس محورها «وداوني بالتي كانت هي الداء»؟ أوليس قد هام بها فرارا من ألم الدنيا ومتاعب الحياة؟
ولو فتشت عن دخيلة ابن المعتز، لرأيت ألما قد بطن بلذة، وجحيما في ثوب نعيم. •••
ثم تعال إلى الحياة الاجتماعية، ألست ترى معي أن خير الأمم من تألم للشر يصيبه، والضر يلحق به؟ وهل تحاول أمة أن تصلح ما بها إلا إذا بدأت فأحست بالألم؟ أوليس من علامة تماثل المريض للشفاء أن يحس بالألم بعد الغيبوبة؟ ثم من هو المصلح: أليس أكثر قومه ألما مما هم فيه؟ أوليس هو أبعدهم نظرا وأصدقهم حسا! دعته رؤية ما لم يروا، وإحساسه ما لم يحسوا، أن يكون أعمق منهم ألما وأشد منهم سخطا، فلم يسعه إلا أن يجهر بالإصلاح، وأن يتحمل عن رضى ما يصيبه من ألم؛ لأن ألم نفسه مما يرى بهم، أكبر من أي ألم يناله منهم؟ - وما الوطنية؟ أليست شعورا بألم يتطلب العمل؟
ومن نعم الله أن أوجد أنواعا من الألم هي آلام لذيذة تتطلبها النفوس الراقية وتتعشقها. ولو عرض عليها أن تعوض عنها لذائذ صرفة لما قبلتها. فلو عرض على الفيلسوف المتألم لذة غنى جاهل لرفض في غير تردد، ولو خير المصلح المجاهد ينغص عليه قومه، وينغص عليه بعد نظره، وينغص عليه قوة شعوره، ما اختار من حياته بديلا - ذلك لأن آلامه سرى فيها نوع من اللذة لا يدركه إلا العارفون، وأصبح يهيم بهذا الألم اللذيذ، ويرى اللذة الصرفة لذة أليمة - وكل ميسر لما خلق له.
ديمقراطية الطبيعة
يعجبني البحر في جماله وبهائه، وجلاله ولا نهايته؛ ويعجبني كذلك في ديمقراطيته، فهو لا يسمح لأحد أن ينغمس في مائه إلا إذا تجرد من كل المظاهر الكاذبة التي خلقتها المدنية: من ملابسه التي تميز بين الغني والفقير، ومن ريائه ونفاقه ومظاهره التي اصطنعها ليجعل من الناس طبقات يتحكم بعضها في بعض. ففي البحر تتساوى الرءوس، لا غني ولا فقير، ولا ذو جاه ولا عديم الجاه، ولا عالم ولا جاهل، ولا حاكم ولا محكوم، لا يتميزون بشيء إلا بلباس البحر. وفي الحقيقة ليس هو لباس بحر، وإنما هو لباس البر، فليس للبحر لباس إلا ماؤه. ودليل أنه لباس البر أن الناس حاولوا به أن يتميز بعضهم من بعض، واتخذوا منه شعارا للغنى والأناقة واللباقة والوجاهة؛ والبحر لا يعرف شيئا من ذلك. إنما يعرف ذلك البر؛ ومن أجل هذا لا يكاد ينغمس الناس في البحر، حتى يسدل - بمائه الأزرق الجميل - ستارا على كل أثواب الرياء، فلا ترى بعد إلا رءوسا عارية لا يميز بينهما شيء من الصنعة؛ ثم هو يرسل أمواجه تداعب الناس على السواء، فتغازل الأسود كما تغازل الأبيض، وتصفع الجميل كما تصفع القبيح وتعبث بلحية العالم كما تلعب برأس الجاهل؛ وأحيانا يهيج هائجه، وتثور حفيظته، فيزفر من الغضب، حتى ليكاد يخرج من إهابه، ويطفر من ثيابه ويربد وجهه فيلفظ بالزبد، وينتفخ ويرتعد، ويرقص من غير طرب؛ وهو في هذه الحال لا ينسى ديمقراطيته؛ يأتي للباخرة الضخمة قد أخذت زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها فيبتلعها في لحظة؛ لا تغني عنه محصنات العلم القديم ولا الحديث، كما يبتلع أحيانا صبيا وديعا وشيخا ضعيفا، ليبرهن أنه لا يعبأ بقوة ولا ضعف، ولا يخشى بأس كمي، ولا يرحم ضعف أعزل؛ سواء هو في هزله وجده، سواء هو في حلمه وغضبه. ما أجمل البحر، وما أجله، وما ألطفه، وما أقساه!
على أنه يظهر لي أن الطبيعة في جملتها ديمقراطية لا أرستقراطية، ولا أرستقراطية إلا في الإنسان الكاذب؛ فالشمس ترسل أشعتها الذهبية، والقمر أشعته الفضية على الناس سواء: على المؤمن والكافر، والأسود والأبيض، والغني والفقير ، والكوخ الحقير، والقصر الكبير.
ويأتي الجو بريح سموم فتلفح وجوه الناس على السواء، لا تميز عظيما ولا حقيرا، ولا شريفا ولا وضيعا؛ ثم يأتي بريح طيبة تنعش الناس كذلك، لا يعرف في شيء من ذلك محاباة، ولا يعرف طبقات، ولا يعرف أي نوع من أنواع التفاوت التي تواضع عليها الناس؛ ويرسل في الصيف شواظا من نار فيدخل على الأمير في قصره، وعلى الفقير في كوخه، فلا يهاب عظيما، ولا يحتقر وضيعا؛ ويرسل في الشتاء برده القارس، فلا يستطيع أن يتقيه الغني بصوفه وملابسه، ولا بمدفأته وناره، كما لا يتقيه الفقير في عدمه وبؤسه؛ ثم تطلع شمس جميلة، ويعتدل الجو، فتحضن الطبيعة الناس على السواء، وتكون لهم جميعا أما حنونا مشفقة بارة. إن تحدث الباشا أو البك في نفسه بأنه فوق طبقات العامة، وأنه يستطيع في شرع العرف والعادة أن ينعم بما لم ينعموا، فتفسح له الطريق، وتخلي له السبيل، وتفتح له أبواب المجتمعات، ويعامل أولاده وأقاربه بما لا يعامل به الفقراء - فلن تحدثه نفسه أن يمتاز من الفقير في حر ولا برد، ولا نور وظلام؛ فإن أخطأ في ذلك وظن أنه يغالب الطبيعة في شيء من قوانينها صفعته صفعة آمن بعدها بالقدر خيره وشره، حلوه ومره، وأدرك أنه إن علا الناس بماله أو جاهه، وإن تلاعب بأوضاع الناس لسخف الناس، فهو أمام أوضاع الطبيعة حقير ذليل. •••
ثم يأتي القدر فينثر نعمه ونقمه، وشره وخيره على الناس جميعا، فصحة في الأغنياء والفقراء، ومرض في الأغنياء والفقراء. فتجد غنيا فاتر القوى منقوف الوجه، يبيت يتضور من الألم، ود لو خرج من كل ماله وجاهه لتعود إليه صحته؛ وبجانبه فقير مستحكم الخلقة، متين البنية، ممتلئ قوة وشدة وصلابة - وتجد جمالا في الأغنياء والفقراء؛ وقبحا في الأغنياء والفقراء؛ فهذه فقيرة مشرقة الجبين صافية الأديم، مفرطة الجمال، معتدلة القوام، لا تفتح العين على أجمل منها حسنا؛ وهذه سيدتها الغنية دميمة الخلقة، منكرة الطلعة، تنبو عن منظرها الأحداق، وتتفادى من مرآها الأبصار، تريد أن تتجمل بالصناعة والأصباغ والحلي والملابس فلا يزيدها ذلك كله إلا قبحا، على حين أن جارتها الفقيرة جميلة في طبيعتها، جميلة في بساطتها، جميلة حتى في ثيابها المهلهلة.
وللقدر في ذلك بدع - فأشهر طبيب في القلب يموت بالقلب، وأعظم جراح يموت بالتسمم، وتلد الفلاحة الفقيرة في الطريق وهي حاملة جرتها مملوءة ماء على رأسها، وتحمل طفلها وتذهب إلى بيتها سالمة غانمة؛ وسيدتها الغنية يحلل دمها وغير دمها قبل الوضع، ويعقم كل شيء في حجرة ولادتها، ويقف مشهورو الأطباء والطبيبات على بابها؛ حتى إذا آذنت ساعة الولادة بالقدوم استخدم كل ما وصل إليه الطب الحديث، والكيمياء الحديثة، والعلم الحديث، وأمعنت جمهرة الأطباء في التطهير والنظافة واتخاذ وسائل الراحة والحصانة، وغير ذلك مما لم أذكر منه إلا قليلا؛ ثم هي بعد تصيبها حمى النفاس، ويقف كل من الطب والعلم دهشا حائرا، ثم تسلم الروح إلى ربها، والقدر يهزأ بكل ذلك. •••
وهناك نوع من الأرستقراطية غريب، هو الأرستقراطية العلمية، فالمتعلمون ذوو الشهادات يعدون أنفسهم - وربما عدهم الناس أيضا - نوعا ممتازا من الناس، يختلفون عنهم نوعا من الاختلاف، ويرتفعون عليهم نوعا من الرفعة، كما ترتفع طبقة الأغنياء وكما ترتفع طبقة الأمراء؛ فالمتعلم ينظر إلى أخيه الشقيق الجاهل نظرة فيها شيء من التعاظم، وشيء من الازدراء، وشيء من الغرور، وإن ساواه في الدم، وإن ساواه في الغنى أو الفقر؛ وهو لغروره يظن أن شهادته تخوله الحق أن تكون آراؤه في كل شيء خير الآراء، وأن غير ذوي الشهادات لا يحق له أن يبدي رأيا بجانب رأيه حتى فيما ليس له اختصاص فيه.
وهو كذلك نوع من الأرستقراطية الكاذبة لا تعبأ به الطبيعة ولا تعيره أي التفات، فقد جعلت بين المتعلمين أذكياء وأغبياء، وجعلت بين الأميين أذكياء وأغبياء؛ بل من غرور المتعلمين أن يسموا من لم يقرأ ولا يكتب جاهلا وأميا ونحو ذلك من الأسماء، ويسموا من يقرأ ويكتب متعلما، كأن وسيلة العلم والحكمة والعقل القراءة والكتابة وحدهما! ونحن لو نحينا غرور المتعلمين جانبا لهزئنا بالقراءة والكتابة في كثير من الأحيان، ولوجدناهما وسيلة من وسائل الرقي ولكن بجانبهما وسائل أخرى، ولوجدنا أنهما لا يستحقان هذا الغرور الذي ينشئ نوعا من الأرستقراطية؛ فالحكمة في تصريف الأمور لا تعتمد على التعليم الجامعي وسعة العلم كما تعتمد على الفطرة البشرية، والغريزة الإنسانية؛ ومن ثم قد ترى الجامعي الحائز لأرقى الشهادات العلمية، وهو أخرق في الحياة، سفيه التصرف، وأخاه - الذي يسمونه جاهلا أميا - حكيما في تصرفه مدبرا لشئونه وشئون إخوته الجامعيين، وترى الأمة قد تصاب على أيدي متعلميها في أحوالها السياسية والاجتماعية أكثر مما تصاب على أيدي جاهليها؛ والفلاح القروي الأمي قد يرزق من الحزم في تصريفه، وبعد النظر في آرائه، وصدق الشعور في وطنيته، ما لا يرزقه أخوه الأستاذ في الجامعة أو العالم الحائز لأرقى الدرجات العلمية، بل قد يصدر من الرأي العام الجاهل في شئون وطنه وفي المسائل الهامة التي تعرض عليه ما يفوق رأي متفلسفة المشرعين، وحيل القانونيين.
إن نظرنا إلى الذكاء، فالذكاء مشاع بين المتعلم والجاهل؛ وإن نظرنا إلى حكمة التصرف، والحزم في إدارة الأمور، وتدبير شئون الحياة - فذلك أيضا أمر مشاع بين الناس؛ ففيم غرور المتعلمين وإنشاؤهم أرستقراطية بجانب أرستقراطية الأموال والأعمال والطبقات؟ يطالبون أن يكال لهم المال جزافا، ويطالبون ألا يهينوا أنفسهم في عمل، ويطالبون أن يكون ميراثهم من آبائهم أكبر نصيب، ويطالبون أن يكون زبدة ما تخرجه الأمة لهم، وحثالته لما يسمونه الجاهلين.
ما أسعد الأمة تخفف من غلوها في أرستقراطيتها - بجميع أنواعها - وتقلد الطبيعة في ديمقراطيتها واعتدالها.
ما فعلت الأيام
عرفته بالإسكندرية منذ عشرين عاما، شابا رقيق البدن، ضئيل الجسم، مسنون الوجه، شاحب اللون، أظهر مميزاته الرقة والتواضع والتدين، حيي الطبع، شديد الخجل؛ إن جلس في قوم اعتقل لسانه، وأطرق رأسه وأرخى عينيه، وإن صدرت منه هفوة أو شيء ظنه هفوة تمنى لو ساخت به الأرض، وظل يحاسب نفسه ويطيل تأنيبها؛ فآثر الانفراد وأخلد إلى الوحدة، واستأنس بالوحشة؛ فقلت معرفته بالناس، وقلت معرفة الناس به؛ لا يعرف من العالم إلا مدرسته التي يدرس فيها، وبيته الذي يأوي إليه، ومسجده الذي يتعبد فيه ؛ فأما الحياة وشئونها، وجدها وهزلها، وملاهيها وألاعيبها، فلا يدري منها شيئا؛ لا يجلس في مقهى لأنه يخل بمروءته، ولا يذهب إلى تمثيل أو سينما؛ لأنهما لا يخلوان من امرأة سافرة، ولا يشتري شيئا من بقال عنده لحم خنزير خوفا من أن تكون سكينه التي يقطع بها الجبن والحلوى قد مست الخنزير، فلا يطهرها مسح، إنما يطهرها غسل سبع مرات إحداهن بالتراب، ويغض طرفه إذا سار حذر أن تقع عينه على امرأة.
أعز شيء عليه في الوجود دينه، ومثله الأعلى رجل ظهارته دين، وبطانته دين. تفتير عينيه في خشوع دليل على أنه قضى شطر ليله في عبادة ومناجاة. أسبل عليه الدين نوعا لطيفا من الرضى بالقضاء والقدر، فلا يأسى على فائت، ولا يجزع على ميت، ولا يستخفه الفرح لخير، ولا يغلو في الحزن على شر؛ راض بما كان وما يكون، فكل شيء بقضاء وقدر حتى العجز والكيس؛ الرجل الطيب عنده من تدين، ورجل السوء عنده من لم يتدين، ويستحيل على رجل أن يكون طبيبا إذا شرب كأسا من خمر، أو لعب لعبة ميسر، أو ترك صلاة أو زكاة. يوفق دائما بين أعماله في الحياة وأوامر الدين - إذا أراد الرياضة ذهب إلى سيدي بشر لزيارته، أو لسيدي جابر لصلاة الجمعة فيه، أو أخذ جزءا من «الإحياء» وذهب إلى ربوة عالية يخلو فيها بنفسه ودينه وكتاب «الإحياء». وإن أراد أن يحفظ شيئا من الأدب حفظ في «نهج البلاغة»؛ لأنه يجمع بين البلاغة والدين، وإن عرضت فرصة في دراسته للغة العربية خرج من اللغة إلى الدين، وانقلب واعظا لتلاميذه، حتى استطاع أن يكون منهم فرقة دينية تلتزم الصلاة والصوم وشعائر الدين.
عرفته اتفاقا، ولست أدري الآن سبب المعرفة وكيف كانت، وكل ما أذكره أني عرفته، وفي لمحة تحولت المعرفة إلى صداقة فحب، فكان من خاصة إخواني وأقربهم مودة إلى قلبي، يأنس بي وآنس به، ويفضي إلي بدخيلة نفسه وكامن أسراره، عطفني عليه ظرف فيه، وأرأفني به رقة حواشيه، ملأ نفسي رحمة عليه قسوته على نفسه وأخذه لها في كل شيء بالأشد الأحزم، قد ملك الدين عليه نفسه، فروعه من كل نعيم خشية الحساب، وهول عليه كل لذة خوف العقاب، وغلبت عليه في كل تصرف فكرة الموت مخافة ما بعده، إن قال له قائل: «ولا تنس نصيبك من الدنيا» قال: «لتسألن يومئذ عن النعيم».
على كل حال نعمنا بالصداقة حينا تساهمنا فيه الوفاء، وتقاسمنا الصفاء، أسافر إلى الإسكندرية فأرى أول واجب علي أن أزوره، ويحضر إلى القاهرة فيرى أول واجب عليه أن يزورني، وأكتب إليه، ويكتب إلي، ثم عفى الزمان على الصداقة ففترت حرارتها، وخمدت جذوتها، لا لسبب إلا أن الصداقة ككل حي إذا لم تغذ بالمقابلة والمكاتبة أسرع إليها الذبول فالفناء. •••
ثم دارت الأيام دورتها، وتعرفت في الأسكندرية بإنسان جديد، فإذا هو صديقي القديم، هو في هذه المرة بدين بطين، مطهم الوجه، ريان السواعد؛ كنت في أيامي الأولى أقرأ في أرنبة أنفه وصفاء جبهته آيات السذاجة والإخلاص، وكنت أرى في وجهه وجلسته عزوفا عن الدنيا، وزهدا في الاستكثار منها، ورضى بميسورها؛ وكنت ألمح في فتور عينه حياء العذراء وخجل المخدرات؛ وكنت أرى في نبرات صوته وحركات جفونه ونظرات عينه دينا وورعا، فإذا كل ذلك قد استحال كما يستحيل الماء إلى ثلج؛ وعلمت أنه قد ورث من أبيه فأثري، وسمحت لي الظروف بمخالطته فأدهشني ما رأيت من تغير وانقلاب - رأيته وقد أماط عن وجهه قناع الحياء، وخلع ربقة الحشمة، يداخل الناس ويمازجهم، حسن الصحبة، جميل العشرة، يضرب بسهم وافر في المفاكهة والتنادر، جيد القصص، حسن الحديث، لا يأنف من حديث فاجر إذا كانت فيه نكتة حلوة، كثرت أصحابه على اختلاف منازعهم وطبقاتهم؛ وهو عند كل جماعة منهم قطب الرحى، يمتزج بأرواحهم ويتصل بقلوبهم، خبير كل الخبرة بأندية اللهو وما إليها، يعرف جد المعرفة برامج السينما في كل أسبوع، وما يمثل من روايات في كل فصل من الفصول، وعنده الخبر اليقين عن كل مغن ومغنية وفنان وفنانة أتت من مصر إلى الإسكندرية تغني أو تمثل، ذهب عنه خفر عينيه وأصبح يتعشق الجمال ويتتبعه، ويحملق فيه ويشتهيه؛ شغلت المسائل المالية جزءا كبيرا من عقله، فهو كثير التفكير فيها، له ديون وعليه ديون، وله قضايا وعليه قضايا، وله دفاتر حساب دقيقة، وله آمال مالية واسعة.
حادثته مرة، وكان أشد ما أريد استطلاعه منه أن أعرف حال دينه الذي كان يملك عليه قلبه وعقله، والذي كان يغمر حياته ويسيطر على كل خطوة من خطواته؛ فإذا عقله حر شديد الحرية في تفكيره، قد تحرر من كل قيد، يعجب بالمدنية الحديثة ويستلهمها الرأي ويستوحيها النظر، ويتخذ عماد منطقه ومصدر حكمه على الأشياء ما يفعله الأوربيون وما لا يفعلون. قد يعارض ما يراه من ضروب المدنية مبدأ من مبادئ دينه فيظهر عليه نوع من الارتباك والحيرة، ويجمجم في القول ويتبين في قوله الاضطراب بين دين خالط لحمه ودمه شطرا من حياته، وبين عقل نزع إلى الحرية في آخر أيامه، ويشعر بثقل الموقف على نفسه فيجتهد في تحوير الحديث، وتغيير مجرى القول إلى حيث يسترد كامل رأيه، ومنتهى حريته. هذا عقله، وأما قلبه فدينه في رف من رفوفه، لم يملأه، ولم يخل منه؛ لذلك حرت أن أسميه مؤمنا أو كافرا، ماشيته مرة على البحر فرآه جميلا جليلا، ورأى القمر يسطع عليه بنوره الساحر، فصاح: هذا موضع سجود، فصلى على الرمل؛ ودعاني مرة إلى ملهى فكان فيه كمن لا يؤمن بحساب ولا عقاب؛ وهكذا تذبذبت حياته بين نزعة قديمة، ونزعة جديدة، ودين نشأ عليه، وتحرر مال حديثا إليه؛ حينا يتحرك دينه وينتفش حتى يعم قلبه، وحينا ينكمش وينكمش حتى لا يكاد يرى أو يحس. •••
حننت إليه لما بيننا من حب قديم، ولكن لست أدري: لم لم تتأكد بيننا الصداقة في هذه المرة كما تأكدت من قبل، أكان يعطفني عليه دينه وقد رق؟ أم كان يحننني عليه ما فيه من ضعف - مظهره الحياء والخجل، وقد قوي فلا حياء ولا خجل؟ أم كانت تؤلف بيننا وحدة فتعددت، وأسلوب واحد في الحياة فتفرقت بنا السبل؟ لعله شيء من ذلك، ولعله كل ذلك، ولعله شيء غير ذلك؛ على كل حال تركته وبيننا ود دخله العقل فخف، وصداقة جال في نواحيها الفكر فنثرت.
لقد خليته، وأنا أفكر في شأنه. لقد عاش شيخا وهو شاب، وعاش شابا وهو شيخ. عصى هواه صغيرا وأطاعه كبيرا، فليته ولد كبيرا ثم عاد صغيرا. وليت شعري هو في أي حاليه أسعد: أيوم فر من العالم إلى دينه، أم يوم فر من دينه إلى العالم؟ - إنه ليمثل في حياته العالم خير تمثيل، موجة دين تتبعها موجة إلحاد، وموجة روحانية تتلوها موجة مادية، وهكذا دواليك؛ وما أدري أيقف صديقنا في تطوره عند هذا الحد، أم يعود سيرته الأولى، أم يختلط مسلكا جديدا لا هو هذا ولا هو ذاك؟ الله أعلم.
لذة الشراء
بالأمس ضحك مني بائع الكتب القديمة، إذ رآني أقلب في الكتب، وأذهب ذات اليمين وذات الشمال، وأصعد على الكرسي وأنزل من عليه، والكتب بعضها بال عتيق قد غلف بالتراب وأكلته الأرضة، وكلها وضعت حيثما اتفق، لم يعن فيها بترتيب حسب الموضوع ولا حسب الحجم ولا حسب أي شيء، ولم يبذل أي جهد في تنظيفها وعرضها؛ فكتب في الأرض، وكتب في السماء، وكتب في الرف، وكتب على المقاعد، وكتب في الممشى؛ والبائع رجل تقدمت به السن، زهد البيع وزهد الشراء، وإنما يبيع ويشتري لأنه اعتاد أن يبيع ويشتري؛ كل ما في أمره أنه فضل أن يجلس في الدكان على أن يجلس في البيت، إذ يرى الرائحين والغادين، ويستقبل الزائرين، ومن حين إلى حين يبيع كتابا أو كتابين.
وسط هذه المكتبة المغمورة بالكتب، والمغمورة بالتراب، والمغمورة بالفوضى انغمست ببذلتي البيضاء، القريبة العهد بالكواء، أبحث عن كتب نادرة أشتريها، وأتصفح كتبا أتعرف قيمتها، فضحك إذ رأى غراما بالكتب يشبه الجنون؛ ورغبة في البحث والشراء تشبه الخبل.
لا تضحك - يا سيدي - فإنما هي لذة الشراء أصيب الناس بها جميعا، وإن اختلفوا في مقدار الإصابة، فقد تهور فيها قوم، واعتدل فيها آخرون ؛ وهي ظاهرة في منتهى القوة والغرابة، تتجلى بأجلى مظاهرها في الهواة؛ فهذا هاوي سجاجيد يجن جنونه إذ يرى سجادة قديمة، صنعت في أصفهان في القرن الخامس عشرن أو السادس عشر، يحتقرها الرائي العادي، ولا يرضى أن يأخذها ولا بالمجان، ويشمئز أن يراها في بيته، فإذا الهاوي يجري ريقه ويتحلب فمه، كأنه جائع سغب أمام أكلة لذيذة، ولا يجد ثمنها فيستدينه؛ وقد ينقصه الضروري من وسائل العيش ومرافق الحياة فيعمى عنه، ولا يرى أمامه إلا السجادة وشراءها ولتكن النتيجة بعد ما تكون، وسيتكفل الزمن بأداء الدين، وليحمل الزمن وحده عبء ما يحتاج إليه من ضرورات العيش، بل سواء أحلها أم لم يحلها، فليس في الوجود ما يعدل هذه السجادة.
وكذلك الشأن في هاوي طوابع البريد، وهاوي الكتب، وكل الهواة، نمت عندهم على مر الزمان لذة الشراء لما يهوون، وغذاها كثرة الشراء وأحاديث أمثالهم الذين يحيطون بهم وإظهارهم الإعجاب الشديد بما اقتنوا، فإذا نظروا إلى سجادة عجبوا من لونها الباهت، وخيوطها التي هلهلها الزمن، وصورها غير المنسجمة، ونحو ذلك مما يدل على إمعان في القدم؛ وكلما كان خيطها أبلى، ونسيجها أبسط، وتصويرها أتفه، كانت أشد استخراجا للعجب؛ وكانوا أكثر لها تقويما، وأشد لها إعظاما، وكانت لذة الشراء عند الهواة أشد طغيانا، وهم أمامها أشد ضعفا.
هذه اللذة - لذة الشراء - يستغلها أرباب «المزاد»، فهم يثيرونها إلى أقصى حدودها، ويبلغون بها مبلغا جنونيا، فتحتدم اللذات، ويخضع الشارون لتأثير الاستهواء، ويغالون في أثمان ما يعرض حتى قد تفوق أثمان الشيء الجديد؛ ولكن الشيء الجديد يشترى والعقل الواعي في سلطانه، وأما أشياء «المزاد» فتشرى والعقل الواعي قد أسدل عليه ستار من الاستغواء والاستهواء؛ ومن أغرب ما في هذا النوع أنك ترى الكثيرين يندمون إذا اشتروا، ويندمون إذا لم يشتروا!
ولذة الشراء هي السبب في أنك تشتري لزوجتك وبناتك الثوب الجميل، أو الحذاء الظريف، فتعرضه عليهن فلا يعجبهن، ثم يخرجن ويشترين ما هو أقل منه جمالا وظرفا ويعدن راضيات؛ قد يكون السبب أن ما اشتريته ليس على ذوقهن، وأن هناك فرقا كبيرا بين ذوق الرجال وذوق النساء، وأنك إذ تشتري لهن تحكم ذوقك في ذوقهن؛ ولكن يظهر لي أن ذلك في كثير من الأحيان ليس السبب الصحيح؛ وإنما السبب الصحيح أنك إذ تشتري لهن تحرمهن لذة الشراء وهي في نفسها قد تفوق الشيء المشتري نفسه؛ ويفسر هذا أن السيدة قد تخرج وليس في نفسها شيء معين تشتريه، ولا تحس حاجة إلى شيء يشترى، وإنما هي - في أعماق نفسها - تريد أن تغذي لذة الشراء عندها، فما هي إلا أن تمر في دكان سمعان أو شملا أو شيكوريل حتى تشتري، وتشتري كثيرا، وتشتري ما لم يخطر لها على بال؛ ثم ترجع راضية لأنها أشبعت لذة الشراء عندها.
ولو أن الناس - وخاصة السيدات - اقتصروا على شراء ما هم في حاجة إليه لأغلقت دكاكين كثيرة، ولقل العرض وقل الطلب؛ ولكن لذة الشراء عندهم دفعتهم أن يشتروا ما لم يحتاجوا، وأوهمتهم في كثير من الأحيان بالحاجة إلى ما ليس لهم به حاجة؛ وإلا فما حاجتي إلى شراء كل هذه الكتب والمكتبات العامة مفتحة الأبواب؟ وما الحاجة إلى شراء نسختين من كتاب واحد والتعلل في ذلك بأتفه الأسباب؛ وما الحاجة إلى ملء البيت بهذا الأساس وأقل منه يكفي ويزيده حسنا، وما الحاجة إلى شراء المرأة هذه الثياب المختلفة الألوان والأنواع، وقد لا تحتاج إليها مرة في الحياة؟ - لا شيء إلا لذة الشراء.
ويحدث في هذا الباب غرائب؛ فما وقوفك على الدكاكين واستعراضك ما فيها إلا نوع مما تدعو إليه هذه اللذة، فإن اشتريت فيها، وإلا فهو نوع من ظل اللذة كالسكير يتلذذ قليلا من رؤية الشاربين ولو لم يشرب معهم، والمحب يسر بعض الشيء من رؤية المحبين يتواصلون ولو هجره هو حبيبه. •••
قد كان من المعقول والطبيعي أن الناس - وهم يتلذذون هذه اللذة الشديدة القوية بالشراء - يتلذذون كذلك لذة شديدة قوية بالملكية ثم يستمرون على التنعم بها، والتمتع الدائم بملكها، ولكن جرى الأمر في هذا العالم على غير ما يتوقع، فهم راغبون أشد الرغبة في ملك الأشياء، والملكية تذهب بلذتها . فالناس مولعون أشد الولع بالملكية حتى لو استطاعوا أن يملكوا القمر في السماء لملكوه، ولو ملكوه لحرموا جماله؛ وهم مولعون أن يملكوا كل شيء إلى درجة الجنون، حتى لو استطاعوا أن يسلبوا السماء زرقتها، والمزارع بهجتها، والبحار جمالها ليجعلوها في حوزتهم لفعلوا؟ وقد أدرك مهرة الباعة هذا الجنون في الإنسان فتفننوا في عرض ما يبيعون بحسن الوضع وتزويق المعروض وإيهام الترخيص؛ وكثرة الإعلان في شكل جذاب يوقع في الوهم أن الشراء فرصة لن تعود، وأن ملكية الشيء تملأ الحياة سعادة وغبطة. ولو أنك دخلت بيوت الأغنياء والطبقة الوسطى لرأيت كثيرا مما فيها لا حاجة بالبيت إليه، بل قد حمل أكثر مما يطيق حتى ذهبت بساطته، وزاد تعقده، واحتاج إلى زيادة الخدم والأتباع للعناية بنظافته وترتيبه، وجعل الحياة أكثر تعقدا وأشد ارتباكا؛ وما دعا إلى هذا كله إلا لذة الشراء وجنون الملكية؛ وما قصر الفقراء في هذا إلا أنهم لا يجدون ما يطلبون، ولو أتيح لهم ذلك لأفرطوا في الشراء إفراط الأغنياء؛ ولولا جنون الملكية لكانت الحياة أبسط، ووسائل العيش أيسر، والتنعم بها أتم.
وكأن الطبيعة العادلة أرادت أن تعاقب على هذا النوع من الجنون فسلبت المالك أكثر ما يتصور من لذة؛ فالشيء جميل لذيذ ممتع، فيه كل ما يتمنى المرء من سعادة ما لم يملك، فإذا ملك لم يجد فيه المالك كل ما يتصور ويتخيل، وأصبح أقل قيمة مما أمل، ولا تزال قيمته في نقصان حتى يصبح عاديا تافها كأنه والحرمان سواء.
فالقصر الجميل هو أجمل ما يكون في عين من يمر به، ويقل جماله شيئا فشيئا في عين من له به علاقة ما، حتى إذا بلغت المالك وجدت القصر لا قيمة له في نظره، ووجدت شعوره به كشعور الفلاح نحو كوخه، والفقير نحو عشه؛ وكلما طال الزمن بالغني تفه القصر في نظره، وحرم حرمانا تاما من لذة الملكية، وصارت لذته خيالا فقط لمن يمر به ويتصور نعيم سكانه أو ملاكه.
وهذه قاعدة الحياة؛ فأجمل أيام الزوجية قبيل الزواج، أيام يتخيل المرء أو المرأة ما ينتظر من نعيم مقيم، وأيام يسبح خياله أو خيالها في الآمال والأماني التي لا حد لها، ثم تصدمه أو تصدمها الملكية أو شبه الملكية، فإذا كل شيء مألوف.
وأجن بالكتاب قبيل شرائه وعند شرائه، وأبيت ليلة وأنا أحلم به، ولا أسمح لنفسي بالنوم ليلة الشراء قبل تصفحه ومعرفة ما فيه أو على الأقل عناوينه، ثم يوضع في المكتبة وينسى وكأنه لم يملك.
والأملاك الواسعة والغنى الوافر أمل الناس جميعا؛ ولو درسوا - في دقة - حال الأغنياء وشعورهم لوجدوا الفرق الواسع بين ما يتخيلون وما يدرسون، ولوجدوا أن أكثر الأغنياء يعانون الكثير من غناهم؛ ولو عقلوا وخف عنهم جنون الملكية لنزلوا للمجتمع عن شيء مما يملكون ويعانون، فسعدوا وأسعدوا.
أليس عجيبا في هذه الحياة أن ألذ شيء في الملكية هو خيالها.
صندوق الكتاكيت
كان أمس من أيام الشتاء المشهودة، ريح صر، وليل قر، حتى خصرت اليد، وقفقفت الأسنان، ويبست الأطراف، وتجلى «أمشير» بأجلى ما وسم به من هوج ورعن، حتى لو كان طفلا لسال لعابه، أو رجلا لسقطت عنه التكاليف!
ثم انجلى الليل عن صبح بديع: سماء صافية، وشمس مشرقة، حاولت أن آتي لهما بتشبيه جديد، فكانت الشمس في السماء أجمل من كل تشبيه قديم وحديث.
غادرت حجرتى إلى حديقتي الصغيرة المتواضعة فوجدت خادمي قد سبقت، فأخرجت صندوق الكتاكيت إلى الشمس لينعم ما فيه بحرارتها ودفئها - وقع عليه نظري، وصادف ذلك مني تفكيرا في موضوع أكتبه.
شعرت إذ ذاك بشخصيتين من نفسي تتناظران مناظرة عجيبة عنيفة أسجلها للقراء: - لم لا يكون (صندوق الكتاكيت) موضوعا طريفا؟ - إنه موضوع تافه لا يليق بأستاذ في جامعة، ولا بمدرس ولا بمساعد مدرس. إن الجامعيين وأمثالهم يجب أن تكون موضوعاتهم في أعلى السماء، أو أعمق الأرض، ويجب أن تصبغ بصبغة ميتافيزيقية، ويكون فيها الجوهر والعرض، والكمية والكيفية، والأنية والعلية. أما صندوق الكتاكيت فموضوع يثير الهزء والسخرية، ويستخرج من النفس عاطفة الازدراء والاحتقار. - ليس ذلك بصحيح ، فكل شيء في الحياة موضوع أدب، وخير الأدب ما مس الحياة الواقعية، واستخرج من تافه الأشياء فكرة بديعة، أو رأيا طريفا. لقد قال تعالى:
إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها
والكتكوت خير من البعوضة من جميع الوجوه؛ فالبعوضة منبع ألم، والكتكوت منبع لذة - والبعوضة إذا كبرت كانت أقوى على اللدغ وأقدر على الإيلام، والكتكوت إذا كبر كان دجاجة أو ديكا، يسيل لعاب الإنسان إذا تصوره على مائدة أنيقة، أو تخيله وقد أنضجه طاه ماهر.
وضرب الله الذباب مثلا، فقال تعالى:
إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب . وأين الذباب من الكتكوت؟ وقد سميت في القرآن الكريم سور منه بالبقرة والنحل والنمل والعنكبوت!
وقرأت لأديب كبير لا أذكره الآن مقالا بديعا في زنبار أراد أن يخرج من شباك فاصطدم بزجاجه، وحاول مرارا أن يخرج فلم يستطع، فاستخرج الكاتب من ذلك قطعة فنية طريفة في الحرية والاسترقاق، وكيف يبحث الزنبار عن حريته فلا يجدها، ثم هو لا ينساها مهما صادفه من عقبات، وتحمل من آلام.
وكتب فيكتور هوجو قصة طريفة عن برغوث أنقذ أمة من الأمم سلط عليها حاكم ظالم لم تستطع حمله على العدل، ولا إبعاده عن الحكم.
وبعد هذا وذاك كتب مستشرق كبير معاصر كتابا جمع فيه ما قيل في الأدب العربي عن «البراغيث»، واقتراح عليه مستشرق آخر أن يسمي الكتاب «صيحة المستغيث من البراغيث»، إلى ما لا يعد ولا يحصى.
إذا فنظرتك في اختيار الموضوع وأنه يجب أن يكون «أكاديميا»، وأن يعنون عنوانا ضخما يستعمل في اختياره كل ضروب التكلف والتعمق والفلسفة، نظرة أرستقراطية بغيضة يجب أن تتخلص منها وتهزأ بما جرى عليه العرف فيها.
على هذا النحو ظلت الشخصيتان تتناظران، وظلت أصغي إليهما وأقيد أفكارهما، إلى أن طال الأخذ والرد، وأشفقت على القراء استرسالهما في الجدل، وحاولت أن أبتعد عن الصندوق، وأهرب من الموضوع فلم أستطع.
أيها الكتكوت ! فيك كل معاني الحياة ومشكلاتها ومظاهرها. فاسمك - أولا - كتكوت، ويجمع على كتاكيت، ولم أدر من اين أتي لك بهذا الاسم، فقد راجعت القاموس المحيط ولسان العرب، وغيرهما من كتب اللغة، فلم أجد فيها هذا اللفظ للدلالة عليك، ولا يستعمله إلا أهل مصر. أما أهل الشام والعراق فلا يعرفونه. اعتمدت اللغة العربية إهمالك لحقارتك؟ ذلك ما لا أظن، لأني أعلم أن اللغة ديمقراطية تغنى بالجليل والحقير على السواء، بل اللغة العربية مفرطة في الديمقراطية، فقد وضعت لأتفه الأشياء أسماء تعد بالمئات، واحتقرت أشياء عظيمة فلم تضع لها اسما للآن كالراديو والبيانو ومئات من المخترعات الحديثة؛ بل هم وضعوا لك اسما آخر هو «الفرح»، ولكن الفرخ غير مقصور عليك، شاركك فيه كل صغار الطيور حتى استعملوه أحيانا في صغار الشجر والنبات. وأخيرا علمت أنهم وضعوا لك اسم (الفروج) فلم يطلقوه على غيرك من صغار الحيوان، ولكنهم أشركوا معك فيه نوعا من الملابس وغيرها، ولعل العامة كانوا لك أشد إنصافا فوضعوا لك اسما خاصا، ومن أولى بالتخصص منك؟
وبعد، فلا أدري من أين أتى اسمك «الكتكوت»، فسأتركك لعلماء اللغة والاشتقاق ومقارنة اللغات، من سريانية وآرامية وفارسية وعبرية وهيروغليفية، لعلهم يجدون لك أصلا. وعلى كل حال فقد أثبت أن فيك مشكلة من مشكلة الحياة العظمى، وهي مشكلة اللغة، وستثبت أن لك مشكلة أخرى أعظم من هذا وأعقد. فهب أن علماء اللغة استنكروا هذه الكلمة، فأين سلطانهم على لفظك الذي تداولته العامة ونطقت به قرونا؟
فهل إذا صدر قرار بمحو هذه الكلمة؛ لأنها ليست عربية يسمع ويطاع؟ على أي وجه من الوجوه أنت مشكلة حتى في اسمك.
هذه هي الخادم قد رمت الحب للكتاكيت، فلا تسأل عما كان بينها من خصام ونزاع، ومباراة وسباق، وضرب وطعان.
وهل الإنسان إلا هذا؟ وهل تاريخ حياته إلا نزاع وصراع! وقد عبروا عن ذلك أصدق تعبير فقالوا: إن الحياة جهاد - أوليس أكبر باب في كتب التاريخ هو تاريخ الحروب والفتوح، وإعلان الحرب، ومعاهدات الصلح! وكل الفرق بينك أيها الكتكوت وبين الإنسان أنك استعملت في جهادك ونزاعك منقارك الوديع، وجسمك اللين الغض، وجاء الإنسان الراقي، فاستعمل في الحصول على غذائه الكذب والخديعة والرياء والنفاق، واستعمل في مدافعة خصومه كل طرق الكيد والدهاء، واستخدمت الجماعات في حربها كل أنواع المدمرات والمهلكات - وقد أعطى الإنسان عقلا أرقى من عقلك لينظم عيشه فأفسده، ولينظم السلم فنظم الحرب، وليعاون أخاه فعاداه.
أيها الصندوق!
فيك تنازع البقاء وبقاء الأصلح، فيك استكانة الضعيف وغلبة القوي، فيك الضعيف يكره العراك، وفيك القوي يصول ويجول ويدعو إلى النزال، فيك الجمال، وفيك القبيح. - استأنست أيها الكتكوت بالإنسان صغيرا، ثم علمتك التجارب ففررت منه كبيرا.
وكنت مادة صالحة للغذاء، كما كنت مادة صالحة للأدب، فمن قديم استعيرت منك الاستعارات اللطيفة، والأبيات الجميلة، فقد قال الشاعر:
أرى فتنة هاجت وباضت وفرخت
ولو تركت طارت إليها فراخها
وفي حديث عمر: «يا أهل الشام تجهزوا لأهل العراق فإن الشيطان قد باض فيهم وفرخ».
ثم قالت العامة: «الكتكوت الفصيح من البيضة يصيح».
وأخيرا، فيك سر الحياة الغامض - كيف دبت الحياة فيك يوم كنت بيضة، وكيف تطورت جنينا، وكيف نبض قلبك لأول مرة، وكيف خرجت إلى هذا الوجود، وكيف تموت، ولم خرجت ولم تموت؟ لو أفصحت لنا عن كل هذه الأسرار لكشفت سر الوجود، ولما كان هناك مجال لفلسفة ولا حكمة؛ ولكنك أعجزت الفلاسفة، إذ كتمت سرك بين جناحيك، فهامت الفلاسفة على وجوهها، وارتبكت في تفكيرها.
إذا فيك أيها الصندوق الصغير، كل ما في العالم الكبير، من معاني الحياة وغوامضها وأسرارها، وفيك كل مظاهر الإنسان على تبجحه وغروره - وفيك ما حير العقول قرونا، وأجهد الفكر أجيالا. وهل العالم إلا لغز، لو حل جزؤه لحل كله؟ ...
الأحنف بن قيس
ضئيل الجسم، صغير الرأس، متراكب الأسنان، مائل الذقن، ناتئ الوجنة، غائر العينين، خفيف العارضين، أحنف الرجل، ليس شيء من قبح المنظر إلا وهو آخذ منه بحظ، تنبو عن مرآه الأحداق، وتتفادى من شخصه الأبصار؛ وهو مع هذا سيد قومه، سيد تميم، وهي ما هي في العظمة، إن غضب غضب لغضبته مائة ألف سيف لا يسألونه فيم غضب؛ خطير النفس، بعيد المرمى، ما زال يسود حتى بلغ مرتبة لا يسمو إليها أمل، ومنزلة لا يتعلق بها درك؛ إذا أوفد وال وفدا إلى خليفة فالأحنف أحد أعضائه أو رئيسه وخطيبه؛ وإذا اختلف الأمراء على الخلافة فالأحنف أول من يفكرون في اصطناعه، وإذا حزب الأمر وعظم الخطب، فالأحنف من يفزع إليه في المشورة. دوى اسمه بين المسلمين في الأحداث الأولى للإسلام، وخرج منها - على كثرتها وتعقدها واضطراب الهواء فيها - نقي السيرة يقر بعظمته من كان له ومن كان عليه، وظل اسمه علما رفيعا في نواح مختلفة على مر الأزمان؛ إن أرخت الحروب الإسلامية فأحد قادتها وغزاتها، وإن ذكرت الأخلاق فأحد أشرفها ونبلائها، وإن أرخ الأدب والخطب والحكم والأمثال فهو ابن بجدتها.
ولد قبل الإسلام، ولكن لم ينل شرف الصحبة، ووقف من أول أمره وهو فتى موقفا يدل على قوة عقله وصدق نظره، فقد أرسل رسول الله (ص) رجلا إلى بني سعد - رهط الأحنف - فجعل يعرض عليهم الإسلام؛ فقال الأحنف لقومه: «إنه يدعو إلى خير، ويأمر بخير، فلم لا نجيب دعوته؟»
وسرعان ما ساد تميما، وهي قبيلة من أعز القبائل وأقواها وأشرفها، كانت تسكن مساحة كبيرة من جزيرة العرب، وانقسمت تميم لكثرتها إلى فروع كثيرة كانت تتعادى أحيانا وتتحالف أحيانا؛ ولذلك لم يكن عجيبا أن يتهاجى الفرزدق وجرير شر هجاء، وكلاهما من تميم، ولكنهما من فرعين مختلفين. حاربت تميم نفسها ومن حولها في الجاهلية، وشغلت حروبها أياما كثيرة من أيام العرب؛ وكان لتميم راية في الحروب خاصة على صورة العقاب، كما كانت راية بني أسد على صورة الأسد - ثم أسلمت وحسن إسلامها، ولكنها ارتدت أيام الردة إلى أن ردها خالد بن الوليد إلى الطاعة، وكفرت عن ردتها بما بذلت من جهود في الفتوح، حتى إذا تم الفتح سكن بعضها الكوفة وبعضها البصرة، وكان الأحنف بن قيس سيد تميم البصرة.
أنجبت تميم كثيرا من نوابغ الشعراء لا يعنوننا الآن، كما أنجبت كثيرا من السادة والأشراف والعظماء، وكانوا سلسلة كسلسلة الذهب متصلة الحلقات، يتعلم بعضهم من بعض خلق السيادة كما يتعلم العلم على الأساتذة، وكان أستاذ الأحنف بن قيس في ذلك «قيس بن عاصم» المنقري التميمي، الذي قال فيه رسول الله (ص) لما رآه: «هذا سيد أهل الوبر»، وقد قيل لقيس هذا: صف نفسك، فقال: أما في الجاهلية فما هممت بملأمة، ولا حمت على تهمة، ولم أر إلا في خيل مغيرة، أو نادي عشيرة، أو حامي جريرة؛ وأما في الإسلام، فقد قال الله تعالى: «ولا تزكوا أنفسكم». وقد نزل في البصرة، وتعلم الأحنف منه الحلم، ولما مات قال فيه القائل:
عليك سلام الله قيس بن عاصم
ورحمته ما شاء أن يترحما
وما كان قيس هلكه هلك واحد
ولكنه بنيان قوم تهدما
خلف الأحنف قيسا في السيادة؛ وكان أبو موسى الأشعري واليا على البصرة فبعث بوفد منها إلى عمر بن الخطاب، فكان الأحنف أحدهم، وخطب بين يدي عمر يسترعيه النظر لأهل البصرة، فأعجب به عمر وقال: «هذا والله السيد!» فدوت هذه الكلمة في الأنحاء.
أكثر الواصفون في ذكر الأحنف ومزاياه وسيادته، والسيادة أنواع، وقد ترى لكل سيد طعما لا تجده في سيد آخر، ولكل سيد نقطة تتركز فيها عظمته قد لا يشركه فيها سيد آخر؛ فسيد عظمته في شجاعته، وسيد عظمته في سخائه، وسيد عظمته في قول الحق يجهر به والسيف على رأسه؛ فإن نحن سئلنا عن مركز العظمة في الأحنف، فعظمته كانت تتركز في خصلتين تتصل إحداهما بالأخرى اتصالا وثيقا: أنه منح نظرا صائبا يتعرف به المحاسن والمساوي، ومعالي الأمور وسفاسفها، وقل أن يخطئ في ذلك؛ ثم منح إلى ذلك إرادة قوية يحمل بها نفسه على ما أدرك من معال ومحاسن مهما كلفه من مشقة، وحمله من جهد؛ فلو علم أن الماء يفسد مروءته ما شربه، وهي - كما ترى - نقطة ارتكاز تحمل فوقها كثيرا من الفضائل، على حين أن نقطة الارتكاز عند كثير من الناس لا تحمل إلا فضيلة واحدة.
وهذا يفسر كل ما روي عن الأحنف: كان لا يعبأ بالمال، وكان لا يعبأ بالحياة، وكان يفر من الشرف والشرف يتبعه، وكان يخضع للحق إذا لزمه خضوع الذليل المستخذي، وإذا كان الحق بجانبه دافع عنه دفاع المستأسد الضاري، يقف أمام علي وأمام معاوية وأمام زياد بن أبيه، فيجهر بالحق الصريح من غير مجمجة ولا مواربة ولا يبالي ما بعده.
تولى في زمن عمر بن خطاب فتح خراسان، فدوخ الفرس وملكهم يزدجرد، ولقي من الحروب ما تشيب من هوله الولدان، ولكنه صبر وظفر، وأنجد ملك الفرس الترك وأهل فرغانة والصغد، فلم يكن فيهم أمام الأحنف وجنده غناء.
ووقف الأحنف العربي البدوي وليد الصحراء في شملته يطارد يزدجرد المتوج، ربيب النعمة، وعصارة المدنية، وسليل الأكاسرة، ونتاج الحروب المنظمة بين فارس والروم، في العدد والعديد، والجنود والبنود، فظفر التميمي بسيد فارس، وطارده حيثما حل، حتى جاوز حدود بلاده وخرج منها لا إلى رجعة وأقبل أهل فارس على الأحنف فصافحوه ودفعوا إليه الخزائن والأموال وتراجعوا إلى بلدانهم وأموالهم، على أفضل مما كانوا عليه زمن الأكاسرة.
فلما نشبت الحرب بين علي ومعاوية رأى الحق في جانب علي فانضم إليه بقومه، وأعانه بسيفه ورأيه؛ فاشترك معه في حرب صفين ونصحه ألا يكون أبو موسى الأشعرى حكما، وظل مخلصا له العمل والقول حتى قتل علي. ودانت البلاد لمعاوية، فأطاع معاوية في شمم وإباء. دخل عليه يوما فقال له معاوية: أنت الشاهر علينا سيفك يوم صفين؟ فقال له: يا معاوية لا تذكر ما مضى منا ولا ترد الأمور على أدبارها، فإن السيوف التي قاتلناك بها على عواتقنا، والقلوب التي أبغضناك بها بين جوانحنا، والله لا تمد إلينا شبرا من غدر إلا مددنا إليك ذراعا من ختر، وإن شئت لتستصفين كدر قلوبنا بصفو من عفوك، فقال له معاوية: فإني أفعل. ثم استرضاه ومن معه.
ولما أراد معاوية أن يبايع لابنه يزيد أخذ الناس يتكلمون في مدح يزيد والثناء عليه، ويمدحون معاوية على عمله، والأحنف ساكت. فقال له معاوية: ما لك لا تتكلم يا أبا بحر؟ - وكانت كنيته - فقال قولته المشهورة: «أخاف الله إن كذبت، وأخافكم إن صدقت». فكانت كنايته أبلغ من التصريح.
بعد أن قتل علي رأى من مصلحة المسلمين أن يشايع الأمويين، فإن هذا أقرب إلى الوحدة وأدعى إلى الألفة، حتى مع ما هم فيه من ظلم أحيانا وطغيان أحيانا، يدل على ذلك تاريخه وأقواله، فقد استنصر به الحسن بن علي على معاوية فلم يجبه، وقال: «قد بلونا حسنا وآل حسن فلم نجد عندهم إيالة الملك، ولا مكيدة الحرب» - وكان بينه وبين عبد الله بن الزبير جفاء، فلم يشايعه في الخروج، ورأيناه ينصح قوما من تميم أرادوا أن ينضموا إلى ابن الزبير ألا يفعلوا.
ولكنه كان يطيع الأمويين وولاتهم طاعة الحازم العاقل، ينقدهم فيما يرى ويمحضهم النصح في صدق وإخلاص؛ وله موقف مع زياد من خير المواقف أثرا في تاريخ الإسلام، فقد هم زياد أن يقتل الموالي لكثرتهم ومزاحمتهم العرب، فاستشار الأحنف فقال: إن ذلك ليس لك، إن رسول الله لم يقتل من الناس من قال: لا إله إلا الله وشهد أن محمدا رسول الله، وإنهم غلة الناس، وهم الذين يقيمون أسواق المسلمين، أفتجعل العرب يقيمون أسواقهم قصابين وقصارين وحجامين؟ فأذعن زياد لرأيه ونزل على إشارته؛ ويقول الأحنف: إنه ما بات ليلة أطول منها، خشية أن ينفذ زياد فكرته.
ووقف في البصرة موقفا بديعا يصلح بين القبائل المختلفة المتعادية من الأزد وبكر وعبد القيس، ويبذل من ماله ديات لما يقع من القتل حتى يلتئم صدعهم ويجتمع شملهم ويعيشوا في البصرة عيشة هادئة مطمئنة.
لقد عابوا عليه أنه ذكر أمامه الزبير بن العوام عندما ترك القتال يوم الجمل ومر ببني تميم، وقال: جمع الزبير بين الناس يقتل بعضهم بعضا ويريد أن ينجو إلى أهله! فتبعه رجل سمع هذا القول فقتله، فقال الناس: إن الأحنف قتل الزبير بكلامه.
كما عابوه بأنه كان سميعا مطيعا لجاريته «زبراء» حتى كان الناس يكنون عن وقوع الحرب بقولهم: «غضبت زبراء»؛ لأنها إذا غضبت غضب الأحنف، وإذا غضب الأحنف شرعت الأسنة وانتضيت السيوف.
ولكن أي عظيم لا يعاب؟ وكفى الأحنف نبلا أن كانت عيوبه من هذا القبيل لا تخدش شرفا ولا تجرح عرضا.
وللأحنف ناحية أخرى بديعة، هي ناحية أدبية غزيرة أمدت كتب الأدب العربي بغذاء صالح قوي، هو ما روي عنه من جمل حكيمة جمعت إلى حسن اللفظ وقوته، وجودة المعنى وصحته، ونضجت عليها صفات الأحنف النبيلة الشريفة، وكانت خلاصة لحياة حافلة بالتجارب. كانت هذه التجارب والمعاني في رأس أرسطو اليوناني الفيلسوف فصاغها صياغة علم وفلسفة، وكانت في رأس الأحنف بن قيس العربي البدوي فصاغها في شكل حكم وأمثال وجمل موجزة، تحمل معاني غزيرة، فكان لكل مزايا منهجه في النظر، ومنهجه في القول. لقد وصل الأحنف في الإسلام ما بدأ به أكثم بن صيفي من الحكم في الجاهلية، وزاده الإسلام غزارة وفيضا؛ وكانت حياته العملية من حروب واتصال بالسلطان والولاة وخبرة بالناس ونزاعهم وأنظارهم، وسيادته وكثرة سؤال الناس له عما سوده - مدادا صالحا يستقي منها حكمه وأقواله.
من أجل هذا كله نال عند الناس منزلة قل أن يطمع فيها طامع؛ يعجب الناس بعقله حتى يقول سفيان: ما وزن عقل الأحنف بعقل أحد إلا وزنه، ويعجبون بسيادته وهيبته حتى يقول القائل:
إذا الأبصار أبصرت ابن قيس
ظللن مهابة منه خشوعا
فلله الأحنف قائدا في الحروب لا يبارى، ولله الأحنف سيدا في قومه مطاعا، ولله الأحنف حكيما مجربا، ولله الأحنف بليغا مفوها، ولله السعدية إذ رأته فقالت: «نسأل الله الذي ابتلانا بموتك، وفجعنا بفقدك، أن يوسع لك في قبرك وأن يغفر لك يوم حشرك، فلقد عشت مودودا حميدا، ومت سعيدا فقيدا؛ ولقد كنت رفيع العماد، واري الزناد، ولقد كنت في المحافل شريفا، وعلى الأرامل عطوفا، ومن الناس قريبا، وفيهم غريبا، وإن كانوا لقولك مستمعين ولرأيك متبعين. رحمنا الله وإياك».
أكاذيب المدنية
لكل مدنية جانبان: جانب يصح أن نسميه «الجانب المادي»، وجانب يصح أن نسميه «الجانب الروحي».
ونعني بالجانب المادي القوة الحسية وما يتبعها وما يمدها؛ فالتسليح وما إليه قوة مادية، والمخترعات الحديثة - من كهرباء وبواخر وقطارات وطائرات وغواصات - قوة مادية، وما اخترع من صنوف الترف - كاستخدام الكهرباء في شئون الحياة، واستخدام القوى الميكانيكية في تنظيم الأعمال - قوة مادية؛ بل إن الوسائل التي تستخدم لهذه الغاية، كالعلوم الرياضية والطبيعية والكيمياوية والطبية هي أيضا قوة مادية؛ لأن نتيجتها في الحياة هي هذه المخترعات والمستكشفات التي تزيد في ترف الناس ونعيمهم من الناحية المادية، بل المدارس والجامعات التي تعلم لهذه الغاية هي قوة مادية للدولة.
والقوة الروحية هي رسم المثل الأعلى للإنسان، والسعي في الوصول إليه، وهي العمل على إصلاح النوع الإنساني بأكمله من الناحية الفردية ومن الناحية الاجتماعية والسياسية، وهي تعويد الإنسان أن يفكر ويشعر ويعمل لخير الإنسانية، حتى تقرب من المثل الأعلى لها، وهي أن يخفق قلب الإنسان بحب الناس جميعا، وبحب الخير العام لهم جميعا، وهي أن يوضع من النظم ومن طرق التربية ومن القوانين ومن المعاهدات ما يحقق هذه الغاية أو على الأقل ما يقرب منها، وعلى الجملة هي تغذية الروح بحب الخير للإنسانية.
وليس يمكن أن تعد المدنية مدنية راقية إلا إذا وجد فيها الجانبان، وكانا معا راقيين، وكانا متوازيين.
فلننظر - في ضوء هذا القول الجميل - إلى المدنية الحديثة، أهي مدنية صالحة؟ أهي مدنية راقية؟ أهي أمل الإنسانية؟
الحق - مع الأسف - أنها ليست كذلك.
لقد نجحت في الجانب المادي نجاحا فوق ما كان ينتظر، وفشلت في الجانب الروحي فشلا أبعد مما كان ينتظر، فأما الذين يهمهم الرواة والمنظر وحسن الشكل والمتعة المادية فقد صفقوا للمدنية الحديثة حتى كلت أيديهم من التصفيق، وبحت أصواتهم من نداء الاستحسان؛ وأما الذين يهمهم من الإنسان روحه لا جسمه، ومن المادية روحها لا مادتها، فنالهم شيء غير قليل من اليأس. أما المادية فحدث عنها ولا حرج، لقد حلقت الطيارات في السماء، وغاصت الغواصات في قاع الماء، وأتت الكهرباء بالسحر الحلال، تضغط على زر فتبعث ما شئت من أنوار، وتضغط على زر فتبعث ما شئت من حرارة، وتضغط على زر فتبعث ما شئت من حركة؛ هذا التليفون بين أوربا وأمريكا ، وهذا اللاسلكى يفعل أعاجيبه، بل كيف أعد والمخترعات لا تحصى عددا، والعجب منها لا ينتهي أبدا، حتى ظننا أن العالم احتفظ بأسراره كلها منذ خلق، ثم باح بها جميعها لرجال المدنية الحديثة، فلم يعد لديه سر، وكل ما في الأمر تصفية حساب الأسرار.
ولكن لا تخدعنك هذه المظاهر، فالمثل العامي يقول: «لا يعجبنك البيت وتزويقه، فساكنه قد جف رقيه»، لا تنظر إلى المكان وانظر إلى السكان.
هذه مشكلات العمال العاطلين، وهذه الملايين المملينة من البائسين، وهذه الحروب الطاحنة في أسبانيا، بين الشيوعيين والفاشستيين، وهذه الدول كلها تتسلح لتقذف بأبنائها جميعا في أتون من نار مساحته الأرض كلها، وهذا وهذه، مما لا يعد من ضروب الشقاء.
هذا هو القصر السعيد، فأين سكانه السعداء؟ وهذه هي السفينة الجميلة المعدة بكل وسائل الإعداد، فأين بر السلامة؟ وهذا «الفرح»، فأين «العريس»؟!
سر هذا الشقاء كله طغيان جانب المادة على جانب الروح. سر هذا كله أن المدنية الحديثة عجزت عن أن تنظر إلى الإنسان كوحدة على الرغم من أنها قربت بطرق المواصلات والمعاملات بين أجزاء العالم.
لقد قربت في المكان وباعدت بين السكان، تقدمت في علم الجغرافيا ولم تتقدم في علم الاجتماع، استكشفت الجبال والوديان والصحاري والأنهار والبحار، ولم تستكشف قلب الإنسان. عملت على وحدة الإنسان جغرافيا، وعملت على تفريقه اجتماعيا؛ فما أغرب شأنها، وما أصح عينها، وما أضعف ذكاءها!
لقد تساءلت المدنية: كيف نعيش؟ فحسنت كيف نعيش، ولكن لم تتساءل لم نعيش، وكيف يجب أن نعيش، وما الغاية التي لأجلها نعيش، فلم تتقدم في هذا الباب شيئا.
إن العلم كان وسيلة صحيحة لتحسين كيف نعيش، ولكن العلم لا يكفى للإجابة عن بقية الأسئلة، فلم يكن وسيلة صحيحة لها.
لقد ابتكرت المدنية الحديثة فكرة الوطنية فكانت سبب شقائها، ومصدر محنتها، وفقدانها روحانيتها.
لقد كانت الأسرة هي الوحدة، ثم كانت القبيلة، ثم كانت المدينة، ثم كانت أهل الدين الواحد، ثم كانت في المدنية الحديثة الأمة؛ ولكن في كل ذلك شقاء، ولا يمكن أن يسعد العالم حتى تأتي مدنية تجعل الإنسانية كلها هي الوحدة، وهي الغاية، وهي المثل الأعلى.
فكر في أكثر شرور هذا العالم، وكلما بدأ سبب فأرجعه إلى علته الأولى، تصل أخيرا إلى أن علة العلل ضيق هذا النظر في جعل الأمة لا الإنسانية هي الوحدة؛ فالتسلح، والحروب الماضية، والحروب المستقبلة، وكثرة العاطلين، وغلاء الأسعار، والخصومات بين الأحزاب، والخصومات بين الأمم، وعدم وجود المال الكافي للإصلاح الاجتماعي، سببه كله هذه النظرة الضيقة، نظرة الساسة المستبدين إلى أمتهم، يؤيدهم من وراء ستار رجال الأموال والأعمال، وحتى الرجال الذين كانوا موضع الأمل في إعزاز جانب الروح، وهم رجال الدين أصبحوا - كذلك - رجال سلطة.
هذه المدنية التي شرحتها طغت على كل شيء؛ فالأخلاق أساسها هذه المادية، وبرامج التعليم أساسها الوطنية، ومالية الدولة مشلولة بالأغراض الحربية، والآلات المخترعة جعلت أصحاب الأموال والحكومات ينظرون إلى الإنسان نظرهم إلى ترس في آلة، واستغرقت المادة كل تفكير المفكرين، من اقتصاديين وماليين وعلماء وحكوميين؛ ومن اتسع تفكيره لإصلاح روحي أو لإصلاح اجتماعى صدم بميزانية الدولة التي أسست على النظرة المادية، وصدم بالحالة الدولية العامة، كالذي كان في عصبة الأمم؛ فقد خذلت وأصيبت في صميمها؛ لأنها حاولت محاولة بسيطة أن توجه تيار المدنية الحديثة إلى الناحية الروحية، فلما كانت البيئة التي حولها لا تساعدها اختنفت وأصبحت هي الأخرى جسما بلا روح؛ ثم أصبح الناس جميعا وقد فقدوا حريتهم الحقيقية، على الرغم من الطلاء الكاذب من المناداة بالحرية؛ فالحالة الاقتصادية المادية سلبت الناس حريتهم، وجعلتهم يعانون أشد المعاناة وسائل العيش، ولا حرية لهم في التخلص منها؛ وكلما زادت المدنية زادت مطالب الحياة، وتعقدت سبل الحصول عليها، وشعر الناس بضيق من شدة الضغط؛ وهل مع هذا حرية؟ والناس يرون الحرب أزمة المدنية؟ ولكن هذا خطأ؛ فالحرب نتيجة سوء المدنية، ومظهر لحقيقة سوء الحال الاقتصادية والمادية، لا أن الحرب نفسها هي الأزمة؛ فالحرب هي عقرب الساعة التي نراها، ولكن العقارب نفسها ليست إلا مظهرا للآلات الدقيقة المستورة تحت العقارب، وإذا رفعت العقارب لم يتغير سير الآلات في شيء، وكل ما فقدناه هو المظهر والعلامة.
لقد أعلت المدنية الحديثة شأن العقل وغالت في تقديره، وآمن رجالها بأنه وحده هو الأساس الصالح للحياة، فكان من نتيجة ذلك ازدهار العلم إلى حد بعيد، وزادهم تحمسا له ما كان من نتائجه الباهرة في المخترعات والآلات؛ ولكنهم بعد سيرهم الطويل، ونجاحهم الباهر في هذه السبيل، اصطدموا بحقيقة مؤكدة، وهي أن العلم وحده وما تبعه لم يكن السبيل لإسعاد الإنسان.
وأظن أن قد ظهرت موجة علت نفوس الناس تشعرهم بأنهم لم يكونوا بعد العلم أسعد مما كانوا قبل العلم، وتشعرهم بأن المدنية ينقصها شيء كبير.
ما هو هذا الشيء؟
هذا هو الجانب الروحي الذي أشرت إليه؛ ولست أنكر مزية العلم، ولكني أعتقد أنه وحده لا يكفي. إني أفهم من المدنية معنى خاصا، هو أنها «التقدم الذي يقوم به الناس في كل جانب من جوانب الحياة، وفي كل وجهة من وجهات النظر المختلفة»؛ فإذا انحصر التقدم في المادة وحدها والعلم وحده، كانت المدنية ناقصة، كما إذا انحصر التقدم في الروحانية وحدها.
لقد رجحت في المدنية الحديثة كفة المادية، فيجب أن نضع في الكفة الخفيفة روحانية كثيرة حتى تتوازن؛ ولكن ما هذه الروحانية التي نريد وضعها؟
هي أن يخفق القلب بحب الإنسانية كلها؛ فليس هناك أمة مستعمرة وأمة مستعمرة، وليس هناك أسود وأبيض، وليس هناك أصحاب رءوس أموال يتخذون الملايين خدما وعبيدا. هي أن يتجه من بيدهم زمام الأمور إلى الخير العام لا الخير الخاص.
هي أن تلغى الحدود الجغرافية، والحدود الجنسية، والحدود الوطنية، والحدود المالية ونحوها من حدود، ثم يكون المبدأ العام «الإنسان أخو الإنسان يكد ويعمل لخيره».
هي أن يكون مبدأ الإنسانية دينا يبشر به ويعمل من أجله، وتحور مناهج التعليم وقواعد الأخلاق على حسبه.
لو فعلنا ذلك لزالت أكثر شرور المدنية الحديثة من حروب وعطلة وتناحر بين العمال وأرباب الأموال، ولتعاون الشرق والغرب، وتعاون أهل الأديان المختلفة، ولشعر الإنسان بأن أفق تفكيره اتسع، وأفق شعوره اتسع، وشعر أن الأرض كلها وطنه، والناس كلهم إخوانه، ولشاع الحب في جو الأرض، وأصبحنا نستنشقه مع الهواء.
وما لم نصل إلى هذا الحد فالمدنية مجموعة أكاذيب.
المصالحة
من الواضح أن اللغة الحية تتبع الحياة الواقعية للأمة التي تتكلم بها؛ فإذا استعملت الأمة آلة من الآلات أوجدوا لها اسما للتعبير عنها، وإذا اخترعوا مخترعا أو استكشفوا عنصرا أو ركبوا تركيبا جاءت اللغة مباشرة فكملت نقصها بوضع اسم لذلك الشيء الجديد، فتمشت اللغة مع العلم والفن والصناعة؛ وكذلك الشأن في المعاني، فإذا استكشفوا ظاهرة في علم النفس وضعوا لها اسمها، وإذا شعروا بمعنى من المعاني فكذلك. ويكثر استعمال الألفاظ في اللغة ويقل بقدر وقوع الشيء في الحياة العملية وأهميته؛ على حين أن أمة أخرى لا تستعمل هذا اللفظ في لغتها ولا ما يرادفه ويقابله؛ لأنها لم تشعر بهذا المعنى ولم تستعمله.
سقنا هذه المقدمة لمناسبة أننا رأينا في اللغة الإنجليزية كلمة تدور على ألسنتهم كثيرا، ويستعملونها في كتبهم كثيرا، ثم لا نجد لها مقابلا يستعمل في لغتنا العربية؛ وهذه الكلمة وأمثالها في اللغة الإنجليزية يصقلها الاستعمال، ويتحور مدلولها على مر الأزمان، تبعا لما يجري عليه العمل.
تلك الكلمة هي
Compromise ، وقد تنقلت في استعمالات مختلفة حتى صارت الآن تستعمل بمعنى حسم النزاع بين فردين أو أمتين أو حزبين، وذلك بتنازل كل منهما عن شيء من وجهة نظره ومن مطالبه، واتفاقهما بعد ذلك على نتيجة هي وسط بينهم، أخذت بطرف من هذا وطرف من ذاك، وقربت بين وجهة نظر هذا ووجهة نظر ذاك.
وهذه الكلمة بهذا المعنى تدور في الكتب وعلى الألسنة دورانا كبيرا؛ لأن حياة الإنجليز الأخلاقية والسياسية تخضع لهذا المعنى كثيرا، فهو مسلكهم في فض النزاع بين الأفراد في المعاملات اليومية، وفي الخلاف بين أفراد الأسرة، وفي الأحزاب السياسية، وفي المفاوضات بين الدول، وهكذا؛ وعلى الجملة فقد استعملوا هذا المعنى كثيرا في حياتهم فكثر استعماله في لغتهم.
ولكنا لا نستعمله كثيرا في حياتنا فلم نشعر بما يلجئنا إلى استعماله في لغتنا ؛ فإنا إذا تنازع فردان منا أو حزبان صمم كل منهما على وجهة نظره إلى النهاية غالبا مهما كانت نتيجة ذلك من الخراب، واعتقد الاعتقاد الجازم أن رأيه كله صواب لا محالة، ورأي مخالفه كله خطأ لا محالة؛ ولأجل هذا لا يسمح أن يدخل في صوابه شيء من خطأ مخالفه. أما هذا الخلق الذي تدل عليه هذه الكلمة الإنجليزية فيتطلب أن يحترم ذو الرأي رأي مخالفه، ثم يجيز في باطن نفسه أن يكون رأيه خطأ ورأي مخالفه صوابا، أو على الأقل يجوز أن يكون في رأيه بعض الصواب وبعض الخطأ، وفي رأي مخالفه بعض الصواب وبعض الخطأ، فيحملهما ذلك على أن يتقاربا ويتفقا على حل وسط.
لا أجد أقرب في اللغة العربية للدلالة على هذا المعنى من كلمة «مصالحة»، فمن معاني المصالحة القانونية في كتب الفقه أن يكون بين اثنين خصومة وكل منهما يدعي بحق، فيأخذ كل منهما بعض حقه وينزل للآخر عن بعض حقه، فإذا وسعنا هذا المعنى وجعلناه يطبق على المعنويات كما طبق على الحقوق المالية كانت هذه الكلمة أليق للدلالة على كلمة
Compromise
الإنجليزية، ثم إذا أكثرنا استعمال هذا المعنى في حياتنا اليومية اضطر الناس للتعبير عنه بهذا اللفظ فصقل وأخذ حيزه من الأفكار ومن المعاجم.
وبعد، فما الدائرة التي يستعمل فيها هذا اللفظ، وأي مناحي الحياة يستخدم فيها؟
إني أرى أن الحياة العملية في جميع مناحيها مضطرة إلى استخدام المصالحة أو التصالح، وهذا من أهم القروق بين المنطق النظري والحياة العملية؛ فالمنطق بنظرياته يحكم أحكاما صارمة، فهذا أبيض وهذا أسود ولا شيء من الأبيض بأسود، وهذه القضية صحيحة أو خطأ ولا شيء بينهما، وهذا الرأي حق أو باطل لا محالة؛ أما الحياة العملية فليس فيها هذه الأحكام القاطعة الحاسمة، ولكن فيها المصالحة سواء كان ذلك في النواحي الأخلاقية أو القانونية أو السياسية، فكل - إنسان إن دققت النظر فيه - مسرح صغير تلعب فيه الفضيلة والرذيلة وتتحاربان، ثم تتصالحان على أن تتنازل الفضيلة عن بعض تشدداتها، وتتنازل الرذيلة عن بعض استهتارها. وما الفضيلة في الحقيقة إلا الرذائل معدلة أو منقحة.
فالإنسان المتوحش كان يعيش بغرائزه، فلما تمدن عدلت هذه الغرائز المتوحشة وسميت فضائل. فالفضائل بالنسبة للرذائل كالزهرة في البستان والزهرة في الوادي، أو كالقط المستأنس بالنسبة إلى القط المتوحش. فالرغبة الجنسية الفطرية عند المتوحش تحولت إلى حب لطيف في المدنية، والقتل والغارة والانتقام عند المتوحشين دخل فيها العقل والنظام فصارت قانونا وسياسة وعدلا عند المتمدنين. والأنانية عدلت فصارت الثقة بالنفس واحترام النفس ونحو ذلك مما يعد فضائل؛ والحرب بين الأفراد والجماعات دخلها التعديل فسميت منافسة مشروعة كالمنافسة بين التجار والعلماء والأدباء، والمنافسة بين الأمم.
وما لنا نذهب بعيدا، ونظرية أرسطو في الأوساط وهي أن كل فضيلة وسط بين رذيلتين، ليست في الحقيقة إلا من هذا القبيل؛ أي أن هناك رذيلتين تعادلتا وتصالحتا فكان منهما الفضيلة، فالجبن والتهور تصالحا فكانت الشجاعة، والبخل والسرف تصالحا فكان الكرم، والفجور والخمود تصالحا فكانت العفة.
بل لعل هذا هو الشأن في العلم والأدب. فالخرافات وأوهام المتوحشين صارت خيالا خصبا عند المتمدنين ينتج الشعر والقصص، والتنجيم عند الأولين صار علم الفلك عند الآخرين، والسحر والكهانة في الجاهلية أصبحا علم النفس في العصور الحديثة، وتحويل المعادن إلى ذهب في القرون الوسطى أصبح الكيمياء في القرون القريبة، ووصفات العجائز والمعالجة بالتجارب أصبحت على مر الزمان علم الطب بعد أن دخلها كلها التعديل والمصالحة.
وهذا هو الشان في القضاء؛ ففي القضية يتولى محامون جانبا من جوانب القضية يبذلون علمهم وفصاحتهم ومهارتهم الخطابية والقانونية في أحقية جانبهم، ويفعل مثل ذلك محامو الجانب الآخر؛ ثم يقف القاضي موقف الناظر إلى الجانبين ويفاضل بين وجهتي النظرين، فقد يقتنع بجانب منهما ويقضي به، ولكن في كثير من الأحيان يلجأ إلى المصالحة؛ ولست أعني أن يصلح بين الخصمين، ولكن أعني أن يرى لكل خصم جانبا من الحق وجانبا من الباطل فيصالح بين وجهتي النظر ويشتق منهما معا حكمه، فهذا هو التصالح.
فإن نحن جئنا إلى السياسة فمجال القول ذو سعة؛ فالأحزاب السياسية البرلمانية تقوم في قضايا الأمة العامة مقام المحامين في القضايا الشخصية في المحاكم، كل يؤيد رأي حزبه ويدعمه بالحجج، ويبين الخطأ في وجهة نظر خصمه، ثم يقوم الاقتراع على الرأي مقام القاضي في المحاكم؛ وفي كثير من الأحيان تكون المصالحة أيضا، أعني أن يتنازل كل حزب عن بعض رأيه ويأخذ ببعض رأي الآخر وهكذا، نزولا على قاعدة أن كل حزب يجب أن تسيره مصلحة الأمة لا مصلحة حزبه الخاص.
فمعنى الحزب السياسي جماعة لهم مبادئ معينة يرون أن الحكومة يجب أن تسير عليها لتحقيق مصلحة الأمة، ولهم وسائل معينة في تحقيق هذه المبادئ، ولهم خطة معينة في ترقية الأمة من ناحية يرون أنها أهم النواحي، وهم يعملون للوصول إلى الحكم لتحقيق هذه الأغراض النافعة للأمة.
والحكم في صلاحية حزبهم - أو بعبارة أخرى في صلاحية مبادئهم أو عدم صلاحيتها - هو رأي الأمة في الانتخاب.
ولكن مبادئ كل حزب إذا نزلت من سماء نظريتها إلى حياتها الواقعية تبين أنها في حاجة إلى تعديل وإصلاح، وأن مبادئ الأحزب الأخرى قد يكون فيها من الخير ما ليس عند غيرها، فتتصالح المبادئ.
هنا النظر يلطف حدة كل من المتخاصمين، ويحمل كل خصم على احترام خصمه كما يحترم نفسه، وألا يعتقد أنه هو وحده العاقل الأمين وأن خصمه هو الجاهل الخائن، بل يعتقد أن له وجهة نظر جديرة بالاحترام، ولخصمه وجهة نظر أخرى جديرة بالاحترام كذلك.
وبعد، فلعل ما يصيب الشرق الآن من اضطراب سياسي سببه أنهم لم يعرفوا هذا الخلق ولم يفهموا سره؛ ولذلك لا يجدون أنفسهم في حاجة إلى البحث عن كلمة تدل عليه.
أعتقد أن الخصومات الفردية تتلطف كثيرا بهذا الخلق، وأن الخلافات الحزبية تفقد حدتها إذا سارت عليه.
فهذا الخلق يجعل الأحزاب السياسية المتنازعة تحترم وجهة نظر خصومها. وتنظر إليهم كأشراف لا مجرمين، وتعاملهم الند لا معاملة المتهم، وترى أن الحزب إذا تولى الحكم فليس يحكم حزبه، ولكنه يحكم الأمة على اختلاف أحزابها، فهو مطالب أن يعدل في خصمه كما يعدل في مؤيده؛ وهذا الخلق يجعل صاحبه ينظر إلى خصمه كما تنظر كل فرقة في لعب الكرة إلى الفرقة الأخرى كلهم يتسابقون ويتراكضون، وكل فريق يود الغلبة، ولكن قانونهم جميعا في اللعب هو قانون الشرف؛ فإذا انتهى اللعب صافح كل خصم خصمه، ولا غل ولا ضغينة، وتبين لهم أن الخصومة كانت مصطنعة، وأن الغرض قد تحقق للغالب والمغلوب معا، وهو الرياضة البدنية للجميع.
كم أتمنى أن ينتبه الناس لهذا الخلق «خلق المصلحة» وأن يكرروه وأن يستعملوه في لغتهم وفي معاملتهم، وأن يضعوه في أول ثبت الأخلاق بجانب الصدق والشجاعة والعدل.
المادة لا تنعدم
هكذا يقول علماء الكيمياء ويشرحون قولهم، ويبرهنون عليه، ويرون أن المادة تتغير وتتحول وتعود إلى عناصرها الأولى، ولكن لا تنعدم؛ والعالم كله كساقية جحا، تغرف من البحر، وتصب في البحر؛ فقد يحترق هذا المكتب الذي أمامي، لا قدر الله، ولكنه لا ينعدم، بل يتحلل إلى عوامله الأولية، وسيتغذي منها النبات، ويتكون منها خشب جديد، قد يكون مكتب المستقبل.
قال الكيميائيون ذلك، وقصروا قولهم على المادة؛ لأنها مادة عملهم، وموضوع تجاربهم.
ولو عرض لهذا فيلسوف واسع النظر، غير محدد البحث، لقال: «لا شيء ينعدم».
إن الأعمال من خير وشر لا تنعدم، بل تنمو وتتحول، وتؤثر وتتأثر، ولكن على كل حال لا تنعدم. إن كذبة واحدة تكذبها على أولادك في بيتك - من غير أن تعيرها اهتماما - لا تنعدم، فسوف تبيض وتفرخ وتنتج كثيرا من أمثالها، وسوف يكذب أولادك، وستخرج الكذبة من حجرتك إلى سائر بيتك، وستخرج من بيتك إلى المدرسة، وستخرج من المدرسة إلى مصالح الناس ومعاملتهم، فكيف تنعدم؟
قد يدق العمل ويصغر حتى لا تراه أعيننا، ولا تسمعه آذاننا، ولا تشعر به نفوسنا؛ ولكنه موجود، يعمل عمله في هذا الوجود، ويفعل وينفعل، ويتسع نطاقه، ويعمل في دوائر مختلفة قد لا تخطر بالبال؛ وما أظنك تجهل أن حصاة ترميها في البحر الأبيض المتوسط لا بد وأن يتأثر بها المحيط الأطلنطي، وإن لم تر ذلك عيوننا؛ والدليل على ذلك بديهي، فلو كبرت هذه الحصاة ملايين المرات، أفلا تؤمن بهذا الأثر؟ إذا فآمن بأن هذه من تلك، وعلى نسبتها ومقدار حجمها. وجزء من ألف من الشعرة له ظل حقيقي، وإن لم تره عيوننا، ولولا ذلك لما كان لألف ألف شعرة ظل، ولما كان لثوبك الذي تلبسه ظل.
وعملك الخير مهما صغر، له أثره في أمتك مهما صغر، أعلنته أو أسررته، نجحت فيه أو فشلت، علم الناس أنك مصدره أو لم يعلموا؛ وهل مقياس رقي الأمة وانحطاطها إلا عبارة عن عملية حسابية مركبة من جمع وطرح، جمع لما صدر منها من حسنات، وطرح لما صدر من سيئات؟ لتكن هذه العملية أشد ما تكون من صعوبة، ولتحتج إلى ما شئت من آلات دقيقة للجمع والطرح، فإن طريقة الحل لهذه المسألة في منتهى البداهة.
وليس الأمر مقصورا على الأعمال؛ فإذا قلنا: «الأعمال لا تنعدم» فهو تكرير لقول الطبيعيين «المادة لا تنعدم»، وهل الأعمال إلا نوع من المادة؟
بل الأفكار والآراء من هذا القبيل، فالفكرة لا تنعدم، والرأي لا ينعدم؛ فإذا دعوت إلى فكرة، أو جهرت برأي، فقد أخرجت إلى الوجود خلقا جديدا ينطبق عليه القانون العام؛ قد ينجح الرأي وتعتنقه الأمة، بل يعتنقه العالم، وتظهر آثاره في أعمال الناس وحياتهم ونظامهم فتسلم معي بأنه لم ينعدم ولكنه قد يفشل؛ وقد يستعمل الناس في اضطهاده وحربه كل أنواع الأسلحة المشروعة وغير المشروعة، والرفيعة والوضعية، حتى يختفي ولا يظهر في الوجود، فتظن إذ ذاك أنه انعدم، وهو ظن غير موفق؛ فقد يخفى ليعود إن كان صالحا، وقد يحدث قبل أوانه، فيستتر وينكمش، ويبقى حيا يتغذى في الخفاء، وتنميه الأحداث، حتى إذا تم نموه، وتهيأ الناس له، برز إلى العيون ثانية أو ثالثة، وهو أصبر على مقاومة الحرب، وأقوى على مصارعة الباطل، حتى يكتب له النجاح - وحتى إذا كان الرأي فاسدا سيئا لا يصلح لحال ولا لمستقبل فليس مما ينعدم، إنما هو يتحول ويتحور، كلوح خشب لا يصلح بحالته أن يكون شباكا فينجر، أو لوح زجاج ليس بالحجم الذي تريده فيصغر ، أو حديدة لا ينساب شكلها وحجمها فتوضع في قالب جديد بعد أن تصهر؛ وهكذا في الرأي يغير ويعدل، ويطعم بآراء أخرى حتى يخرج خلقا آخر، ولكنه في كل ذلك لا ينعدم. وفرق كبير بين أن نقول: فشل الرأي وفشل المشروع، وأن تقول: انعدم الرأي وانعدم المشروع. فالفاشل موجود والمعدوم معدوم، وشتان بين الموجود والمعدوم. فالرأي الفاشل أو المشروع الفاشل شيء حي قد تلقى درسا من الفشل ليصبح بعد رأيا قويما ومشروعا ناجحا، وهذا لا ينطبق على المعدوم.
بل أذهب إلى أبعد من ذلك، وأرى أن العارض يمر على النفس، أو الخاطر يخطر بالذهن، لا يضيع ولا يذهب سدى ولا ينعدم، وإنما هو دخان قد يكون بعد سديما، ثم قد يكون السديم كوكبا يلمع أو نجما يتألق، وقد يكون على العكس من ذلك صاعقة تحرق، أو وميضا خلبا يبرق؛ وعلى الحالين فسيكون مولودا جديدا، شقيا أو سعيدا. أليس كثير مما يعترينا - من حزن يسبب الكسل والخمول والملل، أو فرح يدعو إلى العمل - سببه طائف مجهول طاف بالنفس، وخطرة متنكرة خطرت لها، فغيرت حالها وكيفتها تكييفا خاصا في هذا الوجود؟ أوليس كثير من الآراء التي أسبغت على هذا العالم نعما، وكثير من المشروعات التي عم الناس خيرها وشرها، بدأت خطرة ثم كانت فكرة، ثم أصبحت بعد عملا؟ أليس مما يكون الإنسان خطراته، فهو خير أو شرير بخطراته، وهو بائس أو منعم بخطراته؟ ولو كشف عنا الحجاب لقرأنا في صفحات الإنسان خطا عميقا خطته في نفس الإنسان خطراته وآراؤه، وهو أدل على الإنسان من مظاهره الكاذبة، ومناظره الخارجية الخادعة.
وعلى الجملة فإن قال علماء الكيمياء: إن المادة لا تنعدم، فكل ما في الوجود يقرر أن «لا شيء ينعدم». إن كان هذا حقا فويل للخير يقصده عن الخير أنه لم ير بعينه آثار عمله، وويل للخير صرفه عن خيره نكران الجميل وجحد المعروف، وويل للمجد عدل به عن جده أن لم يسبح الناس باسمه، ويشيدوا بذكره، ومرحى لمن كان مبدؤه «الخير للخير، ولا شيء ينعدم».
نجار ونجار
استأجر دكانا أمام منزلنا الأسطى حسن النجار.
وهو شاب في نحو الثلاثين من عمره، مهزول الجسم، أصفر الوجه، ينتعل نعلا بالية، ويلبس ثيابا رثة، وعلى رأسه طربوش أسفله أسود، وأعلاه أحمر، قد دفعه إلى الوراء ليظهر «قصته» من شعره، فرعها فروعا ورفعها إلى السماء لتناطح السحاب.
ينظر إليك بعين منتفخة كأنه قريب العهد دائما بنوم طويل ثقيل، ويمشي متطرحا كأن في رأسه دائما فضلة خمار، وعلى وجهه غبرة كأن الماء لم يمسه أبدا؛ أقوى شيء فيه لسانه في السباب، وصوته في النزاع.
ليس لفتح دكانه أو إغلاقه موعد، ولا لعمله وراحته وقت محدد، يحلو له أحيانا أن يغلقه في الصباح ويفتحه في الظهر إذا بدأ الناس يقيلون، وأحيانا يسره أن يتركه مغلقا طول النهار ويفتحه ليلا حيث يبدأ الناس في النوم، فيضيء مصباحه، ويخرج عدده وأدواته في الشارع، ويأخذ في نجارته ما حلى له ذلك، فحينا إلى الفجر، وحينا إلى الصباح؛ تحاول أن تصده عن ذلك وتنصحه فيظهر الطاعة ثم يستمر في خطته؛ وأحيانا تنقلب دكانه في الليل حانة يجتمع وأصحابه فيتنادمون ويتشاربون؛ حتى إذا تمشت الخمر في مفاصلهم، ودبت في عظامهم، ذهبت بهم كل مذهب، وأخذت منهم كل مأخذ، فتغنوا أحيانا، ووقع الغناء في نفوسهم أحسن وقع، وصاحوا جميعا بصوت واحد: آه! ممدودة ما طاوعتهم أنفاسهم - وأحيانا يعدلون عن الغناء إلى تبادل النكات، ويعقبون كل نكتة بضحكة عالية تسر نفوسهم وتخرق آذان جيرانهم.
وإذا فتح الدكان نهارا فمعرض غريب، لا لجودة المصنوعات، ولا دقة المعروضات، ولكن لأصحاب الحاجات قد أتو يطالبون بإنجاز أعمالهم، والشكوى من تأخير طلباتهم؛ ثم يصل الأمر في أغلب الأحيان إلى تدخل البوليس، وأحيانا يكون ما هو أدهى وأمر، إذ يكون قد سلم إليه صاحب حاجة دولابه أو كرسيه لإصلاحه، فلم يجد دولابه ولا كرسيه؛ لأن الأسطى حسن اضطرته الحاجة الملحة فباعه وأضاع ثمنه.
وهكذا أصبح شارعنا بحمد الله معرضا في النهار للسباب والمنازعات والخصومات والبوليس، ومنتدى جميلا ليلا لأهل السماح الملاح، إلى الصباح.
وأخيرا عدت من عملي يوما فرأيت الزحام شديدا على دكان الأسطى حسن، وإذا جلبة وضوضاء، وصياح يملأ الآذان، وإذا المنادي ينادي لبيع عدد النجارة وأدواتها:
منشار في حالة جيدة!
عشرة قروش - أحد عشر - اثنا عشر.
ألا أونا - ألا دو - ألا تريه.
وهكذا حتى تم بيع كل ما في الدكان، وفاء لأجرتها خمسة شهور تأخرت على الأسطى حسن.
وكان شعوري إذ ذاك مزيجا من غبطة وألم، وحزن وفرح؛ فقد آلمتني خاتمته، وأفرحني ما منيت به نفسي بعد ذلك من نوم هادئ سعيد.
ودعوت ربي جاهدا ألا يرغب في الدكان مستأجر بعد، فإن كان ولا بد فكواء أو عطار، لا نجار ولا بائع فراخ ولا مبيض نحاس؛ وقصرت شكواي على الله بعد أن جربت البوليس فوجدته لا يأبه لهذه السفاسف، وليس له من الزمن ما يلفته لهذه الصغائر.
ولكن أبى القدر أن يستجيب دعوتي - وكأن الدكان وقف على سكنى النجارين - فقد سكنها هذه المرة أيضا نجار، ولكنه من صنف آخر، هو نجار رومي، لم أشعر بسكناه إلا بعد شهر، إذ لم يكن في عمله شيء غير عادي، فهو يفتح دكانه وقت العمل، ويغلقها عند الغروب، وينجر فتندمج أصوات دقاته ونجارته في أصوات البائعين وحركات المارين.
دعوته يوما لإصلاح دولاب، فإذا شاب يشترك مع الأسطى حسن في سنه، ويختلف عنه في كل شيء آخر، جميل الهندام، وإن لم يكن ثمينه، صفف شعره في أناقة ولمعان، بينما اعتنى الأسطى حسن «بقصته» فقط - عمل عمله في هدوء وإتقان، وكأنه يحترم نفسه ويحترم عمله، ويقدر نوع معيشته وما يلزم لها، فطلب ضعف ما كان يطلبه زميله فدفعته راضيا.
له في جوارنا ستة أشهر أو تزيد، لم أسمع صوته، ولم أسمع شاكيا من تأخر موعد أو تصرف سيئ؛ ولم يقلق راحتى كما أقلقها من كان قبله، فهو وإن لم يكن كواء أو عطارا كالذي رجوت، فليس شرا منهما، وتبين بعد أن الأمر ليس نوع الصناعة، وإنما هو نوع الصانع. •••
ونزلت بيتا في ضاحية من ضواحي الأسكندرية ، فرأيت (فيلا) جميلة على شاطئ البحر، لا يسكن مثلها - عادة - إلا من ورمت جيوبهم، وانتفخت محافظهم، راديو، وبيانو، وما شئت من أسباب النعيم ورفاعة العيش؛ ولكن لفت نظري رجل يلبس قباء، ويحزم وسطه بحزام، وعليه جاكتة بسيطة نظيفة، قد أرخى لحيته، ودفع طربوشه إلى الوراء، يحمل أقمشة على كتفه يكاد ينوء بحملها، وهو من الصنف اليهودي الذي تراه يجول في الشارع كل يوم يبيع (الدمور) و(الزفير) و(الباتستا). حيرني أمر هذه الفيلا بجمالها ونظافتها، وأمر هذا الرجل يخرج صباحا يحمل سلعته على كتفه وقد سمنت، ويعود مساء وسلعته على كتفه وقد هزلت؛ أمستأجر هذا الرجل حجرة صغيرة في البيت، أم قريب فقير لأصحابه عطفوا عليه وأووه، واحتملوا منه أن يعيش بينهم وينزل في مسكنهم؟ - وفي الحق كان هذا لغزا شغلني شرحه، وأعياني حله؛ ثم هدتني المصادفة البحتة إلى استكشاف الأمر وافتضاح السر: هو رب البيت! وعميد الأسرة، وليس فيها إلا زوجه وأولاده؛ ولكن كلهم يعمل، وكلهم يكسب: هذه الخياطة، وإحدى بناتها معلمة بيانو، وهذا ابنه كهربائي، وهذا الآخر يعمل في مصلحة التلغراف، وكل كاسب يعطي ما كسبه لأبيه، ويجمعون من ذلك ما يجمعه موظف وسط أو فوق الوسط، ثم هم جميعا يعلمون كيف يعيشون، وكيف ينعمون بالعيش بأقل نفقة، ويعلمون ما ينفقون وما يدخرون.
قارنت بين هذا الرجل ورجل مصري آخر، كان يجول أمام بيتنا أيضا، ويحمل سلعة كسلعة اليهودي، وينادي على (حرير المحلة)، وتصورته وبؤسه، وتصورت أسرته وبؤسها، وكيف يتحد العملان، وتتباين المعيشتان. •••
ثم نسمع الشكوى الحارة من العمال العاطلين، والمتعلمين العاطلين، ونسمع من يرجع العلة إلى تفشي الأمية حينا، وإلى نوع الدراسة حينا، وإلى غير ذلك من أسباب؛ وليس في نظري سبب أهم من نقص الأخلاق، ولست أعني أخلاق الكتب، ولكن أعني أخلاق العمل، من معرفة طرق الكسب، وإجادة العمل، وحسن العرض، وعدم الأنفة من مزاولة الحرفة مهما حقرت، وضبط الدخل والخرج، وفوق ذلك كله العلم بفن الحياة.
عاطف بركات
في مدرسة القضاء
1
عزيز علينا أن نقف بالأمس بكرمه ونقف اليوم نؤبنه.
أتت البشارة والنعمى معا
يا قرب مأتمه من العرس
ولكنها الدنيا خط في ماء، أو أثر في بيداء. وما الحياة إلا مهزلة. عمليات حسابية مختلفة الأعداد نتيجتها صفر دائما، يرينا الموت هذه الحقيقة، ولكنها لمعة كلمة البرق، ثم يعود الناس إلى ضلالهم القديم.
تتلمذت للفقيد أربعة عشر عاما، أيام كنت طالبا في مدرسة القضاء وأيام كنت مدرسا مساعدا له في دروس الأخلاق، فطالعت بإمعان وإعجاب صحيفة من حياته غاية في الشرف والنبل والمجد. بل قرأت منه كتابا في التربية والتهذيب ملئ حكمة وروحا وحياة.
درس لنا الأخلاق فابتدع في المادة وفي الأسلوب جميعا، أما في المادة فقد هجر ما كان متعارفا من تدريس الأخلاق على شكل مواعظ تسرد سردا، وانتحى النحو الفلسفي في بحثه بحثا عقليا علميا، فكان يترجم خير ما يقرأ ويمصر ما يترجم، وأحيانا وبالمناسبة ينحي البحث ناحية، ويقص علينا من تجاربه في الحياة ومن مشاهداته في العالم ما يكون خير تطبيق على نظريات العلم.
أما في الأسلوب فكان يرمي إلى أن يعودنا الاستقلال في الفكر والعمل، فكان يلقي الدرس ويشرح نظريته ثم يترك كل طالب يحمل عبء نفسه في كتابة ما سمع وربط الأفكار بعضها ببعض، فكان ذلك من أشق الدروس علينا أولا، وأعودها بالفائدة أخيرا - حتى شعر كل طالب أن درس الأخلاق منحه عينين أخريين نظر بهما للحياة من جديد، وأكسبه قوة على الحكم لم تكن له من قبل، ومنحه قدرة على تقويم الأشياء قيما جديدة.
كان للفقيد دروس أخرى قيمة، ولكن لا بالمعنى المتعارف من الدروس. طريقته فيها أشبه بطريقة سقراط، يظهر في الطلبة أوقات فراغهم فيلتف حوله الكثير منهم، فيتكلم معهم في موضوع تخلقه المناسبة، فيرد عليه الطلبة ويرد عليهم، ويدفع الحجة بالحجة حتى يصل في النهاية إلى تكوين فكرة واضحة عند الطلبة في الموضوع الذي يبحث فيه، فكان ذلك درسا في المنطق العملى من ألذ الدروس.
رأينا منه كيف كانت تعرض الفكرة فيحللها تحليلا في منتهى الدقة ويسلط عليها من أشعة ذهنه ما يضيئها من كل جانب. وكانت آراؤه تدوي بين الطلبة وتعارض وتحاكى وترن في الآذان حتى يأتي موضوع جديد يحل محل القديم.
كذلك كان شأنه مع الأساتذة، يتحين فرصة اجتماعهم فيجلس معهم يستمع لحديثهم، ثم يستمد من قولهم فكرة أو مبدأ يشرحه ويدلل عليه؛ وكثيرا ما يستطرد لنقد فكرة شائعة، أو أسلوب في التربية أو نحو ذلك، وهو فيما يقول شجاع لا يبالي أكان سامعوه على رأيه أو غير رأيه، هشوا له أو امتعضوا منه.
قد كان في المدرسة أساتذة من خيرة المحافظين، وآخرون من خيرة الأحرار؛ وكان عاطف حرا في تفكيره، تحرر عقله من كثير من التقاليد. ليست عادتنا عنده خير العادات ولا آراؤنا خير الآراء، ولا كتبنا المؤلفة خير الكتب؛ فكان يهاجم المحافظين مع الأدب التام في نقده. ينزل إلى ميدان البحث وهو واثق بالظفر، لإمعانه في الفكرة قبل أن يعتنقها، ولوضوح الحقائق في ذهنه وضوحا تاما، وتميز كل حقيقة عن أختها، فلا يختلط بها ما يشابهها، وأخيرا لشعوره بقوة إقناعه؛ ومن ثم كان كبير الثقة برأيه، يندر أن يعدل عنه. وقد أدته هذه الثقة إلى قوته وصلابته في تنفيذ ما يرى؛ فليس يرجع في منتصف الطريق، ولا يبالي بالعقبات العظيمة تعترضه وتقف في سبيله؛ كما لا يعبأ بغضب الغاضبين وسخط الساخطين، ثقة منه بأن الناس سوف يتطعمون الحق، فينقلب غضبهم رضا وكراهتهم حبا. سمعته قبيل وفاته يصف حفلة أقيمت في مدرسة الأمريكيين للبنات فيقول: إن خير ما سمعته في هذه الحفلة قول فتاة في وصف رجل: «إنه يضحي شهرته وجاهه في سبيل نصرة الحق»، فكان إعجابه بهذه الجملة معبرا عما عرفناه عنه من تغلغل هذه الفكرة في نفسه ومصادفتها هوى في فؤاده.
تراه مع شدة وثوقه برأيه واسع الصدر جدا للرأي المخالف، فهو يصغي لكل ناقد، وأحيانا يشتد الناقد في نقده، ويشوب نقده بشيء كثير من الحدة أو التعريض، فيقابل ذلك باطمئنان، ويستخرج الحدة أو التعريض وحده ويضعه جانبا، ثم يستخلص ما في قول الخصم من رأي فيرد عليه.
ومع تمام حريته في التفكير لم يكن تام الحرية في العمل؛ فكان عند وضع الرأي موضع التنفيذ يراعي كل ما يحيط به من ظروف، ويرى الإصلاح تدريجيا لا طفرة؛ فكان يمزج فكرته الحرة بشيء غير قليل من تقاليد المحافظين عند العمل.
ودرس آخر أعظم من هذا كله وهو إدارة المدرسة، فإنها الجو الأخلاقي الذي يتنفس منه طلبة المدرسة وأساتذتها، وفي الحق كانت به مدرسة القضاء م تنبت فيه الأخلاق الفاضلة. أساس الإدارة عنده مصلحة المدرسة لا مصلحة شخصه. فخير أساتذة المدرسة أنفعهم لها ولو كان فيه جفاء، أكسد بضاعة عنده الملق والنفاق، إن دخلا في تقدير العامل فسلبا لا إيجابا.
جد لا يعرف دعة ولا يستوطئ راحة؛ ألم تره قبيل وفاته قد خذلته قواه ولم يسعفه نشاطه، يمشي متطرحا ويكاد يتساقط من الإعياء، وهو مع ذلك يتحامل على نفسه ويتطلب ما يأباه القدر عليه؟
رجل بين الرجولة، يكره السفاسف ولا يتدنى إلى الصغائر؛ لا تسمع له حديثا في تافه من القول ولا سخيف من الهذر؛ إذا تدنى محدثه رفعه هو إلى مستواه فهو مملوء الهيبة موفور الكرامة.
طبع على أن يعشق العمل يسند إليه، فهو يعطيه كل قلبه وكل تفكيره وكل حديثه، وإن شئت فقل: وكل أحلامه؛ أسندت إليه المدرسة فكانت شغله الشاغل: هي أغنيته وهي أحدوثته وهي شكواه وهي مفخرته.
من أجل هذا تراه يستقصي دقائق عمله ويستشف بواطنه ويدير بيده دقيقه وعظيمه، ولا يطمئن لشيء لم يشرف هو بنفسه عليه؛ فالناس منه في راحة وهو من نفسه في عناء.
كان في المدرسة نحو أربعمائة طالب؛ ولست أكذبك إذا قلت: إن كل طالب كان يشعر أن ناظره يعرفه ويقدره ويزن كفاياته العلمية والخلقية، وأن نظره ينفذ إلى أعماق نفسه فيعرف بواطنه. قد أعد للطلبة دفترا وجعل لكل طالب صفحة يقيد فيها بخطه ما يصدر عنه.
ظهرة يشف ظاهره عن باطنه ويتمثل قلبه في لسانه. عمله في النور دائما، ليس للدس ولا للجاسوسية رواج عنده.
صدق في القول حتى لم يأخذ عنه أستاذ ولا طالب كذبة، وإرادة جبارة تستهين بالشهرة والمنصب والمرض، وعدل دقيق مضمن مع من يحب ومن يكره، مع ذي الحول ومن لا حول له، لا يبالي من يعادي متى صادق الحق. من طلب منه غير الحق رده في أناة، فإن أعاد عليه الرجاء رده في جفاء.
هذا إلى صراحة في القول نادرة شعرنا بمرارتها لما شاع عندنا من نعومة في المعاملة وغلو في المجاملة - لا يجد التردد إلى نفسه منفذا، إن قال: لا فلا إلى الأبد أو نعم فنعم لا إلى حين.
وهو في سياسته سيكولوجي ماهر، يشتد ويلين، ويوعد ويعد، ويعبس ويبسم بميزان دقيق، يعالج فلا يخطئ في العلاج، تارة بالسم وطورا بالترياق. شعر طلبته بأنه كبير العقل كبير النفس دقيق النظر دقيق العدل، فهابوه، وشعروا بأنه يستر وراء ظاهره غير الناعم قلبا رحيما فأحبوه، فكان من ذلك هيبة وحب قل أن يجتمعا لرئيس.
هل رأيت مثله كثيرا ناظرا يرى كل طالب أن علم ناظره بجريمته أكبر من كل عقوبة، ويتمنى أن يعاقب على يد غيره ضعف العقوبة على يده؟ أو رأيت ناظرا فزع طلبته لخروجه من بينهم كما فزعوا يوم خروجه حتى كاد يقضى عليهم من الغم؟ أو رأيت جزعا يفتك بالصبر وحزنا يقلقل الأحشاء كالذي كان عند وفاته؟ •••
ولم يكن ما يعانيه من شئون المدرسة في الخارج بأقل مما يعانيه في شئونها الداخلية؛ فما السفينة لعبت بها الأمواج وأشرفت على الغرق يحاول ربانها النجاة بها، ولا البيت تلتهم النيران ما حوله ويعمل صاحبه على الحيطة له، يعادل ما كانت تعاني مدرسة القضاء من أغراض عديدة وسلطات قوية تريد القضاء عليها، ومع ذلك ظلت المدرسة زهرة المدارس ما بقيت في حماه.
تسلمها نواة صغيرة وسلمها شجرة يانعة.
ومن غريب أمره أنه مع كل ما يعمل ويعاني لا تكاد تسمع له حديثا عن نفسه! تكون المدرسة في أحرج أوقاتها وهو يعمل بجد، ويهرب بها من المعارف إلى المجلس الأعلى للأزهر ، ومن المجلس الأعلى إلى الحقانية، ويعاني في ذلك الأمرين؛ فإذا جلست إليه سمعت كل شيء إلا أنه عمل أو عانى، وإذا ظفر بطلبته لم تظفر منه أنت بكلمة يحدثك بها عن نفسه.
هذا عاطف لمن يعرفه، وهذا عاطف الذي غاب عن مدرسة القضاء ليطلع في أفق المعارف فغاب في مشرقه.
فاللهم كما قدرت علينا عظيم الرزء فقدر لنا جميل الصبر، وكما سلبت الأمة عظيما فعوضها عظيما، وأحسن إليه كما أحسن إلى أمته.
محضر جلسة
تذاكر جماعة - من ذوي الرأي - في الأدب العربي وحاجته إلى الإصلاح، وفيما له من ثروة قديمة قيمة تحتاج إلى الإحياء، واقترحوا أن يكونوا جمعية للأخذ بناصر الأدب ونشر ذخائره؛ وكان من بينهم من ينتسب إلى الجامعة الأزهرية، ومن ينتسب إلى الجامعة المصرية، ومن ينتسب إلى المجمع اللغوي، ومن هو عضو في لجنة التأليف والترجمة والنشر، ومن يتصل بدار الكتب، وغيرهم؛ وصحت عزيمتهم على ذلك، وعهدوا إلى أحدهم بوضع مشروع قانون للجمعية يحدد غرضها، ويوضح نهجها، واختاروا يوم 15 ديسمبر سنة 1936 الساعة الخامسة بعد الظهر لقراءة المشروع.
فلما حان الموعد حضر واحد فقط، وخيل إليه أنه أخطأ اليوم، أو أخطأ الساعة، أو أخطأ المكان، فأعاد قراءة الدعوة فإذا كل شيء من الزمان والمكان صحيح. وبعد ربع ساعة حضر آخر. فتبادلا العجب من عدم حضور الأعضاء في الموعد.
وأخذ من تأخر يلقي محاضرة قيمة في المحافظة على الزمن، وكيف هي عند الإنجليز والفرنسيس والألمان، وما جرى له من أحداث في هذا الباب أيام كان في أوربا، وحاجة المصريين إلى معرفة قيمة الوقت؛ وقد استغرقت محاضرته القيمة ربع ساعة كان قد حضر أثنائه عضوان آخران فاشتركوا جميعا في الحديث في هذا الموضوع، وكل يروي نادرة فيه طريفة، وقصة ممتعة؛ وتختم النادرة أو القصة بضحكات عالية يدوي بها المكان، وتتخلل الضحكات تعليقات على ما يروى تسلسل الضحك وتتابع الفكاهة.
ولا أطيل عليك، قفد تم اجتماع أغلب الأعضاء في الساعة السادسة والنصف وقد أعتذر بعضهم بزيارة صديق له عند خروجه، وآخر بتعطيل الترام له، وثالث بأنه من عادته أن ينام بعد الظهر وقد طال نومه على غير عادته، ورابع بأنه نسي الموعد لولا أنه لقي فلانا مصادفة نذكره به.
أخذوا يتناقشون في هل يختارون رئيسا للجلسة حتى يتم القانون؟ انحاز إلى هذا الرأي فريق؛ لأنه لا بد لكل جلسة من رئيس يدير المناقشة ويأخذ الأصوات؛ وعارض فريق بحجة أننا نريد أن نكون ديمقراطيين لا رئيس ولا مرءوس، وأنه حتى بعد أن يتم القانون لا حاجة لنا إلى رئيس، فكلنا سواسية في الرأي، ويكفي أن يكون للجلسة «ناموس» يدون الآراء ويأخذ الأصوات.
ولا أطيل عليك أيضا فقد وافت الساعة السابعة والجدل على أشده في هذا الموضوع الخطير! وعند تمام الساعة السابعة ونصف انتصر الفريق الأول فكان لا بد من رئيس.
ولكن عرضت مشكلة أخرى أخطر من الأولى: هل يختار الرئيس بالسن أو بالاقتراع السري؟ قال قوم بهذا، وقال قوم بذاك. وكاد يحتدم الجدل على نمط المسألة الأولى لولا أن أحد الحاضرين قال: أختار فلانا ليدير هذه الجلسة. فخجل الآخرون أن يطعنوا في هذا الاختيار، فسكتوا وكفى الله المؤمنين القتال. •••
وطلب من المقرر أن يقرأ المادة الأولى فقرأها، ونصها: «أنشئت بمدينة القاهرة جمعية تسمى جمعية إحياء الأدب العربي».
أ :
هل يقال: «أنشئت» أو «تنشأ»؟ أظن الأصح أن يقال: «تنشأ»؛ لأن الجمعية لم تتكون بعد، فكيف يعبر بالماضي فيقال: «أنشئت»؟
ب :
هذا رأي في محله؛ لأن إنشاء الجمعية مستقبل، والذي وضع للدلالة على المستقبل هو الفعل المضارع والأمر لا الفعل الماضي. فإذا قلنا: أنشئت دل على أنها تكونت في الزمن الماضي، وليس ذلك بصحيح.
ج :
الفرض في القانون أن يوضع في شكل يدل على أن الجمعية أقرته، فواضع القانون فرض أن الجمعية اجتمعت وأقرت القانون وألبسته ثوبه النهائي؛ ولذلك يوضع في صيغة الماضي.
د :
وأمثال ذلك كثيرة، فكاتب العقود يقول: «في تاريخه أدناه قد باع فلان لفلان كذا»، ثم يمضي البائع والمشتري العقد؛ وقبل الإمضاء كان البيع مستقبلا، ومع ذلك عبر عنه بالماضي.
ه :
ومع هذا فلم تذهبون بعيدا؟ والماضي يستعمل في المستقبل كما قال تعالى:
أتى أمر الله فلا تستعجلوه ، فأمر الله هو يوم القيامة وهو لم يأت بعد، وإنما عبر عنه بالماضي للإيذان بأنه أمر محقق، أو للتنبيه على قرب مجيئه؛ فهنا كذلك، لما كان تكوين الجمعية محققا إن شاء الله أو قريب الوقوع يعبر عنه بالماضي على سبيل المجاز.
و :
الأمر أبسط من هذا كله، فإذا قلنا: «أنشئت» أو «تنشأ» لا يترتب على ذلك ضرر، وهو لا يقدم الجمعية ولا يؤخرها؛ إنما ينهض بالجمعية عملها في تحقيق غرضها، فإذا حققته لا يضرها أنشئت أو تنشأ، وإذا لم تحققه لا ينفعها أنشئت أو تنشأ.
أ (محتدا) :
ولكننا نجتمع لإحياء الأدب العربي، فأقل ما يجب علينا أن تكون عبارتنا صحيحة لفظا ومعنى، نحوا وبلاغة، وإلا أعطينا مثلا سيئا لإحياء الأدب العربي.
الرئيس :
أظن أن الأمر واضح؛ فلنأخذ الآراء على «أنشئت» أو «تنشأ».
ز :
لكن بقيت مسألة: أليست «تكونت» خيرا من «أنشئت»؟ لأن الإنشاء في اللغة هو الخلق، والخلق يكون من العدم، وليس أفراد الجمعية معدومين حتى يقال فيها: أنشئت؛ إنما هي موجودة مفرقة، فهي تتجمع وتتكون لا تنشأ.
أ :
ومن قال: إن التكوين لا يكون من العدم؟ ففي كتب المتكلمين «إن التكوين إخراج المعدوم من العدم إلى الوجود»، وفي التوراة سفر اسمه سفر التكوين وفيه حكاية خلق العالم، والعالم قد خلقه الله من العدم. (أراد «ز» أن يرد عليه فقاطعه الرئيس وأخذ منه الكلمة).
الرئيس (فى شيء من الضجر) :
أرى أن نكتفي بهذه المناقشة في هذا الموضوع، ونأخذ الأصوات على ما يأتي: هل نقول: أنشئت أو تنشأ، أو تكونت أو تتكون؟
أ :
لا، بل نأخذ الرأي - أولا - على أن تصاغ الكلمة من مادة الإنشاء أو من مادة التكوين، وبعد ذلك نأخذ الرأي: هل نعبر بالماضي أو المضارع.
الرئيس :
وهو كذلك. (أخذت الآراء - أولا - فكانت الأغلبية في جانب مادة الإنشاء؛ ثم أخذت - ثانية - فخرجت الأغلبية في جانب أنشئت).
الرئيس :
إذا ننتقل إلى المادة الثانية.
أ :
لا، بل لا تزال هناك مسألة في المادة الأولى على جانب كبير من الأهمية.
الرئيس :
وما هي؟
أ :
التعبير «بإحياء الأدب العربي» فإن هذا التعبير لا أقبله، وأحتج عليه بكل قوتي؛ فإنه يدل على أن الأدب العربي ميت ونحن نريد إحياءه، فهل كان الأدب العربي ميتا؟ إنه حي، وكان حيا في العصور الماضية وسوف يبقى حيا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها؛ وكيف نقول: إن الأدب العربي قد مات وعلى رأسه القرآن الكريم، وقد قال الله تعالى فيه:
إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون . إن الأدب العربي حي، وكل ما نريد أن تعمله الجمعية أن تنظمه أو تنشر كتبه القديمة؛ فأما لفظ الإحياء فلا؛ وأنا أنذركم أنكم إذا أصررتم على لفظ الإحياء انسحبت من الجمعية. (هنا ساد المجلس صمت رهيب).
ج (تشجع وقال) :
في الواقع إن المسألة لا تحتاج إلى كل هذا، فلفظ الإحياء لا يدل على سبق الموت؛ ألا ترى يا أستاذ «أ» أن الغزالي سمى كتابه الكبير «إحياء علوم الدين»، فهل كانت علوم الدين قبله ميتة؟ كلا. إنما أصابها نوع من الركود والجمود، فأراد الغزالي أن يزيل عنها ركودها وجمودها، وأن يعرضها عرضا جديدا يتفق وذوق عصره؛ ولم يقل أحد: إن الغزالي صبأ أو كفر أو تزندق بتسمية كتابه هذا الاسم. وموقفنا الآن من الأدب العربي هو موقف الغزالي من علوم الدين؛ نريد أن ننهض الأدب ونعرضه في شكل حديث يتفق وأذواق الناس في هذا العصر.
د :
وأيضا فإن الإحياء ترجمة لكلمة «رينيسنس»
Renaissance ، وقد استعملها الفرنج للدلالة على حركة النهضة العقلية في أوربا وبعث المدنية من رقدتها، والمعنى الحرفي لهذه الكلمة «الولادة من جديد»، فاختار الكتاب المحدثون كلمة الإحياء للدلالة على ذلك.
الرئيس :
نأخذ الأصوات على بقاء كلمة «إحياء الأدب العربي» أو تغييرها.
أ، ه، ي (في نفس واحد) :
لا! المناقشة لم تستوف بعد.
الرئيس :
الساعة الآن التاسعة فلنؤجل المناقشة إلى الجلسة المقبلة.
الجميع :
موافقون.
قال صاحبي: ومتى تنتهي قراءة القانون؟
قلت: في المشمش ...! (طبق الأصل )
أدبنا لا يمثلنا
في رأيي أن الأدب العربي - بحالته التي هو عليها الآن - لا يصلح أن يكون غذاء كافيا للجيل الحاضر، سواء في ذلك الأدب القديم والأدب الحديث والأدبان معا.
قد يكون الأدب الإنجليزي قديمه وحديثه صالحا للإنجليز في الوقت الحاضر، وقد يكون الأدب الفرنسي والألماني كذلك. أما الأدب العربي فليس صالحا للأمم العربية.
ذلك لأن الأدب إنما يعد صالحا للأمة إذا كان مظهرا تاما شاملا صادقا لحياتها الاجتماعية على اختلاف أشكالها، في جدها وهزلها، في صبا أفرادها وكهولتهم وشيخوختهم، في آلامهم وآمالهم، في حياتهم اليومية، في البيت والمصنع ودور اللهو والتمثيل، في حياتهم السياسية وحياتهم الاقتصادية؛ فإذا استطاع أدب الأمة أم يملأ كل هذا الفراغ عد أدبا صالحا كافيا، وإلا لم يكف وحده.
فلننظر في ضوء هذه النظرية إلى الأدب العربي، فماذا نجد؟
نجد أن الأمم العربية - من مصريين وشاميين وعراقيين وغيرهم - بين أدبين: أدب عربي قديم، وأدب عربي حديث.
فأما الأدب العربي القديم:
فلا يمثل إلا أجياله ولا يمثل جيلنا، وهو صورة للحياة الاجتماعية التي نشأ فيها، وليس صورة لحياتنا. إن الشعر الجاهلي صورة صادقة لحياة الجاهلية في لغته وعقليته، وإبله وأطلاله، وامرأته وأرضه، وليس شيء من ذلك يمثلنا. والشعر الأموي والأدب الأموي صورة من صور الحياة الأموية في نزاعها السياسى وعواطفها، وانقسامها إلى حياة بدوية وحياة حضرية وحياة بؤس بجانب حياة ترف، وعصاة يهددهم أمثال زياد بن أبيه والحجاج الثقفي، وحياة دينية يعظ فيها الحسن البصري وأمثاله، فلا خطب الأولين تمثل حياتنا، ولا مواعظ الآخرين أخذت وقائعها من أحداثنا.
وكذلك قل في العصر العباسي وأدبه؛ لقد كان العصر العباسي لا يتحرج من ذكر أفحش الألفاظ وأفحش العبارات، فكان الأدب صورة من ذلك، وهذا لا يتفق وذوقنا؛ وكان الأدب يستمد حياته من حياة القصور ووقوف الشعراء بأبوابها يمدحون، وليست حياتنا في شيء من ذلك؛ وكان الشعراء يتغزلون في الغلمان، ونحن نستهجن هذا الضرب؛ وكانوا يتهاجون بأفحش الهجاء، ونحن لا نستسيغه؛ وكانوا ينقسمون سياسيا إلى من يؤيد البيت العباسي ومن يؤيد البيت العلوي، وقد ذهب ذلك كله.
وعلى هذا النمط يصح أن يقال في العصور التي جاءت بعد العصر العباسي إلى قبيل عصرنا.
هذا النوع من الأدب العربي القديم لا يصلح أن يمثلنا، ولا يسمى أدبا لنا بالمعنى الدقيق للكلمة.
ولست أحب أن يفهم من هذا القول أني أنكر فائدة الأدب القديم وقيمته، فإن هذا القول لا يقول به عاقل، ولكني أريد أن أقرر أن فائدته كفائدة كل أدب «كلاسيكي»، هو أدب أرستقراطي يعنى به الخاصة من أهل الأدب لا العامة، هو أدب لدراسة المتخصصين لا أدب للشعب عامة، يعنى به من يدرس تاريخ الأدب كما يعنى المؤرخون بدراسة التاريخ.
ولست أشك أن قسما منه صالح لكل زمان ومكان كالحكم والمواعظ، وما يمثل العواطف العامة المشتركة بين الناس كلهم كالسرور والحزن والوفاء والغدر؛ ولكن حتى هذا القسم إن كان عاما وصالحا للناس كلهم بحسب موضوعه، فأكثره غير صالح لأهل زماننا من حيث أسلوبه وطريقة عرضه ونحو ذلك. ومن أجل هذا يستعين الجيل الجديد على تفهمه وتذوقه بشرحه وتفسيره، وهذا الشرح والتفسير يضعف من قيمته؛ إذ فرق كبير بين أن تكون مستعدا لتذوق الشيء مباشرة من غير شرح، وأن تتذوقه بعد عناء الشرح والاستعانة بلفظ على لفظ وجملة على جملة، وقل أن يسد الشرح مسد الأصل.
والنتيجة لهذا كله أن الأدب القديم ثقافة الخاصة لا ثقافة العامة، وثقافة العدد القليل لا الجم الغفير. وليس يكفي ذلك وحده في أداء رسالة الأدب العامة، إذ هو لا يؤدي رسالته حتى يجد الناس فيه - عامتهم وخاصتهم - التعبير الفني عن مشاعرهم، والصور الفنية التي تصور عواطفهم، وميولهم وأمانيهم، وأحزانهم وأفراحهم؛ وليس يستطيع الأدب القديم أن يحقق هذا الغرض إلا إذا عرض عرضا فنيا جديدا. •••
أما الأدب الحديث العربي:
فهو كذلك لا يكفي لغذاء الجيل الجديد؛ لأنه لم يملأ حياتنا، وإن شئت فاستعرض كل شئون الحياة تجده لم يحقق رسالته؛ فإن أحببت أن تضع في يد أطفالك في سنيهم المختلفة كتبا في القصص أو في الثقافة العامة لم تجد إلا القليل الذي لا يكفي، على حين تدخل المكتبة الأوربية فيملؤك العجب والإعجاب من وفرة الكتب للأطفال على اختلاف أنواعها، ومما حليت به من الصور الجذابة، والأسلوب المشوق البديع؛ فالأوربي يحار فيما يختار لأطفاله لوفرته، ونحن نحار فيما نعطي لندرته. وإن توجهت وجهة الأناشيد والأغاني رأيت فقرنا في هذا أبين من فقرنا في سابقه؛ وهي بين عامية مبتذلة سخيفة لا تمثل حياتنا ولا تساير نهضتنا. وبين عربية قليلة ضعيفة فاترة؛ وإن التفت إلى الكتب التي تغذي الشعب والجمهور رجعت بالخيبة، وحتى كتب المتعلمين إنما تكثر إذا كانت مقررة في المدارس ليؤدي الطلبة منها امتحاناتهم، أما ما عدا ذلك فقليل ضعيف.
إنما نبتهج بالأدب الحديث يوم نرى الطفل يجد فيه غذاء صالحا متنوعا، ورجل الشارع يجد فيه ما يناسبه، وتلميذ المدرسة وخريج المدرسة يجدان الأدب وافرا حسب استعداهما، ومن يريد أن ينشد نشيدا أو يغني أغنية يجد مجال الأدب أمامه فسيحا، ومن يجد الأدب في الجد والأدب في الهزل، ويجده في دور السينما والتمثيل، ويجده في كل شيء وفي كل ظرف وفي كل أسلوب.
وإذا فما أبعدنا عن نيل هذا المثل!
والواقع أن أدب كل أمة يجب أن يساير نهضتها، وأدبنا الآن لا يمثلنا، وهو وراء نهضتنا، ويجب أن يكون أمامها، وهو كالثوب القصير للرجل الطويل، أو كالثوب المرقع للرجل الغني، أو كالثوب البدوي للمرأة المتحضرة. •••
وأهم علاج لهذا النقص عناية العالم العربي بتكوين طائفة من الأدباء تكوينا عربيا غربيا، وإمدادهم إلى أقصى حد بالأدبين معا ليتولوا الإنتاج بعد.
فالأدب العربي فيه الأسلوب وفيه ثروة دفينة قيمة، ولكنها حبات من اللآلئ وسط أكوام من التبن، وحتى هذه اللآلئ لا يحبها الجمهور ولا يعرف قيمتها إلا إذا جليت وعرضت عرضا جديدا.
والأدب الغربي مملوء بالجواهر القيمة وبالموضعات المفيدة، ولكنه نتاج مدنية غير مدنيتنا، ويمثل أنواعا من الحياة غير حياتنا. إن شئت فانظر إلى أكثر الرويات المترجمة تجد أسماء لا توافق ذوقنا، وتجد وقائع في البيوت لا يحدث مثلها في بيوتنا، وتجد أنواعا من الحوار لا يمكن أن تقع بيننا، وهكذا الشأن في كل أنواع الأدب من نثر وشعر؛ وشأن الأدب الغربي شأن الموسيقى الغربية، هي نتيجة أذواق الغربيين وبيئتهم، وليس يستطيع العربي أن يتذوقها إلا بكثير من المران وكثير من تحوير الذوق.
هذه الطائفة التي أدعو إليها تستطيع أن تخدم الأدب العربي، لا من ناحية الترجمة، فالترجمة في الأدب وسيلة لا غاية، والترجمة في الأدب أصعب شأنا وأقل تذوقا من الترجمة في العلم؛ لأن العلم يخدم العقل، والعقل قدر مشترك بين الناس جميعا، أما الأدب فليس قدرا مشتركا. وأدب كل أمة غير أدب الأخرى؛ لأنه يرجع إلى الذوق والعاطفة وهما مختلفان في الأمم؛ ولأن الأدب ظل الحياة فإذا اختلفت الحياة اختلف ظلها لا محالة.
ومن أجل هذا عني العرب في أيام نهضتهم الأولى بترجمة العلوم، ولم يعنوا بترجمة الأدب، وترجموا بعض الشيء من أدب الفرس؛ لأنه كان قريبا لذوقهم، ولم يترجموا الأدب اليوناني والروماني؛ لأنه كان بعيدا عن ذوقهم.
فترجمة الأدب الغربي إلى الأدب العربي يجب أن تعد وسيلة لا غاية، إنما الغاية أن ننتج أدبا لنا أدبا يمثلنا، أدبا يعبر عن عواطفنا. فدراسة الأدب الغربي تعين أكبر إعانة من ناحيتين: من ناحية أن دارسها يستطيع أن يتعلم منها كيف أدى الأدب الغربي عمله، وكيف استطاع أن يملأ فراغ أمته، وكيف نجح الأديب الغربي في أن يغذي شعبه، وكيف تفرعت أنواع الأدب فروعا مختلفة أدى كل فرع منها وظيفته؛ ومن ناحية أخرى هناك نوع من الأدب هو قدر مشترك بين الأمم كلها لا خلاف بينهم إلا في أدائه، كالحكم والأمثال، وكالقصص التي تمثل أخلاق الناس، وكشعر الطبيعة ونحو ذلك؛ فهذا النوع صالح كل الصلاحية لأن ينقل إلى الأدب العربي، ولا يحتاج في تذوقه من القارئ العربي إلا إلى تحوير بسيط.
لست أعتقد أن الأدب العربي يرقى إلا بالجد في تكوين هذه الفرقة، وإمدادها بكل الوسائل، وتشجيعها بكل أنواع التشجيع.
ولود وعقيم
ركبت من أول محطة لترام مصر القديمة ، وهي كهلال الشك، جلد على عظم، وعلى يديها طفل قد جلل بالبياض، وعصبت عيناه، وغطي رأسه ووجهه بشاشة زرقاء.
وركب في المحطة التالية سيدة نصف، أطيب شطريها الذي ذهب، ممتلئة البدن، سمينة الضواحي، فحيت الأولى، وتحادثتا.
والنساء سريعات التعارف، تراهن في طرفة عين يتحدثن إلى من لم يعرفن قبل في أدق الأمور، وأعمق الأسرار، حتى كأنهن صديقات العمر، ورفيقات الصبا؛ فهن يتحدثن بعد دقيقة في السعادة والشقاء، وأوصاف الأزواج، وعيوبهم، والحموات ومصائبهن ومضايقتهن، والدخل والخرج؛ وقد ينتقلن إلى ما هو أدق من ذلك وأصعب، مما لا يستطيع الرجال أن يتكلموا في بعضه إلا بعد عمر طويل، وصداقة متينة، ومشاركة في السراء والضراء.
وبعد لحظة صرخ الطفل وأمعن في الصراخ؛ تحاول أن ترضعه ليسكت فلا يسكت، وتنيمه فلا ينام، وتتبع معه كل الأساليب التي تعلمتها في إسكات الطفال فلا تنجح، وأخيرا تدعو عليه بالموت فلا يستجاب لها!
الثانية :
ما له؟
الأولى :
رمدت عيناه من أيام ثلاثة فشربني المر، وفي الليلة الماضية لم أذق طعم النوم، وأنا طول الليل واقفة على رجلي أذرع الحجرة من أولها إلى آخرها، ومن آخرها إلى أولها، وكلما هدأ وبدأ النوم ذهبت إلى السرير لأنيمه وأنام، فيصرخ ويكرر النغمة عينها ويمثل الدور نفسه إلى الصباح، حتى دار رأسي ومللت الحياة، وتمنيت الموت، ولم أر للحياة طعما مذ رأيت الأولاد، وها أنا ذاهبة إلى طبيب العيون. - أمعك أولاد أخر؟ - نعم، معي خمسة وهذا سادسهم، وقد حاولت بكل الوسائل أن أمنع الحمل بعد أول ولد ففشلت وفشلت؛ ومرة حاولت أن أخلص من جنين فكدت أخلص من نفسي وبقي الجنين؛ ومرة أصبت بنزيف شديد فعرضت نفسي على طبيب، فقال: إنه إجهاض، وليس من أمل كبير في بقاء الجنين، ثم أمرني أن ألتزم سريري ولا أتحرك، وأنام على ظهري دائما، وكتب لي دواء يمنع النزيف؛ فامتنعت من شرب الدواء، وأكثرت الحركة، وعملت كل شيء عكس ما نصح الطبيب رغبة في الإجهاض، ثم مع هذا كله انقطع الدم وثبت الجنين، وهذا هو الذي على يدي. - و«اسم الله عليهم » كلهم ذكور؟ - لا والله! أربعة ذكور وبنتان، وكلهم في الهم سواء، وكل يوم نوع جديد من أنواع العذاب؛ ففي آخر السنة نضع يدنا على قلبنا عند الامتحان، وتظهر النتيجة، فهذا نجح، وهذا سقط بلا ملحق، وهذا له ملحق؛ ونمضي الإجازة في عناء! وتبتدئ السنة، فمن نجح في الشهادة الابتدائية ظهر متأخر الترتيب، فلا نجد له مدرسة أميرية تقبله، والشهادة في يد، والمصاريف في يد، والمدرسة في رفض! ثم هذا صحيح وهذا مريض، وهذا ذاكر وهذا لم يذاكر. ولا تسألي عن وقت ذهابهم إلى المدرسة! هذا يبحث عن جزمته فلا يجدها، وهذا عن طربوشه فلا يجده، ونرى فرد جورب في حجرة وفردا آخر في حجرة أخرى، فلا يكادون يذهبون إلا وقد بلغت الروح الحلقوم؛ وعند مجيئهم من المدرسة، هذا يغضب على الأكل وهذا يرضى، وهذا ينازع ذاك، ولا ينقذنا من كل هذا إلا نومهم؛ ثم هذا الشهر شهر أقساط المصاريف، وهذا الصيف كسوة الصيف، وهذا الشهر كسوة الشتاء؛ وماهية الزوج لا تكفي هذا وذاك، والعيش كله عناء في عناء. وأنت؟ اليس عندك أولاد؟
كان منظرا غريبا، فقد طفرت الدمعة فجأة من عين السيدة الثانية، فلما أخرجت منديلها ومسحت دمعتها، قالت: أبى الله أن يرزقني في حياتي ولدا، وطالما دعوته وسألته! وحججت مرة، وكان أكبر همي من حجي أن أقف في أشرف بقعة وأسأل الله أن يهبني ابنا أو بنتا! وليكن الابن ذكيا أو غبيا، ولتكن البنت جميلة أو دميمة، فأنا راضية بكل مولود على كل حال، ولكنه - سبحانه وتعالى - لم يفعل. لتمنيت أن يكون لي أولاد، وأتحمل فيهم أضعاف ما ذكرت من عناء، ثم أراهنك أني أكون سعيدة مغتبطة لا أشكو ولا أتألم. لقد طرقت كل الأبواب لذلك فلم أنجح، ذهبت إلى الأطباء فعملوا لي عملية، واحتملت في سبيلها كل الآلام، وذهبت إلى المشايخ فرقوا وعزموا، وذهبت إلى الشيخات «فحضرن» وبحزن و«وصفن»، وقالوا: تخافين، فخفت ونزلت القبر، وركبت وابور «لوتابارك». وقالوا وقالو، وفعلت وفعلت، فذهب ذلك كله هباء. ورزقني الله مالا كثيرا استطعت أن أفعل به كل ما وصفوا حتى السفر إلى أوربا واستشارة أطبائها، ولكن إذا أبى الله فماذا يفعل العبد؟
لم يبق لي من ذلك كله إلا التلهف على الولد والحسرة الدائمة؛ وكل شيء حولي يذكرني بالأولاد فيثير أشجاني وأحزاني. لقد رأيت في حديقتى أشجار البرتقال والليمون تحمل كل عام أثمارها فقلت: يا الله! أتسبغ نعمك على الأشجار فتحمل كل عام أثمارها وتضن على فلا أحمل مرة ثمرة؟ وعندي قطة تحمل دائما وتضع ما لا يعد من الأولاد، وكلما حملت ذكرت حملي، وكلما ولدت بكيت أولادي الذين لم يوجدوا بعد؛ وأرى الفقيرات البائسات العاريات في الشارع كل واحدة منهن تحمل في بطنها ولدا، وترضع ولدا، وتجر ولدا، فيجتمع الحزن في قلبي، وتنفجر منه عيني؛ وأسمع «معارفي» وصواحبي، هذه ولدت، ثم هذه ولدت، ثم هذه ولدت، فأقول: لم يبق عقيما إلا أنا، ولم يتخصص للشقاء غيري! رزقني الله مالا ولم يرزقني ولدا، وليته رزقني ولدا، ولو كان الولد يشرى بكل ما أملك لاشتريته وكنت سعيدة؛ بل لو كان يشرى بعيني لاشتريته وكنت رابحة في صفقتي، وما الدنيا وما المال، وما الحياة بغير الولد؟
لقد كنت في أول أمري أطلب الولد خشية أن يتزوج زوجي غيري، فلما أمنت جانبه، واطمأننت من ناحيته طلبت الولد؛ لأنه طبيعتي؛ ولأنه حياتي بعدي؛ ولأنه موطن انتساخ روحي؛ ولأني امرأة قد خلقت للأمومة. لقد أحسست بهذه الأمومة في صغري فعملت العرائس إرهاصا لأمومتي، ثم تزوجت تهيؤا لهذه الأمومة؛ فلما تقدمت في السن ولم أجد الأمومة رأيتني فقدت طبيعتي، ورأيتني في الحياة مقدمة بلا نتيجة، أو قبة بلا شيخ، أو لوزة فارغة، وأنا والعروس من الحلوى والعروس من القطن سواء، كلنا لا يلد. ليس لي أمل في السلوة إلا بالموت فهو وحده بلسم الهموم، ومقبرة الأحزان!
وهنا ختمت حديثها - كما بدأته - بالدموع.
قالت الأولى: والله لو ذقت مرارة الأولاد ما تمنيتهم، ولو جربت سهر الليالي ما اشتقتهم، ولكن أحب شيء إلى الإنسان ما منع، والقصر من بعد أجمل منظرا من سكناه، والخيال دائما ألذ من الحقيقة. لقد كان مرة أكبر أولادي يبكي وهو رضيع ولا نعلم سببا لبكائه، ويبكي ويشتد في البكاء حتى بلغ منا الهم مبلغه؛ وإذا بزفة عريس تمر من تحت بيتنا، فأضحكني زوجي أبو الطفل إذ قال للعريس: «غر» غدا تخلف «وترى» - ولو تمنيت الآن شيئا لتمنيت أني لم أكن تزوجت، وإن تزوجت فلم أكن «خلفت». أتبادلنني؟ وضحكت.
قالت الثانية وتأوهت: وكيف يمكن البدل؟ إنما أريد أولادا مني لا منك، أريد كبدي تمشي على الأرض أربيها، ولا أريد كبدك أنميها وأغذيها - وأنت أيضا لا تعبرين عما في نفسك تعبيرا صادقا، فمن تهون عليه أولاده؟ إنما ينفع البدل إن كان قدر الله أن أكون ولودا وأن تكوني عقيما.
قالت الأولى: أتريدين الحق يا أختي؟ الدنيا كلها تعب، فلا ولود في راحة، ولا عقيم في راحة، ولا متزوجة سعيدة، ولا عزبة سعيدة.
ووصل الترام إلى العتبة فنزلنا، هذه إلى طبيب ابنها وتلك لبعض شئونها.
قال صاحبي: ولكن كيف أمكنك أن تسمع هذا الحوار؟
قلت: هذا سر الصنعة.
مقياس الرقي
سألني أديب سوري: بم تعد أمة أرقى من أمة، وما العوامل التي نحسبها ونقيس بها الرقي؟ وفي الأمة الواحدة - إذا سئلنا أكانت بالأمس خيرا منها اليوم، أم هي اليوم خير منها أمس - فأي النواحي نرعاها عند النظر؟
والحق أنها أسئلة في منتهى الصعوبة، يحار المجيب عنها: أي العوامل يحسب وأيها يترك، وأيها لها قيمة كبيرة الأثر، وأيها ضعيف الأثر؟
قد يجيب مجيب إجابة سهلة من طرف اللسان فيقول: «مقياس الرقي في الأمم الأخلاق»، فأرقى الأمم أحسنها خلقا؛ ولكن هذه الإجابة لا تقنع، فالأخلاق متغيرة، وكل عصر له أخلاق يتطلبها وواجبات ينشدها، وما علينا الآن من واجبات أضعاف ما كان على أجدادنا منها - أصبح واجبا علينا أن نعلم أولادنا في المدارس، وما كان ذلك واجبا من قبل، إنما كان تبرعا من الأب؛ وأصبح واجبا علينا ترقية الوطن من جهات متعددة ، وما كان ذلك واجبا من قبل، وإن كان واجبا فواجب غامض ليس محدود المعنى ولا معين الاتجاه؛ وكان آباؤنا يعدون من أرقى الأخلاق في الأمة حجاب نسائها وبناء سور متين بين الرجل والمرأة، فأصبحنا نرى الواجب أن تتعلم المرأة كما يتعلم الرجل، ومن حقها أن تسمع المحاضرات مع الرجل، وأن تتمتع بالحياة البريئة كما يتمتع الرجل؛ فإذا قلنا: مقياس الرقي الأخلاق كانت كلمة عامة تدل على كل شيء ولا تدل على شيء.
وقم يقيسون الرقي بالدين، وهي كذلك كلمة عامة يختلف مدلولها باختلاف أنظار الناس؛ فيضيق عند بعض الناس حتى لا يسع إلا الصلاة والصوم والزكاة والحج، ويتسع عند بعض الناس حتى يشمل كل شيء.
وفي الحق أن هناك مناحي للحياة مختلفة متعددة يجب أن ينظر إليها كلها لتقويم الرقي؛ ففي كل أمة مجموعة من المرافق، يعد كل مرفق منها كالخلية في الجسم الحي: من حكومة وتعليم ولغة ودين وأسرة ونظام اقتصادي ونحو ذلك؛ كلها تتغير، وكلها ترقى أو تنحط، وكلها في حركة مستمرة دائما إما إلى الأمام وإما إلى الخلف؛ وكلها تتفاعل تفاعلا قويا، ويؤثر قويها في ضعيفها، وضعيفها في قويها؛ وهذا التغير الدائم في كل هذه المرافق هو مقياس الرقي والانحطاط، فإن كان تغيرا إلى سمو فرقي، وإن كان تغيرا إلى تدهور فانحطاط.
وحسبان هذا ليس بالأمر اليسير؛ فقد تتدهور بعض المرافق لأسباب خاصة، وتسمو بعض المرافق لأسباب كذلك، ثم تتفاعل عوامل الضعف والقوة، فينشأ من ذلك عملية حسابية من أصعب المسائل حلا. والمثل الأعلى للأمة أن يكون كل مرفق من مرافقها الاجتماعية يؤدي عمله خير أداء، ويتنقل في سمو أبدا، وأن يكون سيره ورقيه في حالة ملائمة ومناسبة لسائر المرافق الاجتماعية، لا يطفر عنها ولا يقعد بها. فالأمة التي تختار أحسن النظم في التربية والتعليم، ولا تساعدها اللغة على المصطلحات الحديثة، لا ترقى في التربية والتعليم حتى تحل مشكلتها اللغوية؛ والأمة التي تختار أحسن النظريات الفقهية وخير النظم القضائية، ثم لا يعنيها بعد ذلك حالة الأسر الأخلاقية ، وحالة المعاملات بين الأفراد، لا يمكن أن ترقى بنظرياتها الفقهية من الناحية القضائية؛ والأمة التي تسن أرقى أنواع الإصلاحات الاجتماعية، ثم لا تعنيها الناحية الاقتصادية، تصبح وإصلاحاتها تسر القارئ، ولا تسر الناظر، وهكذا. •••
وهناك دلائل قوية تدل الباحث على رقي الأمة وتدهورها وسيرهم إلى الأمام أو إلى الخلف، إما بمقارنتها بغيرها من الأمم في نواح معينة، أو بمقارنتها بنفسها في عصرها الحاضر وعصرها السابق؛ والمقارنة الأولى تدلنا على الدرجة التي تقف عليها الأمة في سلم الرقي العام؛ والمقارنة الثانية تدلنا على اتجاه سيرها إلى الأمام أو إلى الخلف.
ومن أهم هذه الدلائل تعرف موقف الأمة إزاء ما يحيط بها من ظروف طبيعية واجتماعية: هل هذا الجيل أحسن استخداما لبيئته وما يحيط به؟ هل استطاع أن يوجد منابع لثروته وسعادته أكثر مما استطاع أسلافه؟ هل استخدم المنابع القديمة خيرا مما استخدمها آباؤه؟ هل كان في حله لما يعرض له من المشكلات الاجتماعية والطبيعية أكثر توفيقا؟ لما عرضت هذه المشكلات أو أمثالها لنا ولآبائنا كيف حلوها وكيف حللناها؟ وما منهجهم في الحل وما منهجنا؟ ما مقدار تضافر الأفراد يومذاك في التغلب عليها؟ وما مقدار تضامننا اليوم؟ لكل أمة مقدار من الثروة، فهل زادت، وهل استطاعت اليوم أن تسعد بثروتها أكثر مما كانت تسعد بها من قبل؟ هل استخدمت العلم أحسن مما استخدمه آباؤها فقلت الوفيات وتحسنت صحتها، وجمل منظرها، ونظفت عيشتها، وأصبح نيل القوت أسهل وأيسر حتى تفرغ كثير من أبنائها وبناتها للعلم والفن والأدب؟ أظن أن هذه الأسئلة متى حددت بهذا الشكل لم تكن الإجابة عليها عسيرة، وبذلك نستعين على تعيين الاتجاه ومقدار الرقي، إن كان. •••
ومن ناحية أخرى، ربما عد من أكبر دلائل الرقي في الأمة «تذليل العقبات أمام الكفايات». فخير الأمم من أفسحت السبيل أمام أفرادها ليرقوا كما يشاءون حسب استعدادهم وجدهم، في التعلم، في الوظائف، في النواحي السياسية والاجتماعية. وقد قطعت الأمم المتمدنة في ذلك خطوات واسعة، فأزالت احتكار الأرستقراطية للمناصب العليا، وسهلت وسائل التعلم لمن شاء، واعتمدت في تقدير الأشخاص على مزاياهم لا على بيئتهم - إلى درجة كبيرة - وحاربت «المحسوبية» والنزاعات الأرستقراطية، وقضت على النظام الإقطاعى الذي يميز بين الطبقات، ويضع حدا فاصلا بينهما لا يمكن تخطيه، ووضعت النظم الاقتصادية الحديثة، وفيها يمكن كل فرد بذكائه ومواهبه أن يصل إلى ما يستطيع من رقي - وإن كانوا هم أنفسهم يصرحون بأنهم لم يبلغوا الغاية في ذلك، وأن أمامهم عقبات شاقة ومسافات طويلة يجب أن يقطعوها حتى يسهل على كل فرد تحقيق غايته وبلوغ شأوه. •••
وربما كان كذلك من أهم دلائل الرقي النظر إلى ثروة الأمة، ومقدار ما ينفق منها على «الصالح العام» من مدارس ومصانع ومساجد ومتنزهات وحدائق وماء وإنارة ونحو ذلك. ولست أعني النظر إلى كمية ما يصرف فحسب، ولكني أعني أيضا كيفية الإنفاق، وهل أنفق هذا القدر في أحسن السبل، وهل هناك وجه آخر خير منه؟ كذلك لست أعني ما ينفق في ذلك من ميزانية الحكومة فقط، ولكني أعني أيضا مقدار شعور الأفراد في هذا الباب. ومقدار ما يتبرعون به من أموالهم لهذا الصالح العام؛ فليست ثروة الأمة مقصورة على ميزانية الحكومة، ولكنها تشمل ثمرة الأفراد؛ فالأمة التي لا يشعر أغنياؤها بواجب في أموالهم لفقرائها، أو يشعرون شعورا ضعيفا لا يقوى على استخراج المال من جيوبهم، أمة منحطة إذا قيست بغيرها من الأمم التي كثرت فيها المدارس والأندية والمستشفيات والجمعيات الخيرية من مال أغنيائها.
ومما يتصل بهذا الأمر، النظر في ميزانية الأسر في الأمة وكيف تنفق، فأمة خير من أمة إذا عرفت أسرها كيف توازن بين دخلها وخرجها، وكيف تفرق بين الضروري والكمالي، وما ليس بضروري ولا كمالي، ولم تسمح لنفسها أن تنفق في الكمالي حتى تستوفي الضروري، فذلك - من غير شك - يجعل الأسر أسعد جالا، وأهدأ بالا، وأكثر استعدادا للرقي؛ وهل الأمة إلا مجموعة من الأسر؟ وهل رقي الأمة إلا حاصل جمع رقي الأسر؟ وكما أن أسرة قد تكون أسعد من أسرة، مع أن دخلها أقل وثروتها أضعف، ولكن عقلها أكبر، وتصريفها لمالها أدق، فكذلك الأمم؛ ليس خيرها أغناها، ولكن خيرها من عرفت كيف تستخدم مالها وأحاطت ما تملك بنظم راقية، وكمية كبيرة من الإصلاح تجعل مالها يتضاعف في القيمة وإن لم يتضاعف في العدد؛ فكم من أمة لها ثروة كبيرة طبيعية، ولكن لم تعرف كيف تستخدمها ولا جزءا منها، ولو حلت محلها أمة أخرى لصيرت صحراءها بستانا، وجبالها جنانا، ولجعلت ترابها ذهبا، وأرضها عجبا.
ومن أجل هذا لم يخطئ كثيرا من حصر مقياس رقي الأمة في مقدار تغلبها على طبيعة بلادها، وتعديل نفسها حسب ما يحيط بها؛ لأنها لا تصل إلى ذلك إلا بمقدار كبير من العلوم الطبيعية يمكنها من الانتفاع بأرضها وجوها، وبقدر وافر من العلوم الاقتصادية يبين لها كيف تستغل منابعها، وبمقدار صالح من النظم السياسية والاجتماعية والأخلاقية يهيئ للأفراد سبل الانتفاع بما حولهم، ويعهم خير إعداد للنظر في مصالحهم.
فليتساءل الشرقي في ضوء هذا: أين هو نفسه، وأين هو في أمته، وأين أمته في العالم؟
كتابة المقالات
هنالك أنواع من المقالات يصح أن نسميها مقالات علمية بالمعنى الواسع، فتشمل المقالات الاجتماعية كما تشمل بحث مسألة أدبية بحثا علميا؛ وهذا النوع سهل على الكاتب متى تيسرت له أدوات البحث من كتب ومراجع ونحوها، وتوفر له حسن الاستعداد من معرفة بمناهج البحث وأساليبه؛ فكل وقت صالح لكتابة مثل هذه المقالات وإعدادها ما لم يكن الكاتب في حالة استثنائية من مرض ونحوه.
وهناك نوع من المقالات هي المقالات الأدبية بالمعنى الخاص، وأعني بها الأدبية أدبا إنشائيا صرفا لا أدب بحث ودرس؛ وهذه أصعب من الأولى من حيث إنها تتطلب - فوق حسن الاستعداد - «المزاج الملائم»؛ فليس الكاتب في كل وقت صالحا لها، بل لا بد أن يكون مزاجه ملائما للموضوع الذي يريد أن يكتب فيه؛ فإن كان الموضوع فكها مرحا فلا بد أن يكون مزاج الكاتب كذلك فكها مرحا، وإن كان الموضوع عابسا حزينا فلا بد أن يكون مزاج الكاتب من هذا القبيل؛ ولذلك قد يمر على الكاتب الأديب أوقات وخلع ضرسه أهون عليه من كتابة مقال، وإذا هو حاول ذلك فكأنما يمنح من بئر أو ينحت في صخر؛ ذلك لأن هذه المقالة الأدبية لا بد أن تنبع من عاطفة فياضة، وشعور قوي؛ فإذا لم يتوفر هذا عند الكاتب خرجت المقالة فاترة باردة لا يشعر منها القارىء بروح، ولا يحس منها حرارة وقوة. ولا يكفي عند الكاتب وجود عاطفة قوية، بل لا بد أن تكون هذه العاطفة من جنس الموضوع الذي يريد معالجته. فويل له إن أراد رثاء وقلبه ضاحك مرح، أو أراد فكاهه وقلبه بائس حزين. ومن أجل هذا يحاول الكتاب أن يؤقلموا نفوسهم للموضوع أولا، فيستلهموا كتابا أو قصيدة أو منظرا طبيعيا أو نحو ذلك من الوسائل الصناعية - إن عدموا الوسائل الطبيعية - حتى تهيج مشاعرهم من جنس الموضوع، ثم يأخذوا في الكتابة، فتتدفق معانيهم، وتغزر أفكارهم ومشاعرهم.
وشأنهم في ذلك شأن كل فنان من موسيقي ومصور ومثال، فهؤلاء لا يحسنون الإخراج إلا في ساعات خاصة هي ساعات هياج مشاعرهم من جنس موضوعهم. •••
أما موضوع «المقالات الأدبية» فكل شيء في الحياة صالح لأن يكون موضوعا، من الذرة الصغيرة إلى الشمس الكبيرة، ومن الرذيلة إلى الفضيلة، ومن كوخ الفلاح إلى قصر الملك، ومن الماضي إلى الحاضر إلى المستقبل، ومن أقبح قبيح إلى أجمل جميل، ومن الحياة إلى الموت، ومن الزهرة الناضرة إلى الزهرة الذابلة، ومن كل شيء إلى كل شيء.
والكاتب الفني من استطاع أن يجد من كل شيء موضوعا يجيد فيه ويستخرج إعجاب القارىء، ومن استطاع أن يجد من كل شيء نواة يؤلف حولها ما يصلح لها حتى يخرج موضوعه منسقا تنسيقا يبهر السامع والقارىء؛ وهو في تأليفه قد يضم الشيء إلى إلفه، وقد يضمه إلى نقيضه، وقد يصل به الكلام في الذرة إلى الكلام في الشمس، وقد يصل به الكلام في النملة إلى الكلام في الله، ولكن القارىء لا يشعر بمفارقات ولا يشعر بهوة بين أجزاء الكلام، ويسير مع الكاتب كأنه في حلم لذيذ أو قصة محبوكة.
والفرق بين كاتب وكاتب في شيئين : التلقي والإذاعة؛ فالفرق في التلقى هو أن الكاتب قد يكون دقيق الحس، يسمع حفيف الأشجار ودبيب النمال، ويرى دقيق الأشياء في الظلماء، ويرى قلوب الناس في أعينهم، ودخائلهم في صفحات وجوههم؛ وقد يرى بأذنه ويسمع بعينه، وقد يرى ما لا يرى الناس، ويسمع ما لا يسمع الناس، وقد يدرك الجمال بتفاصيله، ويدرك القبح بتفاصيله، حتى كأنه قد منح من الحواس ما لا يمنحه الناس، وكأن حواسه ليست خمسا وإنما هي خمسون أو خمسمائة أو ما شئت؛ على حين أن أخاه الكاتب الآخر لم يمنح هذا القدر من الحس، ولم يبلغ هذا المبلغ من الذوق، قد فاق المألوف من الناس، ولكن إلى حد، وتسامى ولكن بمقدار.
ويفضل الكاتب الكاتب أيضا في التلقي من ناحية أن كاتبا قد تعدد مناحي إدراكه تعددا متشعبا؛ فالطبيعة توحي إليه بأسرارها، والمجتمع يملي عليه بواطنه، والحياة كلها لا تضن عليه بخفاياها، والملح والفكاهات تدخر له أحسن ما لديها، والجد لا يضن عليه بخير ما عنده؛ فهو مستودع الأسرار، وملتقى البحار والأنهار، ومن يأمنه كل على سره، ويفضي إليه بما يضن به على غيره؛ على حين أن أخاه الكاتب قد يصل إلى بعض الأسرار، ويدرك بعض الاتجاهات ويعجز عن إدراك البعض؛ قد يجيد فهم الطبيعة ولا يفهم للمجتمع سرا، وقد يجيد فهم الجد ولا يفهم الدعابة، ذكي في أمر وغبي في آخر، منير في جانب مظلم في جانب.
وأما اختلاف الكتاب في «الإذاعة» فعلى هذا النحو أيضا: منهم من يجيدها إلى أقصى حد، فصوته صاف جميل يأخذ بالألباب، ويستخرج منك العجب والإعجاب، وهو في كل ما يغني معجب مطرب، سواء أحزن أو أسر، وأضحك أو أبكى، وسواء غنى على عود أو كمان أو البيان، وسواء غنى عاليا أو واطئا؛ ومنهم من يجيد نوعا دون نوع، هو في أحد الأنواع ممدوح الصنيع حميد الأثر، وفي الآخر معيب مستهجن، يحسن العود ولا يحسن الكمان، يبني في ناحية ويقوض في أخرى، يواتيه الطبع في باب، فيأتي بالعجب العجاب، ولا يواتيه في آخر، فمهما اصطنع وتكلف فلا يأتي إلا بما تستك منه الأسماع. •••
ومن اختلاف الكتاب في التلقي والإذاعة يختلفون في «القيمة»، ومع هذا فقد يختلفون في التلقي والإذاعة معا ويتحدون في «القيمة» كالمغنيين يختلفان في الصوت «الصوت» الذي يغنيانه وفي الآلات التي يوقعان عليها، ولكن لا تستطيع أن تميز أحدهما عن الآخر في درجة الرقي.
فهذا كاتب يجيد في ناحية من النواحي، وذاك يجيد في ناحية أخرى، وهما في درجة الإجادة سواء - هذا كاتب يعني كل العناية بشكل المقالة ومظهرها، فتخرج من يده مرتدية بالملاحة، موسومة بالظرف، لها بهاء مونق، ورونق معجب، قد قيست كل جملة منها بالمسطرة حتى تكون وفق قرينتها، إن كان في إحدى أذنيها قرط كان في الأذن الأخرى قرط مثله، يوافقه في الحجم والشكل والطول، وإن كحلت إحدى عينيها، فلا بد أن تكتحل الأخرى على نمط الأولى في دقة وضبط، حتى تبرز كأنها دمية عاج، ثم هي بعد خفيفة المعنى، فاترة الروح، تشغل الأفكار بالنظر إلى شكلها عن النظر إلى روحها - وهذا كاتب آخر لا يعني في مقالته بزي ولا شكل، فتخرج نظيفة في غير جمال، لا يقف عليها الطرف، ولا تأخذ بالأبصار، ولكنها عميقة المعنى، رائعة الفكر، جميلة الروح، هي كالغانية تستغني بحسن ذاتها عن زينتها، حسنها كما قال أبو الطيب (حسن غير مجلوب) وجمالها غير مصنوع.
ومع الاختلاف بين هذا وذاك فلكل جماله ولكل قيمته الأدبية، هذا يرضي الخاصة، وذاك يرضي العامة، ولا بد في الحياة الأدبية من النغمتين معا. •••
وليس يشترط في إجادة الكاتب أن يطرق موضوعا جديدا لم يسبق إليه، بل كل موضوع صالح لأن يكتب فيه ولو تداولته أقلام الكتاب من قبل، فمن مبدإ خلق الإنسان وهو يحب، ومن مبدإ خلق الأدب والحب موضوع للأدب، ومع هذا لم تنفذ مادته، ولا يزال الشعر والنثر والغناء والتصوير تستقى من منابعه، وتكرر أناشيده؛ ولكن لا يعد الكاتب في الموضوع المعاد مجيدا إلا إذا أتى بجديد غاية الأمر أنه لا يشترط جدة الفكر، بل يكفي في ذلك جدة العرض. وأكثر الأدب من هذا القبيل أفكار مألوفة وآراء معروفة؛ ولكن الأديب يستطيع أن يصوغها صياغة جديدة حتى يخيل للقارىء من جودة الصياغة أنها جديدة الفكرة؛ بل إن الكاتب إذا كثرت آراؤه الجديدة خرج عن أن يعد أديبا شعبيا أو أديب أمة، وصار أديبا للخاصة لا يقوم إلا في أوساط قليلة. فالوردة الجميلة تعجب الناظر ولو سبق للحديقة أن أنبتت من قبل أمثالها، و«الدور» يغنيه المغني الحديث يطرب ولو سبقه أحد بغنائه.
وكل ما يطلب من الفنان أن يجيد العرض، وأن يكون عرضه ملائما لشخصيته. انظر في ذلك إلى الرويات الجيدة تجد معانيها في أغلب الأحيان معروفة ينطق بها العامة والخاصة، وتجري على ألسنة الجهلاء والعلماء، ومع ذلك استطاع الأديب الفنان أن يجعل منها رواية رائعة أو قصة بديعة أو مقالة شائقة، وليس له في ذلك إلا الصياغة وحسن العرض، قد أخذ الفكرة التي يراها كل الناس، ولكنه عرف كيف يلعب بها ويجيد اللعب، ويقلبها على وجوهها المختلفة ويلبسها لباسا جديدا، فقد أسبغ على الفكرة من عواطفه وشعوره ما جعلها جذابة أخاذة، وهذا هو الجديد في الموضوع، فإن لكل أديب نفسه وعواطفه وأسلوبه وشخصيته؛ فإذا مزج الفكرة بذلك كله كان في الناتج جدة، وفي الموضوع طرافة، كحروف الهجاء، كل الناس ينطقون بها، ولكن اختلفت مناطقهم وأصواتهم وحناجرهم، فكانت كأن كل إنسان ينطق بها نطقا جديدا، وكأن الحروف لم تخلق بشكلها الخاص إلا له. والقطعة من الذهب إنما يتفاوت الصائغون بالمهارة في صياغتها والذهب هو الذهب في أيديهم جميعا. •••
وأخيرا خير الكتاب من استطاع أن يفهم نفسه ويعرف استعداداته، في أي النواحي يجيد وفي أيها يضعف، ومتى يرقى ومتى يسف، قد جرب نفسه أولا في ضروب الأدب المختلفة من قصة وشعر وكتابة اجتماعية وكتابة أدبية ونقد وإنشاء، وقلب نفسه على وجوهها المختلفة، ولاحظ ذلك في دقة وعمق، وعالج مواضع الضعف منها، ثم استقر بعد السياحة الطويلة الشاقة إلى شيء اطمأن إليه، وهو أن ملكاته واستعداداته يوافقها شيء ولا يوافقها آخر، وتنبع في مواضع وتجمد في أخرى.
فإن هو آنس من نفسه ذلك اكتفى بما منحه القدر، وغنى فقط نوع الأناشيد التي يحسنها، وطلب السمو في النواحي التي تواتيه فيها ملكاته، وإلا أضاع نفسه من كثرة ما يحاول فيما يعجز عنه ويقصر فيه؛ فالفلاسفة إلى الآن لم يعثرو على الإكسير الذي يجعل الفضة ذهبا أو الحديد فضة؛ فخير لنا أن نبذل جهدنا في إظهار الفضة بخير مظاهرها من أن نحاول - مع الفشل الدائم - أن نقلبها ذهبا.
الراحة في التغيير
خلق الإنسان ملولا، يمل النعيم إذا طال، ويمل الشقاء إذا طال؛ يمل الحر إذا دام، ويمل البرد إذا دام؛ يمل الأكل الشهي اللذيذ إذا استمر عليه، ويمل الأكل الخسيس إذا استمر عليه؛ وقديما مل بنو إسرائيل أكل المن والسلوى، وقالوا:
لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها . ولست أدري: لم لامهم موسى - عليه السلام - على ذلك والملل طبيعي في الإنسان، إلا أن تكون صيغة الطلب رذيلة مذمومة «فادع لنا ربك»، ليست الصيغة المؤدبة التي تصدر من المؤمنين.
من أجل هذا استعان الناس على درء الملل بالتنويع والتنقل، ولو من حسن إلى رديء؛ فاشتهوا أتفه الطعام بجانب أجوده، واشتهوا عشش رأس البر، وأكواخ أبي قير، فرارا من القصور الشامخة والبنيان المشيد؛ وروعي هذا في برامج دراسية: فخط بعد لغة، ورسم بعد حساب، ولغة إنجليزية بعد لغة عربية، دفعا للملل من الدرس ومن المدرس؛ وروعي كذلك في برنامج الحياة: فلعب بعد عمل، ومزاح بعد جد؛ وراعت الطبيعة هذا في برنامجها: فليل ونهار، وحر وبرد، وسلطان للقمر بعد سلطان للشمس، وهكذا؛ ولولا ذلك لعرا الناس ملل لا يطاق، ولكانت الحياة عبئا ثقيلا لا يحتمل، ولفر الناس منها إلى الموت طلبا للتغيير والتنويع. •••
أخطأ الناس فظنوا أن الراحة معناها الانغماس في الكسل، والإضراب عن العمل، والتمدد على سرير مريح، أو الاتكاء على كرسي مجنح أو نحو ذلك؛ وليس هذا بصحيح دائما، ولو كان كذلك لما مل الناس هذه الراحة، ولما فروا منها إلى العمل، واستراحوا بالجد والتعب؛ إنما الراحة التغيير من حال إلى حال، من عمل إلى لا عمل، ومن لا عمل إلى عمل؛ ولو كان عدم العمل هو الراحة لكان السجن أروح مكان. ألا ترى الراحة تكون في الأشياء وأضدادها باستمرار؟ فلو ركبت سيارة من مصر إلى الأسكندرية لأحسست التعب من الركوب، وأحسست الراحة في المشي، ولو مشيت طويلا لأحسست التعب من المشي، والراحة في الركوب؛ وما أحلى النوم بعد التعب، وما أحلى اليقظة بعد النوم - وفي الجلوس راحة إذا طال الوقوف، وفي الوقوف راحة إذا طال الجلوس، وفي العمل راحة بعد طول الفراغ، وفي الفراغ راحة بعد طول العمل وفي نظر الصحراء لذة بعد طول النظر إلى البحر، وفي البحر لذة بعد طول النظر إلى الصحراء - ومنظر البحر أبعد عن السأم؛ لأنه تغير مستمر وحركة دائمة: موجة تعلو ثم تهبط، وموجة تنكسر على الصخر أو الرمل ثم تسير إلى الشاطئ وتفنى، وتتجدد أخرى، وهكذا؛ ومنظر الأرض حظه كذلك من التغيير، فالإنسان به أسرع مللا وأقرب سأما - وهكذا كل نظام الحياة: الملل من الدوام، والراحة في التغيير. •••
ما أصعب الحياة الراتبة وأشقها على النفس! إنها تميت القلب وتبعث على الخمود، ولا بد لعلاجها من التجديد، وليس التجديد إلا نوعا من التغيير، يبعث عليه السأم من القديم؛ فإذا مل الناس الأدب القديم، جدد زعماء الأدب في الأدب، وأتوا للناس بفن جديد يستروحون به؛ وإذا مل الناس نوعا من النظام الاجتماعي أتى المجددون بشيء جديد ونظام جديد يذهب بالملل ويجدد النشاط. وليس تغيير الأشياء - وخاصة عند النساء - إلا ضربا من هذا، هن أسرع خلق الله إلى الملل، وأدعاهم إلى التغيير والتجديد؛ فهن يطلعن على الناس كل عام بزي جديد والقبعات والأثواب وكل ما يتصل بهن: شعر قصير بعد شعر طويل، وفستان طويل بعد فستان قصير، وهكذا كثر مللهن فكثر تغييرهن، فرارا من السأم وطلبا للراحة لهن ولغيرهن. •••
وأقدر الناس في هذه الحياة من استطاع أن يتغلب على السأم والملل بالتغيير المناسب في نفسه وفي غيره. فالأديب القدير من استطاع أن ينوع نفسه وينوع كتابته، حتى لا يمل ولا يمل. وخير المجالات ما استطاعت أن تجدد نفسها من حين إلى حين تجديدا يتفق ومنفعة الناس، ويتفق والرقي؛ فتتغير في أسلوبها، وتتغير في موضوعاتها، وتتغير من حين لآخر في كتابها حتى لا يسأم قراؤها. وخير القادة من استطاع أن يجدد في دعوته، فإذا كان له مبدأ واحد يدعو إليه استطاع أن يبرزه كل يوم في شكل جديد يلفت النظر، ويبعث فيه حياة جديدة إلى النشاط والحركة.
وكثير من شرور هذا العالم سببه الملل، فكسل التلميذ وانصرافه عن الدرس نوع من الملل، وخمول الموظف وقعوده عن الجد في العمل نوع من الملل، والخمود السياسي والفكري والاجتماعي نوع من الملل، والرغبة في الانتحار نوع من الملل؛ وكثيرا ما يكون الميل إلى الكيوف والإدمان عليها نوعا من الملل، وكثيرا ما يكون الشقاق العائلي وشقاء المنزل والمشادة بين الزوجين أحيانا والأبوين وأولادهما أحيانا نوعا من الملل، إلى كثير من أمثال ذلك؛ وكلها أمراض صعبة التشخيص صعبة العلاج، تحتاج إلى نوع من الطب النفسي أدق من طب الأجسام، وتحتاج إلى مهارة في علم النفس لا تقل أهمية عن المهارة في علوم الطب.
من أجل هذا أصبحت الحياة فنا يجب أن يدرس، وأصبحت طريقتنا في الحياة طريقة بالية؛ وكل شيء إذا ارتقى وتعقد أصبح فنا يحتاج إلى الدراسة، وأصبحت الطريقة الساذجة فيه لا تغني. فأمهاتنا يربين أولادهن حسبما اتفق، ثم أصبحت التربية فنا؛ ومعلمونا كانوا يعلموننا كيفما اتفق، ثم أصبح التعليم فنا؛ ومغنونا كانوا يغنوننا حسبما اتفق؛ ثم صار الغناء فنا - كذلك الحياة نفسها نحياها الآن حيثما اتفق؛ ولكنها تعقدت وأصبح حل عقدها يحتاج إلى دراسة ودراسات - وأصبحت المرأة في حاجة لأن تتجدد في بيتها حتى لا يمل زوجها، والزوج يتجدد حتى لا تمل زوجته، والمعلم يتجدد حتى لا يمل طلبته، ورئيس الحزب يتجدد حتى لا يمل أتباعه، وأصحاب الملاهي يتجددون حتى لا يملوا. والتغلب على الملل ليس من الأمور الهينة، فليس كل تغيير يصلح لإزالة السأم، إنما يصلح التغيير يوم تدرس النفس ويدرس نوع التغيير، كما يدرس المرض ويدرس نوع العلاج، ويكون الدواء طبق الداء.
في المسجد
ساقني حسن الحظ إلى الحديث مع سيدة إنجليزية فاضلة، وكان ذهني مستغرقا في برنامج «الأخلاق والتربية الوطنية للمدارس الثانوية». والمتحدثون - عادة - يلونون حديثهم - ولو من غير شعور - بما يشغل أذهانهم ويستغرق أفكارهم. ومهما بعد المتحدث عن الموضوع الذي يستولي عليه فسرعان ما يعود إليه، وينغمس فيه.
لقد بدأنا الحديث في الجو وانتقلنا إلى غيره، وإذا بنا نتكلم في «التربية والتعليم وشئونهما»، وإذا بي أسأل السيدة: - ما برنامج الأخلاق والتربية الوطنية للمدارس الثانوية في إنجلترا؟ - ليس لهما في المدارس برنامج معين ولا دروس خاصة، ولكن تلقى فيهما محاضرات في مناسبات؛ وأهم ما يقوم بهذه المهمة «الكنيسة»، فهي تنظم دروسا للشبان والشواب في هذا الموضوع، ويقوم بها رجالها، فيكفوننا بذلك مئونة الدروس في المدارس، وإلقاؤها في الكنائس يجعل لها معنى أجمل، واحتراما أوفر وطعما أحلى. •••
انتقل ذهني في سرعة البرق من الكنيسة عندهم إلى المسجد عندنا، وساءلت نفسي: ما الوظيفة الاجتماعية التي يؤديها المسجد للأمم الإسلامية؟
إني أفهم أن لمسجد الحي وظيفة اجتماعية هامة بجانب وظيفته الدينية؛ هي الإشراف على تجلية الروح وتهذيب النفس بتنظيم المحاضرات في الموضوعات التي تمس العصر، والمشكلات التي تعرض في كل زمن؛ كما أن من وظيفته الإشراف على حالة الحي الاجتماعية، وما يصاب به من بؤس وفقر وانغماس في المخدرات ونحو ذلك؛ ثم تنظيم الإحسان والقيام بالخدمة العامة بين الأغنياء والفقراء، وإسداء النصائح للأسر فيما يعرض لهم من متاعب وصعاب.
إني أفهم من مسجد الحي أن يكون كمستشفى الحي، غير أن المستشفى يداوي الأمراض الجسمية، والمسجد يداوي الأمراض الروحية والاجتماعية.
إني أفهم أن يكون إمام المسجد رئيس المستشفى يعرف مرضى الحي، ويعرف علاجهم، ويكون صلة تآلف وتعارف بين أهل الحي، يأخذ من غنيهم لفقيرهم، ومن صحيحهم لمريضهم، ويقضي على المنازعات والخصومات ما استطاع، ويثقف الجهلاء ، ويتخذ من المثقفين من أهل الحي أعوانا وأنصارا، يخطبون ويعظون، ويعلمون ويثقفون - وإذ ذاك يشعر أهل الحي بأن المسجد ضرورة من ضرورات الحياة، يقوم لهم بما تقوم به المدرسة، وبما تقوم به المحكمة، وبما تقوم به جمعيات الإحسان، وبما هو فوق هذا وذاك.
بل لما لا يكون المسجد معهدا للمرأة، كما يجب أن يكون معهدا للرجل؟ فيخصص مسجد كل حي وقتا لنساء الحي تعلم فيه المرأة واجباتها الدينية والاجتماعية، وتفقه فيه في دينها ودنياها، وترشد فيه إلى طرق إسعاد البيت، وتثار همتها إلى العطف والإحسان وتنظيمهما
فالمرأة الآن محرومة من غذائها الروحي والديني؛ لأنها بعيدة عن المسجد، حرمت منه من غير حق، وهو سلوتها في الأزمات، وهو منهل عواطفها وغذاء روحها. لقد حرمت المرأة من المسجد، فحرم أبناؤها وبناتها من العاطفة الدينية؛ لأن الأم - غالبا - هي مصدر هذا الإيحاء؛ وإذا انحرفت مرة فلم تجد المسجد يهديها ويعزيها، جمحت وغوت؛ فهي الآن بين بيت وملهى، ولا مسجد بينهما يذهب بملل البيت ويكسر من حدة الملاهي.
هذا هو المسجد كما أتصوره، وكما ينبغي أن يكون - قوي الأثر في النواحي الروحية والاجتماعية والتعليمية، في الرجل والمرأة، قلوب الحي معلقة به، يغارون عليه ويعملون على ترقيته من حيث نظامه ونظافته وإمامه وخطباؤه، ويرون أنه لهم وهم له، وأن منارته ينبعث منها الإصلاح في جميع نواحيه؛ متعلمو الحي جنوده في نشر الثقافة، وأغنياؤه جنوده في محاربة الفقر، ونساؤه دعاة أبنائهن وبناتهن إليه.
هذا هو الوضع الصحيح للمسجد. فأين مسجدنا منا، وأين نحن من المسجد؟ لقد اعتزل الناس واعتزله الناس، ولم يشعر شعورا قويا بوجودهم، ولم يشعروا شعورا قويا بوجوده.
نظرت دار الآثار إلى بنائه فعدته «آثارا»، ونظر الناس إلى نظامه فعدوه كذلك «آثارا»؛ فليس يؤمه - مع الأسف - إلا الطبقة الفقيرة البائسة، أو الموظف الذي أحيل إلى المعاش، أو من تقدمت به السن من عامة الناس. أما الشباب المثقفون ومن أنعم الله عليهم بشيء من رغد العيش فلا يفكرون في المسجد ولا تحدثهم أنفسهم بزيارته، وإن دخلوا لا يعرفون كيف تؤدى شعائره إلا القليل النادر؛ كأن السينما والمساجد اقتسما الناس، فخص المساجد بالشيوخ والعجائز والفقراء، وخص السينما بالفتيان والفتيات والأغنياء، وهي حال لا تشعر بأمل ولا تبشر بخير
ووزارة الأوقاف كذلك عدت المساجد «آثارا»، فهي تسير في تعيين أئمتها وخطبائها وفي مراقبتها سير القرون الخالية، كأن الزمن لا يسير.
والأئمة والخطباء يعاملونها معاملة «الآثار»، فهم يقرأون غالبا الخطب التي ألفت في القرون الماضية، فلا تحرك نفسا ولا تحيي همة - كل ما فيها «اتقوا الله» إجمالا بغير تفصيل. أما ما يحدث بيننا من أحداث، وأما ما نشعر به من مصائب وما ينتابنا من كوراث، فلا دخل لهم فيه؛ لأن دواوين القدماء لم تنص عليه.
الحق أن للناس بعض العذر في الانصراف عن المساجد؛ فلو عرف الخطباء كيف يكلمون الناس، وعرف رجال الدين كيف يصلون إلى قلوبهم، وشعر الناس أنهم يجدون في المسجد متعة روحية وغذاء دينيا واجتماعيا، لتغير الحال وازدحم المسجد بالناس من جميع الطبقات.
وقد كان المسجد في الإسلام يقوم بهذه النواحي التي ذكرنا؛ فالخلفاء ونوابهم كانوا يخطبون في المشكلات الحاضرة، وكانوا يخطبون كلما حزبهم أمر أو عرض لهم مهم، وكان المسجد مدرسة للعلماء والمتعلمين والشعراء والمتأدبين، وكان المسجد مكتبة للواردين والمترددين، وكان المسجد مجمع الناس في الأعياد والمواسم، وكان المسجد مكتب الصغار ومدرسة الكبار؛ ولو سار في طريقه وتأقلم مع الزمن لكان يؤدي كل الخدم الاجتماعية التي أشارنا إليها من قبل؛ ولكن
فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا * إلا من تاب .
منطق اللغة
قال صديقي: ألا تنظر إلى هذه الظاهرة الغريبة؟ أنا في مجلس يتجادل أحيانا فيما يعرض عليه باللغة العربية، وأحيانا باللغة الإنجليزية؛ فإذا تجادل باللغة الإنجليزية فالحجة تقرع بالحجة في إيجاز، وداخل حدود معينة، قل أن يكون هناك استطراد، وقل أن يكون لعب بالألفاظ، وقل أن يكون خروج عن الموضوع، وقل أن يكرر المجادل نفسه فيما يقول، فإما أن يأتي بحجة جديدة وأفكار جديدة، وإما أن يسكت؛ وما هي إلا هنيهة حتى يؤخذ الرأي ويفصل في الأمر. وإذا تجادلنا باللغة العربية فهناك يطول الجدل، ويكثر الحديث، وكثيرا ما تقرع الحجة لا بأختها، ولكن ببنت عمها، وكثيرا ما يستطرد من موضوع إلى موضوع لأقل مناسبة أو بدونها؛ وبعد طويل من الزمان يعودون إلى ما بدأوا فيه، وتثار مسائل كثيرة لا يفصل في واحدة منها، ويقول المجادل الآن ما قال من قبل، فبرد عليه صاحبه بمثل ما رد من قبل، وتتشعب الآراء حتى يصعب حصرها، وحتى ينسى أخيرا ما بدىء به أولا، ثم يؤخذ الرأي وقد مل المتجادلون، وسئموا الجدل، وودوا أن يفصل في الأمر على أي شكل؛ ولذلك قد يكون الرأي يؤخذ أخيرا شرا من الرأي يؤخذ أولا، بل قد يكون الرأي الذي قرر لا علاقة له بالمسألة التي أثيرت من قبل!
نعم يا صديقي، أنا أعتقد أن لكل لغة منطقا يخالف منطق اللغة الأخرى، وأن المسألة لا ترجع إلى عقلية المتجادلين وحدها؛ فقد يتجادل جماعة - كما ذكرت - باللغة الأجنبية، ثم هم أنفسهم يتجادلون باللغة العربية فيكونون في الأولى أكثر توفيقا؛ وليس من الصحيح أن ترجع هذا إلى ضعفهم في اللغة الأجنبية وقوتهم في اللغة العربية؛ فهذا القول ينطبق تماما على من أجادوا اللغتين، وحذقوا اللسانين.
وتعليل ذلك قد يبدو غريبا، فإن أول ما يتبادر إلى الذهن أن اللغة ليست إلا وسيلة للتعبير عن المعاني، وليست إلا مظهرا من مظاهر العقلية؛ فإذا كان التفكير صحيحا سليما كان التعبير عنه كذلك ما دام صاحبة يجبد التعبير ويتقن اللغة، وإذا كان التفكير فاسدا كان التعبير عنه فاسدا متى وفق صاحبه للتعبير عما يريد؛ ولكن يظهر لي أن المسألة أعمق من ذلك، وأن هناك تفاعلا بين اللغة والتفكير، فاللغة المنظمة تعمل في تنظيم الفكر، والفكر المنظم يعمل في تنظيم اللغة - وكذلك العكس - وأن المتكلم باللغة الإنجليزية أو الفرنسية خضع لمنطقها وطرق تفكيرها كما يخضع لاختيار كلمتها، واختيار أساليبها، وكيفية معالجة الموضوع، فيؤثر ذلك كله في تفكيره وجدله وحججه؛ وعلى الجمله فهو يحاول أن يكون إنجليزيا أو فرنسيا في تفكيره، كما هو إنجليزي أو فرنسي في لغته - يشعر بهذا تمام الشعور من أجادوا لغتين أو أكثر؛ فهم إذا تكلموا بلغة أجنبية راقية شعروا - مثلا - بأن هناك غرضا محدودا واضحا يرمون إليه في حديثهم وحججهم، وأنهم يضعون لذلك خططا ثابتة معينة تشبه خطط الحرب يضعها قادتها لتسلم كل خطة إلى التي تليها، أو كالخطط التي يضعها لاعب الشطرنج الماهر، إذا لعب لعبة علم ماذا يريد منها، وما هي الألعاب التي تترتب عليها فتنتج الفوز، وهو هو إذا تكلم باللغة العربية لم يتضح القصد له وضوحه باللغة الأجنبية، ولم يرتب حججه ذلك الترتيب الذي يرتبه باللغة الأجنبية؛ ومن أوضح الأمثلة على ذلك أن مجيد اللغتين كثيرا ما يفكر باللغة الأجنبية، ويترجم تفكيره إلى اللغة العربية، وقلما يعكس، مع أن اللغة العربية هي لغته الأصيلة؛ وهي التي نشأ عليها وتربى في أحضانها، فكان معقولا أن تكون هذه لغة تفكيره؛ فإذا عبر بلغة أجنبية نقل تفكيره إليها - وليس من الهين تعليل هذه الظاهرة؛ ولكن يمكن أن يقال: إن السبب في ذلك أن اللغات الأجنبية الراقية قد استكملت أدواتها من حيث الألفاظ الموضوعة لكل آلة مخترعة ولكل معنى مستكشف، كما استكملت أدواتها من حيث أساليب التفكير وصياغة المعاني صياغات مختلفة أدخل في الذهن وأقبل للعقل وأجمل في الذوق؛ وأن اللغة العربية أبطأت في تاريخها الحديث ولم تسرع في السير، برغم ما يقوله الدعاة من أنها أغنى اللغات وأجمل اللغات، ثم ينامون على ذلك من غير أن يعملوا على تكميل نقصها، ومعالجة ضعفها؛ وكيف يعمل على معالجة الضعف من لم يشعر بألم المرض؟ وكيف يعمل على تكميل النقص من لم يشعر بنقص؟ - لهذا كان فكر المفكر إذا أجاد اللغتين يتبع - من غير اختيار - أرحبها صدرا وأغزرها مادة وتغييرا.
وسبب آخر: وهو أن الأمم الأجنبية الراقية قد مرنت طويلا على المجالس النيابية والمناظرات المدرسية والجامعية، وتكونت لها مع طول الزمن تقاليد معروفة مألوفة غير مكتوبة، وأثرت في جدلهم ومناظراتهم ومجالسهم أثرا كبيرا، كما أثرت في طرق تفكيرهم ولغتهم التي يتبعونها في الجدل والمناظرة.
ثم - مما لا شك فيه - أن هناك ارتباطا قويا بين اللغة والخلق، فلست تجد في لغة أجنبية من ألفاظ الملق وعباراته ما تجده في اللغة العربية مما أدخله عليها الفرس والأتراك، ولا تجد من عبارات الحشو التي تدل على الذل والخضوع ما تجد في لغتنا العربية الحديثة. كانت اللغة ديمقراطية شريفة نبيلة يوم كانت اللغة العربية لغة العرب الديمقراطيين الذين لا يفرقون كثيرا بين مخاطبة الأمير ومخاطبة بعضهم بعض، ثم أصبحت لغة العبيد يوم تسرب إلى أهلها الذل والعبودية. لقد جلست أول أمس إلى رجل يحدث «باشا» فكان ما أحصيت في حديثه من «سعادة الباشا» أكثر من كلماته في الموضوع. وما لي أذهب بعيدا، ومدلول الكلمة في اللغة العربية أصبح غير مدلولها في اللغة الأجنبية؟ فإذا قال الألماني أو الإنجليزي: «نعم أفعل» لم تدل على نفس المعنى الذي يفهم من قول المتكلم باللغة العربية: «نعم أفعل». «فنعم أفعل» العربية تدل على أنه قد يفعل وقد لا يفعل، والسامع إذا سمعها شك في مدلولها «هل يفعل أو لا يفعل»، فاحتاج إلى أن يكرر عليه الطلب والرجاء، واحتاج المتكلم أن يعيد «نعم أفعل» وربما أقسم، وربما استعمل كل صيغ التأكيد، وهي بعد هذه الأيمان وهذه التأكيدات كلها لا يزال مدلولها أنه قد يفعل وقد لا يفعل، وهو إذا لم يفعل لم يخجل؛ لأنه حق وجها من وجوه الجملة؛ بل المتكلم الشرقي إذا قال: «سأفعل» باللغة الأجنبية كانت أقوى في نظره وأكثر التزاما مما إذا قالها باللغة العربية، والمتكلم هو هو، لم يتغير في الكلمة إلا التعبير عنها بإحدى اللغتين؛ فإذا قالها العربي الأجنبي كان لها أشد احتراما ولتنفيذها أشد رغبة وأقوى إرادة. أليس في هذا كله دليل على شدة الارتباط بين اللغة والعقل واللغة والخلق، وأن العقل واللغة والخلق كلها تتفاعل، فإذا رقيت اللغة تبعا - نوعا ما - رقي العقل والخلق، وإذا رقي العقل تبعه - نوعا ما - رقي اللغة والخلق ، وهكذا. ومن هذا تنتج معادلات جبرية معقدة الحل.
إن الغيرة القومية والنهضة الشرقية تتطلبان أن يعني قادتها بهذه المظاهر، وأن يضعوا للأمة تعاليم جديدة في اللغة والتفكير؛ فهم مطالبون بكل الوسائل أن يميتوا ألفاظ الملق من اللغة العربية ويحيوا ألفاظ الأدب النبيل، وأن يربطوا أشد الربط بين الألفاظ ومدلولاتها، فلا يسمحوا أن يضيعوا مدلول الألفاظ كما هي ضائعة اليوم، وأن يضربوا الأمثال للناشئين في الجدل والمناظرات، فيعلموهم كيف تؤدى المعاني على وجوهها، وكيف تلتزم حدود الجدل فلا تتخطى، وكيف يرسم الغرض الذي يرمي إليه الباحث، وكيف يختط السبيل إليه، وكيف يوفر الزمن إذا هو التزم ألا يقول إلا جديدا في المعنى، وكيف يصل من أقرب طريق.
لو فعلنا ذلك لوفرنا على المجالس زمنها وتفكيرها، ولوصلنا في مسائلنا إلى نتائج خير مما نصل إليه الآن، بل عندي أن السرعة مع الخطأ أحيانا خير من الإبطاء الممل والتفكير الراكد مع الصواب الدائم.
ظاهرة وتعليلها
أعرفه غزير العلم واسع المعرفة، ولكنه يأبى أن يجالس أمثاله من العلماء، ولا يلذه إلا أن يجالس لفيفا من صغار الناس في مهنتهم وعقليتهم؛ وليس الشراب هو الذي يجمعهم ويؤلف بينهم كما هو الشأن في كثير من الأحيان.
وأعرفها فتاة على جانب من الجمال، ولكنها لا تؤمن بجمالها؛ لأن أهلها أدخلوا في روعها من صغرها أن الجمال في البياض والحمرة والشعر الأصفر، وهي سمراء شديدة السمرة، وليس في وجهها حمرة، ولا في شعرها صفرة، فهي في اعتقادها ليس لديها من الجمال شيء؛ وأراها تصاحب فتاتين ليس فيهما من الجمال شيء، وتأبى أن تصاحب جميلة، وخاصة إذا كان جمالها في لونها الأبيض المشرب بحمرة.
وأعرفه فنانا كبيرا، ولكنه يأبى أن يجالس الفنانين الكبار أمثاله، ويفضل أن يجلس إلى مبتدئي الفن يعلمهم ويصلح من أخطائهم، وهم من جانبهم يتملقونه، ويفيضون عليه من ألقاب الثناء ما يملؤه غبطة وسرورا.
وأعرف عشرات من هذه الأمثله أشاهدها كل يوم، وأسمع بها كل حين، وأقرؤها في وصف كثير من الرجال والنساء، فما سرها؟
سرها عندي أن من طبيعة الإنسان أنه يكره «الضعة» ويكره كل ما يشعره بالضعة، ويحب العظمة ويحب كل ما يشعره بالعظمة.
من أجل هذا تراه - في العادة - يكره أن يجالس من هو خير منه في علمه وفنه وأدبه؛ لأن ذلك كله يشعره بصغر نفسه؛ وهو أقل كراهية لمجالسة من هو مثله؛ لأنه لا يحط من شأن نفسه؛ وهو أشد حبا لمجالسة من دونه؛ لأن ذلك يجعله أكثر شعورا بعظمة نفسه.
ويمكن تطبيق ذلك على كثير من الأحداث اليومية والمشاهدات المألوفة. ألست ترى أن «حلبة الكميت» أو جمعية الشراب تكره كل الكراهية أن يكون بينهم وقت شرابهم من لا يشرب، ويستثقلونه مهما ظرف، ويستسمحونه مهما لطف؛ لأنه يذكرهم بالفضيلة حين ارتكابهم الرذيلة، ويشعرهم بأنهم الوضعاء وهو الرفيع، وأنه العين النافذة، وأنه الرقيب عليهم، وأنه العاد لسقطاتهم، وأنه المتحفظ بقوة إرادته عند ضعف إرادتهم؟ كل هذا يشعرهم بالضعة فيكرهونه ويبدءون بالإلحاح عليه أن يشرب لا حبا فيه ولكن حبا لأنفسهم، وإبعادا لشعورهم بضعتهم، ولا يزالون يستحلفونه حتى إذا نجحوا أمنوا الشعور بالضعة، وإذا فشلوا مقتوه ومقتوا جلوسه بينهم؛ لأنه نغص عليهم بهجتهم؛ ومن أجل هذا أيضا أحبوا أن يسمعوا أدب الخمر، وأحبوا أن يسمعوا من يفلسف لهم الحياة وأنها ليست إلا متعة الساعة وشهوة الوقت؛ فإن تجاوز المحدث ذلك إلا أنه لا يعبأ بحرام ولا حلال، وأن يقول كما قال أبو نواس:
فإن قالوا حرام قل حرام
فإن لذاذة العيش الحرام
فذلك عندهم أظرف وأفكه؛ لأنه اجتث الشعور بالضعة من جذوره. •••
هذا هو سبب العداء دائما بين الفضيلة والرذيلة أو بين الفاضل والرذل، وهذا هو السبب في أن الرذل يكره الفاضل أكثر مما يكره الفاضل الرذل؛ لأن الرذل هو الذي يشعر بالضعة من رؤية الفاضل.
وهو السبب في أن الفقير يكره الغني أكثر من كره الغني للفقير؛ لأن الفقير هو الذي يشعر بالضعة إذا قاس نفسه بالغني.
وكثيرا ما يكون سببا في فساد الحياة الزوجية، أن تكون في أحد الزوجين صفات راقية ليست في الآخر، فيشعر هذا الآخر بالضعة عند قياس نفسه بنفس قرينه، فتسوء الحياة ويجهل السبب. •••
بل أرى أن في هذا القانون تفسيرا لكثير من الرجال والنساء الذين يحبون العزلة وينفرون من الناس.
فتفسير هذا أنهم يشعرون بنقص فيهم من ناحية من النواحي الخلقية أو العلمية أو الاجتماعية، كأن يشعروا أنهم لا يحسنون حديث المجالس، او أن في جسمهم عاهة من العاهات، أو أنهم إذا جودلوا أفحموا، أو إذا نيل منهم لم يستطيعوا أن يأخذوا بحقهم. فتراهم يفضلون العزلة ويتغنون بمدحها، ويصبون جام غضبهم وسخطهم على الناس، ويطنبون في ذم الأخلاق وسوء المجتمعات؛ وهو نقص في محب العزلة جعله يشعر بضعة نفسه في المجتمعات، وهو يكره الضعة ويكره كل ما يسببها، وهو لا يحب أن يلوم نفسه وهي السبب؛ لأن في هذا ضعة أيضا، فيلوم الناس ويلوم المجتمعات، ويكون مثله مثل من عجز عن أن ينتقم من عدوه، فانتقم من صديقه. •••
أتدري السبب في أن الشباب لا يودون كثيرا أن يجالسوا آباءهم ولا إخوتهم ولا أقرباءهم، ويفضلون - غالبا - أن يجالسوا الغرباء؟
هو - أيضا - هذا القانون، فإن آباءهم وإخوتهم وأقرباءهم يعلمون نشأتهم، وكل شيء فيهم، وكل شيء حولهم، وفي ذلك عيوب عرفوها، وزلات وقعت تحت أعين الآباء ومن إليهم؛ فالشباب يشعر بهذا التاريخ كله إذا جلس إليهم، وهذا يشعره بالضعة، فهو يفضل عليهم صداقة الغرباء؛ لأنهم يجهلون تاريخه، ويجهلون زلاته؛ فهو عندهم لا يشعر بالنقص، ولا يشعر بالضعة، فكان إليهم أميل، وبهم آنس؛ والمثل العربي يقول: «برق لمن لا يعرفك»، ومعناه تبجح وهدد من لا يعرفك؛ لأن من عرفك لا يعبأ بك.
لقد كان لي أستاذ في سن الخمسين، وكان جلساؤه أقلهم في السن الستين، فسألته في ذلك فقال: إني اخترتهم؛ لأنى أشعر وأنا معهم أني شاب. •••
بل هذا هو السر في أن الرذيلة في كثير من الأحيان توثق الصداقة بين أصحابها؛ فالمقامر أقرب إلى صداقة المقامر، ومدمن الخمر إلى مدمنها، والغزل إلى الغزل، واللص إلى اللص؛ وقل أن ترى ذلك في الفضيلة، فالصدق قل أن يؤلف بين اثنين لصدقهما، والعدل قل أن يؤلف بين اثنين لعدلهما.
والسبب في هذا أن ذوي الرذيلة يشعرون بالضعة من رذيلتهم فيهربون إلى الأراذل مثلهم حتى يتجردوا من هذا الشعور؛ أما الشعور بالعدل أو الصدق فليس فيه هذا الألم فلا يحتاج صاحبه إلى البحث عن مهرب - وهو السبب في احتياج أصحاب الرذيلة إلى مخبأ، فحجرة المقامرة مستورة، ومجلس الشراب في مخبأ، والغزلون يتسترون، ومجال الحشيش والكوكايين في حرز إلخ؛ وليس السبب في ذلك فقط أن رجال الأمن يطاردونهم، بل أكاد أوقن أن هذه الأمور لو أبيحت من رجال الأمن لتستروا أيضا؛ لأنهم يريدون أن يهربوا بأنفسهم من الشعور بالضعة أمام من لم ينغمسوا في الرذيلة انغماسهم. •••
ألست ترى معي أن الرجل الملتزم للأخلاق المتشدد فيها أقل الناس أصدقاء وأشد الناس وحشة، وكلما اشتد في تزمته اشتد الناس في كراهيته؟ وأن الرجل كلما سما عقله بعد عن الناس وبعدوا عنه، وأنهم قد يجلونه ولكن لا يحبونه، لأن سموه إعلان لضعفهم، وعلوه رمز لضعتهم؟
ولعل كثيرا من صفحات التاريخ المملوءة باضطهاد العظماء، وقتل النبغاء، واغتيال الأبطال، تستر وراءها هذا السر الكامن الخطير، وهو أن الاضطهاد والقتل والاغتيال كان سببه الخفي شعور المدبرين بضعتهم أمام هؤلاء العظماء، فتخلصوا من الشعور بالضعة بالقضاء على من كانوا سببه - فلما انمحوا من الوجود كان لا بأس عند من قتلوهم أن يمجدوهم، وأن تمجدهم القرون بعدهم؛ لأن الحقيقة الواقعة أشد إشعارا بالضعة من الذكرى الماضية. •••
وبعد، فلا يستطيع الناس أن يتغلبوا على هذه الرذيلة، وأن يجلس عالمهم إلى من هو أعلم منه، وفنانهم إلى من هو أفن منه، وفاضلهم إلى من هو أفضل منه، يستفيد منه ويأخذ عنه في غير حقد ولا ضغن، إلا بكثير من مجاهدة النفس، وهيهات ثم هيهات!
أمس وغدا
كان لسري مصانع ومتاجر، كأفخم ما يكون من مصانع ومتاجر، أصابتها النار فأتت عليها، وقدرت الخسائر بالألوف.
وكان هذا السري في السنين الأخيرة من عمره، ليس له قوة الشباب، ولا أمل الشباب، وكانت ثورته الضائعة ثروة العمر، ومجهود العمر. جاءه من يسأله عن هذه الكارثة وأسبابها ومقدارها، فأجابه: «لست أفكر في شيء من ذلك، وإنما يملك علي كل فكري الآن: ماذا أنا صانع غدا».
يعجبني هذا الاتجاه العملي في التفكير، فإنه دليل الحياة، وعنوان القوة، ومبعث النشاط، فما دمت حيا ففكر دائما في وسائل الحياة، ووسائل السعادة في الحياة؛ وتلك كلها أمامك لا خلفك، وفي الغد لا في الأمس.
لقد دل هذا السري على أنه يقتني عقلية أقوم مما رعته النار، ونفسية خالدة لا تفنى بفناء المال.
إن الحياة الناجحة تفكر في الغد، والحياة الفاشلة تبحث في الأمس، وقديما قالوا: «إذا أفلس التاجر فتش في دفاتره القديمة». وقال الشاعر وقد رأى بني تغلب لا يعملون عملا جديدا مجيدا، ويكتفون برواية قصيدة قالها عمرو بن كلثوم التغلبي في مدحهم:
ألهى بني تغلب عن كل مكرمة
قصيدة قالها عمرو بن كلثوم
يفاخرون بها مذ كان أولهم
يا للرجال لشعر غير مسئوم
ولأمر ما خلق الله الوجه في الأمام ولم يخلقه في الخلف، وجعل العين تنظر إلى الأمام ولا تنظر إلى الخلف، وأراد أن يجعل لنا عقلا ينظر إلى الأمام وإلى الخلف معا، وأن يكون نظره إلى الخلف وسيلة لحسن النظر إلى الأمام؛ فعكس قوم الفطرة الإنسانية ونظروا بعقولهم إلى الخلف وحده، وقلبوا الوضع فجعلوا النظر إلى الخلف غاية لا وسيلة.
من هؤلاء الذين نكسوا في الخلق من إذا حدثتهم فيما هم صانعون غدا، حدثوك عما صنعه آباؤهم الأولون، وكيف حاربوا، وكيف انتصروا، وكيف سادوا العالم، وكيف وكيف؟ وهذا حق لو اتخذ وسيلة لعمل مستقبل، واستحثت به الإرادة لعمل مستقبل، وضرب مثلا لمعالجة مشكلات المستقبل؛ أما ان يكون غرضا في نفسه، فحديث العجزة ومن أصيبوا بالفقر العقلي وضعف الإرادة.
وممن نكسوا في الخلق هؤلاء الذين يثيرون العداوات القديمة والأحقاد القديمة بين رجال الأمة وقادتها؛ فإذا طالبتهم أن ينظروا إلى الأمام، ويتكيفوا بما يتطلبه المستقبل، أبوا إلا أن يذكروا لك تاريخ الأمس وحزازات الأمس ، وسخائم الأمس؛ وما دروا أنهم بهذا يعطلون مصلحة المستقبل وخير المستقبل، أو دروا ولكنهم الماكرون الخادعون. فليس يصح أن ينظر في الأمس إلا لتجنب أغلاط الأمس في المستقبل، والانتفاع بصواب الأمس وخطئه في المستقبل.
وممن نكسوا في الخلق هؤلاء الذين جمدت عقولهم فاعتقدوا أن كل شيء كان خيره في الأمس وشره في الغد؛ فخير النحو ما وضعه سيبويه، وخير البلاغة ما قاله الجاحظ، وخير الفلسفة ما قاله ابن سينا وابن رشد والفارابي، وخير عصور الدين ما سبق من العصور، وخير الأخلاق أخلاق آبائنا، وأنه لم يبق في هذا الزمن إلا الحثالة من كل علم وأدب ودين وخلق، وأن العالم في ذلك كله سائر إلى التدهور دائما، فأمس خير من اليوم، واليوم خير من الغد؛ فهذه العقلية لا تنفع للحياة وإنما تنفع للصوامع، ولا تنفع للجهاد وإنما تنفع للفناء، ولا تنفع لمن أرادوا أن يتبوءوا مكانا في الحياة، وإنما تنفع من أرادوا أن يتبوءوا مكانا في القبور. إن النحو الذي ننشده هو في المستقبل لا في الماضي، واللغة التي تصلح لنا وتؤدي مطالبنا في الحياة هي في المستقبل لا في الماضي، والأدب الذي يمثل نزعاتنا حق تمثيل هو في المستقبل لا في الماضي، والأخلاق التي تلائم الموقف الاجتماعي الذي نقفه اليوم هي في المستقبل لا في الماضي، وليس لنا من الماضي إلا ما يصلح للمستقبل بعد غربلته وإبعاد ما تعفن منه. إن موقفنا بين الماضي والمستقبل يجب أن يكون كموقف وجهنا فينا، وضعه الطبيعي في الأمام، ولكن الإنسان قد قد يلوي عنقه وينظر إلى الوراء إذا دعت الضرورة، ثم يعود سيرته الأولى من النظر إلى الأمام ويسير لوجهه ويمضي قدما لشأنه؛ ولن ترى إنسانا طبيعيا لوي عنقه دائما، ونظر إلى الخلف دائما.
وممن نكسوا في الخلق هؤلاء الذين وقفوا ينتظرون القدر؛ أولئك لم ينظروا للمستقبل، ولكن ينظرون إلى ما يفعل بهم المستقبل؛ أولئك أحجار ينفعلون ولا يفعلون، ويتأثرون ولا يؤثرون؛ وإنما مستقبلك في يدك ولك دخل كبير في صياغته، فإن شئت تكن فقيرا، وإن شئت تكن غنيا - إلى حد كبير - وإن شئت تكن سعيدا، وإن شئت تكن شقيا؛ وليس يستسلم للقدر إلا من فقد إرادته وأضاع إنسانيته.
لقد أتى على الناس زمان كان الاستسلام للقدر عنوان «الولاية» ورمز القداسة، وكلما أمعن الإنسان في التجرد عن الدنيا أمعن الناس في تعظيمه وتبركوا به ولثموا يده، ولكن هذا تقدير الماضي؛ أما تقدير اليوم والمستقبل فالولاية والقداسة في العمل. والولي أو القديس هو المصلح، وهو الذي يبني المجد بعمله لأمته وللإنسانية، وهو الذي يواجه العمل في شجاعة وإقدام، لا الذي يفر من الميدان، وهو الذي يرسم خطة العمل وينفذها، لا الذي يعزي عن الكوارث ويعود المرضي ويلطف وقع البؤس، وهو الذي يشق الطريق لمحو الفقر عن الفقراء والبؤس عن البؤساء، لا الذي يزرف الدمع ويوصي بالصبر على احتمال الفقر من غير حث على العمل، والتفكير في طرق الخلاص من البؤس؛ وليس الولي والقديس من يحلم بل من يعمل.
ومضى الزمن الذي كنا نرصد فيه النجوم لنطلب السعادة من سلطانها، ونجتنب الشقاء في أوقات نحسها؛ وأصبحنا نشعر بأن النحس نحس الخلق وموت الإرادة، والسعادة حياة النفس وتفتح الأمل، والمشي في مناكب الأرض، وإعمال اليد والعقل في جلب الرزق، وجلب الخير، ودفع الشر ودفع البؤس والفقر. •••
خير لك إن كنت في ظلمة أن تأمل طلوع الشمس غدا من أن نذكر طلوعها أمس، فلكل من الظاهرتين أثر نفسي معاكس للآخر، ففي ترقبك طلوع الشمس غدا الأمل والطموح إلى ما هو آت، وفي هذا معنى الحياة؛ وفي تذكرك طلوعها أمس حسرة على ما فات، وألم من خير كنت فيه إلى شر صرت فيه، وفي ذلك معنى الفناء.
وفرق كبير بين من يلطم اللطمة فلا يكون له وسيلة إلا البكاء، وتذكر اللطمة ثم البكاء، ثم تذكر اللطمة ثم البكاء، وبين من يلطم اللطمة فيستجمع قواه للمكافحة. والحياة كلها لطمات، وأعجز الناس من خارت قواه أمام أول لطمة فهرب. ولو أنصف الناس لقوموا الناس بمقدار كفاحهم لا بمقدار فشلهم ونجاحهم . •••
شر ما ألاحظ في الشرق حنينه الشديد إلى الماضي، لا أمله القوي في المستقبل، واعتقاده أن خير أيامه ما سلفت لا ما أقبلت، وإعجابه الشديد بأعمال الماضين وإهمال المعاصرين. له منظاران: منظار مكبر يلبسه إذا نظر إلى الماضي، ومنظار مصغر أسود يضعه إذا نظر إلى الحاضر والمستقبل. يلذه أن يطيل البكاء على الميت، ولا يلذه أن يتدبر فيما يجب أن يفعله الأحياء. يستسهل النفقات مهما عظمت على الميت، ويستكثر نفقات الطبيب وأثمان الدواء للمريض. يعجبهم أن يتمثلوا الأمثال تدل على عظم الماضي، ولا يعجبهم أن يتمثلوا الأمثال تبعث الأمل في المستقبل؛ ففي أعماق نفوسهم أن قول القائل: «ما ترك الأول للآخر» خير من القول: «كم ترك الأول للآخر»، ويلوكون دائما «لا جديد تحت الشمس»، ولا يعجبهم أن تقول: إن كل ما تحت الشمس في جدة مستمرة، والمستقبل مملوء بالجديد. وإذا رأوا كلمة في كتاب قديم تدل - ولو دلالة كاذبة - على نظرية جديدة طاروا بها فرحا؛ لأن ذلك يلائم ما في نفوسهم من تعظيم الماضي وتحقير الحاضر والمستقبل. هم يعيشون في أحلام، ولا يريدون أن يعيشوا في حياة واقعة، وحول هذه المعيشة الحالمة ينسجون دائما ما يوافقها ويمازجها ويسايرها، ويكتفون بالأمل أن ينعموا بالآخرة؛ وماذا عليهم لو عملوا لينعموا بالدنيا والآخرة؟
ما نعلم وما لا نعلم
ظاهرة واضحة، وهي أن أجهل الناس أكثرهم ادعاء للعلم وأعلمهم أكثرهم اعترافا بالجهل.
كل شيء سهل واضح قابل للفهم، قابل للتفسير عند الجهلاء وأنصاف العلماء.
ما الذي نعلمه عن هذا الكون؟ لا نعلم إلا ظاهرة، ولا نعلم إلا سطحه؛ أما حقيقته، وأما أعماقه فلا نعلم منها إلا قليلا، ونحن حائرون في أمرها، ولا يدري إلا الله متى تنتهي هذه الحيرة.
يجد العلم ويجد، ويظفر كل يوم بقوانين يخرج بها بعض الأشياء من دائرة المجهول إلى المعلوم، ولكنها قوانين تتصل بالظواهر أكثر مما تتصل بالأعماق. أما حقيقة هذا العالم وكنهه فلا يتقدم العلم فيها تقدما يذكر.
يزعم المناطقة أنهم يستطيعون «تعريف الأشياء»، ويضعون قواعد وتفاصيل للتعاريف ، ولكنهم في الواقع جد جاهلين، ولا يمكن تعريف أي شيء.
قالوا: إن الإنسان حيوان ناطق، والفرس حيوان صاهل، وظنوا لغباوتهم أنهم بذلك عرفوا الإنسان والفرس، واستناموا لهذا؛ وظل الإنسان مجهولا بعد تعريفهم كما كان مجهولا قبله، وظل الفرس مجهولا بعد التعريف كما كان قبله. واجتهد علماء كل علم أن يعرفوا أشياء علمهم، فاختلفوا كلهم في تعريف الأشياء وخواصها، ولم يلمسوا حقيقتها مطلقا؛ ولذلك كان من الحق أن يعدلوا عن كلمة التعريف إلى كلمة أخرى ليس فيها هذا الغرور، أو أن يغيروا تعريف «التعريف»، فلا يدعو أنه بيان حقيقة الشيء، وإنما بيان أهم صفاته.
هل استطاع أحد أن يعرف ماهية الكهرباء؟ كلا، ولا أعلم الناس بها، ولا أكبر عالم بشئونها. إنما يعرف كيف يستخدمها ويعرف بعض قوانينها، ويعرف كيف ينتفع بهذه القوانين في الحياة اليومية من إنارة وتدفئة وتبريد، ومن تليفونات وتلغرافات وراديو، وما إلى ذلك. أما ما هي الكهرباء، فسؤال لم يستطع أن يجيب عليه عالم يحترم علمه.
والعالم مملوء بعناصر كثيرة، وقوى كثيرة، ولسنا نعرف حقيقة لأي عنصر منها، ولا أي قوة من قواها، إنما نعرف بعض خصائصها ومميزاتها. ما حقيقة الذرة، وما الجزيء، وما الخلية؟ أسئلة نجيب عليها بذكر الصفات لا بذكر الحقائق؛ لأنا نجهل حقائقها جهلا تاما.
حتى أقرب الأشياء إلينا وأكثرها مساسا بنا نشعر به ولا نعرفه. وهل أقرب إلينا من حياتنا، ولكن ما هي الحياة؟ لا نعلم. ليقل العلماء فيها ما يقولون، فلن يستطيعوا معرفتها إلا إذا خلقوها
إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب .
فإذا انتقلنا إلى المعاني فالأمر فيها أصعب. فكلنا يعشق، وكلنا لذه الوصل وآله الهجر، وكلنا أضناه العشق، ولكن ما هو العشق؟ لا ندري. بل ما الحرية؟ ما الجمال؟ ما الأمل؟ ما العدل؟ ما الشجاعة؟ ما الخير؟ ما الشر؟ أشياء نتحسس معانيها ولا نعرف كنهها.
ولم يتقدم العالم كثيرا من ناحية استكشاف الحقائق، وإنما كان أكثر تقدمه من ناحية استكشاف الخصائص؛ وبعبارة أخرى لم يتقدم من ناحيته العلمية البحتة، وإنما تقدم من ناحيته الفنية، فقد عرفنا فن استخدام البخار، وإن لم نعرف حقيقته، وعرفنا فن الحياة، وإن لم نعرف الحياة نفسها، وعرفنا فن العشق، وإن لم نعرف ماهية العشق، وتفننا في نظم الحرية واستخدمناها في حياتنا السياسية والاجتماعية، وإن لم نعلم كنه الحرية؛ وهكذا في كل شئون الحياة، نجح الفن وفشل العلم، وأمل الفنان ويئس العالم أو كاد؛ وبعبارة أدق: إن الإنسان تقدم تقدما كبيرا في الإجابة عن «كيف»، ولكنه لم يتقدم تقدما كبيرا في الإجابة عن «ما». •••
وهنا يحق لنا أن نتساءل: لم وضع الإنسان في هذا العالم هذا الوضع؟ وأحيط بألغاز عجز عن حلها؟ فهو يعرف ظاهرة المادة فإن تعمق قليلا ليعرف كنهها أدركته الحيرة؛ وفيما وراء المادة من إلهيات ونحوها هو أشد حيرة، حتى لقد زعم بعضهم أن «الله» في اللغة العربية من: أله يأله، إذا تحير (لأن العقول تأله في عظمته).
الحق أن هذا الغموض في العالم مصدر كبير من مصادر اللذة للعقول الكبيرة، وأن حياة العلماء كانت تكون تافهة، لولا هذا الغموض والإلغاز - وموقف العالم من ألغاز العالم موقف الماهر في الشطرنج، ألذ ألعابه أصعبها حلا، وكالرياضي الحاذق لا يستلذ المسائل السهلة والنظريات البسيطة، إنما يستلذ أصعب التمارين حلا وأشدها تعقدا، وهو في هذا ينسى نفسه، وينسى كل شيء حوله، ولا يعدل بلذته في حل الصعاب أي لذة أخرى.
العالم مجموعات من الغوامض تتطلب الحل، وإن شئت فقل: إنه رواية على شريط السينما ليست ناطقة ولا هي مفهومة الصور كل الفهم، ومنذ خلق الإنسان والعالم يتوارد عليه شخصيات كبيرة مختلفة الألوان: من أنبياء يعلمون ما أوحي إليهم، وشعراء يتغنون بجمال الطبيعة، وعلماء يدرسون ويحللون ويستنتجون، وفلاسفة يتعمقون ويقلبون البحث على كل وجوهه الممكنة وغير الممكنة، ومتصوفة أدركوا فشل المنطق والعلم في معرفة حقائق الكون، فذهبوا ينشدون المعرفة من طريق الذوق والإلهام. وكل هؤلاء وهؤلاء قدموا للناس معارف صحيحة وقضايا أصبحت لا تحتمل الشك، ولكن حقائق الكون كلها بقيت مجهولة لدينا تتطلب الحل، وقد فسرت بعض صور الرواية؛ ولكن جوهر الرواية ومغزاها وسرها ظل غامضا لدينا.
ومع هذا الغموض وهذه الحيرة يجب أن نتساءل: هل هذا العالم بني على أساس منطقي في تكوينه وفي تصرفاته، أو هو خابط خبط عشواء، يسير لا إلى غاية ويتجه في الأمر الواحد يمينا أحيانا ويسارا أحيانا من غير قانون؟ وهل الصورة التي يعرضها على شريط السينما تدل حوادثها على أن لها مغزى ترمي إليه، ويدل ما فهم منها إلى الآن على أنها منطقية في ترتيبها وإن لم تفهم كلها، أو هي مجموعة مفارقات لا تربط أجزاءها رابطة، وينقص آخرها ما أبرم أولها؟ وهل العالم مدرسة تتعلم فيها الحكمة، أو هو حجرة لألعاب الأطفال، أو مسرح تمثل فيه ألعاب نيرنجية وشعوذة وحركات بهلوانية؟ وهل العالم مسألة هندسية معقدة، بنيت على نظريات صحيحة يصعب علينا حلها، ولكن ظاهرها يدل على أنها معقولة ممكنة الحل، أو هو مسألة هندسية لم تبن على أساس صحيح ولا على منطق مرتب، وإنما هي مسألة اخترعت من هنا ومن هناك وقصد واضعها حيرة من حاول حلها ثم لا حل لها؟
الحق أنه يتوقف على الإجابة عن هذه الأسئلة سيرنا العلمي واتجاهنا العقلي؛ فإن كانت مظاهر الحياة كلها مفارقات وأحداثا مفاجئة غير خاضعة لقانون، كان البحث العلمي ضربا من العبث، وكان كل قصاراه، أن يسجل ما حدث. أما إذا كانت مظاهر الحياة عبارة عن قوانين حكيمة تسلم مقدماتها إلى نتائجها كان البحث العلمي ممكنا ومعقولا ومدرسة للحكمة.
وقد دلتنا الدلائل كلها على أن العالم خاضع للمنطق، وأن له غرضا يسير إليه وليس يسير حسبما اتفق، وأنه محكوم بقوانين ثابته لا تتغير، وأن كل مظاهره خاضعة لقانون العلة والمعلول، والسبب والنتيجة؛ فلمس النار يحرق دائما، والحرارة تمدد الأجسام دائما، والحب يستتبع سعادة دائما، والكره يستلزم شقاء دائما.
ولكن بعض هذه القوانين واضحة ظاهرة لا تحتاج في فهمها إلا إلى التفاتة بسيطة ساذجة، وبعضها معقد كل التعقيد غامض كل الغموض، حتى ليظهر لنا من شدة غموضه وكثرة تعقده أنه لا يمكن حله؛ وبين هذا وذاك درجات في الغموض لا عداد لها. ومع هذا كله لو قارنا بين الإنسان الأول ومعارفه عن العالم، والإنسان الآن ومعارفه عن العالم، وجدنا الفرق واضحا جليا، ووجدناه قد وصل في بحثه إلى نتيجة هي أقوم مما حصله من العلم، وهي أن العالم وإن كان أكثره مجهولا إلا إنه يخضع لقوانين ثابتة، بعضها قد علم وبعضها لم يعلم، وما لم يعلم تدلنا إشارته وإيماءاته على أنه قد يعلم يوما ما. وهب أنه لا يمكن أن يعلم إلا بعضه وأن هناك دائرة من العلم لا يستطيع الإنسان اجتيازها، وأن عقل الإنسان بتركيبه الحالي لم يسلح التسلح الكافي ليغزو هذه الدائرة، وإنما منح أسلحة يستطيع أن يستعملها في بعض الدوائر دون بعض، فحياة الكفاح العلمي التي يحياها العلماء هي ألذ حياة عرفت، بل لا أظن أن حياة العلماء تكون سعيدة لو أن كل شيء انكشف لهم من غير بحث ومن غير عناء؛ فالقليل ينال بعد التعب خير من كثير ينال من غير نصب. وما ألذ منظر العالم أو الفيلسوف يحار ثم يحار، ويدور حول الشيء ويدور، ويتجه يمينا فلا يفلح، ثم يتجه يسارا فلا يفلح حتى يعمى عليه الأمر، ثم يبدأ في البحث مرة أخرى لا يكل ولا يمل، وأخيرا يدرك منه الشيء القليل فيغتبط به الاغتباط العظيم، ويرى أن الدنيا بحذافيرها ولذاتها وسعادتها لا تساوي شيئا بجانب ما ناله من المعرفة ولو بالشيء القليل بعد الجهد. ولو خير بين متع الحياة كلها وبين عنائه في بحثه ومشقته في درسه ما فضل على بحثه ودرسه شيئا.
قد يقول قوم: إن هذا النظام نظام أخرق، فقد خلق العالم لغزا، وخلق عقل الإنسان بحيث لا يستطيع حل اللغز، وقد كان المعقول أحد أمرين: إما أن يخلق العالم أبسط من هذا أو يخلق العقل أكبر من هذا، أما أن يغمض العالم كل هذا الغموض ويقصر العقل كل هذا القصور فليس من المعقول! ولكني لا أرى هذا الرأي، فقد كان يكون هذا القول معقولا لو أن طبيعة العالم وطبيعة العقل لا تلتقيان، أما وقد التقتا وأمكن للعقل أن يمس العالم ويحل بعض ألغازه ويوسع كل يوم دائرة المعلوم ويقلل من دائرة المجهول فلا محل لهذا القول. وإذا وضع مهندس مسألة صعبة الحل ولكنها منطقية وحار الطلبة في حلها فلا يلام المهندس إلا إذا آخذ الطلبة إن قصروا؛ أما إن وضعها لمجرد اختبارهم ولم يؤاخذهم على تقصيرهم إن تبين له عجز في كفايتهم فلا لوم عليه. على أن هذا الاعتراض قد يكون فيه شيء من الوجاهة إن قلنا: إن العالم خلق ليحله عقل الإنسان، فكان العالم معقدا أكثر مما يلزم. والعقل قاصرا أكثر مما يلزم؛ أما إذا كان العالم قد خلق لشيء آخر غير أن الإنسان يحله، بل العالم ومنه عقل الإنسان خلق لحكمة وراء ذلك، أصبح الاعتراض في ذاته سخيفا.
وبعد، فإذا كان الإنسان يرى لذاته في هذا الغموض ومحاولة الحل والنجاح أحيانا والفشل أحيانا، فخير له أن يتمتع بهذه اللذة القوية الواضحة في هذا الجو الغامض!
فى رأس البر
يعجبني في رأس البر بساطة العيش والقرب من الديمقراطية؛ يعيش الناس - كما كان يعيش آباؤهم الأولون - في أكواخ من الحصر، لا فرق بين كبيرهم وصغيرهم، وغنيهم وفقيرهم، ويلبسون لباسا ساذجا، قريب الشبه بما كان يلبس آباؤهم، ويسبحون في البحر عراه، ويمشون على البر حفاه؛ ملوا المدنية وزخارفها، والحضارة وبهرجها، وهربوا من المدن وضوضائها، والأرستقراطية وأوضاعها وتقاليدها وتعقيداتها، وارتموا في أحضان الطبيعة، فأفسحت لهم صدرها ينزلون إلى البحر فينفضون عنهم هموم الحياة، وينبطحون على الرمل، ويذكرون قوله تعالى:
منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى .
ليس فيها قصور شامخة بجانب أكواخ وضيعة، وليس فيها ثريات كهربائية بجانب أضواء زيتية أو غازية، ولا ملابس أنيقة بجانب أثواب مهلهلة؛ يصعب عليك التمييز فيها بين الغني والفقير، والعالم والجاهل، إلا في الآنسات والسيدات، فهن يأبين إلا الظهور، والتمسك بالفروق، وإلا في أمثالهن ممن حليتهن لباسهم، وقيمتهم مظهرهم.
خلف فيها الناس وراءهم المخترعات الحديثة بجلبتها ورذائلها؛ فلا سيارات تصم الآذان بأبواقها، وتأنف الأنوف من روائحها، وتربك السائرين لسرعتها وكثرتها واضطراب حركاتها؛ ولا «تليفون» يرن في الهجير وفي منتصف الليل، فيوقظك من نومك الهادىء، ويحملك رجاء تنوء بحمله، أو يصلك بثقيل ينغص عليك الحياة بحديثه؛ ولا «راديو» يسمعك اللطيف والسخيف، ويأبى عليك النوم أحوج ما تكون إليه، وأشد ما تكون الرغبة فيه؛ لأن جيرانك يأبون إلا أن ينتفعوا به كاملا من بدء يمين - شمال، إلى سلام الختام؟ •••
حياة حرة طليقة، وجو مفتوح، وهواء جديد دائما، لم تفسده الحضارة بدخانها وغازاتها، ولم تحبسه الأبنية الشامخة، ولم تحجزه الحيطان الأربعة؛ تتجدد النفس بتجدده، وتمتلىء نشاطا من نشاطه؛ يغذي كل خلية غذاء حلوا طيبا، ويخلع على الجسم لونا نجاشيا ظريفا، وينعش العواطف والروح، فهي قوية حادة، شديدة التنبه، شديدة الإحساس؛ حتى عاطفة الدين، فهي أقوى ما تكون، وأطهرها ما تكون، وأصفى ما تكون، حينما تتجلى الطبيعة في ثوبها النظري الجميل، في السماء والماء والمزارع والحقول؛ فليس الإلحاد والزندقة، والتعصب الذميم، وضيق النظر، إلا وليد الحضارة المعقدة، والجو الخانق، والفكر الراكد، ودوران الفكر حول نفسه لا حول الطبيعة.
في جو المدن لا يشعر الإنسان بالسماء إلا عند المطر، ولا بجمال الشمس، ولا جمال القمر؛ ولا يلمس الطبيعة إلا إذا ساءت من شدة الحر أو شدة البرد! كل ما حوله من جمال جمال صناعي؛ قد استغنى بجمال طاقات الزهور عن الزهور في منابتها، وجمال الطبيعة، وجمال الخلقة؛ وهيهات أن يتساوى منتحل وغير منتحل، فليس التكحل في العينين كالكحل!
إنما يشعر الإنسان بجمال الطبيعة يوم يخرج من المدينة إلى الريف ويفر من الحضر إلى البدو، فينكشف له الخلق بجماله القشيب، وتأخذ بلبه السماء في لا نهائيتها، والبحار في أبديتها؛ ويشعر شعورا قويا بأنه ذرة من ذرات العالم، وجزء صغير من أجزائه، ضعيف بنفسه، قوي بكله، وأنه لا شيء يوم ينفصل عنه، وأنه نغمة من نغماته يوم يتصل به. •••
لوددت أني خلعت نفسي في المدينة يوم فارقتها، فقد سئمت نفسي وسئمتني ومللتها وملتني، وتمنيت أن تكون النفس كالثوب تخلعه حينا، وتلبسه حينا، ويبلى فتجدده، وتكرهه فتغيره؛ إذا لاستبدلت بنفسي - ولو إلى حين - نفسا مرحة، تستغرق في الضحك من الشيء التافه، ومن لا شيء، ولا تبكي على ما فات، ولا تحمل هما لما هو آت.
بل لتمنيت أن اكون كدودة القز تكون دودة حينا، ثم تكون فراشة حينا، أرشف من هذه الزهرة رشفة، ومن هذه رشفة، وأنشر جناحي في الشمس، أعيش في جمال وأغيب في جمال، كما تغيب الشمس الجميلة في الشفق الجميل، أو كما تفنى النغمة الحلوة في رنات الآلات، أو كما تنداح الابتسامة العذبة في الوجه الصبوح، أو كما تندمج الموجة العظيمة في البحر العظيم! ولكن أنى لي هذا؟ ولو كان لشكوت وبكيت، فأنا كما خلق المتنبي:
خلقت ألوفا لو رجعت إلى الصبى
لفارقت شيبي موجع القلب باكيا •••
وخرجت مبكرا والناس نيام، أمشي على الشاطئ، وأرقب الشمس في طلوعها؛ والشمس على الساحل أجمل من الشمس على غيره، فليس لها تلك القوة العاتية، ولا الحرارة القاسية، ولا الأضواء المعشية؛ فيها شيء من الوداعة واللطف والحنان!
ها هي ذي قد طلعت، فأخذت الحياة تدب في النفوس، تلقي أشعتها على البحر فينعقد منه سحاب فمطر فأنهار، فجميع ما لذلك من أعمال باهرة، وقوى ساحرة، وأفعال عجيبة؟ أنظر يمينا فأرى النيل، وأنظر يسارا فأرى البحر وقد عاد النيل إلى البحر بعد أن أتم دورته، وأدى مهمته؛ قد خرج هذا العذب الفرات من هذا الملح الأجاج، كما يخرج اللبن من بين الفرث والدم. قد سلسلوا النيل فعدا عليه البحر فاغتصب مجراه، وأملح ماءه، ثم فكوا قيوده فاسترد حقوقه، وأراد أن ينتقم من أبيه، فحاول أن يحتل شاطئه، ويحلي ماءه، ويعكر صفاءه، ثم ندم على العقوق فتاب وأنام، وإذا هما مؤتلفان، بينهما برزخ لا يبغيان.
ثم تسطع الشمس، وودت أن تكون مذكرة في اللغة العربية، كما هي مذكرة فيما أعرف في اللغة الأوربية؛ لأنها تتزوج الأرض فتولدها ما شئت من أشكال وألوان وذكور وإناث، وكأن أشعة الشمس خمر معتقة تشربها الأرض فتنتشي وتبتهج، وتمتلىء قوة ونشاطا وحركة.
وتقع أشعتها على الطير فيسرح ويمرح ويتغنى، وتحل في قلب الإنسان فيهدأ روعه، ويذهب فزعه ويطمئن إلى حياته، وتتحرك إرادته، وتنتعش آماله.
دعني أتعر، فالعراء على الساحل مباح، فأملأ جسمي بأشعتها، وأملأ شعوري ودمي بقوتها، وأملأ نفسي بعظمتها وسحرها.
ومشيت إلى قلعة في رأس البر كنت آنس بها قديما، وكان في كل حجر من أحجارها صفحة من العزة القومية، والحمية الوطنية؛ أقامتها الأمة يوم كانت تشعر بنفسها، وتدافع بنفسها عن كيانها، وتحس بتبعاتها، وتدبر شئونها، وتدير أموالها كما يتراءى لها - فرأيتها وقد عدا عليها الزمان، وعلاها البلى ونقض أحجارها، وليس من يعتز بها فيقيم أنقاضها؛ ورأيت بها «مدفعا» قد هزأ به الرمل فغطاه، وسخر به الصدأ فعلاه. دفن كما يدفن عزيز أرداه الزمان بسهامه، وذل كما يذل السيد الكريم توالى عليه الدهر بأحداثه! ورأيتهم أقاموا في وسطها صهريجا يخزن الماء لرأس البر، فقلت: سبحانك ربي، جعلت من مستودع النار ماء، كما جعلت من الشجر نارا! لقد كان مكانك رمز القوة فأصبح رمز الرقة، وكان بك جن يقذفون بالنار فبدلت بهم ملائكة يوزعون الرحمة، وكان بك دم يغلي، فأحاله الزمان القاهر زلالا باردا، وما أدري ماذا جاش بنفسي فدمعت عيني!
وقالوا قد جننت فقلت كلا
وربي ما جننت وما انتشيت
ولكني ظلمت فكدت أبكي
من الظلم المبين أو بكيت
فإن الماء ماء أبي وجدي
وبئري ذو حفرت وذو طويت
ثم صحوت فقلت: أتندب كل طلل مررت به، وتبكي كل شيء رأيته، وتحزن في معاهد الفرح، وتنقبض في مغاني المرح؟ من أجل هذا تمنيت - قبل - أن أخلع نفسي، ووالله لو أمكنتني الفرصة ثانية ما ترددت، ولسمحت وما حرصت، فقد برمت بها وعجزت عن حملها.
هيا إلى البحر! فهناك الفرح والمرح، وهناك يضحك الناس له ويضحك لهم، ويداعبون أمواجه وتداعبهم، وأحيانا ينسون جلاله فيصفعهم ! فيه الحياة، وفيه القوة، وفيه العظمة، وفيه أكبر مظهر لطاحون العالم، تطحن دائما، وتطحن ناعما!
بين الصحف والكتب
هنالك حرب عوان بين الصحف والمجلات من ناحية، والكتب من ناحية أخرى. وهذه الحرب لا نراها ولا نشعر بها؛ لأنه ليس لها صليل السيوف ولا دوي القنابل، ولكنها مع صمتها شديدة قوية، يراها المفكر ويرتاع لمنظرها، ويعجب من هجومها ودفاعها؛ هي أشبه ما تكون بالحروب الاقتصادية، كالحرب بين السلع اليابانية والسلع الأوربية، وكالحرب بين الثقافة الإنجليزية والثقافة الفرنسية، تغيب عنك في كثير من الأحيان وسائلها، ولكن تبدو - في وضوح تام - نتائجها.
والحرب بين الصحف والكتب تدور على القراء؛ فهم ميادين القتال، وهم المستعمرات التي تحاول كل ناحية أن تشملها بنفوذها، وتبسط عليها سلطانها، وتأخذ صكا عليها بالاحتلال، أو كما يعبرون عنه باللغة الحديثة «الانتداب»، وحددت كل طائفة مطالبها واطمأنت إليها.
هناك طائفتان خرجتا من دائرة النزاع، وهما الطائفة المثقفة ثقافة دنيا، والطائفة المثقفة ثقافة عليا؛ فأما الأولى فقد احتلتها الصحف والمجلات وكسبتها كسبا نهائيا؛ وهم بهذا الاحتلال راضون مطمئنون لا يضجون بشكوى ولا يرفعون احتجاجا، ولا ينادون باستقلال، وقد يئست منهم الكتب وأخرجتهم من منطقة نفوذها، واعترفت بهزيمتها أمامهم هزيمة منكرة؛ هؤلاء هم طبقة العمال ومن في درجتهم، وتلاميذ المدارس الذين لم يتموا دراستهم، والطبقة الغالبة من الآنسات والسيدات المثقفات إلى حد ما. وأما الطائفة الأخرى وأعني بها المثقفين ثقافة عليا، فلا غنى لهم عن الكتب؛ لأنهم يرونها غذاءهم الدسم وعمادهم في حياتهم الفكرية، وهي التي تحقق مطالبهم، وتحاول أن تحل لهم ما يعرض لهم من مشكلات عقلية؛ وهؤلاء أمثال رجال الجامعات والقضاة والفلاسفة والأدباء والعلماء ومن يتصل بهم ومن ينهج منهجهم، ويعد نفسه للوصول إلى درجتهم؛ وهم يقرأون الصحف لأخبارها والمجلات لطرافتها، واعتمادهم الحقيقي في علمهم وأدبهم على الكتب غالبا.
وبين هاتين الطبقتين طبقات لا عداد لها هي محل الحرب بين الصحف والكتب، وهي موطن النزاع، وهي الغرض الذي يرمي إليه كل للاستيلاء عليه؛ والحرب على هذه الطوائف سجال، يوما تنتصر المجلات والصحف فتشعر الكتب بالفشل، ولكن سرعان ما تتخذ التدابير للهجوم، ويوما تنتصر فيه الكتب فتشعر الصحف بلذعة الهزيمة ثم تستعد للوثبة، وهكذا دواليك.
ولكل جبهة من هذين المعسكرين وسائل للقتال وآلات للحرب، تقوم لها مقام الطيارات والغواصات والدبابات والغازات الخانقة في الحروب البدنية. وأنا أسوق لك طرفا قليلا من هذه الوسائل:
فالصحف أخذت من جانبها تعد صفحات فيها لأنواع الثقافة المختلفة: فصحيفة للأدب، وصحيفة للعلم، وثالثة للاقتصاد، ورابعة للقانون، وخامسة للفن وهكذا، تريد بذلك أن تغني القراء عن الكتب، وتملأ شهوتهم للمطالعة والقراءة، ثم هي تجذب إليها أعلام الكتاب والأدباء والعلماء، وتطلب إليهم أن يوافوها بفصول من علمهم وأدبهم حتى يقبل القراء على صحفهم، ويرووا لذائذهم من قادتهم فلا يحتاجوا بعدها إلى الكتب؛ ثم هم يثيرون النزاع بين الكتاب في مسائل هامة، ويوقدون النيران ليزيدوا الحرب اشتعالا؛ وهي كلما اشتدت نيرانها كثر قراؤها، وانقسموا قسمين أو أقساما، وتشيعوا شيعا، فهذا مؤيد وهذا مفند، والخسران في كل ذلك على الكتب.
والمجلات من جانبها تحارب الكتب بشتى الوسائل؛ فأحيانا تستغل شهوة الجمهور بالكتابة في النواحي الحساسة فيهم، فنقدم لهم ما يشتهون، وتعلمهم منها ما يجهلون، وأحيانا تسلك سبيلا أشرف من هذا، فترفع مستواها وتصل إلى حد الكتب في بحثها أو خير منها، وتقدم لقرائها صورا جذابة، وخرائط مبينة، فتستهوي القراء، وتجذبهم إلى مطالعتها، ويجدون فيها من التنوع والتعرض لشتى الموضوعات ما لا يجدونه في كتاب؛ وأحيانا ترقى إلى أكثر من ذلك كالذي نجده في الغرب من مجلات دورية للجغرافيا وللتاريخ وللطبيعة وللكيمياء وللأخلاق والاجتماع وهكذا؛ يعكف على الكتابة فيها خاصة الخاصة، ويفخر العالم بأن المجلة قبلت مقالته فنشرتها، ويجد فيها القارىء أرقى ما وصل إليه العلم من نظريات ومكتشفات، فهي من هذه الناحية سمت على أكتاف الكتب وحلقت فوقها.
هذا قليل من كثير من حرب الصحف والمجلات للكتب. وأما حرب الكتب لها فأكبر مظهر لذلك ما نراه سائدا في عصرنا من محاولة المؤلفين الوضوح والإبانة ليصلوا بمعلوماتهم إلى أكثر الأوساط وأقلها ثقافة، واحتيالهم في أساليب الكتابة حتى يتعرضوا إلى أعقد المسائل وأعوص المشكلات، فيعرضوها في شكل لذيذ جذاب، فتشعر كأنك تقرأ قصة أو تستمتع برواية، ثم هم يشوقون القارىء بشتى الأشكال فيسمون الكتاب «قصة الفلسفة» أو يسمون كتب التاريخ «قصة الأمم» ونحو ذلك؛ ثم يودعون الكتب من الصور الملونة للمناظر العامة والأشخاص وعظماء الناس ما يسهل عليك دفع الثمن واقتناء الكتاب، وهم من حين لآخر يهاجمون المجلات بإخراج الكتب على شكل مجلات دورية، فيخرجون «دائرة معارف الأطفال» عددا في كل خمسة عشرة يوما، ويستمرون في ذلك سنوات، حتى إذا فرغوا من ذلك عجبت أن أصبح لديك كتاب ضخم في عشرة مجلدات أخذته بشكل مجلة؛ فإذا انتهوا من ذلك عمدوا إلى كتاب آخر عنوانه «خلاصة العقائد الحديثة» ومن هذا القبيل كثير.
وبعد: فأي ذلك خير للأمم؟ أن تنتصر في هذه الحرب الصحف والمجلات أم تنتصر الكتب؟ وماذا أفادت هذه الحرب؟
الحق أننا استفدنا كثيرا من هذا النزاع، وتحققت به الرغبات المختلفة، فإن صعبت قراءة الكتب في أوقات الرياضة وحين الانتقال من مكان إلى مكان، في الترام أو القطار أو البواخر، فالمجلات والصحف أوفى بتحقيق هذا الغرض، يسير ثمنها، سهل حملها، خفيفة موضوعاتها.
وإن صدعتنا الكتب أحيانا بما فيها من ثرثرة ومن صفحات لا قيمة لها، ليست إلا تمهيدا سقيما لفكرة قد تكون سقيمة، فقد نجد في المجلات المحترمة عصارة مركزة لأفكار قيمة هي خلاصة لشيء كثير ركزت في قول وجيز.
وإن أفرطت الكتب في الالتفات إلى الوراء بالبحث عما قبل التاريخ وما بعد التاريخ وثورات الأمم، وحروب الأعداء، وسيرة الملوك والخلفاء والأمراء، فالصحف كفيلة أن تلفتنا كثيرا إلى الحاضر، وتضع يدنا على الواقع، وتقفنا على العالم الذي نعيش فيه، وتعرض علينا مشكلاتنا الحاضرة. وما عملته عقول المفكرين الأحياء في حلها.
وإن غلت الكتب في أكثر الأحيان في عرض النظريات العلمية والأدبية في شكل جاف وأسلوب بغيض، فالصحف والمجلات تأخذ على عاتقها أن تصوغ ذلك كله صياغة أدبية فيها كثير من الخيال الشعري ، وفيها كثير من لباقة الأدب وطرافته.
ولئن كانت الكتب أرستقراطية في جميع نواحيها، أرستقراطية في ثمنها، أرستقراطية في معلوماتها وموضوعاتها، أرستقراطية في قرائها، فالصحف والمجلات ديمقراطية في كل ذلك. ومن أجل هذا انتشرت الصحف والمجلات، وانتصرت في عهد الديمقراطية، وكانت الكتب في أوجها وعزها في عصر الأرستقراطية.
ولكن من الحق أن نحتفظ بأرستقراطية الكتب وأرستقراطية العقول التي تتطلبها، فهؤلاء الديمقراطيون الذين يقرأون، وهذه الصحف والمجلات الديمقراطية تعيش وتنتشر وتتغذى بهؤلاء الأرستقراطيين الذين عاشوا على الكتب وأنتجتهم الكتب.
في الصحف والمجلات عيوب لا تصلحها إلا الكتب، ذلك أن الصحف والمجلات بحكم ديمقراطيتها وملابستها للجمهور ومراعاتها أكبر عدد ممكن من المثقفين، تضطر إلى تخفيف ما يتقطر من المعلومات إلى الشعب، فهي إن صلحت غذاء للعقول البسيطة والعقول المثقفة ثقافة واسعة غير عميقة، فلا تكفي وحدها للعقول القوية والعقول الشرهة والعقول التي تحترف هضم الأفكار وتتطلب دائما أفكارا جديدة وأفكارا عميقة، وتتطلب أن تلم بالشيء من جميع نواحيه، وبالنظريات في أطوارها المختلفة، وهي لا تجد ذلك إلا في الكتب.
خير للأمم أن تظل هذه الحرب قائمة أبدا، وأن يكون النصر سجالا أبدا، وألا ينتصر أحدهما انتصارا يبيد الآخر؛ فذلك أدعى أن يدخل أرباب الصحف والمجلات التحسينات على صحفهم ومجلاتهم دائما، وأن يتملق مؤلفو الكتب العقول بوضع مؤلفاتهم في شكل سائغ وأسلوب مقبول.
إلى أخي الزيات1
سعيت أمس لعزائك، في «رجائي» و«رجائك»، فرأيتك واجما ساهما، والها مدلها، فانعقد لساني، وتخلف ذهني، وفاض دمعي.
وكيف أستطيع عزاءك وما استطعت أن أعزي نفسي؛ أو كيف أستطيع أن أخفف ما بك وما استطعت أن أخفف حزني؟
رأيت بك كمدا باطنا، وحزنا مكتمنا، فعلمت أنك تتجرع غصص الهم، وتختزن برحاء الكرب، فتمنيت أن تخفف عنك بصرخة، وتنفس عن نفسك بدمعة، ولكن عز الصبر وعز الدمع، فما هي إلا زفرات تذيب لفائف القلوب وتنفطر لها المراثر.
وا رحمتاه لك! لقد كان «رجاء» قبلة رجائك، ومعقد آمالك، وحديث أحلامك، وملء سمعك وبصرك، تشوفته حياتك، وترقبته مطلع شبابك، حتى جاد به الزمان البخيل، فربطت أسبابك بأسبابه، وتطقت بأهدابه ، فلما شمت مخايله، ورقبت منه النجح، عدا عليه الدهر الذي لا يرعى ميثاقا، ولا يثبت على عهد، فأخلف ظلك، ونقض أملك، فإذا الدنيا أضغاث أحلام، ووساوس أطماع.
ولكن يا أخي - ما الجزع مما لا بد منه، وما الهلع مما قدر، ومثلك من يعرف مقدار الحياة وهونها؟ أفليست إلا مرسحا تمثل عليه أدوار مختلفة، مرة مهزلة، ومرة مأساة، ونحن في حين ممثلون، وفي حين ناظرون. وليس لنا أن نبالغ في الألم، ونغلو في الجزع؛ فقد كان يكون لذلك وجه من الحق لو ذهب من ذهب أبدا، وعشنا بعده أبدا، وإنما الأمر دور يعقب دورا، ولا حق منا إثر سابق، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
وأي سعادة نجدها في هذه الحياة حتى نحزن على الراحل، ونبكي على الميت ونود أن لو بقي ليستمتع بها، ويتذوق طيباتها؟ إنما هي سلسلة عناء، وضروب شقاء، تنوعت ألوانها، واتحدت حقيقتها. ولو أنصفنا لغبطنا من مات، وأشفقنا على من بقي، ومن مات في صباه فقد اختصر الحياة واختصر همومها وأحزانها، ووفر على نفسه عبثا ثقيلا ينتهي مختصره بما ينتهي به مطوله، وخير للزهرة أن تذهب وهي ناضرة تعجب الناس، من أن تذهب، وهي ذابلة يعافها الناس.
فخذ الحياة كما هي، ليل ينقضي في إثر ليل، وقوم في إثر قوم، وحادث يستذرف الدمع، يعقبه حادث يخفف الهم، وقل كما قالت الخنساء:
فلولا كثرة الباكين حولي
على إخوانهم لقتلت نفسي
وما يبكون مثل أخي ولكن
أعزي النفس عنه بالتأسي
وليس الوفاء للميت بالإفراط في الحزن، والإمعان في البكاء، إنما الوفاء بمقابلة دواعي الحزن بدواعي الصبر. وليست الحكمة في إضعاف الحي من أجل الميت، إنما هي في إحياء الحي من أجل الحي والميت.
وقد أخطأ الناس فغلوا في استفظاع الموت والاحتفاء به، وهولوا في الاستكثار من مظاهره؛ ولو عقلوا لقابلوا كما يقابل كل قانون طبيعي في هذا العالم، زهرة تنضر وتبذل، وشمس تطلع وتغرب، ونجم يتألق ويأفل، وسماء تصحو وتغيم؛ ولو عقلوا أيضا لرددوا هذا المعنى في نفوسهم، واطمأنت له عقولهم، فإذا كان فهو ما تخيلوه، وإذا حدث فهو ما توقعوه، وإذا لخف الألم وانقطع الجزع.
أي أخي - ليكن ما أراده الله، ولنلون حياتنا بلون من ألوان التصوف، رضاء بالقدر، واستخفاف بالعالم وما فيه، وطمأنينة إلى قوانينه، وإيمان بعظمة الله وسلطانه، والتجاء إليه أن يتولاك برحمته ويظلك بإحسانه.
أي أخي - لقد أصبحت منسرق القوة، ضعيف البنية، مرهف الحس، رقيق الصحة. ولئن كان الانتحار جريمة لا تغتفر، وبأسا لا يرضاه الله، فليس هو - فحسب - في إطلاق عيار ناري، أو إلقاء النفس في اليم، أو ما عهدت من ضروب إزهاق الروح؛ ولكن من ضروبه أيضا الاستسلام للحزن، والتسمم بالغم، والاسترسال في أسباب الكرب، فهو انتحار بطيء ولكنه شر من الانتحار العاجل؛ أعيذك بالله منه، وأربأ بنفسك عنه.
فهون على نفسك، وإن خاب رجاؤك في «رجاء» فحقق الله أملك في «علاء»، وعش له ولنفسك وللناس.
أحسن الله عزاءك، وأجمل صبرك، وأجزل أجرك.
إنسان ناجح
صخري الوجه صلب الجبين، لم يعرف يوما حمرة الخجل، ولا برقع الحياء، لا يتوقى شيئا، ولا يبالي ما يقول.
إن كان لكل الناس وجه ولون ولسان؛ فلهذا المخلوق أوجه وألسنة وألوان. هو صديقك وعدوك حسب الظروف الخارجية، لا حسب ما يصدر منك، وهو مادحك وذامك حسب ما يدور في المجلس، لا حسب رأيه، وهو عابس لك يوما باسم يوما حسب ما يقدر هو أنه في مصلحته، لا حسب ما تستحق أنت منه.
له حاسه زائده عن حواس الناس الخمس هي سر نجاحه؛ ولهذه الحاسة خصائص: فهو يدرك بها أي نوع من الوزارات ستتولى الحكم ليحول نفسه على وفقها، وليتجهم لأعدائها، ويتقرب من أحبابها؛ ويشم بها مواطن المال في كل ظرف، ويرى بها من يجلب له النفع. ويؤقلم وفق ذلك نفسه، فيتشكل بأشكال في منتهى الظرف والطلاوة، فإذا عدوه اللدود بالأمس صديقه الحميم اليوم.
ويعرف بها - في مهارة عجيبة - موضع الضعف من كل إنسان يهمه! فإن كان يعبد النساء حدثه أعذب الحديث في النساء والجمال وحسن الشكل، وبدع المحاسن، وجمال الملامح، واستعرض نساء البلد ونساء الفرنج، وأية حوراء العينين، كحلاء الجفون، ساجية الطرف، فاترة اللحظ، وأية أسيلة الخد، ممشوقة القد، وأية بيضاء اللون، شقراء الشعر، زرقاء العين، وأية سوداء العين، سمراء اللون، سوداء الشعر، وأية ممتلئة البدن، ضخمة الخلق، شبعى الوشاح، وأية دقيقة الشبح، نحيلة الظل، مرهفة الجسم؛ وتفنن في ذلك ما شاء أن يتفنن حتى يملك لبه، ويستعبد عقله، فإذا هو طوع بنانه ومستودع أسراره.
وإن كان سكيرا حدثه الحديث الممتع في الشرب والشراب، والكئوس والأكواب وآداب النديم، وروى له أحسن الشعر في الخمر، وحدثه عما يمزج وما لا يمزج، وخير الخمور ومواردها وتواريخها، وما يلذ صبوحا وما يلذ غبوقا - وتعرف ما يستحسنه صاحبه فأفرط في مدحه وادعى الإعجاب به، وأنه لا يفضل عليه غيره، وأن ذوقه من ذوقه وشرابه من شرابه ومزاجه من مزاجه، وأسكره من حديثه كما أسكره من كأسه، فإذا هما صديقان وثقت بينهما الكاس والطاس. وإن كان شرها في المال حدثه عن الضياع ومحاسن الأراضي وكيفية استغلالها، والعمارات وجباياتها، ووازن بين أنواع العقار وكم في المئة يمكن أن تغل، وأعانه في مشكلاته، وبذل له كل أنواع معونته، فوجد فيه صديقه النافع وخليله المواتي.
وهدته حاسته هذه أن يعمد إلى عدد من الرءوس الكبار ذوي النفوذ فينصب لهم حبالته، ويوقعهم في شبكته، بما يبذر من حب ذي أشكال وألوان؛ فإذا تم له ذلك خضع له الصغار من تلقاء أنفسهم وطوع إرادتهم، وضرب لهم مثلا بقضاء حاجات لبعضهم ما كانت لنقضي من غيره؛ فهو مقصد جميعهم ومحط آمالهم وموضع الرجاء منهم، يعملون كلهم في خدمته على أمل أن ينالوا شيئا من جاهه؛ فإذا هو سيد على الصغار والكبار، وإذا هو عظيم حيث كان، يقابل بالإجلال والإعظام، ويتملق من أتباعه وإخوانه، ويحسب حسابه في دائرته وأوسع من دائرته.
إلى جانب هذه الحقائق القليلة قدر كبير من التهويش؛ فهو يزعم أنه في كل ليلة جليس الكبراء والوزراء، كم يتغزلون فيه ويطلبون القرب منه ويأبى عليهم، ويبتعد عنهم؛ وهو لو شاء لكفت إشارة منه لأن يرفع من شاء في أعلى عليين، ويخفض من شاء إلى أسفل سافلين - الوزارات في يده، ومصالح الحكومة في إصبعه، والإنجليز يخشون بأسه، والفرنسيون يقضون مصالحهم على يده، وبريده كل يوم من خارج القطر ينوء السعاه بحمله؛ ثم لا أدري كيف اتصل بالجرائد، فهي تشيد دائما بذكره، فإذا تحرك حركة أعلنها على الناس كما تذاع حركات الملوك، فهو مسافر إلى الإسكندرية، وقادم من الإسكندرية، ومبحر إلى أوروبا، ومتنقل في عواصم البلدان، وعائد إلى مصر بعد أن رفع شأنها، وأعلى مكانها؛ حتى لم يبق إلا أن تخبرنا ماذا أفطر، وكيف أفطر، وفي أي ساعة تناول غداءه، وماذا كانت أصنافه، وهل غفا قليلا بعد الغداء أو تحدث قليلا إلى زوجه وأولاده!
وهو يستغل هذا كله في قضاء مصالحه؛ فطلباته ناجزة نافذة، والمستحيل لغيره جائز له، والأموال تكال له كيلا، والهدايا تنهال عليه انهيالا؛ وهو مع كل ذلك لا يشبع، كلما نال مطلبا تفتحت له مطالب، فهو في طلب دائم، ومن بيدهم الأمور في إجابة دائمة، حتى ليوشك - إذ لم يتعود الرفض - أن يطلب النجوم تزين غرفته، والسحاب يمطر في الصيف حديقته، والحر والبرد يتأدبان في حضرته، والشمس تكسف لطلعته.
ومن غريب أمر الناس فيه أنهم يكرهونه من أعماق نفوسهم، ويمقتونه من صميم قلوبهم، ويرون فيه السخافة مركزة، واللوم مجمعا؛ فإذا لقوه فترحيب وتهليل، وإعظام وملق، يبسطون ألسنتهم فيه بالسوء غائبا، ويطنبون في مدحه حاضرا؛ فهو معذور إذ يشعر أن الناس مجمعون على حبه، حتى ليخشى عليهم أن يموتوا به غراما أو يجنوا به هياما. شهدته مرة وقد أتى عملا شنيعا حتى كان مضغة الأفواه ومعرة القوم، وظننت أن الناس إن رأوه ازدروه - على الأقل - بعيونهم، وكلموه ببعض شفاههم، واستهانوا بمقدمه، وأقل ما يفعلونه ألا يحفلوا به، ولا يأبهوا بمقدمه؛ فما كان أشد عجبي أن رأيتهم - إذ حضر - قد انتفضوا من أماكنهم، وأفسحوا له مجالسهم، وأجلوا شأنه، وأعظموا قدره، ورفعوا منزلته فوق من يقدرون فضله ويجلون خلقه.
فهو - حتى في هذا - ينتفع بإعظامهم وإجلالهم، ولا يضره كرههم الذي لا يعدو قلوبهم، فكرههم لأنفسهم، وإعظامهم له؛ وماذا يضره كره محنقن وخير منه حب مصطنع؟ وماذا يضيره سب صادق في إسرار، وخير منه مدح كاذب في إعلان؟ لا شك أنه في كل ذلك ناجح حتى في الكره والذم. •••
قال صاحبي: وهل تعد ذلك نجاحا؟ لو كان النجاح بقضاء المصالح والأغراض والحصول على المال فحسب، لعددنا السارق يجيد السرقة ويفلت من العقوبة ناجحا، ولعددنا الذي يتاجر بشرفه وعرضه ناجحا، ولكان أنجح الناس من حصل على المال من أقرب الوجوه، ولو كان من أخسها - إن هذا الذي ذكرت قد كسب المال وخسر الشرف، حييت مطامعه ومات ضميره، وخدم من يظنهم كبراء أو عظماء بضعة نفسه وموت حسه، بأي مقياس أخلاقي قسته لم تجده شيئا، إن قسته بمقياس الفضيلة الباته الحاسمة لم تجده فاضلا، وإن قسته بمقياس السعادة لم تجده سعيدا، إنه يتمتع ويأكل كما تأكل الأنعام، فإن كان الحمار أو الخنزير سعيدا فهذا سعيد؛ وأين منه لذة ذي الضمير الحي ينعم بمواقف الشرف والنبل، ويلذها لذة لا يعدلهما ما ذكرت من مال وجاه؟ إن الرجل الفاضل سعيد حتى في آلامه؛ لأنها آلام لذيذة خصبة، هي كالنار تنضج النفس ولا تحرقها؛ أما لذة صاحبك فسم في دسم، ونار تحرق ولا تنضج وبعد قليل من حياته يفقد حتى لذة المال والجاه، وتصبح لذتهما كلذة من يتناول الحلوى صباح مساء تتهوع نفسه وتتقبض شهيته؛ فإن اللذة الباقية الدائمة هي لذة الروح لا الجسم، ومن عجيب أمر الروح أن لذتها لذة صافية وألمها ألم مشوب بلذة؛ ثم لذة هذا المخلوق لذة مشروطة بشروط: فهو يعتقد أن لذته مرتبطة ببقاء صاحبه في الوزارة، وصديقه في الوكالة، وحميمه في منصبه؛ لأن قيمته مستمدة من ذلك كله وليست مستمدة من نفسه، إذ ليست له قيمة ذاتية؛ ونجاح مثل هذا في أمة عنوان فشلها وسوء تقديرها، وضعف الرأي العام فيها؛ وهو مثل سيىء يشجع البذور السيئة على النماء والبذور الصالحة على الخفاء. قد يكون هذا المثال في كل أمة، ولكنه في الأمة الصالحة نادر، ويحتاج في نجاحه إلى كثير من الطلاء حتى يخدع الناس ويوهمهم بصلاحه؛ أما أن يجرؤ ويظهر بمظهره الحقيقي ثم ينجح فذلك فساد الأمة وسبة الدهر.
قلت: ربما كان ما تقول صحيحا فدعني أفكر.
امتيازات من نوع آخر
هل لاحظت أنك إذا استعرضت مقاهي مصر وفنادقها، رأيت أن أعظمها بناء، وأحسنها نظاما، وأغناها روادا، وأجملها موقعا، وأشدها إتقانا للخدمة، وأكثرها تفننا في إدخال الراحة والسرور على زوارها، وأمهرها في استدرار مال الجمهور عن رضى واختيار، إنما هي لسادتنا الأجانب؟
وأن أحقرها مكانا - وأفقرها سكانا، وشرها موقعا، وأسوأها خدمة، وأرخصها سعرا وأكثرها تفننا في إقلاق راحة زوارها، لا يغشاها إلا من هزل جيبه، أو فسد ذوقه، أو اضطرته حاجة ملحة، أو ضحى براحته ولذته وسعادته لفكرته الوطنية، ونزعته القومية، إنما هي لإخواننا المصريين؟
ثم هل لاحظت أن المقاهي والفنادق الأرستقراطية، وما يشبهها وما يقرب منها، صاحبها أجنبي، ومديرها أجنبي، والمشرف على ماليتها أجنبي، والذي يقدم إليك الخدمات الرفيعة أجنبي، ومن يقبض ثمن ما قدم، ويأخذ منك «البقشيش» أجنبي، ثم من يمسح الأرض مصري، ومن يتولى أحقر الأعمال مصري، ومن يمسح لك حذاءك في المقهى أو الفندق مصري، ومن يجمع أعقاب السجاير مصري؛ وأن الأجنبي له الخيار في الأعمال فما استنظفه عمله بنفسه، وما استقذره كلف به مصريا؛ ثم أنت لا تجد العكس أبدا في المقاهي المصرية والفنادق المصرية، فلا تجد رئيسا مصريا ومرءوسا أجنبيا، ولا تجد الأعمال الرفيعة لمصري، والأعمال الوطنية لأجنبي؛ وإذا كان لكل قاعدة استثناء كما يقولون، فقد ظفرنا في هذه الحال بقاعدة لا استثناء فيها؟ •••
وهل تتبعت الصناعات في مصر، فرأيت أن كل صناعة رأسها أجنبي وقدماها مصريتان؟ فخير ميكانيكي في مصر أجنبي، والحثالة مصريون، وقل مثل ذلك في أعمال الكهرباء والنجارة والحدادة والخياطة، وما شئت من صناعة؛ حتى لقد زاحمونا في مصنوعاتنا الوطنية، ونشأت فرقة من الأجانب تجيد عمل «الطعمية» و«الفول المدمس» وبزت فيهما المصريين، وأصبحت الطبقة المصرية الأرستقراطية تشتهيهما من يد الأجنبي أيضا، وتفضل ما يصنعه على منتجات «أبي ظريفة» و«الحلوجي» ومن إليهما؟
فالصناعات في مصر - على العموم - تتخذ شكل هرم، قاعدته التي تلامس الأرض للمصريين، وقمته التي تناطح السحاب للأجانب. •••
وهل بلغك أن في بورسعيد - المدينة المصرية - حيين، يسمى أحدهما «حي الفرنج»، ويسمى الآخر «حي العرب»؟ فأما البناء الجميل، والنظافة والأناقة والعناية بالوسائل الصحية، ومظهر الغنى والنعمة، ومظهر المدنية والحضارة، فلحي الفرنج. وأما مظهر الفوضى والإهمال والبؤس والفقر وسوء الحالة الصحية ومأوى الفقراء ومسكن التواضع والرضا بما قسم الله فلحي العرب؟
وهل سمعت أيضا أن «مصر الجديدة» - وهي ضاحية من ضواحي القاهرة - يسكنها كثير من الأجانب فينعمون بشوارعها الفسيحة، وبيوتها الضخمة الأنيقة؛ ثم في ركن متواضع من أركانها ناحية تسميها الشركة «عزبة المسلمين» فيها كل ما لا يخطر على البال من تكدس السكان في حجرة واحدة، ومن إهمال ومن أمراض، ومن فقر وبؤس، يفر منها من يسكنون بجوارها هربا بأنفسهم وبصحتهم، وهربا بعيونهم عن مناظر القبح، وبآذانهم عن ألفاظ الهجر، وبأنوفهم عن كربة الريح؟
أوليس مما يثير عجبك، ويبعث دهشك، أن كلمة «الأحياء الوطنية» في مصر تحمل من المعاني كل أنواع السوء والفوضى والإهمال، وكان يجب أن تحمل كل معاني العناية والنظافة والنظام؟ •••
ثم هل رأيت الأجنبي في وسط الفلاحين في العزبة، هو وحده النظيف في ملبسه ومسكنه ومأكله، وهو الذي له عقل يدبر ماله ويعرف كيف يستغله، وهم المغفلون الذين لا يعرفون كيف يحسبون دخلهم وخرجهم، ولا يعرفون حساب أموالهم، ولا يعرفون كيف يديرون شئون حياتهم، فخضع هذا وهؤلاء لقانون الانتخاب الطبيعي وبقاء الأصلح؟ •••
ثم هل علمت أن هناك امتيازات أخرى بجانب هذه الامتيازات المادية، هي امتيازات عقلية أو نفسية؟
فإن غلبة الأجنبي في الصراع بينه وبين المصري في مرافق الحياة المادية أوجدت حالة نفسية شرا من الحالة المادية، مظهرها قلة وثوق المصري بنفسه وقوة وثوقه بالأجنبي. فإذا تعسرت حالة مرضية اتجه أهل المريض إلى الطبيب الأجنبي، وإذا أراد رب مال أن ينجح في إدارته قصد إلى مدير أجنبي، وإذا تعقدت مسألة حكومية أو أهلية اختير لها خبير أجنبي، وإذا اختلف الباحثون في مسألة علمية كان الحكم الفصل قول المؤلف الأجنبي، وهكذا في كل شأن من شئون حياتنا؟
واستتبع هذا تقويمنا للأجنبي قيمة غالية، ودخل في التقويم أجنبيته أكثر مما دخل في التقويم فنه أو علمه.
ألم يبلغك الحادث الطريف الذي حدث بالأمس من مدرس ثانوي للغة الفرنسية يتقاضى أمثاله في وزارة المعارف فوق ثلاثين جنيها، فكان من سوء حظ هذا المدرس أن تجنس بالجنسية المصرية قبل أن يبت في مرتبه، فلما طبقت عليه القوانين المصرية واللوائح المصرية، كانت نتيجة ذلك أنه لم يمنح إلا اثني عشر جنيها؟ أولم يبلغك خبر المصري الذي اخترع بالأمس نوعا من الآجر فعرضه على الجهات المصرية فخاب أمله، ثم عرضه في إنجلترا فأقرت قيمة اختراعه، ثم تأسست شركة إنجليزية برأس مال إنجليزي لاستغلال هذا المخترع المصري؟
والأمثلة على ذلك كثيرة تحدث كل يوم، فيكاد يكون مغروسا على أعماق نفوسنا أن القبعة لا توضع على رأس سخيف، وأن الطربوش لا يمكن أن يلف رأس نابغ. •••
إن كان في مصر دائن ومدين، فالدائن الأجنبي والمدين المصري.
وإن كان في مصر غنى وفقر، فالغنى للأجنبي والفقر للمصري.
وإن كان في مصر ذكاء وغباوة، فالذكاء للأجنبي والغباوة للمصري.
وإن كان في مصر نعيم وبؤس، فالنعيم للأجنبي والبؤس للمصري. •••
هذه الامتيازات في المادة والعقل والنفس شر مما اصطلحنا على تسميته بالامتيازات الأجنبية.
ومن الأسف أنها لا تحل بمؤتمر مثل مؤتمر مونترو، ولا باشتراك الدول ومفاوضتها، ولا بمعاهدة، ولا بقانون.
إن حلها أصعب من ذلك كله.
إنها تحتاج إلى عقول جبارة، وإرادات من نار، وحمية لا حد لها، ووطنية قوية وثابة.
إنها تحتاج إلى مؤتمرات لا من جنس مؤتمر مونترو، إلى مؤتمر يتكون من فطاحل في التربية، يعرفون كيف فشا فينا مرض العبودية حتى حبب إلينا العمل الدنيء وبغض إلينا العمل الرفيع ، فرضينا من المقهى والفندق بمسح البلاط ولم أعقاب السجاير، ورضينا دائما بفتات الموائد، ولم نستطع أن نكون العمل الرفيع ونجلس في صدر المائدة؛ ويعرفون كيف يقضون على أخلاق العبيد من ذل ومكر وخنوع واحتيال ودسائس، ويحلون محلها أخلاق السادة، من عظمة، وصراحة، وحب للعمل، وطلب للمجد، وعشق للصدارة؛ ويعرفون طبيعة المصري وتاريخة وبيئته، وأنواع الأسلحة العلمية والعقلية والخلقية التي يحتاج إليها ليستطيع الكفاح في الحياة والسير مع الأجنبي على قدم المساواة.
فهذا خير ألف مرة من لجان تؤلف وتؤلف لزيادة حصة في الحساب ونقص حصة في الجغرافيا.
ونحتاج لمؤتمر من القادة تكون مهمته العظمى إبادة روح المذلة الفاشية، وبذر روح الغيرة النادرة، وتعهدها بالتقاليد الجديدة التي ترعاها وتضمن نموها.
نحتاج إلى مؤتمرات عديدة من هذا القبيل تغير وجه الحياة المصرية، وتخلق قلب المصري خلقا جديدا، فلا يخاف مرءوس رئيسا، ولا يخاف مصري أجنبيا، ولا يخاف محكوم حاكما.
نحتاج إلى مؤتمرات تبيد الخوف إلا الخوف من الذل والعار، وتبيد السيطرة إلا احتراما لخلق أو قانون. •••
ما أصعب هذه المؤتمرات، وما أشقها، وما أحوجنا إليها! إنها تتكون من رجال من أمة واحدة، ولكنها أصعب من مؤتمر مثلث فيه كل الدول؛ لأنها مؤتمرات لا تلغي قانونا موضوعا، ولكنها تلغي أخلاقا موروثة، وتقاليد سمرها الزمان، وتحطم أوتادا سهر عليها الحاكم الظالم المستبد حتى صلبت الأرض عليها. •••
لست أومن بنظرية العمال العاطلين حتى يصعب على الأجنبي والمصري الحصول على العيش الرغد على السواء. فأما وقد سهل تحصيل العيش الأجنبي وصعب على المصري، فليست النظرية - إذا - نظرية عمال عاطلين، ولكنها نظرية فقر في الأخلاق، وجهل بفن الحياة. •••
فهل لنا وقد نجحنا في مؤتمر الامتيازات الأجنبية أن نوجه هممنا لمعالجة أختها الامتيازات التي هي من نوع آخر علنا ننجح أيضا؟
علي بك فوزي
لم يتجل لي وفاء المصري وإخلاصه كما رأيته أول أمس في جنازة أستاذي وصديقى علي بك فوزي. فقد استقبل النعش في محطة مصر عدد كبير من أصدقائه، وساروا في مشهده يعزي بعضهم بعضا، إذ أبى الفقيد أن يكون له ولد أو مال أو جاه، فكان أول مشهد عظيم رأيته لله وحده؛ وكان أنبل ما رأيت منظر أحمد باشا شفيق، وقد تقدمت به السن وصعب عليه السير، يتحامل على صديق ويسير من المحطة إلى جامع الكخيا، ثم أسلم عليه وأسأله: هل تعرف الفقيد؟ فيقول: لا، لم أره في حياتي، ولكني سمعت بنبل أخلاقه فرأيت وفاء للفضيلة أن أسير في جنازنه. •••
رحمة الله عليه، فقد كان أمة وحده، ولم أر له نظيرا في كل من عاشرت. ولئن كان أكثر الناس نسخا متشابهة من كتاب تافه مطبوع، فقد كان نسخة خطية من كتاب قيم نادر. متمدن على آخر طراز من طرز المدنية في ملبسه وأناقته وآدابه ولباقته، متصوف إلى آخر حدود التصوف في زهادته واحتقاره للمال والجاه والمناصب، وفوق ذلك كله في روحانيته السامية.
لم يفخر في حياته بنسب؛ على أنه كان جديرا أن يفخر به لو وجد الفخار مدخلا إلى نفسه، فقد كان جد أبيه المملوك الشارد الذي قفز بفرسه من القلعة. وناهيك بعظمة المماليك أيام سطوتهم.
ولم يفخر بعلمه وهو الواسع العلم العميق التفكير؛ يجيد العربية إجادة قل أن يكون له فيها نظير، ويتكلم الإنجليزية كأحد أبنائها، ويحذق الفرنسية والألمانية والتركية. ثم لا ينظر إلى اللغات على أنها مقاصد بل على أنها وسائل للثقافة، فاتخذ هذه اللغات كلها أداة يتعرف بها الثقافات المختلفة ويقف على أحسن ما ألف فيها؛ هذا إلى صحة في النقد وقوة في الملاحظة وشخصية بارزة لا تخضع لأي مؤلف مهما عظم، ومع هذا كله تجلس إليه إن لم تكن تعرفه فكأنه أمي غبي جاهل بكل شيء؛ فهو ذهب خالص غطي بقشرة من طين لا تعرفه حتى تحكه وتصل إلى باطن نفسه، ولا يكون ذلك إلا لتلاميذه وخلصائه. وحتى مع هؤلاء يقدم إليك نتيجة معارفه الواسعة وتفكيره العميق وهو مختف وراء ذلك، يحاول ألا يشعرك بنفسه، وإنما يشعرك بالفكرة نفسها، فكأن كلمة «أنا» لم تكن في معجمه. •••
عرفته أول أمره أستاذا لي بمدرسة القضاء يدرس لنا التاريخ الإسلامي. وتطاير إلينا قبل قدومه أخبار منثورة عن تاريخ حياته: أنه تخرج في مدرسة المعلمين، ثم سافر في بعثة إلى إنجلترا، ثم عاد منها بعد أن نال إجازة من جامعتها، وهي أوصاف لم نتحمس لها كثيرا، فكنا قد شاهدنا بعض من سافروا إلى أوروبا ورجعوا بشهاداتهم الضخمة وألقابهم العديدة، وكانوا كالبندقة الفارغة، منظر ولا مخبر، ورواء في العين، ولا شيء في اليدين؛ فقلنا: لعله أحد أولئك الذين لم يكسبوا من أوروبا إلا اعوجاجا في اللسان ورطانة في الألفاظ وإنكارا لعظمة أي شيء مصري، وعصبية لكل تافه أجنبي.
وحبسنا أنفاسنا عند قدومه نستطلع طلعته.
دخل علينا رجل قصير القامة، يحاول أن يخفي قصره بطول طربوشه وارتفاع حذائه، أسمر اللون في وسامة، واسع العينين في خجل، كبير الرأس في عظمة. يتأبط كتبا كثيرة العدد لا يتناسب حجمها مع حجمه، بين عربية وإنجليزية، ويأبى أن يحملها الفراش عنه كما اعتدنا أن نرى من غيره.
وأكبر ما راعنا منه أنه بدأ درسه بعبارة عربية فصيحة التزمها في كل درسه، وفي كل دروسه بعد، وفي كل أحاديثه معنا في الدرس، لا أعرفه شذ عنها مرة واحدة، في طلاقة وعذوبة واستشهاد بالأدب العربي والشعر العربي، مما لم أعرفه لأزهري ولا لمدرس من دار العلوم. يجيد فهم عبارة الطبري على صعوبتها، وابن خلدون على عمقها، والكتب الإنجليزية العميقة، ويوضح ذلك كله بصياغة شهية لذيذة، ويطبعها كلها بالطابع العربي، فلا تسمع لفظة إنجليزية، ولا تستعصي عليه عبارة يريد أن يترجمها من لغة أجنبية.
ومما زادنا إعظاما له أنه لم يكتف بالدرس، بل اتصل أيضا بنفوسنا، فكان يخرج من الدرس أحيانا إلى شرح حالة نفسية أو ظاهرة اجتماعية يصل بها إلى أعماق نفوسنا. وأخذنا بالنظام الشديد، وكان يقدسه كل التقديس، فيشمئز من الكلمة النابية، ومن اللفظة تكتب منحرفة قليلا عن موضعها، ومن النكتة إن كان فيها قليل من الشذوذ.
ولا تسل عنه في ورق الامتحان، فقد كان يصحح أوراقنا في دقة غريبة، ويأتي بالأوراق مدونة فيها ملاحظاته في اللفظ والمعنى والأسلوب والخطأ الإملائي والخطأ التاريخي، وينتقدنا انتقادا لاذعا لكن ظريفا.
من أجل هذا كان الأستاذ المحبوب والأستاذ الجليل والأستاذ الظريف والأستاذ العالم.
لم تطل دراسته في مدرسة القضاء، وانتقل إلى وظيفة إدارية. ولم يطلب الانتقال لرغبة في مال فهو يحتقر المال، ولا في جاه فهو يحتقر الجاه ولا رغبة عن التعليم فهو يحب التعليم، ويصارحني أن أكبر غلطة ارتكبها أنه تحول من التعليم إلى الإدارة؛ ولكنه كان شديدا، وكان عاطف بك ناظر المدرسة شديدا، وكان لكل شخصيته القوية، ولكل آراؤه في سياسة الطلبة، فتصادما تصادما نفسيا من غير أن ينبس أحدهما بكلمة؛ وكان أن خرج «علي فوزي» من المدرسة، آسفين عليه كل الأسف، شاعرين أنه لا يمكن أن يعوض، وكان «عاطف» أول من حزن على خروجه بعد أن حاول كل محاولة في استبقائه.
كان حساسا إلى درجة لا تتصور. تجرحه الكلمة الخفيفة لا يشعر بها أحد، والإشارة القليلة تصدر من رئيسه فيظنها بالغة منتهى الشدة، والإيماءة المعتادة فتحز في نفسه وتصل إلى أعماق قلبه.
فكيف يستطيع بعد أن يكون موظفا؟ لقد تداول عليه وزراء عديدون لا أسميهم، كل منهم جرح نفسه جرحا بل جروحا. وأي الرؤساء يتحاشى حتى الهنات الهينات مع مرءوسيه؟ وأي الرؤساء يدرك مقدار السهام المسمومة التي يوجهها إلى نفس كنفس «علي فوزي» وهو لا يرى أنها سهام أصلا، بل قد يظنها نوعا من الملاطفة؟ - لقد رآه وزير يكتب خطابا بالإنجليزية فأعجبته بلاغته فقال له: لعلك تحسن أن تكتب مثل هذا بالعربية! فما كان أشدها وقعا في نفسه؟
ثم هو يعشق العدل المطلق الدقيق، ويؤلمه أشد الألم الظلم الخفيف. وكان كل يوم يرى تصرفات في الوزارات لا تتفق والعدالة التي ينشدها: هذا يحابي المتملقين، وهذا ينصر الأجانب على المصريين، وهذا يمنح ترقيات وعلاوات لغير المستحقين.
ثم ما هذا النظام السخيف للدرجات؟ فهذا موظف في الدرجة الأولى وآخر في الدرجة الثانية! إنه يفهم أن يبدأ موظف بمرتب صغير يزيد على القدم والكفاية، ولكنه لا يفهم تقسيم الموظفين إلى طبقات يعلو بعضها بعضا ويدل بها بعضهم على بعض.
لا. لا. ثارت نفسه على كل ذلك، ففي هدوء وسكون، ومن غير أن يشعر أحد من أصدقائه دبر أمره وأعد عدته للخروج من الوظائف الحكومية، وألح في طلب إحالته إلى المعاش، فكان له ذلك. وفضل نحو خمسة وعشرين جنيها في الشهر على ثمانين وما كان يتبعها من علاوات وترقيات وحسبان معاشات. •••
بل ليست الوظيفة وحدها هي التي يجب الفرار منها، فيجب الفرار أيضا من مصر، فما مصر هذه التي يحكمها الأجنبي وتستسلم له؟ وما مصر التي يستمتع فيها صعاليك الأجانب بما لم يستمتع به سادة أهلها؟ وما مصر التي تجلس في مقهى من مقاهيها فتشعر أن الرومي الذي يقدم لك القهوة خير منك وأعز منك، ويستطيع أن يحتقرك وأن ينكل بك ولا تستطيع أن تفعل به ما يفعل بك؟ وما مصر التي لم تستطع أن تكون غنية في أطبائها وعلمائها وتجارها وصناعها، ولم تزل عالة في كل ذلك على غيرها؟ لا بد إذا من الهرب من الوظيفة ومن مصر معا.
وخرج من مصر ساخطا غاضبا آسفا حزينا، خرج هائما على وجهه يمثل دور حده. لقد كان جده المملوك الشارد، فكان هو الحر الشارد.
خرج إلى أوربا هائما في ممالكها، ولكنه كان فيها مستوحشا. نعم إنه يتكلم لغاتها، ويفهم مدنياتها؛ ولكن ليس قومها قومه، ولا دينها دينه، ولا روحانيتها روحانيته. ثم ألقى عصاه في الآستانه عقب الحرب واطمأن إليها، فهي هي البلدة المستقلة بين مماليك البلاد الإسلامية، وهي هي التي لا تذلها الامتيازات الأجنبية، وهي التي يجد فيها غذاء روحه وعواطفه بمساجدها العظيمة ومآذنها التي تشق السحاب. من أجل هذا اختار السكن فيها، وفي الأحياء الوطنية لا الأجنبية، واتخذ مجلسه في مقهى تركي بلدي تحت شجرة زيزفون بجوار حائط مسجد «بايزيد».
ثم حاول أصدقاؤه جهدهم أن يحولوه عن رأيه ويعدلوا به عن غربته، فذهبت محاولتهم عبثا. عرضوا عليه وظائف مختلفة الألوان كان آخرها مدير دار الكتب؛ فكان جوابه: متى عرفتم سبب خروجي من الوظيفة وسبب خروجي من مصر لم تعرضوا هذا العرض؛ فالأصل قبل الفرع، والحرية مع الفقر خير من الذل مع الغنى. •••
قد رزق عينا يرى بها غير ما يرى جمهور الناس؛ فكثيرا ما كان يحتقر من يجله الناس، ويجل من يحتقره الناس؛ لأن له مقاييس تقدير تختلف عن مقاييسهم. ليس في مقاييسه اعتبار لثروة ولا جاه، ولا منظر، ولا حسب، ولا نسب.
حتى مكانه العام الذي كان يختاره لمقابلة أصدقائه لا يختاره لوجاهته؛ وإنما يختاره لنظافته؛ ولأن صاحبه مسلم؛ ولأنه يتنفس فيه جوا شرقيا لا غربيا؛ ولأنه ليس فيه امتيازات أجنبية، وهكذا من اعتبارات متعددة لم أستطع أن أعرف منه إلا بعضها.
ويفضل أن يزور حلاقا كان زميلا له في المدرسة على أن يزور باشا من البشوات أو من يعده الناس كبيرا من الكبراء. •••
ليس للمال عنده إلا وظيفتان: قليلة يتبلغ به ويسد حاجاته الضرورية، وكثيره للمروءة. وأعرف له في ذلك فصولا غاية السمو، فلقد كان حينا يسكن مع أسرة أوربية عميدها فرنسي، وربة الدار ألمانية، ولهما ابن وبنت، حتى إذا نشبت الحرب العظمى جند عميد الأسرة، فأحلت الأسرة فقيدنا محله على رأس المائدة. وكان كثيرا ما يدور الجدال على المائدة في نظريات الحرب وخصوصا بين الفتى والفتاة، فكان الفتى يذهب مذهب أبيه ويتعصب لفرنسا وحلفائها، ثم كان من الفتى أن طعن تركيا في سمعتها وقيمتها، ولم يكن يعرف عصبية الفقيد لتركيا، فلم يعد علي فوزي يطيق البقاء بعد في البيت؛ ولكن ماذا يصنع ووفاؤه يقضي بمراعاة هذه الأسرة بعد غياب عميدها، وعصبيته التركية تأبى أن يسكن في البيت بعد ما كان من الفتى؟ لا يحل هذا الإشكال إلا احتقار المال، فقد تظاهر بأنه يأخذ درسا على السيدة الألمانية ودفع ما كان يدفعه أيام سكناه لم ينقص منه شيئا وإن قلل ذهابه بعد ذلك لأخذ الدرس.
وكان منظره في استامبول غريبا: يجلس في مقهى عرفه البؤساء والمحتاجون، فهو يمنحهم ما أمكنه، وهو الفقير الذي لا دخل له إلا معاشه الخمسة والعشرون جنيها، ينفق منها ثلثها على نفسه؛ وثلثيها على مروءته، وطويل أن نعد مآثره في هذا الباب.
أحب العزلة وأكثر التفكير؛ فهو في بيته وحده، إذ لا زوجة له ولا ولد، وفي تروضه وحده غالبا، وهو وحده في أكثر أوقاته، صديقه الكتاب؛ ثم ضعفت أعصابه ففقد صداقة الكتاب أيضا إلا نادرا، وكان تفكيره في العالم حينا وفي نفسه كثيرا.
وهذه حالة تستتبع الوحشة، وتستتبع التشاؤم، وتستتبع الحزن والانقباض، وكذلك كان شأنه.
غلب عليه الخجل في غلو والخجل - كما يقول بعض علماء النفس - سببه كثرة تفكير الإنسان في نفسه، فهو إذا مشى ظن أن الناس كلهم ينظرون إليه وينقدون مشيته، وإذا تكلم ظن أن الناس كلهم ينصتون إليه وينقدون كلامه، وإذا تحرك أو سكن أو تنفس فالناس يعدون حركاته وسكناته وأنفاسه، فكان هذا الخلق فيه أكبر شقائه؛ وبلغت به الحالة أن كان في آخر أيامه إذا جلس في مقهى اختار مكانه وراء عمود، وإذا سكن في «بنسيون» صحا قبل أن يصحو الناس، وعاد بعد أن ينام الناس، حتى لا يراه الناس، وإذا عزم على الرياضة فليلا حتى تستره ظلمة الليل، وإذا مشى في الشارع ليلا اختار من الشوارع أخلاها من الناس. •••
تملكه خلق الرحمة فظهر منه في كل شيء. رحم الناس فخرج لهم عن ماله، ورحم المرأة فأبى أن يتزوج، ورحم الحيوان فعاش نباتيا، وأخيرا رحم نفسه. وويل للإنسان إذا رحم نفسه وأشفق عليها، إنه ليعذب في ذلك عذابا لا يعذبه أحد؛ نعمة كبرى أن يرحم الإنسان غيره، وشقوة كبرى أن يرحم الإنسان نفسه؛ فالرحمة استضعاف للمرحوم، فإذا استضعف نقسه فهناك الألم والحسرة، وهناك فقدان الثقة بالنفس، وهناك انسحاب من الجهاد في الحياة، وهل الحياة إلا جهاد.
رحم الله «علي فوزي»، فقد عاش غريبا، ومات غريبا، وأخشى أن يبعث غريبا.
الشمس
أي شيء أحب إلى النفس، من المتعة هذه الأيام بالشمس، والحديث عن الشمس؟
فقد أقرسنا البرد حتى اصطكت منه أسناننا، وانكمش جلدنا، ويبست أطرافنا، وحتى وددنا - إذا رأينا النار - أن نحتضنها، وإذا رأينا الجمرة أن نلتهمها. ولوددت في هذه الأيام أن أكون فرانا، أو طباخا، أو سائق قطار، حتى لا أفارق النار. •••
كل شيء في الطبيعة جميل، وأجمل ما فيها شمسها.
وهي في شتائنا أجمل منها في صيفنا، ولها في كل جمال.
فلها - صيفا - جمال القوة، وجمال القهر، وجمال السفور الدائم، نعظمها ونجلها؛ ونهرب منها ولكن نحبها؛ تقسو أحيانا ولكنا نرى الخير في قسوتها، فهي كالمربي الحكيم، تقسو وترحم، وتشتد وتلين، تلفحنا بنارها، ولكنها نار كنار الحب يكتوي بها قلب العاشق، ثم هو يرجو بقاءها ويخشى زوالها، ترسل علينا شواظا من نار، فتسفع جلودنا، وتكوي جباهنا، حتى إذا غلى جوفنا، ووغر صدرنا، غابت عنا، وأرسلت رسولها اللطيف الوديع (القمر) فخفف من حدتنا، ولطف من سورتنا، وأصلح ما أفسدت، وضمد ما جرحت؛ فإذا خشيت أن نطمئن إليه، أدركتها الغيرة منه فغيبته، وطلعت علينا ببهائها وجمالها وجلالها، وهكذا دواليك. •••
وهي - شتاء - تطلع علينا بوجه آخر، ترينا فيه جمال الحنو، وجمال الدعة، وجمال الرحمة والعطف، وجمال الغادة اللعوب، تشاغلك فتظهر وتختفي، وتسفر وتتحجب، وتخرج من قناعها ثم تتقنع.
وتنتقم من رسولها الذي غارت منه صيفا، فتطلعه علينا في جو بارد لا نطيقه، حتى لا نفكر إلا في دفئها ونعمتها، ولا نشتاق لشيء شوقنا لرؤيتها.
فما أجملها قاسية وراحمة! وما أجملها واصلة وهاجرة!
تتلون بشتى الألوان فتسحر العقول، وتبهر العيون؛ فهي تارة بيضاء، وتارة صفراء، وتارة حمراء؛ ثم لا تستطيع أن تحكم هي في أيها أبهى وأجمل، فهي تزين ثيابها بأكثر مما تزينها ثيابها.
فتحت النافذة قبل أن أكتب مقالتي؛ فتدفقت في حجرتي أشعتها الفضية اللامعة، وملأتها روحا وحياة، وملأتني دفئا، وملأتني معاني، وكانت حياتي في حجرتي قبل زيارتها حياة مظلمة باردة جامدة، لا معنى فيها ولا روح. •••
خلعت من جمالك على الزهر، فكان فتنة للناظرين؛ فجماله من جمالك، ولونه قبس من ألوانك، وحياته مدد من حياتك؛ فأبيضه وأحمره، وأصفره وأزرقه، ليس إلا نعمة من نعمك، وأثرا من فيضك .
فالوردة الحمراء ليست إلا نقطة من دمك، والياسمين الأبيض ليس إلا لمحة من نورك، والنرجس الأصفر ليس إلا تبرا ذائبا من شعاعك.
لقد أبيت على الناس أن يديموا النظر على جمالك، فألهيتهم بالنظر إلى بعض آثارك، ولونت الأزهار بألوانك، وأريتهم قدرة على إبداعك، فشغل الجاهلون به عنك، وشغف به العارفون على أنه قبس منك، يطالعون جمالك فيه، ويقرءون معانيك في معانيه. •••
ثم شأنك في البحر عجب أي عجب! تضربينه بشعاعك، وتلفحينه بنارك، فيتحول ماؤه بخارا، يصعد إليك ليستجير منك، ويمثل بين يديك لتمنحيه عفوك، وتنيليه عطفك، حتى إذا شعر برضاك، وأمن من غضبك، دمع دمعة السرور، ففارقته ملوحته، وعاد إليه صفاؤه وعذوبته، واكتسب منك الحياة فكان ماء جاريا، بعد أن كان ماء راكدا، فجرى جداول وأنهارا، فأرسلته إلى خدمك في الأرض من أزهار وأشجار يحيي ذابلها، ويستخرج دفينها، وينضج ثمارها. •••
ثم تحركت فملأت الحياة حولك حركة؛ فكم من نجوم لا يعلمها إلا الله تسير حولك وتحذو حذوك؛ ثم تلعبين بالهواء من سخونة وبرودة، فيتحرك ويتعلم منك اللعب فيلعب بالبحار والأنهار والأشجار، وبكل شيء يمر به، فإذا الدنيا كلها لعبة في يده.
ثم أنت أنت حرقت الأشجار والنبات، وطمرتها تحت صفحة الأرض آلافا من السنين بعد آلاف، حتى إذا تنبه الناس آخر الزمان فطنوا إلى أنه مستودع من مستودعاتك، فاستغلوه في كل ما نرى الآن من حركة، فهو سر حركة المصانع والبواخر، وسر حركة القطارات والآلات، فلو قلنا: إن كل حركة في الأرض أنت مصدرها لم نبعد. •••
تلعبين بالناس فتنيمينهم وتوقظينهم، ترسلين أشعتك الجميلة على العالم فينتبه، وتغيبين عنه فينام؛ ثم تتداولين العالم فتنبهين قوما وتنيمين قوما، ويراك قوم شروقا وقوم غروبا، وقوم ليلا وقوم نهارا، وقوم صيفا وقوم شتاء.
وأنت أنت في عليائك، لا تملين الحركة، ولا تشعرين بنوم أو يقظة، ولا بليل أو نهار. •••
بل بك يجري الدم في عروقنا، فدمنا من غذائنا، وغذاؤنا من حرارتك، تسلطينها على الأرض فتخرجين منها
حبا * وعنبا وقضبا * وزيتونا ونخلا * وحدائق غلبا * وفاكهة وأبا ؛ بل ما أفكارنا إلا منك، أليست أفكارنا من دمائنا، أوليست دماؤنا منك؟
بل لقد كنت حينا من الأحيان إله الناس ومعبودهم، فكنت مصدر وحيهم، ومصدر إلهامهم، ووجهة عبادتهم، رأوك مصدر الحياة فعبدوك، ورأوك مصدر النعم فمجدوك، ورأوك يحيط بك كثير من الغموض على جلائك ووضوحك فألهوك، ورأوك أكبر النجوم فرببوك.
ثم أتى الأنبياء، فرأوك تأفلين فسلبوك ألوهيتك، ورأوك تتغيرين فحولوا عبادتهم عنك.
ولكن إن سلبوك ألوهيتك فلم يسلبوك عظمتك وجمالك وجلالك، وكفاك ذلك فخرا. •••
لست أدري أأصاب العرب إذ أنثوها، أم أصاب الإنجليز إذ ذكروها! لعل الإنجليز رأوا القمر وادعا جميلا هادئا رقيقا فأنثوه، ورأوا الشمس قوية قاهرة قاسية فذكروها؛ ولكن لعل واضعي اللغة من الإنجليز لو عاشوا في عصرنا، ورأوا ما نرى من قوة المرأة وضعف الرجل، وجبروت المرأة واستكانة الرجل، لرجعوا إلى رأي العرب، وآمنوا ببعد نظرهم، وقلبوا المذكر مؤنثا، والمؤنث مذكرا.
ولعل العرب أيضا رأوا الشمس أم الأرض وأم القمر وأم الزرع فأنثوها، إذ لا يلد إلا امرأة؛ ورأوا القمر طفلا يدور حول أمه فذكروه، واحتاط العرب أن يدرك الشمس شيء مما يلحق الأنوثة، فقال شاعرهم: «وما التأنيث لاسم الشمس عيب».
أما الشمس نفسها، فلم تعبأ بتأنيث ولا تذكير، كما لم تعبأ بمن أنثها وبمن ذكرها.
فهي في سمائها تؤدي رسالتها، وتسير سيرتها، وتبهرنا بجمالها، وتوحي إلينا بأسرارها.
فما أعظمك! وأعظم منك من خلقك!
الرجولة في الإسلام
لعل من أهم الفروق التي تميز المسلمين في أول أمرهم وفجر حياتهم عن المسلمين اليوم، «خلق الرجولة»، فقد غني العصر الأول بمن كانوا هامة الشرف، وغرة المجد، وعنوان الرجولة.
تتجلى هذه الرجولة في «محمد» إذ يقول: «والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته». كما تتجلى في أعماله في أدوار حياته. فحياته كلها سلسلة من مظاهر الرجولة الحقة، والبطولة الفذة؛ إيمان لا تزعزعه الشدائد، وصبر على المكاره، وعمل دائب في نصرة الحق، وهيام بمعالي الأمور ، وترفع عن سفاسفها؛ حتى إذا قبضه الله إليه لم يترك ثروة كما يفعل ذو السلطان، ولم يخلف أعراضا زائلة كما يخلف الملوك والأمراء، إنما خلف مبادىء خالدة على الدهر، كما خلف رجالا يرعونها وينشرونها، ويجاهدون بأموالهم وأنفسهم من أجلها.
وتاريخ الصحابة ومن بعدهم مملوء بأمثلة الرجولة. فأقوى ميزات «عمر» أنه كان «رجلا» لا يراعي في الحق كبيرا، ولا يبالي عظيما أو أميرا. يقول في إحدى خطبه: «أيها الناس، إنه والله ما فيكم أحد أقوى عندي من الضعيف حتى آخذ الحق له، ولا أضعف عندي من القوي حتى آخذ الحق منه».
وينطق بالجمل في وصف الرجولة فتجري مجرى الأمثال، كأن يقول: «يعجبني الرجل إذا سيم خطة ضيم أن يقول: (لا) بملء فيه».
ويضع البرامج لتعليم الرجولة فيقول: «علموا أولادكم العوم والرماية، ومروهم فليثبوا على الخيل وثبا، ورووهم ما يجمل من الشعر».
ويضع الخطط لتمرين الولاة على الرجولة، فيكتب إليهم «اجعلوا الناس في الحق سواء، قريبهم كبعيدهم، وبعيدهم كقريبهم، إياكم والرشا والحكم بالهوى، وأن تأخذوا الناس عند الغضب».
ويعلمهم كيف يسوسون الناس ويربونهم على الرجولة، فيقول: «ألا لا تضربوا المسلمين فتذلوهم، ولا تجمروهم فتفتنوهم، ولا تمنعوهم حقوقهم فتكفروهم، ولا تنزلوهم الغياض فتضيعوهم».
من أجل هذا كله كان هذا العصر مظهرا للرجولة في جميع نواحي الحياة، تقرأ تاريخ المسلمين في صدر حياتهم فيملؤك روعة، وتعجب كيف كان هؤلاء البدو وهم لم يتخرجوا في مدارس علمية، ولم يتلقوا نظريات سياسية، حكاما وقادة لخريجي العلم ووليدي السياسة - إنما هي الرجولة التي بثها فيهم دينهم وعظماؤهم، هي التي سمت بهم وجعلتهم يفتحون أرقى الأمم مدنية وأعظمها حضارة؛ ثم هم لا يفتحون فتحا حربيا يعتمد على القوة البدنية وكفى، إنما يفتحون فتحا مدنيا إداريا منظما، يعلمون به دارسي العدل كيف يكون العدل، ويعلمون علماء الإدارة كيف تكون الإدارة، ويلقون بعملهم درسا على العالم، أن قوة الخلق فوق مظاهر العلم، وقوة الاعتقاد في الحق فوق النظريات الفلسفية والمذاهب العلمية، وأن الأمم لا تقاس بفلاسفتها بمقدار ما تقاس برجولتها .
هل سمعت عطفا على الرعية، وأخذ الولاة بالحزم كالذي روى أن معاوية قدم من الشام على عمر، فضرب عمر بيده على عضده فتكشفت له عن عضد بضة ناعمة، فقال له عمر: «هذا والله لتشاغلك بالحمامات، وذوو الحاجات تقطع أنفسهم حسرات على بابك!»
أو هل سمعت قولا في العدل يحققه العمل كالذي يقوله عمر: «إذا كنت في منزله تسعني وتعجز الناس، فوالله ما تلك لي بمنزلة حتى أكون أسوة للناس»؟ أو هل رأيت حزما في الإدارة كالذي فعل في مسح سواد العراق وترتيب الخراج، وتدوين الدواوين، وفرض العطاء.
حقا لقد كان عمر في كل ذلك رجلا، ولئن كان هناك رجال قد امتصوا رجولة غيرهم، ولم يشاءوا أن يجعلوا رجالا بجانبهم، فلم يكن عمر من هذا الضرب، إنما كان رجلا يخلق بجانبه رجالا؛ فأبو عبيدة بن الجراح وسعد بن أبي وقاص والمثنى بن حارثة، وكثير غيرهم كانوا رجالا نفخ فيهم عمر من روحه كما نفخ فيهم الإسلام من روحه، وأفسح لهم في رجولتهم، كما أفسح لنفسه في رجولته.
وكان أدبهم في ذلك العصر صورة صحيحة لرجولتهم يتغنون فيه بأفعال البطولة ومظاهر الرجولة ويقولون:
وخير الشعر أشرفه رجالا
وشر الشعر ما قال العبيد
يعتد الشاعر بنفسه ويسمو بها عن النعماء والبأساء فيقول:
قد عشت في الناس أطوارا على طرق
شتى وقاسيت فيها اللين والقطعا
كلا بلوت، فلا النعماء تبطرني
ولا تخشعت من لأوائها جزعا
لا يملأ الهول صدري قبل موقعه
ولا أضيق به ذرعا إذا وقعا
ويعتز بشرفه وقوته وإبائه الضيم فيقول:
وكنت إذا القوم رموني رميتهم
فهل أنا في ذا يا ل همذان ظالم
متى تجمع القلب الذكي وصارما
وأنفا حميا تجتنبك المظالم
ويمدح رجل قوما فيقول: «إنهم كالحجر الأخشن، إن صادمته آذاك وإن تركته تركك».
ويقول أميرهم: «والله ما يسرني أني كفيت أمر الدنيا كله». قيل: ولم أيها الأمير؟ قال: «لأني أكره عادة العجز» إلى كثير من أمثال ذلك.
وعلى الجملة فأدبهم تام الرجولة، قد شعت فيه الحياة، وامتلأ بالقوة، حتى اللاهي الماجن كأبي محجن الثقفي؛ كان يغازل، وكان يشرب، ولكن إذا جد الجد وعزم الأمر كان رجلا يبيع نفسه لدينه، ويبيع كل شيء لشرفه وشرف قومه.
ونستعرض الغزل في الجاهلية وصدر الإسلام، فإذا هو غزل قوي لا ميوعة فيه، ولا تخنث، لا يذوب صبابة، ولا يلتاع هياما، ولا يفقد الرجل فيه رجولته لحبه.
وقلت لقلبى حين لج به الهوى
وكلفنى ما لا أطيق من الحب
ألا أيها القلب الذي قاده الهوى
أفق لا أقر الله عينك من قلب •••
وما أنا بالنكس الدني ولا الذي
إذا صد عني ذو المودة أحرب
ولكننى إن دام دمت وإن يكن
له مذهب عني فلي عنه مذهب •••
ولم يضن التاريخ على المسلمين من حين لآخر برجال لفتوا وجه الدهر، وغيروا مجرى الحوادث، ودفعوا عن قومهم الخطوب، وأنزلوهم منزل العز والمنعة تضيق عن وصف أعمالهم الرسائل والكتب.
ثم توالت الأحداث، وتتابعت النوب، تفل من شوكتهم، وتفت في رجولتهم، حتى رأيناهم بذلوا الشرف للمال، وقد كان آباؤهم يبذلون المال للشرف، ولم ينظروا إلا إلى أنفسهم وذوي قرابتهم، وكان آباؤهم ينظرون إلى دينهم وأمتهم، وتفرقوا شيعا وأحزابا يذوق بعضهم بأس بعض، فكانوا حربا على أنفسهم بعد أن كانوا جميعا حربا على عدوهم - ورضوا في الفخر أن يقولوا: «كان آباؤنا» مع أن شاعرهم يقول:
إذا أنت لم تحم القديم بحادث
من المجد لم ينفعك ما كان من قبل
وناثرهم يقول: «لم يدرك الأول الشرف إلا بالفعل، ولا يدركه الآخر إلا بما أدرك به الأول».
ورأينا خير ما في الأمم حاضرها وخير ما فينا ماضينا. •••
أريد بالرجولة صفة جامعة لكل صفات الشرف، من اعتداد بالنفس واحترام لها، وشعور عميق بأداء الواجب، مهما كلفه من نصب، وحماية لها في ذمته من أسرة وأمة ودين، وبذل الجهد في ترقيتها، والدفاع عنها، والاعتزاز بها، وإباء الضيم لنفسه ولها.
وهي صفة يمكن تحقيقها مهما اختلفت وظيفة الإنسان في الحياة؛ فالوزير الرجل من عد كرسيه تكليفا لا تشريفا، ورآه وسيلة للخدمة لا وسيلة للجاه، أول ما يفكر فيه قومه، وآخر ما يفكر فيه نفسه، يظل في كرسيه ما ظل محافظا على حقوق أمته، وأسهل شيء طلاقه يوم يشعر بتقصير في واجبه، أو يوم يرى أن غيره أقوى منه في حمل العبء، وأداء الواجب؛ يجيد فهم مركزه من أمته ومركز أمته من العالم، فيضع الأمور مواضعها ويرفض في إباء أن يكون يوما ما عونا للأجنبي عليها، فإذا أريد على ذلك قال: «لا» بملء فيه، فكانت «لا» منه خيرا من ألف «نعم» وكانت «لا» منه وساما تدل على رجولته وكانت «لا» منه خير درس للناشئين يتعلمون منه الرجولة - يقتل المسائل بحثا ودرسا، ويعرف فيها موضع الصواب والخطأ، ومقدار النفع والضرر، ثم يقدم في حزم على عمل ما رأى واعتقد، لا يعبأ بتصفيق المصفقين، ولا بذم القادحين، إنما يعبأ بشيء واحد هو صوت ضميره، ونداء شعوره.
والعالم الرجل من أدى رسالته لقومه من طريق علمه، يحتقر العناء يناله في سبيل حقيقة يكتشفها أو نظرية يبتكرها، ثم هو أمين على الحق لا يفرح بالجديد لجدته، ولا يكره القديم لقدمه، له صبر على الشك، وإغرام بالتفكير، وبطء في الجزم، وصبر على الشدائد، وازدراء بالإعلان عن النفس، وتقديس للحقيقة، صادفت هوى الناس أو أثارت سخطهم، جلبت مالا أو أوقعت في فقر، يفضل قول الحق وإن أهين على قول الباطل وإن كرم.
والصانع الرجل من بذل جهده في صناعته، فلم يشأ إلا أن يصل بصناعته إلى أرقى ما وصلت إليه في العالم، عشقها وهام بها حتى بلغ ذروتها، يشعر بأنه وطني في صناعته كوطنية السياسي في سياسته، وأن أمته تخدم من طريق الصناعة كما تخدم من طريق السياسة، وأن الصناعة لا تقل في بناء المجد القومي عن غيرها من شئون الدولة؛ فهو لهذا يحسن فنه، وهو لهذا يحسن سلوكه، وهو لهذا يرفض ربحا كثيرا مع الخداع، ويقنع بربح معتدل مع الصدق، وهو لهذا كله كان رجلا.
وفي الرجولة متسع للجميع؛ فالزارع في حقله قد يكون رجلا، والتلميذ في مدرسته قد يكون رجلا ، وكل ذي صناعة في صناعته قد يكون رجلا ، وليس يتطلب ذلك إلا الاعتزاز بالشرف وإباء المذلة. •••
من لنا ببرنامج دقيق للرجولة كالبرنامج الذي يوضع للتعليم، يبدأ يرعى الطفل في بيته، فيعلمه كيف يحافظ على الكلمة تصدر منه كما يحافظ على الصك يوقع عليه، ويعلمه كيف يكون رجلا في ألعابه، فيعدل بين أقرانه في اللعب كما يحب أن يعدلوا معه، ويلاعبهم بروح الرجولة من حب ومساواة ومرح في صدق وإخلاص.
ويسير مع التلميذ في مدرسته، فيعلمه كيف يحترم نفسه، وكيف لا يفعل الخطأ وإن غفلت عنه أعين الرقباء، ولا يغش في الامتحان ولو تركه المعلم وحده مع كتبه، وكيف يعطف على الضعفاء ويبذل لهم ما استطاع من معونة.
ويتمشى مع الطالب في جامعته فيعوده الاعتزاز بنفسه والاعتزاز بجامعته والاعتزاز بأمته، وببعثه على أن يفكر في غرض شريف له في الحياة يسعى لتحقيقة - حتى إذا ما أتم دراسته كان قاضيا رجلا، أو معلما رجلا، أو سياسيا رجلا، وعلى الجملة إنسانا رجلا.
ويتابع الأمة فيضع لها الأدب الذي يبعث قوة، والأناشيد والأغاني التي تملأ النفس أملا. ويراقب في شدة وحزم دور السينما والتمثيل والملاهي، فلا يسمح بما يضعف النفس ويثلم الشرف، ولا يسمح بما يحيي الشهوة ويميت العزيمة، ويأخذ على أيدي الساسة والحكام ورجال الشرطة، حتى لا يقسوا على الناس فيميتوهم، ولا يرهبوهم فيذلوهم.
من يبادلني فيأخذ كل برامج التعليم، وكل ميزانية الدولة، ويسلمني برنامجا للرجولة وميزانية لتنفيذه ليس غير؟
ولي كبد مقروحة، من يبيعني
بها كبدا ليست بذات قروح؟
قيمة الثقافة
للثقافة قيمة ماليه مقررة، فالليسانس والدكتوراه والدبلوم، وما إلى ذلك من الأسماء، هي عنوان للثقافة، أو بعبارة أخرى تتويج لمجهود سنين قضيت في تحصيل العلم. وتأتي «المالية» بعد فتقدر هذه الدرجات بالجنيه، وتجعل لكل منها قيمة مالية خاصة؛ ولها العذر في أن تخالف بين الدرجات، وتسوي بين حاملي الدرجة الواحدة وإن اختلفوا في مقدار الثقافة؛ لأنه لم يخترع إلى الآن مقياس دقيق يوزن به الفكر ومقدار استعداده وزنا صحيحا؛ ولو اخترع هذا الميزان لألغيت الدرجات، واكتفي بوزن الكفايات؛ لكن من لنا بذلك وقد عجزت المدنية القديمة والحديثة عجزا تاما عن اختراع هذا الميزان؟
وللثقافة كذلك قيمة اجتماعية، فالثقافة ترفع من كان من طبقة وضيعة، إلى أن يكون أحيانا مساويا لمن كان من طبقة رفيعة، فحامل الشهادة العليا يرى نفسه - وقد يرى الناس معه - أنه صالح لأن يتزوج من طبقة راقية، مهما كان منشؤه ومرباه؛ وقديما قال الفقهاء في «باب الزواج»: إن شرف العلم فوق شرف النسب، والمثقف الراقي له الحق أن يكون عضوا في الأندية الراقية من غير أن يسأل عن نسبه وحسبه، بل له أن يدل على أبناء الطبقة الأرستقراطية إذا نال درجة لم ينالوها، وعرف من أنواع الثقافة ما لم يعرفوا؛ وله من حرمة الناس في المجتمعات والأندية ما لا يناله غير المثقفين، وإن كانوا من بيت خير من بيته، وفي نسب خير من نسبه.
ولكن لا أريد أن أتحدث في شيء من هذا ولا ذاك، فليست تعنيني الآن الناحية المالية للثقافة، ولا الناحية الاجتماعية؛ وإنما أريد أن أتساءل: ما القيمة الذاتية للثقافة؟ إن المال واحترام الناس عرض خارجي، فما القيمة الثابتة التي تتصل بنفس المثقف ولا تفارقها في فقر أو غنى، وفي جاه وغير جاه؟
أهم قيمة - في نظري - لثقافة المثقف هي كيفية نظره إلى هذا العالم، ذلك بأن عيون الناس في نظرها إلى الأشياء وحكمها عليها ليست سواء؛ فعيونهم الحسية وإن اتفقت في الحكم على الألوان بالسواد والبياض والحمرة والصفرة، وإن اتفقت في الحكم على الأبعاد قربا وبعدا، وإن اتفقت في الحكم على الأحجام كبرا وصغرا، فإن العيون النفسية لا تتفق في نظرها ولا حكمها، فالشيء في نظر الأبله غيره في نظر الفيلسوف، وبين هذين درجات لا حد لها، وليس للشيء الواحد معنى واحد بل معان متعددة تتسلسل في الرقي، والناس يدركون من معانيه بحسب استعدادهم وثقافتهم وأذواقهم.
وقد حكوا أن عيسى - عليه السلام - مر هو وأصحابه بجيفة، فقالوا: ما أخبث رائحتها! وقال هو: ما أحسن بياض أسنانها! ونظر الرجل العادي إلى الحديقة مزهرة غير نظر الأديب الفنان. هذا ينظر إليها فيقرأ فيها من المعاني والجمال ما يمتزج بنفسه، ثم يسيل على قلمه كأنه قطع الرياض؛ وذاك ينظر إليها نظرة مبهمة، لا تسفر عن معنى، ولا تعرف لها وجهة، نظرة بليدة جامدة، لا يسعفها ذوق، ولا تخدمها قريحة.
ومثل هذا في كل شيء يعرض على العين، فكل شيء في السماء وفي الأرض لا يحمل معنى واحد، بل معاني متعددة، وقيمة الثقافة أن تنقل العين من أنظار سخيفة ومعان وضيعة إلى أنظار بعيدة ومعان سامية؛ فالأديب إذا لم ينظر في المرأة إلا إلى حسن جسمها وتناسب أعضائها، لم يكن أديبا مثقفا، وقلنا له كما قال المتنبي:
وما الخيل إلا كالصديق قليلة
وإن كثرت في عين من لا يجرب
إذا لم تشاهد غير حسن شياتها
وأعضائها فالحسن عنك مغيب
ففرق كبير بين أن تنظر إلى المرأة كشيطان وأن تنظر إليها كإنسان وأن تنظر إليها كملك، وفرق كبير في كل شيء في الوجود يعرض على أنظار الناس.
وكل إنسان له نظراته في العالم من أسفل شيء إلى أرقى شيء، من مادة تحيط به ومال يعرض عليه وأعمال تتعاقب أمام نظره وإله يعبده؛ هو في كل ذلك قد يكون سخيفا في نظراته، وضيعا في رأيه، وضيعا في حكمه، وقد يبالغ في ذلك كله من السمو منزلة قل أن تنال، وعمل الثقافة أن تنتشله من تلك النظرات الوظيعة إلى النظرات السامية.
وليست نظرات الإنسان إلى الحياة قوالب من الآجر، كل قالب مستقل بنفسه، محدود بحدوده، إنما هي كسائل لطيف إذا لونت نقطة منه بلون، شع اللون في سائر السائل، وإذا سخنت جزءا منه وزع حرارته على السائل كله حتى يتعادل، بل الرأي والنظرات ألطف من ذلك وأدق وأرق، فإذا رقى النظر إلى شيء أثر ذلك رقيا في سائر النظرات.
فكل نظرات الحياة متأثرة بنظرك إلى نفسك والعكس. بل نظرك إلى الله تعالى متأثر بنظرك إلى عالمك المحيط بك؛ وهذا ما يجعل الثقافة في أي ناحية من النواحي الأدبية والعلمية تؤثر أثرا كبيرا في النواحي الأخرى حتى ما نظن أن ليست له صلة به. وقد أصاب من قال: «إن رقي الأمة في الموسيقى وتذوقها الصوت الجميل والغناء الجميل يجعلها تتعشق الحرية وتأنف الضيم وتأبى المذلة»، فمحيط المخ والعقل والشعور محدود وشديد الحساسية، كل ذرة فيه تتأثر بأقل شيء، وتؤثر بما تأثرت. والفكرة الجديدة قد تدخل في الفكر فتقلبه رأسا على عقب، وتجعل من صاحبه مخلوقا جديدا يقل وجه الشبه بينه وبين ما كان من قبل، فتجعله في أعلى عليين، أو أسفل سافلين.
إن كان هذا صحيحا، وكانت قيمة الثقافة الذاتية في مقدار ما أفادت المثقف في وجهة النظر إلى الأشياء، وتقويمها قيما جديدة أقرب إلى الصحة، أسلمنا ذلك إلى نتائج خطيرة؛ فدين خير من دين بمقدار ما تحاول تعاليمه من رفع مستوى النظر إلى الله تعالى وإلى الحياة؛ وعلم خير من علم باعتبار ما يؤدي إليه من نظر راق صحيح؛ وثقافة الإنسان لا تقدر بمقدار ما قرأ من الكتب وما تعلم من العلوم والآداب، ولكن بمقدار ما أفاده العلم، وبمقدار علو المستوى الذي يشرف منه على العالم، وبمقدار ما أوحت إليه الفنون من سمو في الشعور وتذوق للجمال.
الرجل والمرأة
لعل الطبيعة شاءت ألا تجعل من الرجل إنسانا كاملا، ولا من المرأة إنسانا كاملا، بل جعلت منهما معا إنسانا كاملا.
نقصت في الرجل ما أكملته في المرأة، ونقصت في المرأة ما أكملته في الرجل، وقوت في الرجل ما أضعفته في المرأة، وقوت في المرأة ما أضعفته في الرجل.
فحيثما وجدت نقصا في المرأة فاطلب كماله في الرجل، وحيثما وجدت نقصا في الرجل فاطلب كماله في المرأة.
فالمرأة والرجل كلفقي الثوب تزيد في أحدهما ما تنقصه في الآخر، وتنحرف في أحدهما انحرافا يهيىء مكانا للآخر، أو ككل شيء فيه «عاشق ومعشوق» يعد كل منهما إعدادا يجعله صالحا للآخر، أو كطاقة الزهرة لا تجمل إلا حيث تتعدد الألوان وتتناسق، أو كفرقة الموسيقى يكمل الطبل ما نقصه المزمار، ويكمل المزمار ما نقصه الطبل، ولا تجمل الموسيقى إلا بهما معا.
فإذا رأيت في الرجل حبا في التعميم رأيت في المرأة حبا في التخصيص. هي تحب في العلم المثال الجزئي، وهو يحب القاعدة الكلية. هي إذا تكلمت عن المنزل تكلمت عن منزلها وقارنته بمنازل صديقاتها، وأما هو فسرعان ما يطفر إلى ذكر قاعدة عامة. وهي إذا تكلمت في الحب تكلمت في حبها أو حب مثيلاتها، وهو إذا تكلم في ذلك انتقل سريعا إلى وضع قوانين للحب؛ فنظرتها - على العموم - نظرة جزئية نفاذة، ونظرته - على العموم - نظرة شاملة وقد لا تكون دقيقة. وإذا تكلم هو عن الجمال كفكرة مجردة تكلمت هي عن فلانة الجميلة أو فلان الجميل. وإذا قال هو: ما أحسن السماء! قالت هى: ما أجمل القمر؟
ومن أجل هذا كانت المرأة في العمليات خيرا من الرجل. وكان الرجل في النظريات خيرا من المرأة.
فلست ترى فلاسفة من النساء في الطبقة الأولى؛ لأن الفلسفة أساسها التعميم وهي لا تحسنه، وأساسها النظريات وهي لا تجيدها. وأهم أبوابها ما وراء المادة، والنظر الجزئي يتطلب المادة. قد تجد طالبات فلسفة، وقد تجد حائزات لشهادات فلسفية، ولكن قل أن تجد فيلسوفة خالقة لنظريات فلسفية، فذلك ليس من طبعها عادة.
هي تحسن تدبير المال أكثر مما يحسن الرجل، فلو أعطى مال للمتعلمات وأعطى نظيره للمتعلمين لكان الأغلب الأرجح أن تحسن المرأة استعماله أكثر من الرجل، ولا تنفقه في مشروعات خيالية كما يفعل الرجل، ولا تقامر به؛ لأن المقامرة نوع من المشروعات الخيالية، ولا تفنيه إفناء سريعا اعتمادا على ما يأتي به المستقبل كما يفعل الرجل؛ لأنه أكثر نظريات، وأوسع خيالا، وهي أحسن تقديرا للواقع وأقرب آمالا.
والأمر في الخيال كالأمر في النظريات، فالنظريات تحتاج إلى فرض يخلقه الخيال؛ ولذلك كان الرجل أوسع خيالا وأبعد مرمى وأكثر تحليقا في السماء. ومصداق ذلك نظرة إلى الشعراء، والشعر ميدان الخيال وقريب الصلة بالفلسفة. والمرأة لا تحسن الشعر كما لا تحسن الفلسفة، فإن فتشت في الأدب العربي فقل أن تجد امرأة كالخنساء، ومع هذا فما الخنساء وما شعرها؟ إن هي إلا ندابة مؤدبة لم تحسن القول إلا في رثاء أخويها. وأكثر ما روي عن النساء في الشعر إنما هو من قبيل الرثاء القريب الخيال. وهو ليس إلا بكاء على فقيد جزئي محسوس صيغ في قالب شعري محدود؛ فأما ما عدا هذا الضرب من الأدب فلم تنل منه حظا كما نال الرجل. وهذا في الأدب الغربي كما هو في الأدب العربي، وجدت فيه شاعرات ولكنهن، قليلات، ولسن مع ذلك من أرقى صنف.
وليس هذا مما يمس مكانة المرأة في شيء. فكلتا النغمتين من الميل إلى الواقع والخيال لا بد منه في هذا العالم، فإن سبق الرجل بنظرياته وخياله فهو في حاجة إلى امرأة تذكره بالواقع، وتحد من إمعانه في الوهم وإسرافه في الخيال؛ فهو يبني وهي تحافظ على ما بنى، وهو سفينة وهي صبارتها، وهو من الخيالة وهي من الرجالة، وهو يطير وهي تمشي في تؤدة. وكل لا بد منه في جيش الحرب، وكل لا بد منه في جيش العالم. هو يتقدم الجيش فيصاب في الصف، وهي تعنى به ممرضة في المستشفى. هو يتقدم في الحياة ويخاطر ويجمع المال، وهي تدبر وجوه إنفاقه. فهو له السلطان الأكبر خارج البيت؛ لأن ذلك مجال المخاطرة والنظريات والخيال، وهي لها السلطان الأكبر في البيت؛ لأنه مجال التجربة العلمية والنظريات الجزئية والخيال المحدود.
هن محافظات غالبا، وهم أحرار غالبا، فالثورات الاجتماعية والدينية والسياسية من الرجال أولا - لا من النساء - حتى طلب تحرير المرأة كان من قاسم أمين - أولا - قبل أن يكون من السيدة هدى شعراوي؛ ولعل ذلك في غير كما هو في مصر؛ الأنبياء رجال لأن النبوة دعوة والدعوة ثورة. والعالم مدين في المحافظة على الدين للنساء أكثر مما هو مدين للرجال؛ لأن المحافظة من طبعهن. والإلحاد في الرجال أكثر منه في النساء؛ لأن الإلحاد ثورة أيضا. والثورات السياسية وليدة الرجال؛ لأنها وليدة الخيال، وهن يكرهن الثورة ويكرهن الخيال. قد تحسن المرأة الثورة على الأزياء، فكل يوم نمط في الأزياء جديد: شعر طويل بعد شعر قصير، وثوب طويل بعد ثوب قصير، وقبعات أشكال وألوان، وملابس وأوضاع أنماط وأنماط، ولكن تسمية هذه ثورة من قبيل قولهم: سهام العين وفتك اللحظ وقتل المحب ونار الجوى وحرقة الفراق.
ولكن ما بال المرأة وقد حافظت على التقاليد في السياسة والدين والاجتماع وكرهت الثورة عليها، تراها وهي في الأزياء وما إليها أسرع الناس تغييرا وأحبهم تجديدا وأكرههم للمحافظة؟ لعل الأمر أنها لم تخرج عن المحافظة قط ولكنها كانت بين محافظتين: محافظة على أسر الرجل ومحافظة على أنماط الأزياء، فقارنت بين المحافظتين واختارت أهون الضررين.
لعل سعة خيال الرجل وضيق خيال المرأة، وجريه وراء النظريات وميلها إلى تحديد الحياة بالواقع؛ هو الذي جعلها تسيطر على حياة الحب. فبيدها المفاتيح لا بيده، هو يسبح وراء خياله، فإن كان شاعرا ملأ الدنيا غزلا وتفنن في ضروب القول وأبدع؛ فأحيانا يرتفع إلى السماء فيتغزل الغزل الروحي، ويخلق ممن يحب صورة ملك كريم؛ وأحيانا يهبط إلى الأرض فيدق في وصف ملامحها ونظراتها وقوامها وكل شيء فيها، ويخترع في ذلك التشبيهات الرائعة، والتعبيرات الخيالية؛ وإن كان مصورا تفنن في صورة من يحب وخلع عليها من تخيلاته وتصوراته ما يجعلها فوق مخلوقات هذا العالم؛ وإن كان موسيقيا ألهمه الحب فأخرج قطعا فنية بديعة أحيانا تبعث على اليأس وتستذرف الدمع، وأحيانا تستخرج البشر والسرور وتثير الأمل؛ أما هي فأملك لنفسها غالبا، وخير منه في تقدير الواقع والاعتراف بالحقائق. ولعلنا إذا أحصينا المنتحرين لفشل الحب وجدنا أكثرهم رجالا؛ ولعل أكثر من اندفع في سبيل الخيال من النساء كان بإغراء الرجل وبفضل ما أجاد من سحر القول وإتقان الغزل والبلاغة في الفن؛ فهو إن طار في الخيال فطبع، وهي إن جرت وراءه فتطبع، وربما كان هذا من الأسباب التي جعلت الناس رجالا ونساء يحملون المرأة من التبعة في الحب وتوابعه أكثر مما يحملون الرجل.
قد تبدو المرأة أحد عاطفة من الرجل؛ فهي سريعة الرضا سريعة الغضب، سريعة الحب سريعة الكره، ترضيها الكلمة وتغضبها الإشارة، قريبة الدمعة قريبة الابتسامة، ترق فتذوب حنانا، وتقسو فما تأخذها رأفة، تحب فتصفي الود، وتعادي فويلاه من عداوتها.
ولكن حتى في عواطفها وعواطفه هي عملية وهو نظري. ترحم فتتحول رحمتها وحنانها إلى تمريض للجرحى وإعداد ملابس للمساكين. وتحب فترسم خطط الزواج، وتبغض فتطلب الفراق، وتسر فكل شيء يدل على سرورها، هي ضاحكة وهي مغنية وهي مرحة، وتحزن فكل شيء يدل على بكائها، فهي عابسة، وهي مكتئبة، وهي توقع نغمات محزنة. ثم هي تحب مشاركة الناس لها في سرورها وحزنها أكثر مما يحب الرجل. فليس للرجال مناحة كالتي للنساء، ولا حفلات مرحة كل المرح كالتي للنساء. أما هو فيغضب على النظام فيثور وهي لا تعرف الثورة، ثم يحب وكثيرا ما يخلو ذهنه من زواج، ويكره فلا يطلب الفراق، ويسر ويكتم سروره، ويحزن ويكتم حزنه، ويقترن حبه وكرهه وسروره وحزنه بمشروعات خيالية لا تجيدها المرأة!
هذه ناحية واحدة من نواحي الرجل والمرأة وما أكثر نواحيهما.
ولكن إنصافا للحق يجب أن نذكر أن المرأة في عصور التاريخ لم تتح لها كل الفرص التي أتيحت للرجل؛ فلا منحت من الحرية ما منح، ولا مهدت لها وسائل التعلم كما مهدت له، ولا تحملت من المسئوليات ما تحمل؛ ولم تبدأ تتمتع بحريتها وتتاح لها سبل التعلم إلا من عهد قريب، على حين أن الرجل ظل قرونا طويلة حرا طليقا يتعلم ما يشاء ويزاول الأعمال ويتحمل تبعاتها.
فهل إذا ظلت المرأة في سيرها تتعلم وتكافح في الحياة وتطالب بما نقص من حقوقها تبقى هذه الفروق العقلية والخلقية كما أبناها قبل؟ أو تضمحل الفروق تبعا لسير المرأة في سبيل المساواة؟ وبعبارة أخرى: هل هذه الخصائص العقلية التي شرحناها في كل من الرجل والمرأة هي خصائص طبيعية كالخصائص الجسمية، أو هي فروق كانت نتيجة ما مر على الرجل من أطوار اجتماعية؟
ذلك ما سيكشف عنه الزمن.
فن الحكم
يعاني الشرق الآن محنة من أشد أنواع المحن، سببها أنه بدأ يحمل عبء نفسه ، وقد كان يحمله عنه المحتل.
كان المحتل يصرف أمور الأمة كما يرى، فيحرم ما يشاء ويحل ما يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء؛ فإذا استعان ببعض أفراد الأمة فبأيديهم لا بعقولهم، وقد يستعين بعقولهم أيضا ولكن على شرط أن تكون في خدمة عقله، وفي الاتجاه الذي يرسمه قلمه؛ فمن حدثته نفسه أن يفكر تفكيرا حرا طليقا فالويل له. أمسك بيده المال وهو عصب الأمة، ينفق منه كما يشاء في الوجوه التي تخدم سلطانه، ويبخل كما يشاء فيما يعارض منهاجه؛ فهو شحيح كل الشح على التعليم العالي، وعلى الجيش وما إليه؛ وهو سخي فيما يصلح الأرض ويدر الثروة. وعلى كل حال لم يقف من الأمة موقف المعلم النزيه يؤهل تلميذه ليكون رجلا يوما ما، ويمرنه على أن يستقل بنفسه شيئا فشيئا؛ إنما وقف منه موقف السيد من عبده يسخره وله الغلة، ويطعمه ما يسد رمقه ليقوى على العمل له.
ثم كان أن جاهد الشرق جهادا شاقا طويلا جعل حكم الأجنبي له شاقا عسيرا، وساعدت الأحداث الخارجية وما فيها من قلق واضطراب على أن يغير المحتل سياسته ويحمل الأمة أكبر عبئها، ويطلق لها اليد في التصرف في أكثر شئونها. فأصبحت الأيدي التي كانت تعمل بعقول غيرها غير كافية، واشتدت الحاجة إلى العقول المفكرة، وأساليب الحكم العادلة الحازمة، فإذا بالشرق أمام مدرس يلقي لأول مرة درسه، أو قاض يجلس على منصة القضاء أول عهده، حتى الذين تولوا الحكم في عهد الاحتلال والحكم بعد الاحتلال يشعرون بالفرق بين الحكمين، واختلاف الصعوبة في العهدين، فقد كانوا في عهد الاحتلال أيديا مسخرة، وهم في عهد الاستقلال عقول مدبرة. •••
أول درس يجب أن يتعلمه الشرق تضحية الحاكم؛ وأعني بذلك أن يضحي بشهواته في سبيل تحقيق العدل الدقيق، فلا تستهويه شهوة المال، ولا شهوة الجاه، ولا شهوة المنصب فتصرفه عن إحقاق الحق وإبطال الباطل. وطبيعي أن الشعب لا يرضيه من الحاكم في عهد الاستقلال ما كان يرضيه في عهد الاحتلال؛ فقد كان في عهد الاحتلال يصبر على الظلم كارها بحكم القوة، فلما رأى أن حكومته منه، وأنها تستمد قوتها من قوته، لم يرض عن ظلم، بل هو يشتط في طلبه فلا يرضى عن عدل مشوب بظلم، إنما يريد عدلا خالصا، ويتطلب منها المثل الأعلى في العدالة وإلا لا يمنحها رضاه.
ثم هو لا يرضى بتحقيق العدل السلبي وحده، مثل عدم الترقية لصلة أو قرابة، وعدم الظلم في توزيع مياه الري ونحو ذلك، إنما يطالب بتحقيق العدل الإيجابي أيضا، مثل إصلاح نظم التعليم ونظم المال ونظم الصحة، ونظم الشئون الاجتماعية؛ فإذا قصر الحاكم في ذلك مل المحكوم وسئم، وشكا من أن العهد الجديد لم يفرق عن العهد القديم، إذ لم تتحقق آماله ولم يظفر بما كان يرجو من سعادة. •••
على أن من الإنصاف أن نقول: إن تبعة صلاحية الحكم وعدمه لا تعود إلى الحاكم وحده، بل إن جزءا كبيرا يحمله الشعب المحكوم نفسه؛ فالحكم فعل وانفعال مستمران بين الحاكم والمحكوم، والنتيجة التي نراها من تقدم الأمة أو تأخرها هي نتيجتهما معا لا نتيجة الحاكم وحده.
والأثر الذي يقول: «كما تكونون يولى عليكم» ليس قانونا للقدر، بل هو قانون طبيعي. فحالة المحكوم تشكل الحاكم - لا محالة - بالشكل الذي يتفق وحالته. ولقد علمنا التاريخ أن عسف الحاكم لا يتم ولا ينجح إلا إذا سبقه استنامة المحكوم وضعف إحساسه، وصلاحية الحاكم مسبوقة دائما بتنبه المحكوم وحسن تقديره للعدالة والظلم.
بل إن أساليب الحكم ونظرية الحكومات لم تتقدم على مر الزمان تقدم الشعوب في تقدير العدل والظلم؛ فنظم الحكم التي وضعها اليونان والرومان - وعلى رأسهم أفلاطون في جمهوريته وأرسطو في كتابه السياسة - لم تتقدم كثيرا في عهدنا الحاضر، ولكن شعوب اليوم - في فهم الحكم ومدى سلطة الحاكم وإبائهم أن يتجاوز حده - أرقى بكثير في ذلك من شعوب الأمس الدابر. لقد كان الحاكم يستطيع أن يحكم - في سهولة ويسر وإلى عهد طويل - شعبه على رغم أنفه بسلطانه وجبروته، ثم هو يتحمل أعباء الحكم على كتفه وحده. أما اليوم فلا يستطيع حاكم مهما أوتي من العقل والقوة أن يحكم إلا برضا شعبه وبمعونته وبمشاركته إياه في حمل العبء؛ وإن وجدت حالات تخالف ذلك فحالات شاذة لا يسمح النظام الاجتماعي ببقائها طويلا.
بل تبين فساد رأي أفلاطون وأرسطو وأمثالهما في أن هناك طبقة خاصة يجب أن تحكم، وأنها وحدها الصالحة للحكم، وأن من عداها غير صالح؛ إلا لأن يحكم؛ وتبين أن الحاكم الحق للشعب هو الشعب نفسه، وإنما يركز آراءه في الحكم في أشخاص؛ لأن الناس اعتادوا تجسيد المعاني والرمز إليها بمحسوسات تقريبا لعقولهم وتبسيطا لأفكارهم؛ ولا ينجح حاكم ولا مصلح إلا إذا مثل رأي الناس أو على الأقل رأي طائفة صالحة منهم، فلو أتى مصلح بما لا يتهيأ له فريق من الناس لعد مجنونا، بل إن الشعب أو الطائفة منه هي التي تخلق حاكمها وتخلق مصلحها، إذ هو ليس إلا مبلورا لأفكارهم ومركزا لآرائهم. وليس الحاكم أو المصلح جذر الشجرة ولكن زهرتها، إنما الجذر والساق والأوراق هي الشعب نفسه. •••
يميل الشرق إلى أن يحكم حكما ديمقراطيا، وله الحق في ذلك؛ لأنه جرب أنواعا من الحكم الاستبدادي على أنواعه المختلفة فكانت مميتة لمشاعره، عائقة لتقدمه، وكان الحكام المستبدون ينعمون بكل صنوف الترف والنعيم على حساب بؤس الشعب وفقره.
ويميل إلى الديمقراطية؛ لأنها على ما بها من عيوب لا تزال أرقى أنواع الحكم وأبقاه؛ وحكم الاستبداد إن رضيته بعض الأمم حينا، أو فرض عليها فرضا حينا، أو ارتكن على بعض الظروف حينا، فليس هو الحكم الصالح للبقاء أبدا.
لقد انهار الاستبداد في مظاهره المختلفة، وحلت محله ديمقراطية بأشكالها المختلفة. انهار استبداد رجال الدين بعد أن سيطروا على الشعوب أزمانا طويلة لقي فيها الناس من عنتهم ما كره إليهم الحياة.
وانهار استبداد الأب بأسرته، فلم يعد ذلك الأب الذي لا إرادة في البيت بجانب إرادته، ولا الأب الذي كلمته حكم، وطاعته غنم، وحل محله أب هين لين، يأمر حينا فيطاع، ويؤمر حينا فيطيع.
وتغيرت الغايات للسلطات فأصبحت الغاية من الحكومة لا أن تظهر بمظهر الآمر الناهي، ولكن أن تحقق العدالة والحرية للناس حتى للضعفاء، وأصبحت الغاية من الأب لا أن ينعم بسلطانه، وإنما الغرض منه ومن الأسرة كلها إيجاد جو صالح لنمو الطفل وتربيته ورقيه. وليس الغرض من المعلم أن ينفذ إرادته بالعصا، وإنما الغرض منه ومن الناظر والمدرسة كلها أن يمسكوا بدل العصا مصباحا يضيء للتلاميذ حقائق الحياة وسبل الحياة.
ولكن هذا الحكم الديمقراطي ليس يصلح إلا بتنظيم دقيق، بل هو إلى النظام أحوج من الحكم الاستبدادي؛ لأن الحكم الاستبدادي يحمل عبئه فرد واحد وأعوانه أيديه، وهو الرأس المدبر، فطبيعي أن يكون ظلمه وعدله منظما، أما الحكم الديمقراطي فيحمل عبئه عدد كبير، فإذا لم يؤد كل واجبه اختل البناء، ومثله مثل الآلة ذات الأجزاء المختلفة أو كالساعة ذات القطع المتعددة المتباينة، ولا ينتظم سير الآلة ولا سير الساعة حتى يقوم كل جزء بعمله.
وسبب آخر لحاجة الحكم الديمقراطي للنظام دون الحكم الاستبدادي، وهو أن الحكم الاستبدادي يرمي إلى تحقيق مصلحة فرد واحد أو طائفة محصورة، وذلك سهل يسير. أما الحكم الديمقراطي فيرمي إلى مصلحة الشعب جميعه وخاصة الضعفاء، كالفقراء والمرضى والفلاحين والعمال، وهؤلاء عددهم في كل أمة كبير، ولا يمكن تحقيق الخير لهم إلا بجهد كبير ونظام دقيق.
فإذا لم يتحقق هذا النظام فشل الحكم الديمقراطي، وظن قصار النظر أن العيب يرجع إلى طبيعة الحكم، وهو في الواقع لم يرجع إلا إلى سوء تطبيقه واستعماله. ثم إذا اختل كان نذيرا بعودة الاستبداد، وارتكن المستبدون وذوو السلطان إلى ما يبدو تحت أعين الأمة من سوء الحكم الديمقراطي وفساده، واتخذوا ذلك ذريعة إلى استرجاع سلطانهم واستعادة استبدادهم، وأعادوا الأمة إلى سيرتها الأولى يسخرونها لمنفعتهم ويستعملونها لمصلحتهم.
فإكسير الحياة للشرق الآن تحري العدالة في الحاكم، وتضحية شهواته، وتنظيم حكمه وحمل كل عبئه، وتنفيذ واجبه في دقة، وإلا كان تحت خطر الفوضى التي تقدم للأسد الرابض حجته وصياحه من جديد بأن الشرق أعطي حريته فلم يحسن استعمالها.
مقياس الشباب
أما الأطباء وعلماء الإحصاء فيقدرون الشباب بالسن، فمن بلغت سنه العشرين أو قبل ذلك قليلا أو بعد ذلك بسنين فشاب وإلا فلا؛ فتحديد السن هو مقياس الشباب، كما هو مقياس الطفولة والهرم، فإن شئت أن تعرف المخلوق أطفل هو أم شاب أم شيخ فأغمض عينك وعد السنين، ولا تنظر إلى قوة أو ضعف، ولا إلى صحة أو مرض.
وسار على نمط علماء اللغة، فقالوا: ما دام الإنسان في الرحم فهو جنين، فإذا ولد فهو وليد، ثم ما دام يرضع فهو رضيع، ثم إذا قطع عن اللبن فهو فطيم، فإذا كاد يجاوز عشر سنين أو جاوزها فهو ناشئ، فإذا كاد يبلغ الحلم أو بلغه فهو يافع ومراهق، ثم ما دام بين الثلاثين والأربعين فهو شاب، ثم هو كهل إلى الستين.
ولكن هناك شاعرا أراد أن يخرج على هذه التقاليد، وأراد أن يقيس الشباب والفتوة بالمعنى لا بالمبنى، وبالقوة لا بالسن، فقال:
يا عز هل لك في شيخ فتى أبدا
وقد يكون شباب غير فتيان؟
فهو لا يريد أن يعترف بأقوال الإحصائيين، ولا أقوال اللغويين؛ فقد يسمى الشيخ شابا متى حاز صفات الشباب، وقد يسمى الشاب شيخا إذا حاز صفات الشيوخ، فالعبرة عنده في التسمية الصفة لا السن، وهي من غير شك نظرة جريئة ومذهب جديد ينظر فيه إلى الكيف لا إلى الكم، وإلى النتائج لا إلى المقدمات، وإلى الغاية لا إلى الوسيلة؛ فإذا عرضت عليه رجلا قد ناهز الستين أو جاوزها، قد لبس في حياته العمائم الثلاث: السوداء ثم الشمطاء ثم البيضاء، وعرضت بجانبه من يسمونه شابا، لم يلبس في حياته إلا العمامة الأولى. ثم سألت صاحب هذا المذهب: ما قولك دام فضلك في هذين: هذا أربى على الستين، وهذا في سن العشرين، فأيهما الشاب، وأيهما الشيخ؟ لم يستسخف سؤالك، ولم يعده بديهية من البديهيات، بل عده مجالا للنظر الطويل والتفكير العميق، وقال: ليس الأمر بالسن أيها السائل، فمن رأيته منهما متهدما قد نضب ماؤه، وذهب رواؤه، وذوى عوده، وخوى عموده، ورق جلده، وانخرع متنه، وحطمته اللذات، وأنهكت قوته الشهوات، حتى صار لا يحمل بعضه بعضا، فهو شيخ وإن كان ابن العشرين؛ ومن امتلأ قوة، وبلغ كمال البنية، واستوت قامته، واعتدل غصنه، وحفظت جدته، وأحكمت مرته، وتجلت رجولته، واكتمل نشاطه، فهو الشاب ولو جاوز الستين. إنما يلجأ إلى السن في تحديد الشباب والشيخوخة من قصر نظره، وضعفت قوة حكمه، وأراد أن يعالج الأمر من أسهل طرقه، وأقرب مسالكه، وذلك شأن الغر الأبله، لا الفيلسوف الحكيم. ولم كنا إذا قسنا العلم وقسنا الكفاية، وقسنا الخلق والصلاحية للأعمال لم نرجع في شيء من ذلك إلى السن، وإذا قسنا الشباب والشيخوخة رجعنا إلى السن؟ ليست السن مقياس الشباب، وإنما أحسن أحوالها أن تكون علامة الشباب، وقد تتخلف العلامة، كحكمنا على الرجل بالعلم؛ لأن لديه شهادة الليسانس في الآداب أو الليسانس في الحقوق، وقد يكون معه الليسانس أو الدكتوراه وليس بعالم، كما يكون في سن العشرين وليس بشاب. إن الشباب أو الشيخوخة معنى لا مادة، وقد علمتنا قوانين الحياة أن المادة تقاس بمادة، والمعنى يقاس بالمعنى. فنحن نقيس الحجرة المادية بالمتر المادي، ونكيل القمح المادي بكيلة مادية، ونزن التفاح المادي برطل مادي؛ ولكن من السخف بمكان أن نقيس الفضيلة أو الجمال أو القبح بمتر أو رطل أو قدح، فلم نقيس الشباب وهو معنى بالسن وهي مادة؟
بل لو تعمقنا أكثر من ذلك لوجدنا أن حسن الرواء وجمال المنظر ومرح النشاط ليست هي المقياس الصحيح للشباب، إنما الشباب مزاج، هو محصل لمجموع قوى نفسية، هو حاصل جمع لصفات خلقية، إن شئت فقل: هو الإرادة قوية تعزم العزم لا رجوع فيه، وتزمع الأمر لا محيد عنه، وترمي إلى الغرض لا سبيل إلا إليه. تعترض الصعاب فلا تأبه لها، وتخر السماء على الأرض فلا تتحول عنه. قد تعترف بأن هناك عقبه، ولكن لا تعترف بعقبة كئود، وقد تقر بصعوبة الأمر، ولكن لا تقر باستحالته، والشباب هو العاطفة القوية المتحمسة الصحيحة، ومظاهر صحتها أنها ثابتة، فليست «قشا» تشتعل سريعا وتخمد سريعا، وليست مضطربة تذهب مرة يمينا ومرة يسارا من غير غرض يحدد اتجاهها، وليست مائعة تحب فتذوب في الحب، وتغضب فتجن في الغضب إنما ألجمها بعض الإلجام العقل والمصلحة والغرض، والشباب هو الخيال الخصب الواسع الأفق المترامي الأطراف الذي يرسم الأمل، ويبعث على الطموح، ويحمل المرء على أن يتطلب لنفسه ولأمته حياة خيرا من حياتها الواقعية - هذا المزاج الذي يتجمع من إرادة قوية وعاطفة حية وخيال خصب هو الشباب، وبمقدار قوتها وتلاؤمها تكون قوة الشباب، وبمقدار نقصها تكون الشيخوخة؛ فالشباب موجب والشيخوخة سالبة، والشباب إقدام والشيخوخة إحجام، والشباب نصرة والشيخوخة هزيمة.
وإذا كان الناس قد اعتادوا أن يصطلحوا على علامات للشيب والشباب حسب تفسيرهم الباطل فإن لنا علامات أخرى على تفسيرنا الصحيح.
لقد جعلوا الرأس موضع أهم الأمارات؛ فسواد الشباب وبياض المشيب أكثر ما دار عليه القول في الشيخوخة والشباب، وهو مركز القول في ذلك عند الأدباء والشعراء، حتى ألفوا في ذلك الكتب الخاصة، من أشهرها كتاب «الشهاب في الشيب والشباب». وقد التفت مؤلف هذا الكتاب في مقدمته إلى فكرة جليلة، ولكنه لم يحسن تعليلها، قال: «إن الإغراق في وصف الشيب والإكثار في معانيه، واستيفاء القول فيه، لا يكاد يوجد في الشعر القديم، وربما ورد لهم فيه الفقرة بعد الفقرة، فكانت مما لا نظير له، وإنما أطنب في أوصافه واستخراج دفائنه والولوج إلى شعابه الشعراء المحدثون».
وعلة ذلك في نظري أن الحياة في الجاهلية وصدر الإسلام لم تكن غالية، كانت تتطلب المجد وتسترخص الموت، غير أن المجد في الجاهلية كان مجد الذكر وحسن الأحدوثة، والخوف من العار واتباع التقاليد؛ وكان في الإسلام ذلك، وعند بعضهم الاستشهاد في سبيل الدعوة وبيع النفوس لله برضاه وجنته، فليست الحياة تستحق البكاء الطويل عليها. أما في العصر العباسي فكانت أشبه بحياة الرومانيين، من أهم أغراضها اللهو واللعب، ومن أغراضها القرب إلى النساء والتحبب إليهن، وذلك يستدعي حب الحياة؛ فنذير الموت وهو الشيب بغيض إلى النفس، والنساء يكرهن الشيب فيجب أن يكره، ويعيرن به فيجب أن يبكى، ويمدحن الشباب ويحببنه فيجب أن يرثى؛ لهذا كثر القول في الشيب في العصر العباسي وما بعده ، وقل فيما قبله.
أما علامات الشباب والشيخوخة في نظريتنا فليس موضعها الرأس؛ لأن موضعها القلب؛ فاليأس شيخ لأن اليأس ضعف في الإرادة وضيق في الخيال وبرودة في العاطفة، والشيب شيب القلب لا شيب الرأس؛ فمن لم ينفعل لمواضع الانفعال، ولم يعجب من مواضع الإعجاب، ولم يستكره في مواضع الاستكراه، ولم ينازل في مواضع الكفاح، ولم يطرب للموسيقى الجميلة والمنظر الجميل، ولم يهتج للأحداث، ولم يأمن ولم يطمح، فهو شيخ أي شيخ، شاب قلبه وإن كان أسود الرأس حالكه.
إن أردت أن تعرف أشيخ أنت أم شاب، فسائل قلبك لا رأسك: هل ينبض بالحب، حب الجمال، وحب الطبيعة، وحب الفضيلة، وحب الإنسانية؟ وهل ينفعل لذلك انفعالا قويا فيهيم ويغار ويدافع ويضحي؟ هل يتصل بالعالم فيتلقى أمواجه الأثيرية من الناس، ومن الأرض، ومن البحر، ومن الجبل، ومن السماء، ثم يلقى بأشعته - كما تلقى - على كل من حوله، فينفعل ويفعل، ويتأثر ويؤثر، فهو كالقمر يتلقى من الشمس ضياء وهاجا، ويعكسه على الأرض نورا وضاء؟ هل يبادل من حوله حبا بحب، وعاطفة بعاطفة، وخيرا بخير، وأحيانا شرا بشر؟ وهل يترك العالم خيرا مما تسلمه؟ أو أنه قلب بارد كالثلج، جامد كالصخر، لا طعم له كالماء، ميت كالجماد، مغلف كالخرشوف؟
إن كان الثاني فشيخ، وإن كان الأول فشاب.
قالت كبرت وشبت قلت لها
هذا غبار وقائع الدهر
نظرة في النجوم
مما أرثي له أن أرى الشرقيين - وخاصة سكان المدن - لا ينتفعون بسطوح منازلهم الانتفاع الواجب، فهم قلما يصعدون إليها إلا عند تركيب قوائم الراديو، أو حبال الغسيل، أو تخزين ما يستغنى عنه في حجر السطح، وهم يحبون أن يلتصقوا بالأرض، ولا يحلقوا في السماء، وينزلوا بحضيض المنازل ولا يسموا إلى أوجها.
وفاتهم أن من خير متع الحياة «سطوح المنازل» لاسيما في جو بديع كجونا، تصفو فيه السماء في أكثر أشهر السنة، ويهب فيه النسيم العليل ليلا، ويمتد فيه البصر، وتنشرح فيه النفس؛ ولياليه بين ليال مقمرة بديعة لا تمل العين جمالها، وليال غاب فيها القمر فقامت النجوم مقامه، تناغيك وتحدثك، وتملأ قلبك روعة ونفسك حياة.
تبا للأعين التي تنظر دائما إلى الأسفل، ولا تنظر إلى الأعلى، ويلذ لها أن تنظر إلى المسافات القريبة وإلى ما تلمس، ولا تنظر إلى البعد السحيق والمنظر البعيد. إن العين إذا اعتادت ذلك قلدتها النفس، فلم تنظر إلى الأمل البعيد، ولم تلتذ بالطموح، ولم تسعد بالأمل، وقنعت بما هي فيه، ورضيت بالدون، وتشاغلت به، وصدها ذلك عن أن تنشد الكمال، للارتباط الشديد بين عالم الحس وعالم العقل وعالم الروح.
ولقد كان آباؤنا الأولون أكثر منا عناية بالسماء، حتى العرب في بداوتهم أطالوا النظر في النجوم وانتفعوا بجوهم المفتوح، وسمائهم الصافية، فعرفوا كثيرا منها ووضعوا لها أسماءها، وكان لهم فيها ملاحظات دقيقة، وأشعار رقيقة. أما نحن فقل أن نعرف من أسماء النجوم إلا الشمس والقمر، وجهلنا بأسماء المشهور منها جهل فاضح لا يتفق وسماءنا البديعة. وأما شعراؤنا - سامحهم الله - فأكثرهم لا يشعر في السماء والنجوم إلا تقليدا، يبرح به ألم الهجر في غرفته المسقوفة، وقد أغلقت شبابيكها، وأسدلت ستائرها، ومع ذلك يشكو النجوم وثباتها، وهو لا يرى سماء ولا نجوما.
لو كان في أوروبا جو مكشوف دافىء كجونا، لعرفوا كيف ينتفعوا بالسماء كما انتفعوا بالأرض، ولاتخذوا من سطوح منازلهم مقاما للسمر الحلو والتأمل اللذيذ، ولاتخذوا منها منتديات ومقاهي ومسارح للسينما والتمثيل وأماكن للمحاضرات، فانتفعوا بجمال الجو وجمال منظر السماء وجمال منظر السينما والتمثيل وجمال الحديث معا؛ ولو فعلنا لارتحنا من عناء المتسولين والجوالين وماسحي الأحذية إلا أن يصعدوا إلينا في السماء. •••
نعمت هذا الشهر بسطح منزلنا، وأكثرت من التحدث إلى النجوم، والإصغاء إلى حديثها، وملت إلى قراءة شيء من أخبارها، فملأت قلبي حياة، وعقلي هدوءا وأعصابي راحة.
وكنت كلما شكيت من شيء بثثت شكواي إلى النجوم فتبخرت، وكلما تدنست في جو الأرض تطهرت في جو السماء، فإن آلمتني السياسة بألاعيبها وخداعها، والأولاد بمضايقاتهم ونزاعهم، والخدم برذائلهم، والبيئة بمشكلاتها وصغائرها، علوت إلى السطح وانسطحت على سجادة، ووصلت أسباب ما بيني وبين النجوم ، فزال كل ألم، واحتقرت كل ما ضايقني، وعشت في عالم جديد لذيذ مريح، ورأيت أني غسلت نفسي كما يغسل الثوب في البحر الواسع.
عظيمة هذه النجوم وجميلة وجليلة! فإن رأيت نجوم المجرة وعلمت أنها تبلغ عدتها الملايين، وأنها تسير بسرعة هائلة لا يتصورها الخيال، وأن بعضها بلغ من البعد عنا ما لا يصل إلينا ضوؤه إلا في آلاف السنين، أيقنت بهذه العظمة، وشعرت في أعماق نفسك بحقارتك وحقارة شواغلك وحقارة أرضك كلها - وإن علمت أن في السماء آلافا من الشموس تكون كل شمس منها مجموعة من النجوم كمجموعتنا الشمسية، سبحت في عالم من العظمة لا حد له، وتساءلت في كثير من الحيرة والإعجاب: إلى أي طريق هي مسوقة، وإلى أي طريق نحن مسوقون معها؟ وقلت كما قال أبو الشبل البغدادي:
بربك أيها الفلك المدار
أقصد ذا المسير أم اضطرار
مدارك قل لنا في أي شيء
ففي أفهامنا منك انبهار
وفيك نرى الفضاء وهل فضاء
سوى هذا الفضاء به تدار؟
ثم رددت الطرف خاسئا وهو حسير، ولكنها حسرة لذيذة لا ترضي بها بديلا.
أيتها النجوم! كم من الناس نظروا إليك فأعجبوا بعظمتك وجمالك وجلالك، وكم من الشعراء تغنوا بك، وتفننوا في الإشادة بذكرك، وعابوا عليك سرعتك أيام الوصال، وبطئك أو وقوفك أيام الهجران!
وكم حارت فيك العقول فظنوك إلهة وعبدوك من دون الله، وأقاموا لك الهياكل والتماثيل، ثم تقدموا قليلا فأنزلوك من مقام الألوهية قليلا، وجعلوا لك أثرا كبيرا في أحداث الأرض! فلك أثر في الرياح والأمطار والسعادة والشقاء، وربطوا مواليد الناس بك، وجعلوا سعادتهم وشقاءهم من أجلك؛ وحتى الفلاسفة العظام أمثال أرسطو أعمتهم عظمتك عن أن يدركوا حقيقتك، فأسندوا إليك عقولا كبارا، وجعلوا منزلتك في الفكر والعقل فوق منزلة الإنسان، وسبحوا في الخيال فأسسوا نظاما وهميا للأفلاك وتدرجها في الأثر حتى تصل إلى عالمنا، وخدع الناس بك فبنيت لك المراصد لمراقبة حركاتك، وأقنع المنجمون الناس بتأثيرك فسمعوا لقولهم، واتخذ الملوك المنجمين يعتمدون عليهم في تدبير مملكتهم، كما يتخذون الأطباء لتدبير أجسامهم، فلا يضعون بناء إلا بعد رصدهم لك وإشارتهم بأنك ستمنحين السعادة لبنائهم، ولا يحاربون إلا برأي رجالك وتخير أوقات رضائك.
وكم شغل الناس بطوالعك، وتخيروا أوقات زواجهم محسوبة بحسابك، وتنبأوا - بمعونتك - بموت فلان وحياة فلان، وأنت أنت فوق ذلك كله لا تعبئين به ولا تلتفتين إليه. كأن أمرهم لا يعنيك، وشئونهم لا تهمك. وتتابعت الأجيال ومرت السنون، وفنيت أقوام وجدت أقوام وكلهم يمنحونك إعجابهم، وأنت في علاك وسيرك وسرعتك دائبة أبدا.
وأتى العلم الحديث فغير فيك الأفكار، وساواك بالأحجار، وجعل قمرك الجميل كأرضنا غير الجميلة، وسلب عنك العقل والفكر، وأخضعك لنواميس الطبيعة، وأبان خرافات الأقدمين فيك - ومع ذلك أقر بجلالك وأخذ بدقة نظامك، وأقر بجهله أن يحيط بك، وأن يتعرف كل قوانينك؛ فأنت أنت أيام الجهل وأيام العلم، وأيامنا وأيام آبنائنا.
وبينا أنا في ذلك كله، وفوق ذلك كله، دعاني الخادم إلى التليفون فنزلت من السماء إلى الأرض. - آلو! - فلان! لعلك تذكرني؟ - أهلا وسهلا! - أريد أن أقابلك! - هل من شيء؟ - لقد تخرجت من كلية الآداب واشتغلت في عمل لا يناسبني، وماهية لا تليق بي، وإخواني كلهم خير مني، فلي سنوات لم آخذ علاوة، ولم أرق إلى درجة. - نعم! - والآن هناك حركة ترقية وأريد مساعدتك.
ثم حوار طويل، ورجاء مستمر، وشكوى بؤس، وعائلة يعولها، وماهية لا تكفيها، ودنيا ضاقت به وبها. •••
فى أي تفكير كنت؟ وإلى أين صرت؟ هذه السماء، وهذه الأرض، أين هذا العالم العظيم السعيد الذي كنت أحلم به من هذا العالم الحقير التافه الذي نقلني إليه التليفون، والذي يمضي فيه أكثر الناس أكثرأعمارهم؟ لقد غطسني بحديثه في ماء مثلج، فلأصعد ثانية إلى السماء، ولأعاود ما كنت فيه ... لا. لم تعد للفكر لذته، ولا لحديث النجم متعته. •••
لقد قلب علم الفلك عقلية الإنسان رأسا على عقب، فقد كان يظن أنه سيد العالم، وأن أرضه هذه هي مركز العالم، وأن الشمس والقمر والنجوم تدور حولها، فأبان له العلم أن أرضه ليست إلا هنة تسبح في الفضاء، وأنها شيء تافه في المجموعة الشمسية التي تدور حول الشمس، وأن كل العالم من أرض ونجوم خاضعة لقوانين واحدة كقوانين الجذب وما إليها، وأنه إن كانت أرضه هنة فكيف به هو! كل هذا غير عقلية الإنسان وأنزله من شماخة وسلبه غروره، فأخذ يفكر تفكيرا جديدا، وينظر لنفسه وللعلم نظرا جديدا، ويربط نفسه بالعالم ويرى أنه هو والعالم وحدة، وأن هذه الوحدة تخضع لقوانين ثابتة استكشف أقلها وغاب عنه أكثرها، ما استكشف منها يدل على عظمة باقيها وعمومها وسيطرتها، ولكن شيئا واحدا لم يتغير في الإنسان؛ وهو ارتباط عواطفه بالنجوم، وأنها تجد السبيل دائما لقلبه، وتوحي إليه بعظمة ربها وربه.
صفحة سوداء
رووا أن عمرو بن العاص كتب إلى عمر بن الخطاب في وصف مصر أن: «نيلها عجب، وأرضها ذهب، وهي لمن غلب».
ورووا أن عتبة بن أبي سفيان كان عاملا لأخيه معاوية على مصر، فبلغه أمور عن أهلها، فصعد عتبة المنبر مغضبا وقال: «أيا حاملين ألأم أنوف ركبت بين أعين، إنما قلمت أظفاري عنكم ليلين مسي إياكم، وسألتكم صلاحكم لكم، إذ كان فسادكم راجعا إليكم. فأما إذ أبيتم إلا الطعن في الولاة والتنقص للسلف فوالله لأقطعن على ظهوركم بطون السياط، فإن حسمت داءكم وإلا فالسيف من ورائكم».
وقبل هذا وذاك، جاء فرعون
فحشر فنادى * فقال أنا ربكم الأعلى . وجاء أبو نواس مصر بعد ذلك فقال:
محضتكم يا أهل مصر نصيحتي
ألا فخذوا من ناصح بنصيب
رماكم أمير المؤمنين بحية
أكول لحيات البلاد شروب
فإن يك باق إفك فرعون فيكم
فإن عصا موسى بكف خضيب
واشتهر المصريون عند المؤرخين بالانهماك في الشهوات وعدم النظر في العواقب. ولما رآهم ابن خلدون على هذه الحال قال فيهم: «كأنما فرغوا من الحساب» يريد أنهم لا يحاسبون أنفسهم على ما يصدر منهم، ولا يخافون من عاقبة أعمالهم، كأنما فرغوا من الحساب.
وظل مؤرخو العرب يرمون المصريين بالذل، وقبول الضيم في كل ما كتبوا، وكان من أشدهم المقريزي في أول خططه ، فقد عقد فصلا في أخلاق المصريين قال فيه : «وأما أخلاقهم فالغالب عليها اتباع الشهوات، والانهماك في اللذات، والاشتغال بالترهات، والتصديق بالمحالات، وضعف المرائر والعزمات، ولهم خبرة بالكيد والمكر، وفيهم بالفطرة قوة عليه، وتلطف فيه، وهداية إليه». ثم رماهم بالذل، وأخذ يحصي الأقوال في ذلك؛ فروي عن كعب الأحبار أن «الخصب قال: أنا لاحق بمصر، قال الذل: وأنا معك. وقال الشقاء: أنا لاحق بالبادية، فقالت الصحة: وأنا معك»، وروي أن ابن القرية وصف أهل مصر فقال: «عبيد لمن غلب، أكيس الناس صغارا، وأجهلهم كبارا».
وجاء بعده السيوطي فلم يخجل من أن يضع كتابه «حسن المحاضرة» فصلا عنوانه «السبب في كون أهل مصر أذلاء يحملون الضيم»، وقد جاء فيه «أن الشيخ تاج الدين كان يقول: إن الحكماء وأهل التجارب ذكروا أن من أقام ببغداد سنة وجد في علمه زيادة، ومن أقام بالموصل سنة وجد في عقله زيادة، ومن أقام بدمشق سنة وجد في طباعه غلظة، ومن أقام بمصر سنة وجد في أخلاقه رقة وحسنا»، والرقة والذل قريب بعضهما من بعض. وقال القاضي الفاضل: «أهل مصر على كثرة عددهم، وما ينسب من وفور المال إلى بلدهم، مساكين يعملون في البحر، ومجاهيد يدأبون في البر».
ويذكرون الذل على أنه حقيقة ثابتة ثم يختلفون في السبب في ذلك: فمن قائل: إن المصريين غاظوا يوما سعد بن أبي وقاص، فدعا عليهم أن يضربهم الله بالذل، وسعد عرف بإجابة الدعوة.
إن كان ذلك فالخطب هين، فمن الممكن أن يجتمع صالحو مصر وزهادها فيقرءوا الفواتح والدعوات وما تيسر من القرآن الكريم، ويهبوها لروح سعد ويطلبوا إليه أن يعدل من دعوته، ويطلب إلى الله تعالى أن يرميهم بالعزة بعد الذل. وما أظن سعدا يصر على دعوته، وقد عرف في حياته بالسماحة والسؤدد.
ومن قائل: إن فرعون لما غرق كان معه أشراف القوم وأعزتهم، فلما غرق غرقوا معهم، فلم يبق إلا الحثالة، فأتى من نسلهم الجبناء الأذلاء. وهل ينتج الذليل إلا الذليل؟ وهذا القول أيضا سهل رده، فالمصريون قد نزل بين أظهرهم كثير من سادة اليونان والرومان، وسادة العرب وسادة الأتراك، وذابوا في مصر واختلطوا بأهلها؛ فلم يغلب الذل العزة وعهدنا دائمة غلبة الأعزاء؟
أخطر الأسباب ما يلمح إليه الماكر «المقريزي» فهو يريد أن يبعث في النفوس اعتقادا بأن هذا سبب طبيعي يرجع إلى الإقليم وإلى الجو، وإلى طبيعة الأرض؛ هو يريد أن يقول: إن ذلك خلقة فيهم، بل هو في كل شيء حولهم فيقول: «إن هواء مصر يعمل في المعجونات وسائر الأدوية ضعفا قى قوتها، فأعمار الأدوية - المفردة والمركبة، المعجون منها وغير المعجون - بمصر أقصر منها في غير مصر»، وأشد من ذلك وأصرح قوله: «إن قوي النفس تابعة لمزاج البدن، وأبدانهم سخيفة سريعة التغير، قليلة الصبر والجلد، وكذلك أخلاقهم يغلب عليها الاستحالة والتنقل من شيء إلى شيء، والدعة والجبن ... ومن أجل توليد أرض مصر الجبن والشرور الدنيئة في النفس لم تسكنها الأسد، وإذا دخلت ذلت ولم تتناسل، وكلابها أقل جرأة من كلاب غيرها من البلدان، وكذلك سائر ما فيها أضعف من نظيره في البلدان الأخر، ما خلا ما كان منها في طبعه ملاءمة لهذه الحال كالحمار والأرنب».
قول قاس أيها المؤرخ! ولو صح ما قلت لكان حكما أبديا صارما؛ فإن لنا طاقة بتغيير كل شيء إلا الجو والإقليم فماذا نصنع فيهما؟ لو كان صحيحا قولك لاستوجب اليأس في الإصلاح، فما تفلح أمة ضرب عليها الذل والخضوع، بل لوجب الرحيل من بلد يسمم جوه دائما أخلاق أهله.
وقديما قال الشاعر: «وإذا نزلت بدار ذل فارحل»
أخشى أن تكون متأثرا بآراء شيخك ابن خلدون، وقد كان في طباعه حدة وعنف، وفي المصريين دعة، فنظر إليها بطبعه الحاد نظرة فيها إفراط وفيها مبالغة ولو كانت نظرتك صحيحة لما تعاقبت الذلة والعزة على الأمة الواحدة، فتعز بعد ذلة، أو تذل بعد عزة، والجو واحد والإقليم واحد. وإن في تاريخ مصر نفسها صفحات بيضاء تتجلى فيها العزة بأجلى مظاهرها. الحق - يا سيدي - أن الإقليم عامل، ولكن ليس كل عامل، فإذا كان الجو سما فالتربية والتعليم ترياق. ألا ترى إلى مثلك نفسه؟ فقد ذكرت أن الأدوية والمركبات والمعاجين يسرع إليها الفساد في مصر لسوء الجو - لو عشت إلى عصرنا لعلمت كيف تغلب العلم على الأقليم، وصار من المستطاع في يسر وسهولة أن يحفظ الدواء - بأبسط المعالجات - في مصر كما يحفظ في أوروبا، وأن التربية كذلك تفعل في النفس الأعاجيب، وكل ما نستطيع أن نستفيده منك أنك نبهتنا أنت وأمثالك من المؤرخين إلى أن في مصر جبنا وفي مصر ملقا، إلى هنا نقبله منك، لا لنستسلم له، ولا لنقر أنه طبيعي فينا، ولكن لنريك الأمثال على خطأ تعليلك ولننبهك إلى نظرية ثبتت حديثا، وهي: أن الأمم المبتدية الساذجة هي أكثر استسلاما للطبيعة وشئونها، والأمم المتحضرة تستطيع بعلمها وتربيتها وقوة عقلها أن تسخر الطبيعة لمصلحتها، لا أن تخضعها الطبيعة لأمرها. فنحن نستطيع أن نستفيد من وداعة الطبيعة فنكون وديعين إلى حد، فإذا أرادت أن تتجاوزه إلى نفاق وملق وجبن قالت التربية: «لا» بملء فيها، وحق للتربية إذا قالت: «لا» أن يكون «لا».
وعبت كلاب المصريين بالضعف، ويظهر أنك لم تر كلاب «أرمنت» وما هي عليه من بسطة في القوة والجسم، ولو قدر عليك أن ينبحك واحد ما سلمت بجلدك، ولغيرت حكمك.
لقد أحسست بأن تعميم نظريتك خطأ بين، فاستدركت وقلت: «ومن المصريين من خصه الله بالفضل وحسن الخلق وبرأه من الشرور» أليس هذا - يا سيدي - نقصا لقولك وتسليما لقولنا؟ فأنت تعلم أن «ما بالطبيعة لا يتخلف» ولو كان الذل ينفثه الإقليم وحده، لما رأيت شاذا من الشواذ. ألا ترى أن فعل الطبيعة في الأدوية - بإسراع الفساد إليها - مطرد، ومطرد دائما؟ فإذا اختلف الناس في الجبن والعزة والملق والصراحة، فهناك عامل آخر أقوى وهو عامل التربية نستطيع به أن نتغلب حتى على قوانين الطبيعة.
أرجو ألا يسمح الجيل الجديد والأجيال القادمة لمؤرخيهم أن يؤرخوهم كما أرخهم المقريزي والسيوطي.
هما
«هما» إنسانان متباينان، لا يجمعهما إلا أني عرفتهما.
أما «هو» الأول، فنظيف الثوب في غير أناقة، لا يعنيه من ثيابه إلا أنه لا يتأذى بقذارتها، ولا يتأذى من أنها زاهية تلفت الأنظار؛ قد طبع على ما يود. فلا هو جميل يقيد النظر، ويفترق البصر، ولا هو قبيح الشكل سمج المنظر، تتفاداه العيون، ويلفظه الطرف، لو عهد إليه أن يخلق نفسه ما اختار غير صورته وشكله؛ لأنه يأبى تكاليف الجمال وتكاليف القبح.
كثير التفكير في نفسه، كأن الله لم يخلق في العالم إلا هي، وإن كان قد خلق أشياء فنفسه مركزها، دائم المحاسبة لنفسه على ما صدر منها للناس، ودائم المحاسبة للناس على ما صدر منهم لنفسه؛ ففي نفسه محكمة منعقدة باستمرار، تطول فيها المرافعة، ويشتد فيها الخصام، وتكثر منها الأحكام، والنقض والابرام. حدثني أنه إذا جلس في مجلس استعرض بعد الفراغ منه كل ما دار فيه على الترتيب، كأن ذهنه «شريط ماركوني» ثم وقف عند كل كلمة صدرت منه بفحصها: هل مست شعور أحد، هل ظلمت أحدا، هل جرحت كرامة أحد، ألم يكن غيرها خيرا منها، أما كان يحسن أن يقال في مثل هذا الموقف غير هذا الكلام؟ ووقف عند كل كلمة قالها غيره يحللها: ماذا يريد منها؟ لقد جرح إحساسي بها، لقد كان يلتفت إلي عندها، وما سبب ذلك والعلاقة بيني وبينه على خير ما يكون صديق لصديقه؟ لا بد أن يكون قد تأثر من كذا وغضب من كذا؛ ولكن إن كان هذا فلا حق له لأنه لم يفهم قصدي ولم يتبين غرضي. فإذا أتم ذلك وأوى إلى فراشه بدأ يعيد الشريط من جديد، ويعلق على الحوادث تعليقات جديدة، ويفسرها تفسيرا جديدا، حتى يدركه النوم، وقل ألا يحلم بما حدث، وقل ألا تأتيه الرؤيا بتفسيرات جديدة وتعليقات جديدة.
من أجل هذا يفر من الناس، ويفر من المجتمعات، حتى لا تكثر الأشرطة فيكثر عرضها، والتعليق عليها؛ فقل أن أجاب دعوة مع كثرة ما وجه إليه من دعوات؛ لأنه مع هذا ليس ثقيل الظل ولا جامد النسيم؛ فإذا اضطر إلى دعوة ذهب إليها كارها، وحسب حساب كل كلمة يتكلمها، وكل حركة يتحركها قبل أن يقدم عليها، تفضيلا للحساب العاجل على الحساب الآجل؛ فقل أن يأخذ الناس عليه غلطة مع كثرة ما يتوهمه هو من غلطات.
أداه التفكير الكثير في نفسه إلى أن يكون عميق التفكير في كل ما يعرض عليه؛ فإذا عرض أمر قلبه على جميع وجوهه، وغاص في نواحيه، واستخرج منها أدق الأفكار وأصعبها وأعقدها. وشغف بالعلم فكان دائب الدرس كثير الاطلاع، تثقف بالثقافة الإنجليزية فهو يتكلمها ويقرؤها كأحد أبنائها، وسمع بعمق التفكير الألماني فعكف على اللغة الألمانية حتى حذقها، وحدثه الأدباء بالأدب الفرنسي وما فيه من دقة في تحليل العواطف وإجادة الوصف، فدرس اللغة الفرنسية حتى أجادها، وتضلع من آداب اللغات الثلاث، وعرف أشهر ما كتب فيها، فإذا حدثك في أي ناحية منها أبان لك عن علم واسع ومعرفة دقيقة، هذا إلى لغته العربية ومعرفته بها كأنه متخصص فيها؛ ثم هو بعد لا يرضى عن نفسه، فهو دائم الدرس، دائب العمل، كلما قطع شوطا طمح إلى ما هو أرقى منه، فكأنه ومطامحه كالفرس وظله يجري دائما ليسبقه، وهيهات أن يلحقه.
وهو مع كل علومه وكل لغاته وكل عمقه خامل مجهول، لا يعرف حقيقته إلا خلصاؤه؛ إن جلس مع غيرهم فعيي جهول لا يشاركهم في جدل، ولا يفضي إليهم بحديث، يعرف مواضع السخف من قولهم، ومواضع النقص في تفكيرهم، ويتظاهر بأنه لا يعي ما يقولون، ولا يرقى إلى ما يفكرون ويجادلون، يتغابى وهو الذكي، ويتعايى وهو الفصيح.
لا يعبأ بالمال إلا بمقدار ما يعيشه عيشة نظيفة في غير ما طرف ولا سرف.
ثم هو - غالبا - لا يحب رؤساءه ولا يحبه رؤساؤه؛ فهو لا يحبهم لأنه يتطلب فيهم كمالا لا تسمح به الدنيا إلا نادرا، ويقيس الكمال بمقياس محدود معين، مع أن للكمال مناحي مختلفة. وقد يتسامح في نقص يستره كمال، ويغتفر ضعف تسنده قوة، ولكنه في تقديره يجسم النقص، ويكبر الضعف ويريد في رئيسه الكمال صرفا، والقوة خالصة، فكأنه يريده نبيا أو إلها، وأنى له بذلك؟ فهو في نقد لرؤسائه مستمر، وتجريح دائم؛ وأما هم فيكرهونه لأنه حنبلي في تصرفه متزمت في خلقه، صريح لا يلطف صراحته بلباقة، شديد لا يمزج شدته برقة. التصرف عنده كالخط إما أن يكون مستقيما أو أعوج ولا وسط بينهما، لا يأتمر بأمر رئيسه ولا ينتهي بنهيه متى خالف قانونا؛ والقانون عنده هو القانون الحرفي الذي لا يحتمل تفسيرا ولا تأويلا. من أجل ذلك تعاقب عليه رؤساء مختلفون، وتنقل من مصلحة إلى مصلحة، والنتيجة واحدة دائما في نظرهم إليه ونظره إليهم؛ حتى لقد كان رئيسه يوما ما أقرب الناس إليه وأعرفهم به، ورجوت السعادة له أيام رياسته، فما لبثت أن رأيت الصداقة استحالت إلى فتور فكراهية، ثم كان أعدى له ممن لم يكن يعرفه. •••
أما «هو» الآخر فجميل الصورة، ظريف الهيئة، حسن الحلية، ممتلىء البدن، ريان الجسم، واسع البطن، أنيق الملبس إلى آخر حد الأناقة، دقيق الذوق في تناسب الألوان، وتناسق الأشكال، حتى يعد حجة فيما يلبس وما لا يلبس، وما يتناسب وما لا يتناسب؛ لأنه خبير بأحدث الأزياء، بل هو فيها مخترع فنان، يحدثك حديثا مستفيضا عن خير الخياطين ومزاياهم وعيوبهم ومواضع الإجادة والعيب فيهم.
وشيء آخر يجيد ذوقه، ويجيد التحدث فيه، ويجيد وصفه ويجيد نقده، وهو الطعام والشراب؛ فإن أردت أن تعرف لونا من الطعام لا يناسب لونا او أردت حديثا شهيا عن طعام شهي أو عن المائدة وكيف تنظم، وعن بيوت مصر وما يجيده كل بيت من الأصناف، فهو في ذلك الذي لا يبارى، وله فوق ذلك العلم الدقيق الواسع في صنوف الشراب، فأيها قبل الأكل، وأيها على الأكل وأيها بعد الأكل، وأي ألوان الشراب يصح أن تجتمع وأيها لا يصح، وأي أنواع الشراب تجيده فرنسا، وأيها تجيده ألمانيا وأيها أسبانيا - بل كل هذه معلومات أولية بالنسبة إليه، فعنده ما هو أدق في ذلك وأعمق.
هذه هي الدنيا وهذه هي الحياة، وهل أنت آخذ من دنياك إلا ما طمعت وما شربت وما لبست؟
وله كذلك حديث طريف عن النساء وأوصافهن؛ فهو يجيد الحديث عن سحر العيون، ورشاقة القد، ولطافة التكوين، وبراعة الشكل، وهيف القوام إلى آخر ما هنالك، ثم يتبع هذا بالكلام على مغامراته وما شاهده في حياته، كأنه كان له في كل خطوة حادثة نسائية، وفي كل سفر عشق، وفي كل مجتمع غرام. والعشق العفيف، والهوى العذري والحب الأفلاطوني ألفاظ جوفاء، لا تدل على شيء إلا على جنون قائلها أو ريائه. ينظر للمرأة نظر الأفعى للعصفور، وله من وسائل الإغراء ونصب الشباك، ورسم الخطط ما يعجز عنه القائد الماهر والصائد الحاذق؛ فما هو إلا أن يضع عينه على فريسته حتى يخلق من الحركات والأفاعيل والأحاديث ما يلفت النظر، وإذا هو في حديث جذاب مع من أحب.
وإلى هنا ينتهي علمه الواسع وقدرته الفائقة.
ثم ما الخلق وما الفضيلة وما الحق؟ ليست إلا كلمات اخترعها الأقوياء ليستغلوا بها الضعفاء. ولا بأس من استعمالها أحيانا متى جلبت خيرا أو دفعت ضيرا، ولم يخلق الله أسخف ممن يزعمون أنهم يتمسكون بمبدإ؛ فليس في الدنيا مبدأ صحيح إلا المبدأ القائل: «الغاية تبرر الوسيلة» على أن تفسر الغاية بغايتي لا غاية غيري؛ فكن «وفديا» في دولة الوفد، و«شعبيا» في دولة حزب الشعب، و«حرا دستوريا» في دولة الأحرار الدستوريين، والعن في كل دولة أعداءها، وتغن بمناقبها متى كان هذا ينيلك «درجة» أو على الأقل «علاوة»، واجعل مبدأك مشايعة الزمان، تقبل على من أقبل عليه، وتدبر عمن أدبر عنه؛ ولا تأخذ شيئا «جدا» فما الحياة إلا لهو ولعب، فإن استطعت أن تجعلها كلها «مزحة» أو «نكتة» فافعل فهكذا خلقها الله.
صادفته يوما في فندق، فلما نزل إلى البهو استرعى نظر الناس بشكله وأناقته ولباسه وأمره للخدم ونهيه، وتحدث بصوت عال قليلا، فإذا ضحك يتصاعد من هنا ومن هنا، وإذا الصوت يرتفع شيئا فشيئا والتفات الناس يزيد شيئا فشيئا، وإذا الحديث جذاب، وإذا هو محور من في المجلس وقيد أبصارهم وآذانهم.
وشأنه في «المصلحة» التي يعمل فيها شأنه قى الفندق، كعبة القصاد ونجمة الرواد، يقضي الحاجات لتقضى حاجاته، وينفذ أغراض من هو أكبر منه لينفذ أغراضه من هو أصغر منه، وهكذا اتخذ «وظيفته» تجارة، يحسب فيها في دقة ما يشتري وما يبيع، وما يدخل وما يخرج، ومقدار الرصيد، وبكم هو دائن وبكم هو مدين.
لعل الذي جعل من الإنسان ذكرا وأنثى، وجعل منه من يميل إلى الشعر والخيال، ومن يميل إلى الحقيقة والواقع، جعل الناس كذلك أحد هذين الرجلين، وكل ما في الأمر أنه قد يكون «هو» الأول صرفا و«هو» الثاني صرفا، وقد يكون خليطا منهما، مزيجا بينهما. هما رجل الآخرة ورجل الدنيا، ورجل الفلسفة ورجل المادة، ورجل الأخلاق والمبادىء، ورجل المصالح والمنافع.
الصدق في الأدب
شاع في الأدب العربي القول المأثور: «أعذب الشعر أكذبه» ويقول ابن رشيق القيرواني في العمدة: «من فضائل الشعر أن الكذب الذي اجتمع الناس على قبحه حسن فيه»، وهكذا تجد في كتب الأدب كثيرا من هذه الأقوال.
ويمكن تفسيرها بأحد أمرين أو هما معا: (1)
أن الشاعر في كثير من مواقفه يعتمد على المبالغة والغلو فيها كقول أبي نواس:
وأخفت أهل الشرك حتى إنه
لتخافك النطف التي لم تخلق
وقول أبي تمام:
فقد بث عبد الله خوف انتقامه
على الليل حتى ما تدب عقاربه
وقول الخبزأرزى:
ذبت من الشوق فلوزج بي
فى مقلة النائم لم ينتبه
وكان لي فيما مضى خاتم
فالآن لو شئت تمنطقت به
ونحو ذلك كثير.
والذي أرى أن المبالغة ليست كلها كذبا ولا كلها صدقا؛ فلو كان الممدوح شجاعا فجعل الشاعر له جرأة كجرأة الأسد لم يكن كاذبا، ولو كان العاشق هزيلا فبالغ الشاعر في وصفه حتى جعله لا يرى إلا من صوته لم يكن كاذبا. وقد عبر الله تعبيرات من هذا القبيل فقال في وصف الرعب والخوف: «وبلغت القلوب الحناجر»، فأما إن كان الممدوح بخيلا فجعله الشاعر سحابا فياضا، أو عاشقا سمينا فجعله كعود الخلال، أو جبانا رعديدا فجعله أسدا مقداما، فكل هذا كذب صريح يثير السخرية بالممدوح لا الإعجاب. (2)
والمعنى الثاني أن الشعراء يوصفون بالكذب ؛ لأنهم ينسبون إلى أنفسهم أعمالا جليلة لم يأتوا بها، ويزعمون مزاعم لا تستند إلى الحقيقة، ثم يهجون فيصفون المهجو بكل رذيلة، ويمزقون الأعراض، ويقدحون في الأنساب، ويتعرضون للحرم، وهؤلاء اللذين عانهم القرآن بقوله: «والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون، وأنهم يقولون ما لا يفعلون؟»
ولكن ليس هذا ولا ذاك من الشعر الراقي في شيء، فلا الغلو في المبالغة ولا نسبة شيء إلى غير فاعله مما يزين الشعر، وإنما نشأ قولهم: «إن أعذب الشعر أكذبه» من تصور ناقص لمعنى الشعر. لقد كان الشعر عندهم يجول أكثر ما يجول في المدح والهجاء، ورأوا أن هذا المدح وهذا الهجاء لا يجودان بذكر الحقيقة المجردة؛ إنما يجود المدح إذا جعل الشاعر من الحبة قبة، ويجود الهجاء إذا قال الشاعر فأفحش، وسب فأقذع، ولكن عفى الزمان على هذه النظرية، وأصبح هذا النوع من أحط أنواع الشعر، وأقلها استحقاقا لاسمه. فالشعر كما يقول (وردسورث): «هو الحق ينقله الشعور حيا إلى القلب»، وكما يقول (رسكن): «الشعر إبراز العواطف النبيلة عن طريق الخيال».
وليس هذا مقصورا على الشعر، فكل الأدب من هذا القبيل، وتعريفا وردسورث ورسكن هما تعريفان للأدب جميعه لا للشعر وحده.
فالذي أرى أن رسالة الأديب هي من جنس رسالة الفيلسوف، كلاهما يرمي أو يجب أن يرمي إلى إبراز الحقيقة ونقلها إلى السامع أو القارىء. وغاية ما بين الفيلسوف والأديب من فرق أن الفيلسوف ينقلها إلى عقل السامع أو القارىء، والأديب ينقلها إلى قلبه. ومن أجل هذا يستعين الفيلسوف بالمنطق وما يتبعه من مقدمات محكمة ونتائج مستلزمة، فهي بالعقل أليق. والأديب يؤدي الحقيقة من طريق الخيال الجميل والأسلوب الجميل؛ لأنهما بالقلب أليق.
والصدق بمعناه الواسع وبكل ما تحتمله الكلمة من معنى مجال للأدب وشرط من شروط قوته؛ فلو عبر امرؤ القيس عن شعورة نحو المرأة أو عبر أبو نواس عن شعوره نحو الخمر، فهو أدب صادق قوي، وإن كانت الأخلاق الاجتماعية لا ترضى عن النحو الذي سلكاه في التعبير، ولكنه من الناحية الأدبية أدب صادق قوي. وإن شعر شاعر في الورع والزهد ولكنه في نفسه ينطوي على دعارة وفجور، لم يكن شعره صادقا ولا قويا وإن رضيت عنه الأخلاق الاجتماعية. نعم إن الأدب الذي ينبعث عن عاطفة إنسانية نبيلة أرقى وأسمى؛ ولكن ما دمنا نتكلم في دائرة الصدق، فكل ما يصف عواطف الإنسان أدب صادق.
والصدق يمنح الأدب قوة؛ لأن الأديب إذا عبر عما تكنه نفسه ويختلج به قوله أقوى تأثيرا، وأشد حياة. والأديب الحق هو من تأثرت نفسه بالحياة ومظاهرها تأثرا خاصا يتفق ونفسيته ومزاجه، ثم هو يحاول بأدبه أن ينقل هذا التأثر إلى الناس، ويجعلهم يشعرون بما يشعر وينفعلون بما ينفعل؛ فإن هو لم يتأثر وحاول أن يؤثر كان أديبا زائفا، وكان الفرق بينه وبين الأديب الحق كالفرق بين النائحة الثكلى والنائحة المستأجرة.
وهذا الصدق في التعبير هو الذي يسبغ على الأدب مسحة الخلود؛ فالشعر الذي قيل في المديح والهجاء أقل قيمة وخلودا مما قاله الشعراء في وصف عواطفهم؛ فرثاء ابن الرومي لولديه أبقى من هجائه لخالد بن قحطبة، واعتداد المتنبي بنفسه في شعره أقوى من مدحه لغيره.
بل ما لنا نذهب بعيدا ونحن نرى من الكتاب المحدثين من توزع أدبهم بين أدب سياسي وأدب قومي أو عالمي؟ فأما كتابتهم السياسية فقيمتها وقتية لا تقدر كثيرا إلا في ظرفها وبيئتها وزمنها، وأما أدبهم القومي أو العالمي فكثير منه يستحق الخلود والبقاء، صالح لأن يقرأ ويردد على اختلاف الزمان والمكان. •••
كتب كاتب أمريكي فقال: «يسألني كثير من الشبان أن أضع لهم مبادىء تساعدهم في الكتابة، فلهم أقرر هذا المبدأ وهو: «اكتب في الموضوع الذي تجيد معرفته والشعور به. ثم اكتب ولا تنظر أي النظر لما تحدثه كتابتك من نتيجه وأثر، وكل ما يجب أن تعني به أن تعتقد أن ما تكتبه حق، ولتكن نتيجته ما تكون، وليكن مرشدك في كتابتك الحياة، ولا تخش من نقد يوجه إليك إلا من ناحية أنه حق أو ليس بحق».
وهذا القول صحيح كل الصحة من حيث نصحه للكاتب ألا يكتب إلا ما يعتقده الحق، ولكنه غير صحيح من حيث ألا ينظر إلى ما يترتب على عمله من نتائج. فإن أراد أن الكاتب لا يهتم بنقد ناقد له من جهة الأسلوب ومن جهة العيب عليه والازدراء به ونحو ذلك، فهذا صحيح إلى حد كبير؛ فمتى أرضى الكاتب ضميره وعنى بالموضوع بحثا ودرسا وإخراجا فلا ضير عليه من نقد الناقدين، وعليه ألا يخشى بأسهم، وأن ينتفع بما يوجه إليه من نقد صحيح. أما إن أراد هذا الناصح أن الكاتب يجب ألا يهتم إلا بقول الحق من غير نظر إلى الموضوع الذي يكتبه وما يترتب على كتابته فيه من نتائج فغير صحيح، إذ ليس كل الحق يقال، وليس يقال الحق للناس جميعا في أدوار حياتهم المختلفة؛ فالكاتب الحق أو الفنان الحق يجب أن يسأل نفسه عن مقدار العواطف التي تثيرها كتابته أو فنه؛ فهناك قوم مرضى بأعصابهم، ومرضى بشهواتهم، ومرضى بحياتهم العقلية والاجتماعية، ومن الخطر أن يغذي هؤلاء بأنواع من الأدب تزيد في هياج أعصابهم وشهواتهم، وإن كان ما يقال حقا وصدقا. فنحن إذا طالبنا الأديب ألا يقول إلا الصدق فنحن نطالبه أيضا - لا من الناحية الأدبية بل من الناحية الاجتماعية - ألا يقول إلا الصدق الذي يتفق والصالح العام.
وربما خفي هذا الرأي على بعض الكتاب، فتعرضوا لشرح مخاز اجتماعية في رواياتهم أو مقالاتهم، واحتموا بأنهم يقولون صدقا، ويصغون واقعا، أو كما يفعل بعض كتاب السياسة، لا يتحرجون من أن يقولوا كل ما يعلمون عن خصومهم، واكتفى شرفاؤهم بالوقوف عند الصدق، واعتقدوا أنهم ما لم يختلقوا فقد أرضوا ضمائرهم وبروا بأنفسهم.
وهذا وذاك خطأ بين، فكم من الحقائق لا يصح ذكرها ولا عرضها عرضا أدبيا، وإذا قيلت أو عرضت فلا تقال لكل إنسان وفي كل زمان، وخير الكتاب من لم يعرض من مظاهر الحياة إلا لما يصح عرضه، واتجه في حياته الأدبية إلى أن يصور المثل الأعلى للحياة في صورة واقعية، وسخر قلمه ولسانه وعواطفه لخدمة القومية والإنسانية .
لحظات التجلي
لكثير من الناس - وخاصة العقليين والروحانيين - لحظات تضيء فيها نفوسهم، حتى كأنها المرأة الصافية، أو الشعلة الملتهبة، كل جانب فيها مضيء، وكل العالم منعكس عليها، يراه فيها كما يرى السماء في الماء.
يحس بهذا الأديب، فتراه حينا وقد غزرت معانيه، وتدفقت عليه من كل جانب، حتى ليحار في الاختيار، ماذا يأخذ وماذا يذر، وبم يفضل بعضها على بعض، وحتى كأنه يغترف من بحر، أو يملي عن حفظ، ويصدر عنه إذ ذاك القول السلس والمعاني الغزيرة، والشعر المتدفق؛ هذه اللحظات هي «لحظات التجلي». وتأتي عليه أوقات وقد جمدت قريحته، وأجدب فكره، يعاني في البحث ما يعاني، ثم لا يأتي إلا بحمأة وقليل ماء، ويصعب عليه القول كأنه يمتح من بئر، أو يستنبط من صخر.
ويحس بهذا الفيلسوف، فيشعر بلحظات تنكشف فيها جوانب من حقيقة هذا العالم فيراها، ويستلذها، ويود أن تدوم، بل يود أن تعاوده الفينة بعد الفينة، ويتمنى أن يشتري عودتها بكل ما ملك، وينفق في ساعة منها كل متع الحياة الدنيا؛ يشعر في هذه اللحظات بذكاء في الفهم، وصفاء في النفس، ولطافة في الحس؛ تكفيه في فهم هذا العالم الإشارة، وتجزئه الإيماءة، يستشف العالم من وراء مظهره، ويلمحه من رموزه، ويشعر إذ ذاك بسمو في العقل، ورقي في الروح، لا يعدل لذتها شيء في الحياة.
ثم تذهب عنه لحظات التجلي على الرغم عنه، فإذا به في بعض أوقاته مظلم الحس، متخلف الذهن، بليد البصيرة، لا يتنبه للحن، ولا يفطن لمغزى، تستعجم عليه المدارك الظاهرة، وتخفى عليه الأشباح الماثلة.
وتختلف لحظات التجلي عند الفلاسفة والصوفية كثرة وقلة، كما يختلف مدى التجلي بعدا وقربا، حتى ليحكى عن «أفلوطين» الفيلسوف الروحاني المشهور أنه حظى بهذه اللحظات بضع مرات في حياته، وحظي بها تلميذه «فورفوريوس» مرة واحدة.
وتعرض للفنان فيلهم معنى يصوره بريشته أو يوقع به على قيثارته، فثم الإبداع والجمال الرائع، والحسن البارع، ذاك يملأ العين حسنا بصورته، وهذا يملأ السمع والقلب عذوبة بنغمته، ثم تأتي على هذا وذاك أوقات ينضب فيها معينهما، ويفتر عنهما وحيهما.
وترى العلماء من رياضي وطبيعي وكيمياوي، يرزق أحدهم الحظوة بلمحة من هذه اللحظات، يلهم فيها فكرة يكون من ورائها مخترع عجيب، أو استكشاف خطير، عرض له أثناء بحثه، وقد لا تكون هناك علاقة ما بين ما يبحث فيه وبين ما ألهم، بل قد لا تكون هناك مقدمات مطلقا لما ألهم؛ ويقف العلم حائرا لا يستطيع أن يعلل كيف نشأت في ذهن هذا العالم تلك الفكرة، وكيف فطن لها، بل يحار المستكشف نفسه كيف عرضت له وكيف ألهم بها.
وبعد: فهل يمكن أن نضع قوانين لهذه اللحظات؟ وهل هناك عوامل معروفة إذا استوفيت أمكننا اقتناؤها والحظوة بها؟ وهل يمكن أن نجمع هذه الشروط في زر كهربائي أو زر روحاني نفتحه فتفتح علينا لحظات التجلي إن شئنا؟
لو استطعنا هذا لتضاعف الإنتاج الأدبي والعلمي في هذا العالم أضعافا مضاعفة، ولسهل على الأديب أن يستوفي الشروط، فما هو إلا أن يمسك بقلمه فيغزر ماؤه، ويسيل أتيه، وتنثال عليه الألفاظ والمعاني انثيالا.
لقد حاولوا من قديم أن يستكشفوا قوانين «التجلي» فقالوا: إن مما يعين عليه جودة الغذاء، وفراغ البال من هموم الحياة، وصحة البدن، وطمأنينة النفس، واستعانوا على نيل لحظات التجلي بمختلف الألوان، فقد قيل لكثير عزة: يا أبا صخر، كيف تصنع إذا عسر عليك قول الشعر؟ قال: أطوف في الرباع المخلية، والرياض المعشبة، فيسهل علي أرصنه، ويسرع إلي أحسنه. وقال الأحوص:
وأشرفت في نشز من الأرض يافع
وقد تشعف الأيفاع من كان مقصدا
1
ولجأ الأدباء من قديم إلى الأزهار والرياض، والمياة الجارية والمناظر الجميلة، كما لجأ بعضهم إلى الخمر يستلهمها ويستوحيها؛ وتكاد تكون لكل أديب عادة يرى أنها علة غزارته، ومفتاح إنتاجه، وأنه يستنزل بها العصم من الأفكار، ويستسمح بها الأبي من المعاني؛ ولكن هل نجحت كل هذه المحاولات في استكشاف قوانين التجلي؟ أظن أن نظرة بسيطة تكفي للقول بأنها لم تنجح؛ فقد تستوفي كل الشروط التي قالوها، فالصحة في أجود حالاتها، والغذاء خير غذاء، والكاتب أو الشاعر مطمئن النفس، هادىء البال، بين الرياض المزهرة والمياه الجارية والوجوه الناضرة، وهو مع هذا أجدب ما يكون قريحة، وأنضب ما يكون معينا؛ ثم هو يكون على العكس من ذلك كله فيواتيه شيطانه، وتتزاحم في صدره المعاني، وتتبارى على قلمه الآراء والأفكار والألفاظ.
ثم هذا أديب أو شاعر يجود قوله وتتجلى نفسه، في الأماكن الخالية والسكون العميق، وذاك لا يتأتى له هذا الموقف إلا في الأوساط الصاخبة والحركة المائجة. وأديب لا ينتج إلا إذا امتلأ جيبه واطمانت نفسه لحاجات الحياة، على حين أن الآخر لا يجيد إلا إذا فرغ وطابه، وعضه الفقر بنابه، وتكاثرت عليه الهموم.
فأين قوانين التجلي إذا كان يحدث في البيئة وضدها والظروف وعكسها؟ قد تكون كل المظاهر وكل ما يحيط بالنفس يؤذن بحال انقباض وجمود، وإذا النفس مع ذلك فياضة جياشة متجلية، وقد تكون المظاهر كلها تدل على نفس متفتحة للعمل، مليئة بالفكر، فإذا هي مجدية منقبضة. وترى الآراء القيمة والمعاني السامية قد تنبع من بيئة قاتمة، ونفس مظلمة، كما تخرج الزهرة من طين، أو كما يخرج الذهب من الرغام، والحرير من الدود.
أخشى أن يكون الذين قد وضعوا هذه القوانين وأمثالها للحظات التجلي قد تسرعوا في وضعها؛ فالإنسان معقد كل التعقيد، ولئن كان جسمه معقدا مرة فنفسه وروحانيته وعقله معقدة ألف مرة بل آلافا؛ وإن العوامل التي تؤثر في نفسه وروحانيته ليست الحالة البدنية، ولا الغذاء الصالح، ولا المناظر الجميلة، ولا الغنى والفقر وحدها، بل هناك عوامل أدق وأعمق وأغمض. إن الإنسان لا يعيش في بدنه وحده، ولا في محيطه فقط، بل إنه ليعيش في أصدقائه الأقربين والأبعدين، وإنه ليعيش في آبائه الذين كانوا وماتوا، وإنه ليعيش في ذريته الذين كانوا وسيكونون، وإنه ليعيش في أحلامه وآلامه وآماله، ويعيش في شبكات من تموجات نفسية دونها بمراحل شبكات التلغرافات والتليفونات، وتتسلط عليه أنواع من الأشعة لا عداد لها.
لعلنا لا نستطيع أن نستكشف قوانين التجلي إلا إذا عرفنا نوع النفس التي تتلقى هذه الأشعة، وعلمنا كل هذه المؤثرات، وهيهات!!
أدب اللفظ وأدب المعنى
من قديم اختلف علماء البلاغة: أهي في اللفظ أم في المعنى؟ وقد عقد عبد القادر الجرجاني فصلا ممتعا في آخر كتابه «دلائل الإعجاز» ذكر فيه حجج الفريقين: فقد كان فريق يرى أن المعاني مطروحة أمام الناس، والبليغ من استطاع أن يصوغها صوغا جميلا، وإنما يفاضل الأدباء بجودة السبك وحسن الصياغة. ويرى الفريق الآخر أن المعاني هي مقياس التفاضل، وأن الأديب يفضل الأديب بغزارة معانيه، وحدة أفكاره، وأظن أن الزمان فصل في هذه القضية، إذ أصبح واضحا أن حسن الصياغة، وجودة المعاني، عنصران أساسيان لا بد منهما للأديب، وأن من تجرد من أحدهما لا يسمى أديبا بحال، وأن المثل الأعلى للأديب معان غزيرة سامية، وصياغة جيدة محكمة.
غير أن هناك - ولا شك - مواضع تراعى فيها المعاني أكثر مما يراعى اللفظ وصياغته، كفصول النقد الأدبي، والمقالات العلمية الأدبية، والمقالات التاريخية الأدبية، وتراجم الأشخاص ونحوها؛ فالغاية من هذه الموضوعات ليست اللذة الفنية، وإنما الغرض الأول هو المعاني والحقائق، فيجب أن تكون غزيرة فياضة، وكل ما نتطلبه فيها من اللفظ أن يعبر عن هذه في دقة ووضوح؛ أما القصد إلى محسنات البديع ومجملات الصناعة فلا داعي له، وربما كان إفراط الكاتب في هذه المحسنات حجبا للمعاني عن الأنظار، ومظلة للعقول عن الوصول إلى حقيقة المعاني، وهي أقوم ما في الموضوعات.
وهناك ضرب آخر من الأدب كالشعر والقصص فيه مراعاة اللفظ وحسن السبك في المنزلة الأولى، ولست أعني أن الحقائق والمعاني فيهما مجردة من القيمة، بل هي كذلك من مقدماتها. والشاعر الذي يجيد السبك ولا يجيد المعنى ليس من شعراء الطبقة الأولى. وخير الشعراء من صح حكمه، واتسعت تجارته في الحياة، وكان له علم عميق بكثير من الأشياء التي حوله، ثم صاغ ذلك كله صياغة جميلة. وهكذا الأدب الصرف كالشعر والقصص والقطع الفنية الأدبية. ليس الغرض الأول منه نقل المعاني كما في الصنف الأول، وإنما الغرض منه إثارة عواطف القارىء والسامع.
والألفاظ - كما يظهر لي - لم توضع لنقل العواطف، وإنما وضعت لنقل المعاني، والألفاظ أعجز ما تكون عن نقل عاطفة الأديب إلى القارىء؛ فكيف أنقل إعجابي بالطبيعة أو أنقل حبا ملأ جوانحي، أو غضبا استفزني، أو رحمة ملكت مشاعري؟ لم توضع الألفاظ لشيء من ذلك، إنما وضعت لنقل مقدمات ونتائج منطقية؛ ولكن ما حيلتنا وقد خلقنا عاجزين، لم نمنح لغة العواطف، ولا بد لنا من التعبير عنها ونقلها إلى قارئنا وسامعنا؟ لذلك استخدمنا لغة العقل مرغمين، وأردنا أن نكمل هذا العجز بضروب من الفن، كموسيقى الشعر من وزن وقافية، وكالسجع وكل ضروب البديع، وليس القصد منها إلا أن تكمل نقص الألفاظ في أداء العواطف.
في هذا النوع من الأدب ليس من الضروري أن تكون معانيه جديدة، وربما يستطيع الأديب أن يجعل من المعنى المطروق قصيدة رائعة أو قصة ممتعة، وكل ما فيها من جديد صياغتها الجديدة، وخيالها المبتكر؛ وليست وظيفة الأديب فيها أن يعلم الحقائق، إنما وظيفته أن يثير مشاعر الناس بها، ويعبر عما لا يحسنون التعبير عنه، وإن كانت المعاني في نفوسهم، وبين سمعهم وبصرهم.
كل إنسان يشعر بجمال الوردة، ولكن الأديب يملأ مشاعرك بجمالها، ويوحي إليك بمعان ترتبط بها، مثل اقتران تفتحها بتفتح الشباب، ونشوة الأمل أو ما تبعث من شجن. وجودة الأسلوب وحسن النظم قد يرقيان بالمعاني المألوفة فيخرجانها في شكل جذاب؛ ولكن لا يمكن الأديب على كل حال أن يتبوأ مكانا عاليا إذا اعتمد على الأسلوب وحده وكان مصابا بالفقر العقلي.
في أدب كل أمة نرى أدب اللفظ وأدب المعنى، وفي الأدب العربي أمثلة واضحة لذلك؛ فمقامات الحريرى والبديع أدب لفظ لا معنى، قل أن تعثر فيهما على معنى جديد، أو خيال رائع، وهما من الناحية القصصية في أدنى درجات الفن، ولكنهما تؤديان غرضا جليلا من الناحية اللفظية، ففيهما ثروة من الألفاظ والتعبيرات لا تقدر، ويظهر أن مؤلفيهما قصدا إلى تعليم اللغة وإمداد المتعلم بثروة كبيرة من الألفاظ والأمثال والتعبير، وتحايلا على ذلك بهذا الوضع الجذاب؛ فإن كان قد قصدا إلى ذلك فقد نجحا نجاحا تاما، وإن كان قصدهما غير ذلك فلا . وشعراء القرون المظلمة بعد سقوط بغداد وكتابها أدباء ألفاظ: رواء في العين، ولا شيء في اليدين، بل إن أدب كثير منهم لا هو أدب لفظ ولا هو أدب معنى، يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا. والمعري في لزومياته أديب معنى لا أديب لفظ، غزرت معانيه وقصرت ألفاظه، حاول أن يدخل المحسنات البديعية في شدة ففشل، قد التزم ما لا يلزم فأضاع ما يلزم. والمتنبي - على الجملة - أديب لفظ ومعنى، وقد وقع من معاني الحياة على ما لم يقع عليه من قبله، ثم صاغه صياغة قوية حببته إلى النفس.
وبعد، فيظهر لي أن الزمن سائر إلى تقويم المعاني أكثر من تقويم الألفاظ. وشأن الناس في تقويم الأدب شأنهم في تقويم الجمال في سائر الفنون؛ فمن لم يصلوا إلى درجة راقية من المدنية يعجبهم من الألوان اللون الزاهي كالأحمر القاني والأصفر الفاقع، ويعجبهم من الأجسام السمين القوي في ملامحه، ومن الأصوات الطبل والمزمار؛ فإذا بلغوا مبلغا كبيرا في الحضارة أعجبتهم الألوان المتناسقة والألوان الخفيفة، كما تعجبهم وحدة الفكرة التي تنسق الألوان المختلفة والمظاهر المتعددة، وأعجبهم من جمال الإنسان الرشاقة وخفة الروح، وأعجبوا بجمال الحركة، وقوموا جمال المعاني أكثر مما يقومون جمال الملامح، ونظروا إلى جمال الروح أكثر مما ينظرون إلى جمال الجسم، حتى في جمال الجسم يقومون وحدة التناسق والنسبة بين الأعضاء أكثر مما يقومون جمال الوجه وحده، وفي الموسيقى تعجبهم النغمات الهادئة، والنغمات المتناسقة، والنغمات التي تمثل المعاني. كذلك شأنهم في الأدب يكرهون السجع الدائم، والكتابة التي اختفت معانيها أو ضاعت وراء الزينة المفرطة والزخرف الكثير، والقافية الطويلة على وتيرة واحدة، وتعجبهم البساطة في القول والزينة بقدر، والألفاظ كوسيلة لا غاية؛ يكرهون النكت كلها لعب بالألفاظ، والنكت تلذع لذعا صريحا، وتعجبهم النكتة أسست على معنى، والنكتة تلذع في إيماء ورقة.
إن الأديب إذا رزق حظوة في السبك، وأصيب بفقر في المعنى كانت شهرته وقتية وقيمته محدودة الزمن، ولا يلبث الناس أن يدركوا ضعفه وفقره فينبذوه والأديب الخالد من زاد في معارفنا ومشاعرنا بما في قوله من معنى وقوة.
أديب اللفظ فارغ الرأس قليل العلم بما حوله، قريب الغور، قد ستر كل هذا بزخرف القول كما تستر الشوهاء عيبها بالأصباغ، رخصت بضاعته فبالغ في التجمل في عرضها، ولفت الأنظار إليها، وشعر أنها مزيفة فغضب لنقدها والتلويح بامتحانها. والأمة في طفولتها وشيخوختها يعجبها هذا النوع من الأدب؛ لأن خفة رأسها من خفة رأس أدبائها؛ ولأن العقول السخيفة يعجبها السحر والشعوذة وألعاب البهلوان، والأدب اللفظي المحض نوع من هذا اللعب. فإذا نضج عقلها تغير ميزاتها ونفذ نظرها إلى أعماق الشيء، لتعرف ما وراء الظواهر. وإذ ذاك تقدر المعاني أكثر مما تقدر الألفاظ، وترى الألفاظ جسما والمعنى روحه، وترى المعنى غاية واللفظ وسيلة، وتستحسن اللفظ لا لذاته؛ ولكن لأنه لفق المعنى.
تزين معانيه ألفاظه
وألفاظه زائنات المعنى
ما أحوج أدبنا العربي الحديث إلى المعنى القوي الغزير في اللفظ الجميل البسيط.
ندرة البطولة
قالوا: - إنا نلتفت يمنة ويسرة فلا نجد في عصرنا بطولة من جنس بطولة العصور الماضية، ولا نجد نبوغا رائعا قويا كنبوغ من نبغ في الأجيال السابقة. فتش - إذا شئت - في كل لون من ألوان البطولة، وفي كل ناحية من نواحي النبوغ تجد هذه الحقيقة واضحة.
فهل تجد في الشعر العربي أمثال بشار، وأبي نواس، وابن الرومي، وابن المعتز، وأبي علاء؟
وهل تجد في النثر أمثال ابن المقفع، والجاحظ، وسهل بن هارون، وعمرو بن مسعدة؟
وهل تجد في قيادة الحروب أمثال خالد بن الوليد، وأبي عبيدة؟
وهل تجد في سياسة الأمم أمثال عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز؟
وهل تجد في الغناء أمثال إسحاق الموصلي، وإبراهيم بن المهدي؟
وهل تجد مؤلفا في الأغاني كأبي الفرج الأصفهاني؟
وما لنا نذهب بعيدا ويوم فقدنا السيد جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده لم نجد عوضا عنهما في العلم بالدين والأخلاق والسياسة؟
ويوم فقدنا البارودي، وحافظا، وشوقى، لم نجد لهم خلفا في شعرائنا؟
ويوم فقدنا عبده الحامولي، ومحمد عثمان صرنا نتبلغ من الغناء بالقليل .
ويوم فقدنا الشيخ علي يوسف لم نر من يسد مسده في الصحافة.
ومن الغريب أنهم يشكون في أوروبا شكايتنا، ويلاحظون عندهم ملاحظتنا، فيقولون: أن ليس عندهم في حاضرهم أمثال فجنر وبيتهوفن، ولا أمثال شكسبير وجوته، ولا أمثال رفائيل، ولا أمثال دارون وسبنسر، ولا أمثال نابليون وبسمارك.
فهل هذه ظاهرة صحيحة؟ وإن كانت فما سببها؟
قد كانت كل الظواهر تدل على أن الجيل الحاضر أحسن استعدادا، وأشد ملاءمة لكثرة النبوغ وازدياد البطولة، فقد كثر العلم وسهل التعلم، ومهدت كل الوسائل للتربية والتثقيف، وكثر عدد المتعلمين في كل أمة، وفتح المجال أمام النساء كما فتح أمام الرجال، فأصبحت وسائل النبوغ ممهدة للجنسين على السواء، وتقطر العلم إلى العامة، فأصبحوا يشاطرون العلماء بعض معلوماتهم، وانتشرت الصحف والمجلات تغذي جمهور الناس بالعلم والأدب، واتصل العالم بعضه ببعض اتصالا وثيقا في المواصلات والعلم والسياسة والأقتصاد وما إلى ذلك.
كل هذا كان يجب أن يكون إرهاصا لكثرة النبوغ والتفنن في البطولة، لا لقلة النبوغ وندرة البطولة. فلم أصيبت الأمم كلها بهذا العقم، وكان مقتضى الظاهر أن كثرة المواليد تزيد في كثرة النابغين، وكان مقتضى الظاهر أيضا أن عصر النور يلد من الأشخاص الممتازين أكثر مما يلد عصر الظلام؟ •••
يظهر لي - مع الأسف - أن الظاهرة صحيحة، وأن الجيل الحاضر في الأمم المختلفة لا يلد كثيرا من النوابغ، ولا كثيرا من الأبطال، وأن طابع هذه العصور هو «طابع المألوف والمعتاد»، لا «طابع النابغة والبطل».
بقي علينا معرفة السبب في ذلك:
من الأسباب القوية - على ما يظهر - أن الناس سما مثلهم الأعلى في النابغة والبطل، فلا يسمون بطلا أو نابغة إلا من حاز صفات كثيرة ممتازة قل أن تتحقق، وهذا طبيعي، فكلما رقي الناس ارتقى مثلهم الأعلى.
قد كنا إلى عهد قريب نعد من يقرأ ويكتب، وبعبارة أخرى «من يفك الخط» رجلا ممتازا؛ لأنه نادر وقليل، فكان ينظر إليه نظرة تجلة واحترام؛ فلما كثر التعليم بعض الشيء كان من أخذ الشهادة الابتدائية شابا ممتازا؛ فلما كثرت انتقل الامتياز إلى البكالوريا، ثم إلى الشهادة العليا، ثم إلى شهادات جامعات أوروبا، ثم أصبحت هذه أيضا ليست محل امتياز، وارتفعت درجة النبوغ إلى شيء وراء هذا كله.
والناس - على الجملة - استنارت أذهانهم إلى حد بعيد، واكتشفوا سر العظمة، فأصبحت العظمة المعتادة لا تروعهم، إنما يروعهم الخارق للعادة، وأين هو تحت هذه الأنوار الكشافة؟
ثم شعر الناس بعظمتهم هم أيضا وبشخصيتهم؛ والبطولة تأتي - في الغالب - عندما يسلس الناس زمام نفوسهم للبطل، فهم بطاعتهم له واستسلامهم لأمره وإشارته يزيدون في عظمته، ويغذون بطولته - فإن كانوا هم أيضا يشعرون بعظمة أنفسهم قلت طاعتهم وقل تبجيلهم وخضوعهم لكائن من كان، وبذلك لا يفسحون للبطل بطولته فلا يكون. فلو وجد اليوم شخص في أخلاق نابليون وصفاته ومميزاته ما حققوه في عصرنا، ولا كان إلا رجلا عاديا أو ممتازا بعض الامتياز؛ فأما أن تطيعه الخلائق هذه الطاعة العمياء، وتبيع نفوسها رخيصة في سبيل مجده، وتسفك دماءها أنهارا لتحقق عظمته، فذلك ما لا يكون اليوم كما كان بالأمس.
قد تضرب لي اليوم مثلا بموسوليني ومصطفى كمال وهتلر، ولكن الفرق عظيم جدا، فهؤلاء يؤثرون في شعوبهم من ناحية أنهم خدام للشعب لا سادة لهم؛ وأن الشعب إذا عظمهم فلأنهم يخدمونه، ويوم يثبت له أنهم لا يعملون لخيره ينفض يده عنهم؛ فأين هذا من الطاعة العمياء التي كانت لنابليون؟
ولهذا نرى كلا من هؤلاء يتملق شعبه ويحاول أن يقيم البرهان كل يوم على أنه عامل لخيره، ساع في سعادته، لشعوره التام بأنه إنما يحكم الشعب بإرادة الشعب لا بإرادته هو، فإذا هو لم يتمتع بهذه الثقة سقط من عرشه، وهذا - من غير شك - يقلل شأن البطولة. •••
وهذه الأسباب التي ذكرت أنها كانت تؤذن بكثرة النوابغ هي بعينها التي قللت النوابغ؛ وتعليل ذلك معقول، فكثرة العلم واستنارة الشعب، جعلت النبوغ عسيرا لا سهلا يسيرا.
ومصداق ذلك أن الأمم فيما مضى كانت تمنح المشعوذين والمنحرفين ألقاب البطولة، وتنظر إليهم نظر تفوق ونبوغ، من أمثال من كانوا يسمونهم «الأولياء» فيكفي أن يتظاهروا بالجذب ويتصنعوا الصلاح ويدعوا معرفة الغيب ليهرع إليهم الناس ويقبلوا أيديهم ويلتمسوا منهم البركة ويرفعوهم فوق النوابغ والأبطال، وأحيانا يلقبونهم «بالأقطاب». فلما فتح الناس عيونهم وعقلوا بعد غفلتهم، واكتشفوا حيلهم ومكرهم لم تعد لهم هذه المكانة، وحل بعض محلهم المصلحون الاجتماعيون الذين يخدمون أمتهم بعملهم. ومعنى ذلك أن الشعوذة والمخرقة حل محلها مقياس المنفعة، وسار الناس في طريق التقدير الصحيح، وهو الاحترام والتبجيل على قد ما يصدر من الشخص من خير عام حقيقي. •••
ومن أجل هذا أيضا رأينا التيار في هذه الأيام يتجه إلى تقليل شأن البطولة في الأعصر الماضية؛ فلم يعد البطل القديم في الأدب والسياسة والفن والعلم يقدر التقدير الكبير الذي كان يقدر به من قبل؛ لأن الناس أخذوا يحللون كل بطل، ويبينون سر بطولته «ومتى ظهر السبب بطل العجب»، ولم يقنعهم ما كان يحيط به من غموض فألقوا أضواء كثيرة على من كانوا يسمون الأبطال؛ فأحيانا يؤديهم البحث إلى إنكار بطولة بعض الأشخاص بتاتا، وأحيانا يقللون من قيمة البطل، بل وأحيانا يرون بطلا من أنكر الناس قديما بطولته.
ذلك لأن مقاييس البطولة تغيرت، وأصبحت عند المحدثين خيرا منها عند الأقدمين؛ ولأن المحدثين رأوا أن القدم نسج لكثير من الناس أثوابا من البطولة لم تكن موجودة أيام حياتهم، وكلما تقدم الزمن منحهم الناس شارة بطولة جديدة، فلما عرض هذا كله للنقد وأزاح أهل العلم الحديث ستائر القدم، تبين البطل في صورته الحقيقية أو قريبا من صورته الحقيقية؛ فأحيانا يرتفع الستار عن لا بطل، وأحيانا يرتفع عن بطل ولكن دون ما كان يقدره القدماء، ونادرا ما يبقى البطل بطلا كبيرا حتى بعد ما ترتفع حجب القدم.
ولهذا نجد كثيرا من المعاصرين هم في الحقيقة نوابغ، وهم يفوقون بمراحل بعض نوابغ الأقدمين، ولو كانوا في العصور الماضية لارتفعت منزلتهم فوق ما ارتفعت اليوم، ولكن لم نمنحهم نحن لقب البطولة للأسباب التي أشرنا إليها قبل، من أننا رفعنا إلى حد بعيد المثل الأعلى للنبوغ؛ ولأننا نحلل النابغ ونكتشف سره، وذلك يقلل من تقديره ؛ ولأنه معاصر والمعاصرة أعدى أعداء الاعتراف بالنبوغ.
وقد يتصل بهذا أن كثرة النبوغ تضيع الاعتراف بالنبوغ، فكل أمة راقية الآن لديها عدد كبير من المتفوقين في كل فرع من فروع العلم والفن: في القانون - في الأدب - في الطبيعة - في الكيمياء - في الرسم - في التصوير. فلما كثر هؤلاء في كل أمة أصبح من العسير أن تميز أكبر متفوق منهم لتمنحه صفة النبوغ؛ ومن العسير أيضا أن تسميهم كلهم نوابغ؛ لأن النبوغ بحكم اسمه ومعناه يتطلب الندرة، فلما كثر النابغون أضاعوا اسم النبوغ وعلى العكس من ذلك الأمم المنحطة، لما لم يوجد فيها إلا قانوني واحد أو أديب واحد أو موسيقي واحد كان من السهل أن يمنح لقب النبوغ. •••
ثم إن الديمقراطية التي سادت الناس في العصور الأخيرة ونادت بالمساواة وألحت في الطلب أوجدت في الشعوب حالة نفسية كان لها أثرها في موضوعنا؛ إذ أصبح الناس لا يؤمنون بتفوق كبير، لا في المال فهم يريدون الاشتراكية، ولا في السياسة فقد يتبوأ الحكم حزب العمال فيدير الأمور كما يديرها الأرستقراطيون في السياسة بل أحسن منهم.
فدعتهم هذه الحالة النفسية إلى أن يكفروا بالتفوق، أو بعبارة أخرى يكفروا بالنبوغ؛ وبعيد أن يعترف بالنبوغ في جو يكفر به. لقد كان الناس قبل أكثر إيمانا بالفروق في المال والكفاية والعلم، فكان هذا الإيمان وسيلة صالحة لظهور النبوغ، فلما جحدوا كل شيء كان النبوغ مما جحدوا.
وأخيرا كان من أثر هذه الديمقراطية تعميم التعليم، والبحث في خير الوسائل لنشر العلم؛ فقامت النظريات المختلفة في التربية والتعليم، وأصبح العلم شعبيا بعد أن كان أرستقراطيا، واستخدمت الوسائل المختلفة لتبسيط العلم وتحبيبه إلى النفوس، وغيرت نظم المدارس، فأنشئت رياض الأطفال مكان الكتاتيب، والمدارس الناعمة بدل المدارس الخشنة، واخترعت البيداجولوجيا وسائل لتسهيل الدرس وإيصاله إلى الذهن من أقرب طريق.
كان من نتيجة ذلك كثرة المتعلمين وقلة النابغين، واتساع البحر وقلة عمقه؛ وذلك لأن من كان يتفوق في الماضي كان يصادف عقبات لا حد لعددها ولا حد لصعوبتها، فكان من الطبيعي ألا يجتازها إلا الأقلون، ولكن من يجتازها تكون لديه الحصانة الطبيعية، ويكون قد تعود اجتياز العقبات واحتمل مشقة السير، فكان ذلك سبب النبوغ من ناحيتين: من ناحية قلة من يجتاز العقبات ومن ناحية من يجتازها.
أما وقد أصبح التعليم معبدا ميسرا فقد زاد عدد المتعلمين وقل النابغون، وأصبح الفرق بين العهدين كبذرة تربى في حديقة بستان وبذرة تنبت في الجبال حيث الريح العاصفة والشمس المحرقة والمطر الذي لا نظام له. فأين نبت البستان من نبت الجبال؟ وأين الحيوان المستأنس من الحيوان المستوحش؟
السكون في الظلام
ما ألذه، وما أهنأه، وما أحلاه!
يذهب بالأوصاب، ويرد العافية إلى الأعصاب.
فترة سكون في ظلام يجب أن يقضيها كل إنسان في كل يوم.
وإذا كان كل الناس يحتاجونها فرجال الفكر إليها أحوج، هي راحة من عناء مجهودهم، واسترداد لما فقدوا من رءوسهم، واسترجاع لما قطروا من عصارة عقولهم.
وهي فوق ذلك أدعى لصفاء الذهن وصحة التفكير، وجودة الإنتاج؛ فالبذرة لا تنبت في جلبة وضوضاء وضياء، إنما تنبت في جوف الأرض، حيث لا تراها العين، ولا تؤذيها حركة، وحيث تستمتع بكل ما في السكون والظلام من قوة، حتى إذا تم نضجها خرجت إلى النور والهواء والحركة بساقها وفروعها لا بنفسها.
ولا تفتن وردة بجمالها ومنظرها وعبيرها قبل أن تدفن بذرتها، يجب أن تمر بها أيام وأيام، تشعر بنفسها ولا يشعر الناس بها، وحتى إذا أعجبت الناس ونفحتهم بنعيمها يجب أن يبقى أصلها منعما بظلامه وسكونه، فإذا أقلقت مضجعها وسلبتها هدوءها سلبتك محاسنها.
وكذلك كل حي لا بد أن يموت ليحيا، وهل النوم إلا ضرب من الموت، ونوع من الفناء؟ دع الحي يحيا أياما من غير نوم تره وقد تهدلت أعصابه، وتهدمت قواه، وقرب من الفناء الأبدي.
وليس يكفي النوم للمفكر، فهناك ضرب خير من النوم هو أويقات يمضيها في هدوء وسكون وظلام، يكون فيها منتبها نائما، شاعرا حالما، يلذ فيها لذة النوم، كما يلذ لذة الصحو، ويتعرض فيها لنفحات الله، ويلمع في روحه قبس أشبه ما يكون بالإلهام، وتأتيه بالفكرة الناضجة أو الخطرة الكاشفة، أو اللمحة الدالة فتكون خيرا من ساعات وساعات يقضيها في العمل، وبين المحبرة والقلم، والصحف والكتب.
قرأت مرة أن متعلما كان يقص على معلمه أنه يصبح مبكرا فيقضي ساعات في استذكار دروسه، وساعات في تعلم لغات أجنبية، وساعات في أخذ دروس جديدة في علوم مختلفة، حتى يمضي جزء كبير من الليل فيذهب إلى فراشه وقد أنهكه التعب، وأخذ منه كل مأخذ؛ فقال له أستاذه: ومتى تفكر؟ وأين تجد نفسك؟
وهو سؤال له دلالته ومغزاه. فأكثر الناس لا يفكرون، وإن ظنوا أنهم فيما يقرءون ويكتبون يفكرون، وأكثر الناس يفقدون أنفسهم في ثنايا صحفهم وكتبهم.
ولأمر ما كان النبي
صلى الله عليه وسلم «يخلو بغار حراء، ويتعبد فيه الليالي ذوات العدد يتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها حتى جاءه الحق وهو في غار حراء».
في غار حراء حيث السكون والظلام، بعيدا عن الخلق قريبا إلى الحق، قد انقطع عن العالم وضوضائه، والدنيا وألاعيبها، قد صفت نفسه من صفاء محيطه، ووجد نفسه فوجد ربه، وتعرض للإلهام فجاءه الإلهام، وتهيأ للوحي فنزل عليه الوحي. •••
لكم تمنيت أن يكون للمسلمين تكايا أو خانقاهات في أمكنة نزهة منقطعة ليست من هذا النوع الذي يأوي إليه العاجزون والعاطلون، والذين يأكلون ولا يعملون، ولكنها من طراز حديث يهرع إليها من أراد أن يستجم نفسه ويريح قلبه، ويسترد هدوءه، بعد أن أتلفتها ضوضاء المدنية، وجلبة الحياة العصرية - تكون مستشفى للنفوس بجانب مستشفيات الأبدان، ويترهب فيها من أضناه العمل، وأعياه الجهد، رهبانية مؤقتة يجدد فيها نفسه، ويغذي بهدوئها وسكونها عقله وحسه، ويبعث إلى العالم خلقا جديدا كما يبعث النوم الحياة - إذا لقلت أخطاء الناس ومظالمهم، فأكثرها مبعثه فساد الأعصاب؛ وإذا لقل إلحادهم فأكثره منشؤه الانغماس في المادة وشئونها، فإذا تجرد المرء منها زمنا وخلا بنفسه وأتيحت له فرصة التفكير في هدوء وسكون وظلام، تحرك قلبه للعبادة، ونزع إلى الإيمان، فاستجاب لفطرته، واستمع لطبيعته؛ وإذا لقلت مطامع الناس، وتكالبهم على الحياة ، فحياة الهدوء والسكينة توحي بأن الحياة ظل زائل، ومرحلة مسافر.
لقد اعتاد الناس أن يفروا من عنائهم إلى المقاهي والفنادق في الهواء الطلق، وعلى شواطىء الأنهار والبحيرات والبحار، ولكنها كلها تفيد الجسم، ولا تفيد - كثيرا - الروح والنفس، هي من نوع المستشفيات البدنية لا المستشفيات الروحية والنفسية، فيها - عادة - كل مظاهر المدنية وتعقيداتها وأخيلتها وتكاليفها، فهي لا تغني غناء صحيحا في العلاج النفسي والروحي، إنما يغني هذا الغناء أنواع المعاهد والمؤسسات قد بنيت على أساس نفسي وروحي لا تعبأ بزخارف المدنية وزينة الحضارة، تريح النفس من عناء التكاليف والتقاليد، وتسمو بها فوق المواضعات والمصطلحات، فتجد النفس راحتها الطليقة، وتعود إلى طبيعتها الحرة، وتسبح في تأملاتها، وبذلك تسترد حيويتها ونشاطها. •••
في سكون الظلماء يرى الإنسان بعينه ما لا يراه في الضياء، ويسمع بأذنه ما لا يسمع في الضوضاء؛ على أنه هو لا يرى بعينه فحسب، ولا يسمع بأذنه فحسب، بل كل شيء فيه يسمع ويرى، يفهم منطق الطير، ويتذوق موسيقاه، ويدرك معاني المياه في خريرها، والرياح في هبوبها، والأشجار في حفيفها؛ فكأنه منح من الحواس أضعاف حواسه، وملك من الملكات ما لا يعد بجانب ملكاته؛ وكأن عالم الصخب والجلب يغشي عينه، ويثقل سمعه، ويبلد عقله، ويثلم ذوقه؛ فلئن كان الصوت في عالم الحس له حدود، فإذا قلت تموجاته عن حدوده أو زادت انعدم السمع، فليس في عالم الروح حدود للصوت؛ ولئن كانت العين في عالم الحس لا تدرك من الألوان إلا أقلها، وتعجز عن إدراك أكثرها، فعين الفكر لا يحدها حد ولا يعجزها لون؛ ولئن كانت عيوننا الباصرة لا تبصر إلا في ضياء، وآذاننا لا تسمع إلا من قرع هواء، فعيوننا وآذاننا الروحية تستعين بالسكون والظلماء، أكثر مما تستعين بالضوء والهواء. •••
إنى لأرثي لهؤلاء الذين يضيعون كل حياتهم في هزل، بل أرثي كذلك لهؤلاء الذين بقضون نهارهم في وظائفهم وأعمالهم، ثم ينصرفون إلى لهوهم حتى يناموا، بل أرثي أيضا لهؤلاء الذين يقضون أوقاتهم بين بحث علمي، وقراءة وتأليف وتعليم، ثم لهو قليل ونوم. وأعتقد أن هناك عنصرا في الحياة ينقصهم وهو عنصر التأمل؛ ولست أعني بالتأمل ذلك الضرب من الأسلوب المنطقي العلمي في البحث والتفكير، إنما أعني ذلك الضرب الذي عناه القرآن بمثل قوله:
قل انظروا ماذا في السماوات والأرض
هو نوع من العقل قد مزج بنوع من الشعور، وقد امتاز به الشرق عن الغرب قديما، ومن ثم كان مبعث الأديان ومصدر الإلهام.
في هذا الضرب من التأمل يجد الإنسان نفسه حيث لا يجدها في هزل ولا جد، وفيه يعرف نفسه على حين أنه يعرف غيره أكثر مما يعرف نفسه، وفيه يجلس إلى نفسه ويصادقها ويصارحها، على أن أكثر الناس يجالسون الناس ولا يجالسون أنفسهم، ويصارحون الناس ولا يصارحون أنفسهم، ويصادقون الناس وهم أعداء لأنفسهم.
وأظن أن في الاستطاعة أن يوضع برنامج متسلسل للتأمل كبرنامج القراءة والكتابة وتعلم اللغات وتعلم العلوم، يبدأ فيه بألف باء التأمل، وينتهي بائه إن كان له ياء، وتخصص له حصص يومية كحصص المواد العلمية، وإن كانت حصصه تمتاز بأنها في ميسور كل إنسان، ليست تحتاج إلى مدرسة يتردد عليها، ولا إلى معلم يؤجر، ولا أدوات وكتب يتداولها، إنما هي من قبيل تربية النفس بالنفس، وليست تحتاج إلى مران واعتياد وعرفان بكيفية السلوك.
أول دروسها أن تخلو بنفسك، ولا يكون ذلك إلا في هدوء وسكون، وخير أن يكون في ظلام، ثم تجرد في هذه الحصة من شواغل الدنيا وهمومها، واستعرض نفسك من حيث بدنك كيف تؤذيه ببعض عاداتك، وهل تدبره تدبير عاقل حكيم، أو مستبد جاهل، وما خير الوسائل لإصلاح ما تقع فيه من أغلاط؟
وتدرج من هذا التأمل في ناحية أخرى نحو علاقتك بعقلك، وعلاقتك بالناس واستعراض ما يكون منك ومنهم.
وأرق إلى خطوة ثالثة تسائل فيها نفسك: ما غايتك وما مبادئك في الحياة؟ وهل وضعت لها خططا؟ وما مقدار تقدمك إليها أو تأخرك عنها؟
سيسلمك ذلك - من غير شك - إلى خطوات أوسع، وتأمل أعمق حسب جهدك واستعدادك؛ وستكون لك في النهاية فلسفة لا من جنس فلسفة أفلاطون وأرسطو، ولكنها فلسفة شخصية قد بنيت على تأملك وشعورك لا على حفظك وقراءتك. وستتصل من هذا الطريق بأفق أوسع وملكوت أعلى.
في الحديث: «الناس نيام، فإذا ماتوا انتبهوا»، ولعل هذا الضرب من التأمل ينبههم في حياتهم، من غير أن ينتظروا أن يتنبهوا بموتهم.
ربما كان هذا ضربا من التصوف يتفق وروح العصر، وإن شئت فقل: إنه نوع من التصوف على أحدث طراز وأبدع نمط، يبعث على الحياة لا الموت، ويدعو إلى النشاط والعمل لا إلى الخمول والسأم. ولعل الإنسان يجد في الركون إليه بعض أوقاته راحة مما رمتنا به المدنية الحاضرة من عناء، وما أرهقتنا من عنت. ولعلنا نستروح من هذا البرنامج نسيم الراحة فيراجعنا نشاطنا، وتثوب إلينا قوتنا، وتعود إلينا نفوسنا.
ملق القادة
لست أعني بهذا العنوان أن يتملق الجمهور قادتهم فيظهروا لهم الود والإعظام بحق وغير حق، فذلك شيء قليل الخطر، فاتر الأثر، وإنما أعني أن يتملق القادة الرأي العام فيسيروا على هواه ويجروا مجراه، ويأتوا ما يحب، ويذروا ما يكره، فهذا هو الداء الدوي والعلة الفادحة.
ومن أسوأ ما أرى في الشرق في هذه الأيام هذه الظاهرة، ظاهرة أن يحسب القادة حساب الرأي العام أكثر مما يحسب الرأي العام حساب القادة.
هذه الظاهرة جلية واضحة في قادة العلم، فهناك أوساط تقدس العرب كل التقديس، وتعتقد أنهم في حكمهم عدلوا كل العدل، ولم يظلموا أي ظلم، فقادتهم يتملقونهم ويستخدمون معارفهم للوصول إلى هذه النتائج التي ترضيهم، سواء رضي العلم أم لم يرض، وسواء أوصل البحث إلى هذه النتائج أو إلى عكسها. وهناك أوساط تعبد كل غربي من عادات وتقاليد وآداب، فقادتهم يختارون اللفظ الرشيق، والأسلوب الأنيق لتأييد هذه الآراء، ولا عليهم في ذلك أن كانوا يحقون الحق أم يؤيدون الباطل.
وهي ظاهرة في قادة الأدب؛ فإن أحب الجمهور روايات الحب والغرام ألفوا فيها وأكثروا منها، وإن أدركوا أن تصفيق الجمهور يكون أشد كلما كان الحب أحد، تسابق الأدباء إلى أقصى ما يستطيعون من حدة وعنف، ومهروا في أن يستنزفوا دموع المحبين، ويهيجوا عواطفهم، ويصلوا إلى أعماق قلوبهم. وإن كره الناس أدب القوة فويل لأدب القوة من الأدباء! هو سمج، وهو جاف، وهو لا قلب له؛ وإن كان الجمهور لا يقبل إلا على الأدب الرخيص فكل المجلات أدب رخيص؛ لأنه كلما أسرف في الرخص غلا في الثمن؛ وإن بدا الجمهور يتذوق الجد تحولوا إلى الجد وداروا معه حيث دار.
وهي ظاهرة في دعاة الإصلاح؛ فهم يرون - مثلا - أن الشباب قوة فوق كل قوة، وهم عصب الأمة وإكسير الحياة، وفي استطاعتهم أن يرفعوا من شاءوا إلى القمة ويسقطوا من شاءوا إلى الحضيض؛ فهم ينظمون لهم الدار في مديحهم وإعلاء شأنهم، وملئهم ثقة بأنفسهم، فهم رجال المستقبل وعماد الحياة، وهم خير من آبائهم، وستكون الأمة في منتهى الرقي يوم يكونون رجالها؛ وقد يكون هذا حقا، ولكن للشباب أغلاطه الجسيمة التي تتناسب وهمته، وله غروره واندفاعه، وله تهوره وإفراطه في الاعتداد بنفسه؛ فكان على المصلحين أن يكثروا القول في المعنيين على السواء، فيشجعوا وينقدوا، ويبشروا وينذروا، ويرغبوا ويرهبوا، حتى تتعادل قوة النفس، وحتى يشعروا بمحاسنهم ومساويهم معا؛ ولكن هؤلاء القادة - مع الأسف - وقعوا فقط على النغمة التي تعجب الشباب وتحمسهم، ولم يجرءوا أن يجهروا بعيويهم، ولا أن يقولوا - ولو تلميحا - في مواضع النقد من نفوسهم؛ فكان لنا من ذلك شباب استرسلوا في الإيمان بقول الدعاة إلى أقصى حد، واعتقدوا أنهم كل شيء في الحياة، وأنهم فوق أن يسمعوا نصيحة ناصح أو نقد ناقد؛ وكان هذا نتيجة لازمة بعد أن وقف القادة منهم هذا الموقف؛ وقد يكون هذا رد فعل للماضي أيضا، فقد كان طالب العلم في الجيل السابق يقدس قول أستاذه، وهو وأستاذه يقدسان ما في الكتاب الذي يتلى؛ وكان الشاب يجل الشيخ في قوله وفعله، لا يرى أن له صوتا بجانب صوته، ولا رأيا بجانب رأيه؛ فكان سلوك هذا الجيل انتقاما من الجيل السابق، وذهابا في الإفراط يعادل إفراط آبائه؛ ولكن أظن أنا وصلنا إلى حد يجعلنا نفكر جديا في تثبيت هذه الذبذبة ووقفها الموقف الحق.
إن وقوف القيادة من الجمهور موقف الملق قلب للوضع؛ فالعالم إذا قال برأي الناس لم يكن لعلمه قيمة، والمصلح إذا دعا إلى ما عليه الناس لم يكن مصلحا.
إني أفهم هذا الوضع في التاجر يسترضي الجمهور؛ لأن نجاحة في تجارته يتوقف على رضاهم، وأفهم هذا في المغني يقول ما يعجب الناس؛ لأنه نصب نفسه لإرضائهم، واستخراج إعجابهم؛ ولكني لا أفهم هذا في قائد الجيش، فإن له مهما آخر، وهو أن يظفر بخصمه؛ فلو كان همه أن يسترضي جنده لا أن ينتصر على عدوه ما استحق لقب القيادة لحظة، ولكان الوضع الحقيقي أن الجند هم القادة والقادة هم الجند.
كذلك الشأن في قائد العلم وقائد الأدب، والمصلح الاجتماعي؛ فلكل منهم غرض يرمي إليه في علمه أوأدبه أو إصلاحه، وله خطة يريد أن يحمل الناس عليها رضوا أم كرهوا.
بل لا يعد المصلح مصلحا حتى ينبه الناس من غفلتهم، يحملهم على أن يتركوا ما ألفوا ضار، أو يعتنقوا ما كرهوا من صالح، وهو في أغلب أمره مغضوب عليه ممقوت. واصطلاح الجمهور والمصلحين ليس علامة تبشر بخير، بل هي في الغالب تدل على تراجع من المصلح وانتصار للعامة.
وقد كان المصلحون في الشرق إلى عهد قريب أشد الناس تعبا في الحياة، وأكثر تبرما بالجمهور؛ وأقربهم إلى عهدنا جمال الدين ومحمد عبده وقاسم أمين، لقوا في دعوتهم من العذاب ألوانا، ولم يوفوا حقهم إلا بعد أن وافاهم الموت. أما اليوم فلست أرى حركة عنيفة بين القادة والرأي العام، ولا بين المصلح ومن يراد إصلاحه؛ وربما كان سبب ذلك أن القائد ينظر إلى نفسه أولا وقبل كل شيء وآخر كل شيء، قصد إلى أن يصفق له أكثر مما قصد لخدمة الحق، وقد وصل إلى درجة من إعجاب الجمهور يريد أن يزيدها أو يحتفظ بها، قد خلع ثياب القائد، وارتدى لباس التاجر؛ يبحث عما يعجبهم ليقول فيه شعره أو يكتب فيه مقالته ، أو يطنب في وصفه، ويبحث عما يسوءهم ليحمل عليه حمله شعواء بقلمه أو لسانه، كما يبحث تاجر الأزياء عن آخر طراز في الزي يقبل الناس على شرائه.
تلك أشد حالات الانحطاط في القيادة؛ فأول درس يتلقاه القائد أن يكون قليل الاهتمام بشخصه، كثير الاهتمام بالغرض الذي يرمي إليه في الإصلاح، سواء أكان إصلاحا لغويا أو أدبيا أو اجتماعيا أو دينيا، وأن ينظر إلى كل ما يجري حوله في هدوء، لا يسره إلا أن يرى الناس اقتربوا من غرضه ولو بسبه، ويضحي بالشهرة فتتبعه الشهرة، ويضحي بالحظ فيخدمه الحظ؛ بل سواء عليه عرف أم لم يعرف، وسواء عليه احتقر أم كرم، ما دام سائرا على المنهج الذي رسم، لا يشعر بأريحية إلا أن يصل إلى غرضه، أو يقرب منه؛ يحب المنتصرين لرأيه ويرحم الناقمين عليه، يرفض أن يلبس تاج الفخر إلا أن يكون من نسيج ما سعى إلى تحقيقه؛ إن كان هذا أول درس يتعلمه القائد فهو آخر درس أيضا.
أخشى أن يكون قادة الرأي فينا قد ملوا المقاومة فاستسلموا، وأن يكونوا قد استصعبوا الغاية فاستناموا، وأن يكونوا قد وقفوا مترددين قليلا بين عذاب الضمير وعذاب المعارضة فاحتملوا الأول، وأن يكونوا لطول ما لقوا قد رغبوا عن النظر إلى الأمام والتفتوا وراءهم إلى الرأي العام، فساروا أمامه في الطريق الذي يحبه هو لا الذي يحبونه هم، إن كان هذا فيالها من هزيمة.
أنى لنا بقادة في الرأي لا يتملقون إلا الحق؟
اللون الأصفر
لفت نظري - وأنا أدرس الحياة الاجتماعية في العصر العباسي - ما رأيت من كثرة ما كتب عن اللون الأصفر في هذا العصر، وحلوله محلا كبيرا غطى على كل الألوان الأخرى، وكثرة ما قيل فيه من أدب، فرأيت أن أعرض على القراء شيئا منه وأترك لعلماء الجمال ما يدل عليه انتشار اللون الأصفر في الشعوب من تحديد درجة الذوق في الرقي، وعلاقته بانتشار الخلاعة، ودلالته على مقدار ما وصلت إليه الأمة من حضارة. •••
رأيت العراقيين هاموا باللون الأصفر وتغزلوا بالوجوه الصفر، وصبغوا ثيابهم بالصفرة، وافتتنوا بالزهور الصفر، وأكثروا من اتخاذ الطعوم الصفر، ومدحوا الجواهر الصفر، وهكذا.
روى الجاحظ أن من الأمثله المشهورة قولهم: «أهلك النساء الأصفران: الذهب والزعفران»، وهذا يدل على غرام النساء باللون الأصفر، وظهور هذا الغرام بحبهن للذهب والزعفران. أما حبهن للذهب فللونه؛ ولأنه خير أنواع المال. وأما الزعفران فقد كان له سلطان في بغداد أي سلطان، حتى لو سميت بغداد في ذلك العصر مدينة الزعفران لم تبعد؛ وقد جعلوا له قوة سحرية فقالوا: «إنه إذا كان في بيت لا يدخله سام أبرص»، وإذا حسن في عينهم شيء أصفر شبهوه بلون الزعفران كما قال آدم بن عبد العزيز:
شربت على تذكر عيش كسرى
شرابا لونه كالزعفران
وأكثروا من تلوين الطعام به. قال بديع الزمان في إحدى مقاماته: «ومعنا على الطعام رجل تسافر يده على الخوان، وتأخذ وجوه الزعفران».
وكان البغداديون يلونون الطعام ويكرهون أن يقدموه بلا تلوين، ويسمون الطعوم الغير ملونة «الطعوم المعتدة» تشبيها بالمرأة في العدة؛ لأنهم يكرهون منها أن تلبس الثياب الملونة، فكانوا يلونون الطعام بالزعفران وبالعصفر وهو أصفر أيضا.
وصبغوا بالزعفران ملابسهم. حكي أن الرشيد دخل على أخته علية بنت المهدي في يوم قائظ، فوجدها قد صبغت ثيابا بزعفران وصندل وجعلتها على الحبال لتجف، فجعلت الرياح تمر على الثياب فتحمل منها ريحا بليلة عطرة، فوجد لذلك راحة من الحر.
وكتبت جارية على قباء معصفر:
وما البدر المنير إذا تجلى
هدوا حين ينزل بالعراق
بأحسن من بثينة يوم قامت
تهادى في معصفرة رقاق
وقد كثرت أسماء الثياب الصفر فسموا:
التخمة:
الثياب المخططة بالصفرة.
والرداعة:
القميص لمع بالزعفران والطيب.
والسبنية:
نسبة إلى سبن قرية بنواحي بغداد، وهي ثياب من حرير فيها أمثال الأترج (الأصفر).
والثياب المحرضة:
وهي المصبوغة بالإحريض وهو العصفر.
والثوم الممصر:
قيل هو المصبوغ بصفرة خفيفة.
والثوب المورس:
المصبوغ بالورس وهو نبت أصفر يصبغ به.
وأكثر ما كانت العصائب التي تتزين بها النساء عصائب مصبوغة بالزعفران وشيت بخيوط من الحرير وطرزت بسلوك من ذهب.
وقالوا : أجمل شيء غلالة معصفرة على جارية.
وحكى التنوخي في نشوار المحاضرة: «أن الخليفة المتوكل اشتهى أن يجعل كل ما تقع عليه عينه في يوم من الأيام شربه أصفر، فنصبت له قبة صندل مذهبة مجللة بديباج أصفر، مفروشة بديباج أصفر، وجعل بين يديه الدستنبو
1
والأترج الأصفر وشراب أصفر في صواني ذهب، ولم يحضر من جواريه إلا الصفر، عليهم ثياب قصب صفر، وكانت القبة منصوبة على بركة مرصعة يجري فيها الماء، فأمر أن يجعل في مجاري الماء إليها الزعفران على قدر ليصفر الماء، ويجري من البركة أصفر، ففعل ذلك وطال شربه، فنفد ما كان عندهم من الزعفران، فاستعملوا العصفر، ولم يقدروا أنه ينفد قبل سكره فنفد، فلما لم يبق إلا قليل عرفوه وخافوا أن يغضب إن انقطع ... فلما أخبروه أنكر أنهم لم يشتروا قدرا عظيما، وقال: إن انقطع هذا تنغص يومي، فخذوا الثياب المعصفرة بالقصب فانقعوها في مجرى الماء ليصبغ لونه بما فيها من الصبغ ... فحسب ما لزم ذلك من الزعفران والعصفر ومن الثياب التي هلكت فكان خمسين ألف دينار»
2 .
ونسبوا إلى أفلاطون أنه قال: إن رائحة الزعفران تسكن الغضب، وإذا قرن اللون الأحمر بالأصفر تحركت القوة العشقية.
ولإعجابهم باللباس المعصفر أو المزعفر شبهوا به الخمر، فقال ابن الوكيع:
فاشرب معصفرة القميص سلافة
من صنعه البردان أو قطربل
وقال ابن المعتز:
لبست صفرة فكم فتنت من
أعين قد رأينها وعقول
مثل شمس الغروب تسحب ذيلا
صبغته بزعفران الأصيل
وقال ابن الرومي في وصف شواء:
وسميطة صفراء دينارية
ثمنا ولونا زفها لك جؤذر
وأكثروا من مدح المرأة الصفراء واستحسنوها، ففي الأغاني أن متيم الهاشمية، ومحبوب المتوكلية، ودنانير البرمكية، كن صفرا مولدات، وسميت دنانير بذلك لصفرتها.
ومدحوا الزهور الصفر والثمار الصفر.
فمدحوا الآذريون وهو زهر أصفر وفي وسطه خمل أسود، قال فيه ابن المعتز:
كأن آذريونها
والشمس فيه كاليه
مداهن من ذهب
فيه بقايا غاليه
كما مدحو «الخيري» وهو المنثور الأصفر.
وكان عندهم نوع من الياسمين أصفر قال فيه الشاعر:
كأنما الياسمين حين بدا
يشرق من جوانب الكثب
عساكر الروم نازلت بلدا
وكل صلبانها من الذهب
ومدحوا التفاح الأصفر والخوخ الأصفر.
وتغزلوا بصفرة الخمر فقال أبو نواس:
صفراء لا تنزل الأحزان ساحتها
لو مسها حجر مسته سراء
ويقول آدم بن عبد العزيز:
اسقني واسق خليلي
في مدى الليل الطويل
لونها أصفر صاف
وهي كالمسك الفتيل
وبالغوا في حب الصفرة حتى كانت القينة أحيانا تلبس الثياب المعصفرة أو المزعفرة، وتطلي ما ظهر من يديها ومن عنقها بالورس.
روى بعضهم قال: «رأيت جارية ببغداد وقد طلت يديها بالورس وفي عنقها طبل وهي تنشد:
محاسنها سهام للمنايا
مريشة بأنواع الخطوب»
وكثيرا ما قرنوا هذا اللون بالدلالة على الميل إلى الشهوات والفجور، ورمزوا للخليع بقولهم: إنه «يلبس المورس».
هذه ظاهرة غريبة تستحق الدرس، وأحق الناس بالفتوى فيها علماء الجمال الاجتماعي.
الليل
في ليلة حالكة السواد، بعدت عن ضوضاء المدينة إلى مكان قصي على شاطئ البحر، أهرب بنفسي من جراثيم المدنية ووباء الحضارة، وأغسلها من أدران التقاليد والمواضعات، وأطهرها بالانغماس في عالم اللانهاية: في السماء والماء والجو الفسيح الذي لا يحده حد ولا ينتهي إلى غاية.
غاب فيها القمر فلعبت النجوم، ولو طلع لكسفها وهي أكبر منه حجما، وأعظم قدرا، وألمع ضوءا، ولكن دنيانا هذه يسود فيها التهويش حتى في القمر والنجوم.
كان سواد هذه الليلة أحب إلى نفسي من ضوء الشمس ونور القمر، فللنفس حالات تنبسط فيها، فيعجبها البحر الهائج، والوسط المائج، واللون الأبيض والأحمر، والنكتة اللاذعة، وتنقبض فتأنس إلى الليل الساكن، والوحدة المريحة، والسكون العميق، واللون القاتم. •••
لك الله أيها الليل! فما زلت بالفن حتى ملكته واحتويته، فجعل يشيد بذكرك، ويرفع من شأنك، حتى لم تجعل لأخيك النهار نصيبا يقاس بنصيبك، فاقتسمتما الزمان عادلة، واقتسمتما الفن قسمة جائرة!
فالمغني يقصر مناداته عليك، ولا يلتفت في هتافه إلا إليك، فإذا غنى بالليل نادى الليل، وإذا غنى بالنهار لم يخجل فنادى الليل أيضا، والآلات كلها تتبعه فتردد على أوتارها ما ردده المغني بكلماته؛ ثم كان اسمك على قلته وضئولته أداة طيعة في صوت المغني يوقع عليه ما شاء من نغمات: مرحة وحزينة، ومديدة وقصيرة، وعالية وهادئة، وباعثة للقوة والبأس والأمل، وداعية إلى الضعف والخمول والكسل.
وحتى المصور! لماذا شغف برسم غروب الشمس أكثر مما شغف بطلوعها؟ ما ذلك إلا لأن غروبها إيذان بقدومك وارتقاب لزورتك.
أما الأدب فله فيه الباع الطويل والقول الذي لا ينتهي. تداولت عليه الأدباء، فنقموا منه حينا، وتذللوا له حينا، من عهد الأستاذ امرىء القيس إذ يقول:
فيا لك من ليل كان نجومه
بكل مغار الفتل شدت بيذبل
إلى عهد الأستاذ محمد عبد الوهاب إذ يقول: «بالله يا ليل تجينا، وتسبل ستايرك علينا»
شكوا طوله وتفننوا في ذلك ما شاءوا، فتخيلوا أن نجومه شدت بالحبال، وربطت في الجبال، أو أن النهار ضل طريقه فظل الليل لا يبرح ولا يتزحزح، أو أن النجوم حارت لا تدري أتتيامن أم تتياسر فوقفت فوقف الليل بجانبها. وشكوا قصره فأبدعوا في ذلك أيما إبداع، فشبهوه بعارض البرق، وأنكروا من قصره وجوده.
كان هؤلاء الذين يشكون طوله ويشكون قصره يتحدثون بعواطفهم، ويترجمون عن مشاعرهم؛ فجاء قوم على أثرهم يتحدثون بعقولهم، فيقول الفرزدق:
يقولون طال الليل والليل لم يطل
ولكن من يبكي من الشوق يسهر
ويقول ابن بسام:
لا أظلم الليل ولا أدعي
أن النجوم الليل ليست تغور
ليلي كما شاءت فإن لم تجد
طال، وإن جادت فليلي قصير •••
أيها الليل! كما لففت ثوبك على متناقضات: حزن على الميت، وسرور لميلاد، ومحب مهجور يشكو طولك، ومحب واصل يشكو قصرك، وعابد متهجد يناجي ربه، وداعي فاجر يبغي حظه، ودمعة حرى تسبلها أم ولهى بجانب سرير مريض، وضحكة صارخة تخرج من فم سكير عربيد؛ ومجلس أنس تتجاوب فيه الأقداح والأوتار، ويلبس فيه الليل ثوب النهار، بين بدور، وكاسات تدور، كأنه مسرح صغير تمثل فيه الجنة بصنوف نعيمها، أو معرض تعرض فيه الملاهي بشتى ألوانها؛ ومجلس بؤس تتجاوب فيه الزفرات والحسرات، وتتساقط فيه النفوس، قد شرقوا فيه بدموعهم، وتلظى الهم في ضلوعهم، فهم بين كاسف بال، وساهم طرف، ومنقبض صدر، ولهيف قلب.
يترقب السارق ليحتمي بسوادك في سرقته، والعاشق ليفر في سكونك بعشيقته، والناسك ليبتهل إلى الله في صلواته، ويتحد معه في مناجاته، والشاعر لينظم شجونه في قصيدته، والملحن ليوقع لحنه على قيثارته، والسياسي ليدبر مؤامراته، والعالم ليفكر في نظرياته. •••
ولكن لماذا استأثرت بكل هذا والنهار قسيمك في الخدمات، وعديلك في الحياة، بل هو أشد منك حياة وأكثر قوة، فسلطانه الشمس وسلطانك القمر، وسلاحه الضوء وسلاحك الظلام، وشعاره البياض وشعارك السواد، وهو مبصر وأنت أعمى، وطبيعته الحركة وطبيعتك السكون، وهو يدعو إلى النشاط والعمل، وأنت تدعو إلى الخمول والكسل؟ ولكن شاء الله أن يمن على اللذين استضعفوا في الأرض ويجعلهم أئمة ويجعلهم الوارثين، فجعل من قوة النهار ضعفا، ومن ضعفك قوة.
انتهزت فرصة السكون الذي منحك الله، فجعلت منه حركة دونها حركة النهار، فحركته حركة جسم وآلات، وحركتك حركة عوطف وانفعالات، وشتان ما بينهما! لقد أطاق الناس مصائبه ولم يطيقوا مصائبك، فقال الشاعر:
وحملت زفرات الضحى فأطقتها
وما لي بزفرات العشي يدان
واستعنت بسلطان الحب فجعلته من أعوانك، وأسرت العواطف فاتخذتها من خدامك، فلما اجتمع لك الحب والعواطف نازلت بها الزمان، وغلبت بها كل سلطان؛ فالوصل لا يلذ إلا في ظلك، والهجر لا يلذع إلا في كنفك، والسرور لا يشع إلا في حضرتك، والألم لا يضني إلا في هدءتك.
من تعب في النهار وجد فيك راحته، ومن أتعبته الحركة نعم فيك بسكونك، ولكن من تعب فيك لم يجد في النهار عوضا عنك، ولم يرض به بديلا منك. •••
جالت هذه المعاني في فكري، وامتلأت بعظم الليل نفسي، فمن علي بنومة لذيذة هادئة عميقة، فقابل جميل ثنائي بجميل صنعه، وأدى فريضة شكري بجزيل فضله.
فقدان الثقة
لعل أسوأ ما تمنى به الأمة أن يفقد أفرادها الثقة بعضهم ببعض؛ فقدان الثقة يجعل الأمة فردا، والثقة تجعل الفرد أمة. الثقة تجعل الأجزاء كتلة وفقدانها يجعل الكتلة أجزاء غير صالحة للالتئام، بل يجعل أجزاءها متنافرة متعادية توجه كل قوتها للوقاية والنكاية.
كم من الزمن ومن المال ومن النظم ومن الخطط تنفق إذا فقدت الثقة؟ ثم هي لا تغني شيئا ولا تعيد ثقة.
تصور أسرة فقد الزوج فيها ثقته بزوجته، والزوجة بزوجها، ثم تصور كيف تكون حياتها: نزاع دائم، وسوء ظن متبادل، وانتظار للزمن ليتم الخراب.
وهكذا الشأن في كل مجتمع: في المدرسة، في الجيش، في الحزب، في القرية، في الأمة.
بل ما لنا نذهب بعيدا والإنسان نفسه إذا فقد الثقة بنفسه فقد نفسه؟ فلا يستطيع الكاتب أن يكون كتابا مجيدا ولا الشاعر أن يكون شاعرا متفوقا، ولا أي عالم وصانع يجيد علمه وصناعته إلا إذا وثق بنفسه لدرجة ما؛ وكم من الكفايات ضاعت هياء؛ لأن أصحابها فقدوا ثقتهم بأنفسهم، واعتقدوا أنهم لا يحسنون صنعا ولا يجيدون عملا.
وكل ما ترى من أعراض الفشل في أمة سببه فقدان الثقة؛ فالحزب ينهار يوم يفقد الأعضاء ثقتهم بعضهم ببعض، والشركة تنهار يوم يتعامل أفرادها على أساس فقدان الثقة، والمدرسة تفشل يوم لا يثق الطلبة بأساتذتهم والأساتذة بطلبتهم، وكل جماعة تفنى يوم يتم فيها فقدان الثقة.
كل نظمنا - على ما يظهر - مبنية على فقدان الثقة؛ فوظائف «المفتشين» في جميع مصالح الحكومة والشركات أصبحت مؤسسة على فقدان الثقة، فالمفتش في الترام والسيارات العامة مبناه ضعف الثقة «بالكمساري» ومفتش المالية يراقب حركات مرءوسيه حتى لا يختلسوا أو يزوروا، ومفتشو الوزارات يرون إلى أي حد يطبق الموظفون تعاليم الوزارة.
قد كان الظن بالمفتشين أن يؤدوا عملا آخر غير هذا، وهو أن يشرفوا على عمل المرءوسين ليوجهوهم وجهة صالحة، ويتعاونوا معهم على رسم الخطة القويمة، ويصححوا الخطأ، ويكملوا النقص، ولكنهم - في الأغلب وقفوا فقط موقف الضابط يضبط الجريمة، والصائد يرقب الفريسة، لا موقف الهادي المرشد والناصح الأمين.
فإن أردت «بندا» واحدا من «بنود» ما ينفق من الأموال في سبيل عدم الثقة فاجمع مرتبات المفتشين في جميع مصالح الحكومة.
وليس الأمر مقصورا على هؤلاء، فالمراجعون ومراجعو المراجعين، والأوراق تمر من يد إلى يد، ومن قلم إلى قلم، ومن مصلحة إلى مصلحة، ومن وزارة إلى وزارة. كل ذلك له أسباب، أهمها «فقدان الثقة».
وإن شئت حصر ما يستهلك من الأموال لفقدان الثقة فلا تكتف بمرتبات المفتشين، بل أضف إليها مرتبات هؤلاء الذين ذكرنا، فلو قلنا: إن نصف مرتبات الموظفين ينفق في سبيل فقدان الثقة لم نبعد.
وليست المصيبة كلها في الأموال، فلو كنا نقدر للزمان قيمة كغيرنا من الأمم لاستفظعنا ما يستوجبه فقدان الثقة من أيام وشهور وسنين تضيع في إجراءات وتدقيقات ومراجعات ومناقضات وتعليقات مبناها كلها «فقدان الثقة».
ثم هناك عقول للنابغين وكبار أولي الأمر في الأمة تفكر ثم تفكر، وتقدر ثم تقدر، وتضع الخطط تلو الخطط، والقوانين واللوائح والمنشورات تلو القوانين واللوائح والمنشورات، ويخيل إليها أنها بما فعلت تأمن الخيانة والسرقة والتزوير، وتظن بذلك أنها تعالج ما فسد وتصلح ما اختل، وهي إنما تزيد بذلك في «فقدان الثقة».
أضف إلى هذا ما تسبغه هذه المظاهر كلها على نفسية الموظف، فهو يرى كل هذه النظم واللوائح والقوانين والمراجعات والمناقضات، فيشعر أنها إنما شرعت له ومن أجله وبسبب فقدان الثقة به، وأنها كلما تنظر إليه كلص وكمجرم وكمزور؛ فيفقد الثقة بنفسه، ويعمل في حدود ما رسم له، ويشعر بالسلطان عليه فلا يجرؤ على التفكير بعقله، ولا يجرؤ على تحمل تبعة، ويفر من البت في الأمور ما وسعه الفرار، حتى يكون بمأمن دائم من الأسئلة والمناقضات - وهذا هو سر ما نراه من بطء في العمل، وركود في الحركة، وضياع لمصالح الناس؛ إذ لا شيء يبعث الثقة في المرءوس مثل أن يثق بع الرئيس، ولا شيء يبعث الحيرة والارتباك والاضطراب إلا ما يشعر به من «فقدان الثقة».
أنا كفيل بأنا لو قلبنا كل هذه النظم رأسا على عقب وهدمناها من أسسها وأزلنا أنقاضها، ثم بنيناها على أسس جديدة من الثقة البحتة، ما خسرنا من الأموال وما خسرنا من الأزمان والأنفس ما نخسر الآن، ولو كثرت اللصوص وكثر الخائنون والمزورون.
هب أنا فتحنا مكتبة وأسسنا نظامها على الثقة بالموظفين والمترددين من المطالعين، فاستغنينا عن مراقب واستغنينا عم مراجع واستغنينا عن مفتش وهكذا، واكتفينا بمعير للكتب و«فتى» يضع الكتب كل يوم في أماكنها، فماذا يكون الشأن وماذا يكون حسابنا في المكسب والخسارة؟ لا شك أننا سنفقد كتبا يسرقها بعض المترددين، وهذا هو كل الخسارة؛ ولكنا بجانب ذلك نوفر مرتبات كاتب ومراقب ومفتش، ونوفر أزمانا طويلة تصرف في عمليات الجرد والحصر، وننشر الثقة بين المطالعين، ونشعرهم بأن المكتبة في حمايتهم هم وتحت إشرافهم، فننمي فيهم الشعور بالتبعة؛ فإذا كان هذا مكسبنا وهذه كل خسارتنا، فإلى النار هذه الكتب المفقودة، وخسئت عين كل من ينظر في عمليات الحساب إليها وحدها، ولا ينظرإلى كل هذه الأرباح التي ربحناها.
وهذا المثل الصغير يمكن تطبيقه تمام التطبيق على الأعمال الكبيرة في المصالح المختلفة. بل إني أشتري نشر الثقة بين الناس وتسهيل الأعمال، وشعور الناس بالطمأنينة بأي ثمن، بل لو أن التجارب دلت على أن ما نفقد من الأموال أكثر مما نربح إذا أسسنا النظم على أساس الثقة لاستمررت في تجربتي ونظريتي، وآمنت بوجوب الانتظار على هذا الأساس الجديد، حتى يذهب هذا الجيل الذي أفسده النظام القديم، وقضى على نفسه وعلى شعوره، ولأنتظر جيلا جديدا نشأ في أحضان «الثقة» والشعور بالواجب وبالتبعة وبالحرية في العمل في دائرة ضيقة من القوانين المعقولة.
وهكذا الشأن في جميع الأمور السياسية والاجتماعية؛ فثقة أفراد الحزب بعضهم ببعض - ولو مراعاة للمصلحة - أضمن للنجاح، وأقرب لتحقيق الغرض؛ وثقة الجمعية برئيسها، والرئيس بأعضائها - ولو تصنعا - أقرب لأن ينقلب التصنع خلقا.
وقد رأينا - دائما - أن العدوى في المعاني كالعدوى في المحسنات؛ فكما أن التثاؤب يبعث التثاؤب، والضحك يبعث الضحك، فكذلك الثقة تبعث الثقة، وعدمها يبعث عدمها. وبعد، فلا تزال ترن في أذني كلمة سمعتها من أستاذ إنجليزي كان في الجامعة: «إذا كنتم لا تريدون أن تولوا أموركم الأجنبي، ولا تمنحون ثقتكم المصري، فكيف تعيشون؟»
كيمياء الأفكار والعواطف
كان القدماء يفهمون من «الكيمياء» الإكسير المنشود الذي إذا عثر عليه وأضيف إلى الزئبق أو الفضة بكمية محدودة، تحت حرارة معينة، انقلب الزئبق أو الفضة ذهبا إبريزا.
وليس يعنينا هنا أن نبين ما أنفق الناس من جهد في الوصول إليه ثم لم يصلوا، ولا ما أنفقوا من مال وزمان في سبيل العثور عليه ثم لم يعثروا، ولا ما ملئت به كتب الفلسفة الإسلامية من جدل في إمكان ذلك أو استحالته.
إنما يعنينا هنا أن نقول: إن العلماء والأدباء نقلوا استعمال هذه الكلمة إلى المعاني بعد أن كانت مقصورة على المادة؛ فسمى «الغزالي» كتابا من كتبه «كيمياء السعادة» يعني بذلك الإكسير الروحي الذي إذا عثر عليه إنسان حظي بالسعادة.
وقد استعملها ابن الرومي استعمالا ظريفا في معنى قريب من هذا، فقال يهجو أبا الصقر:
عجب الناس من أبي الص
قر إذ ولي - بعد الإجارة - الديوانا
إن للجد كيمياء إذا ما
مس كلبا أحاله إنسانا
يفعل الله ما يشاء كما شا
ء متى شاء كائنا ما كانا •••
ثم سار الزمن الذي يغير كل شيء، فغير - فيما غيره - مدلول كلمة «الكيمياء» وجعله قسيما للطبيعة؛ فكما أن الطبيعة اختصت بدراسة الظواهر التي تغير صفات الأشياء ولا تغير جوهرها، اختصت الكيمياء بدراسة الظواهر التي تغير جوهر الأشياء، فاتسع مدلولها، وصار آخر ما تفكر فيه تحويل المعادن إلى ذهب إن كانت تفكر فيه.
والحق أن هناك كيمياء في الأفكار والعواطف تشبه تلك التي في المادة، إلأ أنها أعقد منها، وأصعب حلا، وأغمض اكتشافا. وإلى الآن لم توضع كتب - على ما أعلم - في كيمياء المعاني على كثرة ما وضع في كيمياء المادة، وإن كانت كتب علم النفس أحيانا تمس هذا الموضوع مسا رفيقا. •••
فلكيمياء الأفكار والعواطف فصول وأبواب لا عداد لها، قد ينطبق عليها في كثير من الأحيان فصول الكيمياء المادية وأبوابها؛ ففي كيمياء المعاني ترشيح وتبخير وذوبان كالتي في كيمياء المادة، وفيها تبلور وتقطير، وفيها عناصر ومركبات ومخاليط، وفيها أحماض وأملاح وقواعد، وفيها جزيئات وذرات لها أوزان وكثافات - ولها رموز وقوانين أدق من رموز الكيمياء المادية وقوانينها، ولها معادلات أصعب حلا وأبعد منالا.
هل علمت - مثلا - أن الماء يتكون من غازي الأوكسيجين والأيدروجين - بنسبة واحد من الأول واثنين من الثاني باعتبار الحجم؟ فكذلك الشأن في الأفكار والعواطف، فقد يكون لديك فكرة من نوع ما، أو عاطفة من نوع ما، ثم تسمع فكرة من محدث، أو تقرأ فكرة في كتاب، وتكون فكرتك من وزن خاص، والفكرة التي سمعتها أو قرأتها من وزن آخر، فتتحد هاتان الفكرتان، وتتولد منهما فكرة جديدة لا هي من النوع الأول وحده، بل هي نوع خاص، علاقته بالفكرتين كعلاقة الماء بالأوكسجين والأيدروجين.
وهل علمت أنك إذا ملأت قارورة ثلثها بالأوكسجين وثلثيها بالأيدروجين ثم قربت فوهتها من لهب تسمع لذلك دويا هائلا؟ كذلك الشأن في العواطف، فقد يكون لديك عاطفة من نوع خاص، ثم تسمع خطبة من نوع يناسبها فتتفجر نفسك لهذا الاتحاد انفجارا هائلا، وتحس نارا تملأ نفسك وتذكي حسك. أو ليس الغضب - يحمر وجه صاحبه وتنقدح عيناه، ويجعله يقذف الكلمات الحادة العنيفة، ولا تهدأ ثائرته حتى ينتقم - ضربا من ضروب هذا التفاعل الذي يشبه تفاعل الغازين؟ أوليست الحماسة - تدفع الجندي ليرمي بنفسه في خط النار، ولا يقيم للحياة وزنا - أثرا من آثار ما يسمع من كلمات القائد وما يشعر من جو وبيئة؟ أوليس الحب - يذيب النفس، ويرهف الحس، ويملأ القلب أسى حينا، وفرحا وغبطة حينا - إلا نوعا من هذا التفاعل دونه التفاعل المادي والاتحاد الكيمياوي؟
وكل ما ندرك من فرق بين التفاعل المادي والتفاعل الروحي أنا استطعنا أن نخضع المادة لبساطتها، فنحلل أجزاءها بالكهرباء أو ما أشبهها، ونقيس مقدار العنصرين أو العناصر المتحدة، ونعرف مقدار كل منها، ونرصد أثر التفاعل. أما في الأفكار والعواطف فليس الأمر بهذه السهولة، فلكل إنسان آراؤه وعواطفه، وهي تختلف فيما بينها كل الاختلاف، في جوهرها، وفي قابليتها لأفكار الآخرين وعواطفهم؛ فقد نلقي الكلمة على عدد محدود من الناس فنشعر بأن أثرها عند كل إنسان يخالف أثرها عند الباقين، كضوء النهار يفتح أعيننا ويغمض عين الخفاش؛ وقد يقرأ شخص كتابا فيزعم أنه غير مجرى حياته، وقلب تفكيره رأسا على عقب، وألهمه من المعاني ما استحال بها إنسانا آخر، وأحدث في نفسه ثورة فكرية لم يحدثها أي كتاب غيره، ويقرؤه إنسان آخر فلا يشعر هذا الشعور ولا قريبا منه، ولا يحس له ميزة ولا يجد له طعما. وهذا بعينه ما يحدث في الأجسام، تقرب عود ثقاب مشتعل من ورق فيشتعل، وتقربه من ثلج فيذوب، وتقربه من رخام فلا يشتعل ولا يذوب. وأؤكد لك أن الرواية تعرض في السينما أو تلقى في المسرح على عدد كبير من الناس تؤثر في كل ناظر بمقدار لا يتفق تماما وأثر الباقين، وإن كانت واحدة وممثلوها متحدين، فإن هناك عاملا آخر من عوامل الوزن مختلفا كل الاختلاف، وهو عواطف الناظر وآراؤه، وأن نتيجة التفاعل تختلف دائما باختلاف أحد الممزوجين المتفاعلين.
إن أردت التوسع في تطبيق هذه النظرية وجدت القول ذا سعة؛ فالبائع الناجح في المتجر ليس هو الذي يكثر الكلام أو يقل الكلام، وليس هو الخفيف الحركة ولا هو المهندم الثياب، وإنما هو الذي يعرف شيئا واحدا ويتقنه وهو «قانون التفاعل»، ينظر إلى المشتري نظرة نافذة فيعلم نفسه، ويعلم نواحيها، ويعلم المواضع الحساسة منها، ويعرف في مهارة نقط التأثر عنده، ومقدار الأثر، ثم يستعمل في العرض وفي الكلام ما يتفق وما درسه من نفس المشتري، وإذا الذي يصدر من البائع مناسب لنفس المشتري ومنفعل معها على نحو خاص، وإذا الصفقة قد تمت في سهولة ويسر، على حين أن زميله ومن بجواره لا يبيع مثل بيعه؛ لأنه يخطىء في فهم نفس المشتري، فيتفاعل تصرفه تفاعلا عكسيا مع نفس المشتري، فيتفاعل تصرفه تفاعلا عكسيا مع نفس المشتري، فينتج من ذلك نوع من الغضب أو نوع من الغضاضة ينتهي عادة بالإعراض عن الشراء. فإن سألت: كيف جهل هذا وعلم ذاك، وأين درس أحدهما ولم يدرس الآخر فنجح الدارس وفشل الجاهل؟ قلت: إن هذا الدرس لا يتعلم في المدرسة، وإنما يتعلم في السوق، وتعلمه من حسن استعداده الفطري وغريزته الطبيعية، بل إن شئت طبقت هذه النظرية على كل ناجح وفاشل في الحياة، فالمدرس الناجح من استطاع أن يتعرف نواحي تلاميذه ويعرف ما يلقى وما لا يلقى، وما يقال وما لا يقال، ويصدر عنه ما يتفاعل وهذه النفوس، فيصدر من ذلك التفاعل عطف وحنان وحب، ورغبة في المعلم، ورغبة في علمه، ورغبته فيما يقول، وتأثير بما يشير إليه.
وما الأسرة السعيدة؟ وما الأسرة الشقية؟ أليست السعيدة من عرفت فيها الزوجة نفسية زوجها والزوج نفسية زوجته، وعمل كل منهما على أن يصدر منه ما يتفاعل ونفس الآخر حتى ينتج هذا التفاعل تآلفا، فإذا انحرف أحدهما عن هذا الوجه عن جهل أو عن علم ساء البيت ونشأ تفاعل من جنس آخر نتج عنه البغض والكراهية والشقاق.
الحق أن هذه كلها معادلات في الكيمياء النفسية تشبه تمام الشبه المعادلات الكيمياوية التي تجرب في المعمل. ومع الأسف لم يصل الناس إلى حد بعيد في دراسة الكيمياء النفسية، ولم ينشئوا لها المعامل الناجحة نجاح المعامل الكيمياء المادية. والخطأ في النفس كثير الوقوع لصعوبة تعرف الذرات النفسية وتكوين المعادلات الدقيقة.
وإذا أدرك الإنسان هذا التفاعل واختلافه ودقته أدرك خطورته، وخاصة فيمن يتصل مركزه بنفوس كثيرين كالصحفي والأديب، والمعلم والخطيب، والزعيم؛ فقد يصدر عنه ما ينفعل ونفوس الناس فيكون سما ناقعا، وقد ينتج عنه ما يكون دواء ناجحا.
في الحر
اشتد الحر وشغل الناس بالتفكير فيه، وبطرق التغلب عليه، وبالتأفف منه؛ فهذا يدبر المال للإقامة في مصيف فيوفق ويرحل، وهذا لا يواتيه المال فيقيم على مضض، وهذا نزاع عائلي بين ميزة الاصطياف في أوروبا والاصطياف في الإسكندرية، وهذا غني أفلس يأتي عليه الحر فيذكره بأيام هنيئة قضاها في أجود المصايف وأنزه الأماكن، فتجتمع عليه لذعة الحر ولذعة الذكرى - وهذا بائع مرطبات والمبردات يسأل الله أن يزيد في الحر حتى يكثر من بيعه، ويزيد ربحه، وهذا يرقب درجة الحرارة من حين لآخر ليعلم أتحسن الجو أم ساء، وهو يتبع المقياس في رضاه وسخطه، وهذا يقرأ نشرات مصلحة الطبيعيات ليقارن بين القاهرة والإسكندرية، والقاهرة وبورسعيد، فإن كان في الإسكندرية رثى لمن في القاهرة، وإن كان في القاهرة حسد من كان في الإسكندرية؛ وإن كان في أسيوط عزى نفسه بقلة الرطوبة وجفاف الهواء؛ ومن كان في مصر كلها حمد الله على أنه ليس في أمريكا حيث يختنق الناس - وهذه شغلها التفكير في المقارنة بين حمام ستانلي وسيدي بشر: أيهما أكثر ناسا، وأنظف مرتادا، وأحسن للعرض وأمتع للنفس. وهذا يرتقب غروب الشمس التي تكويه بنارها ليخرج إلى الجزر والأنهار والمقاهي المفتوحة والملاهي في الجو الطلق، فينتقم في ليله من نهاره - وهذا وهذا وهذه وتلك، مما لا يعد ولا يستقصى؛ ولكن لا بد من «هذه» أخرى أنسيتها، فهذا كاتب وشاعر شغله الحر من ناحية أخرى، فهو يريد تشبيها جميلا للحر أو تعبيرا بليغا، فيقول: هذا الجو أحر من الرمضاء وأحر من دمع الصب، وأحر من قلب العاشق، ومن فؤاد الثاكل؛ ثم لا تعجبه هذه كلها فيريد تشبيها مخترعا، أو عبارة مبتكرة، أو استعارة بديعة، فيسبح في الخيال، وينسى الحر، وهي حيله لطيفة للتخلص منه!
أما أنا فقد ضايقني الحر وحرت بين مصر والإسكندرية، تؤلمني الأول بحرها القاسي، وتؤلمني الثانية برطوبتها الثقيلة، ووددت أن لو كان لي من المال ما يمكنني من أن أطير صباحا فأقضي النهار في الإسكندرية، وأطير مساء فأقضي الليل في القاهرة.
وأخيرا رأيت أن أهرب من الحر حينا بالتفكير في الكتابة فيه، وقلت: إنها فرصة جميلة أن أكتب في الحر، فإن خرج المقال قيما ممتلئا حرارة وقوة ربحت ربح المحسن في عمله - وليس لي كبير أمل في ذلك - وإن خرج المقال باردا أكون قد أحسنت إلى الناس فرفهت عليهم، وانتقمت من الحر، وأعنتهم عليه؛ وأي فرصة للكاتب خير من هذه؟ يحسن إذا أحسن، ويحسن إذا أساء، وللإنصاف لا بد أن أعلن أني لست مبتكرا لهذا المعنى، إنما أخذته من نادرة لها اتصال بالحر، فقد أنشد بعضهم بيتا من الشعر فقال سامعه: إن هذا البيت لو طوح في نار المتنبي لأطفأها، ويريد ببيت المتنبي قوله:
ففي فؤاد المحب نار جوي
أحر نار الجحيم أبردها
فكذلك أردت أن أثأر لنفسي وللناس من حر هذا العام بكتابة مقالة تطفئه، وأخشى ما أخشاه أن تخرج فاترة، لا بالحارة فتعجب، ولا بالباردة فتطفىء. •••
أول ما خطر لي في الحر أني الآن لابس ثوبا أبيض واسعا فضفاضا، مكشوف الرأس عاري القدمين، جالس في حديقة، وأشجار عن يميني وأشجار عن يساري، وحوض زاهر أمامي، وقد رشت الأرض من حولي، وبجانبي إناء مما يحفظ فيه الماء مثلوجا، لا أدري ما اسمه بالعربية؛ وكل شيء حولي يرطب الجو ويلطفه ويعدله، وأنا مع هذا كله برم بالحر، ضيق الصدر، مغيظ محنق، أتلمس أقل سبب، لأعلن الغضب - وعلى البعد مني أصوات ترتفع بالنداء، هذه تحمل قفصا مملوءا بالفراخ، وهذا يجر عربة ملئت بأصناف الخضر، وهذا ثالث يحمل على رأسه سفطا كبيرا قد ملىء بالتين أو العنب، وهو سائر طول نهاره في هذا القيظ ينادي، ولا يعبأ بشمس ولا حر، ولا يضجر كما أضجر، ولا يألم كما آلم، ولا يفكر في الحر كما أفكر - أليس في الأرض عدل؟ أليس الشقاء قد أكسبه مناعة وقوة؟ أوليست الرفاهية والمدنية والنعيم قد حرمتني الجلد والاحتمال؟ إنه ليسعد بما أشقى به، إنه ليسعد بشربة ماء من كوز من حنفية، ويسعد بالارتماء في ظل بيت في الشارع بعد أن أعياه التعب وأضناه السير، ويسعد بقرش يكسبه ليشتري به خبزا جافا يأكله فينعم به. إن كانت السعادة في اللذة والطمأنينة وهدوء البال، فمما لا شك فيه أن هناك مجالا للتفكير العميق «أينا أسعد». وتبا للعيش الناعم، والمدنية المعقدة، والرفاهية المترفة، التي أرهفت حواسنا وإحساساتنا، وأفقدتنا الصبر واحتمال المكاره، وجعلتنا نفر من نعيم إلى نعيم أدق منه نظن فيه السعادة، وما السعادة إلا في العيش البسيط والمران على الجلد، واحتمال ألوان الحياة وصنوف التعب، وأقلها الحر والبرد. إن تحتمل الحر فلا حر، وإن تحتمل البرد فلا برد، وإن تعتد بساطة العيش تكره نفاق المدنية. وإن السعادة لخير ما يحقق مذهب «أنشتين» في النسبية، فكل شيء في الحياة من لذة وألم نسبي؛ وليست اللذة والألم يعتمدان على الشيء الخارجي فحسب، بل هما نتيجة تفاعل بين الشيء الخارجي والنفس، ويختلف هذا التفاعل اختلافا كبيرا باختلاف النفوس؛ فليس الألم من الحر والبرد يعتمد على درجة الحرارة وحدها، إن صلح الترمومتر أن يكون مقياسا لحرارة الجو، فلا يصلح أن يكون مقياسا لألم النفس من الحر، وليس لهذه الحال ترمومتر مشترك يتساوى فيه الناس، إنما لكل إنسان في الألم من الحر والبرد ترمومتره الخاص، وكذلك ترى من يموت من الحر، ومن يموت من الضحك على الحر. ومن الغريب أن يتوجه كل الناس بكل مجهودهم للتخلص من الحر بالاصطياف وسكنى الشواطىء والمراوح والمرطبات، ولا يبذلون أي جهد في الناحية الأخرى وهي الناحية النفسية بترويضها وتمرينها على الاحتمال، وتعويدها الصلابة! وهذا في نظري ليس أقل شأنا ولا أصغر قيمة من العلاج الأول. •••
وخطر لي أن علماء الجريمة يذكرون أن هناك أنواعا من الإجرام تكثر في الصيف كالإجرام الجنسي، وأنواعا تكثر في الشتاء كإجرام السلب والنهب، فقلت: لعل ذلك أيضا في الأدب، فالأدباء يهيج بعضهم على بعض صيفا أكثر مما يهيجون شتاء، ويهيجون في القاهرة أكثر مما يهيجون في الإسكندرية؛ إن شئت مصداق ذلك فانظر ما كان بين من يسمونهم أدباء الشيوخ وأدباء الشباب، وانظر ما كان بين أدباء الشيوخ بعضهم وبعض، وأدباء الشباب بعضهم وبعض، أليس هذا كله فعل الحر؟ أوليس من كان في الإسكندرية على شاطئ البحر كان يعجب من فعل الحر في أدباء القاهرة؟ ولئن كان الحر يؤاخذ على ما جنى من تعريض العلاقات بين بعض الأدباء لخطر، فإنه يشكر على أنه استطاع أن يستخرج من الأدباء قطعا فنية بديعة أكملت أبواب الأدب، فإن القدماء قد عدوا من أبوابه باب الهجاء كما عدوا باب المديح - كما أنه يشكر إذ لم يسلط ناره الحامية على الأدباء طويلا، فقد حول عدسته إلى غيرهم ليتنازعوا، فنجا الأدباء من ثورته، وهدأت عواطفهم وتصافت نفوسهم. •••
وأخيرا خطرت لي محمدة جليلة للحر القائظ، والبرد القارس، وقلت: إن هذه المحمدة تفوق كل ما كان للحر والبرد من سوء، ولولاها ما تقدمت الإنسانية. وما رقي النوع البشري هذا الرقي، ولظل هائما على وجهه كالوحوش؛ ذلك أن الشمس بنارها اللافحة، والحر بشدته اللاذعة، والبرد بحدته القاسية، وأمطاره المنهمرة، وببرده وثلوجه، والطبيعة العنيفة بعواصفها ورياحها، كل ذلك هو الذي ألجأ الإنسان قديما إلى أن يبحث له عن ملجأ يأوي إليه من الحر والبرد، فسكن الكهوف في نشأته الأولى، وظل يرتقي في ضروب من الارتقاء حتى أسس البيت، وأسس الأسرة، وكونت الأسر القبائل والمدن، وكونت هذه القبائل الأمم؛ ثم تعاونت الأمم على ترقية النوع الإنساني، فلولا الحر والبرد ما أظن أن قد كان بيت، ولولا البيت ما كانت الأسرة، ولولا الأسر ما كانت أمم. أليس الحر والبرد إذا كان أفعل في ترقية النوع الإنساني من كل مظاهر الحياة وظواهر الكون؟ فإذا قلنا: إن تقدم النوع البشري مدين في تقدمه لرداءة الجو، وشدة الحر والبرد، لم نبعد. •••
خطر لي كل هذا حينما حاولت أن أكتب في الحر فبدأ الضجر يقل، والألم يحتمل، والنفس تهدأ، والعاصفة تسكن، والاحتمال يقوى. فهل هذا يستمر؟ سأجرب.
على كل حال قد هزئت بالحر ونسيته - ولو إلى حين - بكتابة مقال فيه.
الشخصية
أعجب ما في الإنسان شخصيته، وقد تنوعت الشخصيات بعدد ما على الأرض من أشخاص، فترى الشبه الكبير بين الحجر والحجر، حتى يصعب عليك أن ترى بينهما فرقا، وترى المطبعة تخرج آلافا من الكتب تتشابه وتتماثل، لا تميز بين أحدهما والآخر، وترى الشبه كبير بين الوردة والوردة في رائحتها ولونها وكل شيء فيها، وترى الحيوانات من فصيلة واحدة تتشابه وتتقارب حتى ليلتبس بعضها ببعض. أما الإنسان والإنسان فلا، حتى ليكاد يكون كل إنسان فصيلة وحده؛ فإن كان علماء «الأثنولوجيا» استطاعوا أن يقسموا الإنسان إلى أنواع، وأن يضعوا لكل نوع خصائصه ومميزاته، فذلك عمل تقريبي محض؛ أما إن أرادوا الدقة التامة فلا بد لهم أن يضعوا كل فرد في قائمة وحده، له مميزاته الخاصة في جسمه وعقله، وروحه وخلقه؛ فإذا أردنا أن نحصي الشخصيات في هذا العالم فعلينا أن نحصي عدد الناس فنضع ما يساويه من عدد الشخصيات - وكانت اللغة عاجزة كل العجز عن أن تضع لكل شخصية اسما خاصا، فاكتفت في الجسم بأن تقول: طويل أو قصير، وسمين أو نحيف، وأبيض أو أسمر؛ مع أن كل كلمة من هذه تحتها أنواع لا عداد لها، فهناك آلاف من أنواع الطول، وآلاف من أنواع القصر، وآلاف من الألوان؛ ولكنها عجزت فقاربت، ولو حاولت أن تضع اسما خاصا لكل نوع من الأنواع العيون وحدها، على اختلافها في الألوان، واختلافها في النظرات، واختلافها في السحر، واختلافها في السعة والضيق لوضعت في ذلك معجما خاصا، وهيهات أن يغنيها.
وعجز علماء الجمال فاكتفوا بقولهم: جميل وقبيح، مع أن هناك آلافا من درجات الجمال، وآلافا من درجات القبح، بل إنك لا تستطيع أن تنزل إنسانين في منزلة واحدة من الجمال والقبح، فلما أعياهم الأمر قنعوا بقبيح وجميل، واكتفوا بالإجمال عن التفصيل.
وعجز علماء الأخلاق فوقفوا في ذلك مثل موقف إخوانهم علماء الجمال، فقسموا الأعمال إلى خير وشر، وقسموا الصفات إلى فضيلة ورذيلة، وسموا الإنسان خيرا أو شريرا، وهيهات أن يكون ذلك مقنعا، فالخير والشر يتنوع بتنوع الأفراد، ولو كان للأخلاق ميزان دقيق لاحتاج إلى نسج بعدد ما في العالم من إنسان.
الحق أن علماء كل علم عجزوا عجزا تاما عن أن يجاروا الشخصيات في كل مناحيها، وأن يسيروا وراء تحديدها تفصيلا، ووجدوا العمر لا يتسع لهذا ولا لبعضه، فعنوا بوجوه الشبه أكثر مما عنوا بوجوه الخلاف، وعنوا بالموافقات أكثر مما عنوا بالفروق، وفضلوا أن يضعوا مسميات شاملة، وإن شملها الخطأ، وأن يضعوا قواعد عامة، وإن عمها الغموض والإبهام، وقالوا: ليس في الإمكان أبدع مما كان. •••
هذه الشخصية لكل فرد هي التي ميزته عن غيره من الأفراد، وجعلتني أنا أنا، وأنت أنت، وهو هو؛ ولولا هذه الشخصية لكان أنا وأنت وهو شيئا واحدا. هذه الشخصية هي مجموع صفاتك الجسمية والعقلية والخلقية والروحية، تتكون من شكلك ونظراتك ونبراتك ، وطريقة حديثك، ودرجة صوتك من الحسن أو القبح ، وإيمانك وإشارتك، كما تتكون من عقليتك وكيفية قبولك للأشياء، وحكمك عليها ومقدار ثقافتك - كما تتكون من تصرفاتك، وموقفك نحو المال، ودرجة حبك له، وعلى الجملة كل علاقتك بالحياة، وكل علاقة الحياة بك. وإذ كان الناس مختلفين في هذا كله اختلافا يسيرا أو كثيرا كانت الشخصيات كذلك مختلفة، وبين بعضها وبعض وجوه شبه في بعض الأشياء، ووجوه خلاف في بعضها، وكانت بعض الشخصيات تتجاذب وتتحاب وتتباغض وتتنافر. وفي الواقع أن معنى أحبك أو أبغضك، وأعرفك أو أنكرك، أن شخصيتي تحب شخصيتك أو تكرهها، وتعرفها أو تنكرها، وصدق الحديث: «الأرواح جنود مجندة، ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف». وليس معنى حب الشخصية لشخصية أخرى أن الشخصيتين من جنس واحد، وأن ميولها متقاربة، بل إن ذلك يرجع إلى قانون أكثر تعقيدا مما نظن؛ فقد يتحاب الشخصان؛ لأن ميلهما العلمي في اتجاه واحد، أو ميلهما إلى كيف من الكيوف متحد، وقد يتحاب الشخصان؛ لأنهما مختلفان ويكمل نقص أحدهما الآخر، كما يحب أحيانا كثير الكلام قليل الكلام، وكما يحب الساكن الهادىء المتحفظ المرح النشيط المتحرك، وكما تتعاشق الكهربائية السالبة والموجبة.
على كل حال ليس قانون تجاذب الشخصيات وتنافرها قانونا بسيطا سهلا يمكن الفصل فيه بكلمة. •••
هذه الشخصيات الإنسانية تختلف قوة وضعفا اختلافا أكثر مما بين الآلات الميكانيكية والمصابيح الكهربائية، فهذه شخصية عاجزة ضعيفة ذليلة، لا يكاد يتبينها الإنسان إلا بعسر، ولا يكاد يراها إلا بمنظار، ولا يكاد يحسها إلا بمجهود، هي «كاللمبة» قوتها شمعة واحدة، بل هي فوق ذلك مغبشة لتضعف قوتها، هي من جنس ما يستعمل في حجر النوم، نور كلا نور؛ ووجود كعدم؛ لا تتعب نظر النائم لأنه لا يشعر لها بوجود، ولا تستهلك مقدارا يذكر من التيار؛ لأنها كامنة الحياة، مسكينة في فعلها وانفعالها، ضعيفة في تأثيرها، وهذه شخصية أخرى قوتها ألف شمعة أو ألفان أو ما شئت من قوة، تضيء فتملأ البيت نورا، بل هي أكبر من أن تضاء في بيت ، إنما تضاء في شارع كبير أو ساحة عامة ، إذا وضعت في البيت أقلقت راحة أهله بقوتها، وأعشت الناظر بضوئها، وعد وضعها غير ملائم لجوها، وكان مثل ذلك مثل من وضع «فنارا» في بيت أو أشعل أكبر وابورا ليصنع عليه فنجان قهوة - وبين اللمبة الأولى الضعيفة الخافتة، والثانية القوية الباهرة درجات لا تحصى، فكذلك الشخصيات بل أكثر من ذلك. ولكن هناك فروقا بين الشخصيات واللمبات، أهمها أن اللمبة الكهربائية لا يمكنك أن تنقلها من قوة إلى قوة، فاللمبة التي قوتها شمعة واحدة هي كذلك أبدا، والتي قوتها مائة أو مائتان هي كذلك أبدا، وكل ما تستطيع أن تفعله أن تنظف اللمبة وتجلوها حتى لا يضعف غبش من قوتها، ولا يقلل غبار من ضوئها. أما الشخصية الإنسانية فقابلة للتحول، بل هي قابلة للطفرة صعودا وهبوطا، علوا وانحطاطا؛ فبينا هي خاملة ضعيفة إذ اتصل بها تيار قوي أشعلها وقوها حتى كأنها خلقت خلقا آخر، وكأنه لا اتصال بين يومها وأمسها، هي اليوم مخلوق قوي فعال يلقي أشعته إلى أبعد مدى، وكانت بالأمس لا يؤبه بها، ولا يحس بضوئها. كذلك ترى شخصيات أخرى يخبو ضوؤها، فإذا هي مظلمة بعد نور، وضعيفة بعد قوة، ليس لها من حاضرها إلا ماضيها. وكذلك شاء الله: يخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي، ويخلق الإنسان في أحسن تقويم، ثم يرده أسفل سافلين. وتاريخ الإنسان مملوء بالأمثال، فكم من نابغ بعد خمول، وخامل بعد نبوغ، وميت في الحياة الأدبية والاجتماعية حي، وحي مات؛ وهكذا شخصيات الناس في مد وجزر دائما.
وهذا التغير المستمر في الشخصيات هو الذي أبقى على أمل المصلحين في إصلاح الناس، وباعد بينهم وبين اليأس. •••
وكل شيء يواجه الإنسان في حياته يؤثر في شخصيته أثرا صالحا أو سيئا؛ فالغنى بعد الفقر، والفقر بعد الغنى، واليأس بعد الأمل، والأمل بعد اليأس، وما يعتريه من شدائد وكوارث، وما يبذله في صراع الحوادث، وما يلاقيه من رخاء ونعيم، وما يبعثه ذلك من هدوء واطمئنان - كل هذا وأمثاله له أثرا في تكوين الشخصية يختلف ضعفا وقوة. وأهم غرض للتربية الصحيحة في نظري أن تجعل ممن تربيهم شخصيات هي أقوى ما يمكن أن يكون الأشخاص من حيث استعدادهم وأهليتهم؛ فأنجح مربي هو الذي يستطيع أن يصل بطلبته إلى أقصى ما في استعدادهم من رقي، ويبلغ بشخصياتهم إلى آخر حدودها الممكنة؛ ولكن بجانب هذا التأثير العادي اليومي تحت حوادث بارزة في تاريخ الإنسان وخاصة العظماء، يكون لها الأثر البالغ والتغيير الخطير؛ وهذه الحوادث يصعب ضبطها وتعليلها وحصرها؛ فقد تنقلب شخصيات الأفراد فجأة على أثر عقيدة دينية تملأ نفوسهم حماسة وقوة وعظمة، كما رأينا في فعل الإسلام في رجاله أمثال عمر بن الخطاب وخالد بن الوليد؛ فلولا الإسلام ما كانت لهم هذه الشخصيات البارزة، ولكانت عظمتهم محدودة محصورة، ولو سبقوا زمنهم سنين لماتوا كأمثالهم من عظماء الجاهلية. وقد يكون بروز الشخصية وظهور النبوغ في الإنسان على أثر مقابلته عظيما، فيحس بعدها كأن عود ثقاب أشعل في نفسه فألهبها، وأضاء ما بين جوانبه وحفزه للعمل، وهون عليه الأخطار؛ بل قد تكون العظمة نتيجة لشيء أتفه من ذلك، فقد يقرأ جملة في كتاب، أو يسمع عبارة من خطيب، فكأنها كانت مفتاح عظمته، وكاشف حيرته؛ بل قد تكون العظمة لم تأت من شيء خارجي، وإنما أتت من تفكير الشخص في نفسه وتحليلها وتبين موقفها في العالم، وموقف العالم منه، وتساؤله لها: ما رسالتها إلى العالم وكيف تؤديها - فإذا هو يشعر بعد طول تفكير كأن قبسا من نور إلهي ألهب نفسه، وأضاء العالم أمامه، فهو يسير على هدى، ويؤدي رسالته كما بلغ، إلى كثير من أمثال هذا مما لا يستطاع حصره.
ويظهر أن النفوس إذا نضجت تلمست الوسائل المختلفة لبروزها، وظهور عظمتها. والصوفية يقولون: «صاحب الخصوصية لا بد أن يظهر يوما ما». ولكن كم في العالم من شخصيات كامنة، لو هيىء لها عود ثقاب لاشتعلت، ولو أتيح لها القبس لأنارت! وكم من بذرة صالحة قوية لم تجد تربتها اللائقة بها، فغلبتها على الحياة بذرة فاسدة! وكم من زهرة بدأت تتفتح فأصابتها ريح هوجاء عصفت بها. وعمل المصلحين والشخصيات القوية في كل أمة أن يستكشفوا هذه الكوامن فيقدموا لها الغذاء، ويتعهدوها بالنماء.
ثروة تضيع
هي ما خلفها لنا الجيل الماضي القريب، وتسلمناها منه يدا بيد، ولست أعني ما خلفه من شعر ونثر وكتب في مختلف العلوم والآداب، فهذه قد حفظناها ونشرنا بعضها وعنينا بها إلى حد ما؛ إنما أعني ما صدر عنهم من قول وعمل، وما كان يدور في مجالسهم من حديث ظريف أو نافع، وما وقع لهم من أحداث وكيف تصرفوا فيها، وأنماط مجالسهم وأحاديثهم ومجتمعاتهم، ونحو ذلك مما يدلنا على حقيقة شخصيتهم، ويفيدنا في تعرف مجتمعهم. ويعين المؤرخ بعد على رسم صورة صحيحة صادقة لحال المجتمع في ذلك العصر وقدر نابغيه.
كان لعلي باشا مبارك «صالون» كبير في بيته بشارع «المظفر» يغشاه عظماء الرجال والشبان وطلبة المدارس، وكان يدور فيه كل ليلة من ألوان الحديث وشتى المقترحات ما ينبغي أن يسجل، ومثل ذلك في منزل عبد الله باشا فكري ومحمد باشا قدري ورفاعة بك وأمثالهم؛ وكان نوع أحاديثهم ومباحثاتهم شائقا ممتعا يصور عصرهم خير تصوير؛ ثم كان صالون كصالون الأميرة نازلي هانم «بعابدين» يختلف إليه قادة الفكر وعظماء الرجال في العصر القريب، يتحدثون فيه عن الشرق والغرب، وتثار فيه أفكار لها قيمتها وخطرها، وكان نمطهم في أحاديثهم وتفكيرهم يخالف ما كان عليه رجال علي باشا مبارك وأمثاله. وكان غير هذه الصالونات مجتمعات وأحاديث ونوادر وفكاهات في البيئات المختلفة، من بيئة فلسفية كبيئة السيد جمال الدين، أو دينية اجتماعية كبيئة الشيخ محمد عبده، أو فكاهية كبيئة الشيخ حسن الآلاتي، أو بيئة المغنين أمثال عبده الحامولي ومحمد عثمان، وكان يجري في جميعها أقوال وأفعال هي أدل على الذوق المصري والتفكير المصري والخلق المصري من كل ما خلفوا من مؤلفات ومجلات وصحف.
هذه الثروة التي لا تقدر آخذة - مع الأسف الشديد - في الضياع، وليس يدون منها - فيما أعلم - شيء يذكر، وأكثر اللذين عنوا بترجمة هؤلاء الرجال أساءوا إليهم وإلى التاريخ كل الإساءة، إذ كانت ترجمتهم «ترجمة رسمية» اقتصروا فيها على اسم المترجم له والمولد وتاريخ الولادة، والمعاهد التي تعلم فيها والأعمال التي تولاها، والكتب التي ألفها وغير ذلك مما يعد من الأعراض فأما الجوهر، وأما شخصية الرجل، وأما حياته الاجتماعية التي تدلنا على من هو من قومه، ومن هو في نفسه، فلا يعرضون لها بشيء. وقد كان السابقون الأولون - على تقدم عصورهم - أصح نظرا، وأحسن أداء وأوفى للتاريخ؛ فبين يدي الآن جزء من كتاب الأغاني فتحته حيثما اتفق، فوقع نظري على ترجمة إبراهيم الموصلي، فذكر نسبه ونشأته، وذكر حكايات عدة حدثت له مع غلمانه وجواريه وأصحابه، وما وصل إليه من الأموال وما ورثه أهله، وأحاديث عن مروءته، وأحداثا حدثت له مع الرشيد ويحيى بن خالد، وكيفية تعليمه الغناء للجواري، واتصاله بالخلفاء وسيرته معهم، وعدد الأدوار التي غناها، وعشقه ومن عشق، وأثر أصواته في الناس، إلى آخره مما يستطيع الأديب أو المؤرخ أن يضع له صورة دقيقة تمثله، ويضع لمجتمعه، ويضع لمجتمعه رسما واضحا يبينه. وبين يدي كذلك الجزء الأول من كتاب جامع التواريخ المسمى «نشوار المحاضرة» للتنوخي، يقول في سبب تأليفه: إنه قد اجتمع قديما مع مشايخ فضلاء، علماء أدباء، قد عرفوا أحاديث الملل، وأخبار الملوك والدول، وأحاديث البخلاء والظرفاء، والعلماء والفلاسفة، والأغنياء وقطاع الطرق والمتلصصين، (وعدد كل أصناف الناس) وكانوا يوردون كل فن من تلك الفنون على حسب ما تقتضيه المحادثة، وتبعثه المفاوضة، فلما تطاولت السنون، ومات المشيخة الذين كانوا مادة هذا الفن، ولم يبق من نظرائهم إلا اليسير الذي إن مات ولم يحفظ عنه ما يحكيه، مات بموته ما يرويه، عمد من أجل ذلك إلى تدوين هذه الأحاديث في كتابه، والتزم أن يذكر فيه فقط ما يدور في المجالس مما لم يذكر في كتاب - يقرؤه القارئ فيجده يصور عصره أجمل تصوير. وكتب الجاحظ لم تترك صغيرة ولا كبيرة من أخبار عصره وأحداثه الاجتماعية من الخصيان والغلمان، والبخلاء والظرفاء، والنبات والحيوان، إلا أحصته وشرحته في دقة وإسهاب .
وما لنا نذهب بعيدا والعصر الذي نسميه مظلما أنتج مثل «الجبرتي» الذي دون من الأحداث وتاريخ الرجال في عصره ما لم نفعله نحن في عصرنا.
أما كتبنا نحن فقد عمدت إلى خيرها وأخرجت منه ترجمة رفاعة (بك)، فوجدته يسرد ولادته وتاريخها والمدارس التي دخلها ورحلته إلى أوروبا، والوظائف التي تولاها بعد عودته، وأسماء الكتب التي ألفها أو ترجمها، وسنة وفاته. ولكنك تتساءل بعد قراءتها: من رفاعة (بك)؟ ما معيشته الاجتماعية؟ ما شخصيته؟ ما علاقته بقومه؟ فلا تجد شيئا من ذلك - هذا حال رفاعة (بك) الذي ملأ اسمه كل مكان، فما بالك بأمثال المغمورين ظلما، أمثال الشيخ حسن الطويل والشيخ حسين المرصفي.
بل بالأمس القريب مات حافظ إبراهيم، وكانت حياته الاجتماعية أغنى ما تكون حياة، كل ليلة يغشى جمعا أو يغشى بيته جمع؛ فيملأ المجلس بأحاديثه العذبة، وفكاهاته الحلوة، وهي - في كثير منها - تفوق ما دونه الأقدمون من ملح ونوادر؛ ولعلها إن جمعت ودونت أفادت تاريخ الأدب وتاريخ الاجتماع أكثر مما يفيده ديوانه، ومع هذا لم ينشط أحد لتدوينها، ولم يلتفت لقيمتها، وسيعفى عليها الزمن الذي عفى على ملح المويلحي والبابلي، وفي ذلك خسارة لا تقدر. ولقد حدثت بعض الأدباء في ذلك ورجوته في هذا العمل، فاعتذر بأن أكثر النوادر إنما تحسن إذا أديت باللغة العامية. وتفقد قيمتها إذا حكيت باللغة الفصحى؛ ولكن ما هذا الكبر على اللغة العامية، والسابقون من أعلام الأدب لم يكونوا يتحرجون من ذكر النادرة الحلوة باللغة العامية، إذا لم يحسن الأداء إلا بها، كما فعل الجاحظ في البيان والتبيين، وابن زولاق في أخبار سيبويه، والأبشيهي في المستطرف.
إن في ذمتنا للجيل القادم عهدا أن نسلم إليه تاريخه كاملا متصل الحلقات كما تسلمناه؛ فإذا نحن لم نفعل فقد أضعنا الأمانة وخنا العهد. وفينا بحمد الله رجال شهدوا الجيل الماضي، وكان لهم من المنزلة ما استطاعوا معها أن يخالطوا البيئات المختلفة، ويطلعوا على خفاياها ودخائلها، ولهم من الذكاء وحسن النظر وصدق الرواية وقوة الحافظة وبلاغة اللسان والقلم. ما يمكنهم من الأداء على أحسن وجه، أمثال الهلباوي ولطفي السيد وعبد الوهاب النجار، والسيد محمد البيلاوي؛ فهل يشاركوننا في الشعور بما لديهم من ثروة حافلة، ووفي الشعور بما عليهم من تبعة، فيقدمون للجيل الحاضر والقادم أثمن عمل تاريخي، كما فعل أحمد باشا شفيق؟ فإن لم يفعلوا فهل للشبان أن يدركوا قيمة ما عندهم فينشطوا للاتصال بهم، وتدوين ما يأخذون عنهم، قبل أن تضيع الثروة. وتفلت الفرصة؟ أطال الله في أعمارهم.
النقد الأدبي
أوازن بين النقد من نحو عشرين عاما والنقد الآن، فأجده ليس خاضعا لسنة النشوء والارتقاء، بل لسنة التدهور والانحطاط، حتى وصل إلى حالة من العجز يرثى لها.
فقد كان الكتاب إذا ظهر هبت الصحف والمجلات لعرضه ونقده؛ فاللغوي ينقده نقدا لغويا، والمؤرخ ينقده نقدا تاريخيا، والأديب ينقده نقدا أدبيا؛ وتثور معركة حامية بين أنصار الكتاب وأعداء الكتاب، وتظهر في التأييد والتفنيد مقالات ضافية، وبحوث عميقة شائقة. ولست أنسى ما كان يقوم به الأستاذ إبراهيم اليازجي من نقده «لمجاني الأدب» و«أقرب الموارد» ونحوهما من الكتب، كما لست أنسى ما نقد به كتاب «التمدن الإسلامي» والأخذ والرد اللذين قاما حوله؛ وكان شوقي أو حافظ يقول القصيدة، فيقوم ناقد معترض يبين معايبها، ومادح مقرظ يبين محاسنها؛ ومن هذا وذاك يستفيد الأديب، ويرقى الأدب، وتتجلى حقائق كانت خافية، وتتهذب أذواق كانت نابية. وكان يؤلف الكتاب الديني مثل كتاب «الإسلام وأصول الحكم» فتنشب معارك حامية، وينقسم المفكرون إلى معسكرين، وفي كل معركة شحذ للأذهان ودرس للمتعلمين، وتمحيص للحقائق. قد كان في نقدهم أحيانا هجر وقذع، وهجو وسباب؛ ولكن كان بجانب ذلك حقائق تذاع وبحوث تنشر؛ وكان كل من السباب والنقد العفيف علامة حياة أدبية، وثورة فكرية، وعقل باحث، وقلم نشيط.
تعال فانظر معي الآن إلى ما وصلنا إليه! لقد كثرت الكتب يخرجها المؤلفون وأصبح الإنتاج الأدبي أضعاف ما كان، في كل ناحية من نواحي الأدب، من قصص وقصائد وموضوعات اجتماعية، وكتب تاريخية؛ وكثر الكلام في الأدب، وخصصت أكثر الصحف صفحات للمقالات الأدبية ؛ وكان معقولا أن يساير النقد هذه الحركة فيرقى معها، ويتسع باتساعها، وتتعدد نواحيه بتعددها، ولكن كان من الغريب أن تحدث هذه الظاهرة، وهي رقي الأدب وانحطاط النقد.
نعم، أعتقد أن الأدب العربي ارتقى عما كان عليه منذ عشرين سنة في جملته لا في كل ناحية من نواحيه، فقد يجوز أننا لم نجد من يخلف «شوقي» و«حافظ» في ناحيتهما الشعرية؛ ولكن الأدب - بمعناه العام - أصبح خيرا مما كان، فغزرت معانيه بعد أن كان لفظيا، وعمق بعد أن كان سطحيا، وجادت القصة فيه نوعا ما، واتسع أفقه وموضوعاته قدرا ما، وتأثر الأدب الغربي وقلده في مناحي رقيه. أما النقد فانكمش وانكمش حتى ضمر وذبل وأشفى على الهلاك.
وحسبك دليلا أن ترى أشهر الكتاب في العالم العربي يخرجون الكتاب تلو الكتاب فلا تكاد تجد ناقدا يعتد به، وتقرأ ما يكتب عن ذلك في أشهر الصحف والمجلات فلا تجد إلا سرابا، وأكثرهم يكتفي باسم الكتاب وعرض موضوعه والاستعانة على ذلك بفهرسه ومقدمته ثم صيغة محفوظة متداولة من المدح والتقريظ؛ فإن كان نقد فمظهر لا مخبر، هو نتاج فقر عقلي وخمود ذهني، ثم ينتهي الأمر ويغلق الباب، فلا معارك ولا مساجلات، ولا بحوث حول الكتاب، ولا أخذ ولا رد، ولا مظهر من مظاهر الحياة الأدبية. لا يشعر الناقد أن عليه واجبا يؤديه للقراء، وأن منصبه يتطلب منه قراءة عميقة وآراء صريحة، وتقديرا دقيقا، وأن ذمته لا تبرأ إلا ببحث شامل وافي ثم إبداء لرأيه في غير تحيز ولا مواربة، ولكن كل ما يشعر به أن المؤلف أهدى إليه الكتاب؛ فهو يلقى عن عاتقه العبء بكتابة كلمة خاملة، ووصف فاتر، ونقد سطحي.
ليس النقد مجرد استحسان الناقد أو استهجانه. فكل ما كان مبنيا على ذوق الناقد وحده، ومجرد ادعائه أن هذا بليغ وهذا غير بليغ، وهذا راق وهذا غير راق؛ لأنه يتذوقه أو لا يتذوقه، واكتفاؤه أحيانا بأن يصوغ عبارته في الاستحسان أو الاستهجان في قالب جميل، كل ذلك ليس من النقد في شيء. إنما النقد ما علل وبينت فيه أسباب الحسن والقبح ، وأسس على قضايا ثابتة. فبهذا يستفيد المنقود، ويرقى الأدب، ويسمو الذوق؛ وبهذا وحده لا يكون النقد فتاتا لموائد الأدب، ولا متطفلا على نتاجه، إنما يكون هاديا للأديب، ومرشدا للجمهور، وموجها للأدب نحو الكمال.
ولكن ما علة هذه الظاهرة في الأدب العربي، وليس من الطبيعي في الأمم أن الأدب إذا رقى ضعف النقد؟ فإننا نرى الظاهرة في الأدب الغربي أن يرقى الأدب فيرقى النقد، ويؤثر كلاهما في الآخر تأثيرا محمودا - فيجب أن تكون علة ضعف الأدب العربي علة محلية لا علة طبيعية.
يظهر لي أن هذا الضعف في النقد يرجع إلى أسباب عدة:
أهمها أن النقد الصريح الصحيح يحتاج إلى شجاعة أدبية قوية من الناقد، ورحابة صدر من المنقود. وقد حدث في تاريخ مصر الحديث أن جماعة تسلحوا بالشجاعة الأدبية فأظهروا آراءهم في صراحة تامة ولم يبالوا الرأي العام، سواء في ذلك بحوثهم ونقدهم، وكانت هذه البذرة الأولى للشجاعة الأدبية في مصر؛ فألفوا كتبا عبروا فيها عن آرائهم في جلاء ووضوح، وكتبوا مقالات تعبر عما يختلج في نفوسهم وإن لم تكن على هوى الجمهور، ونقدوا أدب الأدباء وإن بلغوا القمة في نظر الناس؛ فكان صراع بين القديم والحديث، وبين التفكير الحر والتقاليد، وبين الأدب الناشئ والأدب الموروث. ولكن هذا الصراع انتهى بغلبة الجامدين، ونال الأحرار من العسف والعنت فوق ما ظنوا، وهذا يحدث مثله في كل أمة من الأمم الأوربية؛ ولكن هناك فرق كبير بيننا وبينهم، ذلك أن أصحاب الرأي الجديد في البلاد الراقية إذا أوذوا في العصر الحديث رأينا من مقلديهم وأتباعهم في الرأي من يمدونهم بالمال وبالمعونة. وكم رأينا من المال يجمع ليستعين به من نكب في منصبه بسبب رأيه أو بسبب سياسته، يتبرع به أغنياء اعتقدوا صحة رأيه أو وجاهة سياسته، فعطفوا عليه، وتحول عطفهم إلى اتخاذ وسائل لدرء الخطر عنه، فاستمر في شجاعته، وشعر بأن تضحيته يقابلها عطف، وأنه إن ضحى بالكماليات لا يصاب في الضروريات؛ بل وإن أصيب في الضروريات، فقد ضربت له أمثلة عدة أيام الثورة الفرنسية وقبلها وبعدها، فتأصلت الشجاعة الأدبية، ونمت بذرتها وأصبحت غير قابلة للفناء. أما في مصر فكانت بذرتها هي البذرة الأولى، وشعر القائمون بهذه الحركة الجديدة أنهم أصيبوا في سمعتهم، ثم رأوا أن أتباعهم تخلوا عنهم في أوقات الضيق؛ ومن عطف عليهم منهم فعطف أفلاطوني، عطف يتبخر، عطف لا يمكن أن يتحول إلى مال أو مجهود، وكان الرأي العام قويا مسلحا فتغلب وانتقم وأصبح له السلطة التامة، وانهزم أمامه فريق المفكرين الصرحاء هزيمة منكرة؛ ولم تكن له أمثلة كثيرة في تاريخه القريب، فاضطر إلى التسليم، وتعود المجاراة بدل المقاومة، والمداراة مكان الصراحة، فلم يعد هناك معسكران، ولم يعد صراع، إنما هو معسكر واحد ولا قتال. وتعلم الجيل اللاحق من الجيل السابق، فاختط خطته ونهج منهجه، وأخذ الدرس عن أخيه الأكبر ففضل السلامة. وبذلك اختنق النقد الأدبي في مهده، وأصبح الأدب مدرسة واحدة يختلف أفرادها اختلافا طفيفا، في العرض لا في الجوهر. لا مدارس متعددة تتناحر وتتعاون، وتتعادى وتتصادق وفي عداوتها وصداقتها الخير، ولا أمل في عودة النقد الصريح إلا ببذرة جديدة وروح جديد على شرط أن تكون البذرة صلبة تتحمل حوادث الدهر وعوادي الأيام.
ويتصل بهذا أن الأدباء عندنا صنفان: صنف نضج وتكون واستوى على عرش الأدب، وهؤلاء هم القادة، وهم أفراد معدودون تسالموا وتهادنوا، وحرمنا ما بينهم من خصومة أدبية وعلمية، وأصبح كل منهم كالعشراء، لا تميل إلى النطاح ولا ترجو إلا السلامة. وصنف ناشئ هو في طور التكون، وهو يخشى أن يتعرض لمن استوى على العرش، فيبطش به بطشة جبارة تقضي عليه، فلما جامل الكبراء بعضهم بعضا، وخاف الناشئون من الكبراء، ضاع النقد بين هؤلاء وهؤلاء.
ولعل من أسباب ضعف النقد أيضا السياسة قاتلها الله، فقد تدخلت أولا فنصرت الجمهور على القادة، وعاونت الرأي العام على المفكرين؛ وما كان الجمهور والرأي العام ينتصران هذا النصر لو وقفت السياسة على الحياد، ولو فعلت لكانت الحرب سجالا، ولظل المعسكران في قتال؛ وفي هذا تمحيص كبير للآراء، فيصعد الرأي العام المتطرفين ، ويدفع القادة غلاة المحافظين؛ والأمة من هذا وذاك في استفادة دائمة. أما أن تدخل السياسة فتبيد معسكرا بأكمله، فكان الضرر كل الضرر. ثم إن السياسة - ثانيا - دخلت في الأدب، وقومت الأديب بلونه السياسي، ولم يستطع الناس التفرقة بين موازين الأدب وموازين السياسة، فأفسد ذلك الأدب والنقد معا. قد تقول: إن السياسة تلعب هذا اللعب في الأمم الممدنة ولم يكن لها هذا الأثر. ولكنا نقول: إن الأمم الناشئة تتضرر من تدخل السياسة أكثر مما تتضرر الأمم القوية، وأكبر مظهر في ذلك أنه ليس بين أحزابها تنافر كالذي بين أحزابنا، ولا ينكل حزب بالأحزاب الأخرى كما يحدث بيننا؛ فالخصومة السياسية عندهم لا تفقد الصداقة في أغلب الأحزاب، وكذلك الشأن في الخصومة الأدبية. أما الأمم الناشئة فلا تفهم من الخصومة السياسية والأدبية والعلمية إلا العداء العنيف. وفي العداء العنيف قتل للحرية.
وحي البحر ...
الفرح بالبريد
الدين الصناعي
سحر العيون ...
أبو العبر
الشرق ينقصه الحب
لو انتصر المسلمون!
عهد وثيق
بين اللاعبين
بين الغرب والشرق أو المادية والروحانية
امتحان ...
الإنسان حيوان محارب
الظرف والظرفاء
الإحسان
أدب الروح وأدب المعدة
مستودع الذخائر
حديث أمس
رحلة1
دمع العين
جمل يطير وجمل يسير
فلسفة المصائب
العربي لا يشعر إلا في بيئته
عنوان القوة في الأمة
عقلاء المجانين ومجانين العقلاء
العزة
تجارب وزير
الوحدة والتعدد
تضخم الشخصية
المسلمون سبب من أسباب الحرب العالمية
تراجم الرجال في الأدب العربي
الهجرة
البركة
فن السرور
طب النفس
سلمان الفارسي
سؤال وحيرة في جواب
الهدم والبناء
محمد الرسول المصلح
مدرسة المروءة
جناية الأدب الجاهلي أو نقد الأدب العربي
يوم في القاهرة
الإصلاح الحديث
في غار حراء
قانون الرحالة
أسباب الضعف في اللغة العربية
من وحي البحر أيضا
وحي البحر ...
الفرح بالبريد
الدين الصناعي
سحر العيون ...
أبو العبر
الشرق ينقصه الحب
لو انتصر المسلمون!
عهد وثيق
بين اللاعبين
بين الغرب والشرق أو المادية والروحانية
امتحان ...
الإنسان حيوان محارب
الظرف والظرفاء
الإحسان
أدب الروح وأدب المعدة
مستودع الذخائر
حديث أمس
رحلة1
دمع العين
جمل يطير وجمل يسير
فلسفة المصائب
العربي لا يشعر إلا في بيئته
عنوان القوة في الأمة
عقلاء المجانين ومجانين العقلاء
العزة
تجارب وزير
الوحدة والتعدد
تضخم الشخصية
المسلمون سبب من أسباب الحرب العالمية
تراجم الرجال في الأدب العربي
الهجرة
البركة
فن السرور
طب النفس
سلمان الفارسي
سؤال وحيرة في جواب
الهدم والبناء
محمد الرسول المصلح
مدرسة المروءة
جناية الأدب الجاهلي أو نقد الأدب العربي
يوم في القاهرة
الإصلاح الحديث
في غار حراء
قانون الرحالة
أسباب الضعف في اللغة العربية
من وحي البحر أيضا
فيض الخاطر (الجزء الثاني)
فيض الخاطر (الجزء الثاني)
مقالات أدبية واجتماعية
تأليف
أحمد أمين
وحي البحر ...
صخرة المكس في 20 يوليه سنة 1939
على صخرة مشرفة على البحر في «المكس» جلست وحدي.
وقد تؤنس الوحدة ما لا يؤنس الجمع، ولكن هذا لا يكون حتى تتخذ من نفسك صديقا؛ وليس ذلك بالأمر اليسير؛ فكثير من الناس اتخذوا من أنفسهم عدوا، يتناولونها دائما بالنقد والتجريح، ويصغرون ما تأتي به من أعمال، ويحقرون ما يصدر عنها من آراء، وينظرون إليها نظرة ذلة وحقارة؛ فإذا هم وأنفسهم أعداء، يهربون منها كما يهربون من خصومهم، ولا يستطيعون أن ينفردوا بها طويلا، كما لا يستطيعون أن يجالسوا أعداءهم طويلا، فيلجئون إلى الأصحاب، فإن أعوزهم الأصحاب لجئوا إلى كتاب، فإن لم يجدوا كتابا فإلى أي شيء إلا أنفسهم.
مصيبة كبرى ألا يصادق الإنسان نفسه؛ لأن نفسك هي الشيء الوحيد في العالم الذي لا تستطيع أن تهرب منه، فقد تستطيع أن تهرب من زوجك، ومن ابنك وبنتك، ولكن لا تستطيع بحال أن تهرب من نفسك ولا بالموت؛ فإذا كانت النفس عدوا كانت شر الأعداء، وأثقل الأعداء؛ لأنها عدو ملازم أثقل من الغريم الملازم.
وشعور الإنسان بحقارة نفسه وضعتها سم قاتل، لا ينجح معه عمل، ولا يرجى من صاحبه خير.
والغرور والأنانية شر، ولكن شر منه احتقار النفس وعداؤها والإشفاق عليها، وتعذيبها الدائم بتأنيبها. وخير من هذا وذاك أن تقف منها موقف الصديق، تشجعه إن أحسن، وتعتب عليه في رفق إن أساء. •••
إن صادقت نفسك لذذت الوحدة، ووجدت فيها متعة أية متعة.
والأنس بالوحدة فن كسائر الفنون، يحتاج إلى مران طويل ومنهج شاق.
في أول ممارستها يشعر الإنسان بضيق أي ضيق، ويحاول الهرب منها إلى كتاب أو صديق، ثم لا يرى في العالم شيئا يقرأ ولا في نفسه معنى يبحث، وقد تعرض له أثناء ذلك خيالات مفزعة، وتصورات محزنة؛ ولكنه إذا صبر على الألم وكرر التجربة تجلى له العالم، وأوحي إليه بمعان جديدة قيمة. إذ ذاك يجد لذة في كل تفكير، وعمقا في كل معنى، وإذ ذاك يعرف نفسه، ويجد ربه، وإذ ذاك تتجرد النفس من غرورها وكبريائها، ويتبين لها جهلها، فتخلص النية في أن تعرف فتعرف، وإذ ذاك أيضا لا تشغلها ضوضاء العالم، ولا تزيغ بصرها المناظر الزائفة، فيظهر لها الحق في جلاء ووضوح؛ وإذ ذاك تشعر بنوع من اللذة يفوق لذة تحصيل العلم من معلم أو من كتاب، وتشعر بأن الفرق بين النوعين كالفرق بين أن تنعم بمالك وأن تنعم بمال غيرك، أو كالفرق بين من يجمع المال ومن يستخدمه في إسعاده. •••
ثم ماذا؟
هذا هو البحر بجماله وجلاله، وديع حتى ليلعب به طفل، جبار حتى ليرتعد منه أسطول، صورة صادقة من صور الزمان في إقباله وتجهمه، وابتسامه وعبوسه، ومده وجزره، ولينه وشدته. ما جلست أمامه يوما إلا شعرت بلذة أليمة أو ألم لذيذ؛ أما اللذة فلجماله، وكل جميل يبعث السرور، ويحيي الأمل، وينعش النفس؛ وأما الألم فلجلاله، وأمام الجليل تتخاذل النفس، وتشعر بضعتها في جانب عظمته، وتفاهتها بجانب جبروته، وحقارتها بجانب جلالته، وفنائها بجانب أبديته.
فأمام الانبساط لجماله، والانقباض لجلاله، تكون اللذة الأليمة أو الألم اللذيذ.
صبور لا ييأس، مجد لا يمل، يحارب الصخور الصماء فيغلبها بصبره، وينال من قسوتها وصلابتها مع رقته وسلاسته، ويذيبها في نفسه، فإذا هي لا شيء، وإذا هو كل شيء.
من قديم والإنسان يعمل عقله في دفع أذاه واتقاء جبروته، وكلما اخترع شيئا استخدمه في صد غاراته، وتنكب نكباته، وهو هو رابض في مجثمه، معتز بقوته، يتحرك من حين إلى حين، فيختار أقوى ما أعده الإنسان، وجهزه بأحدث الآلات، وأمده بأحسن المخترعات، فيضربه الضربة السريعة الحاسمة، تأتي عليه في لمح البصر وسرعة البرق، فإذا هو لا شيء، سواء في ذلك أساطيله ومدرعاته، وطياراته وغواصاته.
هذا هو البر، قد خضع للإنسان، كما يخضع الحيوان المستوحش فيستأنس، مهد الإنسان طرقه، وأقام عليه مساكنه، وثبت فيه خطوطه الحديدية، وغير جدبه خصبا، وجعل ترابه حقولا ناضرة، وبساتين مثمرة، ونباتات مزهرة، وملكه وتحارب على ملكيته، وحدده وتنازع على حدوده، والبر - في ذلك كله - وديع كالحمل، مستسلم كالعبد الذليل.
أما البحر فكلا، باق على وحشيته منذ خلقه الله، لم يسمح للإنسان بطريق يمهده ولا خط يمده، ولا ملك يمتلكه، إن ادعت دولة ملك جزء منه فكلام في الهواء، أو خط في الماء، أو حبر على ورق، أو معاهدة تسجل في البر. لم يستطع الإنسان - على اختلاف عصوره وتقدم علمه - أن يخضع قوته، أو يحد من نشاطه، أو يؤنسه كما آنس البر، ولم يتحمل هو من إنسان - مهما عظمت قوته، ولا من مركب مهما ضخم حجمه أو توفرت عدته - أية إهانة، أو خروج عن أدب اللياقة؛ فإن حدثته نفسه بذلك مرة لعب به كما يلعب القط بالفأر، ثم ابتلعه في هدوء من غير أن يشعر بذلك أحد، أو سلط عليه جبلا من ثلجه، فهشمه تهشيما، وقطعه إربا، ثم ابتلعه كذلك.
موقفه الآن من الإنسان وهو قوي ببخاره، وحديده وناره، وكهربائه ولا سلكيه، موقفه منه وهو ضعيف لا يعرف إلا الشراع والهواء.
ديمقراطي بطبعه، لا يخشى ملكا لملكه، ولا غنيا لغناه، ولا فقيرا لفقره، ولا بائسا لبؤسه، من أراد أن يستمتع بمائه - كائنا من كان - وجب أن يتقدم إليه بكل علامات الطاعة، فيتجرد من مظاهر العظمة وأكاذيب الأبهة، فيخلع حذاءه، ويكشف رأسه، ويعري جسده، وإن كان غنيا تساوى بالفقير في مظهره، وإلا عرف البحر كيف يؤدبه.
اعتز بقوته، فلم يسمح لمخلوق من مخلوقاته أن يعيش في البر ساعة، ولم يكن للبر مثل قوته فعاش أهله في البحر أياما.
كان - ولا يزال - عمقه الهائل، وموجه القوي المضطرب، وحركته الدائمة، وقوته الضخمة، مع ليونته وسلامته وجمال منظره الدائم، مبعث الحب والإجلال، ومثار الشعر والخيال. •••
ثم ماذا؟
ثم إنا والبحر والبر والعالم وحدة واحدة، كل منا جزء منها، وكل منا جزء صغير من آلتها العظيمة، ولنا كلنا خطة واحدة وغاية واحدة، علمنا بعضها، وظننا بعضها، وجهلنا أكثرها.
وهي كلها تخضع لإرادة واحدة، يسميها الدينيون إرادة الله، والمدنيون إرادة الطبيعة، والحقيقة واحدة والاسم مختلف.
تدور هذه الآلة العجيبة في نظام وإحكام يستخرجان العجب! وما ظنك بآلة تلد نحو خمسين ألفا من صنف الإنسان في الساعة وتميت مثلها؟ وذلك - فقط - في ذرة حقيرة من جسم العالم اسمها «الأرض».
إن عقلنا ليعجز عن إدراك كنه هذه الآلة العظيمة عجز النملة عن إدراك كرة تسير هي عليها، أو عجز أعشى عن إدراك ما في الأفق البعيد!
إن العلماء يدركون من هذه الآلة ما أدرك أن من منظر هذا البحر؛ أدرك سطحه، ولا أدرك عمقه، وأدرك جماله ودلاله، ولا أدرك كنهه، وأدرك جزءه، ولا أدرك كله.
إن لهذه الآلة قوانين حازمة صارمة، تعطف كل العطف على من وافقها، وتقسو كل القسوة على من خالفها؛ وهذه القوانين معقدة مركبة تبعا لتعقد الآلة وتركبها، ولكل جزء من هذه الآلة قوانين ترتبط بقوانين المجموع؛ من وافقها حملته سالما في تيارها، ومكنت له من أن يرتع في نعيمها، ومن خالفها كان كناطح الصخرة، ينال من نفسه، ولا ينال منها.
وأكبر شقاء العالم الإنساني - أفرادا وأمما - أتى من أنه جهل قوانينها، أو عرفها ولم يسر عليها. ولا أمل في سعادته حتى يعلم، وحتى يعمل وفق ما يعلم. •••
ثم ماذا؟
وجاءت موجة عالية، فلطمت الصخرة لطمة قوية، أصابني رشاشها، فتنبهت من أحلامي، وعدت من حيث أتيت!
الفرح بالبريد
ما رأيت «مصلحة» تتلاعب بعواطف الناس كما تتلاعب «مصلحة البريد»، ففي كل يوم تحمل القناطير المقنطرة من «الخطابات»، ليست قيمتها في وزنها ولا عددها، ولكن قيمتها في عواطفها، فكم خطاب حمل في طياته أسمى عواطف الحب، وأبلغ عبارات الغرام، لو نشر ما فيه لكان آية من آيات الأدب الخالد، ولو حلل لتقطرت منه دماء القلوب وعصارة الأفئدة - تزنه مصلحة البريد فتقدر عليه لخفته «قرشا»، ولو كان عندها ميزان للقيم لأعجزها أن تجد له الطابع الذي يتناسب وقيمته، فقد سهر فيه كاتبه الليالي، يحاول أن يجد ترجمة دقيقة لمعانيه، وعبارة حارة في حرارة عواطفه، وجملا رقيقة في رقة نفسه، وألفاظا موسيقية في موسيقى خلجاته. وهيهات أن يتم له ذلك مهما جود، فاللغة لم توضع - في الأصل - لترجمة العواطف، وإنما وضعت أول أمرها للتعبير عن شئون الحياة المادية من أكل وشرب ولبس ونحو ذلك. فلما حاولت التعبير عن العواطف شعرت بالعجز، فأكملت نقصها باستعارات ومجازات وتشبيهات ومحسنات وكنايات، ثم تبين لها بعد ذلك كله أنها أكملت بعض النقص ولم تكمل النقص كله؛ ثم تأتي مصلحة البريد بعد ذلك، فتعامل هذا الخطاب كما تعامل خطابا لا يحمل معنى، أو يحمل معنى سخيفا وغرضا تافها، وليس هذا بأول ظلم في العالم، فقانونه قلب الأوضاع وإهدار القيم. فإن عجبت فاعجب لقيم قوم، ولكن لا تعجب من قيم لم يقوم، فذلك هو الأصل. •••
ومن عجب أن البريد يحمل في ثناياه نغمات موسيقية مختلفة بأكثر مما تختلف العود والقانون؛ فهذه نغمة «وصل» سارة إلى أقصى حدود السرور، وهذه نغمة «هجر» محزنة إلى أقصى غاية الحزن، وبين هذه وتلك نغمات لا عداد لها، بين السرور والحزن، والقبض والبسط؛ فغزل رقيق، وعتاب لاذع، وقطيعة مفجعة، وحنو أبوي، وقسوة وحشية، وما شئت من لعب العواطف وتقلبات القلوب. •••
ثم ما رأيت عاملا تتعلق به الآمال، وترتقبه العيون، كما رأيت في ساعي البريد. هذا محب ينتظر كلمة من حبيبه يمسك بها نفسه، وهذا مشفق على مريض يتبرم من انتظار ساعي البريد يحمل إليه كلمة عن مريضه، وهذا رب مال يرتقب ما يأتي به البريد ليفرح أو يحزن على ما خبأه له القدر من نجاح أو إخفاق، ومثل ذلك كثير .
قد عرفوا مواعيد البريد فارتقبوها، ومنهم من زاد به قلقه فكان يخرج ساعته ينظر إليها كلما مرت دقائق، ويستطيل الوقت ويلعن عقارب الساعة إذ تسير ببطء، ومنهم من ارتقب «ساعيه» في شرفة المنزل ليمتع به نظره، ويغذي به أمله، آتيا من بعيد يترنح في مشيته، ويتلاعب بما يحمل في يديه من عواطف، وينتقل من بيت إلى اليمين إلى بيت إلى اليسار حتى يأتي دوره، فينقبض وجهه وينبسط، ويتذبذب بين اليأس والأمل، وقد يضحك منه القدر فيأتيه خطاب فيفرح، ويفتحه فيحزن، ويكون مثله مثل القائل:
ما أقبح الخير تعطاه فتحرمه
قد كنت أحسب أني قد ملأت يدي
ومنهم من يتكلف الرزانة فلا يتطلع للساعي، ولكنه يكرر النظر في صندوق البريد، فيطل من زجاجته ويفرح إذا صاد، وينقبض إذا لم يصد، وهكذا أشكال وألوان، وكلها حول البريد. •••
ويكاد يكون الفرح بالبريد صفة عامة يشترك فيها الناس على اختلاف بينهم في مقدار فرحهم. فما سر هذا الفرح؟
هل هو فرح من جنس فرح الأطفال «بحلاوة البخت»، وهو صندوق صغير من الورق ونحوه يشتريه الطفل ليرى فيه بخته؟ وأساس هذا الفرح - نفسيا - أن الإنسان خلق طلعة، ركز في طبعه حب الاستطلاع لما غمض، والاستكشاف لما خفي؛ فإذا رأى الناس يجتمعون في الشارع على شيء تطلع إلى معرفة خبره، وإذا رأى شيئا مغلقا تاق إلى معرفة ما في داخله. وقد أدرك التجار هذه الغريزة في الإنسان، فكان من طرقهم أنهم أحيانا يلفتون نظر الناس إلى السلع بإخفائها وحجبها عن الأنظار، ثم الإيعاز بطرق مختلفة إلى الدلالة عليها، والإتيان بها من صندوق داخل صندوق. وتجار الكتب الإفرنجية أحيانا يغلقون الكتاب بغلاف محكم، أو يضعون له قفلا للدلالة على أن فيه ما يحجب عن الأنظار، فيكون الجمهور بذلك أشوق إلى شرائه لاستكشاف أسراره، وقد لا يكون هناك سر ولا شيء غير مألوف، ولكنها المتاجرة بما في الإنسان من حب الاستطلاع.
واستغل هذه الصفة أيضا كتاب القصص والروايات ، فحاكوا حوادثها حول مسألة خبئوها في الرواية حتى يشتاق القارئ والناظر إلى معرفة خبيئها واستكناه كنهها. ويكون نجاح الكاتب بمقدار مهارته في الإخفاء، والدلالة على ما خفي في بطء وحذر، وإلهاب الشوق إلى استطلاع ما غمض.
قد يكون هذا هو السبب في فرح الناس بما يأتيهم من بريد، وقد يرجحه أنهم يغضبون جد الغضب إذا علموا أن غيرهم فتح بريدهم. وليس سبب ذلك الغضب أن غيرهم قد حاول أن يطلع على ما قد يكون لهم من أسرار فحسب، بل إن من أسباب غضبهم أيضا أنهم فوتوا عليهم لذة استكشاف المجهول، واستيضاح الغامض.
وقد يكون الفرح بكثرة البريد عند كثير من الناس سببه الشعور بالعظمة، فهو يشعر أن كثرة بريده آية شهرته، وشهرته آية عظمته، فالبريد يغذي شعوره بالعظمة وإعجابه بالشهرة؛ فالتاجر إذا تضخم بريده كان ذلك آية كثرة عملائه ومعاملاته؛ والسياسي إذا عظم بريده كان ذلك دالا على نجاحه في سياسته، وارتباطها بقلوب كثير ممن حوله؛ والعالم إذا كثر بريده دل على كثرة اتصاله بالحركة العلمية وبالعلماء، وعلى شهرته في الأوساط العلمية، وهكذا.
وقد يكون لهذه القاعدة شواذ، فمن الناس من يهربون من البريد هروبهم من مطالعة الوجه النكد، والشر المفاجئ، كأولئك الذين كانوا أغنياء فبددوا ثروتهم، وأضاعوا أموالهم، فلم يبق من آثار ثروتهم إلا بريد يطالب بديون، أو ينذر بحجز، أو يفزع بصدور حكم. •••
وأيا ما كان فمن مظاهر رقي الأمة أن يكثر بريدها في المعاني والآداب والعلوم؛ فيكثر تعامل الأدباء، ويكثر التراسل بين الطلبة وأساتذتهم، والقراء ومجلاتهم، والسياسيين ورجالاتهم، وزعمائهم وأتباعهم؛ فإن هذا مظهر الحيوية العقلية والفكرية والاجتماعية، ودليل على أن للأمة مثلا أعلى تنشده وتسعى إليه، وتتجادل فيه، وتتخاطب في شأنه، وتتراسل في تمحيصه، ودليل على أنها تفهم أن العيش ليس مجرد طعام وشراب، ومعاملات مالية، ورسائل غرامية، وسؤال عن الصحة والعافية، وتحديد موعد مقابلة، واعتذار عن تأخر.
ويخيل إلي - مع الأسف - أن بريدنا الأدبي والعلمي والسياسي ضعيف جدا إذا قيس ببريد المعاملات المالية، والشئون الغرامية، والحياة المادية.
والأمة إذا رقيت كثر بريدها الأدبي بمعناه الواسع، وفي كثرته دليل على توثق الصلات بين رجال المعاني من طلبة وأساتذة، ومن أدباء وأصدقائهم وقرائهم، وعلماء وأعوانهم، وسياسيين وأتباعهم.
في الأمة الراقية يفهم الأستاذ في المدرسة أو الجامعة أن العلاقة بينه وبين طلبته لا تنتهي بمجرد إلقاء الدرس وتأدية الامتحان؛ وإنما هي علاقة استرشاد علمي وروحي دائم، فإذا تيسر اللقاء كاشف الطالب أستاذه بمشاكله وشئونه، كما يكاشف الشيخ الصوفي مريده، وكما يعترف النصراني المتدين لقسيسه، وإذا لم يتيسر فالبريد الأدبي يقوم مقام اللقاء.
وفي الأمة الراقية لكل أديب قراؤهم «زبائنه» كما للتاجر «زبائنه»؛ وهؤلاء زبائن الأدب يعرفون كل شيء عن أديبهم، ويقرءون كل ما يكتب، ويسمعون كل ما يخطب، ويتعصبون له كما يتعصب السماعون لمغنيهم. وهم يقترحون عليه ما يكتب كما يقترح السماعون لمغنيهم ما يغني، وفوق ذلك ينقدونه في نتاجه، فيشجعونه إن أحسن، ويبينون مواضع ضعفه إن أساء؛ وعلى الجملة يراقبونه أشد المراقبة، فيشعر بأنه حي بهم، يستمد من قوتهم، ويصلح أخطاءه من التفاتاتهم.
أما الأديب عندنا فمثله مثل المحاضر في «الراديو» يتكلم وحده ولا يشعر بما يجري وراء حجرته، ولا يسمع تصفيقا، ولا يحس ضيقا، وليس أمامه عيون يقرأ في نظراتها علامات استحسان أو استهجان؛ فهو في طريقه مع غير مرشد، ومن غير مشجع، وبذلك ضعف البريد الأدبي.
كل الصلات بيننا مفقودة، فلا صلة بين الأستاذ وطلبته إلا صلة الدرس، ولا بين الأديب وقرائه إلا صلة القراءة إن كانت، ولا صلة بين الأدباء أنفسهم إلا صلة السباب، فإن لم يكن سباب فرياء، ولما تكن بعد صداقة.
لكم حمل إلينا بريد أوروبا أخبارا عن أدبائهم وما كان بينهم وبين قرائهم من صلات أفادتهم في توجيههم، وما كان يطالعهم به البريد كل صباح من آراء ناضجة بجانب آراء تافهة؛ وما كان بين الأدباء بعضهم وبعض من صداقة أوحت بالخطط وعدلت من المنهج، وأنتجت مناظرات قيمة، ومساجلات ممتعة، فإن كان بينهم أحيانا سباب مر فبينهم أحيانا صداقة حلوة، وإن نفث بعضهم السم فمنهم من ينتج الترياق. •••
لشد ما أخشى أن يمطرني القراء ببريد يكذبون به رأيي وينقضون به دليلي ثم يكلفونني الإجابة عنه؛ وهذا ما لا طاقة لي به، فأثقل شيء علي أن أرد على البريد، وسلوكي نفسه في البريد دليل على ما أشكو منه، فإن قنعوا ببريد لا رد له، فلهم كل الشكر.
الدين الصناعي
هل تعرف الفرق بين الحرير الطبيعي والحرير الصناعي؟
وهل تعرف الفرق بين الأسد وصورة الأسد؟
وهل تعرف الفرق بين الدنيا في الخارج والدنيا على الخريطة؟
وهل تعرف الفرق بين عملك في اليقظة وعملك في المنام؟
وهل تعرف الفرق بين النار أمامك وهي تلتهب وتأتي على كل ما يقدم لها من وقود، وبين نطقك بكلمة النار وهي تجري على لسانك فلا تمسه بسوء؟
وهل تعرف الفرق بين إنسان يسعى في الحياة وبين إنسان من جبس وضع في متجر لتعرض عليه الملابس؟
وهل تعرف الفرق بين النائحة الثكلى والنائحة المستأجرة، وبين التكحل في العينين والكحل؟
وهل تعرف الفرق بين السيف يمسكه الجندي المحارب وبين السيف الخشبي يمسكه الخطيب يوم الجمعة؟
وهل تعرف الفرق بين الناس في الحياة والناس على الشاشة البيضاء؟
وهل تعرف الفرق بين الصوت والصدى؟
إن عرفت ذلك فهو بعينه الفرق بين الدين الحق والدين الصناعي.
يكد الباحثون أذهانهم، ويجهد المؤرخون أنفسهم في تقليب صحفهم ووثائقهم عن تعرف السبب في أن المسلمين أول أمرهم أتوا بالعجائب، فغزوا وفتحوا وسادوا، والمسلمين في آخر أمرهم أتوا بالعجائب أيضا، فضعفوا وذلوا واستكانوا، والقرآن هو القرآن، وتعاليم الإسلام هي تعاليم الإسلام، ولا إله إلا الله هي لا إله إلا الله، وكل شيء هو كل شيء؛ ويذهبون في تعليل ذلك مذاهب شتى، ويسلكون مسالك متعددة. ولا أرى لذلك إلا سببا واحدا هو الفرق بين الدين الحق والدين الصناعي.
الدين الصناعي دين حركات وسكنات، وألفاظ، ولا شيء وراء ذلك. والدين الحق دين روح وقلب وحرارة.
الصلاة في الدين الصناعي ألعاب رياضية، والحج حركة آلية ورحلة بدنية، والمظاهر الدينية أعمال مسرحية وأشكال بهلوانية.
و«لا إله إلا الله» في الدين الصناعي قول جميل لا مدلول له. أما في الدين الحق فهي كل شيء؛ هي ثورة على عبادة المال، وثورة على عبادة السلطان، وثورة على عبادة الجاه، وثورة على عبادة الشهوات، وثورة على كل معبود غير الله. «لا إله إلا الله» في الدين الصناعي تتفق مع إحناء الرأس والخضوع لشهوة البدن، وتتفق مع الذلة والمسكنة. و«لا إله إلا الله» في الدين الحق، لا تتفق إلا مع الحق. «لا إله إلا الله» في الدين الصناعي تذهب مع الريح، وفي الدين الحق تزلزل الجبال. •••
الدين الصناعي صناعة كصناعة النجارة والحياكة، يمهر فيها الماهر بالحذق والمران. أما الدين الحق فروح وقلب وعقيدة، ليس عملا، ولكنه يبعث على كل عمل جليل وكل عمل نبيل.
الدين الحق «إكسير» يحل في الميت فيحيا، وفي الضعيف فيقوى.
هو «حجر الفلاسفة» تضعه على النحاس والفضة والرصاص فتكون ذهبا.
هو العقيدة التي تأتي بالمعجزات فيقف العلم والتاريخ والفلسفة أمامها حائرة: بم تعلل، وكيف تشرح!
هو الترياق الذي تتعاطى منه قليلا فيذهب بكل سموم الحياة.
هو العنصر الكيمياوي الذي تمزج به الشعائر الدينية فتطير بك إلى الله، وتمزج به الأعمال الدنيوية فتذلل العقبات مهما صعبت، وتصل بك إلى الغرض مهما لاقت.
هو الذي وجده كل من نجح، وهو الذي فقده كل من خاب.
هو الكهرباء الذي يتصل فيدور العجل، ويسير العمل، وينقطع فلا حركة ولا عمل.
هو الذي يحل في الأوتار فتوقع وكانت قبل حبالا، وفي الصوت فيغني وكان قبل هواء. •••
الدين الحق يحمل صاحبه على أن يحيا له ويحارب له. والدين الصناعي يحمل صاحبه على أن يحيا به ويتاجر به ويحتال به.
الدين الحق يجعل صاحبه فوق كل سلطة وفوق كل سياسة. والدين الصناعي يحمل صاحبه على أن يلوي الدين ليخدم السلطة ويخدم السياسة.
الدين الحق قلب وقوة، والدين الصناعي نحو وصرف وإعراب وكلام وتأويل.
الدين الحق امتزاج بالروح والدم، وغضب للحق، ونفور من الظلم، وموت في تحقيق العدل. والدين الصناعي عمامة كبيرة، وقباء يلمع، وفرجية واسعة الأكمام. «الشهادة» في الدين الحق هي ما قاله الله تعالى: «إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون». و«الشهادة» في الدين الصناعي إعراب جملة وتخريج متن وتفسير شرح وتوجيه «حاشية»، وتصيحي قول مؤلف ورد الاعتراض عليه.
الدين الحق تحسين علاقة الإنسان بالله، وتحسين علاقة الإنسان بالإنسان، لتحسن علاقتهم جميعا بالله. والدين الصناعي تحسين علاقة صاحبه بالإنسان لاستدرار رزق، أو كسب جاه، أو تحصيل مغنم، أو دفع مغرم. •••
لقد صدق من قال: إن هذا الدين «لا يصلح آخره إلا بما صلح أوله»، وهل كان أوله إلا دين روح، وهل كان آخره إلا دين صناعة؟
جناية أهل كل دين أن يبتعدوا - كلما تقدم بهم الزمان - عن روحه ويحتفظوا بشكله، وأن يقلبوا الأوضاع، ويعكسوا التقدير، فلا يكون للروح قيمة، ويكون للشكل كل القيمة.
شأن «الإيمان» شأن العشق، يحول البرودة حرارة، والخمول نباهة، والرذيلة فضيلة والأثرة إيثارا.
والإيمان الحق كالعصا السحرية، لا تمس شيئا إلا ألهبته، ولا جامدا إلا أذابته، ولا مواتا إلا أحيته. •••
من لي بمن يأخذ الدين الصناعي بكل ما فيه، ويبيعني ذرة من الدين الحق في أسمى معانيه؟
ولي كبد مقروحة من يبيعني
بها كبدا ليست بذات قروح
سحر العيون ...
من قديم والأشجار والأزهار والأطيار والنجوم، قد مدت خيوطها إلى قلب الإنسان فأسرته، فشعر شعورا ساذجا بجمال السماء والأرض وما فيهما.
ولكنه في عهده الأول قد شغل بتحصيل القوت، والتغلب على البيئة القاسية، فلم يلتفت إلى الجمال إلا لماما؛ فلما غلب البيئة، وتيسرت له وسائل العيش وجد من الزمن ما يكفي للتغزل في الطبيعة ومناغاتها.
هام بالجمال وفتن به، وتفتح قلبه له؛ وهاجت عواطفه نحوه؛ فلم يكفه أن يرشف الجمال في صمت وسكون، بل دعته العاطفة الهائجة نحو الجمال أن يعبر عنها، فكانت الموسيقى والرقص والأغاني والحفر والتصوير، وكان الأدب - وبعبارة أدق كان نوع من الأدب - وعدت هذه كلها فنونا جميلة؛ لأنها تعبر عن الجمال؛ ولأنها في ذاتها جميلة. •••
شغف الإنسان بالحسن يتبعه، فوجده في الزهور ، ووجده في البحار والأنهار، ووجده في الطبيعة على فطرتها، ووجده في الإنسان نفسه. وما أشك في أن الحب الذي كان بين آدم وحواء، كان منشؤه ما قرأ آدم في حواء من جمال الأنوثة وما قرأته حواء في آدم من جمال الرجولة!
كان الإنسان الأول ينظر إلى الجمال جملة، كما ينظر إلى العالم جملة، وإلى كل شيء جملة؛ فلما تقدم به الزمان، أخذ ينظر الأشياء تفصيلا، وإلى الجمال كذلك تفصيلا. وبعد أن كان يعجب بالطبيعة جملة، أخذ يعجب بالشمس - مثلا - ثم أخذ يعجب بالشمس في شروقها وغروبها، ثم أخذ يعجب بالشمس تغرب في البحر، وهكذا.
وكذلك كان شأن الإنسان مع الإنسان، أعجب به جملة، ثم أخذ يتبين مواضع الجمال فيه تفاريق، فدلته المقارنة على شروط الجمال في الأعضاء، وهداه الذوق الفطري إلى إدراك صفات الجمال في كل عضو؛ فالرشاقة في القد، والأسالة في الخد، والتلع في الجيد، والذلف في الأنف
1 ، والفلج في الأسنان، إلى آخر ما هنالك. •••
لعل أجمل الأحياء الإنسان، ولعل أجمل ما في الإنسان عيناه، فإذا كان لكل شيء خلاصة فخلاصة الإنسان عينه، هي مستودع سره، وهي النافذة التي يطل منها غيره على ما في أعماق نفسه، وهي الترجمان الذي يعبر أصدق تعبير عما يجول في نفسه من عواطف. تعد وتوعد، وترغب وترهب، وترسل مرة شواظا من نار، ومرة شآبيب من عطف وحنان، تقسو وترحم، وتنعم وتؤلم، وتصل وتصد، وتقبل وتنفر، وتعجب وتحتقر، وهي في كل موقف من هذه المواقف تتخذ لها وضعا يناسبه، وشكلا يوائمه؛ تتلون ولا تلون الحرباء، وتتشكل ولا تشكل الحسناء، في الأزياء. هي للمرأة أقوى سلاح، وفي روايات الحب أمهر لاعب، وفي مرسح الغزل أشهر ممثل، وفي ميدان الأدب أبرز جائل وصائل. •••
وفي الحق أن لغتنا العربية من أكثر اللغات وفاء للعين، واعترافا بقيمتها، وتسجيلا لدقيقها وجليلها. لقد وضعوا لكل جزء من أجزائها - مهما دق - اسما بل أسماء، لا أطيل بذكرها، ووضعوا بيانا لما يستحسن في العين من الصفات، وسموا كل نوع من الجمال باسم ، فقالوا: «عين ظمياء» إذا كانت رقيقة الجفن، و«عين نجلاء» إذا كان جمالها في سعتها، و«عين حوراء» إذا كان جمالها في شدة سوادها وشدة بياضها، و«عين دعجاء» إذا كان جمالها في لونها وسعتها معا، إلى آخره.
ثم التفتوا إلى شيء دقيق جدا يغبطون عليه. وهو اختلاف النظرات، فعبروا عن كل نظرة بعبارة؛ فقالوا: «رنوت إليه» إذا أدمت النظر في سكون طرف، و«سارقته النظر» إذا نظرت إليه نظرا خفيا، و«نظر شزرا» إذا نظر إليه بمؤخر عينه نظر الغضبان، و«شفنه» إذا نظر إليه نظر المبغض أو المتعجب، و«أزلقه ببصره» إذا نظر إليه نظرة متسخط، و«رأيتهم يتقارضون النظر» أي: ينظر بعضهم إلى بعض نظرة عداء، إلى غير ذلك.
وكما غنيت اللغة بالعين وما يتصل بها، غنى بها الأدب كذلك؛ فمنذ طالعنا الأدب العربي، رأينا الشعراء يعجبون بالعين ويتغزلون فيها، من عهد امرئ القيس إذ يقول: «وعين كمرآة الصناع تديرها» - إلى حافظ إبراهيم إذ يقول:
غضي جفون السحر أو فارحمي
متيما يخشى نزال الجفون
وإلى ما شاء الله أن يكون من الشعراء. •••
وكما كان الناس ينظرون إلى الجمال جملة، ثم أخذوا ينظرون إليه تفصيلا، كذلك مؤلفو الأدب. كانت تآليفهم الأدبية شاملة لكل شيء، وكان عرضهم للجمال لا يقتصر على شيء دون شيء، ثم رأينا نزعة في التأليف جديدة ترمي إلى التخصص في الجمال، والتخصص في جمال شيء بعينه. فرأينا صلاح الدين بن أيبك الصفدي يعجب بالخال ويفرد له تأليفا يسميه «كشف الحال على وصف الخال»؛ ولم يكن موفقا في هذه التسمية؛ بل كان قليل الذوق، فما يصح في باب الجمال أن يسمي شيء بكشف الحال.
وجاء شمس الدين النواجي ففتن بجمال العذار، وألف في ذلك كتابا سماه «خلع العذار في وصف العذار»؛ ولم يكن في هذه التسمية أكثر توفيقا من صاحبه.
ولكن مؤلفا ثالثا جاء فغضب من هذين الاسمين النابيين، كما غضب من أن يلتفتا إلى الخال والعذار ويغضا من جمال العيون، فألف كتابا في العيون سماه «سحر العيون»، فكان أكثر توفيقا في الاسم والمسمى. •••
من الأسف أني لم أعثر على اسم مؤلفه، ولكنه في ثنايا الكتاب يقول: «أنشدني صاحبنا الشيخ شمس الدين محمد بن أبي بكر القادري المولود سنة 824». فمؤلف الكتاب - إذا - من أدباء القرن التاسع الهجري؛ والظاهر أنه مصري لأنه يروي لنا في ثنايا الكتاب أحداثا مصرية، وأمثالا عامية مصرية.
أراد في هذا الكتاب أن يذكر كل ما يتصل بالعيون، وأراد أن يكون في العيون طبيبا، وفقيها، وأديبا؛ وكان خيرا له وللناس أن يكون أديبا فقط؛ فما أحراه وقد خصص كتابه للعين، أن يخصص نفسه لأدب العين؛ فمن العسير أن يجمع إنسان بين المهارة في الطب، والمهارة في الأدب.
على كل حال كان في قسمه الأول طبيبا، عرض للعين وشرحها، ورسم لها صورة طريفة، ووضع في الصورة اسم كل طبقة من طبقاتها؛ وتكلم فيما يعرض من أمراضها، وما يلائم من الأدوية لعلاجها، حسبما عرف من ذلك في زمانه.
ثم انقلب فقيها، فذكر دية العين في المذاهب المختلفة. وكان لغويا، فذكر مادة العين، وإطلاقها واشتقاقها.
وأهم ما في الكتاب قسمه الأدبي، عرض في فصل منه ما وقع في الأدب من تشبيهات العين؛ فمنهم من شبهها بالسهم، وشبه فعلها بفعله، ومنهم من وصفها بالنبل، أو بالخنجر، أو بسنان الرمح، أو بالسيف، ومنهم من يشبهها بزهر الفول، ومنهم من يشبهها بالنرجس. وقد حكى لنا أن بعض الأدباء في زمنه اعترض على تشبيه العين بالنرجس لصفرة لونه، وقال: إن هذا لا يصح إلا أن تكون العين معلولة بعلة اليرقان. وأجاب بعضهم أن بالمشرق نوعا من النرجس مكان الصفرة منه سواد، وهو الذي يصح التشبيه به، لا نرجس بلادنا. أما ابن رشيق فقال: إن وجه الشبه في تشبيه العيون بالنرجس هو الفتور لا اللون، كما قال ابن المعتز:
وسنان قد خدع النعاس جفونه
فحكى بمقتله ذبول النرجس
وهذا الفتور هو الذي يسمونه المرض، وهو مرض خير من ألف صحة، كما قال ابن عباد:
ونظرن من خلل الستور بأعين
مرضى يخالطها السقام صحاح
ثم ذكر فصلا عرض فيه لما وقع في العين من التنكيت والأمثال.
وعرض لنا فصلا بديعا موضوعه اختلاف مواقف الناس أمام العيون؛ فمنهم من كان يعشق عين محبوبته، فسمع تشبيها للعيون بعيون الغزلان، فأكثر من شراء الغزلان وتربيتها وتوليدها، ومنهم من سمع قول ابن الرومي:
وأحسن ما في الوجوه العيون
وأشبه شيء بها النرجس
فكان لذلك يكثر من زرع النرجس في حديقته.
ومن الناس من أردته النظرة الأولى، وقال:
ما يفعل السحر بالألباب في سنة
في الحال تفعله الأحداق والطرر
ومنهم من كانت تحييه نظرة وتميته نظرة كالذي يقول:
الوجه منك عن الصواب يضلني
وإذا ضللت فإنه يهديني
وتميتني الألحاظ منك بنظرة
وإذا أردت، بنظرة تحييني
ومنهم من عرته حالة غريبة، وهو أنه غار من عينيه أن تتمتعا وحدهما بالنظر إلى المحبوب فمنعهما النظر كالذي يقول:
إني لأحسد ناظري عليكا
حتى أغض إذا نظرت إليكا
ومنهم من كان يربأ أن ينظر بعينيه إلى عين من يحب؛ لأنه لا يستحق هذا الشرف. «قيل لبعضهم: أتحب أن ترى عيني محبوبك؟ قال: لا. قيل: ولم؟ قال: أنزه عينيه عن عيون مثلي».
وبلغت الغيرة من ديك الجن الحمصي أن قتل جاريته وبكاها، فقال:
فوحق نعليها، وما وطئ الثرى
عندي أعز علي من نعليها
ما كان قتيلها؛ لأني لم أكن
أبكي إذا سقط الغبار عليها
لكن بخلت على سواي بحسنها
وأغار من نظر العيون إليها
وهكذا عرض لحالات الناس المتفاوتة، وتصرفاتهم المختلفة إزاء الإعجاب بالعيون.
وانتقل من ذلك إلى «طيف الخيال»؛ لأنه رؤيا العين في المنام، فذكر ما أبدع فيه الشعراء من ذلك، وكيف تفننوا في معانيه، كالذي يقول:
نصبت جفوني للخيال حبائلا
لعل خيالا في الكرى منه يسمح
وكيف إذا أغمضتهن، بصيده!
ومن عادة الأشراك للصيد تفتح
وقول كشاجم:
لقد بخلت بطيف مسلم
علي وقالت رحمة لنحيبي
أخاف على طيفي إذا جاء طارقا
وناداك أن يلقاه طيف رقيبي
وانتقل من ذلك إلى ما تلاعب به الشعراء من الحوار بين القلب والعين، فالقلب يعتب على العين أنها جرت عليه الويل، والعين تعتب عليه أنه هو الذي دفعها إلى النظر بما أمل وطمع:
يقول قلبي لطرفي إذ بكى جزعا
تبكي وأنت الذي حملتني الوجعا
فقال طرفي له فيما يعاتبه
بل أنت جملتني الآمال والطمعا
حتى إذا ما خلا كل بصاحبه
كلاهما بطويل السقم قد قنعا
نادتهما كبدي لا تتعبا فلقد
قطعتماني بما لاقيتما قطعا
وختم الكتاب بباب طويل فيما ورد في العين من الشعر الرقيق مرتبا على حروف المعجم. وذكر في أكثر ما اختار سنة مولد الشاعر ووفاته. •••
ونلاحظ أن أكثر اختياره من الشعر الحديث الذي قيل في العصر العباسي الثاني وما بعده، كما نلاحظ أن كثيرا مما اختاره في العيون لمعاصريه كان غزلا في عيون الأتراك، فيقولون أحيانا: «من الترك لم يترك بقلبي بقية»، وأحيانا: «من آل خاقان له لفتة»، وأحيانا: «من نسل يافث نافث» مما يدل على أن المصريين أعجبوا بعيون الأتراك، وكانوا إذ ذاك هم الحكام، وقصورهم ملأى بالمماليك منهم.
وبعد فهذا الكتاب معرض فني من أغنى المعارض، وهو معرض ليس فيه - على سعته وكثرة ما يعرض فيه - إلا العيون وأشكالها ونظراتها، لو وقع في يد فنان صناع، لأبدع في تصويره أيما إبداع، وكم في كنوز السلف من روائع!
أبو العبر
أمير من أمراء البيت العباسي. وناهيك بالأمراء العباسيين في أيام سطوتهم من عز وجاه، وعظمة وترفع عن الناس.
يدعو الخليفة ابن عمه، ويدعوه الخليفة ابن عمه، حسب اصطلاحهم في ذلك الزمان. ليس بينه وبين عبد الله بن عباس الصحابي الجليل إلا خمسة آباء، فهو ابن محمد بن أحمد بن عبد الله بن عبد الصمد بن علي بن عبد الله بن عباس.
يكفي أن يقول الرجل: إنه من البيت العباسي لتخضع له الرقاب، ويذل له العظيم؛ والناس يسمونهم الأشراف وأبناء الملوك. وإذا كانوا في حفل عند الخليفة فهو وحده يجلس على السرير، وأهل البيت العباسي وحدهم يجلسون على الكراسي، وسائر الناس يجلسون على الوسائد والبسط.
ولكن لم يكن أمراء البيت العباسي كلهم أهل ثروة ورخاء؛ فمنهم الغني الواسع الغنى، ومنهم الفقير وإن لم يبلغ حدا كبيرا من الفقر؛ لأنهم كانوا يرتزقون من رواتب تخصص لهم من بيت المال حسب مشيئة الخليفة، ومن هبات وعطايا توهب لمن شاء الخليفة، فكن حظ «أبي العبر» هذا وأبيه من هبات الخليفة قليلا نادرا.
ولد أبو العبر بعد خمس سنوات من خلافة الرشيد، أعني سنة 175، وأخذ بعد يتعلم ويتأدب، وعاصر - أولا - الرشيد والأمين والمأمون والمعتصم والواثق وصدرا من خلافة المتوكل.
وهو طوال هذه العصور جاد في حياته. رأى أنه ليس بالغني غنى غيره من الأمراء، ولا هو مقربا من الخلفاء، ورأى أن القرب إليهم أسبابه كثيرة؛ منها القدرة السياسية، ومنها القدرة الأدبية، ومنها غير هذا وذاك؛ فاتجه إلى الأدب يدرسه، والشعر يقرضه، لعله يصل من ذلك إلى منزلة تلفت إليه نظر الخلفاء؛ ليدروا عليه العطاء، ويغرقوه في النعيم، فتأتى له شعر حسن غنى به المغنون كقوله:
أبكي إذا غضبت حتى إذا رضيت
بكيت عند الرضا خوفا من الغضب
فالويل إن رضيت والعول إن غضبت
إن لم يتم الرضا فالقلب في تعب
وكاد يبتسم له الحظ ويكون شاعرا مقبولا، لولا أن رماه القدر بشعراء فحول أمثال أبي تمام والبحتري، فنظر في شعره وشعرهم، وسحره وسحرهم، فرأى أنه لا يستطيع أن يدركهم ولا يبلغ شأوهم.
رأى أن شعرهم جيد وشعره وسط، ولأبي العبر رأي في الشعر طريف، وهو أنه إن لم يكن جيدا كل الجودة فليكن باردا كل البرودة. أما الوسط فإياك وإياه؛ إن الجيد يعجبك بجودته، والبارد يضحكك ببرودته، أما الوسط فثقيل لا يستخرج إعجابا، ولا يستخرج ضحكا؛ وقد عبر أبو العبر عن هذا المعنى بقوله: «إن قدرت أن تقول الشعر جيدا جيدا، وإلا فليكن باردا باردا، وإياك والفاتر فإنه صفع كله».
ولكن أبا العبر لا يستطيع أن يقول كما يقول أبو تمام والبحتري. وكل ما يستطيع أن يقوله هو الشعر الفاتر الذي لا يرتضيه، فماذا يصنع ؟ ومما يزيد الأمر إشكالا أنه يريد المال ويريد القرب من الخلفاء، وليس له وسيلة إلا الشعر، والشعر الجيد لا يواتيه، والشعر الوسط لا ينفق، وليس بالسياسي فيحظى عندهم، ولا قدرة له على ذلك، فماذا إذا؟
ليس إلا أن يلتفت إلى نفسه يعلمها القناعة، فالقناعة كنز لا يفنى، وإذا كان عطاء الخليفة ليس له غاية إلا رضى النفس، فالقناعة يمكن أن توصل إلى هذه الغاية نفسها؛ ولذلك أخذ يعطي لنفسه دروسا في القناعة ودروسا في الرضا، أحيانا يحدثها الحديث النفسي، وأحيانا يقول في ذلك شعره المتوسط:
لا أقول: الله يظلمني
كيف أشكو غير متهم
وإذا ما الدهر ضعضعني
لم تجدني كافر النعم
قنعت نفسي بما رزقت
وتناهت في العلا هممي
ليس لي مال سوى كرمي
وبه أمني من العدم
ولكن هذه الدروس لم تنجح، وامتحن فيها فرسب، إن لي بيتا رفيعا هو بيت الخليفة نفسه، وبهذا البيت استحق الخلافة، وفي يده القناطير المقنطرة من الذهب والفضة يبعثرها هنا وهناك، فلماذا أحرم حتى من القليل منها؟ إن كل يوم تطلع فيه الشمس أرى فيه دروسا تفسد على دروس القناعة والزهد. فهذا عالم يجد ويكد ولا يجد ما يسد رمقه، وهذه الخيزران أم الرشيد تبلغ غلتها في العام مائة وستين مليونا من الدراهم. هذا مؤلف ينفق عمره في تأليف كتاب أو كتب، ولا يجازى على ما فعل. وهذه جارية تعجب الرشيد فيأمر يحيى بن خالد البرمكي أن يشتريها له بمائة ألف دينار. هذا سخيف يذكر نادرة تضحك الخليفة فيمنحه المال بالهيل والهيلمان، وهذا ناصح فيبعده ويقصيه، وهذا شاعر يمدحه فيجعله فوق البشر فيمنحه من المال ما يشاء، وهذا الرشيد يرضى عن جاريته «ذات الخال» يوما فيحلف أنها لا تسأله في ذلك اليوم شيئا إلا فعل. فهل هذا عالم معقول؟ إن الجنون أنواع، فنوع منه في البيمارستان، نوع في قصور الخلفاء، ونوع موزع على سائر الناس؛ غير أن الأول يبعث على الرحمة، والثاني يبعث على النقمة، والأخير يبعث على الإشفاق.
لقد نيفت على الخمسين وأنا أجرب العقل فلم ينجح. أفلا يكون من الصواب أن أجرب الجنون مرة لعله ينجح؟
إن أردت السعادة فعليك بأحد أمرين: إما أن تعيش عاقلا وسط العقلاء، أو مجنونا بين مجانين. أما أن تعيش عاقلا وسط مجانين، أو مجنونا بين عقلاء. فذلك العذاب. وقد عشت طويلا عاقلا بين مجانين فشقيت؛ فخير أن أجن وأعيش عيشتهم وأضحكهم وأضحك منهم.
فكر «أبو العبر» في ذلك طويلا، ثم خرج من تفكيره إلى أن يكون أضحوكة الناس. إن لقبي أبو العباس، وهو لقب جد، فلأطرحه ولأطأه بقدمي إعلانا بإخفاق الجد في هذا العالم. وهو أيضا لقب يرمز به إلى بيت العباس، وماذا جنيت منه إلا الفقر والبؤس وسوء الحال وخيبة المصير؟ خير لك أن تتلقب لقبا يكون عبرة للناس وعنوانا على أن الجد لم ينجح، وقد ينجح الهزل. فلتتوكل على الله، ولتكن كنيتك من الآن أبا العبر.
خرج «أبو العبر» على الناس بفنون شتى من الأضاحيك، فبدأ يسطع نجمه، وكلما نجح شجعه النجاح على الإمعان في السخف، حتى بلغ في ذلك الغاية وعلا صيته، وتناقل الناس نوادره، ودوى اسمه في العراق وغير العراق، علما على الضحك والسرور. ويكفي أن يذكر الناس اسم أبي العبر ليتهيئوا للضحك، ويكفي أن يذكروا له نادرة حتى يمسكوا أحشاءهم من كثرة الضحك.
لقد كان يألم من أنه لم يبلغ ما بلغ أبو تمام والبحتري وأضرابهما، ففاتهم شهرة وعلاهم صيتا.
وكان أول ما بدأ به أنه طبق نظريته في الشعر، فخصص نفسه للشعر البارد، فكان يعمد إلى القصائد الجدية فيقلبها قصائد هزلية؛ يسمع البحتري يقول:
من أي ثغر تبتسم
وبأي طرف تحكتم
فيقول هو:
في أي سلح ترتطم
وبأي كف تلتطم
وهكذا، والناس يضحكون منه، ويصفقون له، والخلفاء تسمع هذا منه، وتمنحه من الجوائز فوق ما يجيزون الجد.
ثم أخذ يعمد إلى فن آخر طريف وهو فن «المفارقات»، فيتكلم كلاما غريبا لا يفهم، ولكنه يضحك، فكلمة من الشرق بجانب كلمة من الغرب، وكلمة على السفينة وأخرى على التفاحة، وثالثة على المبتدأ والخبر، وهكذا «سمك. لبن. تمر هندي». وقد سئل مرة : كيف تحضر هذه المفارقات الغريبة، وكيف يمكنك جمعها على شذوذها وبعد أوصالها؟ قال: «أبكر فأجلس على الجسر ومعي دواة ودرج، فأكتب كل شيء أسمعه من كلام الذاهب والجائي والملاحين والمكارين، حتى أملأ الدرج من الوجهين، ثم أقطعه عرضا، وألصقه مخالفا، فيجيء منه كلام ليس في الدنيا أحمق منه».
هذا كله في باب المضحكات من الأقوال، ولكنه لم يقتصر عليها، فتفنن أيضا في المضحكات من الأفعال؛ فكان - مثلا - يمشي في الشارع ومعه سلم، أو يحمل في يده سمكة، فإذا سئل: لم يفعل ذلك؟ أمطر سائله بإجابات مخزية تثير الضحك. ويجلس في الشارع وحوله المجان ويلبس في رأسه لباس رجله، وفي رجله لباس رأسه، وحوله ثلاثة نفر يدقون بالهواوين حتى يجتمع الناس، ويشترط على الحاضرين ألا يضحكوا، فمن ضحك فعليه عقوبة، ويأخذ في أحاديثه وأفاعيله، فمن ضحك وكان وضيعا صب على رأسه ماء وحمأة مما بجانبه، وإن كان شريفا رش عليه ماء من قصبة في يده، وحبسه حتى يغرم درهمين.
ورئي مرة وبيده اليسرى قوس وعلى يده اليمنى باشق وعلى رأسه قطعة رئة في حبل مشدود بأنشوطة، وقد ألقى شصا في الماء، وربطه بحزامه. فقيل له: ما تصنع؟ قال: يا أحمق أصطاد بجميع جوارحي، إذا مر بي طائر رميته عن القوس، وإن سقط قريبا مني أرسلت إليه الباشق، والرئة التي على رأسي تجيء الحدأة لتأخذها فتقع في الوهق، وإذا جاء السمك في الشص أحسست به فأخرجته.
وهكذا وهكذا.
فملأ العراق بأضاحيكه، وكان ينتقل من سر من رأى إلى بغداد، ومن بغداد إلى الكوفة، فيتحدث الناس بحضوره ورحيله كما يتحدثون بأمير أو عظيم.
وانهال عليه المال انهيالا حتى لم يكن يدري ما يصنع به، ولامه بعض الشعراء على سلوكه مع فضله وأدبه فقال له: يا أحمق! أتريد أن أكسد أنا وتنفق أنت؟
وتحدث رجل إلى آخر: «ألا يأنف الخليفة لابن عمه مما قد شهر به وفضح عشيرته؟» فقال له الآخر: «ويحك! والله يا عم لو رأيت ما يصل إليه بهذه الحماقات لعذرته».
ووقف البيت العباسي في أمره موقفين مختلفين. فأما بعضهم فغضب من ذلك! وشعر بأن هذه الأعمال سبة البيت وفضيحته؛ لذلك أمر الخليفة المستعين إسحاق بن إبراهيم (محافظ بغداد) أن يأخذه ويحبسه! فصاح أبو العبر في الحبس: «لي نصيحة. لي نصيحة!» فأخرج ودعا به إسحاق فقال: هات نصيحتك! قال: على أن تؤمنني؟ قال: نعم. قال أبو العبر: «الكشكية لا تطيب إلا بالكشك»، فضحك الحاضرون، ومنهم إسحاق. وما زال يهذي بمثل هذه النصائح، فقالوا: مجنون. وأخرجوه.
وأما المتوكل فأفسح له صدره واتخذه سخريا له، فكان يرميه بالمنجنيق في الماء ثم يطرح الشبكة فيخرجه كما يخرج السمك، ويضحك من ذلك، ويعطيه ما لا يعطي الشعراء.
وأفلح أبو العبر في الضحك على الناس ونال بالتحامق ما لم ينله بالتعاقل.
فأما هو فقد انتقم لنفسه من الناس، ومن بيت العباس، وقال: لو نفق العقل لعقلت، ولو راج الجد لجددت، ولكن حمق الناس فتحامقت.
وأما غيره فقال: «أنا والله لا أعذره، ولو حاز بحمقه الدنيا بأسرها».
فليحكم القارئ.
الشرق ينقصه الحب
يخيل إلي أن لو كان للحب مقياس يقاس به كما تقاس به درجة الحرارة، لرأينا به أن درجة الحب في الشرق منخفضة منخفضة، حتى تكاد تبلغ الصفر، وأن درجة البغض - أو على الأقل درجة الحياد - مرتفعة مرتفعة حتى تكاد تبلغ المائة.
ولست أعني حب الرجل للمرأة، ولا المرأة للرجل، ولا حب الأب لابنه ولا الابن لأبيه، فهذا حب غريزي تراه في القطط والكلاب وكل حيوان، كما تراه في الإنسان، ولا فضل للمدنية فيه إلا أنها رقته وهذبته وشكلته أشكالا وألوانا.
وإنما أعني حب الإنسان لقومه؛ فهذا القدر في الشرق أقل جدا من مثيله في الغرب.
لقد لفت نظري إلى هذا المعنى أني زرت إنجلترا مرة، فبعد أيام قليلة أحسست أن كمية الحب في الجو أكثر منها عندنا، وتجلى لي هذا في سؤال الناس بعضهم بعضا قضاء مصالحهم، وفي معاملتهم على اختلاف أنواعها، بل وفي السؤال: أين الطريق؟
كمية من الحب كبيرة لطفت المعاملة، وأطلقت البشر، وملأت الجو سرورا، والمعاملة نعومة، وجعلت عجلة الحياة تمشي سريعا في غير ضوضاء وجلبة.
ونقصان هذه الكمية في الشرق هو أكبر سبب في أكثر ما نرى من متاعب؛ فنقصان كمية الحب هو الذي جعل طبقة الحكام في الشرق يتناحرون تناحر الأعداء، ويلعن بعضهم بعضا، ويجرح بعضهم بعضا، حتى لا يكاد يسلم أحد من رمي بالخيانة والإجرام والسرقة وسوء النية وبيع البلاد للأجانب ونحو ذلك من التهم، حتى لم يبق رأس سليم، وهو الذي جعل الجهود تبذل بين تفكير في خطط الهجوم وخطط الدفاع، وضاعت بين هذا وذاك مصالح الشعب. وفي الغرب نقد عنيف أحيانا، يبلغ درجة الاتهام أحيانا، ولكن تلطفه كمية الحب، فيبدو في أغلب أحيانه كعتاب الأصدقاء؛ ثم لا يمنع الناقد نقده أن يقول لمن ينقده: أحسنت في مواضع إحسانه، كما يقول: أسأت في موضع إساءته. وأجمل من هذا أن تختفي هذه الاتهامات إذا جد الجد، وظهرت مصلحة الشعب في التعاون.
ونقصان كمية الحب هو علة ما يبدو من شكوى أصحاب الأعمال من الموظفين، فليس المرتب الذي يتقاضاه الموظف باعثا كافيا على إحسانه عمله وقضائه مصالح الناس على الوجه الأكمل؛ إنما المرتب يدعوه لأن يحضر في موعد الحضور ويخرج في موعد الخروج، ويؤدي من الأعمال الآلية ما يعفيه من المسئولية. أما روح العمل، والسعي في تحقيق مطالب الناس، والعمل لخيرهم، فإنما يبعث عليها كمية كبيرة من حب الناس لا تزال مفقودة عند أكثر الموظفين.
ونقصان الحب هو الذي ملأ الجو بشكوى الفلاحين من ملاك الأراضي، وملاك الأراضي من الفلاحين، فليس بينهم حب متبادل، ولا عطف مشترك، إنما هي نظرة الناهب لما ينهب والصائد لما يصيد.
وهكذا تبحث عن كل مناحي الحياة، وكل مرافق العيش، فترى العجلة تسير ولكن ببطء، وتتحرك ولكن بصخب وضوضاء؛ لأنها عدمت بلسم الحب.
إن توفر الحب انعدمت الحرب بين الطبقات؛ لأن الغني يحب الفقير فيرحمه، والفقير يحب الغني فيحترمه، وطبقة الأشراف والنبلاء تؤمن بأنها تعيش في رغد من العيش بفضل يد الفلاح والعامل والصانع، ولولاهم لماتوا جوعا، فتحبهم وتفيض عليهم من خيرها؛ وطبقة الفلاحين والعمال تجازي إحسانا بإحسان وفضلا بفضل؛ وهكذا يسود الجميع حب وعطف ورحمة، ومن غير هذا الحب يكون الموقف موقف انتهاز الفرص، وتربص للإيقاع، وامتلاء للصدور بالحقد والضغينة. •••
إن ما حدث في الأمم من توارث تطالب بحقوق الإنسان، وحروب لتحقيق الإصلاح، ليست إلا مظهرا من مظاهر الحب، وشفقة على الإنسان المعذب، والفقير البائس، والطبقة التي تشقى لحساب الطبقة التي تتقلب في النعيم.
وإن ما وصل إليه العالم من تحقيق العدل بين ذي الجاه وعديم الجاه، وبين الأبيض والأسود، وبين الفقير والغني، ليس إلا بفضل الحب ظهر في شكل قانون.
وهو لم يصل إلى غايته؛ ولم يبلغ كماله إلا لأن كمية الحب في العالم أقل مما يرجوه المصلحون وينشده المثاليون.
وإن استعداد شعوب أوروبا للحرب، وتسابقها في وسائل الفناء دليل على أن الحب في كل شعب لم يتعد دائرة قومه، ولم يخرج عن نطاق القومية ليشمل الجنسية.
وإن تعاون الغرب على ظلم الشرق وافتياته على شعوبه وهضمه لحقوقه، واستغلاله لمصلحته، دليل على أن حبه لا يزال ضيق الأفق، لم يستطع أن يمزق حجبه، ويتغلب على أنانيته وقوميته وجنسيته ليظفر بحب إنسانيته.
إن شئت فقل: إن كمية الحب في العالم أقل مما يلزم، وإنها بذرة صغيرة تحتاج إلى النماء، وإنها في الشرق أقل منها في الغرب.
إن نهضة الشرق للدفاع عن استقلاله مظهر من مظاهر حب القومية في قلبه، وإن تعاون أمم الشرق فيما تشترك فيه من مصالح، دليل على اتساع الحب من قومية إلى شرقية، ولكن ربكته في الحكم وصعوبة سيره في الحياة، والسباب المقذع للمصالح الشخصية، والشكوى الملحة من الطبقات بعضها من بعض، وعدم رعاية مصالح الجمهرة العظمى من الأمة كالفلاحين والعمال والصناع، وتوزيع ميزانيات الدول في مصالح الخاصة أكثر منها في مصالح العامة، دليل على أن الحب في أول عهده، وأنه في أشد الحاجة لمن يرعاه ويربيه وينميه.
لو ساد الحب لاحترمت الآراء، وأومن بحرية الفكر، ونفذت الفكرة لما فيها لا لقائلها ، ولدقق المتهم عند الاتهام ورجع إلى ضميره عند التجريح، ولراعى المصلحة العامة، لا المصلحة الشخصية، ولا المصلحة الحزبية.
ولو ساد الحب لعمم التعليم، وعممت المستشفيات الشعبية، وعممت المتنزهات العامة وحورب البؤس قبل أن يشجع الترف.
مظهر الحب التعاون، ومظهر البغض الحرب. والحرب أثر من آثار الوحشية، والتعاون - في أحسن أشكاله - أرقى ما وصلت إليه الإنسانية.
قد يدعو الحب إلى الحرب، كالأمة تدافع عن نفسها، والشرق يدافع عن استقلاله؛ ولكن لم يبعث عليه في الأصل إلا الكره من الأمم المهاجمة، ولو فشا الحب في العالم واتسع نطاقه حتى شمل الإنسانية بأجمعها لحل التعاون محل الحرب.
ومصيبة العالم الآن وقبل الآن ناشئة من أن نظمه كلها مؤسسة على الحب الضيق، والكره الواسع؛ فالوطنية ليست إلا حبا ضيقا في حدود الإقليم، مغلفا بكره واسع في خارج الحدود. ومن الأسف أن ليس في الإمكان أن تدعو أمة إلى ترك وطنيتها؛ لأنك بذلك تدعوها إلى إلقاء السلاح وسط مسلحين لا يكادون يشعرون بإلقائها سلاحها حتى ينقضوا عليها.
وإنما الأمل الوحيد عند المتفائلين أن تتعلم الأمم جميعا من دروس الحرب أن تتعاون على قلب النظم الاقتصادية والتعليمية والاجتماعية، ووضعها على أساس جديد هو حب الإنسانية.
ومن فجر الحضارة كان هناك مظهران متناقضان في العالم: مظهر كره يدعو إلى الحرب بين الأمم، ومظهر حب كمين يدعو إلى التعاون في الفنون والعلوم والنظم الاجتماعية. كانت المدن اليونانية تتحارب بالسلاح، وتتعاون في الفن والفلسفة؛ وكذلك كان العرب والفرس، والعرب والروم، والعرب والأسبان؛ وكذلك الشأن الآن بين الأمم الأوروبية بعضها وبعض، وبين أمم الشرق وأمم الغرب؛ فالتعاون بين هذه الأمم كلها - قديما وحديثا - قدم العلوم والفنون والفلسفة، والحروب أخرتها. ولو ظل التعاون على أكمله ولم يعقه عائق من الحرب لبلغت العلوم والفنون أضعاف ما بلغت الآن؛ فبالتعاون حييت فلسفة اليونان، وبالحروب ماتت، ثم بالتعاون بعثت؛ وهكذا فلسفة الإسلام وفنون الإسلام. وما كان من خير مشترك في هذا العالم كنظم التعليم ، والنظم الاجتماعية، والسكك الحديدية والبرية ونحو ذلك، فضرب من ضروب التعاون؛ وما كان من خراب وبؤس للشعوب وخوف على الأنفس والأموال، فمنشؤه الحرب التي دعا إليها الكره.
وبعد فما أحوج الناس جميعا إلى الاستزادة من الحب، وما أحوج الشرق خاصة إلى الاستزادة من الحب فهو دواؤهم الوحيد الذي يتغلبون به على أمراضهم.
إن الحب إذا فشا في أمة أتت بالأعاجيب، وفعل فيها ما لا يفعل المال والعلم والفلسفة.
هو هدى بعد ضلال، وغنى بعد فقر، ونور بعد ظلام، هو معجزة المعجزات، فيبرئ الأكمه والأبرص، ويحيي الموتى بإذن الله.
لو انتصر المسلمون!
تحت هذا العنوان قرأت مقالا في مجلة إنجليزية
1 ، كتبه كاتبه بمناسبة انتصار «فرنكو» في أسبانيا بمعاونة المراكشيين المسلمين، فأوحت إليه هذه الحادثة أن يرجع بذهنه إلى ما وقع بين المسلمين والمسيحيين في موقعة «تور» في فرنسا سنة 732م فقال: إن أوروبا كلها كانت تسقط في يد المسلمين لو انتصروا في هذه الموقعة، وما كانت إنجلترا تستطيع صدهم أيضا؛ لأنها لم تكن في حالة حربية تسمح لها بصد قوى العرب، والتاريخ لم يحفظ لنا كثيرا من الأمثلة التي تم فيها من الانقلاب ما تم على يد المسلمين، فإن عددا قليلا من العرب المملوئين حماسة دينية، متأثرين بنبيهم «محمد» استطاعوا بقوة إيمانهم، وبالسيف والنار، أن يسيطروا في مدى قرنين على جزء ضخم من العالم يمتد من شاطئ المحيط الأطلنطي إلى نهر السند، وكان غرضهم الأعظم أن يحولوا العالم إلى دينهم بالدعوة أو بالقوة - عبروا مضيق جبل طارق، وتدفقوا كالسيل الجارف إلى إسبانيا وجنوبي فرنسا.
وفي سنة 731م كان عبد الرحمن يسيطر على كل الجانب الغربي الجنوبي لأوروبا، ويهدد سائر فرنسا وما وراءها، ويقود جيشه في ظفر يتلوه ظفر، هازما ما يقابله من جيوش في سهولة ويسر، فاتحا ما يلاقيه من المدن، محولا ما يجده من كنائس، لا يقف أمامه شيء، ناشرا تعاليم «محمد»، حتى وصل إلى أبواب «تور» على بعد مئة وثلاثين ميلا فقط من باريس.
ثم لقيه «شارل مارتل» بجيش قليل من محاربين جرمانيين جبابرة، فتقاتل الجيشان لا ساعة من نهار ولا نهارا كاملا، ولكن ستة أيام قتالا شديدا مستعرا، كان يبدو فيها عبد الرحمن منتصرا، ولكن في اليوم السابع تحولت دفة الحرب في صالح «شارل» وقتل عبد الرحمن وهزم جيشه، وكر راجعا إلى الأندلس.
فلو أن «عبد الرحمن» انتصر، كما كانت تدل عليه كل الظواهر، ولم يوفق «شارل مارتل» إلى صده، لتم فتح العرب فرنسا وأوغلوا بعدها في ألمانيا وإيطاليا، وما كان يقف في سبيلهم شيء ولا إنجلترا وإيرلندا.
وماذا - إذا - لو تم ذلك؟
لو تم ذلك لكانت أوروبا اليوم كلها مسلمة، تدوي أصوات المؤذنين فوق مآذنها، وتحرم الخمر والميسر والخنزير، وتسودها كل شعائر الإسلام.
ثم يتساءل الكاتب في مكر ودهاء: «هل كانت أوروبا الآن تصبح متأخرة في مدنيتها وتقف فيها موقف العالم العربي الآن؟»
يجيب عن ذلك بأنه «من المرجح ألا يكون ذلك، فقد بلغت الأندلس في عهد المسلمين منزلة رفيعة من الثقافة، ولئن كان المسيحيون يصبحون مسلمين إذا انتصر «عبد الرحمن»، فإن العلم - إذ ذاك - لم يكن يذبل؛ لأنه أزهر في الأندلس المسلمة، وكان العقل الغربي والنبوغ الآري يشق طريقه في مناحي العلم المختلفة، ولكن كان التفكير الغربي يضعفه التأمل الشرقي، وما كان يوجد المفكر الحر، لفقدان التسامح عند المسلمين، وما كان يرقى التصوير ولا الحفر؛ لأن القرآن يعدهما من ضروب الوثنية. وكانت المرأة الغربية تصبح كالمرأة الشرقية. وما كانت تستكشف أمريكا لعدة قرون، وإن استكشفت بالمصادفة أو البحث لكان مصيرها مصير أوروبا».
حرك هذا المقال عقلي، وأثار شجوني، وأطار خيالي.
ماذا كان يكون شأن العالم الآن لو انتصر المسلمون في وقعة «تور»، وتحقق ما توقعه الكاتب من فتح المسلمين أوروبا كلها وتدينها بالدين الإسلامي؟ وماذا كان يكون موقف المدنية الحديثة الآن؟
الحكم على ذلك في منتهى الصعوبة؛ لأن أحداث التاريخ وتقلبات الأوضاع الاجتماعية تخضع لآلاف الآلاف من المؤثرات، وبعض هذه المؤثرات في غاية الخفاء وغاية التعقيد. هذا إذا كانت الأحداث بين أيدينا وتحت سمعنا وبصرنا، فكيف إذا فرضناها فرضا وتخيلناها خيالا؟ اعتبر ذلك بما هو حادث اليوم في العالم، فكل المقدمات ماثلة أمامنا، ومع هذا يختلف رجال التاريخ والسياسية والاقتصاد والاجتماع العالمون ببواطن الأمور؛ هل تؤذن هذه المقدمات بحرب شعواء عاجلة تأكل الأخضر واليابس، أو لا تؤذن بحرب، وستنفرج الأزمات ويسود السلام على الأقل عهدا طويلا؟ إن كان ذلك والشواهد ماثلة والأدلة حاضرة، فكيف بشئون عالم سحيق في القدم، غير معروفة جميع ظروفه وأحواله، نفرض فيها النتائج كما نفرض المقدمات، ونتخيل ما يحدث قبل أن يحدث، ومع هذا فنحاول الإجابة، ولنقس ما لم يكن على ما كان. •••
لقد جرى المسلمون والمسيحيون شوطا في السباق، والتقيا في أثنار الطريق، وإن لم يلتقيا في البدء؛ فقد بدأ المسيحيون شوطهم قبل المسلمين بأكثر من ستة قرون حتى جاء الإسلام، فبدأ سيره وجرى طلقا يفتح ويدعو ويؤسس مدنية ويعدل مدنية حتى حاذى النصرانية وجرى بجانبها، فماذا كان بعد ثلاثة قرون من الإسلام وتسعة من النصرانية؟ رأينا حضارة بغداد في عهد العباسيين، وحضارة القاهرة في عهد الفاطميين، وحضارة قرطبة في عهد الأمويين، لا يدانيها في ذلك حضارة في العالم، سواء في العلم والفن، وآلات القتال، ومظاهر اللهو والترف، ومظاهر الجد والعمل.
لقد ذابت مدنية اليونان ومدنية الرومان في أوروبا، ولم يكن لهما نظير في الشرق، ومع ذلك لم يسبق الغرب الوارث الشرق المبتكر.
وظل الغرب يتتلمذ للشرق قرونا طويلة، يجلس رجاله إلى ابن رشد يأخذون فلسفته، وينقلون إلى لغاتهم كتبه، ويدرسون كتب ابن سينا في الطب في جامعاتهم، ويأخذون من رياضي الشرق وفلكييهم إلى عهد قريب، ويطيرون في مدنيتهم الحديثة من على أكتاف الشرقيين؛ فماذا كان يمنع المسلمين أن يصلوا إلى مدنية مثل المدنية الحديثة أو خير منها إذا استمروا في طريقهم ولم تعقهم عوائق خارجة عن دينهم، وخارجة عن عقليتهم؟
لم يمنعهم الإسلام أن يطلبوا العلم في شتى ألوانه، ولا أن يعكفوا على فلسفة أرسطو وأفلاطون وغيرهما، ولا على رياضة أقليدس وفيثاغورس وأضرابهما. ولم تستعبدهم هذه الأسماء الرنانة كما استعبدت عقول أوروبا في القرون الوسطى، فنقدوا أرسطو وأفلاطون وأقليدس وبطليموس، وعدلوا بعض نظرياتهم، وأبطلوا بعضها، وغزا عقلهم نواحي العلم، كما غزا جيشهم نواحي العالم، وكان كثير من المسلمين إذا قالوا: «لا إله إلا الله، محمد رسول الله» فعقولهم بعد حرة في كل تفكير، طليقة من كل قيد.
لقد نسي الغرب تاريخه إزاء الشرق، ونسي الشرق تاريخه إزاء الغرب، ولم ينظر كلاهما إلا إلى حاضره؛ فزهي الأول وتعاظم، وذل الآخر واستكان، وجهل كل أن الشرق كان يتقدم الغرب في السباق، إلى القرن الخامس عشر؛ ولولا نكبة العنصر المغولي والعنصر الآري الذي يفخر به الكاتب لظل الشرق في طريقه وفي تقدمه، لولا مصيبة التتار التي أتت على خير للمسلمين وأضعفت قوتهم وأذلت نفوسهم، ولولا حكم الأتراك للشرق وما جر من فساد وفوضى واضطراب، ولولا جناية الغرب على الشرق بما جرعته من غصص وما سلكت معه من منهج يتلخص في إضعافه عقليا وروحيا، واستغلاله ماديا، لولا ذلك كله لتقدم الشرق بخطواته الواسعة، ولكان ذلك من خيره وخير العالم. إذا، لكان للعالم مدنيتان تتسابقان في البناء: مدنية أساسها الإسلام والروحية الشرقية والعقلية الشرقية، ومدنية أساسها المسيحية والعقلية الغربية، ولانعدم الاحتكار وما يجر من أضرار، وما يفقد من تنافس. •••
بل يخيل إلي أنه لو انتصر المسلمون لكانوا أسرع خطى إلى المدنية؛ فقد عاقت نهضة أوروبا عوائق ليست عند المسلمين، لقد عاقها قرونا طويلة سلطة الكنيسة وحجرها على العقول والآراء، وتدخلها في كل شأن من شئون الحياة بقوة وعنف، والإسلام لا يعرف سلطة لرجال الدين، ولا يقر بوساطة بين العبد وربه. وعاق أوروبا نظام الطبقات وسلطة الأشراف والنبلاء، والإسلام لا يعرف هذا النظام، ويقرر أن المسلمين سواء تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم. ولم تتخلص أوروبا من هذه العوائق وأمثالها إلا بعد جهد جهيد، وأنهار من دماء، وجسور من رءوس.
فلما خلصت أوروبا من هذه العوائق أو كادت، اخترعت «الوطنية» فكانت مصيبتها الكبرى وعلتها العظمى، أشعلت نار القومية، وجعلتها أساس التربية وأساس الاقتصاد، وتسابقت الأمم في الوطنية فتسابقت في التسلح، فما تنقضي حرب حتى يبدأ الاستعداد لحرب شر من الأولى. وهكذا ظلت المدنية الأوروبية التي يغار عليها الكاتب بين حرب واستعداد للحرب، وأفراد من كل أمة تتحكم في مصير الشعوب، وتطيح برءوسها، وتفرض الضرائب الفادحة لتنشئ بها أساطيل وقنابل وغازات وطائرات وغواصات ومدرعات، لتتعاون كلها على حصد الأرواح حصدا، وتحرم الأب من أبنائه والأبناء من آبائهم، ومن نجا من القتل وقع في أسر البؤس والحزن والهم. والعلم الذي اخترع لخدمة الإنسانية، استخدم لإفناء الإنسانية؛ وهذه خلاصة المدنية، وهذا ما جلبته الدعوة إلى الوطنية. •••
لقد فتح المسلمون الأولون فارس والشام ومصر والأندلس وغيرها، فلم يفقدوها شخصيتها، ولا حرموها علما ولا ثقافة، ولا سلبوها حريتها؛ ومن أسلم فالعالم الإسلامي كله له، ومن لم يسلم ودفع الجزية فله ما للمسلمين وعليه ما عليهم، وظلت هذه البلاد المفتوحة كلها تشترك في بناء المدنية الإسلامية على قدم المساواة؛ فعلماء فرس وعلماء شاميون وعلماء مصريون، وفنانون من كل صنف، وممسكون بزمام الحكم من كل قطر؛ ولكن لما فتح الغرب الشرق حرمه العلم إلا بحساب وفي حدود معينة، ومنعوا أهله حرية القول والتفكير وحمل السلاح إلا بمعيار ضيق، وأخصبوا أرضهم وأجدبوا عقولهم؛ لأن أرض الشرق للغرب وعقل الشرق على الغرب؟ فلو فتح المسلمون أوروبا - كما توقع الكاتب - لحفظوا لأوروبا شخصيتها وأوسعوا في علمها وثقافتها، وتركوا لها حريتها في أكثر شئونها، ولم يمنعوا نبوغ من استعد للنبوغ، ولا حجروا على عقل ولا تفكير، ولا كانوا يستغلون أرض أوروبا للشرق، إنما كانوا يستغلون الشرق والغرب للشرق والغرب. ودليلنا على ذلك أن جميع البلاد التي فتحها المسلمون الأولون ظلت زاهية مزدهرة بعد فتحهم بأحسن مما كانت قبل فتحهم، وأن الشرق كاد يموت بعد أن فتحه الغرب لولا لطف الله وبقية من مناعة الفتح الأول.
وأهم فرق بين الفتحين أن مدنية الإسلام كانت تنظر إلى العالم الإسلامي كله كوحدة، خير الجزء خير الكل، وشر الجزء شر الكل، والمدنية الحديثة تنظر إلى العالم من خلال القومية؛ فخير تونس والجزائر ومراكش وسوريا لفرنسا لا لهذه البلاد، وخير طرابلس لإيطاليا لا لطرابلس، وخير الهند لإنجلترا لا للهند، وهكذا جريا على الأسلوب الحديث في النزعة الوطنية؛ ولهذا نعم الشرق في حكم العرب، ولم ينعم الشرق في حكم أوروبا، ولا يمكن أن ينعم هؤلاء ولا هؤلاء إلا بإحلال الإنسانية محل الوطنية، ودون ذلك أهوال.
ثم ما الذي كان يمنع العرب من استكشاف أمريكا، ورحالوهم كابن جبير وابن بطوطة لم يكن يدانيهم أحد من رحال الغرب في عصرهم؟ على أن فكرة استكشاف أمريكا إنما دعا إليها، وحث على تحقيقها، نظرة كروية الأرض التي أثبتها جغرافيو العرب، وبرهن عليها فلكيو العرب. •••
أخشى أن يكون «الكاتب الفاضل» قد استحضر في ذهنه عند كتابة المقال صورة العالم الإسلامي الحاضر، ولم يستحضر العالم الإسلامي الغابر، فرأى ما عليه المسلمون اليوم من فقر عقلي، وفقر مالي. فأشفق على أوروبا أن يحكمها هؤلاء فيقلبوا غناها فقرا وعلمها جهلا وقوتها ضعفا، وفاته أنه يتكلم عن «عبد الرحمن» وعن جنود «عبد الرحمن» وهؤلاء كانوا أقوياء في غير ضعف، أغنياء في غير فقر، علماء في غير جهل، وقد مرنت عقولهم في غير جمود، وطلبوا الخير للعالم من غير قيود، فهل يعيد التاريخ نفسه؟
عهد وثيق
التقيا في الصباح على ميعاد؛ لينجزا عملا سريعا لم يستطيعا أن يعملاه أثناء الأسبوع لكثرة شواغلهما، وتوزع جهودهما، فهما أيام العمل كالحصان، قد شدت يداه ورجلاه، بل وشعره، بحبال وخيوط تجذبه إلى جهات مختلفة متناقضة، يمينا ويسارا وأماما وخلفا، فهو لا يستطيع أن يقطع شوطه ويبلغ مداه.
فليكن يوم الجمعة الخالي من أعباء «الوظيفة» المخصص للراحة، هو يوم إنجاز العمل المتأخر الذي لا بد أن يكون.
بدآ في الصباح، ولذهما العمل وطاب، واستغرقا فيه، فلم يشعرا بوجودهما ولا بزمانهما ولا بمكانهما، ولا بأي شيء حولهما. وأفاقا كأنهما كانا في حلم لذيذ، فإذا أرجلهما مثلوجة من رطوبة المكان، وبطونهما خاوية من تفاهة الإفطار، وعقولهما مجهدة من كثرة العمل. والتفتا لما عملا وما بقي، فوجدا أن لم يتم من العمل إلا نصفه أو أنقص منه قليلا.
إذا فلنشحذ عزائمنا، ولا نفترق حتى يتم عملنا، ولنتكلم في التليفون ألا ينتظرونا في الغداء، ولنأخذ غداءنا في مطعم قريب نستريح بعده قليلا، ثم نستأنف العمل حتى يتم، ولننم بعد ذلك في راحة ضمير وعناء جسم، فذلك خير من أن ننام في راحة جسم وعناء ضمير.
م :
هيا بنا!
ح :
إلى أين؟
م :
إلى مطعم «الكرسال».
ح :
يا أخي، طالما انتقدتك على هذه النزعة الغريبة عندك! تفضل المصنع الأجنبي، والمقهى الأجنبي، والمطعم الأجنبي، وكل شيء أجنبي كأنك أجنبي، وفي هذا خطر على مال الوطني وجهد الوطني ونتاج الوطني! إن «كانت» الفيلسوف الألماني وضع قاعدة أخلاقية لطيفة نتعرف بها صلاحية الشيء وفساده، فقال: «إذا أردت أن تعرف شيئا صالحا أو فاسدا فعممه»، فإذا أردت أن تكذب فافرض أن الناس كلهم يكذبون، فهل تبقى أمة على الكذب العام؟ يكذب كل رئيس فيها على كل مرءوس، وكل مرءوس على كل رئيس في كل ما يقول، وتكذب الزوجة على زوجها والزوج على زوجته، والآباء على أبنائهم في كل ما يقولون. فإن نحن طبقنا هذه النظرية تبين فساد نظرك في جلاء ووضوح؛ فلو أن كل مصري أراد أن يشتري شيئا أو يبيع شيئا أو يأكل شيئا أو يلبس شيئا، استقضاه من الأجنبي، ما بقي في مصر مطعم وطني ولا مقهى ولا دكان. وأين أنت ومطعم فلان الوطني؟: قصر منيف تحول إلى مطعم وطني فاخر نظيف، صاحبه مصري وخادمه مصري، ولحمه مصري وطهيه مصري. إن طلبت اللذة فهو ألذ من الكورسال، وإن طلبت النظافة والإتقان فكذلك، وإن أردت نفع المصري فهذا وجهه.
م :
حرام عليك. ألم تنس ما كنا فيه من عمل عقلي مضن، فتريد أن تزيده ضنى وجهدا - حتى في الطريق - بمحاضرتك الفلسفية؟ ولا تنس «كانت» وفلسفته، وإذا تركتك استرسلت إلى شوبنهور وشيلر ولسنج، وأتيت على البقية الباقية من رأسي وعقلي. ارحمني يرحمك الله، وتكلم في حديث خفيف يدخل السرور علينا ويذهب بعنائنا، ولأبرهن لك على صدقي في قولي بقبول ما اقترحت وتنفيذ ما أردت، من غير حاجة إلى محاضرة عن «كانت» وأشباهه. فنذهب إلى المطعم الوطني. •••
محل لطيف ورائحة شواء تدخل الخياشيم فيجري لها الريق وتتفتح الشهية، ورنين أشواك وملاعق، ومنظر أكلة يبشر بأنهما سيلعبان هذا الدور قريبا.
يا غلام! هيئ لنا مكانا منفردا وإن غلا ثمنه، وأكثر لنا من الكوامخ من كل صنف، طحينة، ولبن، ومخللات، وابعث لنا برئيسك سريعا.
وفي لحظة واحدة تم كل ذلك، فهيئ المكان وأعد إعدادا حسنا، وصفت عليه الأطباق والشوكات والسكاكين والملاعق وإبريق الماء النظيف الرائق، تسطع عليه الشمس فيلمع كالدر، وامتلأت المائدة بالكوامخ، وإن تظرفت فقل: «السلطات» المختلفة، والعيش المقبب. وحضر سيد الخدم في سرعة عجيبة!
رطل ونصف من الكباب، ليس بالسمين، ولكن.
نعم.
بسرعة مدهشة تساوي سرعتك في سؤالنا.
خمس دقائق فقط وإن تأخرت فعشر، ولكن لا تزد فوراءنا عمل ينتظرنا، والساعة الآن الواحدة والنصف. «حاضر». في أقل من ذلك يحضر الطلب.
وأخذا يداعبان العيش المقبب والسلطة واستساغا الطعم فزادا، وحلا الحديث فتحدثا، وراعى (ح) صديقه (م) فلم يتحدث في الفلسفة، وكلما انحدر إليها من غير شعور تنبه إلى قول صاحبه فعدل، وتخلل الحديث فكاهات ظريفة استثارت الضحك العميق، حتى خيل إليهما أن لو حضر لهما خروف مشوي لا رطل ونصف لأتيا عليه.
ودخلا في الحديث من باب إلى باب، والضحك يتتابع و«السلطة» والخبز يضؤلان. وإذا بالحديث يدور حول الغضب وأسبابه ونتائجه، وإذا بالسيد (ح) يقول: ألاحظ أن المصريين سريعو الغضب، فهم يغضبون من أقل شيء ومن لا شيء! ثم إذا غضبوا لم يقفوا عند حد؛ فشبانهم إذا غضبوا حطموا ودمروا، وصغارهم إذا غضبوا صاحوا بكل ما يستطيعون من قوة، وضربوا الأرض بأرجلهم، وقد يضربون الحائط برءوسهم، وشيوخهم إذا غضبوا أفسدوا عملهم وأضاعوا صداقتهم، ولم يفرقوا بين العمل العام والعلاقات الشخصية، ولا أدري أذلك ناشئ من حرارة جوهم وطبيعة مزاجهم، أم هو يرجع إلى التربية! فإني أرى أن البلاد الباردة يغلب عليها ضبط العاطفة وقلة الانفعال، فهل هذا كسبوه من برودة البلاد أو من تعويدهم أطفالهم ألا يبالغوا في الانفعال؟ لقد حدثت عن مدرس إنجليزي أراد طلبته أن يغيظوه، فوضعوا له حذاء باليا على مكتبه، وظنوا أنه يهيج لذلك ويخبط ويضرب، ويجري تحقيقا دقيقا فيمن دبر هذه المكيدة، ومن وضع الحذاء، ونحو ذلك من أسئلة لا تنتهي، فما إن دخل المدرس الفصل ورأى الحذاء على مكتبه حتى أخذه بيده ووضعه على الأرض، وقال: «تحدثت إليكم في الدرس الماضي عن كذا» واستمر في درسه، فصفق الطلبة إعجابا بمسلك أستاذهم وضبط عواطفه! ولو حدثت هذه الحادثة في مصر لمدرس مصري لانقلبت السماء على الأرض، وقامت لها المدرسة وقعدت، ولشغلت المدرسة أسابيع، وقد تشغل وزارة المعارف أيضا!
م :
لا تنس أنك قد عدت إلى الفلسفة والمحاضرة مرة أخرى.
ح :
لا تؤاخذني يا أخي، فإني لم أستطع أن أغير طبعي، ولكن اسمح لي أن أكمل حديثي في كلمة قصيرة. إنا قادمون على عمل جليل، وقد رأيت أن أكثر الأعمال في مصر تخفق من سرعة الغضب، فتعال معي نضع صيغة «عهد وثيق» نقسم بها ألا نغضب أبدا، وإذا غضبنا لم يؤثر ذلك في عملنا.
م :
الساعة الآن الثانية والنصف، وقد مضت ساعة ولم يحضر الأكل، وقد كدنا نشبع من «السلطة».
ودق بالملعقة على الصحن، فلم يسمع أحد، ثم دق ودق فحضر الخادم. - نعم! - مضت ساعة الأكل لم يحضر. ناد رئيسك.
وتتابع الحديث ولم يحضر أحد، وبعد قليل دخل خادم آخر عليهما، وظن أنهما انتهيا من أكلهما وشربهما. وأنهما يعطلان الغرفة أكثر مما يلزم، فسألهما: هل يريدان قهوة، ومن أي نوع هي!
وتتابع الحديث ثانية أو ثالثة. لا أدري!
ونظر (ح) في الساعة فإذا هي الثالثة، فقام ولحقه (م) ونزلا يستفسران عما تم. فإذا سيد الخدم قد نسي الطلب ولا أكل ولا إعداد ولا توصية.
وانفجر السيد (ح) انفجارة كالبركان إذا قذف، ودوى صوته في بهو المكان كله يهدد ويؤنب، وبهت الحاضرون، وتصلبت الأيدي على الملاعق، ووقفت اللقم في الأفواه، وسكتت الأسنان عن المضغ، وحدقت العيون في هذا الصارخ وهذا المصروخ فيه، وانقلبت صالة الأكل إلى صالة محاضرات يشرح فيها ما يجب على الوطني أن يعمل لسمعة وطنه، أو فصلا في مدرسة يؤنب فيها الأستاذ تلاميذه.
وساد الجميع رهبة. ماذا حدث؟ وماذا كان؟ - لا مؤاخذة.
وخرجا ...
م :
لا تغضب، وأشفق على نفسك. إن «كانت» يقول: «إذا أردت أن تعرف خطأ شيء أو صوابه فعممه»، فماذا يحدث لو غضب كل الناس هذا الغضب؟
والآن إلى أين؟
ح :
إلى الكورسال، فإذا أراد المصريون أن ينجحوا فليس على المستهلك وحده يقع عبء التضحية، بل يجب أن يتحملها أيضا المنتج بإحسانه ما ينتج.
م :
هذا حكم الغضبان، والغضبان لا حكم له.
بين اللاعبين
حرمت - فيما حرمت - لذة اللعب، فلا أعرف نردا، ولا ألعب شطرنجا، ولا علم بي بألعاب «الورق» على اختلاف ألوانها وتعدد أشكالها.
وأخيرا رماني الحظ بليلة جمعت نخبة من الأصدقاء هواة اللعب، جلست بينهم كما يجلس الأصم بين متحدثين، أو الأعمى بين رسامين، أو المتزمت بين حشاشين. يحركون الورق ولا أفهم، ويصيحون ولا أعلم، ويتضاحكون ولا أفقه، ويزعم أحدهم أنه كسب ولا أدري لم كسب، وآخر أنه خسر ولست أعلم لم خسر، وتبرمت بجلوسي بينهم، وزاد في تبرمي أنهم لم يشعروا بوجودي، ولم يأبهوا بحضوري. ففكرت في حيلة أهرب بها من هذا المأزق - فكرت أن أعتذر وأخرج، فحالت حوائل، وفكرت أن أتعلم اللعب، فقلت: أبعد أن شاب قرناها؟ وقلت: أحتال في أن أصرفهم عن اللعب، ثم قلت: أي حق لك في أن تحكم ذوقك في أذواقهم، وتحرمهم من ملذاتهم؟ وأخيرا اهتديت إلى فكرة غريبة، فكرة مظلمة، فكرة تدل على صدق المثل: «يموت الزامر وإصبعه تلعب»، هي أن أنقل المكتبة والجامعة ولجنة التأليف إلى غرفة اللعب، فإن لم يمكن ذلك ماديا فليكن خياليا، فلأتخيل أن كل هذه الأشياء في هذه الحجرة، وأني جالس على مكتبي، وأن كرسي هذا هو كرسي المكتب، وأن مائدة اللعب هي المكتب، وأن لعبهم هو موضوع الدرس، وأن الدرس درس فلسفة، وأن موضوع درس الفلسفة هو «فلسفة اللعب بالورق». فماذا يمكن أن تقول؟ وهب أن أمامك ورقا وقلما فماذا تكتب؟ وقلت: أجعل من هذا موضوعا يعجب المتظرفين في وضع أسئلة الامتحانات في الشهادات. ألن تسمعهم يقولون: «هبك وردة قطفها قاطف فماذا كنت تقول؟» ويقولون: «هبك فقيرا كسبت ورقة «يا نصيب» فماذا أنت فاعل؟»، وهبك وهبك إلى آخره، فقلت: إذا كان «البدع» بدع «هبك» المتسلطة على هذا الزمان، فقل مثلهم: هبك سخيفا تدرس درس فلسفة على لعب الورق. فماذا أنت قائل؟ قلت: أقول.
ثم تساءلت: هل أكتب كما يكتب التلميذ موضوع الإنشاء، فيبدؤه بجمل فخمة ضخمة عوده إياها مدرس الإنشاء، كأن أقول: «لا يخفى على الفطن اللبيب، واللوذعي الأريب، والنحرير الأديب» إلخ، أو أكتب كما يكتب مدرس الإنشاء على السبورة مما يسميه «عناصر الموضوع» فيكتب نقطا ويعددها بالأرقام؟ وأخيرا قلت: إن هذا وذاك لم يبلغ من السخافة الحد الذي أرتضيه، فلتكن سخافتك ابتكارا لا تقليدا، فقلت: إن لعب الورق يمثل القدر، فالقدر يعز من يشاء ويذل من يشاء بلا قيد ولا شرط؛ فمفرق الأوراق، كموزع الأرزاق، يعطي هذا أوراقه فتكون رابحة، وهذا أوراقه فتكون خاسرة، وهذا أوراقه فتكون بين بين. وقد يكون من أخذ الأوراق الرابحة أحق إنسان بالخاسرة، ومن أخذ الأوراق الخاسرة أحق إنسان بالرابحة! ولكنه القدر لا يسأل عما يفعل، ومفرق الأوراق لا يسأل عما يفعل!
وقلت: إن اللعب بالورق - في هذه الحجرة - كاللعب بورق الحياة، لا يستطيع أحد اللاعبين أن يغير أوراق لعبه، بل هو مكلف أن يلعب بها، وبها وحدها، وإنما مهارته تقدر بلعبه بهذا الورق، لا باللعب بما يتمنى من ورق. فكذلك الإنسان في الحياة، هو مكلف أن يلعب بورقه، وإنما كل مهارته في أن يلعب على أحسن وجه. فإذا كان ذا كفاية محدودة كلف أن يلعب بهذه الكفاية خير لعب. وليس له أن يطمح في أن يلعب لعب النابغين. وإن خلق ضعيفا في عقله قويا في يده، أو ضعيفا في يده قويا في قلبه، فليعرف ما هو قوي فيه ، وما هو ضعيف فيه، ثم يلعب بما عنده خير لعب. فإن كان قويا وأراد أن يعمل عمل القوي في عقله، كان كمن يريد أني لعب بورق غيره، وهذا غير جائز في باب اللعب في الحجرة، فكذلك لا يجوز في باب اللعب في الحياة.
وقلت: إن الورق الرابح في يد اللاعب الخائب قد يؤدي إلى الخسارة، والورق الخائب في يد اللاعب الماهر قد يؤدي إلى الربح، فكذلك اللاعب في الحياة، قد يجد ذو الكفاية المحدودة وينظم أعماله وأوقاته، فإذا هو خير ألف مرة من ذي الكفايات النابغة، أضاعها وأهملها ولم يحسن استعمالها.
وقلت: إن اللاعب الماهر في هذه الحجرة قد يصاب بالخسارة في أول الأمر وفي بعض أدوار اللعب، ولكنه يجد ويستخرج كل مهارته وكل نبوغه، فإذا هو رابح آخر الأمر. وكذلك اللاعب في الحياة، قد يصاب بصعاب وعقبات، وقد يظهر إخفاقه في بعض المحاولات، ولكنه لا ييأس، ويتعلم من إخفاقه، فإذا هو آخر الأمر ناجح.
وقلت: إن فلانا هذا اللاعب في الحجرة قد غش مرة في لعبه، فأبدل ورقة بورقة ففقد ثقة اللاعبين، فهم يلاعبونه بحذر ويراقبونه في لعبه ولا يأمنون جانبه. وقد حاول مرارا بعد أن يحسن سمعته فلم يفلح، وحاول مرارا أن يصدق فكان أثر الكذبة مرة أفعل من أثر الصدق مرارا. وهكذا اللعب في الحياة العامة، يزل المرء مرة فيفقد ثقة إخوانه والمتعاملين معه، ولا يكسب ثقتهم بعد إلا بعد عناء إن أمكن.
وقلت: هؤلاء اللاعبون في الحجرة يصفقون للرابح منهم مهما كان ضعيفا في اللعب، ولا يصفقون للاعب المجيد إذا خسر. وكذلك شأن اللاعبين في الحياة، فالناجح هو الماهر وهو الكفء وهو كل شيء، والخاسر هو الخائب، وهو الذي لا يصلح، وهو لا شيء. فأين العقلاء من الناس الذين يصفقون للماهر ولو خسر، ويحتقرون الخائب ولو نجح؟ هؤلاء لم يوجدوا بعد.
ورأيت من اللاعبين من هو واسع الصدر، واسع المغفرة، يكسب فيضحك، ويخسر فيضحك، ينظر إلى اللعب على أنه مسلاة له ولإخوانه، مثل دور الرابح أو الخاسر كما يلعب الممثل دوره في المسرح، لا يهمه إن كان يمثل ملكا أو يمثل سائلا، وإنما يهمه أن يلعب دوره في إتقان، ويدخل السرور على النظارة بإجادته. ومنهم من هو ضيق الصدر، شديد التكلف، أناني، شديد الأنانية، يأخذ اللعب بغم، شديد المشاكسة، يحقد إن خسر، ويطغى إن غلب، ويحول ميدان اللعب إلى ميدان قتال، ومجال التسلية إلى مجال منافسة. فقلت: كذلك ال.
وهنا تصايح اللاعبون إعلانا بانتهاء اللعب، وتعالت الضحكات، وتتابعت النكات، واختلفت سيما الوجوه، فمنها ناضرة زاهرة، ومنها عابسة قاتمة.
وأيا ما كان فقد ظفروا بلعب ظريف وتسلية خفيفة، وظفرت بدرس ثقيل وفلسفة سخيفة.
لست أدري أينا كان أربح، فعلم ذلك عند القارئ.
بين الغرب والشرق أو المادية والروحانية
كنت أقرأ في الكتاب القيم الذي أصدره حديثا أخي الدكتور طه حسين في «مستقبل الثقافة في مصر»، فاستوقف نظري تخطئته لمن يقول: «إن الحضارة الأوروبية مادية مسرفة في المادية لا تتصل بالروح أو لا تكاد تتصل به، وهي من أجل ذلك مصدر شر كثير تشقى به أوروبا ويشقى به العالم كله أيضا».
وقد رد على هذا الرأي «بأن الحضارة الأوروبية عظيمة الحظ من المادية، ولكن من الكلام الفارغ والسخف الذي لا يقف عنده عاقل أن يقال: إنها قليلة الحظ من هذه المعاني السامية التي تغذو الأرواح والقلوب ... ومن الخطأ أن يقال: إن هذه الحضارة المادية قد صدرت عن المادية الخالصة، إنها نتيجة العقل، إنها نتيجة الخيال، إنها نتيجة الروح الخصب المنتج، نتيجة الروح الحي الذي يتصل بالعقل فيغذوه وينميه. ويدفعه إلى التفكير ثم إلى الإنتاج ثم إلى استغلال الإنتاج، لا نتيجة هذا الروح العاكف على نفسه الفارغ لها، الفاني فيها، الذي تفسد الأثرة عليه أمره، فلا ينفع ولا ينتفع، ولا يفيد ولا يستفيد». إلى أن يقول: «هؤلاء الذين يخاطرون في الطيران، فيلقون فيه الموت شنيعا بشعا، ليسوا ماديين؛ لأنهم يضحون بحياتهم في سبيل تقدم العلم وبسط سلطان العقل على عناصر الطبيعة الجامحة ... إن الحضارة الأوروبية المادية هي التي تضحي في كل يوم بكثير من الأنفس في سبيل العلم وفي سبيل السيطرة الطبيعية». إلخ. •••
استوقف نظري هذا الفصل وأثار تفكيري وترددت في نفسي هذه الأسئلة: هل الحق أن الحضارة الأوروبية مادية وروحية معا أو هي مادية فقط؟ وهل الحق أن الشرق لا يمتاز بروحانية؟ وهل الحق أنه إن امتاز بروحانية فهي روحانية قليلة القيمة، باعثة على الفناء، تدور حول نفسها ولا تنتج شيئا؟ وقلت: لعل وجه الصواب يتضح إذا نحن حددنا معنى المادية والروحانية، ثم نظرنا بعد في ضوء هذا إلى الشرق والغرب.
لقد قال كثير من الكتاب والفلاسفة: إن الشرق موطن الروحانية، والغرب موطن المادية، كالذي يقوله بلدوين في كتابه «معجم الفلسفة» عند الكلام في الإسكندرية: «إن الشرق والغرب اختلطا في الإسكندرية، وامتزجت آراء رومة واليونان والشام، في المدنية والعلوم والدين، بآراء الشرق الأقصى في ذلك، فنشأت قضية جديدة، عمل على إيجادها بحث الغرب وإلهام الشرق»، فما الذي يعني بالمادية والإلهام أو الروحانية؟
من الواضح جدا أننا إن عنينا بمادية الغرب عنايته التامة فقط بالمادة التي يرمز إليها بالمال من ذهب وفضة وأوراق مالية ونحو ذلك، فهذا قول ظاهر البطلان كما يقول «الدكتور». فالمدنية الأوروبية مملوءة بالعواطف، من عاطفة حب تقوى أحيانا حتى تصل إلى الانتحار، وعاطفة إعجاب ببطولة وإعجاب بجمال، وازدراء لنذالة وكراهة لقبح، وإحسان إلى فقير، وتضحية نفس ومال لوطن، ونحو ذلك من مظاهر العواطف التي قد يفوق فيها الغربيون الشرقيين، مع ما شهر به الأولون من مادية، والآخرون من روحانية. والمدنية الأوروبية كذلك مملوءة بالعقل، فالعلم يسير سيرا حثيثا في الحضارة الأوروبية، وهو يسبق الشرق فيه بمراحل. والغربيون الآن أساتذة الشرق في الرياضة والطبيعة والكيمياء. وكل فرع من فروع العلم، وليس هذا العلم مستعبدا للمال ولكن يستغله المال، ولا بأس عليه من ذلك، بل نرى في هذه البيئات الأوروبية علماء كانوا المثل الأعلى للتضحية من أجل العلم، فمنهم من أعرض عن المال وداسه بقدميه في سبيل تجربة يستكشفها أو نظرية يحققها، بل منهم من ضحى بنفسه للعلم فمات شهيد اختبار يختبره أو فكرة يبرهن عليها. وأين ذلك كله من دعوى المادية في الحضارة الأوروبية؟
إن كان هذا هو معنى المادية فالدعوى - كما يقول الدكتور - ظاهرة البطلان، ولكن ألا يوجد معنى آخر يستقيم به الفرق؟
هناك معنى آخر قد يكون أقرب إلى الصواب، وهو أن معنى المادية تفسير ظواهر هذا العالم على أساس المادة من غير التفات إلى عالم آخر روحي وراء هذا العالم، وبناء كل وسائل الحياة وكل ظواهر المدنية والحضارة والثقافة على أساس المادة وحدها.
فليس العقل إلا شكلا من أشكال المادة الدائمة التغير والتنوع، وليست أفعال الإنسان مهما دقت إلا نتيجة لمواد الجسم، وليست كل الظواهر النفسية من فكر وإرادة وعاطفة إلا نتيجة للمخ المادي من حيث عمله وحجمه وتركيبه. والعالم «كساقية جحا» تملأ من البحر وتفرغ في البحر. وكل مظاهر الكون من مظاهر السماء ومظاهر الأرض، وغنى من اغتنى وفقر من افتقر، وذكاء الذكي وغباء الغبي، وأدق الأمور النفسية والاجتماعية، ليس إلا نتيجة للمادة. هذا هو معنى المادية، وهو - كما يظهر لي - النظر المسيطر على الحضارة الأوروبية، فالمقدرة العلمية الهائلة في الحضارة الأوروبية اتجهت نحو المادة وأتت فيها بالعجب العجاب، ولا غرابة في ذلك فالمادة معبودها، فطبيعي أن تتجه نحوها بكل قواها، تستكشف فيها كل يوم استكشافا جديدا، وتخترع اختراعا جديدا، فكهرباء وبخار ولا سلكي ونحو ذلك مما لا يحصى ولا يعد.
ثم إن هذه الأشياء المادية كلها تستغل في الحياة المادية؛ في المنازل، في دور السينما، في الإقامة والسفر، في الجد والهزل، في كل مرفق من مرافق الحياة. بل والأخلاق الأوروبية الحديثة وضعت على هذا الأساس. فأهم الأخلاق ما أفاد هذه الحياة المادية، كالنظام، والمحافظة على الزمن، والاقتصاد، ومراعاة الصحة. وأما التواضع والحياة والتفكير في النفس ونحوها فتأتي في آخر القائمة، على أنهم في شك من قيمتها الخلقية، وهم على حق في ذلك ما دام الأساس هو الحياة الواقعية.
ثم الحياة الاجتماعية كلها نظمت على هذا الأساس المادي، من استمتاع باللذائذ ما لم يتأذ الغير. وبناء المعاملات كلها على أساس من الاقتصاد لا روح له، بل وأعمال الخير كلها من إحسان المحسنين وتبرعات المتبرعين، واكتتاب المكتتبين لبناء مستشفيات وملاجئ ونحوها، إنما أساسها كلها تحسين هذه الحياة الواقعة، ورفع البؤس عنها، وإيصال أكبر قسط من السعادة أو اللذة إلى أهلها، وهكذا. •••
أما الروحانية فترى أن المادة وحدها عاجزة عن أن تشرح كل ما يحدث في العالم، بل لا يفسرها إلا القول بوجود شيء غير مادي، شيء روحاني وراء هذا الشيء المادي. فالفكر وظواهر العقل ليس نتيجة المخ المادي، نعم إن المخ آلة التفكير، ولكن يستحيل أن يكون الفكر الإنساني الذي يشعر بشخصيته وبحرية إرادته نتيجة لمادة لا تحس ولا تشعر مهما كانت حالتها من رقي تركيبها وحسن نظامها.
وأعمال الإنسان وظواهر الوجود والذكاء والغباء، وحدوث المألوف وغير المألوف، والغنى والفقر، وأحداث القدر والموت والحياة ونحو ذلك كله، لا يمكن تفسيرها تفسيرا مقنعا إذا اقتصر في هذا التفسير على المادة وحركاتها، بل لا بد أن ينضم إليها شيء روحاني.
فالإيمان بعالم روحاني بجانب العالم المادي من نفس وإله وعالم آخر، هو أوضح خصائص الروحانية.
وهذا النوع من النظر هو الذي يسود الشرق، فهو يؤمن بالإلهام الذي لا يعلل، كما يؤمن بالمنطق الذي يعلل، على حين أن النزعة المادية لا تؤمن إلا بسبب ومسبب، وعلة ومعلول، ومقدمة ونتيجة.
والشرقي - على العموم - أميل إلى أن يدخل في حسابه العالم الروحاني والعالم المادي معا، يؤمن بالقدر خيره وشره، ويحسب ما بعد الموت كما يحسب ما قبل الموت، وإذا تطلب السعادة طلبها من ناحية إيمانه ومن ناحية تعديل نفسه، أكثر مما يطلبها من ناحية تعديل الظروف الخارجية، ولم يبن معاملاته على أساس اقتصادي مادي، بل يبنيها على أن فيها جانبا كبيرا لله أو نحو ذلك، وإذا أحسن فليس يدقق في حسابه ويتساءل: ما نتيجة هذا الإحسان في العالم المادي؟ بل يرضيه أن يكون قد أرضى ربه ونفسه، وإذا قوم الأخلاق فلا يقتصر في تقويمها على النظر في نتيجة هذه الأخلاق بالنسبة للعالم الواقعي، بل نتيجتها في الدنيا والأخرى معا، وليس يرى مبدأ «ما لقيصر لقيصر، وما لله لله»، بل كل عمل فيه ما لقيصر وفيه ما لله.
وقد تغلب النزعة الروحية على بعض الأفراد، فترى أثر ذلك في التصوف والانقطاع إلى العبادة، ونظام الخانقاهات ونحوها. وهو أمر شائع في الشرق ونابع من الشرق.
ولعل سيادة هذه النزعة في الشرق جعلته مهبط الأديان. فالأديان الثلاثة الكبرى وهي: الإسلام، والنصرانية، واليهودية، ظهرت في الشرق، وانتقلت منه إلى الغرب. •••
ولست أنكر أن في الغرب روحانية، وأن في الشرق مادية. ففي الغرب روحانيون قد يفوقون بعض روحاني الشرق، صفاء نفس. وقوة يقين، وتقديرا للأعمال بميزان الروح؛ كما أن في الشرق ماديين قد يفوقون بعض ماديي الغرب إمعانا في تقدير المادة، واقتصارا على ميزان الأعمال بميزانها؛ ولكن الحكم في مثل هذه المسائل العامة لا ينبني إلا على الأعم الأغلب، لا على القليل النادر.
كما أني لا أنكر أن في الغرب دينا، ودينا كثيرا، ونظما دينية دقيقة، وكنائس فخمة، ومعابد عظيمة؛ ولكني أدعي - على ما يظهر لي - أن نظرة الغربي إلى الدين، على وجه العموم، تخالف نظرة الشرقي إليه؛ وقد يكون أهم هذا الخلاف من ناحيتين: إحداهما أنه يسود الغربي النظر إلى الدين كنظام اجتماعي، والثانية أن نظرة الدين لا تتغلغل في كل شيء عند الغربي تغلغلها عند الشرقي. •••
هذه هي المادية والروحانية في نظري، والمادية بالمعنى الذي شرحت تلتئم مع ما نرى في الغرب من علم غزير وعواطف فياضة وتضحيات كثيرة، ولكن هذا كله لم يمنع من أنها صبغت الحضارة الأوروبية صبغة خاصة تخالف روحانية الشرق بالمعنى الذي أبنت.
ولقد غزا الغرب الشرق لا بسيوفه ومدافعه وطياراته فحسب، بل غزاه أيضا بحضارته ونظراته إلى الحياة، وكان من الطبيعي - وقد انكسرت قوة الشرق الحربية أمام قوة الغرب الحربية - أن يظن الشرقي أن نظرة الغربي إلى الحياة خير من نظرته، وحضارته خير من حضارته، فاستسلم لها، وسار في طريقها وفتح لها صدره، وأسلس لها قياده ، وباع روحانيته الشرقية الموروثة بالمادية الغربية الحديثة، وإن كانت الصفقة لم تتم بعد.
أما أن الخير للعالم أن تسوده كله هذه النظرة الغربية، فلا يكون في العالم إلا حضارة واحدة، أو أن يحتفظ الشرق بروحانيته ويبني عليها حضارة جديدة، وأن يكون في العالم لونان: لون مادي تمثله الحضارة الغربية، ولون روحاني تمثله الحضارة الشرقية، ثم تتعاون الحضارتان كما يتعاون جسم الإنسان ونفسه؛ فذلك موضوع آخر له مجال آخر.
امتحان ...
قام في نفسي أن أجمع ثلاثة من أولادي في مراحل التعليم المختلفة، وألقي عليهم سؤالا طريفا، لأتبين عقليتهم وأخبر تفكيرهم، فسألتهم على التوالي: لماذا تذهب إلى المدرسة؟
فأما أصغرهم، وهو في «روضة الأطفال» فقال: أذهب إلى المدرسة لأتعلم لغة عربية، وحسابا، وخطا، وأشغالا.
وأما الذي في السنة الرابعة الابتدائية فقال: أتعلم لآخذ الشهادة هذا العام وأدخل المدرسة الثانوية.
وأما كبيرهم وهو في مدرسة الهندسة فقال: لأتمم دراستي، وأحصل على الشهادة، وأوظف.
وأردت أن أعمل عمل المدرس، فأزن الإجابة وأعطي درجات عليها، فرأيت أني لو دققت في التصحيح لأسقطتهم جميعا، فما شيء من ذلك يستحق أن يكون إجابة صحيحة، ولا شبه صحيحة.
عيب هذه الإجابات أنها تركز أغراض التعليم في ثلاثة أشياء: حشو الذهن بالمعلومات، ونيل الشهادة، والحصول على «الوظيفة». وليس شيء من هذا هو غرض المدرسة الحقيقي في نظري.
أظهرت عدم الرضا لأبنائي عن إجابتهم. فقال أكبرهم: إذا نغير الموقف، فأكون أنا السائل وأنت المجيب، فقد قال القائل:
إن على سائلنا أن نسأله
والعبء لا تعرفه أو تحمله
قلت: لك ذلك.
إن أهم «وظيفة» للمدرسة أنها تعلمنا كيف ننتفع بتراث السابقين، فمنذ كان الإنسان على ظهر الأرض وهو يجرب ويتعلم، ويتبين الخطأ والصواب، ويصل إلى نتائج بعضها يبقى على مر الزمان لصحته، وبعضها يذهب مع الريح لفساده. وقد قام بهذه التجارب ملايين الناس، واشتغلت بتحقيقها ملايين العقول، وضحيت في سبيل فحصها وامتحانها ملايين النفس. وكان العالم كله في هذه الزمان كلها عبارة عن «معمل» تشتغل فيه كل هذه الملايين على التعاقب ، «فيحللون» و«يبحثون»، ويرصدون نتائج بحثهم. وكثيرا ما كانوا يخفقون في تجاربهم وتحليلهم، فيبدءون العمل من جديد بفرض جديد، حتى يصلوا إلى النتائج الصغيرة بعد العناء الكبير. وهم لا يصلون إلى هذه النتائج إلا على جسور من رءوس الضحايا.
وقد قدمت هذه القضايا التي أنتجتها الأجيال السابقة للأجيال الحاضرة في شيء اسمه «كتاب». ولو أخذنا أي كتاب مدرسي، مهما صغر حجمه، في أي موضوع من موضوعات العلم والأدب، سواء كان طبيعة أو كيمياء أو بلاغة، أو نحوا وصرفا، أو هندسة، أو جغرافيا؛ وأردنا أن نعرف تاريخ كل قضية فيه، لعجزنا عن عدد الذين ذهبوا ضحيتها في البحث والتجربة، وإعمال الذهن، وسهر الليالي، وتكبد الأسفار، ومعاناة التحقيق. فما أكثر الضحايا الذين ذهبوا حتى وصلنا إلى أن «الأجسام تتمدد بالحرارة»! وما أكثر من ذهبوا في سبيل تدوين أحكام «الفاعل ونائب الفاعل»! وما أكثر عدد العقول والنفوس التي ذهبت في سبيل تحقيق أن «الأرض تدور حول الشمس»! وهكذا.
ولعل النظر على الكتب على ضوء هذا البيان يفيدك - يا بني - في تعرف أي الكتب المدرسية صالحة للبقاء وأيها صالحة للإعدام؛ فما لم يحمل إلينا من الكتب تجارب الأقدمين وينر لنا السبل في حياتنا الحاضرة لا يستحق البقاء؛ بل هذا أيضا يعينك على أن تحكم على منهاج الكتب ومبلغ رقيها في فن التأليف؛ فما لم تبعث فيك روح النهوض واستخدام ما فيها في هذه الحياة واستحثاثك على إصلاح حياتك وحياة غيرك وتقديمك الحياة خطوة عمن سبقك فلا قيمة لها.
إن أكبر فارق بين الإنسان والحيوان - يا بني - أن الحيوان يستفيد جيله الحاضر من تجارب أجياله السابقة؛ فالنحل يعمل ما كان يعمله أيام آدم، لم يتقدم في نوع معيشته ولا في قرص عسله ولا في بناء مسكنه، وكذلك شأن كل حيوان، ولكن كم من الفروق بين عيشة الإنسان الأول والإنسان الآخر، والإنسان في الكهوف والإنسان في القصور! وعلى الجملة فالإنسان هو الحيوان الوحيد الذي يعيش كل جيل منه على أكتاف من سبقه. ويبني كل جيل طابقا جديدا في قصر الإنسانية.
فالمدرسة تعلمنا تاريخ التجارب الإنسانية السابقة، وتعلمنا كيف نبني عليها طابقنا الجديد. فما لم نبن بناء جديدا لم نستحق اسم الإنسانية.
ومدرسة تفضل مدرسة بمقدار ما تلقي من هذا الضوء وتبعث من هذا الروح وتقيم من هذا البناء؛ فالمدرسة التي تعلمك أنك تذهب إليها لتنجح في الامتحان فقط، أو تأخذ الشهادة فقط، أو توظف فقط، لا تستحق إلا أن تغلق؛ لأنها تبعث أفكارا ميتة وتوحي آراء جامدة، وليس يستحق منها البقاء إلا مدرسة، تعلم كيف كان الناس يحيون، وكيف يحيون الآن، وكيف ينبغي أن يحيوا في المستقبل. ثم هي تغرس في نفوس التلاميذ من أول روضة الأطفال هذا المبدأ بالوسائل التي تختلف بساطة وتركبا حسب استعداد الطفل، حتى إذا سئل كل تلميذ: لم يذهب إلى المدرسة؟ أجاب: إنه يذهب إليها ليتعلم كيف يكون إنسانا يستحق اسم الإنسانية. ومهما اختلفت الإجابة حسب السن والعقلية، فلن تعدو هذا المعنى الأساسي.
وعلى هذا الأساس يمكننا أن نلخص مناهج الدراسة بأنها «تاريخ الإنسانية كلها أو جزء منها في نواحيها المختلفة أو ناحية منها حسب استعداد الطالب لتناولها»، وهذا يشمل كل فرع من فروع العلم، فكل علم في الواقع هو تاريخ الإنسانية في ناحية من نواحيها أو جزء من أجزائها، حتى النحو والصرف هو تاريخ الإنسانية في لسانها، في جزء من أجزائها.
وفائدة هذا النظر أنه يطلعك على موضع الفساد في برامجنا؛ فإذا درسنا في التاريخ تاريخ الملوك وحدهم وأهملنا جوانب الشعب كان تاريخا ناقصا مبتورا؛ لأنه أطلعك على جانب صغير من جوانب الإنسانية، حيث كان في إمكانك توسيع هذه النواحي؛ وإذا كان درس البلاغة لا يمكنك من فهم بلاغة الأقدمين، ولا يعنيك على أن تكون بليغا في حاضرك فلا قيمة له؛ لأنه ليس من تاريخ الإنسانية في شيء إلا أن يكون تاريخا للسخف فيها، وليس موضع هذه المدرسة، وتستطيع أن تقول هذا في كل علم، وكل فرع من فروع العلم.
كذلك إذا كان منهج الدراسة يطلعك على ناحية من نواحي الإنسانية في عام، ومنهج يطلعك على الناحية نفسها في عامين، فالأول أفضل بداهة. ففضل منهج على منهج في أنه يكشف لك جانب الإنسانية الذي تريده من أقرب طريق.
ومهمة واضع البرامج ومظهر براعته أن يعرف أي نواحي الإنسانية أهم للطلبة في بيئتهم الخاصة، وأي منهج من مناهج التعليم يوصل إلى الغرض في أقل زمن ممكن. •••
هذا - يا بني - جانب واحد من جانبي الإجابة على السؤال: «لماذا تذهب إلى المدرسة؟» وهو الجانب العقلي للموضوع، وهناك جانب آخر لا يقل عن هذا شأنا وهو الجانب النفسي.
إنك تذهب إلى المدرسة لتربى نفسك حتى تتحقق سعادتك ويسعد بك غيرك، فإنك تحمل في داخلك أنواعا من القوى، من شهوات وإرادة وعقل. ووظيفة المدرسة الصالحة أن تعلمك كيف تخضع شهواتك لعقلك، وأن تقوى إرادتك لتكون القوة التنفيذية لحكم العقل على الرغبات والغرائز والمشاعر. إن المدرسة تكون في داخلها مثلا أعلى من مجتمع صغير ليتكون من نفسه فيما بعد مثل أعلى للمجتمع الكبير. إنها تعلم كيف يسعد الفرد بالتعاون مع رفقائه لتعلم بعد كيف يسعد بالتعاون مع أفراد أمته. إنها تعلمك من أنت في نفسك، ومن أنت في مدرستك لتعرف بعد من أنت في قومك.
لهذين الغرضين تذهب إلى المدرسة. •••
لشد ما أخشى أن يغار رجال التعليم في مصر على مدارسهم فيستملوا الإجابة منها، ويطبقوا ورقة الامتحان عليها، فيعطوا إجابتي «صفرا».
الإنسان حيوان محارب
لقد خدع المناطقة بالبريق الذي يلمع في الإنسان من عقل وتفكير، فعرفوه بأنه حيوان ناطق.
وخدع أرسطو بمظهر حب الإنسان للاجتماع، فقال: إنه حيوان مدني بطبعه.
ولو أنصفوا جميعا لقالوا: إنه حيوان محارب بطبعه.
من مبدأ أن خلق إلى الآن وتاريخه سلسلة حروب.
نازع الملائكة في خلقه، وقالوا:
أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك
ثم كان خلقه وليد هذا النزاع.
وحل في الجنة حيث السلام والأمان، والطمأنينة والنعيم، فلم يرضه ذلك كله، وترك كل ما أبيح له أن يأكل منه، وأكل مما حرم عليه، جلبا للنزاع والخصام، فكان الخروج من الجنة. ولو أحب السلام لأطاع، ولو أطاع ما كان قتال، ولكنه الإنسان.
ثم كان ما ذكر القرآن الكريم:
واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين * لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمي . فقتل المسالم، وبقي على الأرض المقاتل.
وتاريخ الأنبياء كلهم وخصومهم يتلخص في كلمات: دعوة، فاستنكار، فقتال، فانتصار. •••
ثم تتبع ما يستكشفه الأثريون في مختلف بقاع الأرض من العصر الحجري، سواء في ذلك سكان الوديان، وسكان الكهوف والمغارات، تجدهم لم يخلفوا مقاعد للجلوس ولا أسرة للنوم ولا نوعا يدل على الحياة الوادعة الهادئة؛ إنما خلفوا سكاكين حجرية لشق البطون، وسهاما لإصابة المقاتل، و«بلطة» لتهشيم الرءوس.
واقرأ تاريخ الأمم. فهل ترى إلا تاريخا حربيا، حربا أيام الحرب، واستعدادا للحرب أيام السلم، وإحصاء للجيوش وإحصاء للقتلى، ووصفا للخراب، وتسجيلا لأنواع التنكيل؛ ولم يكن ذلك مقصورا على أمة دون أمة وجيل دون جيل؛ إنما هو تاريخ كل أمة في كل عصر، في الشرق والغرب، في البدو والحضر، في السهل والجبل، في البر والبحر، وأخيرا في أعلى السماء وأعمق البحار؛ تاريخ اليونان حرب، وتاريخ الفرس حرب، وتاريخ الرومان حرب، وتاريخ اليابان حرب، وتاريخ أمريكا حرب، وتاريخ العالم الآن حرب؛ فإن ظفرت بأمم لا تحارب؛ فلأنها غلبت على أمرها، فجردت من سلاحها إثر هزيمة حربية لحقتها، أو خمود نفسي أصابها من اندحارها.
ثم كان شأن الأدب شأن ما استكشفته الحفائر من سهام ونبال؛ فالإلياذة - وهي أغنية الشعب اليوناني - مملوءة بالتهشيم والتحطيم؛ والشعر العربي الجاهلي يشيع الدم في جميع نواحيه، والأمم الحية الحديثة إنما تقدس الأديب القوي والفيلسوف القوي والموسيقي القوي، الذين يمجدون الدم، ويعبدون إله الحرب، وينفخون في روح شعوبهم السيطرة والقوة والعظمة والسيادة؛ وهذا هو الأدب الألماني الحديث يرمي إلى تمجيد شعور الجنس لا شعور الفرد، وتمجيد أرض الجنس لا أفراد الجنس ، وبيان أن أخلاق الجنس وعبقريته نابعة من أرضه لا من مدنه، والحث على سيطرة الجنس بمجموعه وأرضه على كل الجناس البشرية، واستخدام الشعر والقصص وسائر أنواع الأدب لخدمة هذه الغاية؛ لأن تربة أرضهم خير أنواع التربة، وقد أخرجت لهم خير أنواع الناس، فيجب أن يكون الأدب بطل الآداب، يغذي أبطال الناس، ويبعث فيهم القوة والحياة والعزة والفخر والسيطرة؛ وهل مثل هذا الأدب إلا باعث القتال ومثيره؟ •••
كلما استكشف الإنسان مادة من مواد الحياة أو قانونا من قوانين الطبيعة، استخدمها في تحطيم رأس أخيه وتهشيم جسمه؛ رأى الحجر الأول ما رأى فاتخذ منه سكينا وسهاما، واستكشف الحديد فعمل منه سيوفا وسنانا، وأخيرا مدافع ومصفحات ودبابات، وعرف قوانين الماء فبنى عليها أساطيله وغواصاته، وظهرت له قوانين الهواء فأنشأ عليها مناطيده وطياراته، ووقف على منابع الزيت فأشعلها نارا على عداته، وهكذا:
كلما أنبت الزمان قناة
ركب المرء في القناة سهاما •••
وأقام الناس دولة الغزل والنسيب، وهو باب من ألذ الأبواب وأحبها إلى النفوس، وأدعاها للسرور والطمأنينة، فإذا بالأدباء - وهم أبعد الناس عن الحرب - يستعيرون كل ألفاظ الحروب والقتال في التعبير عن خطراتهم ومعانيهم، فنظرات الحبيب سهام:
أواه إن نظرت وإن هي أعرضت
وقع السهام ونزعهن أليم
وحمرة خده من دم المحب:
هذا دمي في وجنتيك عرفته
لا تستطيع جحوده عيناك
وهو يرمي فلا يخطئ، ويقتل فلا يقاد:
تعرضن مرمى الصيد ثم رميننا
من النبل لا بالطائشات الخواطف
ضعائف يقتلن الرجال بلا دم
فيا عجبا للقاتلات الضعائف
وهكذا ملئوا هذا الباب البديع اللطيف دما وقتلا وسهاما ونبالا وفتكا وصرعا ودية وقودا، ونقلوا كل أدوات القتال حيث لا قتال، ولكنه الإنسان المغرم بالقتال. •••
ولما أرادوا أن يلعبوا لعبوا بالقتال، ومثلوا القتال، فلعبوا الشطرنج وملأوه خيلا وفيلة، وجنودا وقلاعا ووزراء ودولة، وكان انتهاء الدور دائما «كش» «مات»؛ ولعبوا النرد يمثلون الغلبة عن طريق القدر أكثر منها عن طريق الجد؛ ومرنوا الأطفال والشبان على لعب الكرة، فقسموهم معسكرين، ونظموهم جيشين، وأقاموا لهم ميادين جالوا فيها وصالوا؛ وهكذا استغلوا في أكثر الألعاب غريزة الإنسان في حب الحرب وحب الغلبة، إذ لم تكن له غريزة مثلها تسد مسدها.
ومن قديم جاء قوم من الفلاسفة والحكماء يقفون في وجه الحرب، ويعلنون أن الإنسان أخو الإنسان، وينادون أن أحب لأخيك ما تحب لنفسك؛ فذهبت دعواتهم صيحة في واد، ونفخة في رماد، وبقي الإنسان هو الإنسان، يسمع لداعي القتال، ولا يسمع لداعي السلام.
وجاءت الأديان الكبرى تريد الدعوة بالحسنى، فاشتق الإسلام اسمه من السلام، ثم كان تاريخ المسلمين حروبا لا تنتهي؛ وجاءت النصرانية تدعو إلى أن من ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر، ثم لم ير في تاريخ العالم أمم تحب القتال وتتفنن فيه وتدعو إليه، وتفتك أشد فتك وأروعه وأحماه، كما تفعل أمم النصرانية بعضها مع بعض، وبعضها مع غيرها.
بل أكثر من هذا عجبا أن انقلب الدين نفسه سببا كبيرا من أسباب الحرب؛ فالمؤمنون والزنادقة، والمؤمنون والكافرون، والمذاهب الدينية بعضها إزاء بعض، ومحاكم التفتيش، والتبشير المسلح - كل هذا يملأ في تاريخ القتال صفحات لا تقل شأنا عن صفحات القتال للغنيمة أو للفتح. •••
وتراه إذا أعياه القتال في البر قاتل في البحر، فإذا أعياه القتال في البر والبحر قاتل في الجو، فإذا أعياه القتال فيها جميعا؛ نقل حياته أيام ما يسميه بالسلم إلى حالة حربية في الحقيقة؛ فنظام التعليم عنده نظام حرب: تربية وطنية لتمجيد الوطن وحب إعلائه، وبث روح السيادة على غيره، وقلب لحقائق التاريخ خدمة لهذا الغرض، ونظام مسابقات بين الطلبة ليتحاربوا، ونظام ترتيب حسب الدرجات ليتحاسدوا ويتقاتلوا.
فإذا خرجوا من المدرسة فنظام وظائف ونظام علاوات وترقيات كفيلة بإثارة شعور القتال عند أي ميال إلى السلم.
ووراء ذلك نظام تجاري، كله حرب وانتصار وهزيمة، وغالب ومغلوب، اصطلحوا على أن يسموها أسماء جديدة كالربح والخسارة، والنجاح والإخفاق، وهي في الحقيقة ليست إلا مرادفة للنصر والهزيمة، والحياة والموت.
ثم أحزاب سياسية تتناحر وتتنابز، وتتراشق بألفاظ السباب والاتهام بالخيانة، وكلما دخلت أمة في الحكم لعنت أختها.
ونظام اجتماعي بني على أساس حربي؛ فطبقات يتربص بعضها ببعض، وغني يستغل فقيرا، وفقير ينهب غنيا ، وجان ومجني عليه، وخصومات أشكال وألوان.
ثم تحر أعمال الإنسان من عهد طفولته وهو يبكي، إلى عهد نضجه وهو موظف كبير أو تاجر كبير أو سياسي كبير، وحلل البواعث عليها تجد أن أكثرها - مهما اختلفت الآراء فيها - يعود إلى شيء واحد، وهو حبه الغريزي للحرب.
وهكذا حرب في الحرب، وحرب في السلم، والمدارس حرب، والوظائف حرب، والديانات حرب، والسياسة حرب، والطبقات حرب - كانوا كذلك قديما، وهم كذلك حديثا، وهم لا يزالون كذلك ما دمت أنيابهم في أفواههم. (والله ما فسد الناس، ولكن اطرد القياس).
الظرف والظرفاء
لما بلغت الحضارة الإسلامية أوجها، في العصر العباسي، وامتزج العرب بالفرس والهنود والأتراك وغريهم من الأمم، وكثرت الأموال وكثر الفراغ، تأنق الناس في مأكلهم ومشربهم وملبسهم وحديثهم وطريق حياتهم، وتبع ذلك وجود عادات وتقاليد للطبقة المهذبة، من تمسك بها عد ظريفا، ومن خرج عنها عد ثقيلا. ورأينا الناس في تلك العصور يلتفتون إلى الظريف ويهتمون به ويبالغون في تقديره والحفاوة به. وكتب الأدب تروي نوادر الظرفاء في أحاديثهم وأفعالهم، وذلك من أكبر ما يدل على رقة الذوق وسموه.
ومن أطرف ما في ذلك الباب كتاب معروف اسمه «الموشى» ألفه أديب اسمه أبو الطيب محمد بن إسحاق بن يحيى الوشاء، عاش في النصف الثاني من القرن الثالث الهجري، وفي أوائل الرابع، ولم نعرف حياته بالتفصيل، ولكنا نعلم أنه كان نحويا، واخذ النحو عن مشاهير النحويين أمثال ثعلب والمبرد، وأنه كان معلما في كتاب ببغداد، وألف كتبا كثيرة في النحو واللغة والأدب.
ولعل أفضل كتبه كتاب «الموشى» هذا، وقيمته الكبرى جاءت من أنه حاول فيه أن يضع قوانين للظرف والظرفاء، وأن يبين عادات ظرفهم في نواحي حياتهم؛ وكان غريبا على نحوي، وعلى معلم كتاب، أن يتجه هذا الاتجاه، فقل أن يتجه إليه إلا أرستقراطي في نزعته، غني في بيئته، متصل بالطبقة الراقية، واقف على عادتها؛ ولكنا نجد في تاريخ حياته أنه كان يعلم بعض حظايا الخلفاء، فهم يذكرون أن «منية» إحدى جواري «المعتمد على الله» كانت من تلاميذه، وأنه كان يعلم في قصور الخلفاء. فلعل هذه النزعة جاءت من هذا الاتصال بالبلاط العباسي، وناهيك بما كان فيه من ترف ونعيم، وظرافة ولباقة.
في هذا الكتاب الصغير ثروة كبيرة من الذوق، وفيه يحاول أن يضع قوانين للظرف، وفي هذا مشقة كبيرة، إذ أن هذا العمل يتطلب اطلاعا واسعا على معيشة ظراف الناس، وطرقهم في الحياة، يتطلب دقة في الملاحظة وسموا في الذوق؛ وفوق ذلك فإن الذوق من قديم صعب تعليله، وصعب شرحه، وصعب ضبطه. ولكنه تغلب على هذه الصعوبات جميعها، ونجح في عمله نجاحا كبيرا.
ففيه فصل طريف عنوانه «شرائع المروءة وصفتها»، ينقل فيه أنظار الناس إلى ما هي المروءة، فيذكر أن بعض حكماء الفرس سئل: أي شيء أشد تهجينا للمروءة؟ فقال: «للملوك صغر الهمة، وللعلماء الصلف، وللفقهاء الهوى، وللنساء قلة الحياء، وللعامة الكذب». وروى عن ابن عمر أنه قال: «ما حمل رجل حملا أثقل من المروءة»! فقال له أصحابه: صف لنا ذلك. فقال: «ما له عندي حد أعرفه، إلا أني ما استحييت من شيء قط علانية إلا استحييت منه سرا». وكان أيوب السجستاني يقول: «لا ينبل الرجل حتى تكون فيه خصلتان: العفة عن الناس والتجاوز عنهم».
وهكذا ظل يروي آراء الناس من فرس وعرب وغيرهم في المروءة، ثم استخلص قوانينها. •••
وعقد في الكتاب بابا سماه «سنن الظرف»، فحدثتا فيه أنه كان يسأل العلماء والأدباء عن رأيهم في الظرف، ويسأل «بعض متظرفات القصور» عن رأيهن في الظرف، ثم قص علينا قصصا قصيرة لحوادث جرت للظرفاء، وكيف قالوا، وكيف تصرفوا. ويخرج من ذلك كله إلى قوله: «إن الظرف أنبل ما استعمله العلماء وصبا إليه الأدباء، وتزينوا به عند أودائهم، وتحلوا به عند أخلائهم. وربما تكلفه قوم ليسوا من أهله، وإنه من المطبوعين أحسن منه من المتكلفين، وللمتكلف علامات تظهر في حركاته، وتبين في لحظاته، لا يسترها بتصنعه ولا تتغيب بتستره، وإن المطبوع على الظرف ليشهد له القلب عند معاينته بحلاوته، وتسكن النفس عند لقائه إلى مجالسته، دلائله واضحة في مشيته وزيه ولفظه». إلخ. ومن رأيه أن أكبر علامات الظرف الحب، وقد دعاه ذلك إلى أن يستعرض الحب وأنواعه، وطائفة ممن أحبوا فعفوا، ومن أحبوا فسقطوا. وصور لنا صورة صادقة لبيوت القيان في بغداد في عصره، وكيف كانت تتدفق فيها الأموال، وكيف كانت تلعب القيان بعقول الشبان، ويظهرن لهم الود والحب، حتى يأتين على أموالهم، فإذا الحب ينقلب إلى صد وطرد. وتاريخ كل مدنية يعيد نفسه.
ثم أخذ يفصل ما أجمل، فيذكر لنا عادات الظرفاء في كل باب من أبواب الحياة.
فقص علينا أن الظرفاء يتجنبون في الملبس الألوان الزاهية، فهو يقول: «ليس يستحسن لبس الثياب الشنعة الألوان، المصبوغة بالطيب والزعفران؛ لأن ذلك من لبس النساء، ولبس القينات والإماء». ويلتفت إلى شيء دقيق جدا، وهو أن عادة الظرفاء مراعاة الانسجام في ألوان ما يلبسون، فيختم الباب بقوله: «وأحسن الزي ما تشاكل وانطبق، وتقارب واتفق».
وأبان عادة الظرفاء في لبس النعال وألوانها، وزيهم في الخواتيم والفصوص والتعطر والطيب، والفروق الدقيقة في ذلك كله بين الرجال والنساء.
ثم ذكر عادة الظرفاء في الطعام، فهم يصغرون اللقم، ويتحرزون من الشره، ولا يزهمون ما بين أيديهم من الرغفان، ولا يلطعون أصابعهم، ولا يعجلون في مضغهم، ولا يجاوزون ما بين أيديهم، ولا يأكلون شيئا من الكواميخ والمالح، ولا يتخللون على المائدة قبل أن تفرغ. إلخ.
وقد ذكر أن أحب شيء إلى الظرفاء من الأزهار الورد، ففضلوه على غيره وأطنبوا في مدحه، وأفرطوا في نعت حسنه، وشبهوه بالوجنات الحمر، وقايسوه إلى الخمر، وحيى بعضهم بعضا به، فقال بعضهم:
عشية حياني بورد كأنه
خدود أضيفت بعضهم إلى بعض
وقال آخر:
تمتع من الورد القليل بقاؤه
فإنك لم يفجعك إلا فناؤه
وودعه بالتقبيل والشم والبكا
وداع حبيب بعد حول لقاؤه
ولا يعدل الورد عند الظرفاء في الأزهار، إلا التفاح في الأثمار، فكانوا يرون أن التفاح يهدئ أشجانهم، ويسكن أحزانهم، وليس في هداياهم ما يعادله، ولا في ألطافهم ما يشاكله، ولهم عند نظرهم إليه أنين، وعند استنشاق رائحته حنين. وقد تفننوا في إهدائه، وكتابة الأشعار ووضع الرموز عليه.
ثم نراه بعد ذلك انتقل من الظرف في الحسيات إلى الظرف في المعنويات؛ فالأدباء الظرفاء «لا يداخلون أحدا في حديثه، ولا يتطلعون على قارئ في كتابه، ولا يقطعون على متكلم كلامه، ولا يستمعون على مسر سره، ولا يسألون عما ووري عنهم علمه، ولا يتكلمون فيما حجب عنهم فهمه، والظرفاء لا يتثاءبون (في المجلس) ولا يتمطون ولا يوقعون أكفهم، ولا يشبكون أصابعهم، ولا يمدون أرجلهم، ولا يحكون أجسادهم، ولا يمسون أنوفهم ... ولهم حسن التأتي فيما يريدونه، ولطف الحيل فيما يحاولونه، وخفي التلطف لما يطلبونه، حوائجهم سرية، وسرائرهم مخفية، وحيلهم لطيفة، يوردون الأمور مواردها، ويصدرونها مصادرها».
ثم ذكر أنهم إذا أهدوا فهم يهدون الشيء اللطيف الخفيف «كالتفاحة الواحدة والأترجة الواحدة والغصن من الريحان، والطاقة من النرجس، وغير ذلك من الشيء القليل، فتستحسن هداياهم وتستظرف، ويفرح بها ويستطرف ... ومن ذلك كتبهم الملاح، وألفاظهم الصحاح، التي يستعطفون بها القلوب، ويسترون بها العيوب، وما يضمنونها من مليح المكاتبة، وطرائف المعاتبة، وجميل المطالبة وشكيل المداعبة».
وقد أحال «ما يجب على ظرفاء الكتاب» على كتاب له آخر وضعه لهذا الغرض سماه «فرج المهج» لم نعثر عليه.
غير أنه أورد في كتابنا هذا نماذج من مكاتبات الظرفاء نعرض للقارئ نموذجا منها: كتب الحسن بن وهب إلى محمد بن عبد الملك الزيات - سروري إذا رأيتك كوحشتي لك إذا لم أرك، وحفظي لك مغيبك، كمودتي لك في مشهدك، وإني لصافي الأديم، غير نغل ولا متغير، فامنحني من مودتك، مزن لذاذة مشربك، وكن لي كأنا، فوالله ما عجبت من ناحيتك إلا وأنا محني الضلوع إليك والسلام. فكتب إليه محمد - يا أخي ما زلت عن مودتك، ولا حلت عن أخوتك، ولا استبطأت نفسي لك، ولا استزدتها في محبتك، وإن شخصك لماثل نصب طرفي، ولقلما يخلو من ذكرك قلبين ولله در الذي يقول:
أما والذي لو شاء لم تخلق النوى
لئن غبت عن عيني لما غبت عن قلبي
يذكرنيك الشوق حتى كأنني
أناجيك من قرب وإن لم تكن قربي
وكتب بعض الظرفاء إلى صديق له: «أيدك الله بوفاء الأدب من النزوع إلى الجفاء، وجعل آخر سخطك موصولا بأول الرضاء، والسلام».
وهكذا يمضي في استعراض نماذج للظرفاء من النثر والشعر. ثم يحكي لنا ما كان يتفنن فيه الظرفاء من نقش جمل فنية أو أشعار رقيقة على خواتيمهم وعلى تفاحهم، وما كان ينقشه ظراف الجواري على قمصانهن وأرديتهن وأكمامهن وعصائبهن ومناديلهن وزنانيرهن، وعلى نعالهن وخفافهن، وما كن يكتبنه بالحناء على راحهن وأقدامهن، وما كان يكتب الظرفاء من الأشعار الرقيقة على القناني والكاسات والأقداح وأواني الفضة والذهب، وعلى آلات الموسيقى من العيدان والطبول والدفوف والنايات، وما كان يتفنن به الأدباء من إهداء أقلام قد نقش عليها أبيات ظراف.
وختم كتابه بقوله: «هذه جملة مما بلغنا وفيها كفاية لمن اكتفى، وبيان لمن تبين واقتفى، وما استوعبنا كل ما انتهى إلينا، ولو قصدنا إلى تكثيره لما استصعب علينا ... وقد أدينا بعض ما بلغنا، ووصفنا بعض ما استحسنا ... وإلى الله نرغب في السلامة، والسلام».
هذا عرض سريع لكتاب واحد في الظرف والظرفاء يدلنا على ما كان للحضارة الإسلامية من عناية حق في أدق الأمور وأرقها وأظرفها، وأنها لم يفتها شيء حتى في وضع قوانين للياقة أو «الإتيكيت» كما يسمونها، وأن ذلك الكتاب القيم يصف حالة اجتماعية رآها مؤلفه، وقد مضى عليها الآن أكثر من ألف عام، فماذا يكون شأنها لو سارت في طريقها من غير أن يعوقها عائق أو يدمرها مدمر
1 ؟
الإحسان
أريد بالإحسان التصدق على الفقراء، ومعونة الضعفاء والمرضى، ولست أرى لفظا أدل على هذا المعنى من الإحسان، وإن لم يرضه المتشددون في الألفاظ.
ربما كانت فضيلة الإحسان من أكثر الفضائل تقلبا مع الزمان، وتغيرا في أفهام الناس، فكم بين ما كان يفهمه حاتم الطائي من نحر الجزور وإنهابها الناس، وبين ما وضع من النظم الحديثة للإحسان من فروق ومباينات!
فنظام المعيشة من قديم ينتج غنيا مفرط الغنى، وفقيرا مفرط الفقر.
ولم يخلق للآن نظام يعدم هذه الفروق أو يقللها من غير أن يستتبع خطرا أعظم، وداء أعضل.
فاهتدى الناس لتلطيف هذه الفروق إلى المناداة بالكرم والفخر به، ولست أدري أكان أول من نادى به الأغنياء اتقاء لخطر الفقر، أم الفقراء تعطيفا لقلوب الأغنياء.
وأتت الأديان تدعو إلى الأخوة، وخاصة بين أهل الدين الواحد، وتجعل من مستلزمات هذه الأخوة عطف الغني على الفقير وإشراكه في جزء من ماله، واستتبع ذلك وجود الأديار في النصرانية والتكايا في الإسلام.
وكما أنتجت النظم معونة للفقراء وسدا لحاجات المعوزين أنتجت عند بعض الناس تراخيا في العمل، وميلا إلى الكسل واتخاذ الاستجداء حرفة، والتكدي صناعة.
وكثرت جيوش الفقراء، فلم تكف النزعات الدينية لسد حاجاتهم، فتدخلت الحكومات تحمل بعض العبء، فبنت المستشفيات وأنشأت الملاجئ وما إلى ذلك. وأتت المدنية الحديثة فأخذت تقوم الفضائل من جديد، واستخدمت العلم في هذا التقويم كما استخدمته في كل شيء، وكان مما نظمته طرق الإحسان، بل جاء قوم من الفلاسفة متأثرين بمذهب النشوء والارتقاء، وبنظرية الانتخاب الطبيعي وعلى رأسهم «هربرت سبنسر» يطبقون هذا الإحسان ويرون أنه رذيلة لا فضيلة، وأن العجزة ومن إليهم لا يستحقون هذه العناية، إنما العناية يجب أن تتجه إلى الأقوياء وإلى خير العناصر، ويجب أن ينتخب من المجتمع خيره وأقواه، فنوجه إليه العناية ونأخذ بيده، وبعد أجيال سيفنى الضعفاء ويبقى الأقوياء فيسعد مجتمعهم، نفعل في ذلك ما نفعل بالزهور والأشجار، نهمل الذابل والضعيف فيفنى، ونستولد القوي الجيد فيبقى - إلى آخر ما قالوا. ومن حسن الحظ أن لم تلق نظريته هو وأمثاله نجاحا، فإنها نظرية تقضي على خير ما في الإنسان من عاطفة نبيلة نحو الناس. وكيف يقضي على العجزة والفقراء ونظام الحياة يخلق منهم كل يوم خلقا جديدا وجيشا كبيرا، لو لم يعن به لاكتسح الأغنياء، ولثار ثورة لا يعلم مداها إلا الله.
إنما كتب النجاح لقوم آخرين من الأدباء والعلماء، لم يحاولوا أن يمنعوا الإحسان، ولكن حاولوا أن ينظموه، لم يشكوا في قيمته، ولكنهم آمنوا بضرر فوضاه، واستعانوا بما وصل إليه العلم كما استعانوا بمنهاج البحث الجديد، فدرسوا الفقر وأسبابه، وطرق الإحسان وما يتلاقى منه مع أسباب الفقر وما لا يتلاقى، ووقفوا في ذلك إلى حد كبير وإن لم يصلوا إلى الغاية؛ وعلى ضوء هذه الدراسة سنت القوانين وأنشئت النظم، وظلت القوانين تنظم والنظم تعدل، حسب مقتضيات الأحوال إلى اليوم.
فمن أشهر القوانين القانون الإنجليزي للفقراء الذي وضع سنة 1601 ونقح سنة 1834 والتزمت فيه الحكومة بمساعدة الفقراء والعاطلين.
ومن أشهر النظم المعروفة نظام «همبرج» الذي وضع للفقراء والعاطلين، وهو يتلخص في تأسيس مكتب رئيسي في المدينة للنظر في شئون الفقراء وتنظيم الإحسان وتقسيم المدينة إلى أقسام، وتعيين مشرف على الفقراء في كل قسم، وظيفته إعانة العاطلين على وجود عمل لهم، ودراسة أسباب الفقر في الأسر ووصف العلاج لها، وإنشاء مدارس صناعية لأولاد الفقراء ومستشفيات لمرضاهم، ويقضي بمنع الإحسان يدا بيد إلى الفقراء، إنما يعطى الإحسان لهذه الجمعية، فهي أدرى بطرق إنفاقه - وكان من أثر هذا النظام قلة عدد الفقراء وتنظيم معيشتهم، وقد أدخلت عليه تعديلات قليلة ثم عمم في مدن كثيرة في أوروبا.
ونشأت في أمريكا جمعيات على هذا النظام وسعت بعض أغراضها؛ من ذلك أنها رأت أن أكبر مساعدة ليس إعطاء المال للفقراء، ولكن إيجاد العمل لهم، كما جعلت من أهم أغراضها ترقية المعيشة الاجتماعية في منازل الفقراء والعناية بحالتهم الصحية، وبتعويدهم العادات الصالحة للعيش، ووجهت أكبرهما إلى العناية بأطفال الفقراء حتى لا ينشئوا كآبائهم؛ فكان لدى الجمعيات سجل للفقراء والعاطلين في كل حي، ومجمل عن سبب فقر كل أسرة وحالتها وما بذل من العناية لها، والاتجاه الذي اتجهوه في معالجتها، وبذلك أسس الإحسان على الأسس العلمية.
لعل أهم ما حدث من الانقلاب في تصور الإحسان أنه كان يكفي في عده فضيلة أن يخرج الإنسان عن شيء من ماله أو جهده ابتغاء ثواب الله، لا يبالي بعد ذلك أين وقع ماله: أعلى غني وقع أم على فقير، أكان فيه إصلاح للفقير أم إفساد له؟ فيكفي أن يجود بقرش ليحسب له عند الله عشرة أو مائة، فجاءت الدعوة الحديثة تطلب أن ينظر في الإحسان إلى المحسن إليه لا إلى المحسن، فليس من العمل الصالح في شيء أن تعطي حسبما اتفق، بل يجب أن يكون عطاؤك لإصلاح الهيئة الاجتماعية التي أنت فيها، ولا يكون ثوابا عند الله إلا إذا نظر فيه هذا النظر، ولا يعد فضيلة حتى يكون القرش الذي يعطى بقصد رفع مستوى الأمة؛ فإذا كان الإحسان يزيد حال الأمة سوءا عد رذيلة لا فضيلة، وعد من أتى به مجرما لا محسنا. وبعبارة أخرى: أن هذا النظر الحديث يتطلب أن يشعر المحسن بالتبعة أو المسئولية، فمسئولية المحسن أن يعطي الفقراء وأن يتساءل عن إعطائه: هل أفاد من أحسن إليه؟ وهل أفاد الأمة بعمله أو لم يفد؟
كان لهذا النظر نتائج لها قيمتها: منها تحريم الإحسان الفردي، وهو أن تكون علاقة المحسن بالفقير علاقة مباشرة، وإنما يجب أن تتوسط في ذلك الجمعيات والهيئات التي عرفت حالة الفقراء ودرست شئونهم، واهتدت عن طريق دراستها إلى نوع ما يصلح لهم؛ فمن شاء الإحسان فعليه أن يتبرع لهذه الجمعيات وهي التي تتولى الإنفاق. ومنها تحريم التسول في الشوارع والطرق؛ لأن المتسول لم يثبت للجمعيات صحة دعواه وعلة فقره إن كان، وليس التسول حرفة مشروعة؛ ولكن إذا أثبت عدم صلاحيته للعمل وعجزه عن العيش وجب على الأمة إعانته، والجمعيات أقدر على تعرف هذا؛ وكان من مقتضى هذا النظر أيضا أن الهيئات التي وكل إليها هذا الأمر لا يصح أن تكتفي بإعطاء المال إلى الفقراء، بل يجب أن تعالج الأمر بشتى الوسائل حسب حالة كل فقير. فمن كان سبب فقره أن لا عمل له مع قدرته سعت له في إيجاد عمل، ومن كان سبب فقره مرضه عالجته، ومن كان سبب فقره إدمان مخدرات أو سوء عادات نظرت في وسائل إصلاحه؛ كذلك أهم عمل تعمله أن ترعى أبناء الفقراء حتى لا يكونوا فقراء المستقبل، فتنشئ لهم المدارس لا ليتعلموا فيها تعلما نظريا لا يسمن ولا يغني من جوع، ولكن تعلما صناعيا يبعث فيهم روح الاعتماد على النفس، ويفتح لهم السبل لتحصيل العيش؛ بهذا وأمثاله عولج الفقر في أوروبا وأمريكا، فإن كان بعد ذلك عاطلون لم يكن سبب عطلهم راجعا إليهم - وإنما يعود على نظام العمل والعمال وسوء الحالة العامة - وجب أن تضمن الحكومات لهم ما يقيم أودهم حتى يعودوا إلى عملهم. ونحن إذا نظرنا - في ضوء هذه النظريات وكيف طبقت - إلى حالة الشرق وجدنا عجبا، وجدناه لا يزال على حالته الأولية، سواء في ذلك أغراض المحسنين أو تطبيق الإحسان.
لدى الشرق أموال كثيرة تبرع بها أهلها للخير، لدينا أموال الأوقاف الخيرية، ولدينا أموال النذور، ولدينا تبرعات المحسنين، إلى كثير من أمثال ذلك، ولكن أكثرها لا يقع موقعا حسنا عند الله وعند الأمة، وكأنه يصب في البحر صبا أو يدفن في الأرض دفنا، على أن المال الذي يدفن أو يلقى في البحر ليس له من الضرر أكثر من فقده، ولكن ضرر الإنفاق على غير مستحق يزيد الأمم بلاء والحال سوءا.
وأهم ما استوجب هذه الحالة الأسيفة في نظري شيئان: أولهما - احترام إرادة الواقف والمتبرع. فالفقهاء يرون أن شرط الواقف كنص الشارع، والواقف لا يعلم تطور الأمة ولا مطالبها ولا حاجاتها التي تختلف باختلاف الزمان؛ قد كان كثير من الواقفين لا يفهمون من وجوه البر إلا الوقف على الحرمين والمساجد والتكايا والتصدق بالخبز على المقابر، فأصبح الناس اليوم يفهمون أن من وجوه البر كذلك إنشاء المستشفيات والمدارس والملاجئ، وسيفهمون قريبا أن من وجوه البر إعانة جمعيات التأليف وإعانة الفلاحين ليحصلوا على الماء النقي؛ وليستضيئوا بالنور الكهربائي، وسيجد غير ذلك من ضروب الخير، وسيرون أن الوقف على مسجد - إذا كان المسجد قد وقف عليه من قبل ما يكفيه - ليس وجها من وجوه الخير، وسيرون أن أموال النذور تلقى في صناديق الأضرحة ليست تنفق على المعوزين والمحتاجين، فليس التبرع بها إحسانا.
كان الواجب من عهد بعيد أن تحترم إرادة الواقف والمتبرع في رغبته في الخير فقط، ولكنا لا نحترمها في وجوه الخير التي يراها هو إذا رأينا أنها ضارة أو رأينا الأمة أحوج إلى الصرف في وجوه أخرى.
رحم الله حسن باشا عاصم، فقد كان له موقف في ذلك جميل - تبرع محسن ببناء مدرسة، ووقف عليها الأوقاف التي تلزمها، وأتبعها للجمعية الخيرية الإسلامية، وكان حسن عاصم مديرا لمدارسها، ثم أراد الواقف أن يدخل ابنه في المدرسة، وكانت سنه تزيد على السن المقررة شهورا، فأبى عليه ذلك وقال: إنه تبرع بمدرسة له الشكر، ووقف عليها أوقافا فله من الله الأجر، ولكنه يريد أن يبطل قوانيننا فليس له في ذلك حق.
قد يكون من المعقول أن نقبل إرادة الواقف في أوقافه الأهلية. أما الخيرية فيجب أن تخضع كل الخضوع لمصلحة الأمة. لا أظن الواقفين إذا بعثوا من قبورهم ورأوا تطورات الأمم إلا مؤيدينا في رأينا وراجعين عن رأيهم.
والأمر الثاني وهو متصل بالأول، أن أموال الخير تصرف حسبما اتفق، لا خضوعا لدراسة اجتماعية ولا تحريا لوجه الإنفاق ولا للمنفق عليهم، فكثيرا ما يحرم البائس المحتاج، ويعطي الغني المبذر، وكثيرا ما يحرم العائل لا يجد قوته وعياله، ويعطي المدمن ينفقها في كيوفه.
إن فوضى الإحسان في الشرق من أسباب شقائه، ولو نظم لكان من أكبر العوامل في نهوضه وصلاحه.
لا أمل في هذا الإصلاح حتى ينشط رجال الأمة وشبانها للخدمة العامة، وأن يمتلئوا عقيدة بضرورة المساهمة في الإحسان بالمال وبالنشاط، وأن يطالبوا مطالبة حارة بتنظيم الإحسان حتى يؤدي غرضه على أكمل وجه مستطاع، إذا لرأينا البؤس في الأمة يتضاءل إلى حد كبير، ويحل محله كثير من الرخاء، ولرأينا المال - الذي يضيع في الشرق سدى - وقد أصبح دعامة للإصلاح، وسببا من أكبر أسباب النهضة الحديثة.
أدب الروح وأدب المعدة
هذا اصطلاح جديد أضعه لنوعين من الأدب، يتميزان كل التميز، ويختلفان كل الاختلاف، لعل في وضعه فائدة في تقويم الأدب وصحة تقديره.
وأعني بأدب الروح الأدب الذي يتصل بالعواطف السامية عند الإنسان فيهذبها ويرقيها ويغذيها.
فالقرآن «أدب الروح»؛ لأنه يسمو بالإنسان عن عالم المادة، ويأخذ بيده إلى السماء لينظر إلى الأرض ، نظرة تريه الحق حقا والباطل باطلا.
وباب الحماسة في «ديوان الحماسة» - مثلا - «أدب الروح»؛ لأنه صادر عن نفوس قوية، وباعث لمشاعر قوية، وداع لمواجهة هذا العالم وما فيه بنفوس أبية، في غير خضوع ولا استخذاء.
وغزل جميل وكثير والعباس بن الأحنف «أدب روح»؛ لأنه يصهر النفس ويطهرها، ويجعل من آلامها وآمالها مبعثا لفيض الحنان والرحمة والعطف على العالم وعلى الإنسانية كلها.
وأدب الطبيعة «أدب روح»؛ لأنه شعور بالجمال مجردا عن الرغبة، وتقدير للحسن منزها عن الأثرة، ومزيج من شعور بجمال وجلال يحد من كبرياء الإنسان، ويقفه من هذا العالم حيث ينبغي أن يقف.
وعلى الجملة فكل هذه الأنواع من الأدب تنبعث عن عواطف نبيلة، وتبعث أيضا على أعمال نبيلة، تنبع من عواطف سامية، وتدفع إلى أعمال سامية، وهي أليق ما تكون بالإنسان الراقي المهذب. •••
أما أدب المعدة فنريد به ذلك الأدب الذي يدور حول سد الرمق، وملء المعدة، واستدرار المال، وتحصيل القوت.
فأدب المديح «أدب معدة»؛ لأن مبعثه الاحتيال على الممدوح حتى يستخرج منه ما في يده، والغاية منه تحصيل المال ليملأ به معدته، أو يدخره ليملأ به معدته عند الحاجة إليه.
والغزل الفاجر «أدب معدة» وتعليل ذلك واضح بقليل من إعمال الفكر.
والتهاني بالأعياد والمواسم «أدب معدة»، إذ كان غايته التقرب من المهنأ به، حتى يستجلب عطفه ويستنزل رفده.
ومقالات «الكاتب» التي باعثها الأول ملء أعمدة من الصحف والمجلات، والاستيلاء بعد على «الأجرة»، فإذا لم يؤجر لم يكتب، ولا تحركه عاطفة ما للكتابة «أدب معدة».
ولعلك تعجب إذا أنا عددت كثيرا من شعر الزهد أيضا «أدب معدة»؛ لأنه يدور حول المعدة وإن كان سلبيا؛ فكما نعد مواقف الهجوم والدفاع مواقف حرب، ونعد ما يفتح الشهية وما يصدها صنوفا من صنوف المائدة، ونعد «كل» و«لا تأكل» حديث طعام، كذلك يصح أن نسمي - أيضا - الأدب الذي يثير شهوة الطعام والذي يحارب تلك الشهوة «أدب معدة». •••
وأظن القارئ الكريم يستطيع أن يحدد بعد ذلك كل ما يعرض عليه من أدب إن كان أدب روح أو أدب معدة.
الفرق بين أدب الروح وأدب المعدة هو بعينه الفرق الذي أبنته في مقالي السابق بين الدين الحق والدين الصناعي.
فأدب الروح أدب ينبعث عن النفس، كما ينبعث صوت البلبل عن نفسه، ويدل على صاحبه كدلالة ضحك الطفل البريء وبكائه على ما في نفسه من سرور أو حزن، فلا غش ولا رياء.
أديب الروح لا بد أن يغني بما نفسه ولو لم يغن لانفجر، يغني بما في نفسه كوفئ أم عوقب، وسواء قرب أم شرد، وسواء أعجب أم لم يعجب.
سقوني وقالوا لا تغن ولو سقوا
جبال سليمى ما سقيت لغنت
أما أديب المعدة فهو يغني للمضيف لا لنفسه، يتحسس المعاني التي تسر صاحب الموائد حتى يخرج له شهي الطعام ومختلف الألوان، يبيع ذوقه لذوقه وفنه لفنه.
فإن اختلفت الموائد فأدبه لأشهاها طعوما، وأدسمها صنوفا، يقاد بأنفه لا بنفسه.
أدب الروح جار على نسق واحد ونمط واحد. أما أدب المعدة فله ألوان كألوان الطعام: مديح إن أعطي، وهجاء إن حرم، هو تبع للمائدة، إن تكدس أكلها تكدس مدحه، وإن قل أكلها قل مدحه، فإن طويت طوى مديحه وبسط هجاءه؛ لذلك ترى الشاعر يمدح الرجل ويذمه، ويطريه ويهجوه، والرجل هو هو في قيمته، ولكن لم يكن هو هو في مائدته.
قد يعجب الناظر إلى أدب المعدة من الناحية الفنية، فيراع لصنوف البديع، ويؤخذ بجمال التشبيه، ويهتز لحسن التوليد، ولكن هذه الروعة من جنس الروعة التي تأخذه عند النظر إلى الألعاب النارية أو الحركات البهلوانية، تبهر العين، ولا شيء في اليدين، هو مادة صالحة لدراسة البلاغة اللفظية والبلاغة الشكلية، ولكنه ليس صالحا للبلاغة النفسية.
فإن نحن نظرنا إلى الأدب من ناحية أنه خادم للهيئة الاجتماعية ووسيلة من وسائل الرقي النفسي وأداة من أدوات الإصلاح الاجتماعي، كان أدب المعدة من هذه النواحي صفرا، بل هو كمية سلبية وعبء ثقيل. •••
مما نأسف له أنا إذا نظرنا إلى تاريخ الأدب العربي، وجدناه ينحدر - مع التاريخ - شيئا فشيئا ليكون أدب معدة .
فنرى في العصر العباسي طغيان أدب المعدة على أدب الروح؛ هذا البارودي - رحمه الله - اختار لثلاثين شاعرا من خيرة شعراء الدولة العباسية، أمثال بشار وأبي نواس وأبي تمام والبحتري وابن الرومي وابن المعتز، واختار لهم في فنون آدابهم المختلفة، من مديح ورثاء وأدب ونسيب وهجاء وزهد، وكانت مختاراته في أربعة أجزاء كبار، فكان ما اختاره من المديح 24185 بيتا، ومن الأدب 1697 بيتا، ومن الغزل 4616، ومن الهجاء 1229، ومن الوصف 3993، ومن الزهد 473 بيتا. ونظرة واحدة إلى هذا الإحصاء تدهشنا أشد الدهش، إذ يتبين لنا طغيان أدب المعدة، وهو المديح والهجاء، على أدب الروح طغيانا كبيرا.
ثم انظر بعد إلى الفن المبتكر في العصر العباسي، وهو فن المقامات، فقد ابتدعها بديع الزمان الهمذاني، فلم يجعل محورها حبا ولا غراما كما يفعل الروائيون اليوم، ولم يجعل محورها شيئا يتصل بأدب الروح، ولكنها كلها «أدب معدة» فأبو الفتوح الإسكندري بطل المقامات كلها رجل مكر واحتيال، يصطنع جميع المهن لابتزاز الأموال، نراه مرة قرادا يسلي الناس ويضحكهم، ومرة واعظا مزيفا يعظ وينصح، ثم تنكشف حيلته فإذا هو مهرج، ومرة مشعوذا يحتال على الناس بشعوذته ليفتحوا كيسهم ويغدقوا عليه من مالهم، وهو في كل ذلك مستجد سئال محتال.
وجاء الحريري فجعل مكان أبي الفتح الإسكندري أبا زيد السروجي، وهو كصاحبه دناءة نفس وخساسة حرفة، يشخذ ثمن كفن لميت يدعيه، ويتعامى فتقوده امرأته إلى المسجد ليبتز أموال المصلين، ويجمل غلامه ليوقع الوالي في شركه فيسلبه ماله وهكذا، ويتخذ الفصاحة والبلاغة وسيلة للتكدي والسؤال.
أليس هذا كله «أدب معدة»؟
وانتشر بجانب أدب المقامات نوع آخر من أدب المعدة بمعناه الحقيقي، هو «أدب التطفيل» فقد انتشرت صناعة التطفل وحكايات الطفيليين وأخبارهم ونوادرهم، وألف لنا في ذلك الخطيب البغدادي كتيبا لطيفا سماه «التطفيل»، وهو فن يتصل بالمقامات اتصالا وثيقا، كلاهما مبني على التكدي، والسؤال في حذق ومهارة، فكان هناك طفيليون أدباء ظرفاء، يروون أحاديث الأكل، ويحفظون أشعار الموائد، ويقصون حكايات الطمع والشره؛ بدأ ذلك «أشعب» في العصر الأموي، وقفاه «بنان» وأضرابه في العصر العباسي، ينقش أحدهم خاتمة «ما لكم لا تأكلون»، وآخر «أكلها دائم»، وثالث «آتنا غداءنا» ورابع «لا تبقي ولا تذر». وتواصوا بالأكل وتواصوا بتخير الأصناف، وأنشأوا لأنفسهم نقابة في البصرة هي «نقابة الطفيليين»، ووضعوا الخطط المحكمة لمعرفة أمكنة الولائم، فأقاموا رصدا على الجزارين والطباخين حتى لا تفوتهم دعوة، وأنشأوا حول ذلك كله الأشعار من نصائح ومديح وهجاء؛ وخلف لنا الأدب وصيتين طويلتين يوصي بهما نقيب الطفيليين ولي عهده: إحداهما من إنشاء أبي إسحاق إبراهيم بن هلال الصابي الأديب المعروف، والأخرى من إنشاء المولى تاج الدين عبد الباقي بن عبد المجيد اليماني، وكلتاهما في قوانين التطفل وسننه وآدابه. •••
وكثر الأدب في ابتزاز المال، وفي التطفيل وفيما يدور حولهما، وانتشرت حرفة الاستجداء واخترعت لها الحيل الكثيرة، ووضع لها علم سمي «علم الحيل الساسانية» وعرفوه بأنه «علم يعرف به طريق الاحتيال، في تحصيل الأموال»، وألفت الكتب في هذه الحيل، من أشهرها: كتاب «المختار، في كشف الأسرار، وهتك الأستار» كشف فيه حيل المحتالين وأستار الكاذبين الخ. وفيه مئتان وستة وستون بابا في الحيل المختلفة.
كل هذه ضروب من ضروب «أدب المعدة».
والذي دهور الأدب إلى هذه الدرجة طبيعة الحياة الاجتماعية في تلك العصور؛ فلم يكن للأدباء مرتزق يرتزقون منه إلى موائد الخلفاء والأمراء والأغنياء، ولم يستطع الأديب أن يستقل بنفسه في الحياة، فنتج من هذا نتيجتان طبيعيتان: الأولى: أن الأدب أصبح أرستقراطيا لا شعبيا. يدور حول المديح، وإعلاء شأن القصور، وفي مراكز الخلافة لا في غيرها، وفي الموضوعات التي تهم هؤلاء الأغنياء لا غيرهم. والثانية: أن الأديب لم يكن يغني لنفسه، ولكن للأغنياء، وأصبح الأدب أو أكثره أدبا شيئيا، لا ذاتيا وأصبحنا إذا قرأنا ما يقوله الفرنج عن تعريف الأدب بأنه «نقد الحياة» عجبنا من هذا التعريف؛ لأنا لا نرى الأدب العربي العباسي ينقد الحياة، وإنما يصف نوعا من حياة القصور، فأما الشعب فلم يوصف إلا قليلا.
وبقدر ما كثر في هذه العصور «أدب المعدة» قل أدب الروح، من غزل عفيف، أو وصف للطبيعة ، أو ثورة نفس على سوء حال الشعوب. •••
إن كان هذا مما يسوء، فقد كان مما يسر نهضة الأدب العربي الحديث؛ فقد بدأ يتحول من أدب معدة إلى أدب روح؛ تحول من أرستقراطية إلى ديمقراطية، ومن مديح إلى وصف، ومن مقامات إلى روايات تصف الحياة الاجتماعية للشعوب، ومن عواطف شعبية أو عواطف عالمية.
وليس مما يضيرنا أنه في مبتدأ الطريق، فمن سار على الدرب وصل.
إن الشرق الآن في حاجة ملحة إلى كثير جدا من أدب الروح، وقليل جدا من أدب المعدة، فإنه مكبل بأغلال سياسية تحتاج إلى أدب يغني له بالحرية حتى يحطمها، ومكبل بأغلال اجتماعية تحتاج إلى أدب ينشد الإصلاح حتى يخلص منها، ومصاب بانحلال يحتاج إلى أدب يشعل النار تحته حتى يعقد، وفقير في اللذائذ العقلية، فلا بد له من أدب راق يغذيه، وثروة أدبية عقلية تغنيه.
لقد عاش طويلا على أدب المعدة فكان نتيجته ما نرى، فليعش من الآن على أدب الروح حتى تكون نتيجته ما نأمل.
مستودع الذخائر
أين - تظن - مستودع الذخائر للأمة؟
قد تجيب على الفور: إنه المطارات، ومخازن الأسلحة، ومستودع القنابل، وما إلى ذلك من أماكن تكدس فيها آلات القتال وأدوات الحرب.
إن أجبت بذلك فقد أجبت بالعرض دون الجوهر، وبالمجاز دون الحقيقة.
وقد تتفلسف قليلا، فتقول: إن ذخيرة الأمة هي جيشها المسلح بعدده وعدده، ومرانه وتجهيزه، وفنونه وتشكيله.
إن قلت ذلك فقد قاربت الصواب ولم تقله، وحمت حوله ولم تقع عليه.
فما قيمة الذخائر إذا لم تجد رجالا؟ وما ينفع السيف إذا لم تك قتالا؟ إن السيف في يد الغر والحذق كالقلم في يد الأمي والكاتب؛ بل ما ينفع الجندي المسلح، إن لم يكن له بين جنبيه قلب لا يهاب ونفس لا تفزع؟ •••
الإجابة الحقة هي أن مستودع الذخائر للأمة، قلب المرأة، قلب المرأة هو الجيش الأول الذي لا قيمة لقنابل، ولا طيارات، ولا غواصات، ولا دبابات، بدونه. وإن شئت فقل : هو الطابور الخامس الذي لا يوقع الرعب والفزع في قلوب الأعداء شيء مثله.
لقد خلقت المرأة من ضلع من أضلاع الرجل، ولكن سرعان ما تغير الحال فخلق قلب الرجل من قلب المرأة. •••
يخطئ من يظن أن لبن الأم ليس إلا نسبة معينة من الدسم، ونسبة معينة من الماء، وما إلى ذلك؛ فليس هذا كله إلا تحليلا للمادة، وليست المادة كل شيء في اللبن؛ وإنما قصر تحليل الكيماويين فقصرت نتائجهم. إن في اللبن صفات خلقية، وصفات عقلية، وصفات روحية، وراء الصفات المادية، يرضعها الطفل كما يرضع مادة اللبن، فتتغذى بها روحه، وتتشكل منها نفسه؛ وليست هذه الصفات الروحية متطابقة دائما مع الصفات المادية، فقد يحلل اللبن في معامل الكيمياء فيتبين من تحليله أنه المثل الأعلى للبن، وهو مع ذلك سم خلقي ينفث الجبن، ويشيع الفساد، ويبعث الفزع والخور؛ على حين أن لبنا آخر ينقصه الدسم ويعيبه التحليل الكيمياوي؛ وهو مملوء روحا، ومملوء شجاعة ونشاطا، ومملوء قوة؛ ومن أجل ذلك صدق الشاعر إذ يقول:
ترى الرجل النحيف فتزدريه
وفي أثوابه أسد مزير
ويعجبك الطرير فتبتليه
فيخلف ظنك الرجل الطرير •••
ثم إلى اللبن الذي ترضعه الأم أولادها توعز إليهم الجبن أو الشجاعة بسلوكها؛ فإن هي ربتهم تربية الأرانب فأدفأتهم وأشبعتهم، وحاطتهم بكل ضروب العناية، ولم تسمح لهم أن يجربوا وأن يجازفوا، ثم حدثتهم من الأحاديث ما يخلع قلوبهم، ويحبب إليهم الحياة بأي ثمن، وعلمتهم أن لا قيمة للعقيدة بجانب حياتهم، ولا للوطن بجانب سلامتهم، وصاحت وولولت يوم يجندون، وفقدت رشدها يوم يسلحون. فهناك ترى صورة جند ولا جند، وترى أشكال الرجال ولا رجال، وترى أجساما ضخاما وقلوبا هواء. وإن هي ربتهم من صغرهم على المخاطرة والمجازفة، وحدثتهم أحاديث الأبطال وعظماء الرجال، وعودتهم مكافحة الحياة والتغلب على الصعاب، وعلمتهم أن المبادئ فوق الأشخاص، والوطن فوق حياة الأفراد، وعيرتهم يوم يفرون من واجب، وأنبتهم يوم يأتون بنقيصة، وفخرت بهم يوم يضحون لمبدأ، واعتزت بهم يوم يخاطرون لأمة، فهناك الرجال، وهناك العزة، وهناك الشرف.
ألست ترى معي بعد أن قلب المرأة هو الذي يخلق قلب الرجل؟
ويخطئ من يظن أنه يستطيع أن يؤسس جيشا من رجال بإعدادهم وتسليحهم من غير أن يدعمه بجيش من قلوب النساء؛ فالجيش بدون قلوب آلات جوفاء، وسراب ولا ماء؛ بل كل مظاهر القوة في الأمة من جيوش وأساطيل، ومجلس وزراء، ومجالس نيابية، ومصانع ومعامل، ألعاب بهلوانية ما لم يدعمها قلب المرأة. •••
قلب صفحات التاريخ إن شئت، فحيثما رأيت للأم قلبا رأيت للرجل قلبا، فإذا انخلع قلبها انخلع قلبه.
إن هندا بنت عتبة التي تخاطب الجيش بقولها:
إن تقبلوا نعانق
أو تدبروا نفارق
فراق غير وامق
هي التي أنجبت معاوية.
وأسماء بنت أبي بكر التي قالت لابنها: يا بني لا ترضى الدنية. فإن الموت لا بد منه. فلما قال لها: إني أخاف أن يمثل بي، قالت: إن الكبش إذا ذبح لا يؤلمه السلخ - هي التي أنجبت عبد الله بن الزبير.
والتاريخ مملوءة بهذه الشواهد في كل أمة.
وظلت المرأة العربية على شهامتها ومعرفتها بأمور الدنيا، ومشاركتها الرجل في كل شئون الحياة، حتى تقدم العصر العباسي فأنشئ لها «الحريم» وحبست فيه، وجهلت الدنيا وأحوالها، وأخذ الرجال يجهلون الحرائر ويعلمون الإماء، حتى أصبحت المراة ليست إلا رمزا للمتعة أو رمزا للكيد؛ وتجادل الشعراء، فمنهم من يقول:
إن النساء رياحين خلقن لنا
وكلنا نشتهي شم الرياحين
ومنهم من يقول:
إن النساء شياطين حلقن لنا
نعوذ بالله من شر الشياطين
وكلا النظرين سخيف قاصر؛ فليست المرأة ريحانة فحسب، ولا شيطانة فحسب؛ وإنما هي فوق ذلك مربى للرجال ومحضنة للقلوب ومستودع للذخائر.
بمثل هذه النظرات البلهاء فقدنا المرأة ففقدنا الرجل؛ فإن أردنا تنظيم حياتنا على أسس جديدة وجب أن يكون أولها وأولاها خلق قلب المرأة.
ليس ما يمنع أن تحيا المرأة حياة الجمال، بل هو واجب أن يكون؛ وما قيمة الدنيا إذا لم تقم فيها دولة الجمال، ودولة الفن والدب؟ ولكن يجب أن يكون بجانب الجمال الحسي جمال معنوي؛ فيه جمال حديث المرأة، وجمال رقيها وخبرتها وجمال شجاعتها وجمال قلبها، فعند ذلك نجد المرأة فنجد الرجل.
انظر الآن دور المرأة الغربية في الحرب، ولا أقص عليك ألا مثلا واضحا تلمسه في كثير مما يدور من قصص وما يتلى من أخبار، وهو أن الشبان والرجال يتعيرون كل العار أن يروا في بلادهم أيام الحرب وهم لا يحملون السلاح، ولا يشتركون في القتال أو وسائل القتال، ويحز في نفوسهم أن قد أصيبوا بعاهة أو منعهم مانع جسمي عن أن يؤدوا لوطنهم خدمة ولأمتهم عملا؛ ومن يقوم بهذا الدور الخطير من تأنيب وتعيير غير نساء الأمة؟ فتكفي نظرة من إحداهن ليفضل الرجل الموت على الحياة، وخطر الحرب على أمن السلم، وعيشة القتال على عيشة الدعة.
كل هذا يلخص لنا الأمر في جملة: شجعت المرأة فشجع الرجل، وماعت المرأة فماع الرجل. •••
ليست تعد الأمة راقية تستحق البقاء إلا إذا أرسلت الأم أبناءها إلى ميادين القتال وهي تبتسم، وودعت الزوجة زوجها إلى الحرب وهي تملؤه أملا بالعيشة السعيدة بعد النصر، وقالت الأمهات لأبنائهن ما قالت «أسماء»: «إن ضربة بسيف في عز خير من لطمة في ذل». •••
إن وراء كل جيش في الأمة جيشا غير منظور من قلوب نسائه، ووراء كل جيش صاخب جيش المرأة الصامت، ووراء البنود والأعلام والجنود والذخائر دخيرة أسمى وأرقى وأقوى وأغلى، وهي «قلب المرأة».
حديث أمس
يجتمع في «لجنة التأليف» كل مساء خميس جماعة من صفوة الإخوان، يسمرون سمرا طيبا، ويتحدثون حديثا بريئا، ويدور الحديث حيثما اتفق، مرة في الشرق، ومرة في الغرب. ومرة في الشرق والغرب معا، تارة في أدب، وتارة في اجتماع، وتارة في اقتصاد، وقد يكون في غير ذلك جميعا؛ ويترك الحديث على سجيته، يستقيم كما يشاء، ويعوج كما يشاء؛ ولو سجل هذا الحديث كل أسبوع لكان صورة صادقة من صور بعض المجتمعات المصرية المثقفة. وقد يزورنا صديق من أصدقائنا في الشام أو العراق أو الهند، فيعرض علينا، ونعرض عليه، ونأخذ ونعطي، ويمدنا بالرأي ونمده بمثله.
وقد يحتد الجدل ويرتفع الصوت ويشتد الحوار، ثم لا نصل بعد إلى نتيجة حاسمة، وقد توفق أحيانا إلى أن يقنع بعضنا بعضا، وعلى الحالين ينتهي الحديث بسلام، بعد أن نقضي ساعتين أو أكثر في متعة عقلية لذيذة.
كان الحديث بالأمس من نصيب الأدب، جر إليه سؤال وجهه أحدنا، وهو أنه كلف أن يختار كتابا عربيا من الأدب القديم تقرؤه الفرقة الخيرة بالمدارس الثانوية، فماذا يختار؟
قال أحدنا: «جزءا من العقد الفريد». وآخر: «جزءا من الأغاني». وثالث: «نهج البلاغة». ورابع: «مقدمة ابن خلدون». - ما الغرض من اختيار هذا الكتاب من الأدب القديم؟ - الأدب القديم يمتاز بجزالة لفظه ومتانة أسلوبه، فإذا حملنا الطالب على دراسة هذا النوع من الأدب، ووضعنا في يده بجانب ذلك كتابا من الأدب الحديث استطاع أن يجمع مزية الأدبين، وخير الثقافتين، وأيضا إن الأدب الحديث ليس إلا نتاجا لتطور طويل، فما لم نعرف الأصل لم نعرف الفرع، ثم في الأدب القديم معرض صور لآراء أسلافنا، ومستودع معان تغذي عقولنا، وأخيرا هو يصل حديثنا بقديمنا، وزمننا بزمن آبائنا. - إن الأدب القديم نتاج عصر قديم، وصورة من صوره، ونابع من بيئته؛ والطالب الحديث لا يستطيع أن يتذوق نتاج عصر مضى عليه ألف سنة أو تزيد؛ فإذا كلفناه قراءته ودرسه، فقد كلفناه تجرع المر، وهو لا يقبل عليه ولا يستسيغه، ويتجرعه ليلقيه في ورقة الامتحان، ثم لا يبقى منه شيء إلا الذكرى السيئة؛ فأولى أن نعلمه الأدب الحديث، ونقرئه الكتب الحديثة، فهي التي يسيغها، وهي التي يشعر بها، وهي التي تعبر عن بيئته وزمنه؛ أما الأدب القديم فيدرسه من يتخصصون بعد لدراسة الأدب العربي واللغة العربية. - إن هذه نظرة ثائرة، لم يقل بها ولا الثائرون من الأوروبيين؛ ألا ترى المدارس الإنجليزية تدرس شكسبير وبيكون، والمدارس الفرنسية تدرس في مدارسها الثانوية روسو وكورني؛ فما بالك تريدنا نحن على أن نقتصر على الأدب الحديث؟ - شكسبير وكورني صورة من حضارتنا التي نحياها الآن؛ والطلبة يقرءون مؤلفاتهما في شغف، ويشعرون بما عرضت له من موضوع. أما الطالب العصري فكيف يشعر بما كان يدور في العصر الأموي والعباسي. - لقد جربت تجربة في السنة الأولى من كلية الآداب تشهد بصدق هذا النظر؛ ذلك أني أدرس لهم أدبا عربيا قديما وأدبا حديثا؛ وفي الأسبوع الماضي ألقيت عليهم سؤالا عن شعورهم نحو ما يدرسون، وأمرتهم ألا يكتبوا أسماءهم على ورقة الإجابة. فكان هناك شبه إجماع منهم على الشكوى من الأدب القديم وعدم فائدته، وأنه يجب الاقتصار على الأدب الحديث؛ قالوا ذلك لأنهم طلبة القسم الإنجليزي، وطلبوا أن يترك الأدب العربي القديم لقسم اللغة العربية. - هذا كلام فيه إسراف. فمتى كانت رغبة الطالب وحبه وشوقه مقياس ما يدرس وما لا يدرس؟ إنما يجب أن نعرف الصالح ونكلفه الطالب، سواء أحبه أو كرهه؛ وكل دراسة في أول أمرها ثقيلة مكروهة، حتى إذا سار فيها الطالب شوطا بدأ يستلذها ويحبها. فليس يصح أن نعول على الحب والكره، والشوق وعدمه، فيما يدرس وما لا يدرس؛ بل يجب التعويل على ما ينفع وما لا ينفع. - وهب هذا، فماذا ينتفع الطالب من شعر مديح وشعر هجاء، وفصل في الأجواد، وفصل في صفة الحروب القديمة؟ - ليس الأدب العربي كله كذلك، فقسم كبير منه قسم عالمي صالح لكل زمان ومكان، كباب الحكم وباب الأدب، حتى الأشياء التي ذكرتها لا تخلو من فائدة كبرى، كما ندرس أدق الأشياء في التاريخ القديم، وهي تخالف ما نحياه اليوم. - هذا مثل جيد! إننا ندرس الطبيعة والكيمياء والجغرافيا في المدارس على النمط الحديث، ولا ننظر مطلقا إلى ما كتب فيه قديما، فلا ننظر في تعليم الجغرافيا إلى معجم البلدان لياقوت، ولا كتب الإدريسي، ولا نعلم التلاميذ كتب ابن سينا في الطبيعة والكيمياء. إنما نعلمهم في كل ذلك آخر ما وصل إليه العلم؛ فلماذا لا نسير في الأدب على هذا الأساس؟ - الفرق واضح، وهو أن العلم لا قيمة لقديمه إلا من حيث دراسة تاريخه. أما الأدب فخالد وجماله خالد؛ فنحن نعجب الآن بالمتنبي وأبي نواس، ولا نعجب بالعلم الذي كان في زمنهما إلا من ناحية الدراسة التاريخية. - أرى أيها الإخوان أنكم شتتم البحث وبعثرتم الموضوع؛ فأنا أرى خطأ آخر هاما يقع فيه واضعو برامج الأدب العربي، من دراسة لتاريخ الأدب في عصوره المختلفة ودراسة القديم والحديث وغير ذلك. إن دراسة هذه الأمور تنفع عددا محدودا من الطلبة قد يكون اثنين في المئة أو اثنين في الألف، ولكنه يضر الأغلبية العظمى، فهل من الحق أن نرعى القليل ونضر الكثير؟ أجيبوني أولا عن السؤال الآتي: ما الغرض من تعليم اللغة العربية وآدابها لطلبة المدارس الثانوية على اختلاف أنواعهم، مع العلم بأن منهم من سيكون مهندسا أو زراعا أو تاجرا أو معلم رياضة أو أديبا؟ - الأغراض من دراسة اللغة العربية - في نظري - على شكل هرم، قاعدته منبسطة جدا، ثم تأخذ في الضيق شيئا فشيئا؛ فأوسع غرض وأشمله أن يستطيع الطالب التعبير عما في نفسه باللسان والقلم تعبيرا صحيحا يطابق تمام المطابقة ما في نفسه، وأن يفهم فهما صحيحا ما يقوله الآخرون أو يكتبونه على هذا النمط.
ويلي ذلك أن يمدهم الأدب العربي بمعلومات صحيحة مفيدة، تنفعهم في حياتهم، وتفتق ذهنهم، وتجعلهم أقدر على فهم الحياة، حياتهم الواقعية وحياة آبائهم.
ويلي ذلك أن يستطيعوا تذوق ما في القطع الأدبية من جمال، سواء من حيث اللفظ أو من حيث المعنى؛ فإن تذوق الجمال الفني غرض هام، نستطيع أن نقصد إليه ونهتم به.
ويلي ذلك أن نهيئ من له استعداد للأدب أن يكون أديبا، وهذه كلها تتدرج في الشمول حتى يكون الأخير في القمة. - إني أوافق في الجملة على هذه الأغراض، وإن كنت أخالف في تربيتها، وأرى أن هناك أغراضا غير هذه؛ ولكني أدع المناقشة في هذا الآن، وأقول: إذا سلمنا بهذا فيجب أن ننظر للبرامج في ضوء هذه الأغراض، وإنا إن فعلنا ذلك وصلنا إلى نتيجة هامة. وهي أنه يجب توزيع العناية بما نعلمه في اللغة العربية وآدابها على مقدار الشمول وعلى مقدار أهمية الغرض؛ فيجب أن يكون تصحيح العبارة في القول والقدرة على الفهم في المنزلة الأولى من حيث البرنامج الموضوع، ومن حيث توجيه العناية، ومن حيث ما تعطى من زمن، ثم تقل هذه العناية كلما صعدنا إلى القمة.
وفي ضوء هذا النظر يجب أن نقلل من التعليم الفلسفي ما أمكن، ففلسفة الإعراب في النحو، وفلسفة البلاغة التي لا ينبني عليها عمل، والنظريات في تاريخ آداب اللغة من حيث أسباب رقي كذا وضعف كذا، يجب أن تكون كلها في المنزلة الثانية أو الثالثة؛ لأنها لا توافق إلا عددا قليلا من الطلبة.
كما يجب أن نفرق في التدريس للسنة التوجيهية بين القسم العلمي والقسم الأدبي، فنعني للعلميين بالغرض الأول ونتوسع فيه، ونعني للأدبيين بسائر الأغراض. •••
بدأ أحدهم يرد على هذا الكلام ويفنده، وتبين من ملامحه أنه استعد استعدادا عظيما لتحطيم هذا الرأي، واستوى في جلسته وبدأ يقول: إن هذه الآراء كلها آراء غير ناضجة، ويجب أن ...
وهنا أخرج عضو ماكر ساعته وأعلن الحاضرين بتقدم الوقت والحاجة إلى الانصراف، فانصرفوا من غير أن يجيبوا عن السؤال الأول: «ما أحسن كتاب يختار».
فإن شاق هذا النحو من الحوار كثيرا من القراء، رجوت أن أعرض عليهم من حين إلى حين «محضر» بعض الجلسات في «لجنة التأليف».
رحلة1
وأنا رحلت - يا أخي طه - كما رحلت، فرارا من تقاليد العيد التي أفسدت العيد؛ فأصبح المرء لا يستطيع فيه أن يخلو إلى نفسه، ولا إلى أهله، ولا إلى أصدقائه، وإنما هو يستقبل أناسا في تكلف وتصنع، ويتحدث إليهم في تكلف وتصنع، ويقضي نهاره وجزءا من ليله أو مزورا، متلقيا بطاقات، رادا على بطاقات؛ متقبلا تحيات، رادا على تحيات؛ فلا يفرغ العيد إلا وقد فرغ من نفسه، وأضناه التعب، وانهدت أعصابه، وضعفت قواه.
إذا فلا بد لنا من «مدرسة» تنظم أعيادنا، وتصحح تقاليدنا، وتجعل العيد مصدر فرح وسرور، وراحة واطمئنان.
وقبل أن تنشأ هذه المدرسة، وتقوم بواجبها، لا بد أن نرحل في العيد، ونهرب من الأهل هربا من التقاليد.
ولكن إلى أين؟
إذا كان الغرض الهرب، فليكن إمعان في الهرب، وإذا كان الغرض الفرار من الناس، فليكن حيث لا ناس.
إذا فنحن نريد مكانا نستطيع أن نستريح فيه من أعمالنا؛ ونبعد فيه عما يصدعنا من أخبار وأحداث سياسية واجتماعية، ونبعد فيه عن الناس؛ لأنهم مصدر قلق دائم، ونقرب فيه من الطبيعة؛ لأنها مصدر الراحة والطمأنينة، والشعور بلذة الجمال الذي يسمو عن الغرض.
إلى دير ممعن في الصحراء، بين الجبال الشامخة، ومنظر الطبيعة القاسية، والطبيعة الجميلة، والطبيعة القوية القاهرة.
إلى دير «سانت كاترين»، حيث جبل موسى الذي تلقى منه الوحي والإلهام، ولأمر ما كان جبل موسى وغار حراء ونحوهما من الجبال مصدر الوحي والإلهام؛ ففيها ينقطع الإنسان عن العالم وشروره، ويتجرد من خيالاته وأوهامه، ويكون أقرب إلى الطبيعة على الفطرة، وأقرب إلى فهم نفسه على الفطرة، وإلى رؤية ربه على الحقيقة.
هيا بنا أيها الأصحاب إلى الدير، فما حيلتنا وقد انقطع نظام التكايا والخانقاهات في الإسلام، وبقي نظام الأديار في النصرانية؟ وكان القائمون بها ذوي ذوق في اختيارها، فقد زرنا أديارا كثيرة في الصحراء، حرص منشئوها على أن تكون بعيدة عن الناس، قريبة من الله، قريبة من الطبيعة وحسنها غير المجلوب كما يقول المتنبي، وحيث الماء الذي هو مبعث الحياة، وحيث صفاء الجو، وصفاء النفس.
وها هم أولاء رفقة كأن أخلاقهم سبكت من الذهب المصفى، وكأن شمائلهم من قطر المزن، وها هي السيارات التي تنهب الأرض نهبا مكان الجمال التي كانت تخب خبا، وها هو الأستاذ «الدمرداش» القائد الخريت، العالم بالمسالك والمهالك، الذي خبر صحراء مصر وجبالها شرقا وغربا، وعرف أسرارها، وعرف كيف يدبر لها، وينظم الرحلات إليها، ويطبق النظام العسكري عليها، في دقة وإحكام، وفي مرح وسرور أيضا.
لم تثر فينا - يا أخي طه - هذه الرحلة غضبا كما أثارت فيك رحلتك، بل أثارت فينا معاني أخرى تخالف الغضب كل المخالفة، أثارت عندنا شعورا بضعة الإنسان أمام قوة الله القاهرة، ومظهرها في سلاسل الجبال الشامخة والوديان الباهرة، والمرتفعات والمنخفضات التي لا نهاية لها؛ وتقبلنا بين سلطان الشمس في النهار بدفئها وعظمتها، وسلطان القمر في الليل بجماله وبهائه، ورقته ووداعته.
ولم يكن من فرق بيننا وبينك ، إلا أنك في رحلتك انغمست في الإنسان، ونحن في رحلتنا هربنا من الإنسان ، وحيث لا إنسان لا غضب ولا حقد ولا نزاع، فإذا أكلنا أكلنا في الصحراء، حيث لا يحسدنا أحد، ولا يغبطنا أحد، ولا ينظر إلينا إلا الله الذي يرحمنا ويشفق علينا، وقد يسخر منا.
ولكني لا أكتمك أني شاركتك حينا في اقتراح مدرسة الغضب، فكأننا كنا ملهمين إلهاما واحدا، أو أن شيطاننا واحد كما يقول الشعراء. ولكن كان الغضب حيث كان الإنسان؛ فقد قطعنا في سيرنا في الصحراء المسافات الشاسعة، نلهو ونلعب، ونسر ونفرح، ونغفل ونذكر، وتتوالى علينا العواطف المختلفة إلا الغضب؛ ولكن مع الأسف، والأسف الشديد، كنا بين حين وحين يوقعنا سوء حظنا في ملاقاة الإنسان فنغضب. نقطع المسافات البعيدة في الصحراء الجرداء في هدوء واطمئنان، ثم نصطدم بمجموعة من الناس تسمى في عرف المدنيين «شركة»، وفي عرف اللغة والحق «امتصاص دماء»، و«استغلال الأرواح للذهب» و«تحويل النفوس البشرية إلى أوراق مالية».
وكان الأمر يهون لو كان المستغل والمستغل مصريين، إذا لقلنا: إن مصر استعبدت مصر، وبعض مصر أكل بعض مصر؛ ولكن هذه شركة «جبس» يونانية، وهذه شركة «منجانيز» إنجليزية، وفي الناحية الأخرى شركة «فوسفات» إيطالية. ولم نسمع في هذا الطريق ولا فيما سرنا فيه قبل من طرق شركة مصرية، فالمعادن من بلادنا، واليد العاملة يدنا، والغلة لغيرنا.
لقد غضبت - يا أخي - عند ذاك غضبا أشد من غضبك، إذ علمت أن في الصحراء ثروة تبلغ أضعاف ما في الأرض الخصبة من ثروة، فهذه طين، وتلك ذهب، وعلمت أن هذه الجبال التي كنت أظن أنها لا تصلح لشيء إلا لخيال شاعر، قد كشف فيها العلم عن مناجم أشكال وألوان، تدر المال الوفير والخير الكثير، وعلمت أن الله تعالى قد منحنا هذه الكنوز وحرمنا كنز العقل وكنز الخلق، فجاء قوم حرموا هذه الكنوز ومنحوا كنز العقل وكنز الخلق، فغلبونا على كنوزنا وعلى عقولنا وأخلاقنا؛ وكان لنا العمل الوضيع، ولهم الثراء الواسع، ولنا الفتات ولهم المائدة.
وعلمت أن هؤلاء العمال المصريين يعملون في هذه المناجم في مقابل عشرة قروش في اليوم أو أقل من ذلك قليلا أو أكثر من ذلك قليلا، ثم لا يستطيعون أن يعملوا أكثر من نصف سنة، إذ تسوء بعد صحتهم، وتذبل أجسامهم، ولا يصلحون بعد ذلك للعمل ولا للحياة، فيعودون إلى بلادهم وقد كسبوا بضعة جنيهات في أيديهم وخسروا نفوسهم؛ وكسب غيرهم الصحة والمال والجاه؛ وتدفق المال في أوروبا، وتدفق المرض وسوء الحال في مصر.
عند ذلك - يا أخي - كنت أغضب وكنت أثور، وكان يتقطع حلمي اللذيذ في الصحراء، وكنت أتساءل: أين حكوماتنا التي أهملت الصانع كما أهملت الزراع، وأهملت الأراضي المعدنية كما أهملت الأراضي الزراعية؟ وأين رجال العلم منا الذين يجهلون ما في بلادهم، حتى يأتي إليها غير أهلها، فيكشفوا سرها، ويعرفوا قدرها، ويعملوا لاستغلالها؟ وأين أرباب الأموال الذين لا يعرفون من المال إلا أرضا زراعية ضاقت على أهلها؛ وإلا مضاربات على القطن تأتي على أراضيهم، فتصبح هي والمناجم سواء في تملك الأجنبي لها، ويصبح لغيرنا الغنم وعلينا الغرم، ولغيرنا الثمرة ولنا القشور؟
لسنا يا أخي نحتاج إلى مدرسة للغضب فحسب، وماذا ينفع الغضب؟ إنما نحتاج لمدارس تعلم الحكومات كيف تحمي ثروتها، وتستغل مناجمها؛ وتعلم رجال العلم كيف يعلمون أن في أرض مصر ثروات تفوق ما في الوظائف الوضيعة، وتعلم رجال المال أن استثمار أموالهم في الأوراق المالية هو استثمار العجائز، واستثمار أموالهم في الأراضي الزراعية استثمار القرون الخالية، وأنه يجب أن يعيش أقوياؤنا لزمنهم فيستنجموا، كما يعيش ضعفاؤنا للأرض، فيزرعون ويقلعون. •••
رحماك اللهم! كلما هربت من الإنسان وهمومه، لحقني الإنسان بغمومه، حتى في جوف الصحراء المؤنسة بوحشتها يلاحقني الإنسان الموحش بإنسيته! لا.. لا.. لا بد أن أغلق ذهني دونه، وأجرد نفسي منه، وأفرغ للجبال والوديان، واحتضن الطبيعة شوقا إليها، وأركز جمالها في قلبي هياما بها؛ لأدع منابع الزيت في «السويس»، ومناجم المنجنيز في «أبي زنيمة»، ومناجم «الجبس» فيما لا أدري اسمه، ولأمتع النظر بالجبال الحمراء والصفراء والبيضاء والسمراء، وبالشمس على قمم الجبال، وبالطبقات الجبلية المختلفة الألوان، وبالحصى الذي يروع حالية العذارى كما يقول الشاعر، وبحصباء الدر على الأرض من الذهب، كما يقول الآخر؛ ولأنعم بالجدب كما نعمت حينا بالخصب، وبمسيل الماء القليل ينبت في حافتيه العشب القليل، كما نعمت بمنظر النيل وفيضانه ومزارعه، فالجمال في التنوع؛ ولنسر على شاطئ البحر الجليل الجميل، ولنسمع تلاطم أمواجه، ولننعم بزرقته كما نعمنا بالوادي الذهبي وتموجاته الوديعة الهادئة؛ ولنعل ولنهبط، ولنسر في السهل والوعر، فلذات الهوى في التنقل؛ ولتغب الشمس مودعة في الشتاء بالثناء، ولتبعث إلينا ابنها البر القمر ليسيل على هذه اللا نهاية من ضوئه الفضي الرائع، وليجعل الأرض كلها شاشة بيضاء تمثل عليها الصور البديعة والمناظر الجميلة:
ففي كل شي له آية
تدل على أنه الواحد
وهذه السيارات تطوي الأرض طي السجل للكتب، لا تكل ولا تمل، وتعمل في المناظر عمل محرك الصور في السينما، فتنقلنا من صورة إلى صورة، وتنسينا مشقة السفر وتنسينا أنفسنا، فإذا نحن وهي والأرض والسماء واحدة، وتنقلنا من سهل إلى جبل، ومن جبل إلى سهل، ومن رحب إلى واد، ومن واد إلى بحر، ونحن سكارى بالجمال، نشرب من مناظره حتى الثمالة. •••
الله أكبر! نحن الآن في منتصف الليل، وقد بدأنا سيرنا من السويس في مطلع الفجر، وهذه هو الدير.
ما أقسانا! نقرع الأجراس على الرهبان في سكون الليل العميق، فنقطع عليهم نجواهم، ونحرمهم سكونهم ونومهم ودفئهم؛ ولكن ما الحيلة في الإنسان؟ لقد هربوا منه فلحقهم، وفروا منه فلجأ إليهم، احتموا منه في البعد السحيق، وسط الجبال الشامخة في الصحراء الموحشة، فعرف مكمنهم وأدركهم!
لا بد مما ليس منه بد - فقد فتح لنا الراهب بعد لأي، واستقبلنا بزيه الكهنوتي ومصباحه المتواضع، ودخلنا الباب سجدا، وصعدنا الغرف، وشربنا الشاي لندفأ وذهبنا إلى منامنا لنستجد، ولنرتقب النهار لنرى الدير وما حوله في ضوء الشمس.
هذا هو دير «سانت كاترين» الذي بناه جوستنيان سنة 530م في حضن جبل موسى أو جبل سينا الذي ورد ذكره في التوراة، وأمده جوستنيان بمئة من الرومان ومئة من المصريين بنسائهم وأولادهم ليقيموا حول الدير، يحمونه من عدوان من حلوهم، وليخدموا الرهبان فيه ، وقد تناسل هؤلاء وتكاثروا، وأخضعتهم الصحراء لبدواتها وعروبتها وإسلامها، فتبدوا وتعربوا وأسلموا، ولا يزال نسلهم حول الدير إلى الآن، يختلط فيهم أثر الرومان بأثر «العربان».
وتوالت على الرهبان أدوار من سلم واضطهاد، وخوف وأمن، ألجأتهم إلى أن يجعلوا الدير حصنا حصينا يمتنعون به عند الحاجة، ويستقلون به في معيشتهم؛ ففيه عين الماء، وفيه الطاحون والفرن، وفيه مخازن الغلال؛ كما تحصنوا بكتاب زعموا أن محمدا رسول الله أمنهم فيه في رحلة من رحلاته، وكتبه علي بن أبي طالب وختمه الرسول.
وفي الدير كنائس متعددة، ومسجد قيل: إنه بني لاسترضاء السلطان سليم، ولكن فيه من الآثار ما يدل على بنائه قبل هذا العهد، وأغلب الظن أنه بني إرضاء للمسلمين، حتى يكون الدير محل احترام المسلمين والنصارى على السواء.
وأثر ضعف الرهبنة في هذا الدير، فلم يبق فيه إلا نحو ستة عشر راهبا على مذهب الروم الأرثوذكس، وخارج البناء كنيسة فيها حجرة ملئت بالجماجم وأشلاء الإنسان ممن قتلوا أو ماتوا من الرهبان، حفظت تلبية لرغبة الإنسان في البقاء.
طفنا بالدير، وخرجنا منه إلى جبل موسى، وصعدنا حتى تعبنا فلم نبلغ قمته، وإن بلغت نفوسنا عظمته، وشعرنا برهبته، وذكرنا موسى، وذكرنا الألواح، وخفقت قلوبنا للذكريات، واهتزت نفوسنا لجمال المنظر وسحر المكان.
ثم عدنا إلى الدير، وراعنا أن سيارة من سياراتنا كان فيها «راديو»، فتحه السائق فغنى، فشعرت أنه غير منسجم مع المكان، ينقل إلى أعمق البداوة نهاية الحضارة؛ وكان منظر يشبه منظر البدوي إذا لبس قبعة، أو وضع في فمه «بيبة». ولكن ما كان أشد رهبتي إذ رأيت ثلاثة من رهبان الدير دخلوا السيارة يستمعون إلى غناء الراديو.
سبحان الله! أهذا هو الإنسان الذي هرب من المدنية فلم يطق الصبر على الهرب منها، فعاد يتعلق بأسبابها؟ أهذا هو الإنسان الذي أراد أن يتفرغ لعبادة الله فضاق عنها لسماع «أم كلثوم»؟ إن الإنسان في كل شأن من شئونه عجب أي عجب !
وعدنا كارهين العودة - يا أخي - كما كرهتها، وعدنا للإنسان عودة الراهب لسامع الراديو، وعدنا نتعاون في إنشاء المدارس وتكوين وزارة معارف، ونبدأ من حيث انتهينا.
فإلى اللقاء ...
دمع العين
لقد حدثتك قبل - أيها القارئ الكريم - كيف اهتم أدباء العرب بالعيون، وأكثروا من التأليف فيها والحديث عنها، وعرضت لك كتاب «سحر العيون» وما فيه من دقة وجمال.
واليوم أعرض لموضوع في العيون أطرف، فقد رأى مؤلف آخر ظريف أن العيون موضوع واسع لا يصح أن يؤلف فيه كتاب واحد، بل إن كل شيء للعيون جدير أن يؤلف فيه كتاب؛ فلئن كان أطباء العصر الحاضر قد بلغ مدى تخصصهم في الطب أن يجعلوا للعين بجميع أجزائها طبيبا خاصا، فأدباء العرب في العصر الماضي عز عليهم أن يؤلفوا في العين على اختلاف مظاهرها وفتنتها كتابا واحدا، فافتنوا في وضع الكتب للعين، هذا في سحرها وهذا في دمعها.
وصاحبنا اليوم صلاح الدين الصفدي الأديب المؤرخ المشهور (696-764ه)، وضع كتابا سماه «تشنيف السمع بانسكاب الدمع»؛ ولست أدري أكان موفقا في هذه التسمية أم غير موفق! إنما الذي أدريه أنه كان موفقا في فكرته، موفقا في تأليفه.
لقد لحظ فكرة النشوء والارتقاء، فتتبع أقوال الشعراء كيف بدءوا يذكرون الدمع ذكرا ساذجا، كالذي قال امرؤ القيس: «قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل»
ثم أخذوا يبالغون فيه شيئا فشيئا، فتقدم شاعر آخر خطوة، وقال: إنه فيض، فقال قيس بن ذريح:
هل الحب إلا زفرة ثم عبرة
وحر على الأحشاء ليس له برد
وفيض دموع تستهل إذا بدا
لنا علم من أرضكم لم يكن يبدو
ثم جعلوه مطرا كالذي يقول:
أظهر الكبرياء زهوا وتيها
فتلقيته بذل الخضوع
وحباني ربيع خديه بالور
د فأمطرته سحاب دموعي
ثم خطوا خطوة أخرى فجعلوه سيلا:
ولما أبى الواشون إلا فراقنا
وما لهمو عندي وعندك من ثار
غزوتهم من مقليتك وأدمعي
ومن نفسي بالسيف والسيل والنار
ثم جعلوه نهرا:
أحبابنا إن نأت بي عن دياركمو
دار وفارقت أوطانا وأوطارا
فإن لي نصب عيني من جمالكمو
روضا نضيرا ومن عيني أنهارا
ثم بحرا:
عرق النوم في بحار دموعي
رحم الله سلوتي وهجوعي
وأتى الطيف زائرا فرآني
بين بحرى مدامعي ونجيعي •••
هذا من نايحة الكم، وأما من ناحية الكيف فقد جعلوه بدل الماء دما:
ولما وقفنا للوداع عشية
وقد خفقت في ساحة القصر رايات
بكينا دما حتى كأن جفوننا
بجري الدموع الحمر فيها جراحات
وقال آخر:
وقد صرت أبكي كل شيء بمثله
لأني فرد في الصبابة والوجد
فثغرك أبكيه بأبيض أدمعي
وأحمرها أبكي به خدك الوردي
ثم جعلوه عقيقا أو مرجانا:
لست أنسى ساعة البين وقد
وجم الشائق منا والمشوق
ورجوعي بدموعي عاثرا
لست أدري بعدهم أين الطريق
كلما أم العقيق امتزجت
أدمعي فهي جمان أو عقيق •••
قد كان دمعي أبيضا حتى إذا
رحلوا غدا للهجر أحمر قان
يجري بمجرى وجنتي فيمتلي المر
جان من عيني بالمرجان •••
ثم إذا كان الدمع أبيض فهو نجوم:
عيناي مذ شظ المزار بكم
تحكي سما والدمع أنجمها
أو لؤلؤ ودر:
هو ذلك الدر الذي ألقيتمو
في مسمعي ألقيته من أدمعي •••
وسالت على خدي من لوعة الجوى
سيول دموع خضتها ثم عمتها
لآلئ دمع من لآلئ ثغرها
ففي وقت لثمي كنت منها سرقتها •••
ثم ادعوا أن الدموع نفدت بأحمرها وأبيضها، ولم يبق إلا ما يذوب من النفس، كالذي يقول:
وليس الذي يجري في العين ماؤها
ولكنها نفس تذوب وتقطر
وخطوا خطوة أخرى فزعموا أن العين ذهبت ولم يبق لها أثر:
أبكي وتبكي الحمام لكن
شتان ما بينها وبيني
تبكي بعين بغير دمع
ولي دموع بغير عين •••
وليس هذا الاستعراض كل ما في الكتاب؛ فهناك ناحية أخرى بديعة، هي تتبع الحالة النفسية التي تنتج من الدمع أو تصحبه، فهو فاضح السر وكاشف الستر:
لا جزى الله دمع عيني خيرا
وجزى الله كل خير لساني
ثم دمعي فليس يكتم شيئا
ووجدت اللسان ذا كتمان
وهو شاهد الحب:
أنا صب وما دمعي صب
وأسير، من الضنى في قيود
وشهودي على الهوى أدمع العي
ن ولكنني قذفت شهودي
ثم إن الدمع يتحير في الجفون مخافة الرقباء:
وقفنا والعيون مثقلات
يغالب طرفها نظر كليل
نهته رقبة الواشين حتى
تعلق لا يغيض ولا يسيل
ثم في الدمع تخفيف الهم، وتلطيف الحزن، وفرجة الكرب:
لا تلم في البكاء فالدمع لو لم
يجر في الخد كان في القلب جمرا •••
أرسل دموعك يوم البين إن بانوا
إن الدموع على الأحزان أعوان •••
دعوني ودمعي عسى فيضه
به تنطفي نار قلبي المروع
فمن شؤم حظي في الحب أن
أرى راحتي في انسكاب الدموع
ثم إن الدمع انتقام عادل من العين، إذ هي التي جرت على القلب ما جرت:
لأعذبن العين غير مفكر
فيما جرت بالدمع أو سالت دما
ولأهجرن من الرقاد لذيذه
حتى يعود على الجفون محرما
هي أوقعتني في حبائل فتنة
لو لم تكن نظرت لكنت مسلما
سفكت دمي فلأسفحن دموعها
وهي التي بدأت فكانت أظلما
ولكن آخر يأمر العين بالكف عن البكاء رحمة بها، وأملا في سلامتها حتى ترى محبوبها:
سأضمر في الأحشاء عنكم تحرقا
وأظهر للواشين عنكم تجلدا
وأمنع عيني اليوم أن تكثر البكا
لتسلم لي حتى أراكم بها غدا
ثم إن للدمع معاني ودلالات؛ فدمع ضاحك، ودمع باك:
رأت دموعي فقالت عينك ابتسمت
عن لؤلؤ بسلوك الجفن جذلان
وغالطتني في جعل البكا ضحكا
واستخونت. أينا يا مي خوان؟
ودمع حزن ودمع دلال:
أبكي وتبكي غير أن الأسى
دموعه غير دموع الدلال •••
شكوت حتى لان من قسوة
ورحت أبكي وهو لي مساعد
وقال: ها نحن سواء في البكا
لا يا حبيبي ما بكانا واحد
لا يستوي دمع على جمر الغضا
إذا جرى ودمع عين بارد
ودمع سرور، ودمع رحمة:
رحت يوم الفراق أضحك حزنا
ولفيض السرور يبكي المروع
وكذا في اللقاء أبكي هناء
ولفرط السرور تهمي الدموع •••
وقفت في الروض أبكي فقد مشبهه
حتى بكت بدموعي أعين الزهر
لو لم أعرها دموع العين تسفحها
لرحمتي لاستعارتها من المطر •••
وأخيرا فرغ الشعراء من بكاء العين، فتخيلوا البكاء من غيرها، فالسحاب يبكي:
ربى شفعت ريح الصبا لرياضها
إلى المزن حتى جادها وهو هامع
كأن السحاب الغر غيبن تحتها
حبيبا فما ترقا لهن مدامع
والساقية أو الناعورة أو الدولاب يبكي:
لله دولاب يفيض بجدول
في روضة قد أينعت أفنانا
فكأنه دنف يدور بمعهد
يبكي ويسأل فيه عمن بانا
ضاقت مجاري جفنه عن دمعه
فتفتحت أضلاعه أجفانا
والقلم يبكي:
ما أبطأت أخبار من أحببته
عن مسمعي بقدومه ورجوعه
إلا جرى قلمي إليه خافيا
وشكا إليه تشوقي بدموعه
والسيف يبكي:
تبكي صوارمه يوم الوغى بدم
وذلك الدمع للدنيا به ضحك
ثم يفلسف «النظام» البكاء فيجعل الضمير يبكي:
ذكرتك والراح في راحتي
فشبت المدام بدمع غزير
فإن تنفد الدمع نار الأسى
بكتك الحشا بدموع الضمير •••
رحم الله آباءنا الأولين، فقد جالوا كل مجال، وتفننوا كل فن، ولم ينقصهم إلا أن يبني أبناؤهم على آثارهم، ويجددوا ما تهدم من بنيانهم، ويشيدوا ما يتطلبه زمانهم، وما هو أشبه بنفوسهم.
جمل يطير وجمل يسير
لفت نظري - وأنا أقرأ «للمطهر المقدسي» في كتابه «البدء والتاريخ» - وصفه لجماعة من أصحاب القلانس والمجالس الذين يشحنون صدور العامة بترهات الأباطيل، ويقصون على الناس غرائب العجائب، ثم يقول في وصفهم: «إن الحديث إليهم عن جمل طار، أشهى إليهم من الحديث عن جمل سار».
وهل الدنيا كلها أيها «المطهر» إلا هؤلاء؟
كل العالم يصدق جملا يطير، ولا يصدق جملا يسير، يصدق المحال، ويكذب الواقع، ذلك دأبهم في كل شأن من شئون الحياة.
إن قلت: إن اللغة العربية خير اللغات، وآدابها خير الآداب، وإن اللغة العربية، أو الأدب العربي كامل مكمل، ليس فيه نقص ولا عيب، ولا يحتاج إلى نوع ما من الإصلاح، وإن اللغة العربية بزت لغات العالم، والأدب العربي لا يدانيه شيء من آداب العالم؛ فذلك جمل يطير، إن قلت به صفق لك الناس طربا، وشادوا بذكرك إعجابا وعجبا، وعدوك العالم الحق، وقائل الصدق. وإن قلت: إن اللغة العربية ككل اللغات، والأدب العربي ككل الآداب، فيه نواحي القوة ونواحي الضعف، وفيه ما يحسن وما لا يحسن، وفيه وجوه النقص التي يجب أن تكتمل، وفيه وجوه التخلف التي يجب أن تستقصى حتى تصلح، فهذا جمل يسير، لا يصدقك الناس فيما تقول، ويرمونك بقول الزور والبهتان، وما شئت من ألفاظ منتقاة.
فذلك جمل يطير، وهذا جمل يسير.
وإن قلت في التاريخ من أول عهده إلى اليوم ما يرضي الحكام والولاة والشعوب، فرفعت من شأنهم ولو زورا، وغلوت في مفاخرهم ولو كذبا وسكت عن مساويهم ولو كانت صارخة، وعمدت إلى اتجاه عواطفهم فسرت معها، وقصدت إلى الأوتار التي تطربهم فغنيت عليها، وشهرت بخصومهم، وقللت من شأنهم، وكذبت في إنكار فضلهم، وكان لك من البلاغة ما استطعت به أن تقلب الحق باطلا والباطل حقا، وتجعل السماء أرضا والأرض سماء، والحلو مرا والمر حلوا؛ واستطعت بفصاحتك أن تظهر مهارتك في اختراع حجج تشوه بها وجه الصدق، وتجمل بها وجه الكذب، فهذا جمل يطير، إن قلت به فأنت المؤرخ وأنت البطل، وأنت البليغ، وأنت الذي يغدق عليه المال، وأنت الذي يمنح خير الألقاب، وأنت الحقيق بأن يقام له تمثال؛ وأما إن أنت لم تعبأ بميول الحكام والولاة وعواطف الشعوب، وأخذت تحلل كل خبر وتتبين بواعثه ودوافعه كما يحلل الكيمياوي المادة في معمله، وتصدر حكمك لا تراعي فيه إلا الحق، فتارة يرضى العواطف، وأحيانا يغضبها، وأحيانا يرضى الرأي العام، وأحيانا يغضبه ويهيجه، وأنت لا يهمك أرضي أم غضب، وكره أم حب، ولا يهمك أتفق رأيك ورأي الناس، أم خالفهم، وتعمد إلى ما يعده الناس من وثائق فتهزأ بها، وإلى الإشاعات فتتحراها وتركزها في بوتقتك، وتشعل تحتها النار فتبخرها، وتصدر حكمك على من يسميه الناس بطلا فتنكر بطولته، وعلى من يعده الناس سافلا فتعرضه نبيلا؛ إن فعلت ذلك فهذا جمل يسير. فأنت الفقير، وأنت الثقيل، وأنت المتفلسف، وأنت المتعجرف، وأنت الذي ترمي بأن لا وطنيه له ولا شعور عنده، وأنت الذي يطرد ويبعد ويشرد.
فهذا أيضا جمل يطير، وجمل يسير.
وفي السياسة: إن أنت سرت على هوى الناس فرميت من يكرهون بأشنع التهم، واجتهدت أن ترفع نغمتك على نغمتهم، فإن قالوا: «مخطئ» قلت: «مجرم»، وإن قالوا : «مبطل» قلت: «خائن»، وإن قالوا: «مسرف مبذر» قلت: «سارق»؛ وتحريت ما يرضيهم فدعوت إليه، فسفهت مشروعا لا يرضونه، وأيدت مشروعا يعطفون عليه، واتخذت إمامك الرأي العام، تنكر ما ينكر، وتؤيد ما يؤيد؛ وسرت وراء الزعماء، إن انحرفوا يمينا انحرفت يمينا، أو يسارا فيسارا، وإن قالوا قولا ظاهر البطلان، قلت: إن لهم غرضا لا ندركه، وغاية لا نتبينها إلا بعد حين؛ وإن كان الساسة يرون الحرب، قلت الحرب، وإن قالوا: السلم، قلت: السلم؛ وإن قالوا: الحرب في هذا الجانب قلته؛ وإن قالوا: في الجانب الآخر قلته، وإن قالوا: عدونا فلان قلت: إنه عدو لدود؛ وإن قالوا: صديقنا فلان، قلت: إنه صديق حميم، واستعملت في كل ذلك حنجرتك إن كنت من ذوي الحناجر، وقلمك إن كنت من ذوي الأقلام، ومالك إن كنت من ذوي الأموال، فهذا كله جمل يطير. أما إن أردت أن تحكم عقلك، وهداك إلى أن تقول على الشيء: إنه أسود حيث قالوا: أبيض، وصوبت الرأي العام حينا، وخطأته حينا، ووافقت عواطف الناس حيث يوجب العقل الموافقة، وخالفتها حيث يوجب المخالفة، وحبذت قول الزعيم حين يرضى ضميرك أن تحبذه، ونقدته حين يدعوك ضميرك أن تنقده، وقلت: السلم حيث قالوا: الحرب، أو الحرب حيث قالوا: السلم، وأيدت ذلك كله ببراهينك المنطقية، وأعلنت رأيك، ولو كنت فيه وحدك، فهذا كله جمل يسير؛ أقل نتائجه أنك تعد ثقيلا بغيضا، وقد يكون فيه الخروج من منصبك، وقد يكون أن تؤذى في مصالحك، وقد يكون فيه أكثر من ذلك كله.
فهذا أيضا جمل يطير، وجمل يسير.
وهذا هو الشأن في «منطق الحوادث» جاهل ينال خير منصب، ويمنح خير مرتب، وعامل كفء لا يجد عملا ولا يجد قوتا، وحسناء فاضلة تتزوج بفقير سيئ السيرة، سيئ السلوك، وشوهاء شريرة ترزق الحظوة بغني يأتمر بأمرها ويسير طوع إرادتها، وغبي غني يرتع في النعيم. ولا مبرر لهذا إلا أنه ورث أباه الغبي في الغنى ، أو لعب في «البورصة» فربح من حيث لا يدري، أو احترف الرذيلة فكسب المال وخسر الشرف، أو لم تكن له شخصية فكسب بالملق ما لم يكسبه أخوه بالكفاية، وهذا ذكي عالم أمين سدت في وجهه كل الطرق حتى ما يسد رمقه، أو فقد عمله بصراحته وأمانته وشخصيته.
فهذا أيضا جمل يطير، وهذا جمل يسير.
والمصلحون في كل عصر إنما أوذوا وحوربوا وشردوا وقتلوا؛ لأنهم كانوا يقولون بالجمل يسير، حيث يقول الناس بالجمل يطير.
والفلاسفة البله حبسوا أنفسهم في جحر ضيقة لا يدخلها نور العالم، وأخذوا يضعون علما سموه «علم المنطق» يضعون فيه للمقدمات شروطا، وللقياس شروطا، وللفروض شروطا، والدنيا خارج حجرهم تهزأ بمنطقهم، وتسير على منطق آخر خلاصته: جمل يطير، وجمل يسير.
فمنطق الدنيا الواقعة في الغنى والفقر يهزأ بقواعد الاقتصاد، ومنطق الدنيا الواقعة يهزأ بمنطق النجاح والإخفاق، ومنطق الحوادث الواقعة يهزأ بالمنطق النظري، وهكذا؛ وكان المنطق السليم يقضي عليهم بأحد أمرين: إما أن يكون لهم من السيطرة والسلطة ما يخولهم أن يسيروا الدنيا على منطقهم، أو أنهم - وقد عجزوا - يسيرون منطقهم على منطق الدنيا.
بل وأحداث الطبيعة نفسها سائرة على هذا المنطق؛ فهذه صحراء تشكو الظمأ ولا تجد رشفة ماء، وهذا بحر يشكو الري ولا يجد ما يبثه شكواه، ولو كانت الدنيا بالعقل لسمعت الطبيعة شكوى الصحراء من الظمأ، وشكوى البحار من الري، وكان في علة هذا برء ذاك، كالغني يشكو التخمة، والفقير يشكو المخمصة، وفي الدنيا جو يشكو القيظ وجو يشكو البرد، وأرض جرداء وحديقة غناء، ومنجم ذهب ومنجم زفت، ونسيم وسموم، وسكر وحنظل.
أليس هذا كله - أيضا - منطق جمل يطير وجمل يسير؟
هل اقتنعت معي - يا أيها المطهر - بأن ليس من تصفهم وحدهم هم الذين يصدقون جملا يطير. ولا يصدقون جملا يسير؟
أو ليس هذا ما شعر به المعري إذ يقول:
لحاها الله دارا ما تدارى
بمثل المين في لجج وقمس
1
إذا قلت المحال رفعت صوتي
وإن قلت اليقين أطلت همسي
فلسفة المصائب
محال أن يحول الكاتب ذهنه عما يقع في هذا العالم الآن من مصائب، فهي موضع تفكيره، ومجال أحلامه؟ فلا بد أن تكون أيضا مجال قلمه.
والعالم الآن في مأتم كبير، ضحاياه أمم لا أفراد، وصرعاه ممالك وعروش، ومبادئ وحريات، ودمار في الأنفس والأموال، وخراب في كل مكان؛ والأمم التي لم تكتو بنيران الحروب إلى الآن، مكتوية بعذاب الانتظار، وتوشك أن تدرك النار أخراها كما أدركت أولاها. تضع كل أمة يدها على صدرها واجفة من مصيرها؛ والناس كلهم في عماء، لا يدرون إلى أين ينتهون، كأنهم يمثلون يوم الفزع الأكبر وما صورته الديان عند قيام الساعة.
إن الخيال ليعجز عن أن يتصور حقيقة ما يحدث في العالم الآن من كوارث، فقد غطيت الأرض بالأشلاء، وصبغت بالدماء؛ وجاء دور العلم يقدم للإنسانية أقصى ما يستطيع من شر، كما قدم لها في السلم أقصى ما يستطيع من خير؛ وهرعت الملايين من مكامنها تتطلب الملجأ وتسير على غير هدى، وتشتت الأسر لا يعرف بعضها مصير بعض، إلى ما لا يحصى من أهوال. •••
ومن قديم خلق الإنسان وخلقت معه مصائبه، حتى لتوقع الملائكة منه ذلك قبل أن يخلق، فقالوا: «أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك؟». فكانت المصائب ملازمة له، وكأنها عنصر هام من عناصر وجوده؛ وكأنها خاضعة لقانون النشوء والارتقاء، تبدأ بسيطة ساذجة كما بدأ الإنسان، وتعظم وتهول كلما تقدم الإنسان في العظم والرقي. وتقرأ التاريخ فتراه سلسلة مصائب وسلسلة حروب، نصرتها مصائب وهزيمتها مصائب؛ فإن فترت الحرب حينا، تتداول الأمم أنواع من الكوارث الأخرى السلمية تختلف أشكالا وألوانا.
حتى كان من غريب أمر الإنسان أنه لا يدرك اللذة إلا بالألم، ولا الفائدة إلا بالمصيبة؛ كما لا يدرك الحلو إلا بالمر، ولا المر إلا بالحلو، ولا يمكن أن نتصور سعادة إلا بشقاء، ولا شقاء إلا بسعادة، فكأن السعادة والشقاء وجها القطعة من النقود، لا يمكن أن يتصور وجود أحد الوجهين إلا بالآخر.
وتعجبني قصة صوفية، وهي أن أحد المتصوفين دخل بلدة، فأعجبه ما فيها، ثم زار مقبرتها فقرأ على أحد شواهدها: هذا قبر فلان، ألف كتاب كذا، وكان عالما فاضلا، ومات وعمره يومان؛ ورأى على قبر آخر: هذا قبر فلان القائد العظيم الذي انتصر في موقعة كذا، ومات وعمره ثلاثة أيام، وفلان ملك الناحية، وقد مات وعمره يوم؛ فعجب من هذا كله، وتوجه إلى خبير بالبلدة وسأله عن هذا اللغز الذي لم يفهمه، فقال: إننا لا نعد من أيام حياتنا إلا الأيام السعيدة. فقال الصوفي: إني أود أن أموت ببلدكم، وأرجو أن تكتبوا على قبري: هذا قبر صوفي رحالة، جاب الأقطار وزار الأمصار، ومات قبل أن يولد. •••
على أن المصائب نفسها ليست تخلو من وجه جميل وناحية رائعة؛ فهي ليست قبحا صرفا، ولا شقاء خالصا؛ بل كثيرا ما تكون بلسما كما تكون جروحا، ودواء كما تكون داء.
إن الرخاء قد يفسد الطبيعة البشرية، فلا بد لها من شقاء يصلحها؛ والحديد قد يفسد، فلابد له من نار تذيبه حتى تصلحه وتذهب خبثه؛ فكذلك النفوس قد يطغيها النعيم ويصدئها الترف، فلا بد لها من نار تكوى بها لتنصهر ويذهب رجسها.
ثم إذا أردت أن تعرف نفوس الناس حقا فتعرفها في أوقات المصائب لا في أوقات النعيم.
ويعجبني قول القائل: إن أعرف الناس بالناس الممرضات في المستشفيات، فهن اللائي يرين الناس في الكوارث، فيعرفن كيف يجزعون أو يحتملون، وكيف يفزعون أو يصبرون، وكيف يضعفون أو يقوون؛ أما خارج المستشفى فكلهم شجاع وكلهم قوي.
في أوقات الرخاء ترى الجمال المتصنع والقبح المتصنع، وترى القبيح في شكل جميل والجميل في شكل قبيح؛ أما في الشدة فترى الجمال عاريا والقبح عاريا، وترى الحق حقا والباطل باطلا، وترى الأوضاع تنقلب والقيم تختلف، فيصبح لا يساوي شيئا من كنت تظنه يقوم بالألوف، ويقوم بالألوف من كنت تظن أنه لا يساوي شيئا.
حتى الموت - وهو ما يعد بحق ملك المصائب - هو الحجر الأساسي لنظام العالم، ومصلح شأنه، ولا بد من الموت للحياة، وهو بعد ذلك كما قال القائل: الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا. •••
ثم الأمم لا تخلق إلا من المصائب، ولا تحيا إلا بالموت، ولا يكون زعماءها إلا الشدائد، ولا يصهر نفوسها إلا عظائم الأمور، ولا تنال استقلالها إلا بضحاياها، ولا تسترد حريتها إلا ببذل دمائها؛ وما ترك الجهاد قوم إلا ذلوا، ولا استلسم قوم للترف والنعيم إلا هانوا. تلك هي قوانين طبيعية للعالم بمنزلة قوانين الحرارة والضوء والجاذبية، لا تتغير ولا تتبدل مادام العالم هو العالم. •••
ويبلغ الرقي في بعض الأفراد أن يروا لذتهم في أن يألموا لإسعاد غيرهم، وسعادتهم في تضحيتهم.
كل امرئ فيه نواة لهذه التضحية، فهو يضحي من لذته لإسعاد أولاده وإسعاد أصدقائه؛ ولكن عظماء الناس يرون في حرية أممهم واستقلالها، وفي مبادئ العدل والحق معنى أسمى من العلاقة الشخصية بين المرء وبين أسرته أو بينه وبين صديقه، ثم يقدسون هذه المعاني السامية ويتعشقونها ويهيمون بها، فيبذلون نفوسهم لها كما يبذل العاشق نفسه لمن يحب، ويرى في ذلك لذته العظمى وسعادته الكبرى.
فهو بذلك أناني من جنس راق جدا، يرى أن سعادته وسعادة أمته شيء واحد، ويرى أن العمل لها هو بعينه العمل لنفسه. ثم هو لا يتطلب بعد ذلك جزاء ولا شكورا، كما لا يتطلب ذلك فاعل الخير لنفسه. •••
قد أرانا التاريخ - مع الأسف - أن الإنسانية لا ترقى إلا عن طريق المحن، سواء في ذلك أفرادها وأممها؛ فالفرد الذي يجد كل شيء ممهدا سهلا لا يصلح لشيء، والغني المترف الذي يجد كل ما يشاء في الوقت الذي يشاء، ثم لا يكلف نفسه شيئا أكثر من أن يستمتع بالحياة، هو نبات طفيلي يستهلك ولا ينتج، مظهر ولا مخبر، يوم تعصف به عاصفة من شدة يذهب مع الريح ولا يستطيع مقاومة؛ إنما يثبت للحياة ويصلح للبقاء من عركته الأحداث، وربته المصائب، وصلبته الكوارث؛ وهكذا شأن الأمم، أصلبها عودا أصلحها للحياة، وخير رجالها أقدرهم على التضحية؛ والأمم التي تنعم تؤذن نعومتها بفنائها؛ ولم تبلغ الأمم مثلها السامية من عدل وإخاء ومساواة وحرية إلا من طريق المصائب.
وصحة الأمم كصحة الأفراد ، فالمرض ينتاب من الأجسام أنعمها وأكثرها إخلادا للراحة؛ والصحة لا تنال إلا بالأعمال الرياضية الشاقة ، وبذل الجهد المضني؛ ولا لذة للراحة إلا بعد التعب، ولا لذة للماء إلا بعد العطش، ولا للأكل إلا بعد الجوع.
كذلك الأمم لا تدرك قيمة الخير إلا بالشر، ولا الفوائد إلا بالمصائب؛ ويوم تنزل بها الكوارث تؤمن بالجد، وتحتقر التافه، وتطلب المثل. فأهلا بالموت. إذا كان فيه الحياة، وبالشر إذا كان يتبعه الخير ... و:
مرحبا بالخطب يبلوني إذا
كانت العلياء فيه السببا
العربي لا يشعر إلا في بيئته
لفت نظري وأنا أدرس الأدب المصري العربي من عهد الفتح الإسلامي، ظاهرة غريبة؛ وهي أن عرب مصر لم يسعروا، مع توافر الدواعي لقول الشعر، فقد دخلوا مصر فرأوا مناظر تسحر النفس وتأخذ باللب - مزارع غناء، ومناظر حسناء، ونهر عجب أي عجب، وأهرام بديعة الصنع، وآثار تستخرج العجب.
ودخلوا الإسكندرية، فرأوا مدنية الرومان بفتنتها وجمالها، ورأوا البحر بسحره وجلاله، فلم يقولوا في ذلك كله شيئا.
وبعيد أن يكونوا قد قالوا ثم ذهب ما قالوه، فقد حرص الرواة الأولون على أن يرووا لنا كل ما سمعوا، حتى الأبيات التافهة في المسائل العارضة؛ وقد كان عرب مصر آلافا مؤلفة، كان أكثرهم أولا من القبائل اليمنية، ثم تتابع عرب مصر بعد ذلك؛ ومع هذا كله لم ينبغ منهم شاعر مصري، وكل ما روي لنا من الشعر الذي له قيمة في ذلك العصر هو ما وفد به الوفود على عبد العزيز بن مروان يمدحونه بمصر؛ مثل شعر عبيد الله بن قيس الرقيات، ونصيب، وكثير عزة؛ وهذا لا يعد شعرا مصريا إلا بضرب من التجوز، فقائلوه وافدون على مصر من الحجاز أو الشام، وليسوا مصريين.
تأملت في هذه الظاهرة طويلا، وفرضت لها فروضا مختلفة، فكان أقرب الفروض في نظري أن «العربي لا يشعر إلا في بيئته».
أيد هذا الفرض عندي أني تتبعت مشهوري الشعراء في ذلك العصر فوجدت مواطنهم إنما هي جزيرة العرب أو الشام أو العراق، وهذه هي بيئة العربي، فالجزيرة هي بيئته الطبيعية الأصلية، وبادية الشام وبادية العراق امتداد بيئته، ومن طبيعتها ومن جنسها؛ فهي تستحث شعره كما تسحثه جزيرة العرب، وهي موطن له منذ العصر الجاهلي؛ فالعراق أخرج لنا جريرا والفرزدق والأخطل ورؤبة والعجاج، وكان موطن إنشادهم مربد البصرة، وهو في أوصافه يشبه سوق عكاظ في الجاهلية؛ والشام أخرج لنا عدي بن الرقاع والطرماح والوافدين إليه من البوادي، والحجاز أخرج لنا جميل بن معمر وعمر بن أبي ربيعة والعرجي وابن قيس الرقيات والأحوص وذا الرمة وغيرهم.
كل هؤلاء من فحول الشعراء خرجوا من بيئتهم الطبيعية فشعروا وأجادوا؛ أما البلاد المفتوحة كمصر وفارس والهند والمغرب فلم تخرج شاعرا عربيا يعتد به إلا نادرا، والشام والعراق إنما أخرجا الشعراء لما أسلفنا من أنهما بيئتان عربيتان قديمتان؛ ولأن الباديتين في أطرافهما تبعثان على الشعر.
ثم ننظر إلى مصر فلا نجد فيها شاعرا عربيا، وننظر في فارس فنجد أشهر شعرائها زيادا الأعجم، وهو مولى من الموالي كان ينزل اصطخر فغلبت العجمة على لسانه فسموه الأعجم، وكان في فارس بعض شعراء كنهار بن توسعه وثابت قطنه، ولكنهم شعراء في الطبقة الثالثة أو الرابعة، وبعضهم نشأ في غير فارس ثم شعر قليلا في فارس.
بل ننظر إلى كثير من الشعر الذي قاله هؤلاء العرب النازحون إلى تلك المدن المفتوحة، فنجده ليس وصفا لهذه البلاد وإنما هو حنين إلى بلاد العرب، وبكاء عليها وشوق إلى العودة إليها، كالذي قال مالك بن الريب، وقد أقام مدة بخراسان، فلما حضرته بها الوفاة حن إلى وادي الغضا فقال:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة
بجنب الغضا أزجي القلاص النواجيا
ويقول آخر:
سرى البرق من أرض الحجاز فشاقني
وكل حجازي له البرق شائق
فوا كبدى مما ألاقي من الهوى
إذا حن إلف أو تألق بارق
إلى كثير من أمثال ذلك.
فاستخلصت من هذا كله أن العربي لا يشعر إلا في بيئته، فإن هو خرج منها إلى غيرها اعتقل لسانه وأصيب بالعي، مهما كان البلد الراحل إليه من جمال الطبيعة وجمال الصناعة ، ومهما توافرت بواعث الشعر.
وقبل ذلك قدم إلينا شيخ الشعراء امرؤ القيس دليلا واضحا على هذا، فقد خرج من جزيرة العرب إلى القسطنطينية، ورأى فيها عظمة الدولة الرومانية، وفخامة ملكها وجمال فنها، فلم ينطقه ذلك كله بقصيدة؛ وعجب الباحثون من هذا الجمود حتى ألجأهم إلى الشك في رحلته؛ وما تعليل ذلك عندي إلا ما أقول من أنه فارق بيئته فحصر. •••
قد يدل على صحة هذه النظرية أيضا ما روي عن هؤلاء الشعراء مما كانوا يفعلون إذا جمدت قرائحهم، ونضبت خواطرهم؛ فقد سئل كثير: كيف تصنع إذا عسر عليك قول الشعر؟ قال: «أطوف في الرباع المخلية والرياض المعشبة، فيسهل علي أرصنه، ويسرع إلي أحسنه»، وقال الأحوص:
وأشرفت في نشز من الأرض يافع
وقد تشغف الأيفاع من كان مقصدا
وحكى الفرزدق قال: «أتيت منزلي فأقبلت أصعد وأصوب في كل فن من فنون الشعر، فكأني مفحم أو لم أقل شعرا قط، حتى إذا نادى المنادي بالفجر رحلت ناقتي ثم أخذت بزمامها فقدتها حتى أتيت «ريانا»، وهو جبل بالمدينة، ثم ناديت بأعلى صوتي: أخاكم أخاكم أبا لبنى! (يعني شيطانه) فجاش صدري كما يجيش المرجل، ثم عقلت ناقتي فما قمت حتى قلت مئة وثلاثة عشر بيتا».
وكان الأبيرد الشاعر إذا خانته قريحته أخذ عصاه وانحدر في الوادي، وجعل يقبل فيه ويدبر ويهمهم بالشعر فتأتيه المعاني.
ولعل من خير ما روي في هذا الباب ما حكاه المرزباني في الموشح أن النابغة الذبياني قال للنعمان بن المنذر:
تراك الأرض إما مت خفا
وتحيا إن حييت بها ثقيلا
فقال النعمان: هذا بيت إن أنت لم تتبعه بما يوضح معناه كان إلى الهجاء أقرب منه إلى المديح. فأراد ذلك النابغة فعسر عليه، فقال: أجلني. قال: قد أجلتك ثلاثا، فأتى النابغة زهيرا فقال: اخرج بنا إلى البرية فإن الشعر بري، فخرجا ومعهما كعب بن زهير، فقال كعب فما يمنعك أن تقول:
وذاك بأن حللت العز منها
فتمنع جانبيها أن يزولا
فقول زهير: «إن الشعر بري» هو مصداق نظريتنا، فقد نبغ وكثر وفاض في البرية ومن البرية أولا، فإن قيل في المدن فأصله من البرية.
لست أدعي أن طبيعة كل شعر برية، فهناك شعر أوروبي جلبته الحضارة، وهناك شعر عربي قيل في المدن الإسلامية العظيمة كبغداد والقاهرة؛ ولكني أدعي أن العربي الذي هو وليد الصحراء ووليد المدن العربية - التي تمت بصلة وثيقة للصحراء كمكة والمدينة - لا يستطيع القول إذا انتقل إلى مدن أعجمية كمصر وخراسان والهند والمغرب؛ فأما الشعر الذي فاض بعد ذلك فإنما فاض من أعاجم أو من أبناء العرب الذين نشأوا من أول أمرهم في المدن الأعجمية.
وتعليل ذلك في نظري يرجع إلى أمرين:
الأول:
طبيعة العربي نفسه، فهو إذا دخل المدن العجمية ورأى معيشة اجتماعية تخالف معيشته، وعادات وأوضاعا تخالف عاداته وأوضاعه، اضطربت نفسه وتشتت ذهنه، واحتاج إلى زمن طويل حتى يهدأ ويألف العيش الجديد؛ وهذا الاضطراب وتشعث الذهن لا يبعث على قول الشعر؛ ولذلك كان قائلو الشعر بعد في هذه المدن هم أبناء الجيل الثاني أو الثالث لا الأول.
الثاني:
أن طبيعة الشعر العربي الأول طبيعية بدوية، فهو يتغنى بمناظر البدو من صحراء ووديان، وحيوانات البدو من ظباء وأوعال، ونباتات البدو من شيح وقيصوم. على هذا نشأ الشعر العربي، وعلى هذا نشأ العرب الفاتحون للأقاليم؛ فلا يستسيغ ذوقهم أن يتغنوا بإيوان كسرى، ولا أهرام مصر، ولا يستسيغ ذوقهم أن يتغزلوا في النرجس والياسمين، وقد تغزل آباؤهم بنباتات الصحراء، ولا يستسيغ ذوقهم أن يشيدوا بذكر النيل والفرات، وقد شاد آباؤهم بذكر الغياض. إن الشعر في هذه الأمور الجديدة يحتاج إلى مران للذوق طويل، ويحتاج إلى ثورة من الشاعر العربي، والشاعر العربي ليس ثائرا في شعره، إنما هو محافظ أشد المحافظة. فلما حرم العرب ساكنو الأقاليم الجديدة من رؤية القديم حتى يشعروا فيه، وحرموا الثورة والذوق الجديد حتى يشعروا في الجديد، حصر لسانهم فلم ينطقوا بقديم ولا جديد.
هذه فكرة أعرضها على القراء ليبحثوها ويقلبوها على وجهها، وليؤيدوها أو ينقضوها، فلا نريد إلا الحق.
وهي إن صحت حلت لنا مشاكل يعانيها الباحث ولا يرى لها حلا؛ لم لم يشعر عرب فارس في جمال فارس ، وعرب مصر في جمال مصر، وعرب الهند في جمال الهند؟ ولم لم يقولوا فيها ما قالوا في جزيرة العرب ومجال القول فسيح؟ ولم ضعفت دولة الشعر في البلاد المفتوحة حتى نشأ جيل جديد من الموالي وأشباههم؟ ولم ظلت طبيعة الشعر العربي بعد الفتح فترة طويلة من الزمان كما كانت قبل الفتح من حيث الأسلوب والموضوع؟ ولم لم ينبغ في البلاد المفتوحة من الشعراء ما نبغ في الحجاز وبادية الشام وبادية العراق مع تيسر الأسباب، ووفرة بواعث الشعر؟
كل هذه المسائل وأشباهها يحلها فرضنا «أن العربي لا يشعر إلا في بيئته».
عنوان القوة في الأمة
سؤال يرد على الذهن كثيرا: بم تعرف الأمة القوية؟ إذا نظرت إلى أمة وأردت أن تخبر موضعها من القوة والضعف، فبأي المرافق تعنى، وأي الاتجاهات تتجه، وبأي المظاهر تستدل؟ وما العناصر التي تعدها أساسية فتتحراها، وأيها تعدها ثانوية فتتخطاها؟
عرضت لي في هذا الأمر إجابتان: إجابة من الأدب الغربي الحديث، وإجابة من الأدب العربي القديم، أقدمهما للقارئ، لعل فيهما فائدة.
فأما التي من الأدب الغربي الحديث فإجابة تتلخص في «أن الأمة تعد قوية راقية إذا استطاعت أن تعدل نفسها وفق ظروفها التي تحيط بها»، فإذا أردنا - مثلا - أن نطبق هذه القاعدة على مصر، قلنا: إن لها موقفا خارجيا وموقفا داخليا، موقفا خارجيا مع الأمم الشرقية والأمم الأوروبية؛ فهل عدلت نفسها مع الأمم الشرقية، وعرفت مكانتها منها، واستغلت أحسن استغلال علاقتها معها، فأعانتها واستعانت بها، وأفادتها واستفادت منها، ونظمت شئونها معها، من حيث الثقافة ومن حيث الاقتصاد، ومن حيث السياسة؟ وهل بلغت في ذلك أعظم مبلغ تقتضيه الظروف الحاضرة؟
وهل عدلت نفسها وفق ظروفها مع الأمم الأوروبية، فتم لها استقلالها، وانتفعت بالغرب أحسن انتفاع ممكن، فاستفادت منه ثقافيا واقتصاديا واجتماعيا، ونالت منه كل ما تستطيع مما يزيدها قوة، وعرفت مقدار ما تعطي ومقدار ما تأخذ، ونوع ما تعطي ونوع ما تأخذ، وعرفت كيف تنتقي ما تأخذ وكيف تهضمه، وهل جهزت نفسها بكل ما تستطيع من قوة، حتى تحمي رأيها فيما تأخذ وما تدع، وما تعطي وما تمنع؟
وأما داخليا فنتساءل: هل استغلت ثروتها بحسب حاجتها؟ وهل استخدمت بيئتها الطبيعية فانتفعت بجودة أرضها وقوة مائها ومعادن جبالها وأرضها؟ وهل استطاعت أن تجد منابع للثروة تناسب ما ازداد من عدد السكان؟ وهل قامت بالإصلاحات الداخلية بقدر ما يتطلبه الزمان، فسايرت الأمم الأخرى، حتى لا تضعف أمامها فتلتهمها؟ وهل رقت أعمالها الإدارية، وحققت حكومتها العدل الاجتماعي حتى تشعر بقوتها، وتشعر بسعادتها؟ وهل أفحست المجال لكل ذي كفاية أن يظهر كفايته على قدر استعداده، ومنعت العوائق التي تحول دون ذلك من اعتماد على حسب ونسب وجاه وشفاعة؟
وهل وضعت الحكومة «ميزانيتها» على هذا الأساس ففرقت بين الضروري والكمالي، وبين ما يرقي الأمة ويضعفها، وما يجعلها أقرب إلى تعديل نفسها حسب ظروفها، وما يبعدها عن ذلك؟ وهكذا.
إن حدث هذا كله فالأمة قوية راقية وإلا لا، وإن حدث بعضه ولم يحدث بعضه، فهي متذبذبة بين القوة والضعف.
هذا رأي ذهب إليه بعض الباحثين من الأوروبيين، فعنده حيوان أرقى من حيوان؛ لأن الأرقى استطاع أن يوائم بين نفسه وبيئته، ويعدل نفسه وفق ظروفه التي تحيط به؛ والإنسان أرقى من الحيوان لهذا السبب عينه، فقد استطاع أن يغالب الطبيعة ولا يكون تحت رحمة حر وبرد وجوع وعطش، بل أخضع الطبيعة لمصالحه، أو قل: إنه استطاع أن يعدل نفسه وفق الطبيعة، ولم يقف جامدا تسيره الطبيعة، تحكم عليه كما تشاء، فاكتسى بعد عري، وشبع بعد جوع، ودفئ بعد برد، وهكذا. حتى استخدم الكهرباء والبخار وغيرهما ليوائم بين الطبيعة ونفسه.
وكلما عدلت الأمة نفسها وفق ما يحيط بها من بيئة طبيعية وبيئة اجتماعية، كانت أرقى من غيرها على هذا الأساس وأقوى. •••
وأما الإجابة التي من الأدب العربي القديم فلسياسي قديم وردت في كتب الأدب القديمة.
رأى هذا السياسي أن مقياس قوة الأمة ورقيها في أشياء ثلاثة مجتمعة: (1)
أن يقف الحاكم - وإن شئت فقل: الحكومة - على أحوال الرعية فتعرف دقيقها وجليلها، وظاهرها وخفيها - تعرف حال ولادتها كيف يعدلون أو يظلمون، وتعرف أحوال الناس كيف يشقون أو كيف ينعمون، ومقدار غناهم وفقرهم وجوعهم وشبعهم؛ وإن أدرت تعبير أهل العصر فقل: إن عندها إدارة إحصاءات دقيقة تسجل أحوال الأمة في مرافقها المختلفة، وتدخل التعديل على الأرقام كلما طرأ تعديل على الأحوال، حتى يكون أمام الحكومة سجل دقيق لكل مظاهرها وخفاياها، وعللها وأمراضها، وما وضع من الوسائل لعلاجها، ثم أن تكون هذه الأرقام وهذه الأخبار صحيحة لا يلبسها الحكام ولا يخدعون فيها الحكومة، إنما هي والحقيقة مطابقتان، لا تدليس فيها ولا خداع. فأحوال الأمة مصورة صورة دقيقة، مصغرة في مرآة ينظرها الحاكم فيراها، ويعرف دائما ما يطرأ عليها من صلاح أو فساد. ويعرف إلى أي طريق هي مسوقة، كالطبيب الخبير يعرف مريضه، وما يعرض له، أو كالراصد الماهر يعرف الجو وتقلباته، والنجوم وحركاتها. (2)
هذا هو الشأن في الحكومة عالمة خبيرة، ثم يلي هذا النظر في طبقة الأغنياء: ما سلوكهم، وما أخلاقهم، وما طبيعتهم؟ فإنهم عصب الأمم؛ إن ساءت أخلاقهم واستعملوا أموالهم في الفساد، ولم يأنفوا أن ينتهكوا الحرمات، وغلبهم الجشع فابتزوا أموال الفقراء لينفقوها في شهواتهم، ويبددوها في لذاتهم، وكانوا من الشره بحيث لا يترفعون عن أي دنيئة، ولا يتحرجون من أي وسيلة، لا يهمهم إلا أنفسهم وشهواتهم، فالأمة بهم ضعيفة. أما إن هم ترفعوا عن الدنايا وواسوا الفقراء، وكان في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم، فالأمة بهم قوية. (3)
فإذا فرغنا من الرأس المدبر وهو الملك قديما والحكومة حديثا، وفرغنا من النظر في الأغنياء من هم، وما موقفهم من أمتهم، نظرنا ثالثا إلى طبقة الحكام، كرجال الإدارة، ورجال القضاء وغيرهم ما شأنهم: إن كانوا ينظرون إلى أنفسهم فحسب، ولا ينظرون إلى من يحكمونهم، وكانوا قصيري النظر في معاملتهم الناس، لا ينظرون إلا من قريب جدا، ولا يحسبون إلا حساب ما ينالهم من مال، ولا يدخلون في حسابهم إلا دنياهم لا آخرتهم، ويحكمون الناس لا للناس ولكن للمدير أو الوزير، تمشيا مع تيار الحكومة الحاضرة وحسب أهواء الحزب الغالب، فهم مصدر ضعف الأمة ومظهر من مظاهر انحطاطها.
وإن حكموا الناس لله وللناس، وراعوا آخرتهم كما راعوا دنياهم، عرفوا أن المنصب واجب يؤدى لا قنطرة يعبرون عليها لمصالحهم الخاصة، وأيقنوا أن لا بأس من أن تضحي بالوظيفة لخدمة الحق، ووسعوا نظرهم فحسبوا حساب الغد كما حسبوا حساب اليوم، فهم مصدر قوة للأمة ومظهر من مظاهر رقيها. •••
حكومة مطلعة خبيرة واقفة على بواطن الأمور وظواهرها، وأغنياء ازدانوا بالعزة والأنفة، والحدب على البائس والفقير، وحكام يحكمون الناس بالحق وللحق؛ هذه هي دعامات الأمة الراقية في نظر هذا السياسي القديم. •••
ولعلك بعد مشتاق إلى معرفة هذه الوثيقة القديمة التي اعتمدت عليها في هذا البيان، فلأجب رغبتك وأقدمها لك بنصها:
ذكروا أن ملكا من ملوك العجم كان معروفا ببعد الغور، ويقظة الفطنة، وحسن السياسة، وكان إذا أراد محاربة ملك من الملوك وجه إليه من يبحث عن أخباره وأخبار رعيته قبل أن يظهر محاربته ... فكان يقول لعيونه: انظروا (1) هل ترد على الملك أخبار رعيته على حقائقها، أم يخدعه عنها المهدي ذلك إليه. (2) وانظروا إلى الغني في أي صنف هو من رعيته. أفيمن اشتد أنفه وقل شرهه أم فيمن قل أنفه واشتد شرهه؟ (3) وانظروا في أي صنف رعيته القوام بأمره، أمن من نظر ليومه وغده أم شغله يومه عن غده؟ فإن قيل له: لا يخدع عن أخباره، والغني فيمن قل شرهه واشتد أنفه، والقوام بأمره من نظر ليومه وغده. قال: اشتغلوا عنه بغيره. وإن قيل له ضد ذلك. قال: نار كامنة تنتظر موقدا، وأضغان مزملة تنتظر مخرجا، اقصدوا له.
هذه هي الإجابة من الأدب القديم، وتلك هي الإجابة من الأدب الحديث، أتركها بين يديك - أيها القارئ الكريم - لتوازن ما شئت وترجح ما شئت وتنقد ما شئت، وتقبل أو ترفض ما شئت.
عقلاء المجانين ومجانين العقلاء
تنبه العرب من قديم إلى نوع من الناس «مجنون عاقل»، تصدر منه أعمال جنونية بحتة في بعض تصرفاته ، فإذا حدثته فأديب ظريف، أو صوفي واصل، أو فيلسوف عميق، أو قل: إنه مجنون في ناحية، عاقل في عدة نواح؛ وهذا الضرب هو ما يسميه المحدثون بالجنون الفرعي، كالذي يعتقد أن له إصبعا من زجاج؛ فهو مجنون في كل ما يتصل بهذه العقيدة، يخاف أن تقرب حجرا إلى إصبعه حتى لا تنكسر ونحو ذلك، ثم هو فيما عدا ذلك عاقل ككل الناس.
وكان لي معلمة إنجليزية في غاية من العقل والحكمة والعلم، سألت عنها مرة بعد غيبة، فأخبرت أنها في مستشفى المجاذيب، فزرتها فحدثتني كما كانت تتحدث من قبل، في عقل وحكمة، فسألتها: لم تقيم في هذا المكان؟ فقالت: إنها فقدت إرادتها حتى لو فتحوا لها باب المستشفى لا تعرف أين تتجه. فعجبت من عقلها وتشخيصها لمرضها، وإدراكها لنفسها ونوع مرضها، وهي مع ذلك تعيش في مستشفى المجاذيب!
وقبل ذلك كان سيدنا «الشيخ سيد عبد الرحمن» - فقيه كتابنا - يجري في الشارع والأطفال يصيحون وراءه: «الشيخ سيد أبو جنونة»، فإذا حضر الكتاب فكلنا هيبة واحترام، ثم إذا حدثته فعاقل حكيم، يحدثك فيروعك حديثه لحكمته وصدق نظره.
والعرب لم يعنوا بهذا الضرب من الناس إلا أن يكونوا مجانين ممتازين في ناحية من النواحي الفنية، كأن يكونوا شعراء مجيدين، أو حكماء بارعين، أو فلاسفة ممتازين، أو كانوا ينطقون بالحكمة الرائعة، أو النكتة الصريحة اللاذعة أو نحو ذلك.
وقد أفرد بعض الكتب بابا بهذا الصنف من الأدباء كما فعل ابن عبد ربه في «العقد الفريد» سماه «أخبار الممرورين والمجانين». والممرور: من غلبت عليه المرة، وهي خلط من أخلاط البدن يغلب على المرء حينا فيهذي، وهو أخف حالا من المجنون.
وحكى في هذا الباب عن قوم من هؤلاء كان العلماء يجاذبونهم الحديث ليسمعوا جوابهم وكلامهم فيعجبوا به أي إعجاب، كعليان بن أبي مالك، ممرور البصرة، الذي كان يجري في الشارع والصبيان يصيحون وراءه، فالتجأ إلى بيت فأشفق عليه صاحبه وأطعمه وحماه، والصبيان يرجمون الباب. وهو يقول: «فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب». وسئل عن أي بيت أشعر، فقال:
ندمت على ما كان مني - فقدتني -
كما ندم المغبون حين يبيع
إلى آخر ما سئل، وآخر ما أجاب.
وقد ألف النيسابوري صاحب التفسير المشهور كتابا سماه «عقلاء المجانين» ترجم فيه لهذا النوع من الناس وأفاض. •••
وفي الحق أن هذا الصنف حبيب إلى الناس، يحبون أن يسمعوا حديثه ويتحروا أخباره؛ ولعل السر في ذلك أنه صنف فيه طرافة؛ لجمعه بين المتناقضات من عقل وجنون، وسفه وحكمة، وطيش ورزانة، ونقص وقوة؛ ولأنه مثار الشفقة والرحمة مع الإعجاب والاستحسان؛ فجنونهم يستدعي رحمتهم، وحكمتهم أو نوادرهم تستدعي الإعجاب بهم؛ وإذا اجتمع في النفس بواعث الشفقة والإعجاب ومظاهر التناقض فهناك الطرافة والجدة واللذة.
وعلى العكس من ذلك مجانين العقلاء، فلعل أكثر الناس في الواقع ينقسمون إلى عقلاء المجانين، وإلى مجانين العقلاء، فعقلاء المجانين هم من عرفت؛ أما مجانين العقلاء فعلى العكس من ذلك، يتظاهرون بالعقل وهم في سخفهم وسوء تصرفهم أولى أن يكونوا في عداد المجانين؛ وهؤلاء لا ترتاح النفس إليهم؛ لأنهم لا يثيرون شفقة ولا إعجابا، وإنما يثيرون سخطا ونفورا، وهذا مثار ألم لا لذة.
ولم أجد من ألف في مجانين العقلاء كما ألفوا في عقلاء المجانين؛ ولعل السبب في ذلك كثرة عددهم وثقل روحهم، وقد أدرك هذا أحد عقلاء المجانين، وقد قيل له: «عد لنا مجانين البلد» فقال: «كيف وهم لا يحصون؟ فإن شئتم عددت لكم العقلاء». •••
والآن أعرض لصورة من صور هؤلاء (عقلاء المجانين)، وهي صورة طريفة حقا، ممتعة حقا، هي صورة بهلول الكوفي الذي كثيرا ما اتصل اسمه بالرشيد وملأ الكوفة وما حولها نوادر وطرفا. •••
أما اسمه «بهلول» فاسم ظريف يطابق مدلوله، فمن معانيه الضحاك وقد كان البهلول ضحاكا.
وأما منظره وحركاته وسكناته وتصرفاته، فكانت تغري الأطفال بالضحك عليه، والسخرية منه، والصياح وراءه، ورميه بالحجارة؛ ومع هذا فكل ذلك لا يثير حفيظته، ولا يخرجه عن طوره، بل يقابل بنظرة الفيلسوف الهادئ، ويثير فيه العطف والشفقة على هؤلاء الأطفال الذين يجدون في إيذائه ؛ فقد رموه مرة بحجر فأدموه فقال:
حسبي الله توكلن عليه
ونواصي الخلق طرا بيديه
ليس للهارب في مهربه
أبدا من روحة إلا إليه
رب رام لي بأحجار الأذى
لم أجد بدا من العطف عليه
والبيت الأخير مثل راق من أمثال الإنسانية السامية، والرفق الذي بلغ الغاية في اللطف.
وقال له العقلاء يوما: لم لا تشكو هؤلاء الأطفال لآبائهم؟ فقال لهم: اسكتوا - أيها المجانين - فلعلي إذا مت يذكرون هذا الفرح فيقولون: رحم الله ذلك المجنون.
وقال له عاقل آخر: تناول الحجارة وارمهم كما يرمونك. فقال له بهلول: مه يا مجنون، إني إن فعلت شيئا من هذا رجعوا إلى آبائهم فقالوا لهم: هذا المجنون بدأ يحرك يديه فيجب أن يغل ويقيد، فلا يكفيني ما ألقاه منهم حتى أغل وأقيد.
وله ناحية أخرى غاية في الطرافة، هي تستره وراء مظهر جنونه، ونصيحته الخلفاء والأمراء بأقوى لفظ وأصرح بيان؛ فقد زهد في مالهم وجاههم، وأمنه جنونه أن ينالوا منه، ووثق بربه فلم يخف أحدا؛ وله في هذا الباب نوادر رائعة وأقوال غالية.
رووا أن الرشيد خرج إلى الحج فمر بالكوفة، فرأى بهلولا يعدو على قصبة وخلفه الصبيان. فقال الرشيد: كنت أشتهي أن أراه، فادعوه من غير ترويع. فلما حضر بين يديه قال: يا بهلول، كنت إليك مشتاقا.
بهلول :
لكني لم أشتق إليك.
الرشيد :
عظني.
بهلول :
وبم أعظك؟ هذه قصورهم، وهذه قبورهم.
الرشيد :
زدني.
بهلول :
من أعطاه الله مالا وجمالا، فعف في جماله، وواسى في ماله، كتب في ديوان الأبرار.
الرشيد :
قد أمرنا بقضاء ديونك إن كانت.
بهلول :
لا. إنه لا يقضى دين بدين، اردد الحق إلى أهله، واقض دين نفسك.
الرشيد :
ألك حاجة؟
بهلول :
أنا وأنت عيال الله. فمحال أن يذكرك وينساني.
ثم ركب قصبته وجرى.
ووقفه الأمير يوما في طريق الرشيد ليدعو له إذا مر به، فما حاذاه الرشيد قال: يا أمير المؤمنين أسأل الله أن يرزقك ويوسع عليك. فضحك الرشيد وقال: آمين. فلما جازه الرشيد صفعه الوالي وقال له: أهكذا تدعو لأمير المؤمنين يا مجنون؟ فقال بهلول: اسكت يا مجنون، فما في الدنيا أحب إلى أمير المؤمنين من الدراهم؛ فبلغ ذلك الرشيد فضحك وقال: والله ما كذب.
وبنى بعض الخلفاء قصرا، فتناول بهلول قطعة من الفحم وكتب عليه: «رفعت الطين ووضعت الدين، ورفعت الجص ووضعت النص».
وهكذا قصر العقلاء في نصيحة الخلفاء والأمراء، فقام بهذا الواجب المجانين.
وتنتابه لوثة فيلعب في التراب، ويمر عليه الناي فلا يعبأ بهم؛ لأنه يرى نفسه العاقل وهم المجانين، وكيف يوقر عاقل مجنونا؟
ويجلس بين المقابر فينطق بالموعظة الحسنة والحكمة البالغة، فيقول: «أما ترى هذه الأعين السائلة، والمحاسن البالية، والشعور المتمعطة، والجلود المتمزقة، والجماجم الخاوية، والعظام النخرة، لا يتقاربون بالأنسانب، ولا يتواصلون تواصل الأحباب، قد صارت الوجوه عابسة بعد نضرتها، والعظام نخرة بعد قوتها، تجر عليهم الرياح ذيولها، وتصب عليهم السماء سيولها».
ثم له الفكاهة الحلوة، والنادرة الطريفة، والجواب المسكت، فقد بلغه عن أمير الكوفة أنه ولد له بنت فساءه ذلك، فذهب إليه بهلول وقال له: أيسرك أن لك مكانها ابنا مثلي؟ فقال له: ويحك، فرجت عني.
وصحبه مجنون آخر مثله، فقابلهما الخليفة الهادي، فقال للبهلول: لم سميت بهلولا. فقال له: ولم سميت أنت موسى؟ فسبه الهادي سبا شنيعا؛ فنظر بهلول إلى صاحبه وقال له: كنا اثنين فصرنا ثلاثة. ورؤي جالسا بين المقابر وهو يلعب في التراب فقيل له: ماذا تصنع؟ قال: أجالس قوما لا يؤذونني
1 . •••
وهكذا ملأ بهلول عصره فكاهة وموعظة، وأضحك الكبار وأفرح الصغار؛ وكان في الكوفة نظير صاحبه عليان بن أبي مالك في البصرة؛ وأمثالهما كثير، منهم من عرف بالشعر الظريف، ومنهم من عرف بالنوادر الطريفة، ومنهم من كان مجنونا حقا، ومنهم من رأى العالم مجنونا فجن حتى لا يتعبه عقله. ومن العلماء والرواة من خاف قول الحق، والجهر بالصدق، فخلق بخياله مجنونا نسب إليه ما كان يجب أن يكون وما كان يجب أن يقال، وتستر وراء ذلك حتى لا يؤخذ به. ومنهم من رأى أن الحكمة إذا صدرت عن عاقل فأمر مألوف لا يسترعي النظر، ولا يستوجب العجب؛ ولكن إذا صدرت عن مجنون كانت أوقع في النفس وأدعى إلى التفكير والاعتبار، فحمله عقله على أن يستصدرها من مجنون. وقديما قالوا: الجنون فنون.
وأيا ما كان فهذا الباب طرفة من طرف الأدب العربي تستخرج الضحك والعجب والتفكير. •••
أما مجانين العقلاء فعددهم أوفر، وجنونهم أكثر، ونواحيهم أعقد، وتصرفاتهم أسمج. ونحن نستعرض لك بعضهم، إذ يعجزنا القول في كلهم؛ ولعلك تشاركني القول بأن في طليعة مجانين العقلاء هؤلاء الذي دفعوا هذا العالم الآن إلى هذه الحرب الطاحنة الفتاكة، المخربة الهدامة؛ وأنت لا شك متبين مدى جنونهم إذا تساءلت: فيم يتحاربون وكانوا يعيشون عيشا رغدا، وينعمون بما خلقوا من مدنية، وما أسسوا من حضارة، وطعام أفقرهم اللحم والزبد والمربى، وأرض الله واسعة، وخيراته تكفي لأضعاف من على ظهرها؛ ففيم إذا القتال، وفيم هذا التدمير والخراب؟ أللأكل والطعام وفير؟ أم لامتلاك الأراضي؟ وما قيمة امتلاكها إذا كانت غلتها مشتركة؟ أم لاستبعاد الإنسان في المستعمرات؟ ولم يستعبد وأولى أن يؤخذ بيده لينهض ويعمل؛ ويزيد في خيرات الأرض التي تثمر للجميع؟ أم للمجد. وأي مجد هذا الذي يؤسس على جبال من رءوس القتلى وأنهار من دمائهم؟ أم لفخر أمة وتيهها وخيلائها وتعاظمها على مثيلاتها؟ فلم هذه العظمة وهم ينادون بالمساواة بين الأفراد؟ فيجب أن تكون النتيجة الطبيعية المساواة بين الأمم؟
قلب المسألة على كل وجوهها، وسائل نفسك عن سبب هذه الحرب المعقول، يعجزك الجواب، وتسلم معي بعد طول البحث أن الأمر لا يعدو الجنون؛ ولو شاهدت أمة الحمير أو أمة الكلاب هذه المناظر وكان لها لسان ينطق لصرخت: ما أشد جنون الإنسان! ونعوذ بالله أن نمسخ ناسا.
ولعل أغرب ما يستوجب الأسى ويقنعك بالجنون أن هذا الإنسان يحاول أن يخضع كل مظاهر الطبيعة لقدرته، ويحاول أن يستكشف سر المادة وسر ما وراء المادة، ويحاول أن يعرف حقيقة العالم وخالق العالم، وينشئ الفلسفات المعقدة المربكة المرتبكة، وأن يضع النظم الدقيقة للعالم وشئونه، وهو يعجز أن يضع نظاما يمنع هذه المجازر التي تخجل السباع الضارية أن تمثلها.
أليس هذا جنونا؟ فإن لم يكن فما الجنون إذا؟
هذا - من غير شك - جنون محزن، ولست تتصور مبلغ ما يثير من حزن حتى تتصور الأسر التي لا تحصى وقد فقدت عميدها وعائلها وبعض أبنائها أو كلهم، وحتى تتصور الأسر التي فقدت عائلها في الحرب الماضية، ثم فقدت أبناءها في الحرب الحاضرة، ثم برح بها الحزن والفقر والبؤس معا. لماذا؟ - لا أدري. •••
ثم تعال معي نطل على طائفة أخرى من مجانين العقلاء، وهؤلاء جنونهم أظرف ومظهرهم ألطف، وهم «طائفة المحبين» الذين لوعهم الحب، وألح عليهم العشق، فهم في هزال وضنك وبكاء، وحنين وهيام، وما شئت من أغراض.
ما هي إلا نظرة حتى تعقبها حسرة، وإذا الدنيا كلها لا تساوي شيئا بجانب نظرة تنظرها أو كلمة تتحدث بها؛ وتمحي الدنيا وسعادتها من الوجود إلا وجودها، ووصلها وهجرها، وحركاتها وسكناتها، وتتركز سعادته وشقاوته فيها، ففي يقظته ذكراها، وفي حلمه خيالها؛ إن نظرت إليه فسهم صائب، وإن أعرضت فسهم أيضا، يشكو من قربها ويشكو من بعدها، ويبكي إن وصلت خوفا من هجرها، ويبكي إن نأت جزعا من فرقتها، وتحدثه نفسه بالانتحار إن أعرضت؛ ويعادي فيها أهله، ويركب المخاطر والأهوال، ويترك الدنيا الحقة ليعيش في دنيا خيال وأوهام، ويهجر العالم الفسيح ليعيش في دنيا ضيقة كل الضيق، ويملأ الجو كله حزنا وألما وتحسرا وأسفا؛ فإن كان شاعرا صب ذلك كله في شعره، وإن كان موسيقيا ففي موسيقاه؛ وإن كان فنانا ففي فنه؛ والمجانين أمثاله يجاورنه في جنونه، فيبكون إن بكى، ويطربون إن طرب، وتبدو عليهم الأعراض من أعراضه، ثم عما قليل يشعر المحبون بجنونهم، فيأسفون على زمن أضاعوه، وألم تجرعوه، وخيالات وأوهام عاشوا فيها وعاشوا لها، ولا يدركون ذلك إلا بعد أن تضيع صحتهم، وتتقدم سنهم، فيقعون في جنون من نوع آخر. •••
فإن سرت معي نستعرض أصناف المجانين الأخرى، أريتك «مجانين المال» الذين نسوا أن المال وسيلة فجعلوه غاية، وأنفقوا عمرهم وأنفقوا صحتهم في جمعه، وعندهم ما يكفيهم وفوق ما يكفيهم؛ ومنهم من باع شرفه وخلقه للدينار يجمعه ويورثه، ومنهم من سخر آلاف الناس يجمعون له ثروته، فجنوا جنونه، ولكن قد جن لنفسه، وجنوا هم له، فكان في جنونه أحسن حالا منهم في جنونهم، ثم ربكوا أنفسهم في تدبير المال، وربكوا الحكومات بما نظمت من محاكم ووضعت من قوانين، فالنزاع دائم والمعيشة ضنك. ونتيجة الخصومات لا تساوي تعب النفس بالخصومات؛ ثم ملأوا الجو حسدا وبغضا وشحناء من أجل المال واستحواذ المال، وقسموا أنفسهم إلى فقراء لا يجدون ما يأكلون، وأغنياء يتخمون من كثرة ما يأكلون؛ هذا شقي بفقره، وهذا شقي بغناه؛ وكان في الإمكان أن يسعد الجميع لو عقل الجميع، ولكن أنى ذلك والداء مستحكم، والجنون معضل؟ •••
وهناك على مقربة من هؤلاء طائفة أخرى غريبة حقا، هم مجانين الشهرة، هذا يود أن يحرق الدنيا ليشتهر، ويخالف الناس والعقل ليشتهر، ويمشي على جثث من يصرعهم ليشتهر، ولا يهمه أن يذكر بخير أو بشر ما دام اسمه يردد على الألسنة وتلوكه الأفواه؛ وهذا يبيع راحته وصحته ويتلف ماله ويتلف نفسه ليحظى بالجاه وينال الشهرة؛ وهذا يدبر المكايد ويدس الدسائس ليصرع من أمامه، ويحل محله ويترأس ويشتهر.
وكل هؤلاء يقفون - ولو وقفة قصيرة - يسائلون أنفسهم: ما الشهرة وما الجاه، وما قيمتها الحقيقية في ضوء الحياة الواقعة التي تنتهي بالموت، ثم لا يجازى الإنسان بعد إلا على ما قدم من عمل غير ملحوظ فيه إلا قيمته الذاتية؟ وما هذا الذي يدفع الناس إلى كل هذا السخف الذي يسمونه جاها ويسمونه شهرة؟ وكيف عموا عن تقويم الأشياء بقيمتها الحقة من غير نظر إلى الأعراض الفانية؟
لا شيء إلا الجنون. •••
الحق أني إن أدرت أستعرض أنواع الجنون طال العرض وقصر الشرح. •••
ثم انظر معي للناس كافة على اختلاف أممهم وبيئاتهم تر العجب العاجب؛ في عاداتهم في مآكلهم ومشاربهم وملابسهم وسائر تصرفاتهم؛ وخلاصتها أنهم يخترعون من العادات ما يشقيهم ويذهب بسعادتهم، إن شئت مثلا لذلك فانظر إلى الممدنين، كيف يخنقون أنفسهم بملابسهم في حفلاتهم، وكيف يكون تصرفهم في أفراحهم ومآتمهم، وكيف يفسدون صحتهم بنظامهم في مآكلهم، إلى ما لا يحصى من مواضعات غريبة يضيق عنها الحصر، قد وجدوا أنفسهم أحرارا، فوضعوا ما يسلبهم حريتهم، وأصحاء فاعتادوا ما يذهب بصحتهم، واحكم بعد ذلك معي بم تسمي من يفعل هذا كله؟ أعاقل أم مجنون؟
يخيل إلي أن الذي يخفف من حكمنا على الناس بالجنون أننا ننشأ أطفالا لا عقل لنا، ثم ننظر إلى أعمال الناس ولما ينشأ عقلنا، ثم يتكون العقل فينا شيئا فشيئا، ونحن نرى أعمال الجنون ولا نرى غيرها فلا يكون لنا مجال في التفكير فيها؛ لأننا نألفها قبل أن نعقل، فإذا عقلنا لم نستغرب؛ لأنها ألفت من قبل، وعدت أعمال عقل من قبل. ولو قدر لإنسان أن يولد في جزيرة وحده، وينمو عقله على طبيعته، حتى إذا اكتمل رأي الناس وتصرفاتهم، لدهش من تصرفاتهم أشد الدهش، وعجب من جنونهم كل العجب، ولهرب منهم إلى حيث لا ناس ولا جنون؛ وإلا فحدثني كيف يستطيع عاقل أن يفسر طربوشهم وزر طربوشهم، وكيف يفسر الأزرار التي توهم أن لها عروة وليس لها؟ وكيف يفسر مظاهر حفلاتهم ومظاهر خصوماتهم! إلى ما لا يحصى.
لو رأى ذلك كله لأول مرة وهو عاقل لم يجد فرق كبير بين ناس داخل المستشفى وناس خارجه.
ويعجبني ما قرأت في كتاب الأغاني من حكاية بدوي رأى عرسا حضريا لأول مرة فأعياه تفسير مظاهره، وكاد يجن من تصرف أهله. •••
الحق أن العقل والجنون في هذه الحياة أمران نسبيان؛ فكل إنسان فيه كمية من عقل وكمية من جنون، وتختلف صغرا وكبرا؛ ولذلك يتقارب جدا عنوان المقالتين، ويكاد يتساوى عقلاء المجانين بمجانين العقلاء.
ومن حسن الحظ أن كل مجنون يعد نفسه العاقل بل مثال العقل، ويهد ما خالف نموذجه جنونا، وكلما بعد إنسان عن نموذجه كان أشد إمعانا في رميه بالجنون.
وفي رأيي أن «العقلاء» وضعوا المجانين في المستشفى؛ لأن «العقلاء» أقوى وأشد، ولو كانت القوة في صف المجانين لوضعوا العقلاء في المستشفى، ولله في خلقه شئون.
العزة
استعملت العرب كلمة «العزة» في مقابل «الذلة»، فقالوا: رجل عزيز ورجل ذليل، وجاء استعمال كلمتي «العزيز والذليل» في القرآن متقابلتين، فقال تعالى: «أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين». وحكي عن المنافقين أنهم قالوا في إحدى الغزوات: «لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل»، وهي كلمة قالها ابن أبي، ويريد بالأعزة نفسه وصحبه، وبالأذلة محمدا
صلى الله عليه وسلم
وصحبه، فرد عليهم الله بقوله: «ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون»، وقد تصدى بعض المسلمين لابن أبي وسل سيفه عليه ومنعه من دخول المدينة، وقال: والله لا أغمده حتى تقول: «محمد الأعز وأنا الأذل»، فقالها. والسبب في كل هذا أن العرب في الجاهلية كانوا يفهمون العزة في المال والجاه والرياسة والولد ونحو ذلك، فجعلها الإسلام في التمسك بالدين الحق، والترفع عن السفاسف وإباء الضيم.
وأكثر العرب من استعمال هذه الكلمة في الجاهلية والإسلام، فكان أبو جهل يقول: «أنا أعز أهل هذا الوادي وأمنعهم»، وقال الشاعر:
بيض الوجوه كريمة أحسابهم
في كل نائبة عزاز الآنف
وفسر الراغب الأصفهاني «العزة» بأنها حالة مانعة للإنسان من أن يغلب، وجعل اشتقاقها من قولهم: أرض عزاز أي: صلبة، وتعزز لحم الناقة اشتد وصلب.
والحق أن تحديد معنى العزة في منتهى الصعوبة، وأصعب ما في ذلك رسم الحد الفاصل بين العزة والكبر، وبين الذل والتواضع؛ وقديما حاول الناس أن يفرقوا بينهما. فقد روي أن رجلا قال للحسن بن علي: «إن الناس يزعمون أن فيك تيها» فقال: «ليس بتيه ولكنه عزة». وروي عن عمر بن الخطاب أنه قال: «اخشوشنوا وتمعززوا»، كأنه خشي إذا أمر الناس بتعود الخشونة أن يلجئهم ذلك إلى احتقار النفس وذلتها، فاستدرك ذلك بطلب المحافظة على العزة.
وحاول السهرودي أن يفرق بين العزة والكبر فقال: «العزة غير الكبر؛ لأن العزة معرفة الإنسان بحقيقة نفسه وإكرامها، كما أن الكبر جهل الإنسان بنفسه وإنزالها فوق منزلتها».
ولست أدري لم أهمل علماء الأخلاق من المسلمين هذا الخلق، فلم يكثروا الكلام فيه إكثارهم في غيره من الصدق والكرم والتواضع.
ولو وضعت أنا «ثبت» الأخلاق مرتبة حسب أهميتها للمسلمين لوضعت في أعلاها «العزة ». ولاخترت من الأخلاق ما يبعث القوة والاعتداد بالنفس والرجولة والأنفة والحمية، ولأقللت جدا من الكلام في التواضع والزهد والخوف ونحو ذلك؛ لأن قائمة الأخلاق يجب أن تخضع في تربيتها وتقويمها لعاملين: روح العصر، وموقف الأمة إزاء بقية الشعوب؛ بل أحيانا تنقلب الفضيلة رذيلة، ويكون الحث على هذا النوع من الفضائل داعية إلى الإجرام. فإذا أفرطت أمة في التواضع كانت الدعوة إليه إجراما، وإذا أفرطت أمة في الزهد كانت دعوة الأخلاقيين إليه دعوة إلى الموت والفناء.
كنت زمنا قاضيا في «الواحات الخارجة» وهي بلاد في منتهى الفقر والبؤس، أغناهم من ملك نخيلات وسويعات في عين من عيون الماء، بؤس شامل، وجهل شائع، وضنك يستذرف الدمع، ويستوجب الرحمة، ثم ذهبت يوما إلى صلاة الجمعة في مسجدها البائس الفقير أيضا. فما كان أشد عجبي من خطيب يخطب من ديوان مطبوع يستحث الناس على ألا يقضوا صيفهم في أوروبا، وأنا على يقين أن الخطيب والسامعين لم يعرفوا أوروبا، ولم يفهموا لها معنى غامضا، ولم تحدث أحدا منهم نفسه بالسفر إلى مصر فضلا عن أوروبا، ولكنها قلة ذوق الخطيب وسماجته، وجهله التام بالواقع.
وأؤكد أن أكثر المتكلمين في الأخلاق من المسلمين في مثل حال هذا الخطيب، لا يعرفون زمانهم، ولا يعرفون أمتهم، ولا يعرفون موقف أمتهم من زمانهم؛ يرونهم أذلة فيدعون إلى الذلة ويرونهم متواضعين فيلحون في طلب التواضع، ويرونهم زهادا بالطبيعة لا يجدون الكفاف من العيش فيمعنون في طلب الزهد، فإن هم تلطفوا قليلا طلبوا منهم الرضا بالبؤس وألصقوه بالقدر، وجعلوا ذلك كله ضربا من التقوى والإيمان، وهم بذلك يداوون جوعا بجوع، وجرحا بجرح، وسما بسم؛ وكان يجب أن يداووا جوعا بشبع، وجرحا بضماد، وسما بترياق.
تعالوا إلى كلمة سواء بيننا، ألا ندعو إلى خلق يزيد الأمة ضعفا، فلا ندعوها إلى الرضا بالقليل وفي إمكانها الكثير، ولا ندعوها إلى الاستسلام للقدر وفي وسعها مكافحة الصعاب ومواجهة الشدائد، ولا ندعوها إلى الذلة وفي استطاعتها أن تعز. والواقع أن أبيات العزة وأدب العزة وأمثال العزة وقصص العزة إنما تكثر في الأمة أيام عزتها وتختفي أيام بؤسها؛ فلما كان العالم الإسلامي عزيزا أنطقتهم بالعزة رماحهم، ثم غلبوا على أمرهم فنطقوا بالتواضع، وتواصوا بالاستكانة؛ وألفت الكتب والخطب من ذلك الحين تروح على البائسين حتى لا يشعروا ببؤسهم ولا يملوا شقاءهم، وما زال الحال على هذا المنوال حتى صار الداء صحة، والدواء مرضا.
وليس غريبا أن يسير الناس على هذه الخطة، ولكن غريبا أن يسير القادة عليها، وكان المفروض أن يكونوا أبعد نظرا، وأطهر قلبا، وأعرف بحقائق الأمور. •••
أريد بالعزة أن يشعر كل إنسان بكرامة نفسه ويشعر بما لها من حقوق، فلا يسمح لمخلوق كائنا من كان أن ينال منها مثقال ذرة، كما يشعر بما عليه من واجبات، فلا يسمح لنفسه أن يعتدي على حقوق الناس مثقال ذرة أيضا.
وللعزة مظاهر متعددة ووسائل مختلفة؛ فالناس كثيرا ما يتطلبون الغنى وسيلة من وسائل العزة، وآخرون يطلبون المنصب الحكومي أو العضوية البرلمانية أو العضوية في الجمعيات الراقية أو صداقة العظماء أو حسن الملبس على أنها وسائل للعزة. والمتعلمون يطلبون العزة من طريق الشهادات من ليسانس ودكتوراه ودبلوم ونحو ذلك. وهذه كلها عزة شخصية؛ وهناك عزة أخرى قومية وهي اعتزاز الفرد بنسبته إلى أمته، كاعتزاز الإنجليزي بإنجليزيته والفرنسوي بفرنسويته والألماني بألمانيته؛ ولهذه كلها مظاهر متعددة كاحترام كل أمة أعلامها والمحافظة على بعض تقاليدها والافتخار بلغاتها والفخر بآثارها ونحو ذلك. وليس يهمني الآن هذا ولا ذاك، إنما يهمني نوع من الشعور يتملك المرء ويشعر معه بأنه إنسان في الحياة لا يمتاز عنه أحد في الوجود في إنسانيته. قد يمتاز الناس عنه في المال أو في الجاه أو في المنصب، ولكن لا يمتاز عليه أحد في أنه إنسان؛ فسائق السيارة وصاحب السيارة سيان في احترامهما أنفسهما وشعورهما بحقوقهما وواجباتهما.
ويسوءني أن أرى الشرقي لا يشعر بالعزة الشعور الواجب، ولا ينزل هذه الفضيلة الواجبة من نفسه المنزلة التي تستحقها، وأكبر ما يؤلمني في ذلك مظهران:
الأول:
استخذاء الشرقي أمام الأجنبي الأوروبي وشعوره في أعماق نفسه كأنه خلق من طينة غير طينته، وكأن الطبيعة جعلت أحدهما سيدا والآخر عبدا؛ ترى هذا الشعور في المصالح الحكومية وفي الحوانيت التجارية وفي المجتمعات وفي الشوارع، وفي كل معاملة وفي كل خطوة. بالأمس كنت في محطة السكة الحديدية فذهبت إلى شباك التذاكر، وسألت الموظف - في أدب - هل هنا محل صرف التذاكر إلى بلدة كذا؟ فلم يجب، وأعدت السؤال فلم يجب، فتولاني شعور ممتزج من غضب وخجل واحتمال لبرودة السؤال وغير ذلك. وما لبث أن جاء أجنبي فسأل مثل هذا السؤال بلغته الأجنبية، فترك الموظف ما في يده وأقبل عليه بكله، وأجابه إجابة فيها كل معنى التبجيل والتعظيم، واختتم كل جملة من جمله بكلمة «سيدي»! فدهشت من هذا الحال وثارت نفسي وتجمع الدم في وجهي، ونلت من الموظف بقدر ما نال مني، ولم أكسب من ذلك كله إلا أن أكتب المقال.
وموقف هذا الموظف تقفه كل الأوساط على اختلاف في مقدار اللباقة والكياسة، ولكن الجوهر واحد، فذلك هو الشأن في الأوساط العلمية والتجارية والسياسية؛ يتكلم الأجنبي كلمة عادية فتكون المثل، وتكون الحكمة، وتكون القول الفصل؛ ويبدي الرأي فيكون الرأي الناضج والقول الحكيم والغاية التي ليس وراءها غاية؛ ويطلب الطلب فلا بد أن يجاب، وإذا لم يمكن فالاعتذار الحار والوعد بإجابته في ظرف آخر؛ ويدخل المحل التجاري أو يركب القطار أو يدخل النادي فموضع رعاية خاصة؛ ويعمل العمل فيقدر التقدير الغالي في قيمته الأدبية ومكافأته المادية، إلى ما يطول شرحه.
وفي هذا من غير شك مذلة للشعور وإذلال للنفس واستعباد للمواطن، ومع هذا يطالبنا السادة الأخلاقيون بالتواضع! لا بد أن يفهم الناي في كل مناسبة وفي كل ظرف أن القوم أنس مثلنا، لهم ما لنا، وعليهم ما علينا؛ وأن هؤلاء القوم على أحسن تقدير ضيوفنا لا سادتنا، ومن لحم ودم كلحمنا ودمنا، ولهم عقل ولكن كعقلنا، وسلوك في الأخلاق كسلوكنا، وتصدر منهم الفضيلة والرذيلة كما تصدر عنا ، وأنهم ككل البشر يستذلون من أذل نفسه، وأن واجبنا أن نحترمهم في غير مذلة، ونحترمهم لا على حساب احتقار المواطن، وأن نبادلهم احتراما باحترام واحتقارا باحتقار، وأنه إذا حدثتهم أنفسهم بالاعتداء علينا لم نمكنهم، وأن الحكم بيننا وبينهم دائما أن لنا حقوقا وعلينا واجبات كحقوقهم وواجباتهم، فإذا طلبوا المساواة فالسمع والطاعة، وإذا طلبوا الإذلال قلنا: «لا» بملء أفواهنا.
والأمر الثاني:
من مظاهر الذلة الذي لا يقل خطرا عن هذا، فهم الرئيس لمعنى الرياسة، فهو يفهمها على أنها غطرسة من جانبه، وذلة من جانب مرءوسه، وإلا لم يكن المرءوس مؤدبا؛ فرئيس المصلحة ليس لأحد رأي بجانب رأيه، لا لوكيله ولا لمديري إدارته، عليهم أن يسمعوا في ذلة، والعزة له وحده؛ ثم يتكرر تمثيل هذا الدور من أعلى فنازلا، فكل من بعد الرئيس الأعلى رئيس من جانب ومرءوس من جانب، فهو كمرءوس حاله ما بينا، وهو كرئيس يقلد تقليدا تاما رئيسه في اعتزازه وإذلاله، وهكذا دواليك، حتى يصل الأمر إلى ما نرى من الباعة في الشارع والجندي، فمثلهم كالقاطرة تصدم العربة التي تقابلها، ثم كل عربة تصدم ما بعدها إلى آخر القطار. •••
ليس لهذا من علاج إلا فهم العزة بمعناها الدقيق، وهو احترام نفسك في غير احتقار أحد، وأن تقف موقفا له جانبان، فإن نظرت إلى من هو أعلى منك في المنصب والجاه والجنسية فلا تمكنه أن ينال من نفسك ولو ذرة، ولا أن يتعدى حدوده ولو شعرة؛ وإذا نظرت إلى من هو أسفل منك فلا تتعد حدودك، وإذا شعرت باستخذائه وذلته، فارفع مستواه ما استطعت حتى يصل إلى الحدود.
على أنه ليس هناك أسفل ولا أعلى إلا أن تكون مواضعات سخيفة، فمن الذي قال: إن كناس الشارع وضيع، وفراش المصلحة وضيع، والخادم في الأسرة وضيع؟ نعم إن الحالة الاجتماعية فرقت بين الناس في المرتب ونحوه، ولكن القيمة الحقيقية للإنسان - وهي ما له من حقوق وواجبات - قدر مشترك بين الجميع.
فليس من حقك أن تنادي بائع الجرائد ب«ولد»، ولا خادمك بأحقر الأسماء، ولا فراش المصلحة بما يشعر باحتقاره، وهو مطالب بالأدب معك، وأنت مطالب بالأدب معه ؛ وليس للجندي حق أن يرفع عصاه على بائع لم يتجاوز حدوده، ولا لأي رئيس أن يخرج عن الأوضاع الأدبية في مخاطبة مرءوسه.
فإذا فرغ الرئيس والمرءوس من العمل، وفرغ سائق السيارة ومالكها، وفرغ الضابط والجندي، والمعلم والتلميذ من أعمالهم، فكلهم سواء في الحياة الاجتماعية، وكلهم سواء في الحقوق، لا ذلة لأحد أمام أحد، ولا اعتزاز من أحد على أحد. «مذ كم تعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟!»
تجارب وزير
كان أبو الحسن علي بن محمد المعروف «بابن الفرات» وزيرا من أشهر وزراء الدولة العباسية في أواخر القرن الثالث وأوائل القرن الرابع للهجرة، استوزره المقتدر بن المعتضد.
وكان ملء السمع، ملء البصر، واسع الثراء، واسع العطاء، إذا استوزر ارتفع ثمن الشمع وثمن الورق لكثرة ما يعطي من هدايا الشمع، ولكثرة ما يستعمل هو وأصحابه من الورق، فكأنه يعشق النور فيبدد الظلام بالإضاءة، ويبدد الفوضى والجهل بالكتابة، فلا يخرج أحد من داره بعد الغروب إلا ومعه شمعة، مع كثرة الداخلين والخارجين، ولا يأتي متظلم يريد أن يرفع إليه شكاة، أو يتطلب عطاء إلا وجد بجانب الدار أدراجا كثيرة من الورق يأخذ منها ما شاء، ويستعمل ما يشاء، حتى لا يلتزم مئونة ما يبتاعه من ذلك، هذا مع غلاء الورق غلاء دونه غلاء الورق الآن في الحرب.
عالي الهمة نبيل، كانت الوزارة في أيامه وقفا على جماعة من المستوزرين أصحاب البيوت المعروفة، يتولى أحدهم فلا هم للآخرين إلا أن يتآمروا عليه ويكيدوا له وينصبوا الحبائل حوله، ويسعوا بالسعايات لدى الخليفة ليفسدوا ما بينه وبينه، حتى يتم لهم ما أرادوا، فيعزل ويصادر؛ ويتولى وزير جديد، فتبدأ القصة من جديد على النمط القديم، وتنتهي القصة الثانية والثالثة بما انتهت به القصة الأولى؛ وتقرأ تاريخ الوزراء في ذلك العصر، فلا تقع عينك إلا على دفاع وهجوم، وتولية وعزل، وخلع للمتولي، ومصادرات للمعزول. ومن حين إلى حين قد تعثر على عمل إيجابي للوزير في المصلحة العامة وقد لا تعثر.
وكان لكل وزير وكل مستوزر أعوان يأكلون من موائده، ويستفيدون من التقرب إليه، ويحصون على خصومه سيئاتهم التي ارتكبوها وسيئاتهم التي توهموها، ويعدون العدة ليومهم الذي يسقط فيه الخصم، ويتولى وزيرهم الحكم، فيقدمون دفاترهم ويتقاضون أجورهم.
فكان من نبل ابن الفرات أنه لما وزر حمل إليه صندوقان عظيمان فيهما أسماء من يعاديه ومن يكيد له ومن يعمل لخصومه، فقال: «لا تفتحوهما، ودعا بنار وطرح الصندوقين فيها، فلما احترقا قال: لو فتحتهما وقرأت ما فيهما لفسدت نيات الناس بأجمعهم علينا واستشعروا الخوف منا، وبما فعلنا من إحراقهما هدأت القلوب وسكنت النفوس».
وكان يكره السعاية والسعاة لشدة ما عانى زمنه منها، ولكثرة من ذهب ضحية لها، فقد اتخذ القوم السعاية حرفة حتى كانت هي الأصل والجوهر في حياة كثير من الناس، وما عداها من الأعمال فعلى هامشها، هي دأبهم في النهار، وسمرهم في الليل، وتدبيرهم إذا خلوا إلى شياطينهم؛ فأراد ابن الفرات أن يقضي على هذه السنة السيئة، فكان إذا رفعت إليه قصة فيها سعاية خرج من عنده غلام ينادي في الناس المحتشدين أمام داره: أين فلان بن فلان الساعي؟ فيشهر سعايته ويجمع بينه وبين من سعى فيه؛ فلما عرف الناس منه ذلك كفوا عن سعايتهم.
ولكنهم كفوا عن السعاية إليه وسعوا به، فكانت حياته سلسلة سعايات به وسلسلة نكبات له. وزر ثلاث مرات، وفي آخر كل وزارة يقبض عليه وتنهب داره وأمواله ويزج به في السجن هو وأهله، وفي آخر مرة قتل هو وابنه المحسن، وخاف الناس أن يذكروهما بخير، فيغضب الخليفة القاتل، ويغضب الوزير الجديد ويغضب أشياعه، فلما أراد شاعر وفي أن يرثيهما عمل قصيدة في رثاء هر، وكنى بالهر عن المحسن أو أبيه، أولها:
يا هر فارقتنا ولم تعد
وكنت عندي بمنزل الولد
فكيف ننفك عن هواك وقد
كنت لنا عدة من العدد
تطرد عنا الأذى وتحرسنا
بالغيب من حية ومن جرد
وتخرج الفأر من مكامنها
ما بين مفتوحها إلى السدد
وعلى هذا النحو جرى في قصيدته الرمزية البديعة التي تبلغ خمسة وستين بيتا. •••
جمع ابن الفرات خصالا متناقضة، فكان نبيلا كريما، وكان محبا للمال ماهرا في اصطياده، وكان يكره السعاية ويعفو عن الخصوم، ولكنه مل العفو أخيرا، فخرج عن حلمه، ونكل بخصومه فنكلوا به، ومد يده إلى أموالهم فصودرت أمواله، وفي ذلك يقول شاعرنا في الهر:
حتى اعتقدت الأذى لجيرتنا
ولم تكن للأذى بمعتقد
وحمت حول الردى بظلمهم
ومن يحم حوا حوضه يرد
تدخل برج الحمام متئدا
وتبلغ الفرخ غير متئد
وتطرح الريش في الطريق لهم
وتبلع اللحم بلع مزدرد
أطعمك الغي لحمها فرأى
قتلك أربابها من الرشد
كادوك دهرا فما وقعت وكم
أفلت من كيدهم ولم تكد
فحين أخفرت وانهمكت وكا
شفت وأسرفت غير مقتصد
صادوك غيظا عليك وانتقموا
منك وزادوا، ومن يصد يصد •••
أردت أن تأكل الفراخ ولا
يأكلك الدهر أكل مضطهد
هذا بعيد من القياس وما
أعزه في الدنو والبعد
لا بارك الله في الطعام إذا
كان هلاك النفوس في المعد إلخ •••
كان ابن الفرات ذا كفاية ممتازة: في الاقتصاد وفي تدبير أموال الدولة، وفي ضبط الأمور والحزم وقوة الإرادة، وفي بصره بالشئون السياسية، حتى كان في كل مرة يقبض عليه فيها ويسجن تضطرب الأمور وتفسد الإدارة، وتختل المالية وتتعقد المشاكل، فإذا عجزوا عن حلها لم يجدوا أمامهم إلا ابن الفرات حلا لها. •••
لطالما عانى ابن الفرات وجاهد، وقلب الأمور، وصرف الشئون، وانغمس في السياسة من قدمه إلى قرنه، وصادفه السعد والنحس، وذاق الحلو والمر، وقد خرج من وزاراته الثلاث بتجارب ثلاث بلور فيها آراءه واختباره، يكفينا اليوم واحدة، فكل منها يحتاج في شرحه إلى كتاب، بله مقال.
قال:
تمشية أمور السلطان على الخطأ خير من وقوفها عند الصواب.
ولقد وقفت عند هذه الجملة طويلا، مطبقا لها، مستعرضا لحالنا في ضوئها، فأعجبت بها وآمنت ببعد نظر الرجل وقوة سياسته، وقلت: ما أحوج مصر والشرق إلى أن تسود هذه النظرية كل أعمالها الحكومية وغير الحكومية!
إنما يريد «بأمور السلطان » شئون الدولة، ويرى أن التردد الطويل مخل بالمصلحة، ولو كان الباعث تحرى الصواب والرغبة الشديدة في الوصول إلى الحق، وأن التنفيذ السريع مع احتمال الخطأ خير من البطء مع احتمال الصواب.
إن أمورنا من قديم تجري على البطء في التنفيذ، والزمن لا يمهل، فلكل يوم مشاكله، ولكل ساعة جديدها وأمورها وتعقيداتها؛ فإذا أمهل في التنفيذ رغبة في الوصول إلى الحق لا شك فيه، ارتبكت الأمور ارتباكا لا شك فيه، وزاد التعقيد بمرور الزمن، وأصبح ما كان يحل أول أمره في ساعة لا تكفي في حله سنة.
لا أدري لماذا وأنا أفكر في هذا هجمت علي أمثلة متعددة حتى حرت فيما آخذ منها وما أدع.
كم من السنين مرت وأنا أسمع بمشكلة الأزهر ودار العلوم وكلية الآداب، ثم لا أجد لها حلا باتا تحل به، وكل يوم يمر تزداد المشكلة تعقدا؟ ولا أرى لحلها قولا خيرا من قول ابن الفرات.
وكم من السنين مرت وأنا أسمع بتوليد الكهرباء من خزان أسوان، ولا أرى لحله قولا خيرا من قول ابن الفرات.
وكم سمعت بنفق شبرا وكهربة خط حلوان؟
وكم سمعت بآراء في المجمع اللغوي تعرض وتطوى ومشروع يقدم ويؤخر وجدال في أن يدرس اللهجات أو لا يدرسها، ويعني بنشر الكتب أو لا ينشرها، وتزداد أعضاؤه أو لا تزداد، ثم لا شيء؟
وأخيرا كم سمعت بعين حلوان وتحليل مائها ومحاولة ردمها، ثم محاولة استغلالها ثم بقائها كما نبعت، وحيرة الناس في شأنها كما بدأت؟
وكم سمعت بتوحيد القضاء وإصلاح الأوقاف وتحسين حال الفلاح؟ وكم وكم مما لو شئت أن أحصي ما وسعني مقال ولا كتاب!
فما أحوجنا إلى العمل بقول ابن الفرات، وأن يكون شعار الأمة بأجمعها من أصغر موظف لأكبر موظف ومن أصغر عامل لأكبر عامل «تمشية الأمور على الخطأ خير من وقوفها عند الصواب».
ورحم الله ابن الفرات.
الوحدة والتعدد
كان الشرق كفؤا للغرب من الناحية الحربية والعلمية والاجتماعية في عهد الحروب الصليبية، بل كان الشرق يفوق الغرب في كل هذه النواحي، بدليل انتصار الشرق في هذه الحروب، وبدليل أن دعاة الغرب كانوا يحثون مواطنيهم على الاستفادة من الشرق والاقتباس من علمه ونظمه.
ثم جاء عصر النهضة الأوروبية، ومدته نحو قرن ونصف، من نصف القرن الخامس عشر إلى نهاية القرن السادس عشر؛ فتطورت أوروبا تطورا جديدا في كل مرافق الحياة: في الدين، في الفن، في الأدب، في العلم، في الاجتماع؛ فكان عصر العلم، وعصر التجوال والاستكشاف، وعصر النقد الحر الجريء، وعصر الهدم والبناء، وعصر شعور الإنسان بذاته، والتحرر من قيود السلطات التي كانت تكبله، وعصر ظهور القوميات وظهور اللغات التي تعبر عن خوالج المشاعر القومية.
ومن ذلك الحين أخذ الغرب يتقدم شيئا فشيئا، والشرق واقف على ما كان عليه منذ الحروب الصليبية، بل تراجع إلى الوراء شيئا فشيئا بفساد حكامه وانتشار الجهل والفقر بين أبنائه.
وجاء زمن انقطعت فيه العلاقات بين الشرق والغرب، فلم يدر الشرق ما يصنع الغرب، ولا الغرب ما يصنع الشرق، سواء في ذلك العلاقات المالية، وعلاقات الحضارة والمدنية؛ فالغرب يتقدم ويتقدم، ولا علم للشرق بتقدمه، والشرق يتأخر ويتأخر، ولا علم للغرب بتأخره.
تقدمت الشعوب في الغرب، وتحرروا وردوا ذوي السلطان فيهم إلى حدودهم، واتصلوا بالطبيعة واستخدموها لصالحهم، وأخرجوا بالعلم كنوز الأرض فأثروا، ومكنهم الثراء من عيشة الترف والنعيم، كما مكنهم العلم من أن يقبلوا النظام الحربي القديم ويغيروا أساليبه وآلاته ونظمه حسبما أرشد إليه العلم الحديث.
هذا في الغرب. أما الشرق فابتلي بحكام أكثرهم لا هم له إلا نفسه؛ ثم وقف العلم على ما كان عليه في العصور الوسطى، فلا علم إلا العلم الديني الذي حافظ على شكله وفقد روحه. ووقفت نظم الحروب على ما كانت عليه أيام الصليبيين، فلم تتقدم شيئا، ولم تخترع شيئا، وسبب الظلم والجهل الفقر المدقع لأهل البلاد، فالعيشة ضنك، والنفوس يائسة والعقول مظلمة.
فأصبح العالم ينقسم إلى قسمين: غرب يمتاز بغناه وعلمه وسلاحه الجديد وحريته، وشرق بفقره وجهله وسلاحه القديم وأغلاله.
والشرق يظن أن موقفه من الغرب موقف آبائه أيام الحروب الصليبية ، والغرب يظن أن الشرق عظيم عظمته حين التقى به في الثغور الإسلامية.
ويأخذ الغرب في طريقه فيؤمن بعظم الملاحة، ويجد في تنظيم الأساطيل، ويستخدم السفن في أهم الأعمال، ويمرن رجاله على التغلب على قوة المياه بشتى الأساليب. ويأخذ الشرق في سبيله فيغفل هذه كما أغفل تلك، ويضعف في البحر كما ضعف في البر.
وتؤدي عظمة الغرب البحرية إلى استكشاف الأقطار النائية والممالك البعيدة كأمريكا وغيرها، فيستغلها في بناء عظمته ومجده، ويأخذ من كنوزها ليزيد في غناه وقوته وسلطانه.
وما هو إلا أن يستكشف الشرق كما استكشف أمريكا، فقد رحل جماعات كبيرة من الأوربيين إلى الشرق في سائر الأقطار، ودرسوا شئونه وخبروا أحواله، فتكشف لهم عن ضعف وفوضى وذلة وجهل وفقر بلغ النهاية، فاتصلوا بأممهم ينبئونهم باستكشافهم، فكان الغزو وكان الفتح وكان الاستعمار.
وكما استكشف الغرب الشرق ووقف على شئونهم، استكشف الشرق الغرب ووقف على شئونه، ولكن شتان بين الاستكشافين وبين الشعورين؛ فاستكشاف الغرب للشرق كان من نوع العثور على الغنيمة، والفرح باللقطة، والفوز بالكنز، ومن نوع شعور القط بالفأر، والذئب بالحما، والجائع بالمائدة الشهية؛ واستكشاف الشرق للغرب كان من نوع الأسير يقع في قبضة العدو، والسائر يصادفه قطاع الطريق، ومن نوع الفأر يرى سنورا، والحمل يصادف ذئبا.
كان الغرب قد تطور، فكان فتحه للشرق فتحا اقتصاديا وسياسيا وقوميا - أولا - دينيا أخيرا. وكان الشرق لا يزال على آرائه الأولى، ففهم أن هذه الحرب حرب صليبية من جنس تلك التي شاهدها آباؤه في الشام، وأن انتصار أوروبا انتصار للنصرانية على الإسلام ليس إلا، ولم يفهم المنازع القومية والاقتصادية إلا أخيرا، لما رأى مثلا «محمد علي» المسلم يحارب الدولة العثمانية المسلمة، وإنجلترا النصرانية تحارب فرنسا النصرانية، ورأى الممالك المتحدة دينا، المختلفة قومية، تختلف وتتنازع وتتحارب. •••
عند ذاك فقط أدرك الشرق أنه لا بد لنجاحه أن يقلد الغرب ويسايره في شئونه، فلا بد أن يكون له سلاح كسلاحه، وعلم كعلمه، ونظام سياسي واقتصادي واجتماعي كنظامه، وأن يرقى بأوضاعه القديمة لتصل إلى الأوضاع الحديثة.
شعر المصريون والشاميون بهذا عند مجيء الحملة الفرنسية، وشعر المغاربة بذلك عند احتلال الفرنسيين للجزائر، وشعر العراقيون بذلك عندما بسط الإنجليز سلطانهم على بلادهم، وشعر الأتراك بذلك يوم تكالب عليهم الدول الأوروبية، وهكذا؛ ولكن كان أمامهم طريق واحد صحيح، هو أن يسلكوا نفس الطريق الذي سلكه الأوروبيون، وهو أن يعمدوا إلى نظمهم فيرقوها بحسب استطاعتهم وبحسب ما يسمح له الزمان، وأن يكون الرقي من جنس نمو الشجرة من داخلها ونمو الإنسان من نفسه؛ وهذا هو الذي حدث في أوروبا في عصر النهضة؛ فقد قامت الثورات على القديم في كل شيء، فأدخل التعديل عليه، وكلما تقدم الزمان وهضم التعديل أدخل عليه تعديل آخر، وانتقل به خطوة أخرى، حتى وصل إلى ما وصل إليه من رقي.
أما في الشرق فحدثت غلطة كبرى هي موضوع مقالي هذا، لا نزال نتجرع غصصها إلى اليوم. ولا أمل في النجاح إلا بإصلاحها، تلك هي أننا بدل أن نصلح القديم ونرقى به، تركنا القديم على قدمه وأنشأنا بجانبه جديدا، وجعلنا النوعين يسيران جنبا إلى جنب، يتصارعان ويتعاديان، ونحن نشرب المر من تعاديهما.
وكان سبب ذلك أن المصلحين خافوا من المحافظين، واتقوا ثورتهم، ولم يكن لهم من القوة ما يفرضون معه إصلاحهم، فلجأوا إلى الطريق الآخر غير المستقيم، وهو ترك القديم وإنشاء الجديد.
كان في مصر كتاتيب للتعليم الابتدائي وأزهر للتعليم العالي، وكان التعليم فيهما على الأساليب القديمة؛ فلما أريد الإصلاح كان خير طريق هو أن ترقى الكتاتيب، ويرقى الأزهر، ويدخل عليهما ما تقتضيه حالة البلاد وتعدد وتوسع؛ وكان هذا يضمن الوحدة العقلية والوحدة الثقافية، وهذا ما فعلته أوروبا في نهضتها؛ فقد رأت في مستهل القرن التاسع عشر أنه لا بد من أن تكون للتعليم وحدة تتدرج في مراحل متعددة، فلا بد من ثقافة ابتدائية يشترك فيها كل أفراد الشعب، ثم تعلوا وتتفرع. أما في مصر فتركت الكتاتيب والأزهر على حالهما، وأنشئت بجانبهما المدارس المدنية تحذو حذو المدارس الأوروبية، فكان لنا من ذلك قديم وجديد يعيشان معا.
وكان لدينا محاكم شرعية تحم بين الناس في الخصومات، فكان الطريق الطبيعي للإصلاح أن ترقى نظمها ويوسع اختصاصها؛ ولكن تركت - كما ترك الأزهر - على حالها، وأنشئ بجانبها محاكم أهلية ومحاكم مختلطة تحذو في نظامها وأحكامها حذو أوروبا، وبذلك أصبح تعليمنا غير موحد، وقضاؤنا غير موحد.
حتى في النظم الاجتماعية ترك الفلاح على قدمه والقرية على نظامها، لم يدخل عليهما أي إصلاح، وأنشئت المدن الحديثة على النمط الأوروبي، فكان لنا نوعان من الشعب منعزلان عن بعضهما تمام العزلة، فلاح يرجع إلى توت عنخ آمون، وممدن على آخر طراز أوروبي.
وشأن البلاد الشرقية شأن مصر، جرت على هذا الوضع العقيم، وسارت على هذا النهج غير القويم.
نشأ من هذا الخطأ ضرر جسيم جدا، وهو عدم الوحدة، على عكس ما عليه الحال في الغرب؛ فبين الفلاح الإنجليزي والأرستقراطي الإنجليزي وحدة في طريق الملبس والمأكل ونظام الحياة، لا تختلف إلا باختلاف الصنف، وبين كل المتعلمين الإنجليز أو الفرنسيين أو الألمان وحدة عقلية في منهج التعليم وطرق البحث وطرق التفكير، لا يختلف في ذلك رجل الدين عن غيره؛ فرجل الدين يتعلم الطبيعة والكيمياء والحساب والجغرافيا على أحدث نظام، كما يتعلم المدني، ثم هذا يتخصص للدين، وهذا يتخصص للهندسة أو الطب. وطريقة بحث رجال الدين عندهم هي طريقة بحث الطبيعي أو الكيميائي، بل نرى من رجال الدين من تخصص للآثار القديمة واللغات القديمة، والتاريخ بكل فروعه، وهكذا.
أما الشرق الذي هو مصدر الوحدانية فمتعدد في كل شيء، وقد فقد الوحدة في كل شيء؛ فلا وحدة بين القروي والحضري، لا في ملبسه ولا في نظام أكله ولا في طرق معيشته! ولا وحدة بين المثقفين، فثقافة رجال الدين غير ثقافة الممدنين، ويبدأ التخصص في الدين من بدء التعلم. ولا وحدة بين قضاة المحاكم الشرعية والأهلية والمختلطة (حتى في الكادر). ولا وحدة بين الجامعة المصرية والجامعة الأزهرية، ولا بين وزارة المعارف والأزهر، ولا بين المتجر القديم، والمتجر الحديث، ولا بين أي شيء وشيء؛ وفي هذا خطر كبير من الناحية الخلقية والاجتماعية نعاني متاعبه إلى الآن. فإذا نظرت إلى عقليات المتعلمين لم تجد فيها أساسا مشتركا: عقلية الأزهري غير عقلية المدني، وهما غير عقلية من تربى في مدارس إنجليزية، ومن تربى في مدارس فرنسية، وهذا هو سر الصراع الحاد الدائم بينهم، ويظهر ذلك بأجلى مظاهره في المجالس التي تتكون من هذه العناصر المختلفة.
وإذا نظرت إلى أفراد الشعب وجدت الخلاف الكبير بين مظهر الريفي والحضري وعقليتهما ونوع معيشتهما، وقد جر هذا إلى سوء شعور كل منهما نحو الآخر.
ويطول بي القول لو عددت الأمثلة والمظاهر الدالة على ذلك.
ومرجع هذا كله - فيما أرى - إلى الخطأ الكبير الذي وقع فيه المصلحون عند تقبلهم المدنية الغربية؛ فبدل أن يرقوا الشعب تدريجا من أساسه، تركوه على حاله، وأوجدوا نظما حديثة مستقلة.
ولا سبيل إلى العلاج إلا بإصلاح هذه الغلطة من أساسها، من توحيد التعليم، وتوحيد القضاء، وتوحيد الملابس، وتوحيد المعيشة الاجتماعية.
أو ليس أولى الناس بالتوحيد من دينهم التوحيد؟
تضخم الشخصية
لا بد أنك تعلم أن من أمراض الجسم تضخم بعض أعضائه، كتضخم الكبد أو الطحال أو القلب، وإذ ذاك يختل توازنه، ويسبب التضخم من المتاعب والأمراض ما يعرفه الأطباء.
إن كان كذلك فهناك نوع من المرض النفسي شبيه بهذا المرض الجسمي، هو «تضخم الشخصية»، فتتمدد النفس وتتمدد حتى قد تشمل الكون بأسره.
وكما أن الجسم قد يصاب أحيانا بالتضخم العام، فتنتفخ كل أجزائه، وتتضخم كل أعضائه، فيكون الطول المفرط في كل نواحيه، أو السمن المفرط في كل أجزائه، وقد يصاب أحيانا أخرى بالتضخم الخاص، فتتضخم الكبد، وكل أجزاء الجسم الأخرى محتفظة بحجمها الطبيعي، كذلك التضخم النفسي.
قد يكون هناك تضخم نفسي نوعي، وباقي الشخصية سليم لم يصب بأذى ولم يمرض بتضخم. فهناك من تضخمت شخصيته في شعوره بجماله، فهو يرى في نفسه أنه قسيم وسيم، قد أفرغ في قالب الجمال، وطبع بطابع الحسن، وأنه ممشوق القد رشيق القوام، لا يقع الطرف على أجمل منه صورة، ولا تفتح العين على أتم منه حسنا!
قد جن بهذه العقيدة جنونا، فهو يديم النظر في المرآة، وهو يتأنق إلى أقصى حد في ملبسه وفي مشيته وفي حركته؛ إن كان رجلا فهو خليق أن يصرع أجمل امرأة، وأن يوقعها في شباكه، ويذلها بنظرته؛ وإن كانت امرأة فهي جديرة أن تتزوج أحسن رجل، وأن يكون فريستها أي عظيم!
تتضخم هذه الناحية من شخصيته أو شخصيتها فتكون محور الحياة ومركز التفكير، ومصدر الأعمال، وباعث السلوك - حياته كلها حول التفكير في جماله، وحديثه كله حول من وقع في شباكه ومن أسرهم بحسنه، وملابسه وكيف يشتريها وكيف يخيطها، وآماله في الزواج، ومن يصلح من العظماء لمصاهرته، وهو يغشى المجامع الأرستقراطية ليبهر الناس بحسنه، ويروعهم بروائه، ويفتنهم بجماله، وهو يلتفت ويتحرك، وينظر بقوانين دونها قوانين الهندسة المعقدة والجاذبية المركبة!
هو مجنون جنونا فرعيا بجماله فحسب، وفيما عدا ذلك عاقل كل العقل، حكيم كل الحكمة، غاية الأمر أن جنونه بجماله لم يسمح له بالتفكير فيما عداه إلا بقدر ضئيل جدا. •••
وهذا آخر قد جن جنونا فرعيا في عقيدته بكفايته العقلية أو الفنية أو الإدارية، فهو يرى أنه قطب أهل العلم وعميدهم وإمامهم، رأيه مقطع الحق، ومفصل الصواب، قد استبطن دخائل العلم، واستجلى غوامضه، وخصه العلم بأسراره، فلم يمنحها إلا له، ولم يقفها إلا عليه؛ وهو في جيله نسيج وحده، وإمام عصره، لولاه لغاب نجم العلم وخبا ضوءه؛ وهو وحده نصير الحق، ورافع راية الصواب، ولولاه لعاش الناس في ظلام دامس، وضلال مطبق، وويل للناس إذا هدأ صوته أو خرج روحه!
أو هو في فنه أطرب من سجع الحمام، وأحسن من الدر في النظام، ألفاظه العذب الزلال أو أرق، ومعانيه السحر الحلال أو أدق. يستطيع بقلمه أن يقيم حكومة ويسقط حكومة، ويرفع الوضيع، ويخفض الرفيع، ويثير الشعب ويوجهه حيث أراد؛ القادة تتملقه لأنها ترتكز على سن قلمه؛ والحكومات تهابه لأنها تخشى معرة لسانه تتناقل الألسنة في الشرق والغرب كلماته، ويحل العالم معضلاته!
أو هو في إدارته سياسي حازم، صادق العزم، ثابت العقد، إذا قصد أمرا عرف كيف يبتغي له أسبابه، ويتوخى وجوه نجحه؛ الحكومات كلها فاشلة لأنها لم تستند عليه؛ والشعب مغفل لأنه لم يوله قيادته، ولا يصلح أمر أمته إلا إذا أسندت إليه رياسة وزارتها؛ فهو وحده القدير على أن يضع برامج الإصلاح، ويعرف كيف ينفذها؛ وسوف تمر السنون تلو السنين وأحوال الشعب في منتهى السوء حتى يلتفتوا إليه ويعولوا عليه!
ثم تراه - فيما عدا جنونه الفرعي أو تضخمه الجانبي - عاقلا فيما يعرض له، حكيما فيما يتصرف فيه، فهو في المسائل المالية ناجح دقيق، وهو في دراسته وقراءته وكتابته ذكي نبيه، وهو في شئون أسرته خبير بصير؛ وعلى الجملة إذا أنت لم تمس ناحية جنونه أمنت له واطمأننت إليه وأحسنت تقديره. أما إن أنت قاربت موضع الخطر منه سمعت سخفا يثير عجبك، ويستخرج ضحكك، وتقع في حيرة من أمره، في جنونه وعقله، وحكمته وسفهه، وكياسته وحمقه!
والحق أن لا عجب، فقد يصح القلب وتتضخم الكبد، ويصح الرأس ويمرض القلب. •••
وهناك نوع من التضخم الكلي في الشخصية كالتضخم الكلي في الجسم، فيرى صاحبها أنه مركز العالم وما عداه ليس إلا نقطا على المحيط، هو في كل شيء أوحد عصره وفريد زمانه، وتميز عن النظراء وترفع عن الأشكال، لا يقع النظر على مثله، ولا يبلغ في الوجود أحد مبلغه، هو في شكله أجمل مخلوق، وهو في عقله أكمل من في الوجود، وهو في أخلاقه لا يبارى، وفي تصريفه للأمور لا يجارى، وفي إدارته وحزمه وعزمه ونبله وفضله أسبق الناس غير مدافع، وأفضلهم غير معارض. ما في الدنيا من محامد فهو مصدره والموحي به والمشير على الزعماء بالأخذ به، والمفضل عليهم بسلوك سبيله؛ وما في الدنيا من نقص فلأن الناس لم يأخذوا فيه برأيه ولم يصغوا فيه إلى نصحه. وما في العالم من مشكلات ومعضلات؛ فلأن العلماء لم يستفتوه في حلها ولم يستعينوا به في حل ألغازها. العالم مخلوق له، والشمس والقمر والنجوم تنير من أجله، والأرض تنبت خير ما عندها لمتعته، والبحر يضحك لطلعته، والرياض تزهر لسواد عينه؛ وعلى الجملة فكل شيء منه وبه وله، ولولا أثارة من تواضع لحشر فنادى فقال : أنا ربكم الأعلى، ولطالب الناس بعبادته وفرض عليهم شعائر الخضوع لعظمته. •••
ثم قد يظهر مرض «تضخم الشخصية» في بعض الأزمان في شكل وبائي كما تظهر الحمى، وبعض الأمراض الأخرى في شكل وبائي أيضا، كالذي نرى في كثير من شبابنا؛ فهم في المدارس الثانوية والعالية قد تضخمت شخصيتهم حتى «ضمرت» بجانبها شخصية المعلم والناظر والوزارة، فهم الذين يقررون أن يدخلوا الدرس أو لا يدخلوا، وأن توقع عليهم عقوبة على ذلك أو لا توقع، وإذا دخلوا الدرس فهم الذين يقررون ما يدرس فيه وما لا يدرس، وقد يقررون أن مزاجهم اللطيف ليس مستعدا لسماع درس القواعد السخيفة، ولا التطبيقات المسئمة، ولا المطالعة السمجة، ولا البلاغة الهزيلة؛ وإنما أمزجتهم مستعدة فقط لنوادر مضحكة و«نكت» لاذعة وقصص مسلية، فإن شاء مدرسهم أن ينزل على حكمهم وإلا فالإضراب، وله تمام الحرية في الاختيار.
وكما نرى في كثير من شبابنا عند بدء توليهم عملا، فتتضخم شخصيتهم حتى «تضمر» بجانبها شخصية رؤسائهم؛ فهم لا بد أن يختاروا العمل الرئيسي بقطع النظر عن المران والسن والأقدمية، ولا بد أن يكون لهم مكتب رئيسي يتناسب وعملهم الرئيسي، ولا بد أن يأمر المرءوس الشاب ويسمع الرئيس الشيخ.
وكان تضخم الشخصية عند شباب الجيل الحاضر «رد فعل» لضمور شخصيتهم في الجيل الماضي؛ فقد كانوا آلات تتحرك و«عساكر شطرنج» في يد اللاعب.
وقد يكون سبب ذلك أن السياسيين استغلوا قوتهم وأشعلوا عواطفهم، وأسموهم دائما نغمة الإعجاب ونغمة الحقوق، ولم يسمعوهم أبدا نغمة العقاب ولا نغمة الواجبات، وما زالوا ينفخون فيهم حتى تضخموا. وأيا ما كان فليس المقام مقام تحليل للأسباب، ولكن تسجيل للأعراض. •••
تضخم الشخصية مرض يخل توازن النفس كما يخل تضخم عضو من أعضاء الجسم توازنه، ويمنع صاحبه من رؤية الحقائق كما هي في الخارج، بل يراها كما يمليه تضخم شخصيته، وكما يمليه جنونه بنفسه، فما اتفق وهذا الجنون فخير وإلا فشر؛ خير الناس في نظره من سايره في عقيدته وأشعل نار جنونه، وخير الآراء عنده ما غذى شعوره بالعظمة، وإحساسه بالنبوغ، وأشهى الحديث إليه ما دار حول كماله هو ونقص غيره، وعبقريته هو وسخف من عداه!
وصحة الشخصية تقتضي كمال التوازن فلا يطغى جانب من شخصيته على جانب، ولا تطغى شخصيته على شخصيات الناس، وإذ ذاك يستطيع أن يقدر تقديرا صحيحا من هو في نفسه، ومن هو في بيئته، ومن هو في عالمه؛ فلا تضخم ولا ضمور، ولا تطفيف في المكيال ولا بخس في الميزان، ثقة بالنفس في غير مغالاة، ووضعها موضعها من غير تحقير.
وكان الطبيعي أن ننظر إلى هؤلاء الذين تضخمت شخصيتهم نظرة عطف ورحمة، كنظرنا إلى من تضخم قلبه أو كبده أو تضخم كله، ولكنا نرى في عالم تضخم الشخصيات مناظر متناقضة وأشكالا متباينه!
نرى ممن أصيبوا بتضخم الشخصية من أصبحوا سخرية قومهم، وملهاة صحبهم، اتخذوا جنونهم دعابتهم، وأحاديثهم عن أنفسهم هزأهم وموضع عبثهم؛ ولكن بجانب ذلك نرى بعض من أصيبوا بهذا المرض قد تفاعل تضخم شخصيتهم مع أحداث زمانهم، فرفعهم هذا التفاعل إلى أرفع مكان في قومهم، وأحلهم محل القادة فيهم، وموضع الأمر والنهي منهم، وصاحب السيطرة والسلطان عليهم، وأصبح من يهزأ بتضخم شخصيتهم خاضعا تابعا سميعا مطيعا!
وعلى الجملة نرى هذا سخرية قومه لتضخم شخصيته، وهذا معبود قومه لتضخم شخصيته، فهل هذا خبط عشواء كما قال زهير في المنايا:
رأيت المنايا خبط عشواء من تصب
تمته، ومن تخطئ يعمر فيهرم
أو هو قانون محكم ولكنه معقد، ومطرد ولكنه غامض؟
ذلك ما لا يعلمه إلا الله والراسخون في العلم.
المسلمون سبب من أسباب الحرب العالمية
للحرب أسباب عدة يستطيع أن يحصيها السياسي والاقتصادي، ولكني أرى أن من أهم أسبابها المسلمين.
ذلك أنهم أصبحوا في العصر الحديث «غنيمة أوروبا» تتقسمهم وتتوزعهم، ويرضي بعضهم بعضا على حسابهم، فإذا ثارت مشكلة بين دولة ودولة، فقد يكون الحل الوحيد للخروج من هذا المأزق أن تطلق كل منهما يد الأخرى في بلد من بلاد المسلمين تفعل فيه ما تشاء.
وكان لإنجلترا وفرنسا أكبر نصيب من هذه الغنيمة، فكانت مصر والسودان والهند - مثلا - من حظ إنجلترا، وتونس والجزائر ومراكش من حظ فرنسا.
ولما وضعت الحرب العظمة أوزارها، كان من أعمال مؤتمر فرساي توزيع الغنيمة أيضا على أوروبا، فأخذ الإنجليز فلسطين والعراق، واستولى الفرنسيون على ساحل سوريا.
هذا عدا ما في يدي إنجلترا وفرنسا من ممالك إسلامية صغيرة يطول عددها، وما في أيديهما من دول إسلامية أخرى تستقل ظاهرا وتأتمر بأمرهما باطنا.
نظرت إلى الدول الكبرى الأخرى كألمانيا وإيطاليا، فرأت أن هذه الغنيمة لم توزع توزيعا عادلا، فليس لإيطاليا إلا طرابلس وبرقة، وليس لألمانيا شيء يذكر، وليس لأسبانيا إلا سبتة والمنطقة الخليفية في مراكش؛ فحز ذلك في نفوس من لم ينالوا حظا كبيرا من الغنيمة، وثاروا يطلبون المزيد.
كان هذا كله مصدر قلق واضطراب من ناحيتين: من ناحية المسلمين انفسهم، ومن ناحية دول أوروبا بعضها وبعض.
فبعد الحرب الأخيرة شعر المسلمون بأنهم غنيمة لغيرهم، فتحركوا يطلبون أن يكونوا لأنفسهم، فثارت مصر، وثار العراق، وثارت سوريا وفلسطين، وثارت تونس والمغرب الأقصى، وبذلت إنجلترا وفرنسا في هذه الثورات مجهودا كبيرا في إخضاع الثورات أحيانا، والتسليم ببعض حقوق الثائرين أحيانا، على أن الرواية لم تتم فصولا.
ومن ناحية أوروبا قلقت إيطاليا وألمانيا وأسبانيا؛ لأنها لم تربح ما ربحه غيرها، وزاد في قلقها واضطرابها أنها أنفقت على الحرب ما لا يحصى كثرة، فكان ما أنفقته في الحروب يقابله نقص في سعادة الأهلين ورخائهم، ورأوا أن غنائم الإنجليز والفرنسيين من المسلمين ونحوهم تسد شيئا غير قليل من نفقاتهم، أما هم فليس لهم موارد كموارد فرنسا وإنجلترا تسد النقص، وتغطي العجز، فثاروا وقلقوا واضطربوا ونادوا بألا معدى من أحد أمرين: إما توزيع الغنائم توزيعا عادلا بحسب القوة وبحسب السكان وبحسب الكفاية، وإما الحرب لتحقيق هذا المطلب.
لذلك كان المسلمون من حيث هم غنيمة سببا من أسباب الحرب.
تجلت هذه الحقيقة في سلسلة الحروب في القرن الماضي، وفيما عقد بعدها من معاهدات، وتجلت في معاهدة فرساي بعد الحرب العظمى، إذ كان يشتمل جزء من مواردها على توزيع الغنائم . •••
فعلى الذين ينشدون السلام ويبحثون عن وسائله أن يضعوا هذا في حسابهم.
إني أرى أن خير وسيلة لدفع الخطر من هذه الوجهة أمران: أحدهما في يد المسلمين والآخر في يد الأوروبيين.
أما الذي في يد المسلمين فأن يفهموا أنهم الآن غنيمة، خيرهم لغيرهم لا لأنفسهم، وأنهم مزرعة ليس لهم فيها إلا العمل، أما الثمرة فلغيرهم أطايبها ولهم فتاتها، وأنهم بهذا الوضع كانوا شرا على أنفسهم وشرا على العالم، شرا على أنفسهم، فليسوا يعيشون عيشة سعيدة، ولا شبه سعيدة؛ وشرا على العالم لأنهم كانوا سببا من أسباب حروبه الطاحنة، إذ لو لم تكن غنيمة ففيم القتال؟ وإذا لم يكن شيء متنازع عليه فلم النزاع؟
لا بد أن يفهموا أن الخير لهم وللعالم أن يكونوا ملاكا لا مزارعين، وأن يحصنوا ملكهم بكل ما يحصن به المالك الأوروبي أرضه.
إنه يحصنها بالقوة في كل شكل من أشكالها؛ يحصنها بقوة السلاح وبقوة العلم وبقوة الخلق، يحصنها باحتقار الشهوات الفردية في سبيل المصلحة العامة، يحصنها بالتشريع العادل يضمن حقوق الأفراد وحقوق الأمة، فلا بد له أن يسير على هذا النهج.
إن العالم - الآن - لا يحتمل مدنيتين مختلفتي الشكل مختلفتي العنصر، إنه لا يحتمل مدنية قوامها القوة، وبجانبها مدنية أخرى ترى أن خير أخلاقها التواضع، وخير آدابها القناعة، وخير تعاليمها الاستسلام. إن ذلك إن حدث ازدردت الأولى الثانية وعدتها لقمة سائغة واكلة هنيئة، ولم تسمح لها بالوجود مستقلة، بل نشرت عليها ظلها، ولفتها بنقابها؛ لأن الشمس لا تريد أن تسطع إلا عليها.
لا خيار للمسلمين في نوع المدنية، فإن ذلك قد كان قبل أن يصير العالم وحدة تقطعه الموجة الكهربائية في لحظة، ويتصل بعضه ببعض في لمحة؛ فخير لهم ألا يضيعوا الوقت في التردد، وخير لهم أن يرسموا طريق السير في سرعة، ثم يسيروا على هدى. وليس طريق السير إلا الطريق الذي سار فيه الأوروبيون، فإن خالفوه في شيء فهو تعلمهم من غلطات من قبلهم وتجنب زللهم. وليفهموا جيدا أنهم جزء من العالم الخاضع لقوانين واحدة ومدنية واحدة، لا وحدة مستقلة يرسمون لها ما يشاءون، وأن العالم السريع في سيره المتدفق في تياره لا يحتمل وقفتهم، ولا يعبأ بترددهم.
لا أريد من ذلك ألا تكون لهم شخصية، ولكن شخصية كشخصية الإنجليز بجانب الفرنسيين، أو اليابان بجانب الأمريكيين؛ فهذه الشخصيات على اختلاف أنواعها تخضع لمدنية واحدة ذات عناصر أساسية متحدة.
لا أمل لهم - وقد استضعفوا جميعا - إلا أن يتقووا جميعا، ثم تكون بينهم روابط قوية كالروابط التي بين الأمم الأوروبية المتحالفة. وقد تجلى بدء هذه الحركة في مثل تناصر الدول العربية في الدفاع عن فلسطين، فليكن هذا بدء خطة ترمي إلى التعاون والتناصر تزيدها الأيام قوة، والأحداث عظمة، والنوائب اعتصاما.
أما الذي في يد الأوروبيين فهو أنهم جروا في سياستهم للعالم الإسلامي أيضا على أنه غنيمة، وعلى هذا الأساس وضعوا كل خططهم الاقتصادية والسياسية والعلمية؛ فأخصبوا الأرض وأجدبوا العقول؛ لأن تحسين الأرض لهم وتحسين العقول عليهم، وأضعفوا القوة الحربية لهذه الأمم خوفا من أن تقوم يوما ما في وجوههم؛ وأضعفوا حركة التعليم لأن المثقفين ثقافة عالية شر عليهم، وأفسدوهم سياسيا فضربوا بعضهم ببعض حتى لا يلتفتوا إليهم، ومنحوا خير المناصب لمن رضي لنفسه أن يكون إمعة، ونحو ذلك من وجوه لا عداد لها؛ فكانت نتيجة ذلك ضعف الغنيمة ضعفا قاسيا.
فهل كان هذا النظر في مصلحة أحد؟ أظن لا. وأظن أنه لم يكن في مصلحة المسلمين ولا في مصلحة الأوروبيين أنفسهم؛ فأما أنه ليس من مصلحة المسلمين فأمر بديهي لا يحتاج إلى بيان، وأما أنه ليس في مصلحة أوروبا، فأظن أن ما يكسبونه من الغنائم لا يوازي ما يضيعونه في الحروب عليهم. إنهم كأصحاب القضايا الذين ينفقون للمحامين والمحاكم أضعاف ما يربحون إذا حكم لهم. ما قيمة استعمارهم إذا كانت سلسلة حياتهم كساقية جحا تملأ من البحر وتصب في البحر؟ بل ما قيمة استعمارهم إذا كان تاريخ حياتهم جمعا وادخارا من الغنائم والأنفس والأموال، ثم القذف بها في أتون كبير يأتي عليها جميعا؟ وهي إذا انتهت من تمثيل الرواية بدأت تمثلها من جديد؟
بل ما قيمة ملايين من الجنيهات تأخذها من الغنائم كل عام لتنفقها أو أكثر منها للدفاع عنها؟ أليس سفها أن ينفق المالي للمحافظة على رأس المال أكثر من رأس المال؟
أين غاب عن عقلائهم ومفكريهم وفلاسفتهم أن هناك ضروبا من الانتفاع غير ضروب الاستغلال وإضعاف المستغل؟ هنالك ضروب خير من الاستغلال وهو التعاون، هو ألا يعدوا العالم الإسلامي غنيمة، ولكن يعدونه زميلا أو أخا صغيرا؛ يقوونه في ماله ويقوونه في عقله ويقوونه في سياسته، فإذا هو عون لهم، وإذا هو مصدر منفعة، وإذا هو عميل عاقل خير لهم من عبد جاهل.
إن هذا النوع من السياسية التي أنشدها يزيل سببا من أسباب ما بين الدول الأوروبية من إحن وأحقاد، تستنزف دماءهم وأموالهم وتؤخر مدنيتهم.
قد كان يكفي داعيا لأوروبا أن تنظر هذا النظر السليم، داعي الإنسانية، وأن العالم بعد أن صار وحدة لا يحق لبعض أعضائه أن يعيش على حساب عضو آخر، ولا أن يقوى هو على حساب إضعاف عضو آخر.
فإذا لم يكن كافيا فليدع إليه ما ترى أوروبا فيه نفسها، مما تجر عليها «نظرية الغنيمة» من أسوأ أثر وأوخم عاقبة.
وأظن أن قد بدأ الساسة الأوروبيون يدركون هذا أخيرا، بدليل ما صنع الإنجليز في مصر والعراق، وإدراكهم خطأهم السابق في سياسة الإضعاف. فهل يخطون ويخطو غيرهم من الأمم المنتفعة بالغنيمة خطوات أخرى أوسع وأرقى؟ لا بد لتحقيق ذلك من تفاعل بين قوة الشرق وعقلية الغرب.
تراجم الرجال في الأدب العربي
تشغل تراجم الرجال في آداب اللغة العربية أبين مكان، وتستغرق أكبر حيز. بل لا نبالغ إذا قلنا: إن ما نسميه اليوم «أدب اللغة» كان يدور حول تراجم الرجال من أدباء وشعراء وعلماء، وذكر شيء من أجود ما قالوا؛ فأقدم كتب الأدب كالأغاني إنما بني على الأصوات المختارة، وتدرج منها إلى ذكر الأدباء وترجمة حياتهم، وأهم ما عرض لهم.
وأكثر الذي نعرفه من ضروب التأليف القديم في الأدب نوعان: نوع أسس على تراجم الرجال كالأغاني ومعجم الأدباء وطبقات الشعراء ويتيمة الدهر، ونوع أسس على المختار من المنظوم والمنثور، كالذي ذهب إليه الجاحظ في البيان والتبيين والكامل للمبرد، والعقد الفريد لابن عبد ربه. فأما نظرة عامة في الأدب عامة، أو فرع من فروع الأدب - كالشعر والخطابة - وتحليله تحليلا عميقا مفصلا، فذلك ضرب لا نعلم أن الأقدمين وصلوا إليه. والحق أنهم تركوا لنا شيئا غفلا يصح أن يستفاد منه بمهارة الصنعة، وإجادة الفن، ولم يخلقوا لنا شيئا ناضجا يحسن الوقوف عنده.
والسب في أن الأقدمين سلكوا هذين الطريقين اللذين أشرنا إليهما أنهما أسهل الطرق على المؤلف؛ فهو في ترجمة الرجل يذكر تاريخ ولادته، وبعض حكايات رويت، وحوادث عرضت، ثم تاريخ وفاته، وبهذا ينتهي الفصل. وفي الطريقة الثانية يختار ما نثر في الكتب من النوع الأول وأمثالها، ثم يربط بينها برباط قوي أو ضعيف، فتتكون من ذلك مجموعة يصوغ لها اسما كالبيان والتبيين، والكامل، والأمالي؛ وكلا الضربين نوع من التأليف الساذج، وأول درجة في سلم التأليف؛ ولم يصل البحث في أوروبا إلى هذا النوع من التأليف الذي يحلل ويستقصي ويلقي بالنظرة العامة تستغرق الموضوع من جميع جهاته إلا في العصور الحديثة.
وفي هذا العيب نفسه وقعت كتب التاريخ العربية، فهي إما دائرة حول السنين، يذكر في كل سنة ما حدث، أو حول الملوك وولاتهم يذكرون ما حدث لهم وفي أيامهم؛ فأما النظرة العامة إلى الموضوع، والإحاطة به وتحليله وتعليله، فدرجة لم يصل إليها مؤرخونا.
ولنعد الآن إلى ما نحن بصدده من تراجم الرجال، فالذي يظهر لنا أن الباعث الأول على ترجمة الرجال - في الإسلام - كان باعثا دينيا، وذلك من وجهين:
الأول:
أن المسلمين في أثناء جمعهم للحديث رأوا منه قسما كبيرا يتعلق بحياة النبي
صلى الله عليه وسلم
وغزواته، وحوادث تتعلق بكبار الصحابة كأبي بكر وعمر وحروبهما وفتوحاتهما، فكان ذلك أساسا لوضع كتب السير؛ وقد رووا أن أول من ألف في سيرة رسول الله
صلى الله عليه وسلم
عروة بن الزبير بن العوام (23-94ه)، وأبان بن عثمان بن عفان (22-105ه)، فكان عملهما في وضع سيرة الرسول أساسا لوضع سيرة غيره من كبار الصحابة، ثم تلاحق الأمر واتسع.
الثاني:
أن علماء المسلمين لما هالتهم كثرة ما وضع كذبا على رسول الله
صلى الله عليه وسلم
من الأحاديث لجأوا إلى وسائل يعرفون بها صحيح الحديث من ضعيفه، وكان من هذه الوسائل تشريح رجال الحديث من الصحابة والتابعين، ونقدهم وتعديلهم وتجريحهم، فتكون من ذلك مجموعات من تراجم الرجال وسيرهم وشيء مما حدث لهم، ليستفاد منه صدقهم أو كذبهم. ثم جاء رجال الأدب فقلدوا المحدثين وحذوا حذوهم، وبنوا أدبهم على هذه التراجم التي أحكموا تقليدها.
ودليلنا على أن الأدباء قلدوا المحدثين، أن المحدثين كانوا أسبق إلى هذا العمل تاريخا؛ ففي العهد الأموي نرى عروة وأبانا يكتبان سيرة النبي، ونرى أحاديث قيلت في جرح الرجال وتعديلهم، ونرى في صدر الدولة العباسية شعبة بن الحجاج ويحيى بن سعد القطان يؤلفان الكتب في نقد المحدثين وبيان صادقهم من كاذبهم؛ مع أنا لا نعلم في هذا العصر كتابا أدبيا يصح أن يقال: إن موضوعه تراجم رجال الأدب.
بل نرى من أقوى الأدلة على ذلك أن الصبغة التي اصطبغت بها كتب التراجم الأدبية صبغة محدثين اكثر منها صبغة أدباء، خصوصا ما ألف منها أيام سطوة المحدثين ككتاب الأغاني، فإنك ترى فيه الإسناد على نمط إسناد المحدثين والتعبير في كثير من الأحيان تعبير حديث. وذلك كقوله: (أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن أبي عبيدة قال: بلغني أن هذا البيت «لا يذهب العرف بين الله والناس» في التوراة ... قال إسحاق: وذكر عبد الله بن مروان عن أيوب بن عثمان الدمشقي عن عثمان بن عائشة قال: سمع «كعب الحبر» رجلا ينشد بيت الحطيئة:
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه
لا يذهب العرف بين الله والناس
فقال: والذي نفسي بيده إن هذا البيت لمكتوب في التوراة. قال إسحاق: قال العمري: والذي صح عندنا في التوراة «لا يذهب العرف بين الله والعباد»)
1 .
فلعلك ترى معي أنك - وأنت تقرأ هذا - كأنك تقرأ قطعة من أحاديث البخاري.
ومن أكبر المظاهر التي تأثرت بها كتب تراجم الأدباء بكتب المحدثين احتجاب شخصية المؤلف. تقرأ في الأغاني فيغمرك بروايات عن الرجل وأحاديثه ووقائعه وأدبه وشعره، ولكن قل أن تظفر منه بكلام له، أو نقد لشعره، أو تعليق على حادثة له، أو نحو ذلك، ويظهر لي أن هذا أيضا أثر من آثار نمط المحدثين، فقد حصروا أنفسهم في دائرة النقل، نقل ما حدثوا به، ونقل ما بلغهم عن الرجل، وذلك إن جاز في الحديث - ومجال القول ضيق؛ لأن المحدث لا يهمه من المترجم له إلا ما يدل على صدقه أو كذبه، وتجريحه أو عدالته - فما كان يجوز في الأدب ومجال القول ذو سعة، وشخصية الأديب في النقد والتحليل، وبيان المحاسن والمساوي، وموضع الحسن أو القبح، لها القيمة الكبرى في الفن الأدبي. ولكن هو التقليد للمحدثين نزع بهم هذا المنزع، وليس هذا مقصورا على كتب التراجم، بل هو - أيضا - في أصول كتب الأدب المؤلفة في ذلك العصر؛ فإذا قرأت في البيان والتبيين أو عيون الأخبار لابن قتيبة لم تجد للمؤلف شخصية بارزة، مع قدرتهما الفائقة وما لهما من بسطة في العلم والأدب. ولو أحصيت ما للجاحظ في البيان والتبيين لم تجد له ربع الكتاب ولا خمسه، وإنما له الاختيار والجمع - شأن المحدثين في الحديث. وكذلك الشأن في عيون الأخبار والأغاني وغيرهما.
ولعل في هذا ما يكفي لإثبات أن الأدباء كانوا مقلدين للمحدثين في وضعهم للتراجم.
على كل حال كان لنا تراجم للرجال نحوا فيها مناحي مختلفة؛ فمنهم من ترجم لكل شخص ممتاز بأي نوع من أنواع المميزات، كما فعل ابن خلكان في «وفيات الأعيان»، فقد ترجم لكل عين، وكما يقول هو: «لأولي النباهة»، ولم يستثن إلا الصحابة والتابعين والخلفاء، فترجم للمالي والفقيه والمتصوف والشاعر والأديب والنحوي واللغوي والوالي والمشعوذ. ومنهم من اقتصر على طائفة خاصة كما فعل ياقوت في «معجم الأدباء»، فقد ترجم فيه للأدباء خاصة، وكما فعل ابن قتيبة وابن سلام في «طبقات الشعراء»، وكما فعل السيوطي في «بغية الوعاة في تراجم النحاة». ومنهم من اقتصر على تراجم الأدباء في عصر خاص كما فعل الثعالبي في كتابه يتيمة الدهر في شعراء أهل العصر». إلخ.
والآن نعرض لمسألة هامة وهي: هل وفى هؤلاء المترجمون بالغرض الذي قصدوا إليه؟ قبل ذلك يجب أن نبحث متى تكون ترجمة الحياة جيدة وافية بالغرض؟
المترجم «واصف» لمن يترجمه، والواصف ينبغي أن يخرج بقلمه ولغته ما يخرجه الرسام بريشته، بل للقلم مجال أوسع من الريشة، فالقلم يستطيع أن يتغلغل إلى المعنويات من أخلاق وعقلية ومشاعر وصفات نفسية، على حين أن الريشة لا تستطيع أن تصل إلى شيء كثير من ذلك؛ نعم إن القلم يلاقي من الصعوبة ما لا تجده الريشة، فإن الريشة مرنة مطواع أمامها ماديات ذات مقاييس خاصة ونسب معينة يسهل على المصور أن يراعيها، ولكن الكاتب يعاني بقلمه في إخراج الصورة كاملة منسقة أكبر العناء. يجب أن يكون الواصف من دقة الحس ويقظة العقل وحسن التقدير لما يهم وما لا يهم ولطف الذوق والقدرة على الإبانة بحيث يستطيع أن يصف لك الشخص الموصوف كأنك تراه، بل أكثر من أن تراه؛ فهو يريك من المعنويات ما لا يرى، تريك الصورة الشيء دفعة واحدة، فنستطيع أن ترى النسب بين أجزائها، وتدرك الجمال التركيبي كما تدرك الجمال الإرادي، والكاتب الماهر يسلسل بين أقواله ويجملها بالمنطق الصحيح والأسلوب الأخاذ، فيسرق منك نفسك، فلا تنتبه إلا وقد وعيت صورة الموصوف كاملة. يرى الواصف الشخص فيدرسه ويخبره ثم يدرسه ويخبره ويجمع حوله كل ما يهمه، ويمحصه، حتى إذا اجتمعت له في ذهنه صورة كاملة متناسقة تؤلف وحدة استطاع أن يبرزها بقلمه فيشرك غيره في رؤية ما يرى. فإن كان الواصف لم يدرك أصل الموصوف جمع أخباره وحوادثه وقصصه وامتحنها بكل ما اخترع «البحث» من وسائل للامتحان، ثم كان شأنه معها شأن سابقها.
وهناك نوعان من التراجم يصح أن نسميها تراجم خارجية وتراجم ذاتية، ونعني بالأولى تراجم يقتصر فيها المترجم على وصف المترجم له بذكر الحقائق الخارجية والوقائع التي حدثت للمترجم من غير أن يشوبها المترجم بشيء من أفكاره ومشاعره. والترجمة من هذا النوع ليست إلا ثبتا للحقائق، وهي بالمؤرخ أشبه. أما النوع الثاني فتراجم يذكر فيها المترجم ما وصل إليه من حقائق ويحللها، ثم يتبعها برأيه في المترجم إما دفاعا عنه أو هجوما عليه، إما نقدا وذما وإما مدحا وتقريظا، إما استحسانا للمأثور من أقواله وآرائه أو استهجانا، وهذا النوع بالأديب أليق.
وليس يترجم من الرجال إلا من كانت له ناحية من نواحي النبوغ كالسياسة أو الأدب أو اللغة أو النحو أو الخلق أو العلم؛ فواجب المترجم أن يدلنا على موضع نبوغ من يترجمه ويعطيه أكبر عنايته، ويجعل القارئ يكاد يلمسه بيده، فإن هو قصر في ذلك فقد قصر في أهم ركن للترجمة.
إذا نحن نظرنا - في ضوء هذه القواعد التي ذكرناها - إلى كتب التراجم العربية وجدناها على اختلاف أنواعها معيبة من جملة وجوه، وهي في هذه العيوب تختلف شدة وضعفا، فأظهر عيب فيها أنها لم تسلك طريق البحث العلمي؛ فقد وضعت فيها الأساطير والخرافات بجانب الحقائق من غير تمحيص، وأكثر ما يكون ذلك في تراجم رجال الدين والتصوف، فعندهم يفقد المترجم ملكة النقد، ويسلم بكل ما حكى له.
أضف إلى ذلك أن المترجم يكثر من ذكر الأقوال المختلفة، ويتركها على عواهنها من غير أن يبذل جهدا في تحقيقها، والخروج منها بنتيجة يرضاها؛ فتقرأ مثلا في ابن خلكان قولا يقول: إن أبا تمام الشاعر المشهور من قبيلة طيئ، وقولا يقول: إن أباه كان نصرانيا من أهل جاسم (قرية من قرى دمشق) يقال لها: تدوس العطار فجعلوه أوسا، وقد لفقت له نسبة إلى طيئ، ولكن أي القولين أصح؟ وماذا بذل المؤلف من الجهد في تحقيق هذه المسألة؟ لا شيء من ذلك، ولكن أقوال يرصف بعضها بعض من غير تمحيص؛ وترى في كتاب «الأغاني» من هذا الضرب الشيء الكثير. وقل مثل ذلك في الوقائع التاريخية، فهي تقال وتذكر فيها الروايات المختلفة، ثم يقف قلم المؤلف؛ مع أن المعقول أن جمع هذه الروايات المختلفة ليس إلا مقدمة لتمحيصها والخروج منها بنتيجة تقرب إلى الصواب.
الحق أن النقد عند كتاب التراجم كان ضعيفا، ولم يمهروا في امتحان الحقائق وتخليص جيدها من رديئها. نعم إنا نعثر في «وفيات الأعيان» لابن خلكان و«معجم الأدباء» لياقوت و«الأغاني» على نتف صغيرة من النقد تدل على دقة ملاحظة وجودة نظر، وربما كان أفضلهم في ذلك ابن خلكان، ولكنها مواقف نادرة قليلة لا يصح أن يقال: إنها النظام المتبع في التأليف.
كذلك من أوضح العيوب البارزة في هذه الكتب، أن المؤلفين لم يستطيعوا أن يقوموا موضع نبوغ المترجم له فيخصوه بالشرح الوافي. قد كنت أفهم أن كتابا ك «بغية الوعاة في أخبار النحاة» يعني في تراجمه بهذه الناحية النحوية، فيبين مكانة المترجم في النحو، وموضع نبوغه، وأي شيء جدد في النحو حتى استحق أن يترجم، ولكن قل أن أعثر فيه على شيء من ذلك؛ ومثل ذلك يقال في طبقات المحدثين والفقهاء والأدباء!
أغرب ما في هذا النوع عناية المترجمين بالشعر لغير الأديب والشاعر، فترى كثيرا منهم - كابن خلكان - يبحثون للمترجم عن بيتين أو أبيات الشعر ينسبها إليه، ويذكرهما بجانبه، ويجعل لها مكانا ممتازا في ترجمته. ولو كان هذا الذي يترجم له شاعرا أو أديبا لحمدنا للمترجم هذه العناية؛ أما والمترجم مالي أو مشرع أو محدث أو اجتماعي، فما قيمة بيتين أو أبيات قالها في حياته؟ أليس سخيفا أن تقرأ في ابن خلكان ترجمة الإمام الشافعي فلا ترى فيها شرحا لموضع نبوغ الشافعي ومقدرته في التشريع، وبماذا يمتاز عن بقية الأئمة، وأين مكان مذهبه من الرأي والحديث. ثم تراه يعني عناية فائقة بأبيات ضعيفة يرويها له، وهذا هو بعينه ما فعله في ابن جرير الطبري المؤرخ، وطلائع بن زريك السياسي، والفارابي الفيلسوف.
إنما يجب أن يذكر للشاعر شعره، وللفقيه فقهه، وللسياسي سياسته، وللفيلسوف فلسفته، ويجب أن تكون هذه الناحية هي أهم ناحية يعني بها المترجم. •••
هذا وقد عني المحدثون بوضع تراجم مفردة مستقصية، تحلل فيها الأشخاص والحوادث تحليلا دقيقا، ويعتمد فيها على النمط الحديث في البحث، ويستفاد فيها مما وصل إليه علم النفس من استكشاف وبما وضع علماء الأدب المحدثون من أنماط. ونرجو أن يتتابع التأليف على هذا النمط، ويتمشى في الرقي مع الزمن، حتى تكون لنا مجموعة قيمة من تراجم المشهورين في العصر الإسلامي من أدباء وفلاسفة وشعراء وغيرهم، تقرأ الترجمة فتشعر كأن المؤلف أحيا المترجم وبعثه من جديد، وتشعر وقد قرأت الترجمة كأنك لقيت المترجم وعاشرته وحدثته، وقرأت كتبه واستقصيت دخيلة نفسه.
الهجرة
في يوم من أيام صفر من العام الذي سمي بعد «عام الهجرة»، بثت الدعوة في عظماء قريش أن يجتمعوا في «البرلمان» لأمر خطير.
نعم، وكان لقريش برلمان، ولكن لم يكونوا يسمونه هذا الاسم الأجنبي الذي يقتبسونه من غيرهم، إنما كانوا يسمونه اسما ظريفا من وضعهم، هو «دار الندوة» - يجتمعون فيه كلما حزبهم أمر، أو جد لهم حادث خطير.
ولم يكن لبرلمانهم دستور مكتوب، إنما هو دستور متعارف، خلقته الأوضاع والتقاليد، ولم يكن له قانون انتخاب، إنما يتهيأ للعضوية فيه من أثبت بفعاله عظمته في قبيلته، وكل ما اشترطوا بعد أن يكون العضو من قريش، وأن يبلغ الأربعين.
وكان مكان البرلمان دارا لقصي بن كلاب، توارثها أعقابه من بعده، وخصصوها لتشاورهم والتحدث في عظائم أمورهم، «وكانوا لا يقضون أمرا إلا فيها»، وكانت تقع في الجانب الشمالي من الكعبة، وهي الآن جزء من المسجد الحرام. •••
تم اجتماع الأعضاء في الموعد المحدد، وتمثلت فيه قبائل قريش برجالاتها وعظائمها؟ هذان عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة يمثلان عبد شمس؛ وهذا أبو سفيان يمثل أمية؛ وهؤلاء طعيمة بن عدي وجبير بن مطعم والحارث بن عامر يمثلون عبد مناف؛ وهذا النضر بن الحارث بن كلدة يمثل عبد الدار؛ وهذا أبو البختري وزمعة بن الأسود وحكيم بن حزام يمثلون بني أسد بن عبد العزى، وهذا أبو الحكم بن هشام يمثل بني مخزوم؛ إلى كثير غيرهم يمثلون القبائل القرشية كلها.
ساد السكون، وظهر على وجوههم الجد. ما الأمر الذي دعوا إليه؟ لقد عرفوه مجملا، والآن يريدون أن يعرفوه مفصلا، ويريدون أن يقضوا فيه قضاء حازما حاسما. •••
الأمر أمر محمد وصحبه ... لقد سمعنا دعوته أول أمرها فاستخففنا به وبها، وقلنا: «مجنون» أو شاعر نتربص به ريب المنون، وظننا أن دعوته تذهب مع الريح، فليدع ما يدعو فليس له سميع! وقد بدأ دعوته مسالما، يدعو في رفق ولطف ويقول:
اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم ، فتركناه وشأنه ولكنه خطا بعد خطوة أجرأ وأفظع، فكان يدعو سرا فدعا جهرا، وسب آلهتنا، وسفه أحلامنا، وضلل آباءنا؛ فطلبنا من قومه أن يكفوه عنا، أو يخلوا بينه وبيننا، فلم يكن هذا ولا ذاك؛ فاتجهنا اتجاها آخر، وهو أن نتركه ونعذب من اتبعه، حتى يكون في تعذيبهم نكال لهم وعظة لغيرهم؛ فأوعزنا إلى كل قبيلة أن تثب على من فيها من المسلمين؛ تعذبهم وتفتنهم عن دينهم، فنفذت ذلك بما استطاعت من قوة، فحبستهم وعذبتهم بالضرب والجوع والعطش، وبرمضاء مكة إذا اشتد الحر؛ هذا إن كان ضعيفا - وإن كان شريفا سفهنا حلمه، وفيلنا رأيه، ووضعنا من شرفه، وإن كان تاجرا كسدنا تجارته، وأهلكنا ماله؛ فما أغنى كل ذلك شيئا، فالقليل من افتتن، والكثير من أصر على دينه، وفضل الموت على الرجوع عنه؛ ثم رجعنا إلى محمد نرغبه في العدول عن دعوته وقلنا: إن كنت جئت بهذا الحديث تطلب به مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت إنما تطلب به الشرف فينا فنحن نسودك علينا، وإن كنت تريد به ملكا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا طلبنا الطب لك حتى نبرئك منه. فقال: «ما بي ما تقولون! ولكن الله بعثني إليكم رسولا، وأمرني أن أكون لكم بشيرا ونذيرا».
رجعنا إلى تعذيب أصحابه، فهاجروا إلى الحبشة، ونشروا ذكر محمد في الآفاق وفي كل موسم حج، تأتي قبائل العرب من كل فج. فيتسامعون بمحمد ودعوته، ويعرض هو نفسه على القبائل ليدخلوا في دينه، ويحموا دعوته، وترجع كل قبيلة تتحدث بما رأت وما سمعت.
وأخيرا تمت الكارثة، فقد لبى دعوته الأوس والخزرج من أهل يثرب، وأتى نقباؤهم فبايعوه في هذا الموسم على أن يمنعوه مما يمنعون منه نساءهم وأبناءهم، وهؤلاء أصحابه يخرجون إلى يثرب أسرابا أسرابا، وعما قليل يتبعهم محمد.
وماذا تكون العاقبة؟
سيتآخى من أسلم من قريش ومن أسلم من الأوس والخزرج، وسيكونون قوة عظمى تحاربنا وتجالدنا، والأوس والخزرج أبناء الحروب وأهل السلاح، فإذا انضم إليهم أبناء قريش ممن أسلم مع محمد فالويل لنا؛ سيمنعون تجارتنا ولا عيش لنا إلا بالتجارة، وسيبثون معه الدعوة إلى القبائل الأخرى، فيدخلون في دينه، ثم لا يكون لنا إلا الخزي والعار والفقر، وها هو ذا محمد اليوم بين أظهركم، وغدا قوة في يد أعدائكم.
هذا هو الموقف، وهذه هي مسألة اليوم.
فما الرأي؟
وقف أبو البختري بن هشام فقال: «احبسوه في الحديد، وأغلقوا عليه بابا، ثم تربصوا به ما أصاب أشباهه من الشعراء الذين قبله، زهير والنابغة ومن مضى منهم، حتى يصيبه ما أصابهم».
عورض هذا الرأي ورد عليه راد فقال: لئن حبستموه ليخرجن أمره من وراء الباب الذي أغلقتم دونه إلى أصحابه، فلأوشكوا أن يثبوا عليكم فينزعوه من أيديكم، ثم يكاثروكم به حتى يغلبوكم على أمركم، ما هذا لكم برأي!
واقتنع المجلس بفساد هذا الحل.
فوقف أبو الأسود ربيعة بن عامر، وقال: الرأي عندي أن نخرجه من بين أظهرنا فننفيه من بلادنا، فإذا خرج عنا فوالله ما ندري أين ذهب ولا حيث وقع، إذا غاب عنا وفرغنا منه أصلحنا أمرنا وألفتنا كما كنت.
قوبل هذا الرأي باستخفاف لاذع لظهور سخفه، ورحم أحد الحاضرين قائله فرد عليه: «ألم تروا حسن حديثه، وحلاوة منطقه، وغلبته على قلوب الرجال بما يأتي به؟ والله لو فعلتم ذلك ما أمنتم أن يحل على حي من العرب فيغلب عليهم بذلك من قوله وحديثه حتى يتابعوه عليه، ثم يسير بهم إليكم حتى يطأكم بهم في بلادكم، فيأخذوا أمركم من أيديكم، ثم يفعل بكم ما أراد».
اقتنع المجلس - وكان من قبل مقتنعا - بفساد الرأي.
فقام أبو الحكم بن هشام، وقال: «والله إن لي فيه رأيا ما أراكم وقعتم عليه بعد، أرى أن نأخذ من كل قبيلة فتى شابا جليدا نسيبا وسيطا فينا، ثم نعطي كل فتى منهم سيفا صارما، ثم يعمدوا إليه فيضربوه بها ضربة رجل واحد فيقتلوه فنستريح منه، فإنهم إذا فعلوا ذلك تفرق دمه في القبائل جميعا، فلم يقدر بنو عبد مناف - رهط محمد - على حرب قومهم جميعا، فرضوا منا بالعقل، فعقلناه لهم».
خلب هذا الرأي لب المجلس وارتضوه وتواصوا بسريته حتى ينفذ، وختمت الجلسة. •••
أبلغ النبي ذلك ونزل عليه:
وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين .
وكان أبو بكر يتهيأ للهجرة إلى المدينة كما خرج غيره من قبل، والرسول يأمره بالانتظار حتى يخرج معه، فلما عزم الأمر أعدت العدة وأحكمت الخطة.
لئن خرجنا ظاهرين لتتعقبنا قريش، ولا بد أن يلحقونا فيرجعونا ويؤذونا، فنلجأ إلى جبل ثور (على مسافة ساعة من مكة) ولنختف في غار فيه، ولنعف الأثر حتى لا يعرف مكاننا أحد. •••
لقد كانت أياما شديدة حقا، ثلاث عشرة سنة على النبي
صلى الله عليه وسلم
في جهاد متصل، ودعوة مستمرة، وطلب واضح أن يعدلوا عن عبادة الأصنام التي لا تنفع أحدا ولا تضر أحدا، إلى عبادة الله الذي بيده النفع والضر. ثم لا يظفر من قومه بعد كل ذلك إلا بهذا العدد القليل من المسلمين، ثم هم لا يتركونه ودعوته، ولا يكتفون بالصد عنها وعنه، بل يعذبون أصحابه أشد العذاب، وأخيرا يقررون قتله فيضطرونه إلى الخروج من بينهم سرا.
ما أشدها ساعة يفارق فيها أهله وقومه ووطنه، والكعبة أحب مكان إليه! وقد عبر عن هذا كله إذ وقف على نشز من الأرض حين خرج من مكة ونظر إلى البيت ، وقال: «والله إنك لأحب أرض الله إلي، وإنك لأحب أرض الله إلى الله، ولولا أن قومك أخرجوني ما خرجت منك».
مرت ثلاثة أيام في الغار وهي أشد ما تكون عليهما، طلب مستمر من أهل مكة وجعل كبير لمن يجدهما، واقتفاء أثر ممن اشتهر في القيافة، وعذاب شديد في حياة الغار، حتى لقد تقطرت قدما الرسول دما، إذ يتعود الحفى والجفوة، وساعة رهيبة إذ يصل القافة إلى الغار، ولو نظروا من عند أقدامهم لرأوهما، وحزن شديد من أبي بكر، وطمأنينة وثبات من النبي، فيقول لصاحبه:
لا تحزن إن الله معنا .
حتى إذا خف من قريش الطلب وقطعوا الأمل خرج النبي وصاحبه من الغار إلى المدينة في حفظ الله.
وقاية الله أغنت عن مضاعفة
من الدروع وعن عال من الأطم •••
لقد خرجا من مكة أول ربيع الأول (في يونيه سنة 622م) حيث يشتد الحر وتتوهج الصحراء، وكانا يعرجان على من يلقيان من الأعراب يتزودان بالمأكل والمشرب بمالهما.
وكان لهما على طول الطريق ذكريات وأحاديث وآمال. لقد كان موقفه من قريش كما قال القائل:
ثوى في قريش بضع عشرة حجة
يذكر لو يلقى صديقا مواتيا
ثم يكون آخر الأمر تآمر على قتله وإخراجه وأتباعه من الديار بغير حق إلا أن يقولوا: ربنا الله، ومرت في ذهنهما الحوادث من بدء الوحي إلى وقتهما هذا، ولو أثيرت عند غيره لأثارت الحفيظة والمقت، ولكنه النبي الذي ما كان يزيد في أشد الأوقات حرجا على قوله: «اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون». وانقطعت ذكريات مكة وأحاديث مكة، وقفز الذهن إلى يثرب وأهلها ومستقبلها ومشاكلها. إن بها اليهود فما هم صانعون؟ وإن بين أهلها خصومات، فكيف تستأصل؟ وإن الحالة الاقتصادية فيها سيئة، فكيف تتسع لمن هاجر إليها من قريش؟ وإن أرضها موبوءة لم يتعودها المكيون، فكيف تعالج؟ وأول كل شيء وقبل كل شيء ما مصير الدعوة؟ ويجيب النبي قلبه: «لقد وعد الله - ووعده الحق - أن يتم نوره ولو كره المشركون». •••
هذا هو النبي
صلى الله عليه وسلم
يدخل يثرب، وهاهم أشرافها يتسابق كل منهم أن يجوز الفخر بنزوله عنده، وهذا مسجده يقام، وهاهو الأذان يشرع فيجلجل صوت بلال في المدينة، وهاهم أهل المدينة يدخلون في الإسلام أفواجا، بنسائهم وذراريهم، وهاهو رسول الله يؤاخي بين المهاجرين والأنصار، فيكون منهم وحدة متماسكة على أساس التعاون في الخير، ونصرة الحق، واحتمال الأذى في سبيل الدعوة إلى الله. وهذه المشاكل كلها تحل، فتحل مشكلة اليهود ومشكلة الفقر ومشكلة الوباء، ويصبح أهل المدينة أنصارا، يحمون الدعوة، ويحققون ما عاهدوا رسول الله عليه، فيكون منهم ومن المهاجرين قوة ليس ما يدانيها في جزيرة العرب كلها؛ قوة إيمان تدعمها قوة سلاح، فتنتشر الدعوة، وتفد الوفود معلنة إيمانها، وتفتح مكة، وتدخل قريش فيما دخل فيه غيرهم، بعد أن فلت شوكتهم، وضعفت قوتهم، ويعم الإسلام جزيرة العرب، ويتلو رسول الله:
إذا جاء نصر الله والفتح * ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا * فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا .
ويقف على باب الكعبة بالقرب من دار الندوة، حيث تآمرت قريش على قتله منذ ثمان سنوات، فيقول: «لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، يا أهل مكة! ما ترون أني فاعل بكم؟» قالوا: خيرا، أخ كريم وابن أخ كريم، فيقول: «اذهبوا فأنتم الطلقاء». لا يحمل حقدا ولا ضغينة، ولا يريد انتقاما، إنما يريد أن تكون كلمة الله هي العليا، وأن تكون كلمة الذين كفروا السفلى، وقد كان كل ذلك، فلا غضب ولا انتقام، وتدوي جزيرة العرب كلها بلا إله إلا الله محمد رسول الله. •••
ذهبت أيام وجاءت أيام، وتولى عمر بن الخطاب، ومضى على خلافته سنوات والعرب تؤرخ بالأحداث العظام، فيقولون: حدث ذلك عام الفيل، وولد فلان بعد عام الفجار بسنة، وهي أحداث لا تتفق وعظمة الإسلام، ولا تصلح أن تكون تاريخ أمة عظمت فتوحها، ومست الحاجة لضبط شئونها وأعمالها؛ فيجمع عمر بعض الصحابة يستشيرهم: أي الأحداث أولى أن يكون مبدأ التاريخ الإسلامي، أولادة النبي
صلى الله عليه وسلم
أم وفاته أم نزول الوحي في غار حراء؟ ويقترح «علي» أن يكون الهجرة، فهي مبدأ نجاح الدعوة وانتشار الإسلام ومحق الشرك، فكان كما قال، وكانت الهجرة في الربيع الأول، وكان هذا التشاور في السنة السابعة عشرة، فأضافوا الأشهر السابقة على ربيع حتى يبدءوا بما اعتادوا به بدء السنة وهو المحرم، وجرى الأمر على ذلك. •••
ثم تتابعت السنون، وتتابع هلال المحرم على المسلمين، بالسعود مرة، وبالنحس أخرى، وبالنعيم أحيانا، وبالبؤس أحيانا ورآهم في عزهم، ورآهم في ذلهم، ورآهم سادة، ورآهم عبيدا، ورآهم يستيقظون وينامون ولكن لا يموتون، وتتوالى عليهم الكوارث التي تبلي الحديد ولكن لا يبلون، وتتعاقب عليهم سنو الضعف حتى يشفوا على الموت ثم يشفون، وحتى يندمج فيهم من عادهم، وينصرهم من ناوأهم، ويدخل في دينهم من حاربهم لدينهم، وييأس من تنصيرهم من حاول تنصيرهم، ومن تجريدهم من عزهم من حاول أن يسلبهم عزتهم؛ فكانوا كالمطاط يضغطون فلا يتشكلون إلا ريثما ينفرون ثم يستردون مكانتهم، ويعودون إلى عزتهم.
وهاهم في الأهلة الأخيرة ينتبهون من نوم طويل، فيدركون موقفهم ويألمون له، ويشعرون بالمرض بعد أن فقدوا الحس به، ويبحثون عن الدواء فيجدونه، ويحاولون أن يعودوا إلى مجدهم فيهتدون للطريق.
فعسى أن يكون هلال المحرم أسعد عليهم ممن سبقه، يزدادون فيه علما بإدراك موقفهم، ويزدادون همة في إصلاح ما ورثوا من آبائهم، ويزدادون خلقا فيوحدون كلمتهم ويعلو شأنهم؛ وتأخذهم العزة فيأبون إلا أن يقفوا مع أرقى الأمم على قدم المساواة، فيتحررون كما تحرروا، ويبنون كما بنوا؛ وإذا سيموا خسفا قالوا: «لا» بملء فيهم؛ ثم تدوي كلمتهم في العالم كما دوت من قبل، ويعتز بهم العلم والخلق والحق كما اعتزت بهم من قبل.
حقق الله الأمل.
البركة
من ألذ الأشياء للباحث اللغوي مراقبته للكلمات وتطور معانيها؛ فالكلمة يبدأ معناها ماديا ساذجا، ثم يأخذ في النمو والتطور على اختلاف العصور وتقدم الزمان؛ حتى ليعجب الناظر إذا هو وازن بين المعنى الخير للكلمة والمعنى الأول لها، لبعد العلاقة بينهما، وكلما تجلت لي هذه الفكرة عجبت من الجامدين الذين يتخذون شعارهم «ليس في القاموس». كأنهم يريدون أن تقف اللغة على ما كانت عليه في القرون الأولى، يوم دونت المعاجم ، ويريدون أن يتجاهلوا فعل الزمان في كل شيء، وفي اللغة نفسها، من أثر دائم وتطور مستمر. ولا زلت كلما كشفت عن مادة في اللغة الإنجليزية في معجم أكسفورد، وأراه يؤرخ الاستعمالات المختلفة للكلمة الواحدة، فيقول: إنها استعملت في معنى كذا سنة كذا، ثم استعملت في معنى كذا سنة كذا، أتمنى أمنيتين في اللغة العربية: إحداهما أن يؤمن الناس معي أن اللغة في تطور مستمر، وأن من الإجرام أن يريد اللغويون قصر معاني الكلمات على ما جاء في معاجم اللغة القديمة، متناسين كل عمل الأجيال التي أتت بعدها. وثانيتهما أن ينشط علماؤنا فيستطيعوا أن يخرجوا لنا معجما مؤرخا تدون فيه كل كلمة، ومنشأ استعمالها، وتطور معانيها مع الزمان إلى الآن. •••
خطر لي هذا الخاطر وأنا أبحث في كلمة «البركة» من أين أتت، وكيف وصلت إلى ما نستعمله اليوم، فنقول: «رجل مبارك» و«المرتب ليس فيه بركة» و«ذرية مباركة» و«ذرية غير مباركة» و«زمنه مبارك» و«عمره لا بركة فيه» إلخ ... وهكذا.
وقد عجبت إذ رأيت بعض علماء اللغة يعودون بهذه المعاني كلها إلى المعنى الأساسي وهو «برك البعير إذا أناخ في موضع فلزمه»، ثم نقله العرب من هذا المعنى إلى معنى النمو والزيادة، أو معنى السعادة، كأن البعير إذا أناخ استراح ونما وسعد. واشتقوا من هذا المعنى بارك الله الشيء، وبارك فيه، وبارك عليه، أي: أكثر خيره وأسعد به، ومنه قالوا: طعام مبارك، ومال مبارك، ورجل مبارك، وجاء في القرآن الكريم:
إنا أنزلناه في ليلة مباركة
إلخ. •••
قفز ذهني بعد ذلك من البحث اللغوي إلى البحث الاجتماعي أو البحث النظري: ما معنى «البركة»؟
يرى الناس رجلا يتقاضى مئة جنيه في الشهر، وليس له إلا ولد أو ولدان، ومع ذلك مرتبه لا يكفيه، ويستدين، وتضطرب ماليته، فيقولون: «إن مرتبه لا بركة فيه». ويرون آخر مرتبه ثمانية جنيهات أو عشرة، ومعه أربعة أولاد أو خمسة، وهو يعيش عيشة حسنة بمرتبه الضئيل، لا يستدين، ولا تضطرب ماليته، فيقولون: «إن مرتبه فيه البركة ».
ويرون رجلين في يد كل منهما جنيه، فأما أحدهما فخرج من بيته وعاد وليس معه شيء، وذهب جنيهه في أشياء تافهة لا قيمة لها، فيقولون: «إن جنيهه لم يكن فيه بركة». وأما الآخر فاشترى أشياء وأشياء نافعة لنفسه ولبيته، وعاد معه بقية من جنيهه، فيقولون: «إن في جنيهه بركة».
ويوم كل الناس أربع وعشرون ساعة، وشهرهم ثلاثون يوما، وأيام سنتهم متساوية؛ ومع هذا تجد الفروق بينهم في استخدام الزمن واسعة؛ فهذا تمر عليه الأيام والشهور والسنون وليس له إنتاج علمي ولا أدبي ولا مالي ولا صناعي؛ وهذا دائم الإنتاج كثيره، كأن أيامه سنون، وكأن عمره مئة عمر، فيقولون: «إن عمر الأول غير مبارك، وعمر الثاني مبارك».
ونرى رجلا رزق الحظوة في أولاده، فبناته زوجن خير الأزواج، وأبناؤه ما شئت من استقامة ونجاح، هذا زراعي ناجح، وهذا عالم ناجح، وهذا صانع ناجح؛ ورجلا آخر خاب كل الخيبة في أولاده، فبناته مع أزواجهن مصدر نزاع دائم، وقضاياهن في المحاكم لا تنتهي، وأبناؤه بين سكير ومقامر ومحتال، فيقولون في الأول: «إن في ذريته البركة» وفي الثاني: «لا بركة له في أولاده».
فما هي هذه البركة؟ أهي حجر الفلاسفة وكيمياء السعادة، وسر مكنون كالروح، نرى أثره ونعجز عن إدراك كنهه؟ أم هي قوانين الطبيعة التي يشرحها عالم الاقتصاد في شئون المال؟ وعالم الأخلاق في شئون الأخلاق، وعالم التربية في شئون التربية، وأن الأمر ليس سرا مكنونا، وإنما هي قوانين طبيعية مكشوفة، لها مقدماتها ونتائجها المحتومة، من سار على المقدمات وصل إلى النتائج المعينة حتما، ومن لم يسر عليها لم ينل نتائجها حتما؟
أما بعد، فإني أميل إلى الرأي الثاني «ورزقي على الله».
فالموظف الذي يتقاضى مئة في الشهر ويستدين، سبب انعدام بركته عدم سيره على قوانين الاقتصاد الطبيعية المعروفة؛ والموظف الذي يتقاضى عشرة ويعيش عيشا رغيدا، سبب بركته سيره على قوانين الاقتصاد الطبيعية المعروفة؛ فقد وضع الاقتصاد قوانين واضحة، يتطلب أمورا: منها أن يكون إيجار منزله بنسبة كذات من مرتبه، وحاجات منزله كذا إلخ ، وأن تقدم الضروريات على الكماليات، وأن يحسب حساب ما يشتري ويوازن بينه وبين المال الذي ينفق فيه، إلى غير ذلك من القوانين؛ فكلها إذا سار عليها سائر انتظمت ماليته وكانت مباركة، وإن لم يسر عليها اختلت ميزانيته وكانت غير مباركة، والاقتصاد يسمي من يسير على القوانين «مقتصدا» أو سائرا على قوانين الاقتصاد، ومن لم يسر مسرفا أو مبذرا أو مخالفا للقوانين الاقتصادية؛ والناس يسمون المال مباركا أو غير مبارك، وفيه بركة أو انتزعت منه البركة؛ والاختلاف ليس إلا في التعبير والمعنى واحد.
وكل ما يمكن أن يقال: أن العلم بهذه القوانين وعدم العلم بها ليس له كبير شأن في الموضوع؛ فقد يكون الرجل ماهرا في علم الاقتصاد، درس في مصر ودرس في إنجلترا، وحاز أكبر شهادة في الاقتصاد، ومع ذلك لا يسير في حياته العملية وفق قانون الاقتصاد؛ فلا ينفعه علمه في حياته اليومية، وتطبق عليه قوانين الخيبة حتما رغم علمه. وقد لا يدرس الرجل الاقتصاد ولم يسمع بهذا الاسم مطلقا، ولكنه يسير بطبيعته وفق تعاليمه، فتطبق عليه قوانين النجاح رغم جهله بالعلم؛ والشأن في ذلك شأن كل القوانين الطبيعية؛ فمن أخذ سكرا على أنه سم لم يضره السكر؛ ومن أخذ سما على أنه سكر قضى عليه السم، ولم ينفع العلم ولم يضر الجهل؛ فالبركة وعدم البركة هي السير على قوانين الطبيعة أو عدم السير.
وعلى هذا الأساس مال الحكومة، قد يكون مباركا وقد يكون غير مبارك على هذا المعنى؛ فالحكومة التي تبعثر أموالها فيما لا يفيد، وتقدم الكمالي على الضروري، وتنفق الأموال الطائلة في فتح شارع للترف، وتغدق على المؤتمرات للشهرة، وتتلف الأموال الكثيرة في الإكثار من عدد الموظفين ورفع درجاتهم، وتنشئ المشروعات الكبيرة للفخفخة قبل أن تعد العدد لفلاحيها ليشربوا ماء نظيفا، وقبل أن تعد العدد لعمالها ليجدوا الكفاف، ميزانيتها لا بركة فيها، ومعنى خلوها من البركة عدم سيرها على قوانين الاقتصاد الطبيعية. وإذا رأينا أمة أخرى ميزانيتها أقل من الأولى وهي بها أسعد من الأولى كانت ميزانيتها «فيها البركة» بهذا المعنى.
وحينئذ يكون معنى البركة التوفيق في أن يسير المرء أو المرأة أو الحكومة حسب قوانين الاقتصاد.
والرجل ذو الذرية المباركة بركته عبارة عن أن أولاده ورثوا من آبائهم وأمهاتهم بذورا صالحة، ثم تربوا تربية صالحة، فكانوا في الحياة ناجحين موفقين، وهذا معنى البركة؛ فإذا هم ورثوا وراثة سيئة أو ربوا تربية فاسدة كانوا لا بركة فيهم، والذرية المباركة وغير المباركة خاضعة لسنة الله في خلقه وهي القوانين الطبيعية.
والعمر المبارك هو الذي عرف صاحبه كيف يستغله، والعمر غير المبارك هو الذي جهل صاحبه كيف يستغله، وهكذا. •••
ولكن مما لا شك فيه أن المسألة ليست بهذا القدر من البساطة والوضوح؛ ففي الحياة أمور معقدة خفية تجعل الأمر أعقد من هذا وأصعب.
فقد يكون المرء سائرا على قوانين الاقتصاد في دقة وإحكام كما ترسم قوانين الاقتصاد، ومع ذلك تضطرب ماليته، وتسوء حالته لأسباب لا دخل له فيها، كأن يصاب هو أو أحد أفراد أسرته بمرض يتطلب مالا كثيرا فتختل ميزانيته وتذهب بركتها، ولا دخل له في ذلك، أو يحدث حادث سماوي يتلف زراعته، أو يصاب بكارثة مالية ليست في الحسبان، أو تدهمه سيارة تكسر رجله بخطأ من السائق، أو نحو ذلك من تصاريف القدر؛ فكل هذه وأمثالها قد تفسد عليه نظامه المالي وتربكه ارتباكا شديدا، مع أنه الحريص في تصرفاته الحكيم في تدبير ماله؛ وكذلك نرى في الدنيا عكس هذا، نرى المسرف المبذر الساخر من قوانين الاقتصاد، ومع ذلك يأتيه الرزق من حيث لا يحتسب، فيبارك له في معيشته رغم تبذيره ورغم القوانين الطبيعية والاقتصادية.
وكذلك الشأن في الأولاد، قد ينشأون خير تنشئة، ثم يصابون بصحبة من يفسدهم، مع أن الآباء قد بذلوا في تربيتهم كل جهد، وساروا على قوانين التربية بكل دقة، والعكس صحيح. ويعجبني في ذلك قول الشاعر:
فموسى الذي رباه جبريل كافر
وموسى الذي رباه فرعون مرسل
هذا كله صحيح، وهذه أمور تستوجب التفكير، وليست الإجابة عنها يسيرة؛ ولكن ألست معي في أن هذه أمور استثنائية في الحياة؟ وربما كانت هي الأخرى خاضعة لقوانين لم تستكشف بعد؟ أليس من الخير أن نسير من القوانين على ما علم ونلتزمه، ونؤمن بالقوانين القليلة التي لم نعرفها حتى نعرفها؟ أو الخير أن نهمل كل القوانين؛ لأننا نجهل بعضها؟
أظن من الخير أن نسير حياتنا على ما علم، فإذا أردنا البركة فلنسر على قوانين الطبيعة، ولا يضيرنا أن يكون جزء من حياتنا في يد القدر.
وعلى حسب تفسيرنا، إن كان هذا المقال سائرا على قوانين الفن مثيرا للنظر، ناجح الأثر، ففيه البركة، وإلا فلا بركة فيه، والعلم عند الله.
فن السرور
نعمة كبرى أن يمنح الإنسان القدرة على السرور، يستمتع به إن كانت أسبابه، ويخلقها إن لم تكن.
يعجبني القمر في تقلده هالة جميلة تشع فنا وسرورا، وبهاء ونورا، ويعجبني الرجل أو المرأة يخلق حلوه جوا مشبعا بالغبطة والسرور، ثم يتشربه فيشرق في محياه، ويلمع في عينيه، ويتألق في جبينه، ويتدفق من وجهه.
يخطئ من يظن أن أسباب السرور كلها في الظروف الخارجية، فيشترط ليسر مالا وبنين وصحة؛ فالسرور يعتمد على النفس أكثر مما يعتمد على الظروف، وفي الناس من يشقى في النعيم، ومنهم من ينعم في الشقاء؛ وفي الناس من لا يستطيع أن يشتري ضحكة عميقة بكل ماله وهو كثير، وفيهم من يستطيع أن يشتري ضحكات عالية واسعة بأتفه الأثمان، وبلا ثمن. •••
مع الأسف ألاحظ أن كمية السرور في مصر والشرق قليلة. كما لاحظت من قبل أن كمية الحب في مصر والشرق قليلة، وليست تنقصنا الوسائل، فجونا جميل، وخيراتنا كثيرة، وتكاليف الحياة هينة، ووسائل العيش يسيرة، ومصائب الشرق من الحرب أقل منها في الغرب؛ ومع هذا كله لا تزال كمية السرور في الشرق أقل.
أكبر سبب لذلك في نظري أن الحياة فن، والسرور كسائر شئون الحياة فن؛ فمن عرف كيف ينتفع بالفن استغله واستفاد منه وحظي به، ومن لم يعرفه لم يعرف أن يستغله وشقي به.
أول درس يجب أن يتعلم في فن السرور «قوة الاحتمال»، فأكبر أسباب الشقاء رخاوة النفس وانزعاجها العظيم للشيء الحقير؛ فما إن يصاب المرء بالتافه من الأمر حتى تراه حرج الصدر، لهيف القلب، كاسف الوجه، ناكس البصر، تتناجى الهموم في صدره، وتقض مضجعه، وتؤرق جفنه، وهي وأكثر منها إذا حدثت لمن هو أقوى احتمالا، لم يلق لها بالا، ولم تحرك منه نفسا، ونام ملء جفونه رضي البال فارغ الصدر. •••
ومن أهم الأسباب في أن أمم الغرب أقدر على السرور من أمم الشرق، أن تاريخ الغرب الحربي متسلسل متتابع، ومن مزايا الحروب أنها تصهر الأمم وترخص الحياة، وتهون الموت، وإذا رخصت الحياة وهان الموت رأيت المرء لا يعبأ بالكوارث إلا بقدر محدود؛ وإذا كان لا يهاب الموت فأولى ألا يهاب ما عداه؛ لأن كل شيء غير الموت أهون من الموت، فكل أسرة أوروبية لها رجال فقدوا في الحرب، أو أصيبوا في الحرب أو ابتلوا بنوع من كوارث الحرب، فعلمتهم الطبيعة التي تعادل بين الأشياء أن يتقبلوا هذه الرزايا بقوة احتمال، ونشأ عن هذا أنهم لا ينغصون حياتهم بذكرى الرزايا، فأولى ألا ينغصوها بتوافه الأمور.
أما أمم الشرق فقد مر عليهم دهر طويل لم يكونوا فيه أمما حربية؛ بل كانوا مستسلمين وادعين، يتولى غيرهم الدفاع عنهم، وإن حاربوا فحرب الضرورة، وحرب الأفراد لا حرب الشعوب، فاستفظعوا الموت، وغلوا في الحرص على الحياة، ولم يصابوا بكوارث شعبية يستعذبون معها الموت والتضحية، وتبع ذلك رخاوة العيش وعدم القدرة على الاحتمال، وتهويل الصغائر والجزع من توافه الأمور. ولا دواء لهذا إلا التربية القوية، وبث الأخلاق الحربية.
وسبب آخر لقلة السرور في الشرق، وهو سوء النظم الاجتماعية، ففي كل بيت محزنة من سوء العلاقات الزوجية والعلاقات الأبوية، وفي كل مصلحة أهلية أو حكومية مأساة من سوء العلاقات المصلحية وأحاديث الدرجات والعلاوات، وعدم التعاون في حمل الأعباء، وبناء المعاملات على الفوضى والمصادفات لا النظام والقانون.
ثم عدم القدرة على خلق أسباب السرور الاجتماعية؛ فاجتماعات المنازل التي تبعث السرور محدودة ضيقة نادرة، وفي كثير من الحيان تنتهي بمنغصات؛ والملاهي العامة إما داعرة لا ترضي الذوق السليم، ولا ترمي إلى غرض شريف، وإما تافهة لا يجملها فن، ولا يرقيها ذوق، ومن أجل ذلك كان أشد الناس بؤسا في الأمم الشرقية الطبقة المثقفة المهذبة التي رقي ذوقها؛ فهي لا تكاد تجد لها ملهى يتفق وذوقها، إلا بعض شرائط السينما، وهي - على قلتها - لا تشبع رغبتهم في السرور، ولا تكفي في تخفيف أعبائهم في الحياة. •••
ومع هذا كله ففي استطاعة الإنسان أن يتغلب على كل هذه المصاعب ويخلق السرور حوله. وجزء كبير من الإخفاق في خلق السرور يرجع إلى الفرد نفسه، بدليل أنا نرى في الظروف الواحدة والأسرة الواحدة والأمة الواحدة من يستطيع أن يخلق من كل شيء سرورا، وبجانبه أخوه الذي يخلق من كل شيء جزنا؛ فالعامل الشخصي - لا شك - له دخل كبير في خلق نوع من الجو الذي يتنفس منه؛ ففي الدنيا عاملان اثنان: عامل خارجي وهو كل العالم، وعامل داخلي وهو نفسك، فنفسك نصف العوامل، فاجتهد أن تكسب النصف على الأقل؛ وإذا فرجحان كفتها قريب الاحتمال، بل إن النصف الآخر - وهو العالم - لا قيمة له بالنسبة إليك إلا بمروره بمشاعرك، فهي التي تلونه، وتجمله أو تقبحه، فإذا جلوت عينيك وأرهفت سمعك وأعددت مشاعرك للسرور فالعالم الخارجي ينفعل مع نفسك فيكون سرورا.
إنا لنرى الناس يختلفون في القدرة على خلق السرور اختلاف مصابيح الكهرباء في القدرة على الضياء؛ فمنهم المظلم كالمصباح المحترق، ومنهم المضيء بقدر كمصباح النوم، ومنهم ذو القدرة الهائلة كمصباح الحفلات؛ فغير مصباحك إن ضعف، واستعض عنه بمصباح قوي ينير لنفسك وللناس.
ولكن ما الوسيلة إلى ذلك؟
مما لا شك فيه أن غلبة الحزن مرض قد ينشأ من عوامل كثيرة مختلفة، فمن الخطأ رجوعها كلها إلى علة واحدة؛ وإذا فمن الخطأ وضع علاج واحد للعلل كلها، ولكن فحص كل نفس وأسباب حزنها ووضع العلاج الخاص بها لا يستطيعه إلا طبيب نفسي ماهر . أما الكاتب فلا يستطيع إلا قولا عاما ووصفا مشتركا، وتعرضا للمسائل العامة.
ولعل من أهم أسباب الحزن ضيق الأفق وكثرة تفكير الإنسان في نفسه، حتى كأنها مركز العالم، وكأن الشمس والقمر والنجوم والبحار والأنهار والأمة والحكومة والميزانية والسعادة والرخاء، كلها خلقت لشخصه، فهو يقيس كل المسائل بمقياس نفسه، ويديم التفكير في نفسه وعلاقة العالم بها، وهذا - من غير ريب - يوجب البؤس والحزن، فمحال أن يجري العالم وفق نفسه؛ لأن نفسه ليست المركز، وإنما هي نقطة حقيرة على المحيط العظيم، فإن هو وسع أفقه، ونظر إلى العالم الفسيح، ونسي نفسه أحيانا، ونسي نفسه كثيرا، شعر بأن الأعباء التي ترزح تحتها نفسه، والقيود الثقيلة التي تثقل بها نفسه، قد خفت شيئا فشيئا وتحللت شيئا فشيئا. وهذا هو السبب في أن أكثر الناس فراغا أشدهم ضيقا بنفسه؛ لأنه يجد من زمنه ما يطيل التفكير فيها إلى درجة أن يجن بنفسه؛ فإن هو استغرق في عمله وفكر في أمته وفكر في عالمه، كان له من ذلك لذة مزدوجة، لذة الفكر والعمل، ولذة نسيان النفس.
ولعل من أول دروس فن السرور أن يقبض على زمام تفكيره فيصرفه كما يشاء؛ فإن هو تعرض لموضوع مقبض - كأن يناقش أسرته في أمر من الأمور المحزنة أو يجادل شريكه أو صديقه فيما يؤدي إلى الغضب - حول ناحية تفكيره وأثار مسألة أخرى سارة ينسى بها مسألته الأولى المحزنة؛ فإن تضايقت من حديث ميزانية البيت فتكلم في السياسة، وإن آلمك حديث «الكادر» فتكلم في الجو، وانقل تفكيرك كما تنقل بيادق الشطرنج.
ثاني الدروس أو ثالثها - لا أدري - ألا تقدر الحياة فوق قيمتها، فالحياة هينة، وكل ما فيها زائل، فاعمل الخير ما استطعت، وافرح ما استطعت؛ ولا تجمع على نفسك الألم بتوقع الشر ثم الألم بوقوعه، فيكفي في هذه الحياة ألم واحد للشر الواحد.
وأخيرا، فاعل ما يفعله الفنانون، فالرجل لا يزال يتشاعر حتى يكون شاعرا، ويتخاطب حتى يصير خطيبا، ويتكاتب حتى يكون كاتبا؛ فتصنع الفرح والسرور والابتسام للحياة حتى يكون التطبع طبعا.
طب النفس
من المشاهد أن الناس يؤمنون أشد الإيمان بمرض أجسامهم، ولا يؤمنون بمرض نفوسهم، فإذا شعر أحدهم بمرض جسمي أسرع إلى الطبيب يصف له أعراضه، ويستوصفه دواءه، وينفذ أوامره مهما دقت، ويبذل في ذلك الأموال مهما جلت، ثم هو يمرض نفسيا، فلا يأبه لذلك، ولا يعيره عناية، ولا يستشير طبيبا نفسيا، ولا يعني بدرس الأعراض ومعرفة الأسباب، وقد يلح عليه مرض النفس ويصل به إلى اليأس، فلا يسعى لعلاج ولا يجد في معرفة دواء، كأن نفسه أهون عليه من جسمه، وروحه أتفه من بدنه.
ومن أجل عناية الناس بأجسامهم دون نفوسهم، كان لدينا نظام شامل واف لطب الأجسام دون طب النفوس؛ فمدرسة لتخريج الأطباء حتى للطب البيطري، ومعاهد للتشريح والتجارب، وتخصص في الأمراض؛ فهذا طبيب عين، وهذا طبيب أنف وحنجرة، وهذا طبيب أسنان، وهذا طبيب باطني إلخ، وكان لكل حي طبيب أو أطباء، ولكل مدرسة طبيب، ووجدت المستشفيات في أنحاء الأقطار، وعدها الناس عملا خيريا يتبرعون له بأموالهم، كما عدتها الحكومات ضرورة اجتماعية، ترصد لها الأموال في ميزانيتها، وأنشئت الصيدليات في كل حي وكل شارع لتلبية طلبات الأطباء والجماهير في كل وقت إسعافا للجسم في مرضه وفي ترفه.
وخضعت هذه النظم لسنة الارتقاء، فهي تساير الزمان، وتستفيد مما يؤدي إليه البحث والعلم، تتكيف حسب ما تقضيه الأحوال، وتجهز بأحدث المخترعات.
والعقل عني به بعض هذه العناية، فكان أطباء للأعصاب، ومستشفيات للمجاذيب، وبحوث وتجارب في أمراض العقل وعلاجه.
أما النفس فحظها من ذلك كله حظ الأرنب بجانب الأسد، فلا الناس يقدرون خطورة أمراضها، ولا تنشأ المدارس لأطبائها، ولا تؤسس المستشفيات لعلاجها.
مع أني أعتقد أن آلام الناس من نفوسهم أضرارها من مرضى الجسوم، وللنفس أمراض لا حصر لها، تختلف كاختلاف أمراض الجسم إلى مرض عين ومرض معدة ومرض أمعاء؛ فهناك حميات نفسية متعددة كحميات الأجسام، وهناك ميكروبات نفسية كالميكروبات المادية، وهناك عدوى تصيب النفوس كعدوى الأجسام، وهناك انفعالات تحرق النفس وتضني البدن، إلى آخر ما هنالك، ولكل هذه الأمراض علاجات تختلف باختلاف المرض وباختلاف الشخص، ولها أدوية من جنسها، منها ما يسكن الألم، ومنها ما يشفي المرض ؛ وهي في دراستها وتشخيصها وعلاجها أدق وأصعب منالا وأغمض كشفا، والفرق بينها وبين أمراض الجسم وعلاجه كالفرق بين الجسم والنفس.
فما أحوجها إلى أطباء مهرة، ومستشفيات صالحة معدة، ودراسات عميقة منتجة، ونظم ترقى مع الزمان رقي طب الأجسام.
لعل الذي صرف الناس عن علاج نفوسهم إلى علاج جسومهم أنهم أو الكثير منهم لا يزالون يسبحون في دائرة الحس وحده، ولم يرتقوا إلى ملاحظة النفوس وشئونها؛ فإذا جرح الإنسان جرحا بسيطا في جسمه هرع إلى الطبيب يعالجه ويحتاط له، وإذا كسر عظمه ذهب إلى الطبيب ليجبر كسره، ولكن إذا جرحت نفسه ولو جرحا عميقا، وكسرت ولو كسرا خطيرا احتمل الألم من غير بحث عن علته أو نتائجه أو طرق مداواته؛ لأنه لا يزال ماديا في إدراكه أوليا في تفكيره.
أو لعل السبب أن الناس لا يؤمنون بأطباء النفوس إيمانهم بأطباء الأجسام، فهم لا يعتقدون في صلاحيتهم، ويشكون كل الشك في قدرتهم على علاجهم، فيستسلمون للمرض النفسي كما يستسلمون لمرض جسمي استحال شفاؤه ولم يستكشف دواؤه؛ إن كان هذا فعلى الطب النفسي أن يثبت قدرته ويبرهن على نجاحه حتى يقبل الناس عليه ويؤمنوا به.
وقد يكون السبب أن الناس يؤمنون بسهولة أمراض النفس وقدرتهم على علاجها والاشتفاء منها من غير طبيب، فما عليه إن كان حزينا إلا أن يضحك أو منقبضا إلا أن يتسلى؛ وهذا خطأ بين، فأمراض النفوس كأمراض الجسم فيها ما يداوى بحمية، وفيها ما يستعصي على الطبيب الماهر والخبير الحاذق. •••
لعلك تزعم أن هذه الناحية من طب النفوس لم تهمل بتاتا، فهناك المدارس للتهذيب، فيها إصلاح النفوس وفيها دروس الدين والأخلاق لمعالجة الأمراض، وهناك الوعاظ لإرشاد الناس وعلاج النفس، وهناك العرف والقوانين توجه الناس إلى الخير وتحذرهم من الشر، وفي ذلك تهذيب لنفسهم وإصلاح لجوانب الشر فيهم.
ولكن يظهر لي أنها كلها مع فائدتها لا تكفي؛ لأنها - من ناحية - تكون علاجا عاما يقال لكل الأشخاص، وتخاطب بها كل النفوس، كالطبيب يذكر ضرر الإفراط في الأكل، وأضرار كثرة التدخين، وفائدة الرياضة البدنية وفائدة الاعتدال في المأكل والمشرب، وهي قل أن تتعرض للأزمات النفسية الخاصة بكل نفس وما أحاط بها من ظروف خاصة، ونوع النفس وما يلزم لها من علاج خاص بها، وهي أقرب ما تكون إلى الوقاية لا إلى العلاج، وللاحتياط من الوقوع في المرض لا لعلاج المرض، فإن تعرضت لعلاج وصفت علاجا عاما للناس على السواء، إذ ليس في استطاعتها - غالبا - أكثر من ذلك.
ومن ناحية أخرى أكثر ما بأيدينا منها اليوم لم يؤسس على ما وصل إليه العلم الحديث، ولم يبن على ما استكشف من قوانين علم النفس على قلة ما استكشف منها؛ فالدراسة الحديثة أبانت عن اتجاهات كانت غامضة، وأخطاء كانت ترتكب في تصور النفس وإدراكها وجرائمها وطرق تهذيبها، ولا يزال علماء النفس يقرون بأنهم في أولى مراحلهم، ولم يقولوا في النفس إلا الكلمة الأولى، فكان من المعقول أن يساير التهذيب ودراسة الأخلاق وعلاج النفس ما وصل إليه علم النفس والاجتماع، كما يساير علم طب الأجسام ما يستكشف من مخترعات، فآلام الجراحة اليوم غيرها بالأمس، والمادة الطبية اليوم غيرها بالأمس وهكذا، ولكن ذلك لم يكن.
وربما مكان أقرب المناحي إلى طب النفس منحى الصوفية؛ فقد كان لكل مريد شيخه يفضي إليه بدخائل قلبه وأزمات نفسه، ووساوسه وخطراته وآلامه وتوجهاته، والشيخ يصف لكل مريد ما يراه أنسب له وأقرب لعلاجه، ويصف له طرقا يسلكها، واتجاهات يتجهها، وأورادا يتلوها، يرى أنها تشفي مرضه، وتبرئ نفسه، وله في كل مريد نظرته وفراسته، بها يشخص وبها يصف. ولكن تكاد تقتصر هذه الحالة بين المريد والشيخ على الأزمات الدينية. أما ما عدا ذلك من أزمات دنيوية واجتماعية، فقلما يتناولها المريد والشيخ. على أنه، من لكل مريد بهذا الشيخ الدقيق النظر، الصائب الفكر، الصادق الفراسة، الموفق في تبين المرض ومعرفة العلاج. •••
وإذا عدمنا مثل هذا «الشيخ» وحرمت مجتمعاتنا من نظم وافية شاملة للطب النفسي كالنظم الوافية الشاملة للطب الجسمي، فلا أقل من أن نوجه النظر إلى أن يعني كل شخص بناحيته النفسية عناية لا تقل عن عنايته الجسمية.
فضحايا أمراض النفوس كثيرون، وصرعى المرض لا يحصون، والالتفات إلى فتك هذا النوع من الأمراض ضعيف فاتر. فهناك صرعى الخوف من الموت ومن الفقر ومن الرؤساء، وهناك صرعى الشك في الدين وفي الحياة وقيمتها وفي كل ما يحيط بهم مما في الأرض وما في السماء، وهناك صرعى الحزن لا يسرهم شيء في الحياة ويودون أن يبكوا دائما ويسودون كل منظر يرونه، ويحزنون عندما يحزن الناس ويحزنون عندما يضحك الناس، فإذا عدموا أسباب الحزن خلقوها حتى من أعمق منابع السرور. وهكذا تتعدد الصرعى، كصرعى السل والسرطان وما إليهما. يبدأ فيهم مكروب النفس صغيرا، ثم ينمو شيئا فشيئا حتى يفترسهم، ثم من العجب ألا يتوجهوا قليلا ولا كثيرا إلى قتلها قبل أن تقتلهم، وهزيمتها قبل أن تهزمهم، كأنهم يظنون أن المرض فوق أن يعالج، والأمر أيأس من أن يفكر فيه. •••
لأمراض النفس أسباب عدة: من حالة صحية، وبيئة اجتماعية، وبذور ميكروبات تسربت إليها من كتب قرأتها، ومقالات طالعتها، وأحاديث سمعتها، ومناظر رأتها، إلى غير ذلك. ولعل أهم مرض نفسي يصيب طائفة المثقفين سببه أنهم لا يريدون أن يكونوا أنفسهم ويريدون أن يكونوا غيرهم.
لقد خلقت النفوس البشرية متشابهة في بعض جهاتها، مختلفة في بعض جهاتها، شأنها في ذلك شأن الوجوه؛ فكل وجه فيه عينان وأنف بين العينين وفم تحت الأنف وذقن تحت الفم، ولكن مع هذا الاشتراك، لكل إنسان وجهه الخاص به لا يشاركه فيه غيره. وكذلك النفوس تشترك في اللذة والألم، وتشترك في أهم منابع اللذة ومنابع الألم، وتشترك في الغرائز الأساسية وما إلى ذلك؛ ومع هذا فلكل إنسان نفسه الخاصة، لا يساويها في جميع وجوهها غيرها.
ومما ألاحظه أن نفس كل إنسان إن سارت على فطرتها، وعرفت أن تتغذى بما يناسبها، وطلبت لها مثلا أعلى يتفق وطبيعتها، عاشت في الأغلب راضية مطمئنة؛ فإن خالفت فطرتها وحاولت أن تكون غيرها، أظلمت وأصابها الحزن والقل والاضطراب، وفقدت سعادتها وهناءها واطمئنانها ورضاءها؛ ومحال أن تنال ما يخالف فطرتها ، كما هو محال أن يكون الوجه الأسود أبيض، أو الأبيض أسود، أو الطويل قصيرا، أو القصير طويلا.
يسعد الإنسان إذا عرف طبيعته وحدوده التي يستطيع أن يصل إليها ونوع الرقي الذي يمكن أن يبلغه، فإن حاول أن يكون غير ذلك كان في الحياة «ممثلا» لا يعيش عيشته الطبيعية؛ فهو فقير يمثل دور ملك، وصعلوك يمثل دور وزير، وطفل يمثل شيخا هرما، ورجل يمثل دور امرأة، ومحال أن يوائم نفسه الحقيقية والدور الذي يمثله إلا بمقدار ما يظهر على المسرح؛ فإن هو حاول أن يطيل ذلك بعد دوره فجزاؤه الهزؤ به، والسخرية منه، وقلق نفسه، واضطراب شأنه.
فأكثر أسباب اضطراب المثقف ناشئ من أنه غبي يريد أن يكون ذكيا، أو ميال بطبعه إلى العزلة والانكماش يريد أن يكون وجيها شهيرا، أو عالم يريد أن يكون أديبا، أو أديب يريد أن يكون عالما، أو صرح يريد أن يخادع ويمالق، أو خجل يريد أن يكون وقحا، أو متزن نواحي العقل يريد أن يكون نابغا شاذا ... إلخ. فهو يحاول ويحاول، ثم يخفق ويخفق؛ لأنه يكلف النفس ضد طباعها. وهذا الإخفاق يهز نفسه هزة عنيفة تسبب له القلق الروحي والاضطراب النفسي. هو بذلك يريد أن يكون إنسانا صناعيا وهو مخلوق إنسانا طبيعيا، فالتوفيق محال. فخير نصيحة لهذا وأمثاله أن تقول له: «كن نفسك، ولا تنشد إلا مثلك».
سلمان الفارسي
كانت الدول العظمى التي تجاور العرب، والتي لهم بها اتصال في عهد النبي
صلى الله عليه وسلم
ثلاثا: الحبشة، والرومان، والفرس، يتصل بها العرب في تجارتهم، وفي رحلاتهم، وفي حياتهم السياسية والاجتماعية، فإذا أوذي المسلمون في إسلامهم هاجروا إلى الحبشة، وإذا رحل تجارهم إلى الشام فقد اتصلوا بالرومان، وإذا اتصل عرب الحجاز بعرب اليمن، فقد اتصلوا بمملكة كسرى. وللفرس إمارة عربية تحتضنها، وهي إمارة المناذرة، وللرومان إمارة مثلها تحتضنها، وهي إمارة الغساسنة، ولكل من المناذرة والغساسنة اتصال وثيق بالحياة الأدبية والاجتماعية والسياسية للعرب عامة.
ومن العجيب أن نرى ثلاثة من عظماء الصحابة، كل ينتمي إلى أمة من هذه الأمم العظيمة، وكل له منزلة كبيرة في الإسلام، وكل له دور خطير في حياة المسلمين الأولى! هم: بلال الحبشي، وصهيب الروماني، وسلمان الفارسي.
فبلال كان غلاما حبشيا، أسمر شديد السمرة، نحيفا طويلا، وكان من المستضعفين فأعزه الإسلام، وكان للمسلمين الأولين بمنزلة الموسيقى للجيش، يؤذن لهم فيهيج مشاعرهم، ويجلجل بصوته بينهم فيملؤهم روعة وحنانا، وحماسة وقوة.
وأما صهيب الروماني، فكان أحمر شديد الحمرة، ليس بالطويل ولا بالقصير، وهو إلى القصر أقرب، يرتطن لسانه عجمة رومانية، تربى ناشئا في بلاد الروم، يتكلم بلسانهم ويعيش عيشتهم، ثم دفعت بع المقادير إلى مكة، فكان من أول الناس إسلاما، واصطحبه رسول الله في الغزوات، واختاره عمر عند موته ليصلي بالناس حتى يجتمعوا على خليفة.
وأما صاحبنا سلمان ففارسي، نشأ نشأة فارسية في قرية من قرى أصفهان، لم يشهد نشأة الإسلام في مكة كما شهدها بلال وصهيب، وإنما شهد النبي بعد هجرته إلى المدينة.
ولعل كلا من هؤلاء الثلاثة يمثل قومه ويصور جنسه؛ فبلال شديد التحمس لدينه في بساطة قلب، وهو إلى ذلك يجيد الرمي ويصيب الهدف، يعذبه أمية بن خلف الجمحي في بدء إسلامه، ويواليه بالعذاب والمكروه، فيحتفظ بلال بذلك في نفسه، حتى إذا جاء يوم بدر يرميه بلال بسهم فلا يخطئه ويميته، وهكذا الحبشة، بساطة وتحمس للعقيدة وإجادة للرمي.
وصهيب كان مسرفا في المال، وكان كذلك من أرمى الناس، وكان لطيفا حسن الدعابة، ظريف الفكاهة، وكذلك الرومان.
وكان سلمان يمثل النزعة الروحية الصوفية الزاهدة، كما كان شأن بعض الفرس في الإسلام.
وكان ثلاثتهم يعتزون بالإسلام. ولا يعتزون بغيره، فقد كانوا موالي ثم تحرروا، والعرب شديدو الفخر بعربيتهم، شديدو الاعتزاز بدمهم، شديدو التغني بحريتهم، شديدو الأنفة على غيرهم؛ فما كان لهؤلاء الموالي من غير العرب أن يفخروا بحبشية بينهم أو رومية أو فارسية، إنما يفاخرون بالإسلام وبالإسلام وحده، فهو الذي أهدر العصبية الجنسية، وأقام القيمة الذاتية، ورفع شأن القيمة الدينية؛ ولذلك كانوا يغضبون من هذه النعرة الجنسية ولا يحبونها، ويرون أن هذه العظمة القبلية لا تستحق البقاء، ويجب أن يقتل أهلها في غير هوادة؛ فقد رووا أن أبا سفيان مر على سلمان وصهيب وبلال في نفر، فقالوا: «ما أخذت سيوف الله من عنق عدو الله مأخذها»، فقال أبو بكر: «أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدهم؟»
عل كل حال، كان بلال الحبشي، وصهيب الروماني، وسلمان الفارسي، من أبرز الشخصيات الإسلامية وأكثرها دويا، ولكن كان من حسن حظنا وحظ سلمان أن كانت الدولة العباسية دولة فارسية في رجالها ونظامها ومؤرخيها؛ فكثير ممن دونوا العلم والتاريخ من أصل فارسي، فقدموا لنا صورة جميلة زاهية شعرية لسلمان. ولم يكن من المؤرخين الحبشي ولا الروماني الذي يقدم لنا مثل هذه الصورة لبلال أو صهيب، فكانت الصحف التي تروي لنا أحداث بلال وصهيب أقل جدا مما تروي لسلمان. •••
تمثل لنا هذه الصورة سلمان نشأ في بلدة من أصفهان في بيت غني، فكان أبوه دهقانا أي: رئيس إقليم، وكان سلمان من صنف أولئك الأفراد الذين ينشأون وبين جنوبهم عاطفة دينية قوية، يقودها عقل قوي باحث. وقد روى التاريخ لنا أمثلة كثيرة منهم، كإبراهيم بن أدهم، والغزالي.
ينشأ سلمان على دين وثني فيخلص له حتى يكون الموكل بالنار المقدسة يوقدها ولا يتركها، ثم يجيل عقله في هذا الدين فلا يرتضيه. ويبحث عن دين يعجبه فيهتدي إلى النصرانية، ولكن ليست النصرانية الشعبية، ولا النصرانية التي يحترفها رجال الدين، إنما هي النصرانية المتبتلة التي يخلص لها بعض أفراد قلائل من رجال الدين؛ فينقطعون عن العالم زهدا وورعا، ويتصلون بالله اتصالا وثيقا، ويبيعون له أنفسهم، فيتصل سلمان بأحدهم، ويتخرج على يده، ثم يلتحق بثان وثالث، كلما مات أحدهم استنصحه سلمان فيمن يتبعه من بعده. حتى إذا بلغته دعوة محمد اشتاق أن يراه، وأن يسمع منه، وأن يمتحن صدقه وإخلاصه. ولكن الشقة بين الشام ومدينة الرسول بعيدة كل البعد، عسيرة كل العسر، فيمر به قوم من كلب ذاهبون إلى الحجاز، فيسألهم أن يحملوه معهم نظير بقرات له وغنيمات فيفعلون. حتى إذا كانوا في بعض الطريق غدروا به وباعوه رقيقا ليهودي، فاتصل باليهود وعرف دينهم أيضا، فإذا هو على علم بالوثنية والنصرانية واليهودية، وتنقلت به أيدي اليهود، حتى وقع في يد رجل من يهود بني قريظة الذين يسكنون المدينة، فتم له ما أراد، واتصل بالنبي وامتحنه، فعرف صدقه فأسلم، وأعانه النبي
صلى الله عليه وسلم
على فك رقه فتحرر.
حتى إذا كانت السنة الخامسة للهجرة - وقد تجمعت الأحزاب على رسول الله، من قريش وقائدها أبو سفيان، وغطفان وقائدها عيينة بن حصن، ومعهم يهود المدينة - رأى المسلمون أن يحتموا منهم بضرب الخندق على المدينة. ولم يكن حفر الخندق من عادة العرب في حروبهم، ولكنه من مكايد الفرس، فروى المؤرخون أن الذي أشار به سلمان الفارسي.
ويخرج أميرا على جيش من جيوش المسلمين لغزو فارس في عهد عمر، فيحاصرون حصنا من حصون فارس، فيقول له المسلمون: ألا نقاتلهم يا أبا عبد الله؟ فيقول سلمان: دعوني حتى أدعوهم كما سمعت رسول الله يدعوهم. فيقول لهم: إنما أنا رجل منكم فارسي، ألا ترون العرب تطيعني؟ فإن أسلمتم فلكم مثل الذي لنا وعليكم مثل الذي علينا، وإن أبيتم إلا دينكم تركناكم عليه وأعطيتمونا الجزية عن يد وأنتم صاغرون. ويكلمهم بالفارسية فيقولون: لا نؤمن ولا نعطي الجزية. فيقول الجيش: ألا نقاتلهم؟ فيقول: لا. فيدعوهم ثلاثة أيام إلى مثل هذا، فإذا أصروا قاتلهم ففتحوا الحصن. •••
أظهر ما في صورة سلمان بعد ذلك شيئان: علمه وطريقة حياته. فأما علمه فهو مساير تمام المسايرة لما رووا من تاريخ حياته؛ فهو رجل تعمق في الوثنية حتى عرف أسرارها ووكل بشعائرها، ثم عرف النصرانية وأخذ عن رهبانها، وانقطع لدراستها وتطبيقها، وكان يتحرى المشهورين من رجالها فيرحل إليهم ويتصل بهم، ثم وقع في يد اليهود فرأى منهم كيف يعبدون وسمع منهم ما يروون، ثم أسلم واتصل أكبر اتصال بمنبع الإسلام في أزهر أيامه. فكيف لا يكون بعد عالما؟
وناحية أخرى من العلم وهو ما أتيح له في حياته، ولم يتح لأكثر الصحابة في عهد النبوة، تلك تطوافه في أعظم الممالك الممدنة قبل اتصاله برسول الله، فقد نشأ في فارس ورأى مدنيتها وخبر أهلها وورث دماءها، ثم رحل إلى الشام ورأى مدنية الرومان وعرف أحوالها، وتنقل - كما يقولون - بين الموصل ونصيبين وعمورية وغيرها. وكان إذ ذاك في سن ناضجة، فقد وصل إلى المدينة وأسلم وهو في نحو الخمسين من عمره.
هذه الدراسات الدينية المختلفة، وهذه التجارب الكثيرة المختلفة، تجعل منه - من غير شك - في جزيرة العرب شخصا ممتازا بالعلم.
لذلك روي عن علي بن أبي طالب أنه سئل عن سلمان. فقال: من لكم بمثل لقمان الحكيم؟ ذاك امرؤ منا أهل البيت، أدرك العلم الأول والعلم الآخر، وقرأ الكتاب الأول والكتاب الآخر.
أما نوع حياته فقد تبع طبيعة مزاجه الذي لازمه منذ نشأته، فاعتكف في الوثنية، وترهب في النصرانية، وتزهد في الإسلام. وهذه النزعة التي جعلته يحل مكانا بارزا بين رجال الصوفية.
لقد آخى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
بينه وبين أبي الدرداء، ولعل سبب الإخاء ما بينهما من تشابه في نزعة الزهد، ولكن أبا الدرداء غالى فرأى من الزهد أن يصوم نهاره ويقوم ليله، حتى تشكو منه امرأته، فيقول له سلمان: إن لأهلك عليك حقا، فصل ونم، وصم وأفطر. فيبلغ ذلك النبي
صلى الله عليه وسلم ، فيقر سلمان على قوله.
أما سلمان فيتزوج ويظن أن العرب قد أهدروا العصبية، فيخطب بنت عمر، ناسيا ولاءه وناسيا أن العادات لا يمكن أن تستأصل فجأة، فيأتي إليه قوم عمر يرجونه أن يعدل عن هذه الخطبة، فيعدل ويقول: والله ما حملني على هذا إمرته ولا سلطانه، ولكني قلت: رجل صالح عسى الله أن يخرج مني ومنه نسمة صالحة، ثم يتزوج في كندة، فإذا تزوج كره أن يفرش له، ويصيح في أهل زوجته: أتحولت الكعبة هنا أم هي حمى؟ ويسأله العرب على عادتهم في الصباح: كيف وجدت أهلك؟ فيرد عليهم: ما بال أحدكم يسأل عن الشيء قد وارته الأبواب والحيطان؟
كان - إذا - يتزوج ويعمل بما أوصى به أخاه أبا الدرداء من أن لبدنه حقا ولأهله حقا، ولكنه كأبي الدرداء لا يرى السعة في العيش، ولا الترف في الحياة، فكان شعاره دائما ما كان يكرره: «ليكن بلاغ أحدكم من الدنيا كزاد الراكب».
ويفتح على المسلمين ويخصص لكل منهم عطاء حسب الأسبقية في الإسلام، فيكون عطاء سلمان نحو أربعة آلاف درهم، فيخرج عنها ويعيش من عمل يده عيشة الكفاف.
ويؤمر على المدائن (كما يروي بعض المؤرخين)، فلا يحفل بإمارة ولا يحيطها بمظاهر الأبهة والعظمة والسلطان؛ بل يعيش كما كان، يخطب الناس في عباءة، ويخرج على جمار عري، وعليه قميص قصير، فيضحك من رآه ويشبهونه بلعبة، فيبلغه ذلك فيقول لمبلغه: دعهم فإنما الخير والشر فيما بعد اليوم.
ويكره الإمارة فيتركها ويقول: كرهني فيها حلاوة رضاعتها ومرارة فطامها.
ويسكن أبو الدرداء بيت المقدس ويتولى فيها القضاء، ويدعو أخاه سلمان إلى الأرض المقدسة، فيكتب إليه سلمان: إن الأرض لا تقدس أحدا، وإنما يقدس الإنسان عمله، وقد بلغني أنك جعلت طبيبا
1 ، فإن كنت تبرئ فنعما لك، وإن كنت متطببا فاحذر أن تقتل إنسانا فتدخل النار.
ويظل في المدائن حتى يموت بها سنة 35ه في آخر خلافة عثمان، ويزوره الأمير سعد بن مالك في مرض موته فيقول سلمان: أيها الأمير اذكر الله عند همك إذا هممت؛ وعند لسانك إذا حكمت، وعند يدك إذا قسمت، قم عني. ويطلب من زوجته وهو على فراش موته أن تأتيه بصرة من مسك كان قد ادخرها، فيأمر بها أن تداف وتجعل حول فراشه، وإذ ذاك يسلم روحه إلى خالقه.
سؤال وحيرة في جواب
بالأمس قابلني شاب أمريكي يحضر لشهادة عليا في إنجلترا، هو مثال الجد والإخلاص لعمله، ينتهز وجوده في مصر فيزور مكاتبها، ويلقى علماءها وأدباءها، ويجول في الشوارع يدرس ما تدل عليه ظواهر الناس ومعاملاتهم وسلوكهم من دلالات اجتماعية، ويسمع لغة العوام ويوازنها بلغة الخواص؛ وعلى الجملة يقضي أكثر وقته باحثا منقبا مستفيدا، لا يعبأ بحر جو ولا متاعب غربة.
وبعد كلمات التعارف المتعارفة، وجه إلي هذا السؤال:
ما هي النزعات الجديدة للإصلاح الاجتماعي في مصر ، وخاصة ما كان منها مؤسسا على الدين؟
سكت هنيهة أفكر، ومر في ذهني إذ ذاك جملة أشياء مرور «شريط السينما»، مر في ذهني «قاسم أمين» ودعوته إلى تحرير المرأة، ومر في ذهني «الجمعية الخيرية الإسلامية»، وما قامت به من تعليم فقراء، وإحسان إلى المحتاجين، وبناء مستشفاها الجديد، ومر بذهني الأزهر وما مر عليه من وجوه إصلاح، ومر بذهني الدعوة إلى النهوض بالفلاح، ومقدار ما لقيت من خيبة أو نجاح، ومر بذهني أخيرا إنشاء وزارة منذ أيام لإصلاح الشئون الاجتماعية.
ولكني لا أكتم القارئ أني شعرت بمرارة وانقباض شديدين، لعل سببهما أني أحسست نوعا من خيبة أمل مخزونة في نفسي، وأني كنت أؤمل أن يكون في أعمال قومي ما ينطلق به لساني، وينشرح له صدري.
إنا إلى الآن نمشي في الإصلاح الاجتماعي ببطء شديد جدا يكاد يكون عدما ونسير فيه ارتجالا، لا عن دراسة علمية عميقة، وإحصاآت دقيقة، ووضع برنامج واف شامل نعرف فيه الخطوة الأولى والخيرة وما بينهما.
قد كنت أفهم أن يكون لكل حزب سياسي عندنا برنامج اجتماعي بجانب برنامجه السياسي، وأن يكون هذا البرنامج الاجتماعي أعد إعدادا علميا دقيقا في وقت فراغ الحزب، فيكون له رأي في الفلاح وكيف ترقى معيشته اجتماعيا، وكيف يصل إلى كل فلاح ما يحتاجه من ماء نقي ونور نظيف ومسكن مريح، وما موقف الحزب في المرأة وإصلاح شئونها وحريتها وإلى أي حد، وفي العمال وترقية شئونهم والشباب العاطلين ومشاكلهم، وطلبة المدارس العليا واضطرابهم، ووجوه الإحسان وتنظيمها، ومشكلة الأوقاف وعلاجها، ونحو ذلك من مسائل لا عد لها؛ وكنت أفهم أن كل حزب يكون له في ذلك رأيا قاطعا مفصلا حازما يتقدم به عند الانتخاب، ويعمل به عند توليه الحكم.
ولكن - مع الأسف - لم يكن شيء من ذلك؛ وقد سئلت منذ مدة من مثل هذا الشاب الأمريكي عن أهم الأسس الاجتماعية والسياسية التي تميز كل حزب في مصر عن الأحزاب الأخرى، فلم أحر جوابا، وأحسست طعم المرارة والانقباض اللذين أحسهما الآن. •••
لقد لفت نظري في سؤاله ضغطه في حديثه على الإصلاحات الاجتماعية المؤسسة على الدين الإسلامي، وكان هذا الضغط أشد مرارة على نفسي؛ أني التفت فرأيت الإصلاحات التي عددتها من قبل على قلتها وضعفها ليس منها شيء أسس على الدين وقام به رجال الدين، إلا ما كان من الأستاذ الإمام في الجمعية الخيرية.
ليسمح لي رجال الدين أن أكلمهم في صراحة، وليتعودوا أن يسمعوا النقد المر في جرأة، فلا يكون إصلاح حتى تكون صراحة، وحتى تكون جرأة، وحتى نتبادل نحن وهم الشجاعة في القول، والإخلاص للحق؛ فليس شيء أحب إلي من أن أرى رجال الدين جديرين بأن يتزعموا حركة الإصلاح الاجتماعي بعقل واسع ودراية قوية؛ لأن الإصلاح الاجتماعي إذا جاء على أديهم كان له مزيتان كبيرتان: أولاهما: أنهم إذا تزعموا الحركة أمنا قوة المعارضة. وثانيتهما: أن الشعب المصري والشرق على العموم شعب متدين، يلبي الدعوة الدينية بأسرع وأقوى مما يلبي الدعوة المدنية، فإذا جاء الإصلاح الاجتماعي من رجال الدين كان الشعب أسرع قبولا، وأشد تحمسا، وأقوى إخلاصا؛ وقطع في سيره في سنة ما لم يقطعه في سنين.
ولكن لا يتم ذلك لرجال الدين حتى يأخذوا أنفسهم بتنفيذ برنامج شاق عسير ذي مراحل: منها أن يعلموا علوم الدنيا - بجانب علوم الدين - علما واسعا، فيكون لهم العلم الواسع بجغرافية البلاد وتاريخ الأمم، والطبيعة والكيمياء، حتى يستطيعوا إذا جلسوا مع المدنيين - إن صح هذا التعبير - أن يشعروهم بأنهم مساوون لهم في عقليتهم وتفكيرهم، ويزيدون عليهم في علمهم الديني ونزعتهم الروحانية. ومنها أن يفهموا الناس حتى يفهمهم الناس، ويؤقلموا أنفسهم حسب تطور الزمان، ويعرفوا شئون الدنيا كما يعرفون شئون الآخرة، ويعرفوا أحوال قومهم في دقيقها وجليلها كما يعرفون أحوال دينهم في دقيقها وجليلها، ويعرفوا نفسية الناس ونزعاتهم وتصرفاتهم حتى يحققوا ما في كتب بلاغتهم من أن لكل مقام مقالا.
عند ذلك تتكسر الحواجز القائمة الآن في مصر والشرق، بين رجال الدين ورجال الدنيا، وتحس كل طائفة أنها جزء في جسم واحد متفاهمة متعاونة.
إني أشعر - مع الأسف - أن علماء الدنيا في مصر والشرق ينظرون إلى علماء الدين نظرتهم إلى رجال القرون الوسطى، أو نظرتهم إلى الآثار القديمة وتحف «العاديات»، وعلماء الدين ينظرون إلى علماء الدنيا نظرتهم إلى المارق من دينه، المجنون بأوروبا وعظمتها، الغافل عن مدنية المسلمين الأولين، المضيع لقوميته، المغرور بالقشر دون اللباب؛ وفي هذه الأنظار ضرر كبير على الأمة، وتمزيق لشملها وتفريق لوحدتها، وتعديد لعقليتها.
ولا يتم هذا الإصلاح في تكسير الحواجز إلا بما أشرت إليه وإلا باتحاد التعليم الابتدائي والثانوي لكل أفراد المتعلمين على السواء، وأن يكون التخصص في الدين كالتخصص في الرياضة والطب، لا يأتي إلا بعد المرحلة الثانية من التعليم الثانوي، فإن أراد رجال الدين أن يحتاطوا من قبل لمن يعدونهم في الدين، فليكن بزيادة المعلومات لا بنقصها.
وإذ ذاك - بعد كسر هذه الحواجز، والتقريب بين رجال الدين ورجال الدنيا، وعلماء الدين وعلماء الدنيا، وفهم بعضهم لبعض، وإجلال بعضهم لبعض - يستطيع رجال الدين أن يتزعموا الحركة الإصلاحية الاجتماعية، وأن يضعوا برنامجا اجتماعيا مؤسسا على الدين.
وإذ ذاك أيضا يكون مجال الإصلاح الاجتماعي الديني أمامهم فسيحا؛ فأمامهم تنظيم الإحسان، وقد وضع أساسه الإسلام، وأمامهم إصلاح الوقف، وفي إصلاحه تخفيف لكثير من الويلات، وأمامهم إصلاح الأسر بما وضع أساسه القرآن، وأمامهم تقويم المرأة وقد سارت وراء المرأة الأوروبية في زينتها ومباهجها، وليس في جدها وثقافتها، وأمامهم وضع خطط محكمة لتثقيف النشء والمتعلمين والأميين ثقافة دينية عصرية تستخدم وسائل التربية الحديثة وأساليب المدنية الحديثة، إلى كثير من أمثال ذلك.
وليس هذا عليهم ببعيد، فقد قطع هذا الشوط كثير من رجال الدين المسيحي في أوروبا وأمريكا، وكان لهم في شئون الإصلاح الاجتماعي ونشر الثقافة الدينية مجال فسيح، وأثر عظيم. •••
أرجو أن يتقبل رجال الدين هذا النقد بصدر رحب، وأن يستزيدوا منه، وأن تقوم أمة منهم تجهر بمثل هذه الآراء في الإصلاح والدعوة إلى تحقيق هذه الآمال، وأن يوقنوا أن لا باعث له إلا حب الخير لهم وللناس.
كما أرجو أن يكون ذلك قريبا جدا، حتى إذا سألني مثل هذا السائل أنطقتني أعمالهم، وانطلق لساني في عد مآثرهم، ووجوه إصلاحهم. والله يوفقهم.
الهدم والبناء
إذا نحن أردنا أن نلخص تاريخ الإنسان منذ نشأته إلى اليوم وإلى الغد في كلمة، قلنا: إن كل أعماله تنحصر في الهدم والبناء، وإذا نحن أردنا مقياسا بسيطا سهلا نقيس به الأفراد والأمم فما علينا إلا أن نجمع عمل الفرد أو الأمة في البناء ونطرح منه عملهما في الهدم فباقي الطرح هو مقياسهما. وإذا أردنا أن نوازن بين شخصين أو أمتين نظرنا إلى مقدار باقي الطرح في كليهما فما زاد فهو أرقى، وإذا أحببنا الدقة في التقدير لم نكتف بتقدير الكمية في البناء والهدم، بل حسبنا في ذلك نوع ما يبنى وما يهدم، فإن قيم البناء وقيم الهدم تختلف اختلافا كبيرا بحسب نوعهما وصفاتهما وكيفيتهما، كالذي نفعله في البناء الحسي، فلسنا نقدر البناء بحجمه ومساحته فقط، بل نقدره كذلك بنوع هندسته وما إلى ذلك من أمور لا تخفى.
وقد أكثر الكتاب من القول في البناء. فالوعاظ الدينيون ورجال الأخلاق المصلحون ونحوهم إنما يتكلمون في البناء ويحذرون من الهدم، فلنأخذ نحن الآن جانب الهدم فننيره، فكثيرا ما يكون الهدم مقدمة البناء؛ بل ربما كان خير بناء ما سبقه الهدم التام.
فيمكننا أن نقول: إن الرذائل الخلقية من كذب وظلم، والجرائم القانونية من قتل وسرقة؛ لم تعد رذائل ولا جرائم إلا لأنها هدم، إما هدم لمرتكب الرذيلة والجريمة، وإما هدم للمعتدى عليه، وإما هدم لبناء المجتمع. ونحن إذا نظرنا للرذائل والجرائم من حيث هي هدم، أفادنا هذا النظر فائدة جديدة في تقويم الرذائل والجرائم، فما كان منها أشد هدما كان أكبر جرما؛ ولذلك كان القتل أفظع من السرقة؛ لأن القتل يهدم النفس والسرقة تهدم الملكية، وقد يؤدي بنا هذا النظر إلى تعديل في قائمة الرذائل والجرائم؛ فهل من المعقول مع هذا النظر أن تعد الحكومة مجرمة إذا حصلت من الأهالي مالا لا تستحقه، ولا تعد مجرمة إذا لم تمد قرية بالماء الصحي مع علمها أنها تشرب سما زعافا يقضي على عدد كثير من الأرواح ويذهب في سبيله كثير من الضحايا؟ - ليس هذا من المعقول في شيء؛ لأننا إن أقررنا عملها قومنا حق الملكية بأكثر من حق الحياة، وعددنا هدم الملكية مقدما على هدم النفوس؛ وليس ذلك بحق، وأمثلة ذلك كثيرة.
بل إن هذا النظر يعدل رأينا في العقوبة، فالعمل الذي يهدم أمة أشد مما يهدم شخصا، والذي يعرض النظام أشد مما يعرض ملكية الفرد للخطر، والذي يسرق لأنه جائع؛ ولأنه يريد أن يبني لنفسه بجزء مما يهدم ملكية غيره أقل خطرا ممن يسرق لداعي الطمع والشره، فيريد أن يزيد ثروته لهدم ثروة غيره، وهكذا.
وعلى كل حال فمن الممكن أن نقول: إن الجرائم في الأمة هي عمليات من عمليات الهدم وليست كل هدم.
فلنترك الآن الجرائم والعقوبات لرجال القانون؛ ولننظر لأعمال الهدم الأخرى في المجتمعات.
فهناك هدم مادي لكل أمة يجتاح مقدارا كبيرا من ثروتها، فحوادث الحريق حوادث هدم، والأمة التي لا تحتاط لها تترك أعمال الهدم والتخريب في ساحتها، وكذلك كل أعمال القوى الطبيعية العنيفة الهادمة كالسيل والفيضان العالي والصواعق والرياح والعواصف. وكلما كانت الأمة أرقى كانت أكثر احتياطا وتوفيقا في منع أعمال الهدم الطبيعية وتوقيها.
وهناك هدم سلبي ليس أقل خطرا من الهدم الإيجابي، وأعني بالهدم السلبي عدم الإنتاج مع القدرة عليه، فالأمة التي تترك أرضا واسعة من أراضيها بورا قائمة بعمل الهدم السلبي، ومثل ذلك ما إذا كان لديها مناجم لا تستغلها أو قوى طبيعية لتوليد الكهرباء لا تستخدمها أو نحو ذلك؛ فكل هذه أعمال هدم سلبية لا فرق في الضرر والأضرار بينها وبين الهدم الإيجابي.
ومن هذا القبيل أن يكون في الأمة قوى كثيرة لا تنتج، فالعاطلون في الأمة قوة للهدم سلبية؛ لأنهم يأكلون ولا يعملون، ويستهلكون ولا ينتجون، ويأخذون ولا يعوضون - وأمثال هؤلاء الأغنياء الذي لا يعملون والذين يصرفون أوقاتهم في الكسل والخمر والميسر، فهؤلاء - من غير شك - هدامون لا بناءون مهما كانت ثروتهم.
والمرضى في كل أمة قوة هادمة، بقطع النظر عما إذا كانوا معذورين في مرضهم أو ليسوا معذورين، فهذا شيء آخر غير الحقيقة الثابتة وهو أنهم هدامون. نعم إن بعض المرضى قد مرضوا اختيارا بتصرفاتهم من إفراط في (الكيوف) أو إهمال لقوانين الصحة، فهؤلاء هدامون مجرمون معا، ومنهم من مرض رغم أنفه كمن أدركته الشيخوخة، أو مرض مرضا لم يكن في وسعه أن يتجنبه، فهؤلاء هدامون لا مجرمون.
إن كان ذلك كذلك فما بالك بقوم صناعتهم في الأمة الهدم والتخريب، كتجار المخدرات والمحرضين على الفجور، فهؤلاء وأمثالهم هدمهم وتخريبهم مضاعف، هم يخربون أنفسهم وغيرهم، هم مدرسة سيئة تخرج الهدامين وتسلحهم.
فإذا نحن ارتقينا من الماديات إلى المعنويات رأينا الأمر على هذا المنوال.
فمن طرق الهدم أن تكون النظم الاجتماعية في أمة مضيعة لكفايات أفرادها؛ كأن تعطي المناصب لذوي الحسب والنسب، أو ذوي الملق والمداهنة، أو نحو ذلك، ثم تنحي عنها ذوي الكفايات ممن ليس لهم سلاح إلا علمهم وخلقهم؛ فهذا - من غير شك - عمل من أعمال التخريب المزدوج؛ لأن من شغلوا هذه المناصب لا يمكنهم أن ينتجوا لعجزهم الطبيعي؛ ولأن من أبعدوا عنها لا يمكنهم أن ينتجوا وقد حيل بينهم وبين الإنتاج.
ومن هذا القبيل ألا يكون للتعليم في الأمة ضابط، فلا إحصاء ولا توجيه، ولا دراسة لحاجات الأمة ومقدار انتفاعها بأنواع التعليم المختلفة. فالأمة التي يكثر فيها دراسو القانون كثرة تزيد عن الحاجة، ويقل فيها الزارعون والصانعون وهي إليهم في أشد الحاجة، أمة مخربة، والأمة التي لا تسمح نظمها باكتشاف ذوي الاستعدادات الممتازة فيها وتزويدهم بما يحقق نبوغهم واستغلال نبوغهم في خيرها، أمة مخربة، وهكذا.
وكذلك من أعمال الهدم في الأمة أن تسود فيها أنواع من الآداب والفنون تحطم الغرائز وتميت الشخصية، وتبيد الحيوية. فالآداب والفنون التي تنفث اليأس وتبعث على الانتحار أو الرعب، أو التي تثير الشهوات إلى أقصى حدودها حتى إذا انغمس فيها الإنسان لم يعد يصلح لعمل، أو التي تدفع إلى الحب المائع والأخلاق المنحلة، كلها آداب وفنون مخربة، هي معاول للهدم لا أدوات للبناء ، وقل مثل ذلك في روايات السينما والتمثيل وأنواع الجرائد والمجلات التي من هذا القبيل.
فإن شئت مثالا أوضح من هذا كله في أعمال الهدم فانظر إلى (العداوات) وما تجره من تخريب، وأعني بها العداوات بين الأفراد والأسر، والعداوات بين الطوائف والأحزاب، والعداوات بين الأمم، فأكثر هذه العداوات ليس لها غرض صحيح ترمي إليه؛ وترتقي العداوات صعدا حتى تأتي بأفظع أنواع التخريب، تخريب في النفوس وفي الأموال وفي الأخلاق وفي الحضارة. فكم جرت العداوة بين الأفراد والأسر من سفك دماء وضياع أموال وضياع زمن في الانتقام، وضياع زمن المحامي في إحضار الدفاع والمرافعة، وضياع زمن القضاة في قراءة الملفات وسماع المرافعات وتحضير الأحكام؛ فكل من في المحكمة من خصوم وكتبة ومحامين وقضاة إنما يشتغلون في الهدم، فإن أحسنت الظن قلت: إن هدمهم في الحاضر يحفظ البناء في المستقبل.
وكم جرت عداوة الطوائف والأحزاب من ويلات وخراب، فكم كانت العداوات الدينية سببا لخراب ممالك وخراب حضارات، وكم عاق حرب الأحزاب الأمم من البناء، فوجه كل حزب همه لهدم الحزب الآخر، وكم انصرفت الجهود الجبارة في عرقلة الحزب الآخر ولو أردت بالأمة، وكم كانت هذه الجهود تأتي بخير بناء لو وجهت كلها لخير الأمة.
فإذا نحن وصلنا إلى العداوة بين الأمم - إلى الحرب - فهناك الطامة الكبرى والتخريب الفظيع والموت المبيد والفناء الذريع. وقل ما شئت من الأوصاف المرعبة والنعوت المفزعة، فحسبك أن تقرأ ما قام به العلماء من إحصاء لما سببته حرب سنة 1914 من خسارة في النفس والأموال والأخلاق لتدرك صدق ما أقول.
بل إني لا أشك إن هذا الإحصاء ناقص؛ لأنهم يكتفون في الإحصاء بالخسارة الواقعة فعلا، فما بالك لو أحصوا ما يحصل من الضرائب لتصرف في شئون الحرب حتى في أوقات السلم، وما يصرف من وقت الجند في الاستعداد، وتفكير رجال السياسة وأشياعهم في الاحتياط للحرب، وما يصيب الناس من فزع كلما ساءت الحالة الدولية، إلى كثير من أمثال ذلك. أليس كل هذا من أعمال الهدم والتخريب في العالم؟
قد يقولون : إنك تنظر في كل ما قلت إلى جانب واحد من جوانب المسألة، فتنظر إلى جانب الهدم في العداوات ولا تنظر إلى جانب البناء، فكم أفادت العداوة الشخصية، فحفزت النفوس، وشحذت العقول، وكم أفادت العداوات الحزبية من دراسات للمسائل وإظهار لعيوب السياسة وتوجيه الآخذين بزمام الحكم إلى وجهة صالحة، وكم أفادت الحروب من إذكاء روح الوطنية والمنافسة بين الأمم في التقدم، والمنافسة بين العلماء في الاختراع، إلى غير ذلك!
ولكني أقول: إني لم أنس كل هذا، ولكن السؤال الصحيح هو: هل ما بنت أكثر مما هدمت؟ وهل هذا البناء الذي بنت لا يمكن أن يتحقق إلا بهذه الوسائل الجهنمية؟ إن التاجر لا يكتفي بحساب ما دخل في مخازنه من السلع، بل لا بد أن يحسب ما أنفق في سبيلها من الثمن. وأظن، بل أؤكد، أن الثمن الذي ننفقه في هذه العداوات أكثر مما نربح، وما نهدم لها أكثر مما نبني، خصوصا إذا آمنا بأن العقل البشري لم يعلن إفلاسه في إيجاد طرق شريفة للتنافس بين الأفراد والأحزاب والأمم، فنبني البناء الكثير بلا هدم أو بهدم قليل. وإلا فخبرني بربك: أي شيء في الوجود يساوي إفناء الملايين من الأرواح، وبث الفزع الهائل من حين إلى حين بين نفوس البشر، وتقطيع أكباد الأحياء حزنا على من فقدوا من أبنائهم وأزواجهم، وما أصيبوا به في نفوسهم وأموالهم؟ أظن أن كل ما يطنطنون به من مخترعات - على فرض أنها لا تنتج إلا هذه الويلات - لا تساوي الدماء المسفوكة، والأنفس الكسيرة، والقلوب المحزونة.
محمد الرسول المصلح
كم من عظماء الرجال زالت عظمتهم أو قلت قيمتهم بمرور الزمان عليهم، وتنبه الناس تنبها صحيحا لأعمالهم، ووزنهم بموازين عصرهم. ولكن محمدا
صلى الله عليه وسلم
ظلت قيمته قيمته، وعظمته عظمته، مهما اختلفت العصور، وتغيرت الموازين؛ بل إن الزمن ليزيد عظمته وضوحا، والموازين الأخلاقية الجديدة تزيد مكانته رفعة.
وكم حاول خصومه في مختلف العصور أن ينتقصوا من قدره بشتى الأساليب، ومختلف الأكاذيب، فنالوا من أنفسهم ولم ينالوا منه، وحرموا لذة الحق وبقي الحق.
وكم لمحمد من نواحي عظمة ومظاهر سمو، ولكن لعل أروعها جميعا ما جاء به من دعوة، وما قام به من إصلاح.
لقد نشأ في جو خانق، وبيئة مضطربة فاسدة، وحالة اجتماعية تبعث اليأس؛ فجعل من الشر خيرا، ومن الاضطراب أمنا، ومن الفساد صلاحا؛ فالعرب قد وهبت نفسها للأصنام، وجعلت البيت الحرام - الذي بني ليعبد الله فيه - مباءة لثلاثة مئة حجر أو تزيد، تعبدها من دون الله. ومن تنصر منهم أو تهود كان قد تنصر أو تهود بنصرانية أو يهودية فقدت روحها، وتقسمتها المذاهب والشيع، ودخل على تعاليمها الأولى كثير من البدع، فلم تنجح فيهم يهودية ولا نصرانية، والحنفاء الذين ظهروا قبيل الإسلام كان صوتهم ضعيفا خافتا، عجزوا - كما عجزت اليهودية والنصرانية - أن يغيروا شيئا من حياة العرب وعقلية العرب. ثم كانت حياتهم سلسلة سلب ونهب، كل قبيلة وحدة، بل كل فرع قبيلة وحدة، وكل قبيلة في عداء مع من جاورها، لا أمن على الحياة، ولا أمن على المال، لا يفقهون معنى «أمة»، ولا يفهمون معنى لحياة سياسية أو مدنية، ولا يعرفون معنى لعلم أو فن؟ فلو أنت قلت: إن أحدا من الأنبياء والمصلحين لم يجد من اختلال أمته وفسادها ما وجد محمد من العرب، وإن أحدا منهم لم ينجح في إصلاح أمته ما نجح محمد في إصلاح العرب وغير العرب، ما عدوت الصواب.
ففي عشرين عاما استطاع بتأييد الله أن يغير كل هذه الفوضى، وأن يغير كل هذه المظاهر، وفوق ذلك أن يغير هذا الروح، فجعل من القبائل وأشباه القبائل أمة عربية واحدة، ورد الأصنام إلى أماكنها في الأرض، وساوى بينها وبين أخواتها من الحجارة، وحول عبادتهم إلى إله واحد فوق الأرض وفوق السماء، وفوق المادة كلها، هو وحده الصمد «لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد»، فرفع من نفوسهم المرتبطة بالحجارة، والمتصلة بالأرض، لتحلق فوق السماء، ولتنظر إلى العالم كله نظرة سامية عميقة، ولتحتقر عرض الدنيا في سبيل نصرة الحق.
وجد نصف العرب (وهو المرأة) ضعيفا فقواه، مسلوب الحق فرد إليه حقه، فهي كالرجل في العبادات، وهي كالرجل في المعاملات، ولها كالرجل كل الحقوق المدنية، فأكمل بذلك ترقية النصف الآخر وجعلها أقدر على إصلاح الجيل الجديد بما نالت من حرية جديدة.
آمن الرجال والنساء بتعاليم الإسلام الجديدة يعتنقونها ويذودون عنها، ويرون واجبا عليهم نشرها وتضحية النفس والمال في سبيلها، تحمسوا للدين، ولكن لا كما يتحمس الرهبان في الصوامع، إذ هجروا دنياهم لدينهم، بل لم يمنعهم إخلاصهم لدينهم من تحسين دنياهم، فهم يدينون ولا ينسون نصيبهم من الدنيا، يتاجرون ويصلون، ويملكون المال ويزكون، ويعملون للدنيا كأنهم يعيشون أبدا، ويعملون للآخرة كأنهم يموتون غدا، يبلغون الذروة في عالم الروح، ويبلغون الذروة في عالم المادة؛ ففي عالم المادة إن حاربوا الفرس والروم غلبوهم وأزالوا ملكهم، وفي عالم الروح إن سابقوا الأمم الأخرى في روحانيتهم سبقوهم، فلا وثنية ولا عبادة لصور، ولا عبادة لكائن، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ولا إله إلا الله. •••
لئن فاخر المصلحون بتعاليمهم وبدعوتهم فمحمد
صلى الله عليه وسلم
يحق له أن يفاخر بذلك كله وبالنتائج العملية التي وصل إليها، فليس رسم الخطط وحده كافيا في التباهي، إنما المباهاة الحقة في التنفيذ والنجاح في التنفيذ، وإلا فكل رجل فوق المستوى المألوف يستطيع أن يحلم بعالم خير من هذا العالم، ويرسم لهذا العالم السعيد صورة الخلابة البديعة. ولكن المصلح الحق من يضع الخطط الملائمة للحاضر والمستقبل، ثم يضع الخطط الصالحة لتنفيذ ذلك كله، ثم يصل من ذلك كله إلى الغاية. ولقد أظهر النبي (محمد) في ذلك البراعة الفائقة، فلم يكن حالما، ولكنه فكر ثم وصل ثم عمل.
كم أجهد نفسه في التفكير وأجهد روحه في البحث، وكانت عزلته في غار حراء وسيلة تفكيره. وفيم كان يفكر ويطيل تفكيره؟ في سوء ما عليه العالم، وفي سوء ما يعتقد العرب وغير العرب، وفي سوء الحالة الاجتماعية في العالم الذي رآه في جزيرة العرب، وفي العالم الذي رآه في الشام. قد يكون هذا الفساد واضحا، ولكن ما هو الحق وأين الحق؟ كان هذا هو زمن التفكير ونوع التفكير، ثم اهتدى وكان الوحي إيذانا بالهداية.
ثم كان له بعد ذلك من الله قوة في التنفيذ لا تبارى، يدعو إلى الحق ولا يحيد، ويعذب من أجل الدعوة، فينال العذاب من جسمه ولا ينال من نفسه، فهو يضرب وهو يرمى بالحجارة وهو يسيل دمه، ولكن العذاب مع ذلك كله يزيد في دعوته قوة وفي نفسه عزيمة.
ثم هو لا ييأس أبدا. فإذا أخفقت خطة وضع خطة، فإذا لم تنجح خطة الطائف فليدع غير الطائف من الأوس والخزرج حتى يكتب له النجاح.
ثم هو شجاع في كل ما تتطلبه الدعوة؛ تتوالى عليه الحداث وهو مطمئن، ويتفرق عنه أهله فلا يجزع، وتبدو عليه طلائع الهزيمة في وقعة أحد، وتكسر رباعيته ويشج في وجهه وتكلم شفته ويسيل الدم على خده، وينكشف المسلمون ويصيب فيهم العدو، ويقتل عمه حمزة، وهو هو في ثباته، وهو هو في إيمانه، وهو هو في أمله، جميع الفؤاد رابط الجأش.
فلما أن أمكنه الله من عدوه لم يذكر دمه، ولم يذكر أفاعيل خصومه، ولم يذكر قتالهم لأهله وأصحابه، إنما ذكر دعوته وذكر خير السبل في الوصول إلى تحقيقها، وذكر ما يجب أن يفعل لإنجاحها؛ فلما فتح مكة كان همه أن يدخل الكعبة ومعه بلال فيؤذن فيها ويكسر الأصنام ويقول: «جاء الحق وزهق الباطل» وهذا هو ما يذكره. أما الناس فليسوا موضع نقمته، وخير أن يستجلبهم لدعوته بعفوه، فيقول: «يا معشر قريش ما ترون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيرا، أخ كريم وابن أخ كريم. قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء»، فأسرهم بعفوه، وجعل منهم إلى قوة فعالة في سبيل دعوته؛ وهكذا لم نجد مثلا يجمع بين القوة والرحمة، والصلابة والمغفرة، والإصرار واعتدال المازج كما رأينا في هذه الفعال. •••
تعاليمه الإصلاحية إلهية خالدة. أما شخصه فإنسان يخضع لكل قوانين الإنسان من شباب وشيخوخة وموت وغير ذلك.
وسبب خلود تعاليمه أنها إنسانية عامة، لم تخضع في جوهرها وأسسها الأولى لظروف الزمان ولا ظروف المكان ، فلم ينظر فيها إلى العرب وحدهم، ولا إلى الروم وحدهم، ولا إلى الناس في زمنه، إنما نظر فيها إلى الإنسان من حيث هو إنسان، فبقيت ما بقي الإنسان، ولم يفرق فيها بين عربي وغير عربي، ولم يتميز فيها غني عن فقير، ولا أبيض البشرة عن أسودها، ولا طبقة في الشعوب عن طبقة، ولا شرقي عن غربي، ولم يكن فيها نعرة جنسية، ولا نغمة أرستقراطية، ولكن فيها أن الإنسان أخو الإنسان، والأبيض أخو الأسود، والرجل أخو المرأة، والغني أخو الفقير، والملك أخو الرعية. وكانت كل رسالته وكل أقواله ترمي إلى غاية واحدة: ألا يفر الإنسان من هذا العالم بالعزلة، ولكن يكون قوة فعالة لاستئصال الشر وفعل الخير، وتمام الانسجام بينه وبين من يعيش معهم، وتحقيق العدل والإحسان له ولهم، وأن يعيش لخير نفسه وخير من معه وخير العالم؛ يجب أن تكسر الحدود الجغرافية والحدود الصناعية والفوارق الجنسية، وأن يعيش العالم وحدة تحكمه قوانين عادلة، وتسوده تعاليم حقة، ويعتنق أهله عقائد صحيحة أساسها كلها الخير العام للإنسانية؛ وهي إن اختلفت في الفروع بحسب الأقاليم وبحسب البيئة الطبيعية والاجتماعية، فلن تختلف في الأصول التي تربط الإنسان بالله خير رباط، وتربط الإنسان بالإنسان خير رباط، وتخضع العقل مجردا عن التخريف والتضليل، ولحكم العواطف سليمة صحيحة قوية.
فأي شيء من هذه التعاليم لا يبقى ما بقي الإنسان؟ بل أي شيء من هذه التعاليم لا تعلو قيمته كلما علا الإنسان في قيمته ورقي في إدراكه؟
لقد كان كل نبي قبله يحمل مصباحا لقومه، فجاء محمد يحمل مصباحا للعالم.
آمن محمد بالأنبياء جميعا، وبرسالتهم جميعا، وبإصلاحهم جميعا، ودعا من يؤمن به أن يؤمن بهم، وعلم أن الحق في كل زمان واحد، قد دعا إليه كل نبي قبله، وأنه داع دعوتهم، مرسل بمثل رسالتهم، مطهر لما لحق تعاليمهم من الشوائب، مصلح لما أدخله الأتباع من الفساد، متقدم في رسالته تقدم الزمان في عقليته، مبعوث إلى الكافة، مرسل إلى العالمين.
مدرسة المروءة
طلب إلي أخي الدكتور طه أن أضع له مشروعا لمدرسة المروءة، أبين فيه اختصاصها ومنهاجها وتبعيتها إلخ. ولا بد أن أنزل على حكمه؛ لأني دعوته فأجاب بل كثيرا ما يجيب من غير أن أدعوه، وكثيرا ما يلاحقني في مقالاتي واقتراحاتي، فإهمال دعوته إذا جريرة لا تغتفر؛ ولأن الموضوع في ذاته جد خطير، فلو ظفرنا بهذه المدرسة لأخرجت كما قال لنا: رجالا يرتفعون عن الصغائر كلها أشد الارتفاع، ويتنزهون عن النقائص كلها أعظم التنزه» وأي شيء في الوجود أنبل من هذه الغاية، وأجدر منها بالقول؟
ولكن هذا التكليف شاق عسير، صادفتني فيه عقبات جمة أسرد لك بعضها: أولها - ما المروءة التي نريد أن ننشئ لها مدرسة! لقد تعب الناس قديما وحديثا في تحديد معناها، فلم يصلوا فيه إلى قول حاسم، وهي في كل عقل بمعنى، فقد عرفها بعض اللغويين بأنها «كمال الرجولة»، ولكني لم أرتض هذا التعريف؛ لأنه يريد أن يقصر المروءة على الرجل، ومعاذ الله أن أوافقه على ذلك بعد أن أصبحت المرأة تخيفنا في كل ما نقول، فإذا لم نقل ما يرضيها غضبت، وويل لنا إذا غضبت. وهناك آنسة وقفت لي بالمرصاد، فكلما تحدثت حديثا في الراديو، أو كتبت مقالا في مجلة، كتبت إلي تعنفني على اقتصاري على جانب الرجل، أو الاكتفاء بضمائر الرجل، أو استعمال جمع المذكر السالم دون جمع المؤنث السالم، بل ولم ترض مني بجمع التكسير الذي يشمل الرجل والمرأة على السواء؛ فكيف لو ارتضيت هذا التعريف في المروءة، وهو يقول: إنه كمال الرجولة ولم يقل: كمال الأنوثة، مع أن كمال الأنوثة مروءة ككمال الرجولة؟ وكأن صاحب «لسان العرب» خاف خوفي فأسرع، وقال: إن «المروءة هي الإنسانية»، فأرضى الرجل والمرأة ونجا بجلده.
وكتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري: «خذ الناس بالعربية، فإنه يزيد في العقل ويثبت المروءة»، وسئل آخر عن المروءة فقال: «ألا تفعل في السر ما تستحيي منه في العلانية». وقال عبد الله بن عمر: «إنا معشر قريش لا نعد الحلم والجود سؤددا، ونعد العفاف وإصلاح المال مروءة»، وروى العتبي عن أبيه أنه قال: «لا تتم مروءة الرجل إلا بخمس: أن يكون عالما صادقا عاقلا ذا بيان مستغنيا عن الناس».
ولو عددت كل ما قيل في تعريفها لضاق المجال؛ وأنت أعلم به مني، فأي الأقوال نختار، وأي الآراء نؤسس عليه بناء المدرسة؟
ولكن هذا الإشكال يمكن حله بأن نأخذ كل هذه التعاريف وغيرها، ونمزجها وننخلها ونجعل خلاصة تكون برنامجنا؛ وسنصل في النهاية - فيما نظن - إلى تعريف أنها «كمال الإنسانية».
ثم وقعت في مشكلة أخرى؛ ذلك أني رأيت في التاريخ حادثة خطيرة حدثت للمروءة، وهي أن أهلها كلهم ماتوا في زمن من الأزمان، وأقامت المروءة عليهم الحداد، ولبست السواد، وأخذت تندبهم وتولول عليهم، ومر بها شاعر وهي على هذا الحال فقال:
مررت على المروءة وهي تبكي
فقلت علام تنتحب الفتاة؟
فقالت كيف لا أبكي وأهلي
جميعا دون خلق الله ماتوا؟
فقلت: إذا كان أهل المروءة جميعا قد ماتوا فكيف ننشئ مدرسة، ومن أين نأتي بالمدرسين؟ فإنهم إذا كانوا من أهل المروءة فقد كذبت المروءة في أنهم جميعا ماتوا، والكذب ينافي المروءة، وإذا لم يكونوا من أهل المروءة فكيف يخلقون ذوي المروءات، والشيء لا يخلق من لا شيء؟ وإخواننا الأزهريون يقولون: «فاقد الشيء لا يعطيه»؛ وبعد جهد جهيد تغلبت على هذه المشكلة بأن المروءة لم تكذب، وإنما كذب الشاعر؛ فهو لم ير المروءة بعينيه، ولم يحدثها وتحدثه، بدليل أن شاعرا آخر مثله وقبله قال:
إن السماحة والمروءة والندى
في قبة ضربت على ابن الحشرج
ثم مات ابن الحشرج وسقطت قبته على من فيها، ومع ذلك بقيت المروءة حتى لقيها الشاعر الثاني فيما يزعم.
إذا فالمروءة بحمد الله موجودة لم يمت أهلها كلهم ولم تنتحب عليهم، فنستطيع أن نجد لها معلمين من أهلها. •••
ثم أود قبل كل شيء، وبعد كل شيء، أن تبعد من ذهنك الفكرة الشائعة في المدرسة من أنها بناء ذو حجرات ومقاعد، وحصص وأجراس، وناظر ومفتش وفراش؛ فقد أصبح هذا (الطقم) كله ثقيلا بغيضا، أخشى أن ينفر المروءة فتنتحب ثانية ، وقد بذلنا غير المعقول في استرضائها وعودتها إلى الحياة.
إنما أريدها مدرسة من صنف آخر، على حد تعبيرنا أن «مجلة الثقافة» مدرسة، وعلى حد تعبير إخواننا المستشرقين مدرسة الشافعية ومدرسة الحنفية، أي: دراسات المذهب الشافعي والمذهب الحنفي، وكقولهم: مدرسة المعتزلة ومدرسة الشيعة، وهو تعبير طريف أظرف ما فيه أنه ينجينا من كل مشاكل المدارس الأميرية والحرة، وينجينا من وزارة المعارف بكل قيودها.
أريدها مدرسة لها حدود أربعة هي بعينها حدود القطر المصري شرقا وغربا وشمالا وجنوبا.
ولكن تأتي بعد ذلك مشكلة أعنف: كيف آتي بالمدرسين لكل هذا العدد، وقد عجزت وزارة المعارف أن تأتي بمدرسين يسدون حاجتها، مع أن عدد تلاميذ مدارسها لا يبلغ عشر معشار الأمة، ومع أن لها العدد الوفير من مدارس معلمين ومعلمات ومعاهد تربية للبنين والبنات، وغير ذلك مما لا يعلمه إلا الله ووزارة المعارف؟
خطر لي خاطر جريء لست أدري أترتضيه أم لا ترتضيه!
خلاصة هذا الخاطر تنبني على نظرية بسيطة، وهي أنه إذا صلح الرئيس صلح المرءوس؛ وقياسا على هذه القاعدة إذا كان الرئيس ذا مروءة أصبح المرءوس ذا مروءة! وبناء على ذلك أشكل لجنة صغيرة من ذوي المروءات وأمنحهم اختصاصا واسعا جدا لا تقف في سبيله وزارة المالية بقوانينها وقيودها التي تكتف كل حركة، وأمنح هذه اللجنة الإرادة التي لا حد لها في العزل والإحالة على المعاش، وأجعلها تستقصي أحوال كل رؤساء المصالح والدواوين، وكل المديرين والمأمورين، وكل العمد ومشايخ البلاد؛ فمن ثبت لها أنه أخل بالمروءة عزلته من غير هوادة، وأحلت محله من عرف بالمروءة، ونبهت اللجنة إلى أن مقياس الكفاية للرياسة ليس العلم، ولا الذكاء، ولا الشهادة، ولا المحسوبية، ولا الحسب ولا النسب، ولكن المروءة؛ فإذا اجتمع علم ومروءة، أو ذكاء ومروءة فذاك، وإلا فالمروءة أولا والمروءة وحدها.
إن فعلنا ذلك قلد المرءوسون الرئيس في المروءة، وقلد المأمورين المديرين، وقلد العمد ومشايخ البلد المأمورين، وقلد الفلاحون العمد والمشايخ، وسرت في البلاد كلها من أقصاها إلى أقصاها نوبة تسمى «نوبة المروءة»، وبذلك أجعل من الرؤساء معلمين للمروءة يعلمون بالمثل لا بمجرد القول.
ثم أجعل للجنة المروءة هذه اختصاصا واسعا في نشر ثقافة المروءة؛ فأحاديث تدوي في الراديو تصل إلى كل أذن تشيد بأعمال المروءة، وروايات تمثل أعمال المروءة، وكتب تؤلف في لغة سهلة عذبة في سير المروءات.
وشيء آخر لا بد منه، وهو تكوين رأي عام يتطلب المروءة ويقدرها ويقومها ويكون شديد الحس بها؛ فهو يجل من أتى بأعمال المروءة ومن اتصف بها، وهو يحتقر أشد الاحتقار من حاد عنها وارتكب ما يخل بشرفها، مهما كان غنيا، ومهما كان وجيها، ومهما كان ذا سلطان، لا كرأينا العام الذي لا يعبأ بالمروءة كما يعبأ بالمنصب، والذي لا يعبأ بالنبل كما يعبأ بالمال، والذي إن احتقر أعمال اللؤم، ففي سره وفي خاصته، ثم هو حريص كل الحرص على ألا يشعر باحتقاره اللئيم المجرم، ولا أن يصل إلى سمعه شيء من أقواله في احتقاره، فهو يبطن الكره ويظهر الحب، ويبطن الاحتقار ويظهر الإجلال.
ولأعد سريعا إلى المرأة خوفا من الآنسة؛ فماذا يكون شأن المرأة في هذا البرنامج؟ في هذه المسألة قولان - قول يقول: إذا مرؤ الرجل مرؤت المرأة؛ فإذا أعددنا برنامجا لمروءة الرجل، استتبع ذلك مروءة المرأة؛ ولكن المرأة ترفض هذا القول بتاتا، وترى أنه ماس بكرامتها، وتصر على أنه إذا مرؤت المرأة مرؤ الرجل؛ لأنها هي التي ترضع الجيل الجديد المروءة؛ ولأنها لا ترضى أن تكون تبعا، فهذه عقلية القرون الوسطى.
إن كان ذلك كذلك، فلنترك برنامج مروءة المرأة للمرأة تضعه هي ما دامت لا تقبل قول الرجل، فذلك أقرب إلى العدل. •••
إن تم ذلك - يا أخي - امحى من مصر كل ما تشكو منه من صداقة تستغل الصديق ولا تفي للصديق، وتقابل جميلا بنكران، وإحسانا بإساءة، وامحى من الوجود رئيس يتخذ الرياسة وسيلة لإرضاء شهوته، ويستطيل على الناس بجبروته وسطوته، ورأيتهم وكأنهم أنشئوا خلقا آخر : يتبارون في المروءة، ويفخرون بأعمال المروءة. والحكومة ترقيهم حسب ما أتوا من أعمال المروءة، وما ظهر منهم من نبل وشرف وكرم نفس ومروءة. ونحن إن لم نصل إلى هذا كله دفعة واحدة، ففي بعضه رضى لي ورضى لك. وحسبنا أن يسير الناس إلى الغاية، وإن لم يبلغوا الغاية. •••
تسألني بعد ذلك: لمن نتبعها؟ ألوزارة الشئون الاجتماعية؟ أم لوزارة المعارف العمومية، وأظنك بعد أن تقرأ إجابتي لا ترى معنى لهذا السؤال، فلقد جعلت وزارة المعارف ووزارة الشئون الاجتماعية وغيرهما من الوزارات تبعا لمدرستي، فكيف أتبع مدرستي لإحداهما وأنت تعلم أن الدور في الفلسفة محال؟
هذا - يا أخي - ما خطر لي اليوم في اقتراحك، وهو كما ترى مملوء بالأشواك. فإن ظهر لي جديد، اتبعت خطة وزارة المعارف في تعديل المناهج. والسلام.
جناية الأدب الجاهلي أو نقد الأدب العربي
1
كان الأدب الجاهلي صورة صادقة لحياة العرب في جاهليتهم؛ فحياة الجاهلي - غالبا - حياة ظعن ورحيل؛ لذلك بدأ شعره بالوقوف على الطلال وبكاء الدمن، وكان يرحل على ناقته؛ فهو يصف رحلته ويصف ناقته، ومن كان من الشعراء بدويا خشن العيش وصف عيشته الخشنة بألفاظ خشنة، ومن كان حضريا مترفا وصف عيشته المترفة بألفاظه الناعمة. موضوعات شعرهم هي موضوعات حياتهم من فخر وهجاء، وغزل ورثاء، ومن نزل منهم منزلا ذكر اسمه وتغنى به، فمنازل نجد للنجديين، ومنازل تهامة للتهاميين، ومن استمتع بالخزامى والعرار تغنى بالخزامى والعرار، ومن صاد الوعل وصف صيده للوعل؛ يلتزمون الحقائق، ويصدقون التشبيه والوصف؛ يجيدون وصف الشيء أكثر مما يجيدون وصف الحالة، فإذا وصفوا أسدا أو ناقة أو غادة أجادوا، ولكنهم إذا وصفوا حالة نفسية لحبيب، أو حالة لجيشين متقاتلين، أو فقر قوم وبؤسهم، لم يبلغوا في ذلك مبلغهم من وصف الشيء؛ لأن وصف الشيء الخارجي أبسط وأيسر من وصف الحالة المعنوية أو الحالة النفسية، فهذه تتطلب رقيا عقليا، وقدرة على التحليل النفسي لم يصلوا إليهما.
وكانت أوزان شعرهم هي وحي نفوسهم، منسجمة مع غنائهم مؤتلفة مع آذانهم. •••
ثم جاءت الدولة الأموية، وكان الأدب فيها صادقا صدق الأدب الجاهلي؛ لأن كثيرا من شعرائها لم تكن حياتهم إلا امتدادا للحياة الجاهلية، وكان الذوق فيها ذوقا عربيا يشبه الذوق الجاهلي إلا بما لطفته المدنية، فموضوعات الحياة هي موضوعات الحياة الجاهلية، إن كان ثم خلاف فهو أن الهجاء القبلي تحول إلى هجاء سياسي، والحياة الخشنة تحولت عند كثير من العرب إلى حياة نعيم تشبه حياة امرئ القيس في جاهليته، ونغمات الشعر الموسيقية التي كانت تلذ الأمويين هي التي كانت تلذ الجاهليين.
نعم إن الإسلام كان له أثر كبير في حياة الناس، ولكن كان له أكبر الأثر في أوساط الشعب ورجال العلم ورجال الأعمال وأقله في الشعراء.
فلا عجب أن يأتي الشعر الأموي مصبوغا بالصبغة الجاهلية في الأوزان والقوافي والموضوعات والروح.
إنما العجب أن يأتي الشعر العباسي على هذا النمط، وكثير من الشعراء فرس، والحياة حياة فارسية في أكثر ألوانها، والحالة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية مخالفة كل المخالفة للحياة الجاهلية والأموية!
لقد كان من مقتضى هذا التغيير أن يأتي الشعر العباسي صورة صادقة لهذه الحياة الجديدة، ولكن لم يكن كبير شيء من ذلك، وعلماء الأدب يجهدون أنفسهم في بيان المميزات الجديدة للعصر العباسي، فلا يأتون إلا بأشياء لا أراها إلا سطحية ليست في الصميم، كالتنميق وكثرة الاستعارات والتشبيهات والإكثار من البديع وورود الألفاظ الأعجمية والتعبيرات العلمية، والإكثار من الخمر والغزل في المذكر ونحو ذلك، وهي في نظري ليست من الجوهر في شيء؛ إنما جوهر التغير أن يعدلوا أوزان الشعر بما يتفق ورقي آذانهم الموسيقية، وأن يصفوا أحوال عصرهم الاجتماعية والسياسية وصفا صادقا مستفيضا، وأن يصفوا ترفهم وبؤسهم وصفا تحليليا صادقا، وأن يتغنوا بأماكنهم وطبيعة بلادهم، وان يصفوا مشاعرهم هم لا مشاعر غيرهم، وأن يفتحوا الفتوح في الأدب حتى يكون سجلا لأفكارهم ومشاعرهم الحقة، كما كان الشعر الجاهلي سجلا لأفكار الجاهليين ومشاعرهم الحقة وهكذا، وهذا الضرب لا نعثر منه في العصر العباسي إلا على القليل النادر.
أهم سبب في هذا - عندي - جناية الأدب الجاهلي عليهم.
لقد وجد في العصر العباسي لأول عهده معسكران: معسكر يدعو إلى القديم وعدم الحيدة عنه، ومعسكر يدعو إلى التجديد وعدم التقليد؛ فكان زعماء المعسكر الأول أمثال الأصمعي، وأبي عمرو بن العلاء، وابن الأعرابي، وكان هؤلاء رواة أكثر منهم أدباء، وكانوا علماء لغة أكثر منهم نقدة أدب؛ فغلب عليهم بطبيعة ثقافتهم أن يتعصبوا للقديم وخاصة الشعر الجاهلي، وكان أبو عمرو بن العلاء يرفض الاحتجاج حتى يشعر الأمويين، ولا يقر بفضل للمحدثين: ويقول عن المحدثين: «ما كان عندهم من حسن فقد سبقوا إليه، وما كان من قبيح فهو من عندهم». وربما أعجبه شعر جرير أو الفرزدق فيقول: «لقد حسن شعر هذا المولد حتى هممت أن آمر صبياننا بروايته».
وقرأ رجل على ابن الأعرابي أرجوزة لأبي تمام على أنها لبعض الهذليين فقال: اكتب لي هذه. فكتبها ثم قال له: إنها لأبي تمام فقال: «خرق خرق» ومثل هذا كثير.
وأما المعسكر الثاني فكان يدعو إلى استحسان الحسن القديم كان أو لمحدث، واستقباح القبيح لقديم كان أو لمحدث، وكان من هؤلاء أبو نواس، فقد نادى: بألا يحق للشاعر أن يتغزل بليلى ولا هند إذا كنت محبوبته ليست ليلى ولا هند، فيقول:
لا تبك ليلى ولا تطرب إلى هند
واشرب على الورد من حمراء كالورد
ولا يحق له أن يبكي الأطلال ويقف على الديار فيقول:
لا جف دمع الذي يبكي على حجر
ولا صفا قلب من يصبو إلى وتد
ويقول - وما أحسن ما يقول:
تصف الطلول على السماع لها
أفذو العيان كأنت في الفهم
وإذا وصفت الشيء متبعا
لم يخل من زلل ومن وهم
ولكن هذه الحرب انتهت مع الأسف بنصرة الدعاة إلى القديم. والسبب في ذلك أنهم كانوا أكثر بالخلفاء اتصالا، وأكثر أتباعا وأشياعا، وأنهم من مكرهم صبغوا دعوتهم صبغة دينية، فقالوا: إن الشعر الجاهلي هو أحد المصادر في تفسير القرآن، وعليه نعتمد في شرح المفردات وبيان الأساليب. وفاتهم أن الاحتفاظ بالشعر الجاهلي لهذه الأغراض لا ينافي مسايرة الأدب للزمان والمكان.
على كل حال نجحت دعوتهم، وأخفتوا صوت مخالفهم ، وساد في هذا العصر تقديس الشعر الجاهلي وكل شيء جاهلي. وقد عجب الجاحظ عجبي هذا في كتاب «الحيوان»، فقد ذكر أن غالب بن صعصعة كان أكرم من حاتم، ولكنه لم يشتهر شهرته؛ لأن غالبا كان إسلاميا وحاتما كان جاهليا «والناس بمآثر العرب في الجاهلية أشد كلفا»، وتعجب فقال: «ما بال أيام الإسلام ورجالها لم تكن أكبر في النفوس وأجل في الصدور من رجال الجاهلية مع عظم ما ملك المسلمون وجادت به أنفسهم!»
ومهما اختلفت الأسباب فقد كانت هذه هي النتيجة: غلبة الأدب الجاهلي، وسطوته، وتقييد الأدب العربي بكل القيود التي قيد بها الأدب الجاهلي، ولعلني لا أجد أوضح تعبيرا عن ذلك من ابن قتيبة، مع أنه كان يزعم أنه من المجددين، إذ يقول: «ليس لمتأخر الشعراء أن يخرج عن مذهب المتقدمين، فيقف على منزل عامر أو يبكي عند مشيد البنيان؛ لأن المتقدمين وقفوا على المنزل الداثر والرسم العافي، أو يرحل على حمار أو بغل ويصفهما؛ لأن المتقدمين رحلوا على الناقة والبعير، أو يرد على المياه العذاب الجارية؛ لأن المتقدمين وردوا على الأواجن الطوامي، أو يقطع إلى الممدوح منابت النرجس والآس والورد؛ لأن المتقدمين جروا على قطع منابت الشيح والعرار».
اللهم إن هذه دعوة لم يفسد الأدب مثلها، فهو وأمثاله يطلبون إذا ركب الشاعر طيارة أن يتغزل في الناقة، وإذا شم وردا أن يتغزل في العرار، وإذا سكن قصرا أن يتغزل في الأطلال، وإذا عشق ثريا أن يتغزل في هند. فأين إذا صدق العاطفة وصدق الوصف، وأين حرية الأديب، وأين دعوى أن الأدب سجل الحياة؟ •••
مما يؤسف له أن هذه الدعوة السخيفة لقيت نجاحا كبيرا وشلت الأدب العربي شللا فظيعا في العصور كلها إلى اليوم.
فقد هاجم هؤلاء الجامدون كل من حدثته نفسه بتجديد، فإذا خرج أبو نواس عن المألوف، ودعا إلى عدم البكاء على المدن والوقوف على الديار، هاجموه وسبوه، إلى ان اضطروه في مديحه للخلفاء أن يعدل عن رأيه، ويقف على الديار ويصف ناقته حتى يصل إلى ممدوحه.
وإذا انحرف أيو تمام عن المألوف قليلا بابتكار بعض المعاني والتعمق فيها والتحليق بها في الخيال، قالوا: «إنه خرج على عمود الشعر»، وفضلوا البحتري عليه؛ لأنه ألصق بهذا العمود، حتى قضوا قضاء على كل تجديد.
كان من أثر دعوتهم هذه انعدام حركة التجديد في الشعر، وعدم ملاءمته لروح العصر، وانحباسه في قوالب تقليدية لا يتعداها؛ حتى أصبح الناس والشعراء يلوون عقولهم ويلوون أذواقهم، ليستحسنوا الشعر ويتذوقوه، كما يلوي الشرقي ذوقه ليتذوق الموسيقى الأوروبية، وحتى أصبحت عيون الناس والشعراء في أقفيتهم لا في وجوههم، ينظرون إلى الخلف ولا ينظرون إلى الأمام، إذا ذكر لهم بيت من الشعر الجاهلي تهيئوا للإعجاب به قبل أن يسمعوه، وأعجبوا به بعد أن يسمعوه؛ وقد يكون في ذاته سخيف المعنى رديء اللفظ. ولكن ملك التقديس الجاهلي عليهم أنفسهم وأذواقهم، فاستحسنوا القبيح وأعجبوا بالسخيف، وكان مثلهم مثل هاوي السجاد، يفضل الفتلة البالية من السجادة القديمة المهلهلة على كل سجادة جديدة، وإن كانت أجمل وأنفع وأصلح!
وعبادة القدم - دائما - تفسد الذوق، وتقلب الوضع، وتفسد التقدير؛ فهم يعجبون جدا بقول امرئ القيس: «تقول وقد مال الغبيط بنا معا»، ويفضلونه على كل شيء في هذا المعنى، ويستلطفون قوله: «خطبة مسحنفرة وطعنة مثعنجرة» على وصف كل خطبة وطعنة، وهكذا وهكذا مما لا عد له.
أليس في الإعجاب بهذه المعاني وهذه الألفاظ إفساد للذوق وإهدار للعقل؟ •••
لقد كان لانتصار هذا الرأي المحافظ الشديد المحافظة أسوأ الأثر في الشعر من نواح متعددة، من حيث الشكل ومن حيث الموضوع، لا يسع المقام إلا أن أذكر طرفا قليلا منها.
فمن ناحية الشكل قيد الشعر بقيود الوزن والقافية كما رسمها الشعر الجاهلي؛ فالبحور الجاهلية هي البحور التي سار عليها الشعر العربي كله إلى الآن إلا أشياء قليلة، وكذلك القافية، مع أن البحور ليست إلا أوزانا، والأوزان ليست إلا موسيقى، والموسيقى تختلف باختلاف العصور؛ فكما أن الغناء الجاهلي لا يناسبنا، فكذلك يجب أن تكون الأوزان والقافية مسايرة للزمن، وأن تحكم كل أمة عربية أذنها الموسسيقية في الوزان الشعرية التي تناسبها، والتي لا تناسبها، سواء وافق ذلك الوزان الجاهلية وقوافيها أو خالفها، أما أن نخضع آذاننا للأوزان الجاهلية والقافية الجاهلية فحسب، فنوع من السجن لا يليق بأمة راقية تتحرر من القيود الثقيلة، وقد جنى هذا القيد علينا جنايات كبرى تتصل بالموضوع؛ فالتقيد بالقافية حرمنا من الملاحم الطويلة التي كانت عند الأمم الأخرى، وحرمنا من القصص الطويلة الممتعة؛ لأن اللغة مهما غنيت بالمترادفات لا تستطيع أن تقدم للشاعر مئات الكلمات على روي واحد وعلى حرف واحد، خصوصا بعد أن قيدوا الشاعر أيضا بألا يعيد الكلمة الواحدة إلا على مسافات بعيدة.
وكان لهذا القيد ضرر آخر لا يقل عن هذا خطرا، وهو تحكم الألفاظ في المعاني؛ فالشاعر في كثير من الحيان يبحث عن لفظ القافية - أولا - ثم يبحث عن المعنى الذي يناسب القافية، وهذا قلب للأوضاع مفسد للأدب؛ لأن الواجب أن يتبع اللفظ المعنى لا المعنى اللفظ.
وأما من حيث الموضوع، فكانت مصيبتنا فيه أعظم؛ لأن تقديسنا للأدب الجاهلي حصر الشعر العربي في نفس الموضوعات التي صيغ فيها الشعر الجاهلي، من مديح وهجاء، وفخر وحماسة، وغزل ورثاء؛ ولم يمس الشعراء عواطفهم الحقيقة ولا حالتهم الاجتماعية إلا مسا رقيقا. وإلا فخبرني: أين الشعر العراقي الذي تجد فيه الشعراء يتغنون بمناظر العراق الطبيعية، ويصفون فيه أحداثهم الاجتماعية؟ وأين الشعر الشامي أو المصري أو الأندلسي الذي يشيد بذكر مناظر الطبيعة وأحوال الاجتماع للشام ومصر والأندلس؟ إنك تقرأ الشعر العربي، فلا تعرف إن كان هذا الشعر المصري أو عراقي أو شامي إلا من ترجمة حياة الشاعر، أما القالب كله فشيء واحد، والموضوع كله واحد، مديح أو رثاء أو هجاء أو نحو ذلك مما قاله الجاهليون.
أليس عجيبا أن يفتح المسلمون بلاد الدنيا ثم لا يقول الشعراء في ذلك شيئا يذكر؟ أو ليس عجيبا أن يكتسح التتار العالم الإسلامي، ثم لا يقولون في ذلك أيضا شيئا له قيمة؟ ثم تأتي الحروب الصليبية، وتكون عجبا من العجب، وتستمر السنين تلو السنين، وتكون ملعبا للعواطف، وتتوالى فيها الأحداث تذيب القلوب وتصهر النفوس، ثم يتحول أكثر ما قيل فيها إلى مدح الملوك الفاتحين أو المنتصرين، ولا يقال إلا القليل في المعنى السامي المجرد عن الأشخاص؟ وكل ما يلتمس من التعليل الصحيح أن يقال: إن الجاهليين لم يقولوا شعرا في هذه المعاني فلم يقل في ذلك من بعدهم!
أليس من السخرية ومما يستوجب الحسرة والأسى أن يترك الشعراء هذه المواقف كلها وأمثالها مما يقع سمعهم وبصرهم، فلا يحركهم إلا «قفا نبك» و«مال الغبيط»، فإن جددوا في شيء فأن يكون الممدوح سيف الدولة بدل الغساسنة، وأن يكون المادح المتنبي بدل الأعشى؟
لا. لا. اللهم إن هذا منكر لا يرضيك. وهذه جناية قتلت الأدب العربي ووقفته أكثر من ألف سنة حيث كان، والزمن سائر والعالم متغير!
هل في ذوقنا الآن أن نبدأ الشعر في حادثة اجتماعية بالغزل؟ وهل في ذوقنا نحن الآن أن نملأ الشعر بأماكن البادية ومياه البادية وجبال البادية وأودية البادية؟ وهل في ذوقنا نحن الآن أن نتغنى برائحة العرار والخزامي، وأن نرعى الشيح والقيصوم؟ لا شيء من ذلك، ولكنه التقليد المخجل والحرية المفقودة.
أليس مما يستوجب الهزؤ والسخرية أن يكون تقسيم البارودي للشعر في القرن العشرين هو تقسيم أبي تمام للشعر في القرن الثالث؟!
أوليس مضحكا أن يترك الشعراء العراقيون والمصريون والشاميون بلادهم وأنهارهم ويتغزلوا في نجد وغير نجد؟ فابن الدمينة يقول: «ألا يا صبا نجد متى هجت من نجد»
وابن الخياط يقول: «أهيم إلى ماء ببرقة عاقل»
وصردر يقول: «النجاء النجاء من أرض نجد»
ومهيار الديلمي الفارسي يقول:
تظن ليالينا عودا
على العهد من برقتى ثهمدا
إلى آخره، إلى آخره. •••
لقد آن لنا أن نفك هذه الأغلال كما نفك قيود الاستعمار سواء بسواء؛ لأن الأدب الجاهلي يستعمر عقلنا وذوقنا، فيشلنا شلل الاستعمار.
وآن لنا أن يكون شعر كل أمة عربية، وأدب كل أمة عربية، صدى لشعورها وسجلا لأحداثها وتغنيا بعواطفها وتوقيعا على موسيقاها، وآن لنا أن يكون موضوع الشعر خلجات نفوسنا وتمجيد طبيعتنا، وتاريخ ما يحدث بين أيدينا.
وهذا لا يكون إلا بتغيير نظرتنا إلى الأدب، وتغيير برنامجنا في الأدب، والتحرر من ربقة الشعر الجاهلي، وسيطرة الشعر الجاهلي.
وبعد فهذا موضوع من الخطر بمكان، لعل المفكرين والقراء يطيلون فيه التفكير، ويطيلون فيه الكتابة، حتى نصل فيه إلى الكلمة الأخيرة.
2
قدس الناس الأدب الجاهلي تقديسا أكبر مما يستحق، وذلك بفضل جماعة من العلماء ظهروا في آخر الدولة الأموية وأول الدولة العباسية، يجمعون مفردات اللغة وأساليبها وأدبها؛ وكان عملهم هذا يستحق الإعجاب والتقدير! ولكن ما لا يستحق الإعجاب ولا التقدير أنهم رفعوا من شأن الأدب الجاهلي، وفضلوه على كل أدب لمحدث أو مولد، وأنهم وقفوا في وجه كل مجدد، وأنهم أرادوا أن ينطبع الأدب العربي بالطابع الجاهلي لا غيره، فكان لهم - مع الأسف - ما أرادوا.
رفعوا من قيمة كل شيء جاهلي وغلوا في تقديره؛ فالماء الحقير في مستنقع جاهلي أفضل من الذكر من دجلة والفرات والنيل وكل أنهار الدنيا، والجرادتان اللتان غنتا النعمان كان صوتهما وغناؤهما خيرا من كل صوت وغناء، ودوسر كتيبة النعمان بن المنذر أقوى جيش عرفه التاريخ، وأيام العرب في الجاهلية ووقائعها الحربية لا يعادلها أي يوم من أيام المسلمين، وجبلا طيئ خير جبال الدنيا، وحاتم الطائي لا يساوي كرمه كرم، حتى الرذائل لا يصح أن يساوى برذيلتهم رذيلة. فليس أبخل من مادر، ولا أشأم من البسوس، ولا أسرق من شظاظ!
كل هذا طبع الأدب العربي على غرار الأدب الجاهلي في كثير من شئونه مع اختلاف البيئات، ومع اختلاف العصور!
كان غزل الأدب الجاهلي حزينا بائسا؛ لأن أرض الجاهليين بائسة فقيرة؛ ولأن سكانها كثيرو الرحلات وفي تنقل مستمر، والآباء يستنكرون من اجتماع الحبيبين؛ فما بال الغزل العباسي وغير العباسي حزينا بائسا، والخير وفير، والحبيب قريب؟ بل ما بال الغزل في الإماء حزينا بائسا والأمة في اليد ولا يستنكف مالكوها من حب ووصال؟
وكان أدباء الجاهلية يفتتحون قصائدهم بالنسيب إذا أرادوا مدحا أو أرادوا هجاء أو أرادوا أي غرض؛ لأن هذا يتفق وذوقهم؛ فما بال الأدب الذي أتى بعد ينحو هذا المنحى وقد تغيرت الظروف؟ وما بال الشاعر العباسي يقصد إلى الممدوح التركي أو الفارسي فيتغزل بدعد ويهيم بدعد، في أبيات طوال حتى يصل إلى الممدوح وقد أضناه التعب؟
وكان الشاعر الجاهلي يقطع الفيافي والقفار على ظهور الإبل، فيصف عناءه، ويصف طريقه الوعر، ويصف هزال ناقته، وهو في ذلك صادق كل الصدق؛ ولكن ما شأن مسلم بن الوليد وأبي نواس وأبي تمام والبحتري، والممدوح في بغداد والمادح في بغداد، والشاعر يسير على رجله خطوات ليصل إلى الممدوح فلماذا يحشر في الوسط ناقة وبيداء ونحو ذلك؟
وكان الشاعر الجاهلي يخرج للبادية، ويصعد الجبال ويهبط الوديان، ويصيد الوحش، ويرى المها والغزلان، وعيون المها وجيد الغزلان، فيشتق تشبيهاته مما يرى ومما يحس ويلمس؛ ولكن أين المها في بغداد أما علي بن الجهم حين يقول: «عيون المها بين الرصافة والجسر»
وأين المها والوعل في مصر والأندلس، حتى امتلأ بذلك كله شعر مصر والأندلس؟
وكان الشاعر يرحل في صحبه، فإذا وقف على دار محبوبته استوقف أصحابه يعينونه على البكاء؛ وقد حدث لأمر ما أن قال «امرؤ القيس» الجاهلي: «قفا نبك» بصيغة التثنية، وكان في هذا صادقا؟ فما بال «حافظ إبراهيم» في مصر، ولا دار ولا أطلال ولا صحب، يقول في مدح الشيخ محمد عبده:
بكرا صاحبي يوم الإياب
وقفا بي في عين الشمس قفا بي
ويطول بي القول لو أخذت في تعداد هذه الأشياء التي لا علة لها إلا سلطان الأدب الجاهلي على الأدب العربي.
ولعل هذا كان من الأسباب التي جعلتهم يقولون: «إن أجود الشعر أكذبه» أفليس كل هذا كذبا في كذب؟ •••
وناحية أخرى لها خطورتها، وهي أن العربي الجاهلي انتزع صور تعبيراته وتشبيهاته ومجازاته واستعاراته من بيئته التي يعيش فيها، فكانت صورا صادقة وتعبيرات صحيحة وابتكارات موفقة. ثم لما أتى من بعدهم تأثر بهم ودرج على أثرهم، ولم يلحظ الفرق بينه وبينهم، وانعدام الصدق في قوله دون قولهم.
كان العربي يعتمد على الإبل في معيشته، فاشتق منها ومما يحيط بها ومن طرق معيشتها كثيرا من أدبه، فقال: «ألقى حبله على غاربه» و«أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب
1 »، وقال: «الصيف ضيعت اللبن» وقال: «أخذ الشيء برمته
2 » و«ليس في العير ولا في النفير» و«دون ذلك خرط القتاد» إلخ إلخ. فما لأدبائنا وطلبتنا وهم لا يعيشون عيشة الإبل، يستعملون هذه التعبيرات كلها، وهي بالنسبة لهم ليست تعبيرا صادقا، أو على الأقل لا يضيفون إليها التعبيرات المشتقة من حياتهم؟
وكان العربي في الجاهلية يعيش عيشة اجتماعية خاصة، عمادها اللبن والتمر والجزور، ونباتها الشيح والقيصوم، وحيواناتها الضب وما إليه، وعلاقة بعضهم ببعض علاقة ارتباط بالدم في القبيلة وعلاقة عداء مع غير القبيلة؛ فكان من ذلك كله أدبهم وتعبيرهم وفخرهم وهجاؤهم، ثم تغير ذلك كله؛ تغيرت معيشة الأمم وحيوانها ونباتها، وحلت الأمة محل القبيلة، كما حلت الحضارة محل البداوة. أفلا يكون من الحق أن يكون أدب كل أمة صورة صادقة لها؟
كان العربي يقول في المرأة: كأنها ظبي من ظباء عسفان، ورئم من آرام وجرة، ومهاة من مها الصريم، وجؤذر من جآذر جاسم؛ أفيحق لنا أن نقول هذا في تشبيه المرأة المتحضرة؟
وكانت لهم مقاييس في الجمال من سمن وردف، ولهم أوصاف خاصة بما يتصل بالجمال، كنئوم الضحى ومكسال، أليس من الحق وقد تغير المثل الأعلى لجمال المرأة أن يتغير الأدب تبعا له؟
وكانوا يقولون: إن قده قد القناة وقوامه قوام الرمح، وكأنه النخلة السحوق. أيصح أن يظل هذا مستعملا في الأدب، وقد بطلت القناة وسمج تشبيه القد بالنخلة؟
وكان عرب البادية يرون في باديتهم نبت الثمام، ورأوه لا يطول، فقالوا للشيء الذي يسهل تناوله: «هو مني على طرف الثمام»، فكانوا صادقين في قولهم مصيبين في تعبيرهم؛ فكيف يجوز لنا ولم نر ثماما قط أن نعبر هذا التعبير، إلا ان يكون تقليدا مخجلا؟
وكانوا يرون الضب في باديتهم ويلمسونه بأيديهم، ويعرفون نوع حياته، فكونوا لهم أدبا حوله، رأوا الضبة تأكل أولادها فقالوا: «أعق من ضب»، ورأوا عقد ذنبه كثيرة فقالوا: «أعقد من ذنب الضب »، وعرفوا أنه يسكن جحره في الشتاء فقال قائلهم:
يباري الريح تكرمة ومجدا
إذا ما الضب أجحره الشتاء
فكيف يسوغ لمصري أو عراقي أو شامي أن ينطق بهذه الأقوال وهو لم ير ضبا قط، ولا رأى عقد ذنبه، بل قد لا يعرف شيئا عنه؟ والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصى. كان لهذا التقليد أثران سيئان جدا:
أولهما:
استعاراتنا وتشبيهاتنا وقفت عند الاستعارات والتشبيهات الجاهلية، فقد حلت الطيارات محل الإبل، ولا زلنا نقول: ألقى حبله على غاربه. ووجدت الأسلاك الشائكة أشكالا وألوانا ولا زلنا مولعين بحسك السعدان. وأمدتنا المخترعات الحديثة بألوان وألوان يمكن العقل الخصب أن يستمد منها آلافا من التشبيهات والاستعارات، ونحن لا نزال عند «الصيف ضيعت اللبن». وتغير نظرنا للحياة فأصبح كرم حاتم من النوع السخيف والإسراف الممقوت، ولا زلنا نقول: الكرم الحاتمي. وهناك آلاف من أنواع الخيبة التي تصلح للتشبيه، ولكن لا يزال «خفا حنين» وحدهما هما مضرب المثل. وكم في العالم من مجهولات يمكن التشبيه بها، ولكن لم يلق نجاحا في التعبير إلا أنه «لا يعرف من أين تؤكل الكتف» وكم في الدنيا من أشياء يشبه بعضها بعضا، ولكن ليس لشيء منها حظ كحظ «حماري العبادي». وكم في الدنيا من مؤتمرات أعدت أحسن إعداد وألقي فيها من موضوعات الأدب والفن ما كان غرة في جبين الدهر، ولكن كل ذلك لا يستحق أن يذكر اسمه بجانب «سوق عكاظ»!
من أجل هذا كله افتقر الأدب العربية في باب التشبيهات والاستعارات التي تجاري الزمان، وتخترع من حوادث الأيام، ووقفت جامدة كما تركها الأولون إلا في القليل النادر.
والضرر الثاني:
أن الأدباء ينطقون بما لا يعلمون، ويشبهون بما لا يبصرون ويتحدثون بما لا يفقهون؛ وإلا فكيف يجيز الكاتب لنفسه أن ينطق بالضب وهو لم يره، ويتغنى بريح الخزامي وهو لم يشمها؟ وكيف يطلق الحبل على الغارب وهذا ليس في حياته؟ وكيف يبكي الأطلال في مدينة القاهرة؟
إن كثيرا من الطلاب والكتاب يستعملون كل يوم في كتاباتهم نوعا من الصيغ المألوفة ولا يفهمونها؛ لأنها ليست مشتقة من حياتهم ولا تنطبق على نوع معيشتهم، وإنما هو التقليد المعيب والجمود المخزي.
ومن غريب الأمر أن القرآن الكريم عاب الجاهلية وحقر من شأنها ورماها بفساد العقل وفساد الذوق، ثم كان من مزاياه الجليلة أنه عبر تعبيرات إنسانية عالمية لا تعبيرات بيئة جاهلية؛ ومع هذا كله أشربت النفوس حب الجاهلية، ومجد العلماء الأشياء الجاهلية، واستعبد الناس الشعر الجاهلي والأدب الجاهلي، وكان في ذلك البلاء العظيم! •••
إن كان ما أقول حقا، وكان ما وصفت داء، وجب أن نضع له الدواء، والدواء في نظري أشياء.
أهمها: ألا يكون في برنامج المدارس الثانوية دراسة للأدب الجاهلي وما يشبهه كأدب جرير والفرزدق والأخطل. وبعبارة أدق - أن يكون لنا نوعان من الدراسة: نوع للخاصة كقسم اللغة العربية في الجامعة والأزهر ودار العلوم، وهؤلاء يدرسون كل شيء في الأدب العربي قديمه وحديثه، جاهليه وإسلاميه ما استطاعوا؛ فهم يدرسون الأدب الجاهلي كما يدرس رجال الآثار الآثار القديمة، وكما يدرس رجال التاريخ التاريخ القديم. أما غير المتخصصين كطلبة المدارس الثانوية وأشباههم فحرام أن يضيعوا أوقاتهم في دراسة الأدب الجاهلي وهم لا يعلمون من الأدب شيئا، وحرام أن نلوي عقولهم وأذواقهم بالمعلقات وأشباهها، وهم لم يتكون ذوقهم الأدبي بعد؛ فيجب أن يقطعوا مرحلة التعليم الثانوي بدراسة نماذج من القرآن الكريم ونماذج من الأدب الحديث ومختارات سهلة عذبة من الشعر العباسي وأمثاله، على شرط أن يكون هذا الأخير متفقا والذوق الحديث، ملائما في موضوعاته وفنه لحياتنا الحالية؛ فغن نحن قرأنا لهم شيئا من الشعر الجاهلي فعلى شريطة أن يكون سهلا عالميا لا صعبا موضعيا؛ ولخير لهم ألف مرة أن يقرءوا أدب المعاصرين وشعر المعاصرين من أن يقرءوا للشنفرى وتأبط شرا وجرير والفرزدق؛ فإن هؤلاء المعاصرين يشعرون شعورهم، ويكتبون بلغتهم، ويتعرضون لموضوعات تهمهم، ويتذوقون بذوقهم، فإذا أكثر الطلبة من قراءة مؤلفاتهم استطاعوا أن يقطعوا مرحلة كبيرة في سبيل رقي لغتهم وتكون ذوقهم. وليس يفيدهم شيئا أن يضيعوا سنة أو أكثر في دراسة مختارات من المعلقات، وسنة أخرى في دراسة مختارات من جرير والفرزدق والأخطل، وليت الأمر اقتصر على عدم الفائدة، بل إن ضرره محقق في إفساد ذوقهم وضياع زمنهم.
إن الأمم الأخرى الحية كإنجلترا وفرنسا تدرس لطلبتها شيئا من الأدب القديم، ولكن قديمها ليس كقديمنا، فعمر الأدب الإنجليزي والفرنسي حديث لا يمعن في القدم إمعان الأدب الجاهلي، بل إن نحن وقفنا عند العصر العباسي كنا أقدم منهم.
وشيء آخر، وهو أن أدب هذه الأمم - مهما قدم - وليد حضارة تشبه حضارتهم التي يعيشون فيها، ووليد بيئة اجتماعية هي أصل لبيئتهم الاجتماعية الحالية، فهم إذا درسوا هذا الأدب القديم تذوقوه كما يتذوقون حضارتهم، ووجدوا فيه موضوعات من جنس موضوعاتهم. أما الأدب الجاهلي فوليد بيئة مختلفة تماما عن بيئتنا الحالية، وتحتاج في فهمها إلى تخصص تام لمعرفة البداوة وشئونها وأحوالها حتى نستطيع أن ندرك أدبها، وهذا القدر لم يدركه المتخصصون فكيف بالطلبة؟
إني أسائل رجال الأدب بإخلاص: ماذا استفاد طلبة المدارس من دراسة الأدب الجاهلي في إنشائهم وفي معلوماتهم وفي تربية ذوقهم؟ لا شيء إلا أن يمثلوا دور الببغاء، يحفظون ما يلقى عليهم حتى إذا نقشوه على ورق الامتحان تخففوا منه سريعا، ولو أنهم صرفوا هذا الزمن في دراسة الأدب الحديث لنما الأدب الحديث وأزهر، ورقى ذوق الطلبة وأثمر.
بل إني أذهب إلى أكثر من ذلك وأرى أن معاجمنا اللغوية يجب أن يكون منها نوعان أيضا: نوع للخاصة فيه كل لفظ وكل استعمال، ونوع للعامة نميت فيه الألفاظ الجاهلية التي لا حاجة إليها في حياتنا، والتي تدل على أشياء لا علاقة لها بنا، ونخلي مكانها للألفاظ الحديثة التي نحتاجها، لا نذكر فيها من النباتات البدوية، ولا الحيوانات البدوية، ولا الأدوات البدوية إلا ما لنا به علاقة ما، ونفتح صفحاته الكثيرة لندون فيها أزهارنا ونباتنا وحيواننا وأدواتنا التي تحيا بيننا بحياتنا.
نميت العرار ونحيي الزنبق، ونميت الكمأة ونحيي المانجو، ونميت القوس، ونحيي القنابل، وهكذا.
بل أذهب إلى أكثر من هذا، فأناشد الأدباء والشعراء أن يستمدوا تشبيهاتهم واستعاراتهم مما بين أيدينا من مخترعات، وألا يستعملوا ما لا يحسون ولا يعلمون من تشبيه، وأناشد المعلمين أن يعلموا بالخط الأحمر على الاستعمالات التي يستعملها الطلاب ولا يفهمونها، أو يفهمونها ولا يحسونها، فلا يجيزوا لطالب أني يقول: «ألقى حبله على غاربه»، ولا أن يقول: «أندر من الكبريت الأحمر»، وهم لا يعلمون ما الكبريت الأحمر، ولا أنا أيضا، ولا «أعز من بيض الأنوق، ولا الأبلق العقوق»، ولا «عقود الجمان، ولا قلائد العقيان»
3 ، فهي كلمات ضخمة لا مدلول لها، وليطالبوهم بأن يحركوا أذهانهم، ويهزوا عقولهم، فيصوغوا ألفاظهم وتعبيراتهم وتشبيهاتهم مما بين أيديهم، فذلك أليق بالحر وأجدر بالعاقل.
إنا إن فعلنا ذلك فككنا أغلالنا، وتحررنا من سلطان الأدب الجاهلي، واستطعنا الجري إلى الأمام في أدبنا.
هذا ما أرى، فهل يجد هذا الموضوع من رجالاتنا ما يثير أذهانهم فيؤيدوه أو ينقدوه، حتى يتجلى فيه الصواب، ويظهر الحق، ويكون له نتيجة عملية في حياتنا الأدبية؟
3
أراني مضطرا قبل البدء في هذا المقال إلى التنبيه على خطأ وقع فيه بعض الكتاب، وهو أنهم يرون أن الأدب العربي لا يخدم إلا من طريق التقريظ والإفراط في تبيين المحاسن والتغاضي عن ذكر المعايب. وغلا بعضهم فرأى أنه مقدس كل التقديس، لا يصح أن يمس بكلمة سوء، ولا يذكر بكلمة تجريح.
فهؤلاء وهؤلاء لا يحسنون إلى الأدب العربي بقدر ما يسيئون إليه؛ فكل أدب في العالم خاضع للنقد، ولا يرقى إلا بالنقد؛ كما أن كل أدب لا يمكن أن يحيا وينهض إلا باقتباسه من حين إلى آخر من الآداب الحديثة، والمقارنة بينه وبينها، حتى تعرف جوانب قوته وجوانب ضعفه، ثم يستفاد من هذه المقارنة بإدخال ما توحي إليه من إصلاح. وهذه الشواهد ماثلة أمام أعيننا؛ فالآداب الغربية من ألمانية وإنجليزية وفرنسية وإيطالية - على عظمتها وسيرها مع الحياة - لا يزال كتابها يجهرون بالنقد اللاذع لها، ولا يزال كل منها فاتحا عينيه لما يحدث في الآداب الأخرى؛ فإذا شعر بناحية قوية ظهرت فيها أخذها وطعم بها أدبه، ولم يهدأ حتى يجاريها ويباريها.
وإن مثلنا مثل الطبيب الذي يرى المريض العزيز عليه، فلا يمنعه حبه وإشفاقه من تشخيص المرض كما يدعو إليه العلم ويدعو إليه الحق ، ويذكر في صراحة خطر المرض، وإن كانت نفسه تذوب حسرات، ويصف العلاج وقلبه يبتهل إلى الله بالنجاح؛ ومثل هؤلاء الكتاب مثل العجائز يدخلن على المريض فلا هم لهن إلا أن يكذبن ويقلن له: ما أحسن وجهك، وما أجود صحتك، وما أبين العافية عليك! ونحو هذا من معسول الكلام الذي لا يفيد؛ وقد يحمل المريض على الاستنامة لقولهن وعدم الأخذ بوسائل الاستشفاء الصحيح.
قد كان هذا الكلام الرخيص يجوز على الناس قبل أن ينتبه العالم الشرقي لمرضه، وأيام كان يغط في نومه؛ أما وقد استشعر المرض وأحس نفسه وحقيقة مركزه، فقد أخذ يستوصف المصلحين ويهزأ بالمقرظين، ويسترشد بالمنصفين، ويحتقر المتاجرين، ولا يعبأ إلا بالمخلصين. •••
وبعد فنعرض اليوم لناحية أخرى قصر فيها الأدب العربي لشدة تمسكه بتقليد الأدب الجاهلي وهي «أدب الطبيعة».
ذلك أن الأدب الجاهلي - فيما نقل إلينا - لم يعن العناية الكافية بجمال الطبيعة، فلم يتغن بجمال الأزهار، ولا بتغريد الأطيار، ولا بخرير المياه، ولا بانسياب الجداول، ولا بمحاسن النجوم، ولا بجلال السماء، ولا بمناظر الأرض كما ينبغي أن يتغنى.
لقد أكثر الشاعر الجاهلي من وصف ناقته، أو وصف صيده، أو وصف فرسه، ولكنه لم يكثر من وصف منظر طبيعي جميل أخذ بلبه أو ملك عليه نفسه.
نعم رويت بعض القصائد الجاهلية في وصف الرياض كقول الأعشى:
ما روضة من رياض الحزن معشبة
خضراء جاد عليها مسبل هطل
يضاحك الشمس منها كوكب شرق
مؤزر بعميم النبت مكتهل
يوما بأطيب منها نشر رائحة
ولا بأحسن منها إذ دنا الأصل
ولكنه - كما ترى - لم يقصد إلى جمال الروضة قصدا، ولم يقل ما قال فيها عمدا، إنما عمد إلى وصف من يحب، فقال: إن طيب رائحة حبيبته أطيب من ريح روضته، وتتابع الشعراء بعد على هذا المعنى وعلى هذا النمط.
وكذلك ورد بعض الشعر الجاهلي من هذا القبيل في وصف جمال الروضة تبعا لا استقلالا ، كأن يتحسر الشاعر على أيام الصبا يوم كان يلقى حبيبته في مكان نزه يصفه، ثم تتابعت عليه أحداث الزمان فتركته خرابا.
وقد أكثروا من وصف الرعد والبرق والسحاب، ولكني أقرؤها فلا أشعر فيها بقلب ينبض، ولا بعاطفة قوية، وإنما يقف فيها الشاعر عند تقييد ما يرى، فإن تعدى ذلك فإلى تشبيه يشتقه من بيئته.
وسبب قصور الشعر الجاهلي في هذا الباب أن الطبيعة في هذه البيئة طبيعة قاسية، لا طبيعة رحيمة، وطبيعة فقيرة لا غنية: حر مهلك، وبرد قارس، وصحراء مجدبة، وأرض شحيحة، وجبال جرداء، وأرض صماء، أو رمال لا يستقر فيها ماء.
فكيف توحي هذه الطبيعة بالتغني بالجمال؟ إن الطائر إذا لم يجد الغصون الناضرة، والأزهار اليانعة، لم يستطع أن يعيش فضلا عن أن يغني.
وكذلك الشعور بالجمال والتغني به، إنما يأتي بعد الطمأنينة على العيش، والحصول على القوت. وأرض العرب في الجاهلية لا يتوافر فيها الرزق إلا بشق الأنفس؛ بل إن الحياة كانت في كثير من الأحيان تعتمد على السلب والنهب والقتال، فكيف يفرغ الشاعر إلى التغني بجمال الطبيعة، وأكثر مواقفه في تأليب قبيلة على قبيلة، والإشادة بمحاسن قبيلته، والتشهير بعيوب أعدائها.
إذا لم يكن هناك مجال كبير للالتفات إلى محاسن الطبيعة والتغني بها. ولهم في ذلك كل العذر، فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها.
ولكن ماذا حدث بعد؟
حدث أن فتح الله الدنيا على العرب وملكوا محاسنها على اختلاف أنوعها؛ ففي أيديهم خير الأنهار وأجمل البحار وأنزه الرياض، وتحت بصرهم الأراضي الخصبة الجميلة، والجبال المكسوة بالأشجار والبساتين الغنية بالثمار، والحدائق التي تختال بالأزهار - في أيديهم مصر بنيلها وحقولها وبحرها وسمائها، والشام بجبالها وأشجارها ومياهها وسحرها، وبلاد العرق بسوادها وبساتينها ودجلتها وفراتها، وفارس بنجادها ووهادها ومنازلها وثمارها وأزهارها، ثم كانت في أيديهم الأندلس بطبيعتها الفاتنة وجمالها الساحر.
فهل وفى الأدب العربي هذه المناظر حقها؟ وهل أدى للجمال الطبيعي واجبه؟ نعم نرى أبياتا في الربيع لأبي تمام والبحتري، ونرى شعرا جميلا في وصف الرياض والأزهار والثمار لابن الرومي، ونجد أبياتا متفرقة هنا وهناك في دواوين الشعراء، ولكنها قليلة نادرة ندرتها في الشعر الجاهلي، وأكثرها قيل تبعا لا استقلالا ، كما هو الشأن في الشعر الجاهلي، وهي ليست إلا دررا طغت عليها الأمواج المتدفقة من شعر المديح والهجاء، وما إليها.
إن كان للبدوي عذره في أنه لا يكثر القول في الطبيعة ولا يشعر بجمالها كما ينبغي، فما عذر الحضري والجمال وفير والمال كثير وتحصيل العيش سهل يسير؟ لا عذر إلا أنه أسير التقليد، لم يستطع أن يستقل في مشاعره ولا في تفكيره ولا فنه.
لقد كانت الأندلس أغنى بقاع المسلمين منظرا وأوفرها جمالا؛ أبدعها الخالق أيما إبداع، وصاغها خير صياغة، ولونها أجمل الألوان، فلا يستطيع من رآها إلا أن يغني، ولا من شاهدها إلا أن تفتنه. ومن الحق أن شعراءها غنوا أكثر من غيرهم، وتفننوا في ذكر محاسن الطبيعة أيما تفنن، ونبغ فيهم أمثال ابن خفاجة الملقب بشاعر الطبيعة، ولكني لا أكتم القارئ أني قرأت كثيرا من شعره وشعر غيره من الأندلسيين، فكان شعوري نحو شعرهم أنهم أجادوا الصياغة ولم يوفقوا أن ينفخوا فيه الروح، شعرهم تمثال بديع لا حياة فيه إلا في القليل النادر، شعرهم من رأسهم لا من قلبهم، أكثر جهدهم موجه إلى البحث عن تشبيه رائع واستعارة بديعية تعجب علماء البيان، لا نتيجة شعور يتدفق، يريد أن يحتضن الطبيعة لجمالها، ولا هو صرخة إعجاب خرجت من أعماق القلب في بساطة فطرية، ولا هو تمجيد للجمال وتقديس لمناظره يخر أمامه الشاعر ساجدا، ولا هو إحساس من الشاعر باندماج الطبيعة في نفسه واندماج نفسه في الطبيعة حتى كأنه هو وهي أو هي وهو، وحدة لا انفصام لها كالذي قال الحلاج:
أنا من أهوى ومن أهوى أنا
نحن روحان حللنا بدنا
فإذا أبصرته أبصرتني
وإذا أبصرتني أبصرتنا
كلا، ولا هو شعور بحياة الطبيعة وقوتها ونبضها كما ينبض القلب، ولا هو شعور الظمآن يريد أن يرتوي ولا يرويه إلا جمال الطبيعة ثم هو يعل منه وينهل، وكما عب ازداد لذة وازداد ظمأ .
لا شيء من ذلك، وإن عثرنا منه على شيء فهو القليل النادر الذي لا يروي ظمأ، إنما أكثره من قبيل الخيال المصطنع، يتعمق فيه الشاعر ليظفر باستعارة، أو يسبح في الآفاق ليأتي ببعض المحسنات البديعية. •••
لقد يخيل إلي أن من أهم أسباب النقص في هذا الباب الموقف الذي رسم للشاعر منذ العصر الجاهلي.
لقد رسم للشاعر أن يكون خادم السلطات، وبدأ بذلك في العصر الجاهلي فكان الشاعر شاعر القبيلة لا شاعر نفسه، إذ كانت السلطة للقبيلة، فهو يدافع عنها، ويحميها من أعدائها، ويعبر بلسانها، ولا يشعر لنفسه بوجود مستقل فيها، فقل التعبير بأنا وكثير التعبير بإنا، وحتى إذا عبر بأنا، فقل أن يعني نفسه وحدها، وإنما يعني نفسه وقومه.
فلما انتقلت السلطة من القبيلة إلى الخلفاء والملوك والأمراء، وقف الشاعر الحضري منهم موقف أسلافه من القبيلة، فكان لا ينبغ النابغ من الشعراء إلا في قصور الملوك والأمراء، وقل أن نرى شاعرا نبغ في غير هذه البيئة؛ ومن أجل هذا كثر شعر المديح والهجاء وما إلى ذلك؛ لأن الشاعر ليس يعبر فيه عن نفسه، ولا هو مستقل بنفسه، إنما هو معبر عن أغراض من يخدمهم ويسعى في استرضائهم، ومن حرم الحظوة عند هؤلاء ظل دهره شاكيا باكيا، يذم الزمان، ويلعن تصاريف الدهر، كما فعل ابن الرومي وأبو العلاء.
من أجل ذلك لو أحصينا من كان شعره خادما للملوك والأمراء، كانوا هم الجمهرة العظمى، ومن عداهم كانوا في غاية الندرة، أمثال العباس بن الحنف وجميل بثينة.
فهذا الوضع الذي وضع فيه الشعراء أنفسهم من خدمة السلطات - مقلدين في ذلك الوضع الجاهلي - لون الأدب العربي بالألوان الزاهية في بعض مواضعه، والباهتة في بعض مواضعه؛ فحيث يكون الشعر في خدمة الملوك والأمراء كالمديح والهجاء والغزل والخمر، فهو كثير وفير، وحيث يحتاج الشعر إلى استقلال، وحيث يغني الشاعر لنفسه، كشعر الطبيعة، ووصف المشاعر النفسية ونحو ذلك فقليل نادر.
لم يفهم الشاعر نفسه على حقيقتها، ولم يفهمه الناس على حقيقته، فكلمة الشاعر تدل على أنه يشعر بالأشياء خيرا مما يشعر غيره، وكان ينبغي أن يفهم من ذلك أنه يقول ليرضي شعوره أولا، والناس ثانيا، ولكن كان أول الشعراء شعراء الجاهلية، فقضت عليهم ظروفهم أن يقفوا موقف الجرائد اليوم من الأحزاب، وأن يقفوا من قبيلتهم موقف الخطباء؛ وهذا خطأ في فهم معنى الشاعر، إذ كان ينبغي أن يكون معناه من فاضت عواطفه من شعوره القوي، فجرى ذلك على لسانه، أو أن يكون معناه من منح عاطفة قوية وشعورا مرهفا يدرك به ما لا يدرك غيره، فيمزج ذلك بنفسه، ويخرجه لنفسه وللناس في أسلوب خاص؛ إن كان كذلك فكان ينبغي أن يستقل بنفسه، لا يخضع لسلطان ولا يوجه حيث يراد، لا حيث يريد.
ولكن وجد الشاعر الجاهلي - مع الأسف - في ظروف جعلته لسان القبيلة، وكان مع الأسف الأشد أن تتابع الشعراء على هذا النمط لم يتعدوه؛ يختلف معاوية وعلي، فيكون لهذا شعراء؛ ولهذا شعراء، ويختلف عبد الملك بن مروان وعبد الله بن الزبير، فينقسم الشعراء فيما بينهم قسمين، كما كانوا يختلفون أيام القبائل، وتأتي الدولة العباسية فقل أن ينبغ شاعر إلا في البلاط، ويقبل المعتصم على الأفشين، فيسخر أبو تمام شعره لمدح الأفشين، ويغضب المعتصم على الأفشين فيسخر أبو تمام شعره لهجاء الأفشين، وهكذا.
أما التغني بالطبيعة وجمالها، وإدراك المعاني السامية للحياة والتعبير عنها، ونحو ذلك من ضروب الفن، فأكثرهم عنه في شغل بعبادة السلطات واتجاههم حيثما توجههم.
لم يتغير هذا الموقف في الشعر العربي إلا منذ سنوات، فأخذ الشاعر يشعر بنفسه، ويشعر لنفسه ولقرائه، ولكنه لا يزال في مفتتح الطريق - وفقه الله.
4
كان العرب في جاهليتهم، منحطين في عبادتهم، فعبدوا الأحجار من دون الله، وقال واصفهم: «كنا نعبد الحجر في الجاهلية، فإذا وجدنا حجرا أحسن منه نلقي ذلك ونأخذه، فإذا لم نجد حجرا جمعنا حفنة من تراب، ثم جئنا بغنم فحلبناها عليه، ثم طفنا به». وقال آخر: «كنا نعمد إلى الرمل فنجمعه ونحلب عليه فنعبده؛ وكنا نعمد إلى الحجر الأبيض فنعبده زمانا ثم نرميه».
وإذا رأوا حجرا فعلت فيه الطبيعة فعلها حتى جعلت منه شبيها بالإنسان، كانوا له أكثر تقديسا وأحر عبادة، فكانوا يعبدون حجرا «كجثة الرجل العظيم وهو من صخرة بيضاء، لها رأس أسود، وإذا تأملها الناظر رأى فيها صورة وجه الإنسان». وكانت طيئ تعبد «القلس» «وكان أنفا أحمر في وسط جبلهم - الذي يقال له: أجا - أسود كأنه تمثال إنسان، وكانوا يعبدونه ويهدون إليه ويعقرون عنده».
ودعاهم إلى ذلك أن لم تكن لهم مهارة فنية يستطيعون بها أن يتقنوا النحت وصناعة التماثيل، فكانوا يتلمسون ما تخرجه الطبيعة من فن فيعبدونه، كحجر أبيض جميل، أو شبه تمثال، أو شبه صنم؛ فما كان عندهم من تماثيل متقنة فمجلوبة من الخارج - غالبا - فيذهب بعضهم إلى أن «يغوث» كان على صورة الأسد، وأنه مجلوب من مصر، وأن بين آلهة المصريين صنما على صورة الأسد اسمه «يغنوت» إلخ.
وكما عبدوا الأحجار عبدوا الحيوان، قال ابن عبد البر: «إن العرب كانوا يأتون بالشاة البيضاء فيعبدونها، فيجيء الذئب فيأخذها، فيأخذون أخرى مكانها»، ولما وفدت طيئ على رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قال لهم: «إني خير لكم من العزى ولاتها، ومن الجمل الأسود الذي تعبدونه من دون الله». ولما أغار عمرو بن حبيب على بني بكر وجدهم يعبدون سقبا من دون الله، فأراد إغاظتهم فنحره وأكله. وكانت لهم أصنام على شكل حيوان جلبوها من الخارج، على شكل أسد ونسر وفرس ويربوع.
فإذا ارتقوا من الحجر والحيوان عبدوا تمثال إنسان، فعبدوا «أسافا ونائلة» «وهما - فيما ذكروا - صنمان، زعموا أنهما رجل وامرأة من جرهم فجرا في الكعبة فمسخهما الله حجرين». ولست أدري ما حملهم على عبادتهما مع شنيع فعلهما، وهما إن استحقا شيئا فالرجم لا العبادة.
وعبدوا اللات والعزى، واختلفت الأقوال فيهما، فمنهم من قال: إنهما صنمان لرجلين صالحين كان أحدهما يلت السويق للحجيج.
فإذا ارتقوا خطوة أخرى عبدوا النجوم كالشمس والمشترى والشعرى، ولكنهم نظروا إليها في عبادتهم نظرة مادية جامدة. •••
سقنا هذا لنبين أن العرب في جاهليتهم كانت نظرتهم الدينية نظرة وثنية مادية وضعية .
وللدين أثر كبير في الأدب؛ لأنه - من ناحية - مصدر كبير من مصادر الإلهام الأدبي، ومن ناحية أخرى إذا كان الأديب ذا دين مادي وثني جامد، تأثر أدبه بعقليته، فخرج مثله ماديا جامدا، وإذا كان دينه ضيق الخيال لاصقا بالحجارة والأرض، كان خياله في أدبه غالبا كذلك؛ لأن نفسية الإنسان وعقليته وحدة لا تتجزأ، وإن اختلفت مناحيها ومظاهرها.
من أجل هذا نرى الأدب الجاهلي في الكثير الأغلب ماديا، لا معنويا ولا روحيا.
فمن مظاهر ذلك ناحية التشبيهات والاستعارات في الأدب الجاهلي، فهي أدل ما تكون على ضعف الخيال أو قوته، فإذا استعرضناها وجدناها مادية لاصقة بالأرض في الأعم الأغلب، فالجاهلي يشبه الحيوان بحيوان مثله، فيشبه الناقة بالظليم، أو بالثور الوحشي، أو بالنعامة، أو بالأتان، ويشبه امرؤ القيس الفرس بجلمود صخر حطه السيل من عل، والنجوم بالمصابيح، وبعر الآرام بحب الفلفل، وفرع الشعر بقنو النخلة المتعثكل؛ ويشبهون السنام بقنطرة الرومي أو بالقصر؛ والسيد العظيم بفحل الإبل، والنساء ببيض النعام، والحرب وما يحلب منها من دماء بالناقة يحلب منها اللبن، أو بالناقة تحمل ثم ترضع ثم تفطم، ومثل هذا كثير؛ وكل الشواهد تشهد بما نقول من ولوعها بالتشبيه المادي الأرضي؛ وقل أن تجد لهم تشبيها سماويا أو معنويا، كما فعل غيرهم من تشبيه سرعة الفرس بالبرق، أو تلألؤ السيف بلمعان الشهب، أو جري الفصيل إلى أمه بدبيب الخيال إلخ. وهكذا كانت تشبيهاتهم مادية أرضية من جنس دينهم المادي الأرضي.
لقد كان اليونانيون وثنيين كالجاهليين، ولكنهم رفعوا آلهتهم من الأرض إلى السماء، ومنحوها الحركة والحياة، وجعلوا للحب والجمال والشعر آلهة، وجعلوا «أفروديت» تخلق من أمواج البحر وأولدوها إله الحب، وجعلوا له جناحين ذهبيين، وجعلوه يحمل سهاما حادة، ومشاعل ملتهبة، ونسجوا حول آلهتهم أساطير في منتهى الخصب في الخيال، والبعد في السماء، والحركة في الحياة؛ وظلت هذه الخيالات والأساطير تسير سيرها وتعمل عملها في الحياة اليونانية، حتى حولها الأدب إلى قصص وتمثيل، وحولها العقل إلى فلسفة. •••
ومظهر آخر من مظاهر المادية الأرضية في الأدب الجاهلي ، وهو شعرهم في المرأة؛ نعم قد أكثروا من الغزل والنسيب، وافتتحوا به قصائدهم في كل غرض من أغراض الحياة ؛ ولكن أعمل النظر في أشعارهم، وأطل التفكير في غزلهم، تجد أنهم لم ينظروا في المرأة إلا إلى جسمها؛ لقد أدركوا تمام الإدراك جمالها الحسي، ولكنهم لم يدركوا جمالها الروحي، أولعوا بقدها الممشوق، وعيونها الدعج، ووجهها الوردي، وخصرها النحيل، وردفها الثقيل، وما شئت من أعضائها وأجزائها؟ فأما روحها السماوي، وجمالها الروحي، وتعشق روح الشاعر لروحها، والشعور بأنها مصدر وحيه وإلهامه، فشيء لم يستطع إدراكه الشعر الجاهلي.
لقد نظر الشعراء الجاهليون إلى المرأة كما ينظرون إلى لحم الجزور، وكأس الخمر، هي متعة جسمية لا غير؛ واستفتح هذه الآراء امرؤ القيس بقوله:
كأني لم أركب جوادا للذة
ولم أتبطن كاعبا ذات خلخال
ولم أسبأ الزق الروي ولم أقل
لخيلي كرى كرة بعد إجفال
وقوله:
وبيضة خدر لا يرام خباؤها
تمتعت من لهو بها غير معجل
فسار الشعراء على أثره يتخذون المرأة ملهاهم، ويقرنونها بالفرس والكأس. حتى وصل الأمر بأبي تمام في العصر العباسي إلى أن يقول:
كانت لنا ملعبا نلهو بزخرفه
وقد ينفس عن جد الفتى اللعب
استقر الشعر الجاهلي ما شئت، واستقر ما جرى على أثره من بعد، تلمس دائما شيئين واضحين في أدب المرأة: العناية بتشبيه أعضائها وأجزائها؛ فترائبها مصقولة كالسجنجل، وجيدها كجيد الريم، وفرعها كقنو النخلة، وكشحها مصقولة كالجديل، وساقها كأنبوب السقى، وهي تمشي الهوينى كما يمشي الوجي الوحل، ووجهها كأن الشمس ألقت رداءها عليه، وأسنانها كالأقحوان ... إلخ إلخ. هذه هي المرأة في ذاتها، أما موقفه منها فالمتعة واللهو إن استطاع، واللذة بذكرى المتعة، أو الألم من حرمانها، ثم لا شيء وراء ذلك.
إني لأفهم أن يكون ذلك بعض الأدب وبعض وجوه النظر إلى المرأة، أما أن يكون ذلك كل الأدب النسوي فشيء يدعو إلى الخجل! إن وراء هذا النظر المادي الأرضي نظرا آخر روحانيا سماويا، فيه المرأة ملك كريم، وفيه المرأة مصدر وحي وإلهام، وفيه المرأة قلب؛ وحول هذا كله ينشأ أدب من طراز آخر، فيه العواطف السامية، والمعاني الراقية، وهذا ما لم نجده في الشعر الجاهلي، وقل أن نجده في الشعر الإسلامي.
ثم لكل أمة أساطير تدور حول عقائها وتقاليدها وأحداثها وتاريخها، وتختلف فيما بينها بقوة خيالها أو ضعفه، وإحكام نسجها أو هلهلته. وكان للعرب الجاهليين أساطير من هذا القبيل؛ والذي يمعن النظر في أساطيرهم يراها أيضا تكاد تكون مادية أرضية لا تبعد في الخيال ولا تسبح في السماء، تدور حول المعمرين الذين عمروا مئات السنين، أو حول الجن وقد جسدوها في حية أو نعامة أو قنفذ أو أرنب أو حيوان خرافي كالغول، أو حول المسخ، أو كالذي زعموا أن الضب والكلاب والأرانب كانت أمما فمسخت، وأن الصفا والمروة كانا رجلا وامرأة فمسخا، أو حول النجوم كالذي زعموا أن الغميصاء وسهيلا كانا مجتمعين فانحدر سهيل فصار يمانيا وتبعته العبور فعبرت المجرة، وأقامت الغميصاء فبكت لفقد سهيل حتى غمصت «وأن الزهرة كانت امرأة حسناء فصعدت إلى السماء ومسخت كوكبا» إلى غير ذلك من الأساطير، وكلها تدل على ضرب من الخيال محدود.
والأساطير في الأمم مصدر كبير من مصادر الأدب القصصي، فلما ضعف الخيال القصصي تبعه بعد ضعف القصص العربي. •••
رأينا من كل هذا أن الأدب الجاهلي كان يساير الدين الجاهلي إلى حد بعين، وأنه كان يقف في المستوى الذي وقفه الدين، وأن الدين كان ماديا أرضيا، فكان الأدب ماديا أرضيا كذلك.
ومن الواضح جدا أن الشعر العربي اتخذ قبلته الشعر الجاهلي قبل أي شيء آخر؛ وأوضح الأدلة على ذلك ما هو مدون في كتب الأدب وخاصة في باب السرقات والموازنات؛ فنجد فيها أن المعاني الأساسية للشعر الجاهلي اتخذت أساسا سار على نهجها الشعراء الإسلاميون، فحوروا بعض معانيها مع احتفاظهم بالأساس، أو حافظوا على جوهر وغيروا الشكل؛ مدح الجاهليون بالشجاعة والكرم، فكان أكثر المدح الإسلامي بالشجاعة والكرم، حتى الملوك والأمراء الذين يجب أول كل شيء - أن يمدحوا بالعدل قل أن يمدحوا بالعدل؛ لأن الجاهلي مدح بالشجاعة والكرم. وقال امرؤ القيس:
كأن قلوب الطير رطبا ويابسا
لدى وكرها العناب والحشف البالي
وقال:
كأن عيون الوحش حول خبائنا
وأرحلنا الجذع الذي لم يثقب
وقال:
وقد أغتدى والطير في وكناتها
بمنجرد قيد الأوابد هيكل
فأصبحت هذه وأمثالها مصدرا للكثير من الشعر العربي، ورددوها وكرروا حتى صدعوا. وكما قال ابن سعيد: «وهذه المعاني ولد منها شعراء المشرق والمغرب وتطارحوا في الأخذ منها»، وصار لكل شاعر من شعراء الجاهليين أبيات معدودات، ومعان محدودات، يعرفها العلماء بالأدب، هي الإمام في الفن وهي التي حددت القوالب التي يصب فيها الشعر العربي - أصبح امرؤ القيس إمام الشعراء في التشبيهات، والنابغة في الاعتذارات، والأعشى في الخمريات. إلخ.
ولقد أنصف العلماء إذ سموا المنهج الذي سار عليه الشعر العربي «عمود الشعر»، وفي الحق أنه متحجر، لم يلن ولم يتغير.
ومن أشد دواعي الأسف أن الزمان قد سمح بمن خرج عن هذا العمود أحيانا وأراد أن يبني عمودا آخر، أو أراد أن يغير العمود إلى شجرة تنتج فروعا جديدة، فسمح قوله ولم يتبع، وصفق له بعض الناس ولم يقلد، والتف الناس حول عمود الشعر، وعمود الشعر وحده.
لقد ابتدع عمر بن أبي ربيعة فن القصص الشعري وأتى فيه بالمرقص المطرب، ثم مات ولم يعقب.
وجاء أبو تمام فأبعد في الخيال وغاص على المعاني وعرضها بأسلوب فيه جدة، فقام علماء اللغة والأدب في وجهه وفضلوا عليه البحتري لالتزامه عمود الشعر فماتت طريقته من بعده.
وجاء ابن الرومي فابتدع توليد المعاني وتبسيطها، واستخرج ما فيها إلى النهاية كما اخترع الهجاء اللاذع بالتصوير الفكه وبالفن الذي يشبه الفن اليوناني؛ وتعصب له قوم من القدماء فقالوا: «إنه أحق الناس باسم شاعر لكثرة اختراعه وحسن توليده»، ولكن مات فنه بموته وبقي عمود الشعر، وعمود الشعر وحده.
وجاء «المعري» فأراد أن يحول الشعر على غذاء عقلي ونقد اجتماعي، وينفخ فيه من روح فلسفي، فقالوا: إنه فيلسوف لا شاعر، وإنه في «سقطه» أشعر منه في «لزومياته»، وأخيرا سار في طريقه وحده. •••
ثم جاء القرآن فغير العقلية العربية، ورفع النظر من الأرض إلى السماء، وإلى ما فوق السماء، وعلم الناس أن يقرءوا كتاب الطبيعة في فصوله المختلفة من إنسان ونبات وجبال وسحاب وأمطار ونجوم وسماء، وأن يقرءوا ما بعد الطبيعة من إله فوق العالمين، هو نور السماوات والأرض، وكشف عن العيون غطاءها، فأصبح بصرها حديدا؛ فنظرت إلى العالم من طيارة، بل من أعلى من الطيارة، ورأته وحدة متناسقة الجزاء تخضع كلها لإرادة الله. وأعلن الثورة على النظرة المادية الأرضية التي كان ينظر بها أهل الجاهلية؛ فكانت كل ضربة بالمعول في صنم ثورة على ذلك النظر، ودوت كلمة لا إله إلا الله في جزيرة العرب تعلن ضياع الوثنية وعبادة المادية؛ فلا لات ولا عزى، ولا بعل ولا هبل.
وكان للقرآن بجانب ناحيته الدينية ناحية أخرى أدبية، فهو في تعبيراته وتشبيهاته يتناسب كل التناسب مع دعوته، يعالج شئون الأرض ويرتفع بالنظر إلى السماء، وهو في تعبيره وتشبيهه ومجازه كذلك لا يقتصر على التعبير المادي، ولا التشبيه المادي كالذي كان في الجاهلية، بل وجه النظر إلى المعاني أيضا في كل ضروب بيانه.
وأتى بنوع من القصص بديع في تصويره وتعبيره، وجعله يخدم غرضه في وعظه وإرشاده.
ورفع شأن المرأة فجعلها إنسانا عدلا للرجل لا ملهاة له، لها كل حقوق الرجل وعليها واجباته، تحاسب على عملها كما يحاسب الرجل، وتدعى إلى جلائل الأعمال كما يدعى الرجال.
كان في القرآن كل هذا وأكثر من هذا، وكان من المعقول أن يتغير نظر الشعر في الإسلام كما تغيرت العقائد، وأن يرتفع نظر الشاعر الإسلامي ارتفاعه في عقيدته، وأن يكون له جانب روحي كجانبه المادي، وأن يستغل قصص القرآن فيقص هو ولو في اتجاهات أخرى، وأن يرى القرآن يدعو إلى العزة فيكف عن المبالغة في المديح، وأن يرى القرآن يدعو إلى عفة اللسان فيتحرج من الإقذاع في الهجاء، وأن يرى القرآن يرفع شأن المرأة فتعظم في شعره، ويسمو أحيانا من الكلام في جسمها إلى الكلام في روحها.
فإن لم يجب أن يتغير الشعر الإسلامي كل التغير، فلا أقل من أن يجعل الشاعر الإسلامي له مصدرين: مصدر الشعر الجاهلي لاستغلاله خير ما فيه، ومصدر الإسلام لاستلهامه وتعديل منهاجه في شعره.
ولكن تعال معي ننظر ماذا كان؟ كان أن الشعر الإسلامي لم يتخذ له إماما غير الشعر الجاهلي؛ فقالبه قالبه، وموضوعاته موضوعاته، وماديته ماديته، وتشبيهاته من جنس تشبيهاته
4 ؛ وإن كان هناك جديد فجدة في العرض لا في الجوهر، وفي الشكل لا في الأساس، في رقة اللفظ بدل الخشونة، وفي تحوير المعنى لا في خلقه، وفي تقصير الأوزان الشعرية أو تحويرها تحويرا خفيفا لا في تجديدها، وفي اقتباس بعض التشبيهات من أدوات المدنية لا في التحليق في جو جديد، وهكذا.
قد تقول: إن القرآن ليس شعرا، وإمام الشعر يجب أن يكون شعرا، ومصدر الشعر يجب أن يكون شعرا، ولم يكن إمام الشعر الإسلامي إلا الشعر الجاهلي، فطبيعي أن يقلده لا غيره.
ولكن هذا صحيح في الطبيعة القاصرة والملكات المحدودة، أما الطبيعة النابغة والملكات المبتكرة فتستمد فنها من كل شيء؛ من خرير الماء، وصفير الهواء، وحركات النسيم، وتموجات البحر، وتوقيعات الموسيقى، وأحاديث العامة، وجدال الخاصة، وأضاحيك المغفلين والماجنين وأقول الفلاسفة وخاصة المفكرين؛ فكيف لا تستطيع أن تستفيد من القرآن لأنه نثر، إلا أن يكون مرض الكسل والهرب من مشقة الابتكار؟ •••
وقريب من هذا في باب الغرابة أنه لما اختلط المسلمون بالأمم الأخرى في العصر العباسي، وعرضت عليهم آثار الأمم وخاصة اليونان، نقل الناقلون إلى اللغة العربية فلسفة اليونان وطبهم وجغرافيتهم ورياضتهم وهندستهم؛ ولكنهم لم ينقلوا أدبهم ولا شعرهم ولا قصصهم ولا تمثيلهم؛ فكان موقفهم غريبا، إذ سمحوا للعقل أن يتغذى بأنواع أخرى من الغذاء، ولم يسمحوا للعاطفة أن تتغذى بأنواع أخرى من الفن! بل أمعن في باب الغرابة أن يسمحوا بنقل نظريات فلسفية تتعارض في صميمها مع الدين الإسلامي، ولم يسمحوا أن ينقلوا ضروبا من الشعر والأدب اليوناني لا تتعارض مع الإسلام في شيء! ولقد كان يكون في هذا التصرف بعض العذر، لو أن منبعهم في الشعر الذي يستقون منه منبع إسلامي ، أما ومنبعهم الوحيد هو الشعر الجاهلي الوثني بما فيه من لات وعزى، وخمر وميسر، وشرك وأوثان. فالأمر جد غريب !
أعتقد أن من أهم الأسباب في ذلك أنه لو كان حملة لواء الأدب في العصر العباسي عربا خلصا لسمحوا للآداب الأخرى أن تعرض عليهم، ولأخذوا منها ما تستسيغه أذواقهم، وتجيزه مداركهم؛ ولكن كان أكثر حملة لواء الأدب أعاجم استعربوا. والأعجمي إذا استعرب كان قصارى همه وغاية كده أن يصل في فنه إلى العربي الأصيل، ولا تحدثه نفسه أن يبتكر في القديم، أو يجدد في الشيء الأصيل. أترى المصري - مهما بلغ في إتقان اللغة الإنجليزية - تحدثه نفسه أن يبتكر في الشعر الإنجليزي؟ أو الشامي مهما بلغ في إجادة اللغة الفرنسية أن يبتكر في الشعر الفرنسي؟ إنما يبتكر في الإنجليزية والفرنسية الإنجليزي الأصيل والفرنسي الأصيل؛ لأنه من الناحية النفسية لا يشعر فيها بعجز طبيعي، فكذلك الشأن في العربي الأصيل والأعجمي الحامل لواء العربية في العصر العباسي، وهناك من غير شك أسباب أخرى تخرج بنا عن موضوع مقالنا. •••
أما بعد، فكل قارئ كريم يلحظ ما أردت من معالجة في هذا الموضوع.
أرادت أن يتحرر الأدب من قيوده التي تثقله، وأن يكون الحكم في أدبنا أذواقنا لا أذواق غيرنا؛ فخير بيت عندي ما تذوقت أنا أنه خير بيت، لا مال قال فلان - ولو كان عظيما -: إنه أفضل بيت.
وأن يكون أدبنا معتمدا على شيئين: خير ما في الماضي مما يتناسب وحاضرنا ويبعث على تحقيق أملنا في مستقبلنا. ودراسة حاضرنا واشتقاق أدبنا منه، لا أن نعيش في أدبنا على الماضي وحده، وعلى الماضي الذي لا يتناسب وحاضرنا؛ فإننا إن فعلنا ذلك كان أدبنا وقفا على طائفة الخاصة فينا، وغزا أبناءنا في المدارس وجمهرة المتعلمين منا الأدب الأوروبي الحديث، وأصبح الأدب العربي لا حياة له إلا في مناهج المدارس وأسئلة الامتحانات وفئة قلية جدا من المتخصصين؛ وفي هذا أكبر إجرام على الأدب العربي.
أريد أدبا عربيا يلذه الطفل في مدرسته، والبنت في مطالعتها، والشاب في غذائه العقلي والروحي، والكهل الناضج، والفتى الغر.
أريد أدبا عربيا يشاهده النظارة في السينما ودور التمثيل، يعرض لحياتهم اليومية وأحداثهم التاريخية ، ويصور حياتهم الاجتماعية.
أريد أدبا عربيا يعرض لأسرنا وحياتنا العامة والخاصة ونفوسنا وخلجاتها، فيضع في ذلك قصصا رائعا وشعرا بديعا، ويهز نفوسنا ويلمس مشاعرنا، ويحركها نحو مثل أعلى ننشده ونسعى إليه.
أريد أدبا عربيا يشعر كل فرد من أبناء العرب بجمال طبيعته، ويهز قلبه لإدراك الجمال الطبيعي والجمال الصناعي، فيرقى حسه وترهف نفسه، ويحركه ذلك إلى أن يكون جميلا في سلوكه جميلا فيما يصدر عنه؛ ليؤلف مع ما يشعر به من جمال نغما متناسقا وتوقيعا متناغما.
أريد شعرا عربيا يغنيه المغني فيمثل ما في نفسه الحاضرة من حب ووطنية وإنسانية ومعان مستحدثة ومواقف مستجدة، ويتمثل به المرء في شتى عواطفه ومختلف شئونه.
أريد شعرا عربيا ينشده الأطفال في رياض مدارسهم، والشبان في ألعابهم، والجنود في معسكراتهم، والأسرة المتدينة في صباحها ومسائها، والفتاة في تغذية آمالها.
ولا يتم شيء من ذلك إذا نظرنا إلى الخلف دائما، ولا يكون شيء من ذلك إلا إذا كسرنا عمود الشعر الذي وضعه الأدب الجاهلي، وجعلنا بدل العمود الحجري شجرة تنبض بالحياة، يكون أحد فروعاها فقط الشعر الجاهلي، وأهم فروعها نتاج حياتنا الواقعية، وآمالنا المستقبلة. ولا يكون شيء من ذلك ما دمنا نعد البيت الجاهلي خير الأبيات، ولو كان سخيفا، وخير القصص القصص القديم؛ لأنه ورد في الكتب القديمة، وأحسن الأبيات في الغزل ما استحسنه ابن الأعرابي. ولا يكون شيء من ذلك ما دمنا نوقع الأنشودة القديمة: «إن الأدب العربي كامل ليس فيه نقص، وقوي لا يشوبه ضعف، وبناء مكتمل لا يحتاج إلى علو، ومتين الأساس لا يحتاج إلى دعامة».
إنما يكون ذلك كله يوم نزن الأدب العربي ككل أدب بموازينه الصحيحة من غير عصبية، ونصرح بالنقص في غير خجل، ونبني الجديد في غير هوادة، ونكسر قيود القديم في غير رفق. والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
5
يقسم علماء المنطق العمليات العقلية إلى نوعين، عملية تركيبية وعملية تحليلية، ولهذا نظائر في الحسيات؛ فإذا أنت ألفت من ورد وفل وياسمين ونرجس ومنثور وبنفسج طاقة أزهار، فهذه عملية تركيب؛ وإذا أنت فرقت هذه الطاقة، وجعلت الورد وحده والفل وحده والنرجس وحده. فهذه عملية تحليل؛ وإذا ألفت من أكسجين وإيدروجين ماء، فهذه عملية تركيب، فإذا حللت الماء إلى عنصريه فهذه عملية تحليل.
وفي النحو - مثلا - بناء الجمل من ألفاظ، أو الفقرة من جمل، أو الفصل من فقر، عملية تركيبية. وتحليل الفصل إلى فقر، والفقرة إلى جمل، والجملة إلى ألفاظ، عملية تحليلية.
وفي البلاغة - مثلا - عملية التشبيه والاستعارة عملية تركيبية؛ لأنه يراد منها ضم شيء إلى شيء والحكم عليهما حكما واحدا من إحدى الجهات، ومثل ذلك الموازنة في باب الأدب. •••
ويخيل إلي أن الأمم في بدء أمرها أميل إلى التركيب منها إلى التحليل؛ لأن التحليل يتطلب دقة وحصافة، وخلقا علميا أكثر مما يتطلبه التركيب؛ والعقل البدائي يسرع في التركيب فيخطئ في الحكم؛ لأنه يكفي أن يرى حادثة تحدث مع حادثة أخرى، فسرعان ما يعقل علاقة بينهما ويعممها من غير تدقيق؛ فيرى الجاهلي - مثلا - حادثة شفاء من كلب ارتبطت بدم ملك، فيعمم الحكم بأن دم الملوك يشفي من الكلب؛ أو يرى حادثة حدثت اتفاقا في أن نوعا من الشجر اسمه العشر احترق وذيل البقر، فأمطرت السماء، فيعمم ارتباط هذا الحادث بالمطر، ويستسقي المطر بتكريره، وربط العشر في أذناب البقر وإشعال النار فيها، وهكذا.
ومن أجل هذا كثرت الأساطير والخرافات بين الأمم في حالة بداوتها؛ لأنها أسرعت في التعميم من غير تحليل دقيق وامتحان لربط الحادث بالحادث.
وهذا ما حدث عند العرب في جاهليتهم، وحدث عند اليونان في جاهليتهم، فلما جاء فلاسفة اليونان كأرسطو، رأوا أكداسا من الأحكام العامة الباطلة، وأكداسا من الاعتقادات بارتباطات بين الأشياء زائفة، وأساطير تعمم في غير دقة؛ فوضع أرسطو قواعد وقيودا للتعميمات، كمطالبته بالاستقراء التام قبل التعميم، ونحو ذلك، ولا يزال علماء المنطق إلى الآن يجدون في وضع الشروط الدقيقة لصحة التعميم. •••
يظهر لي أن هناك نوعين من الأدب متميزين كل التميز: أدب تركيبي وأدب تحليلي؛ فالقصة التي تصف وصفا دقيقا حال عاشقين، وما ينتابهما من عواطف مختلفة، وما يعرض لنفوسهما من مواقف متباينة، وما يجري بينهما من أحاديث تتفق مع كل موقف، وما يبدو من تصرفات متناقضة تبعا لتناقض العواطف ونحو ذلك، أدب تحليلي؛ والمقالات الاجتماعية تعرض لشرح حال أمة في موقف خاص من مواقفها، وتصف المرض وصفا دقيقا، وتضع العلاج في دقة وإحكام، أدب تحليلي؛ وقصيدة الشاعر يصف منظرا طبيعيا، ويحلل موقف المنظر من نفسه وموقف نفسه منه، أدب تحليلي؛ ومقال الناقد يعرض للكتاب أو المقال المنقود. فيميز ما هو أساسي منه، وما ليس بأساسي، ويتبين أغراضه ومراميه، ثم يحلل هذه الأغراض ويبين ما فيها من ضعف وما فيها من قوة، أدب تحليلي، وهكذا.
والخطبة الوطنية العامة في تمجيد القومية والوطنية من غير بحث مسألة خاصة، أو دعوة إلى منهج وطني معين، أدب تركيبي، والمقالة الأدبية التي ليس فيها فكرة أو فيها أفكار عامة، وكل جمالها في تشبيهها واستعارتها وسجعها وبديعها، أدب تركيبي؛ ومقال الناقد يبني مقاله على أن الكتاب أو المقال المنقود يعجبه أو لا يعجبه، وأنه ينطبق أو لا ينطبق على أصول الفن المتعارفة، أدب تركيبي، وهكذا.
والأدباء أنفسهم ينقسمون هذين القسمين، فأديب تغلب عليه نزعة التركيب وأديب تغلب عليه نزعة التحليل. •••
إن كان هذا صحيحا فيخيل إلي أن أكثر الأدب الجاهلي أدب تركيبي لا تحليلي، ويتجلى هذا في مظاهر مختلفة.
فإنا لو استعرضنا الشعر الجاهلي وجدنا أكثره يعني بتصوير الأشياء صورا عامة، ولا يعني فيها بالتفصيل والتدقيق، وأروع شيء فيه جمال الاستعارة والتشبيه؛ وقد سبق أن أشرنا إلى أن هذا كله من قبيل الأدب التركيبي، وأشهر أبوابه فخر ومديح وهجاء، وقد عرضت بشكل عام تركيبي، فهي في الأغلب فخر ومدح وهجاء للقبيلة جاءت في معان عامة مركبة؛ فخير المدح المدح بالكرم والشجاعة من غير تحليل لجزئيات؛ من خير أنواع المدح المدح بالمروءة وهو لفظ عام غير محدود، ومن شر أنواع الهجاء الهجاء باللؤم، وهو كذلك لفظ غير محدود. ونستعرض باب الصفات - وكنا نظن أن هذا باب يتأتى فيه التحليل الدقيق - فلا نجد تحليلا ولكن نجد وصفا مركبا.
نعم نجد قطعا متفرقة هنا وهناك فيها وصف تحليلي كوصف المنخل اليشكري:
ولقد دخلت على الفتا
ة الخدر في اليوم المطير
الكاعب الحسناء تر
فل في الدمقس وفي الحرير
فدفعتها فتدافعت
مشى القطاة إلى الغدير
ولثمتها فتنفست
كتنفس الظبي الغرير
فدنت وقالت يا منخ
ل ما بجسمك من حرور
ما شف جسمي غير حب
ك فاهدئي عني وسيري
ووصف بعض أحداث لامرئ القيس، ولكنها ليست كثيرة في الأدب الجاهلي. إنما الكثير الغالب الأدب التركيبي، وحتى هذه الأمثلة التي ذكرت من الأدب التحليلي ليست طويلة النفس ولا مستقصية التحليل. •••
جاء الأدب العربي فتأثر كل التأثر بالأدب الجاهلي، فكان أكثره أدبا تركيبيا لا أدبا تحليليا، ونستعرضه فنرى أن فيه كل مزايا الأدب التركيبي وكل العيوب الناشئة من قلة الأدب التحليلي.
نرى الأدب العربي قد نبغ نبوغا عظيما في باب الأمثال والحكم، حتى قل أن يساويه في ذلك أدب، لأن ذلك نتيجة حتمية للأدب التركيبي، فهي تجمع التجارب وتركزها في جملة موجزة قوية جميلة؛ وكان من نبوغهم في هذا الباب وإعجابهم به أن نقلوا حكم اليونان إلى العربية، مع أنهم أوصدوا الأبواب في وجه الأنواع الأخرى من الأدب اليوناني. وكان سيرهم في هذا الباب احتذاء لما فعل زهير بن أبي سلمى في حكمه المشهورة. وكان من نبوغهم في الأدب التركيبي أيضا ولوعهم الشديد بالجمل القصيرة القوية، حتى لتكون الخطب والكتب في كثير من الأحيان عبارة عن جمل قصيرة مركزة محكمة، كالذي نلاحظه في كتاب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري في القضاء، وكخطبة زياد وخطبة الحجاج. ولو تناول الأدب التحليلي كل جملة من هذه الجمل لصاغ منها صفحات؛ ونرى لهذا صدى في علم البلاغة العربية، فإنهم عنوا بالإيجاز أكثر من عنايتهم بالإطناب، وأعجبوا بجوامع الكلم أكثر من إعجابهم بالكلام الطويل المنبسط. بل إن بعضهم كأبي هلال العسكري فهم أن الإطناب تكرار المعاني وطول الألفاظ، وقال: «إن كتب الفتوح وما يجرى مجراها مما يقرأ على عوام الناس ينبغي أن تكون مطولة مطنبا فيها»، فكأنه يريد أن يجعل الإطناب أدب العامة والإيجاز أدب الخاصة.
وألف العرب هذا النوع من الإيجاز في التعبير، حتى عدوا عبد الحميد الكاتب الفارسي الأصل آتيا بجديد عندما فصل في كتابته وأطنب. •••
وكما أن في الأدب العربي مزايا الأدب التركيبي، ففي معظمه عيوب نقص الأدب التحليلي.
نرى مظاهر ذلك في ضعف القصة، وقد أشرت قبل إلى بعض أسباب هذا الضعف، وأزيد هنا هذا السبب، فإن القصة تحتاج بجانب الخيال الواسع إلى إطناب في الوصف، وتحليل للموقف وإجادة للعرض المفصل؛ ولذلك كان أكثر القصص العربي البحت - كالذي روي في العقد والأغاني عن الأدب الجاهلي وأيام العرب ونوادر المجان والممرورين - موجزا قصيرا يتفق وذوق العربي في حبه الإيجاز، وميله للتركيز والتركيب. أما ما عدا ذلك من قصص مطولة كألف ليلة وليلة، فليس من أصل عربي، أو هو من الحكايات الشعبية، لا من الأدب الرسمي.
كما نرى مظهر ذلك أيضا من باب تراجم الرجال، كالذي في الأغاني، ومعجم الأدباء، ووفيات الأعيان؛ فالناظر في كتب التراجم العربية يمتلئ إعجابا وروعة بعظم هذه الثروة وعمومها، وعناية جامعيها، وسلوكهم المسالك المختلفة في التراجم؛ ولكنه لا يعجب بها من حيث نظرها إلى المترجم كوحدة متماسكة ذات أجزاء مفصلة منسجمة، إنما هي حادثة هنا وحادثة هناك، وشيء في خلقه، بجانب شيء في شكله، ثم عودة إلى شيء في خلقه، ثم عودة إلى شيء في شكله، وحوادث جزئية جمعت حيثما اتفق، يحتاج الذي يريد الاستفادة منها أن ينظر إليها نظرا جديدا، ويرتبها ترتيبا جديدا، ويعمل فيها خياله ليكمل مواضع النقص فيها، ولم يأت هذا إلا بعد أن تثقفنا ثقافة جديدة فيها الكثير من منهج التحليل.
وما قيل في باب التراجم يقال مثله في كتب الأدب العربي: كالكامل، والبيان والتبيين ونحوهما، وكتب التاريخ: كالطبري، وابن الأثير. فعدم التزامها كلها منهج التحليل جعلها تعرض للأشياء والأحداث عرضا مبعثرا، وجعلها تستطرد استطرادا مفرطا، وجعلها أكداسا فيها الذهب والفضة والنحاس، وفيها الحب والتبن، وفيها غطاء الرأس بجانب نعل القدم؛ ولو اتبعت المنهج التحليلي لكان لها شأن آخر.
وكما نرى مظهر ذلك في وفرة الشعر الذي سار على نمط الشعر الجاهلي التركيبي من مدح وهجاء وفخر، وضعفه فيما احتاج إلى التحليل، كالوصف الدقيق المستقصي لمظاهر الطبيعة وتحليل النفس. •••
وقد يكون من الإنصاف أن نستثني بعض أدباء العرب، ولنمثل لذلك بأديبين في الأدب العربي، كان أدبهما أدبا تحليليا واضحا، وقد نبغا فيه نبوغا عظيما: أحدهما شاعر، والآخر ناثر؛ فأما الشاعر فابن الرومي، فهو في شعره يعرض للفكرة أو الصورة فيحللها ويفصلها ويولدها، حتى لا يدع لأحد بعده فيها قولا. وأما الكاتب فهو ابن خلدون في مقدمته، فهو يأتي بالنظرية العامة، ولا يزال يحللها ويضع فروضها ويقيم البراهين على صحتها، حتى يصل في ذلك إلى الغاية، شأنه في ذلك شأن الرياضي في التدليل على نظرية هندسية.
ولكن مع الأسف لم يكن أحد منهما زعيم مدرسة، وإنما كان معلما من غير متعلمين ومغنيا لغير سامعين. •••
إني أعتقد أن الأدب العربي مسئول إلى حد كبير عن انحطاط المسلمين في العصور الوسطى وما بعدها من الناحية الأخلاقية والاجتماعية.
فلما ساءت حالة المسلمين بعد العصر العباسي الأول، كان ينبغي أن يكون هناك أدب تحليلي وشعر تحليلي، يصف حال المجتمع السيئة وصفا دقيقا مستقصيا، ويشرح أسباب الفساد وعلله شرحا مستفيضا وافيا، ويرسم للناس المثل الأعلى الذي ينشدونه رسما دقيقا شافيا، ويحث الناس على أن يثوروا على من سبب ما هم فيه من مذلة وضنك وبؤس، وأن يبيعوا أرواحهم في سبيل تحقيق مثلهم؛ ولو كان ذلك لكف الظالمون عن الظلم، وعملوا على إصلاح الفاسد، وتحسين المجتمع؛ ولكن تعال معي نستعرض الأدب العربي من العصور الوسطى إلى العصر الحديث، فهل ترى ثائرا ثار بأدبه على ظالم، وحلل موقف الناس في بؤسهم تحليلا دقيقا؟ وهل ترى أديبا وصف مجتمعه وصفا عميقا مستقصيا، يحرك النفوس؟ وهل ترى شاعرا رسم المثل الأعلى للحكام والمحكومين ودعا إليه؟
إني - مع الأسف - لا أجد شيئا من ذلك.
أجد الشعراء وشعرهم مملوء بالملق لكل خليفة، ولكل سلطان، وكل أمير؛ فهو الشمس، وهو القمر، وهو حاتم في الجود، وهو الأسد في الشجاعة؛ فأما ما أصاب الناس من ظلم على يديه، فقد ضاع في دراهم معدودة نالها منه الشاعر؛ ومن خرج على الخليفة أو السلطان هجاه هجاء جاهليا مركبا لا تحليليا مفصلا.
انظر إلى قول دعبل الخزاعي في هجاء المعتصم:
ملوك بني العباس في الكتب سبعة
ولم تأتنا عن ثامن لهم كتب
كذلك أهل الكهف في الكهف سبعة
خيار إذا عدوا وثامنهم كلب
وإني لأعلي كلبهم عنك رفعة
لأنك ذو ذنب وليس له ذنب
فهل هذا نقد تحليلي يراد به الإصلاح، أو هو سب جاهلي مركب كقولهم:
تميم بترك اللؤم أهدى من القطا
فإن سلكت سبل المكارم زلت
وهل ترى كاتبا عرض تفصيلا وتحليلا لحال الناس وبؤسهم وفسادهم، أو ترى أن أشجعهم جمجم ولم يفصح، وغمغم ولم يبن.
نعم قد تعرض لنقد الحالة الاجتماعية في عصره أبو العلاء المعري، ولكنه لم يحقق غرضنا من ناحيتين: من ناحية أنه فصل في تعديد نواحي الفساد، ولكنه لم يحلل كل ناحية كما ينبغي؛ قال بفساد القضاة وفساد رجال الدين وفساد الأمراء وفساد المرأة، ولكنه لم يحلل تحليلا تفصيليا نواحي هذا الفساد وأسبابه وجنايته على العالم؛ وله بعض العذر في ذلك؛ لأن الشعر لا يفسح المجال لهذا التحليل؛ ولو عالج هذه الموضوعات نثرا مرسلا لتأتى له ذلك. وثاني الأمرين في شعر أبي العلاء أن نزعته لم تكن نزعة إيجابية في الدعوة إلى الثورة وإصلاح الحال، ولكنها دعوة سلبية إلى الزهد وترك الدنيا. ونحن إنما ننشد العمل الإيجابي والإصلاح الإيجابي والانغماس في الحياة لمعالجتها لا الهروب منها. •••
إن المثل الأعلى لآداب الأمة يجب أن يكمل فيه النوعان من الأدب التركيبي والأدب التحليلي. والأدب العربي في حاجة إلى المزيد من الأدب التحليلي حتى يرقى فيه القصص والوصف الدقيق المفصل والنقد العميق الواسع ونحو ذلك. ولولا نزعة الجمود على القديم والالتزام الشديد للسير على مناهج الأقدمين، وتعمد المحدثين أن يصبوا الأدب في نفس القوالب التي صاغها الأقدمون لكان للأدب العربي شأن غير هذا الشأن.
إن الأمم الأخرى الحية وقفت زمنا مثل موقفنا، ولكنها بعد برهة تحللت منه، وجارت الزمان، وسايرت الأذواق، واستغلت الحياة الواقعية. لقد سيطر الأدب اليوناني والأدب اللاتيني على الحياة الأدبية الأوروبية كل السيطرة حينا من الزمان؛ وكان كل هم الأديب أن يحذو حذو الأدب اليوناني أو اللاتيني حذوا دقيقا، وكلما كان التقليد أتم كانت القطعة الفنية في نظرهم أجمل وأروع. وكان الناقد الأدبي إذا نقد قطعة أدبية قاسها بمقياس قربها من هذين الأدبين، فكلما قربت منه كانت أجود وأرقى، وكلما بعدت كانت أضعف وأسمج، شأنهم في ذلك شأننا مع الأدب الجاهلي.
ثم وقفوا بعد ذلك موقفا ينقصنا الآن، ذلك أنهم مخضوا الأدب اليوناني واللاتيني وأخذوا زبدتهما ورموا ثفلهما، وتناولوا هذه الزبدة فهضموها، وزادوا إلى طعامهم هذا - القديم في أصله، الجديد في استخلاصه - طعاما جديدا مشتقا من بيئتهم ومدنيتهم وحياتهم وأحداثهم وطبيعة أرضهم ونوع معيشتهم؛ فصنعوا من كل ذلك موائد مختلفة الألوان متعددة الطعوم تشتهيها أذواقهم وتستسيغها معدهم؛ وهذا ما ينبغي أن يحدث في أدبنا العربي حتى يحقق غايته.
يوم في القاهرة
23 يونيه سنة 1940
كان الناس قديما يتشاءمون من نعيب البوم ونعيق الغراب، فحق لهم اليوم أن يجددوا فيتشاءموا من نعيق صفارات الإنذار. وأين البوم والغراب من صفارات الإنذار؟ لقد كان نعيب البوم نذيرا بخراب بيت أو موت فرد، وكان نعيق الغراب نذيرا بفراق حبيب أو رحيل قوم. أما صفارات الإنذار فنذير بحصد أرواح أو دك بنايات أو نسف ذخائر!
ومن الواجب أن يساير الأديب حالة الناس، فيشتق منها أدبه، ويجدد تشبيهاته واستعاراته، ويستعير منها خيالاته، وكما في مناظر الحرب من صور رائعة تهيج عواطف الأديب، وتحرك شاعرية الشاعر، وتمد قلم الناثر.
والناس مولعون - وخاصة في أيام الحرب - أن يقرءوا أخبار يومهم لا أخبار أمسهم، وأدب زمانهم لا أدب ما بعد من تاريخهم، ويجدون غذاءهم فيما يصور عواطفهم وخلجات نفوسهم ومناحي حياتهم وما يأتلف مع ظروفهم.
لقد أتتنا هذه الحرب بطائفة من الألفاظ والتعبيرات، كالتابور الخامس والدبابات والهابطات والكمامات وما إلى ذلك؛ وأتتنا بضروب من الأحداث الاجتماعية وصنوف من النكبات في الأنفس والأموال والثمرات، واضطربت نظم الحياة اليومية والسياسية والاقتصادية؛ فما أحرى ذلك كله أن يكون غذاء صالحا للأديب يستمد منه، ويعرض له، ويصدر عنه.
يجب أن يكون الفرق بين الأدب القديم والحديث كالفرق بين آلات القتال القديمة والحديثة، والنظم السياسية القديمة والحديثة، والحياة الاجتماعية القديمة والحديثة؛ لأن الأدب ليس إلا تصويرا لحياة يرقى برقيها ويتلون بألوانها. •••
على كل حال نعقت صفارات الإنذار لأول مرة في القاهرة أول أمس في الساعة الثانية صباحا، وكانت هذه المرة جدا بعد أن سمعناها مرات لعبا، فهب كل من في «العمارة» من نومهم، والظلام سائد، فجعلوا يتحسسون السلم حتى وجدوه ونزلوا ذاهلين؛ هذا يجر أولاده، وهذا يجر أولاده، وهذه تقود أمها، حتى اجتمعوا في «البدروم»، فانتحى النساء ناحية، وانتحى الرجال ناحية، وأخذوا يتحدثون، فكان من ذلك كله معرض أمزجة.
هذا فلان قد غلبه الخوف فسكت ولم ينبس بكلمة، ولم يشترك مع القوم في قليل ولا كثير، كان نائما حالما، فصار نائما ساهما واجما.
وهذا فلان الذي يرى الدنيا كلها نكتة، ويرى في كل شيء جانبه المضحك، ويستخرج منه الفكاهة اللطيفة، لم يفارقه في موقفه هذا مزاجه الخاص، فأخذ يقص على الناس كيف نبهته زوجته لصفارة الخطر، وكيف ألح عليها أن تتركه لينام، وألحت عليه أن يستيقظ، ويحكي ما دار بينهما من حوار، وأنه يريد أن يموت نائما ولا يريد أن ينجو مستيقظا، وأنها تريده حيا لنفسها ولأولادها لا له، وأخيرا نزل على رأيها فنزلوا إلى المخبأ؛ يمثل ذلك كله ويضحك فيتابعه بعض الحاضرين في ضحكه، وهكذا هو معين مرح لا ينضب، يشع على من حوله الطمأنينة والسرور حتى في أشد الأوقات حرجا، يخيل إلي أنه سيموت يوم يموت من الضحك، وأنه إذا شاهد عزرائيل مزح معه وبادله نكتة بنكتة.
وهذا فلان المحال على المعاش تحول رعبه إلى عاطفة دينية حادة، فهو يسبح ويحوقل، ويتلو: «قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا - أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة - وأفوض أمري إلى الله - وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم» إلى غير ذلك من آيات في هذا الموضوع.
وآخران جلسا يستعرضان السياسة، أخبار صلح فرنسا مع ألمانيا، والأسطول الفرنسي وأثره، وهتلر ومقاصده، وموقف مصر من إنجلترا، وموقفها من إيطاليا، والوزارة الحاضرة وأخبارها، وماذا تكسب إيطاليا من هذه الغارة ... إلخ.
وفي الجانب الآخر نساء العمارة وأطفالهن، فأما الأطفال فكانوا صورة صادقة من آبائهم، منهم من يصرخ، ومنهم من «يلبد» في حضن أمه، ومنهم من ينام كأن لا شيء؛ ودخل النساء في حديث مشترك ذهب مذاهب شتى في وجوب الهجرة من القاهرة، وكل تحدث بما عزمت عليه، وكيف انتبهت من النوم وأيقظت أولادها، ثم الدنيا ومصائبها، وكيف لم يعد فيها راحة.
وفيما كان الرجال والنساء في هذه الأحاديث المتشعبة والفنون المختلفة، إذا بصوت المدافع تطلق، والانفجار يدوي، فتعقد الألسنة ويسود الوجوم، ويسكت الناس، وتنبح الكلاب؛ ويلتفت بعض الحاضرين إلى سقف المخبأ هل هو متين؟ ماذا يكون شأنه لو دك ما فوقه؟ وإلى المنافذ، هل يحسن أن تبقى هكذا مفتوحة؟ هذه عملية العين؛ وأما الأذن فقد أرهفت لصوت القنابل، وما مقدار المسافة بيننا وبينها؟ هل هي آخذة في القرب منا أو في البعد عنا؛ ثم بدأت الألسنة تتحرك في تثاقل: - هل اشتريت يا أخي كمامات؟ - لا والله. - إنا لم نسمع في هذه الحرب باستعمال الأعداء للغازات الخانقة حتى نحرص عليها. - ولكنهم قد لا يستعملونها في الغرب؛ لأنها عرفت وعرف علاجها، واستعد لها الناس هناك، أما في الشرق فقد تستعمل فمن الواجب الاحتياط لها. - سأنظر. - متى تذهب إلى «الفلاحين»؟ - لا أنوي. - لماذا؟ - لأني أرى الموت بالقنابل أفضل من الموت بالميكروبات. - يمكنك أن تتقي الميكروبات بالتطعيم وغلي الماء وما إلى ذلك، ولكن لا يمكنك أن تتقي القنابل. - الرب واحد والعمر واحد. - إن مصيبة العمر أنه واحد، فلو كان اثنين لتشجعنا في واحد وجبنا في واحد (تبسم خفيف مشوب بمرارة).
سكتت القنابل وطال الانتظار، وفرغ الناس من الكلام، وبدأ النعاس - لا أقول: يداعب أعينهم فليس الوقت وقت مداعبة - ولكنه بدأ يغزو أعينهم، وانسللت من بين القوم إلى مضجعي فنمت، ولم أصح إلا على صفارة الأمان. •••
وتلهفت على موعد الإذاعة اللاسلكية أستوضحها علم ما كان ليلة أمس، فكأنها أيضا أصابها الإغفاء من طول ما أرقت، فمر موعد إذاعة الأخبار في صمت عميق كأنه صمت القبور؛ وانتظرت موعد بائع الجرائد أيضا، فكأنه تآمر مع محطة الإذاعة على كتم الأسرار، فنزلت واشتريتها، فرأيتها تأتي بما أعلم، ولا تذكر شيئا عما لا أعلم، وكان المتكلم الوحيد الذي يأتيني بالأخبار هو الإشاعات المتضاربة المبالغة. ووقفت انتظر الترام فإذا بجانبي طائفة من باعة الجرائد، يفسر أحدهم هذه الغارات بالغريزة والإلهام، لا بالعقل والمنطق، ويرد عليه آخر فيصفعه ويجري.
وأذهب إلى مجتمع من الناس لعمل من الأعمال، فأسمع أحاديث طلية عن ليلة أمس: هذا رعب بيته وتشنجت بنته، وهذا فتح الشباك لينظر هو وزوجه إلى الطيارة وقد حبستها الأنوار الكشافة فكان منظرا جميلا في القمر الجميل! إلى كثير من ألوان الحديث المختلفة. •••
وضرب الناس في الأرض وعادوا سيرتهم الأولى، حتى إذا جاء المساء وفرغنا من عملنا جلسنا إلى مقهى في رفقة من الأصدقاء، وأتى الغلام: - نعم!
بطيخ - خشاف - لبن زبادي - «سندوتش» - «شيشة».
الجو طلق، والهواء جميل، والسماء صافية، والقمر مضيء، وأتى الفتى بكل ما طلبنا.
فأخذ هذا يكركر شيشته، وهذا يجيل الملعقة في خشافه، وذلك يعمل الشوكة والسكين في بطيخه؛ وإذا بصفارة الإنذار تنعق، فترك كل ما هو فيه، هرع إلى المقهى، وأطفئت الأنوار، وأغلقت الأبواب، ولم يدر كل منا أين أصحابه، فتفرقنا حيثما اتفق، وجلست بجانب من لم أعرفهم؛ ففي الجانب الأيمن نكتة لطيفة ضج لها الحاضرون بالضحك، وقام ضحكهم اليوم مقام قنابل أمس، والمصريون لا تفارقهم النكات، حتى في أحرج الأوقات؛ وفي الجانب الأيسر طائفة أكثر جدا وهما، يذكرون ما عسى أن يكون أهلهم وأولادهم في بيوتهم، وماذا عسى أن يتخيل أهلهم وأولادهم فيهم الآن، ويتبادلون هذه الخيالات، وينادي أحدهم من ركن المقهى: يا دكتور، اجلس بجانبي، فإذا جد الجد أسعفتني!
ولم يطل زمن الغارة، فصفرت صفارة الأمن لتمحو ما فعلت أختها صفارة الإنذار، وأسرع الناس إلى أهلهم يطمئنون على حياتهم ويطمئنونهم بحياتهم.
وأصبحت فأخذت القطار لشأن من الشئون، وتوقعت أن يكون الزمن مملا، فقطعته بكتابة هذا الحديث الممل.
الإصلاح الحديث
كان الإصلاح القديم يتجه إلى النتائج فيعالجها، ويترك المقدمات غير عابئ بها، تعمل عملها، فتنتج النتائج نفسها.
وعلى هذا جرى وعظ الواعظ، وتعليم المعلم، ونصيحة الوالد، وكثرة النواهي والأوامر؛ وعلى هذا النمط أيضا عولج الفقر بالتصدق على الفقير، وعولج الإجرام بحبس المجرم، وهكذا.
ثم رقي الإنسان فظهر أن هذا الضرب من الإصلاح على الأقل لا يكفي، فالفقير يسأل فيمنح ثم يسأل فيمنح، ففقره دائم وسؤاله دائم، والمرض دائم، والعلاج لم يكن شافيا، فما دامت المقدمات هي هي فالنتيجة هي هي.
إذا كان مجموع أربعة وخمسة تسعة، ثم استقللت التسعة فمن الحق إذا أدرت زيادتها وتكثيرها أن تحافظ على مفرداتها، فغير المفردات يتغير الجمع، وإلا فالتسعة تسعة على الرغم من كل محاولة.
وإذا لم تعجبك ثمرة شجرة فمن الأمل الخائب أن تنتظر في المستقبل جودتها وحلاوتها ما دمت تحافظ على أصلها وتربتها وجوها وغذائها. •••
كل عمل من أعمال الإنسان يظنه قصير النظر نتيجة وقتية، كان يمكن أن يكون، وكان يمكن ألا يكون، وكان يمكن عكسه، فمن اليسير نهي فاعله لينتهي أو أمره ليأتمر، وهذا كل ما في الأمر.
أما بعيد النظر فيراه كثمرة الشجرة اشترك في تكوينها - على هذا النحو دون ذاك - نوع بذرتها وغذاؤها وجوها وكل ما يحيط بها، فمحال مع كل هذا أن تكون غير ما هي، ومحال أن يصدر عن الإنسان غير ما يصدر عنه، ما دامت كل مقومات العمل هي هي.
ماذا أنا، وماذا أنت؟
ثمرة ككل ثمار الشجر، ونتيجة لكثير من المقدمات.
جزء جمادي يخضع لكل قوانين الجماد التي يخضع لها التراب والحجر والماء، وجزء عضوي يخضع لكل قوانين النبات في مختلف البقاع، وجزء حيواني يخضع لكل قوانين الحيوان في البر والبحر وفي الأرض والسماء، وجزء إنساني يخضع لكل قوانين الإنسان في البلاد الحارة والباردة وفي جوف الصحراء وعلى ساحل البحار أو شواطئ الأنهار.
ثم يأتي بعد ذلك جزء قليل من الشخصية اسمه «أنا» واسمه «أنت» واسمه «هو»؛ وهذه الشخصية قد غمرت وقيدت بالجزء الأكبر من طبيعة الجماد والنبات والحيوان والإنسان.
وحتى هذا الجزء القليل من الشخصية الذي سبب الفروق بين إنسان وإنسان قد عمل في تكوينه عوامل لا تحصى، اشترك فيه الأجداد من آدم وحواء - على الأقل - إلى اليوم، واشترك فيه ما تنقل فيه الآباء من بيئة وإقليم، وما تدينوا من دين، وما اعتنقوا من خرافات وأوهام، وما تبدوا وما تحضروا، وما أصابهم من رخاء أو شقاء؛ هذا شأن القديم، ولا يقل عنه شأن الحديث، فنحن كالمرآة ينطبع فينا كل ما يصل إلى صفحتنا، عن طريق كل حاسة من حواسنا ومن غير حواسنا، وبشعورنا ومن غير شعورنا، ثم يتفاعل كل هذا القديم، وكل هذا الجديد، فيكون نتاجه «أنا» و«أنت» و«هو». ومن المستحيل - مع هذا التفاعل - أن يكون «أنا» غير «أنا» و«أنت» غير «أنت» لا في الخلق ولا في الخلق ولا في العقل ولا في الروح؛ فما أنا وأنت إلا حاصل جمع لأعداد محدودة، أو نتيجة مزج لحرارة وبرودة؛ إن كان كذلك فكيف يكون الإصلاح؟
إذا أردت الإصلاح فلأعمل ما أعمله إذا أردت تغيير حاصل الجمع فأغير مفرداته، وما أعمله في تغيير درجة الحرارة فأغير حرارة العناصر، وما أعمله في تغيير الثمرة بتغيير البذرة، فإن لم أستطع فبتغيير الغذاء.
لست بمستطيع أن أغير ما في من عناصر جماد أو نبات أو حيوان أو إنسان، ولست بمستطيع أن أغير قوانين الوراثة، فأين أنا وآبائي الأولون الذين صبوا في من نفوسهم وطبائعهم وأرواحهم، ثم تركوني وشأني أخضع لقوانين العالم ؛ ثم إني - كمصري - أحمل بجانب طبيعة آبائي أعباء كل تاريخ مصر من قديم ومتوسط وحديث، أحمل ظلم الظالمين وعدل العادلين؛ ونصرة الحروب وهزيمتها وسيطرتها على الأمم وسيطرة الأمم عليها؛ وقد رسم كل ذلك خطوطا في جبين كل مصري لا يقرؤها إلا الله والراسخون في العلم، وما أن بمستطيع تغيير هذه الخطوط أيضا.
ولكن بجانب دائرة غير المستطاع دائرة المستطاع، وهو ما يتجه إليه الإصلاح. أصلح المدينة التي أسكنها، والكتب التي أقرؤها، والروايات التي أشاهدها، والحكومة التي تحكمني، والدين الذي أعتقده، والمدرسة التي أتعلم فيها، والمحاكم التي تحاكمني، والناحية الاقتصادية التي تحيطني، والسياسية التي تسوسني، فتنفعل كل هذه مع وراثتي، فإذا نتيجة التفاعل مختلفة، وإذا حاصل الجمع مختلف، وإذا الإصلاح قد حدث، وبغير هذا لا يكون إصلاح.
ناد ما شئت بإصلاح القرية وإصلاح الفلاح، واخطب على منابر واكتب في المجلات واملأ أعمدة الصحف، فالقرية القرية والفلاح الفلاح، ولا قيمة لهذا كله إلا أن يكون توجيها للعمل؛ إنما تصلح القرية ويصلح الفلاح يوم تدرس مظاهر بؤسها، وأسباب تعاستها وتعاسته، ثم يخصص المال للإصلاح، وتوضع ميزانية الدولة على هذا الأساس وتعالج كل معضلة بإزالة أسبابها.
ومن الغفلة أن تحاول أن تتقي الفجور بإنشاء مكتب الآداب، وتترك أسبابه وعلله كما هي، من فقر وإثارة غريزة، وميل إلى العيش الناعم، وما إلى ذلك من أسباب.
وعالج الفقر بالتصدق على الفقير فسيظل فقيرا، وسيظل الاستجداء كما هو؛ ولكن تعرف أسباب فقر الفقير، فإن كان بطالة فأوجد له عملا، وإن كان عجزا فأوجد له ملجأ، وإن كان سوء تصرف فعالج سوء التصرف بتعليمه حسن التصرف يقل الفقر وينقطع السؤال.
كم وعظ يذهب هباء، وكم نصيحة تضيع سدى؛ لأن الواعظ أو الناصح واجه النتائج وترك المقدمات، وتعرض لحاصل الجمع أو الضرب وترك المفردات، فكان مثله كمثل من ظن أنه بوعظه وإرشاده يستطيع أن يمنع القط أن يؤذي فأرا أو الذئب أن يمس حملا.
إنما منهج الإصلاح الحديث أن يسير وراء المرض يتعرف علله، ثم يجتهد أن يزيل العلل فيزول المرض.
يرى المصلح الحديث أن الجريمة أو سوء الحال لم يأت عفوا فلا يعالج عفوا، إنما أتى من عوامل متعددة، فما بقيت العوامل بقي الإجرام، وبقي سوء الحال؛ فإذا تغيرت الظروف والبيئة انقطع الإجرام وحسن الحال.
يتلخص الإصلاح الحديث في الإيمان بقانون السببية، وبأنه شامل للظواهر الطبيعية، فحسن الأخلاق وسوءها، والإجرام وعدمه، والغنى والفقر، وحال القرية، وحال الفلاح، والفجور والعفة، كل أولئك ينطبق عليها قانون السببية، كما ينطبق على الأجسام المادية التمدد بالحرارة والانكماش بالبرودة، ونحو ذلك من قوانين. •••
كان النمط القديم في الإصلاح يقول: «أطعم الجائع»، والنمط الحديث يقول: «لا يكن جائع» والنمط القديم يقول: «تصدق على الفقير»، والنمط الحديث يقول: «امح الفقر»، والنمط القديم يقول: «احبس المجرم»، والحديث يقول: «اجتث عوامل الإجرام»، والقديم يقول: «أصلح الفلاح وحسن القرية»، والحديث يقول: «أرصد في الميزانية المال لشرب الفلاح ماء نقيا، وعلمه ليطالب بحقوقه، واعدل فيما يصيبه ويصيب المالك، وشرع القوانين حتى يصل إليه ما يكفيه، ورق عقله حتى يعرف كيف ينفق ما يصل إلى يده» تحسن معيشته.
نمط الإصلاح القديم يعتمد على البلاغة والخطابة، ونمط الإصلاح الحديث يعتمد على «معامل» كمعامل الطبيعة والكيمياء، فيه تحليل للظواهر الاجتماعية حتى نعرف أسبابها، وفيه درس عميق وإحصاء دقيق، وفيه تشخيص للمرض، ووضع للمريض تحت الأشعة، وإجراء لتجارب العلاج، وتعرف للنتائج، ثم تنفيذ للعلاج حسي ما أرشد إليه البحث والدرس والفحص.
وعلى الجملة فالنمط القديم ينظر إلى ثمرة الشجرة، والنمط الحديث إلى جذور الشجرة.
في غار حراء
في غار حراء - وهو غار يقرب من ثلاثة أمتار في مترين في قمة جبل على يسار السالك من مكة إلى عرفة - كان محمد وهو في سن الأربعين قبيل الرسالة يتحنث.
كان محمد في هذه الأيام يألف العزلة، «ولم يكن شيء أحب إليه من أن يخلو وحده». «وكان يخرج إلى شعاب مكة وبطون أوديتها». «وكان يقضي شهرا مجاورا في غار حراء».
هكذا تقول كتب السيرة.
فيم كان يفكر؟ وما الذي كان يطلب؟ وما هذه الحالة النفسية الجديدة التي استولت عليه؟ وما الذي جعله يهرب من الناس وقد كان بهم أنيسا؟ يسعد بالوحدة، ويسعى إلى العزلة، ولا يطمئن إلا إلى نفسه وتفكيره! وما الذي جعله يختار قمة جبل يشرف منه على العالم حوله فتسبح نفسه في التفكير من غير أن يحدها حد أو يقف بها عند غاية؟
ما هذه الأفكار التي كانت تملأ نفسه شهرا فلا يمل التفكير، ولعله كان يود أن يبقى كذلك أشهرا لولا واجب أهله وواجب عشيرته؟
ولكن هل لنا أن نتساءل هذه الأسئلة؟ وإذا سألناها فهل في استطاعتنا أن نجيب عنها؟
هل في استطاعة الجاهل أن يشرح أفكار الفيلسوف؟ وهل في مكنة من لا يحسن الرياضة أن يتخيل ما يفكر فيه الرياضي؟ وهل للنملة أن تتساءل: فيم يفكر الإنسان؟
ولكن ما حيلة الإنسان وقد خلق طموحا إلى أقصى حد وأبعد غاية، ولم يقنع في باب المعرفة بشيء؟ لم يقنع بالأرض ففكر في السماء، ولم يقنع بالظاهر ففكر في الباطن، بل لم يقنع بآثار الله فأراد أن يعرف ذات الله، وهيهات هيهات! •••
أكبر الظن أن «محمدا» في هذه الفترة، وعلى الأخص في غار حراء كان في حيرة ما أشدها من حيرة، عبر الله عنها بقوله: «ووجدك ضالا فهدى».
لقد عرف قومه فلم يعجبه دينهم، ولا نوع حياتهم، ولا كفرهم ولا إيمانهم ولا أخلاقهم؛ وسافر إلى الشام فرأى فيها مدنية الرومان بمالها وأعمالها التجارية وترفها ونعيمها ودينها الرسمي ومظاهره، فلم يعجبه شيء من ذلك. لقد رآهم يعيشون كما يعيش السمك يأكل بعضه بعضا، أو كما تعيش الذئاب والشياه في حظيرة واحدة. رحماك اللهم! ما هذه الحيرة الشاملة؟ لا البداوة بسذاجتها ونظامها أعجبته، ولا الحضارة بترفها وزخارفها أعجبته. لم يعجبه ما رأى من وثنية، ولم يعجبه ما رأى من نصرانية. فأين الحق؟
لقد اطمأن إلى شيء واحد، هو أن كل ما رأى ضلال؛ وحيره شيء واحد هو سؤاله أين الهدى!
حالة نفسية إذا تملكت نفسا مرهفة وشعورا دقيقا ملكت نفسه وغمرت قلبه؛ فحلا له أن يعتزل الناس ؛ لأنهم يحولون بينه وبين تفكيره، ويقطعون عليه سلسلة مشاعره.
لقد جرب العزلة الساعة واليوم فوجدها تفتح قلبه وتريح نفسه ، ووجد فيها مفتاحا لحيرته، واتجاها لهدايته، فبالغ فيها حتى بلغت الشهر!
إن الناس وضوضاءهم ومناظر حياتهم يضنون نفسه فليهرب منهم. وإن منظر الطبيعة بجمالها وبهائها ورونقها ليحيي نفسه فليطمئن إليها. يتعاقب عليه في عزلته الليل والنهار فيجد في كل غذاء نفسه: هذا الليل في أعلى الجبل بسكونه وهدوئه، وسمائه ونجومه، والعالم حوله كله نائم، وهو يناغي النجم، ويشاطره الاضطراب والحيرة، وهذا النهار - في أعلى الجبل أيضا - يشرف منه على العالم من تحته، فيهزأ بالناس وسخافاتهم هزؤا مشوبا برحمة. واستخفافا ممزوجا بعطف.
كل ذلك أو أكثر من ذلك كان يخفق له قلب محمد في غار حراء.
لقد عرف البطل، ويريد أن يعرف الحق، وأدرك الضلالة ويريد أن يدرك الهدى، ولم يحب ما عليه الناس، ولكن يريد أن يعرف ما ينبغي أن يكون عليه الناس.
هذا الظلام فأين النور؟ وهذا العمى فأين البصر؟ وهذا ما يجب ألا يكون، فأين ما يجب أن يكون؟ •••
لقد طلب الحق - في غار حراء - بعد أن تهيأت نفسه، واستعدت روحه، وكملت مشاعره، وتوجت بالحيرة، فكانت حيرته إرهاصا لليقين، وضلاله إرهاصا للهدى.
لم يطلب الحق من طريق الشعر؛ فالشاعر يتخيل ثم يخال، والشاعر يخلق ما لم يكن، ولا يدرك ما يجب أن يكون، والشاعر يغني لنفسه - أولا - ولا بأس أن يسمع الناس، والشاعر يعيش في جو خيالي يخلقه بنفسه لنفسه، وليس هذا من النبوة في قليل ولا كثير. ولم يطلب الحق من طريق الفلسفة أو العلم، فكلاهما عبد المنطق، عبد الألفاظ، عبد الكتب، عبد النصوص. وقصارى أمرهما أنهما عبدان للعقل، والعقل معيب مغرور مضل؛ ولكل إنسان عقله، ولكل إنسان تفكيره، ولكل إنسان منطقه وقضاياه.
إنما طلب محمد الحق من طريق أسمى من ذلك كله، وأرفع من ذلك كله: طلبه من طريق القلب، وأعلن أنه لم يطلب علما ولكن طلب إيمانا، فأعلن أنه أمي وفخر بأميته؛ لأن القلب فوق اللغة ، وفوق الكتابة والقراءة، وفوق العلم، وفوق المنطق؛ وهو القدر المشترك بين الناس، لا يؤمن بحدود اللغة والجنس، ولا يؤمن بحدود اللسان والألوان.
من أجل هذا لم يذهب - وقد حار - إلى معلم يعلمه الكتاب، ولا إلى مثقف بالكتب والأديان، وإنما فضل على ذلك كله غار حراء حيث الطبيعة - على فطرتها - مفتوحة أمام قلبه، وحيث يتصل هو وهي بربها وربه.
لقد اهتدى إلى الصراط المستقيم، واتجه اتجاه الأنبياء، لا اتجاه الشعراء والعلماء، وتهيأ للأمر العظيم، فلمعت في قلبه الشرارة الإلهية، كما يتهيأ السحاب فيلمع البرق.
لقد أضاءت له هذه الشرارة الإلهية كل شيء، وكانت رسالته من جنس هدايته؛ فرسالته أن يبعث الحياة في القلب، ويبعث الضوء إلى النفس، كالقمر يستمد نوره من الشمس، ثم يعكس أشعته الجميلة على الناس، يشترك في الاهتداء به العالم والجاهل، والذكي والغبي، والفيلسوف والعامي، على اختلاف فيما بينهم؛ لأن لديهم جميعا قدرا مشتركا من القلب صالحا للاهتداء.
وليست العقول مسايرة في الرقي والانحطاط للقلوب، فقد يكون مريض القلب صحيح العقل، وقد يكون صحيح القلب مريض العقل، ومقياس صحة الاستفادة من النبوة صحة القلب لا صحة العقل؛ فلذلك آمن بلال قبل أن يؤمن عمرو بن العاص، وأسلمت جارية بني مؤمل قبل أن يسلم أبو سفيان. •••
كانت فترة غار حراء الحد الفاصل بين محمد بشرا، ومحمد بشرا رسولا. لقد صعد إليه إنسانا حائرا، وهبط منه إنسانا نبيا، مهتديا مطمئنا. صعد شاكا وهبط مؤمنا. لمع في قلبه النور الإلهي فإذا كل شيء حوله شفاف يراه بقلبه ويكشفه بنوره.
نزل من الغار يدعو الناس أن يستضيئوا بضوئه، وأن يحيوا قلبهم من حياة قلبه، وأن يسمعوا لصوت الله على لسانه، وأن يروا عظمة الله في كل أثر من آثاره. •••
أي شهر كان هذا الشهر؟ لو وزن به الزمان لوزنه. وأي مكان غار حراء؟ لو فاضل كل مكان لفضله.
قانون الرحالة
منذ نحو ألف عام نبغ في بيت المقدس عالم جليل اسمه أبو عبد الله محمد بن أحمد المقدسي، نظر فرأى أن العلماء قد سبقوه في اختراع العلوم وترتيبها، ثم خلف من بعدهم خلف شرحوا ما دونوا، واختصروا ما طولوا، فعز عليه ألا يبتكر كما ابتكروا، وألا ينفرد بشيء كما انفردوا، وعاف أن يكون صدى لغيره، يجمع ما فرقوا، أو يفرق ما جمعوا، فأخذ يستعرض جوانب نقصهم حتى يكملها، ونواحي أغفلوها حتى يبتكرها. قال: «فرأيت أن أقصد علما أغفلوه، وأتفرد بفن لم يذكروه»، ذلك أنه رأى المملكة الإسلامية في القرن الرابع الهجري لم توصف وصفا كافيا شافيا، لا من ناحية جغرافيتها، من مفاوز وبحار، وبحيرات وأنهار، ومدن وأمصار، ونبات وحيوان، ولا من ناحيتها الاجتماعية «من اختلاف أهل البلدان في كلامهم وأصواتهم، وألسنتهم وألوانهم، ومذاهبهم، ومكاييلهم وموازينهم، ونقودهم وصروفهم، وصفة طعامهم وشرابهم، ومعرفة مفاخرهم وعيوبهم، ومعادن السعة والخصب، ومواضع الضيق والجدب».
ورأى - كما قال - أن ذلك علم لا بد منه للتاجر والمسافر، والملوك والكبراء والقضاة والفقهاء.
نعم قد اتجه بعض العلماء قبله إلى هذا الباب، ولكنه رأى أنهم قصروا وما أنصفوا، فمنهم من نقل في كتبه ما سمع من أفواه الناس واكتفى بذلك، ومنهم من اقتصر على المصور الجغرافي وشرحه، ومنهم من اقتصر على ذكر المدن المشهورة.
وعلى كل حال فقد استعرض كل ما ألف قبله في هذا العلم فلم يرتضه.
فانتدب مؤلفنا نفسه لهذه المهمة، وإكمال هذا النقص، وإحراز قصب السبق، ورسم لنفسه خطة محكمة أتم إحكام، دقيقة أكمل دقة، حتى ليصح - بحق - أن تعد «قانون الرحالة»، فهو يقول: «إني أسست هذا الكتاب على قواعد محكمة وأسندته بدعائم قوية»؛ ولكن ما هي هذه القواعد المحكمة التي وضعها؟
فأول كل شيء قرر أن يرحل إلى الأقطار الإسلامية ويشاهدها بنفسه ففعل، فإذا دخل بلدة درسها أتم درس، وعلى حد تعبيره «ذاق هواءها، ووزن ماءها، ولقي علماءها، وخدم ملوكها، وجالس القضاة والفقهاء، واختلف إلى الأدباء والقراء، وخالط الزهاد والمتصوفين، وحضر مجالس القصاصين، وتاجر فيها، وعاشر أهلها، ومسح إقليمها، ودار على تخومها، وفتش عن مذاهب سكانها، ودقق النظر في ألسنتهم وألوانهم».
وفي الحق أن الرجل كان في عمله المثل الأعلى للرحالة، فقد عمل كل ما يمكن عمله لدراسة البلاد والوقوف على عاداتها وأحوالها. ولا أدل على ذلك من أن أتركه يتكلم إلى القراء عما عمله في هذا الباب. قال:
لم أترك شيئا مما يلحق المسافرين إلا وقد أخذت منه نصيبا، فقد تفقهت وتأدبت، وتزهدت وتعبدت، وفقهت وأدبت، وخطبت على المنابر، وأذنت على المنائر، وأممت في المساجد، واختلفت إلى المدارس، وتكلمت في المجالس، وأكلت مع الصوفية الهرائس، ومع الخانقائيين الثرائد، ومع النواتي العصائد، وطردت في الليالي من المساجد، وتهت في الصحاري، وسحت في البراري، وصدقت في الورع زمانا، وأكلت الحرام عيانا، وصحبت عباد جبال لبنان، وخالطت حينا السلطان، وملكت العبيد، وحملت على رأسي بالزنبيل، وأشرفت مرارا على الغرق، وقطع على قوافلنا الطرق، وخدمت القضاة والكبراء، وخالطت السلاطين والوزراء، وصاحبت في الطرق الفساق، وبعض البضائع في الأسواق، وسجنت في الحبوس، وأخذت على أني جاسوس، وعاينت حرب الروم في الشواني
1 ، وضرب النواقيس في الليالي، ونزلت في عرصة الملوك بين الأجلة، وسكنت بين الجهال في محلة الحاكة، وكم نلت العز والرفعة، ودبر في قتلي غير مرة، ولبست خلع الملوك وأمروا لي بالصلات، وعريت وافتقرت مرات، ورميت بالبدع، واتهمت بالطمع، واتبعني الأرذلون، وعاندني الحاسدون، وسعي بي إلى السلاطين، ودخلت حمامات طبرية والقلاع الفارسية، ورأيت يوم الغوارة وعيد بربارة، ولقد ذهب لي في هذه الأسفار فوق عشرة آلاف درهم، سوى ما دخل علي من التقصير في أمور الشريعة، ولم تبق لي رخصة مذهب إلا وقد استعملتها، وما سرت في جادة وبيني وبين مدينة عشرة فراسخ إلا فارقت القافلة وانفتلت إليها لأنظرها، وربما اكتريت رجالا يصحبونني، وجعلت مسيري في الليل لأرجع إلى رفقائي، ومثل هذا كثير. وإنما ذكرت هذا القدر ليعلم الناظر في كتابنا أننا لم نضعه جزافا، ولا رتبناه مجازا، فكم بين من قاسى هذه الأسباب وبين من صنف كتابه في الرفاهية ووضعه على السماع.
هذا برنامجه فيما شاهده. أما ما لم يشاهده فبرنامجه فيه «أن يسأل ذوي العقول من الناس، ومن لم يعرف بالغفلة والالتباس، وأن يسأل عن الشيء الواحد جماعة مختلفة؛ فما اتفقوا عليه أثبته، وما اختلفوا فيه نبذه، وما حكوه ولم يقبله عقله أسنده إلى من وراءه أو قال فيه «زعموا».
وهذا منتهى الصدق والإنصاف، والدقة والتحري.
وجاءته فكرة «الخرائط» فعملها في كتابه، بل جاءته فكرة الخرائط الملوية واختيار الألوان المناسبة فقال:
ورسمنا حدودها وخططها وحررنا طرقها المعروفة بالحمرة، وجعلنا رمالها الذهبية بالصفرة وبحارها الملحة بالخضرة، وأنهارها المعروفة بالزرقة، وجبالها المشهورة بالغبرة، ليقرب الوصف إلى الأفهام، ويقف عليه الخاص والعام.
غير أن هذه الخرائط - مع الأسف - لم تصل إلينا مع كتابه.
وقد ساح في جزيرة العرب والعراق والشام ومصر والمغرب ثم في بلاد فارس والسند والهند، ودون ما شاهده حسبما وضع من قواعد، وألف في ذلك كتابا سنة 375ه سماه «أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم»
2 .
وقد لخص رأيه في الأقاليم التي زارها، في جملة في ثنايا الكتاب فقال: «أظرف الأقاليم العراق، وهو أخف على القلب، وأحد للذهن، وبه تكون النفس أطيب، والخاطر أدق. وأوسعها فواكه، وأكثرها علماء وأجلة «المشرق»
3 . وأكثرها صوفا وقزا ودخلا على قدرة الديلم
4 . وأجودها ألبانا وأعسالا، وألذها أخبازا وأمكنها زعفرانا الجبال
5 . وأسفلها قوما، وشرهم أصلا وفصلا خوزستان. وأحلاها تمورا وأوطؤها قوما كرمان. وأكثرها فانيذا وأرزازا ومسكا وكفارا السند. وأكيسها قوما وتجارا ... فارس. وأشدها حرا وقحطا جزيرة العرب. وأكثرها بركات وصالحين وزهادا ومشاهد، الشام. وأكثرها عبادا وقراء وأموالا ومتجرا وحبوبا، مصر. وأخوفها سبلا وأجودها خيلا وأوسطها قوما أقور
6 . وأجفاها ... وأكثرها مدنا وأوسعها أرضا المغرب».
وقال في موضع آخر: لم أر أطمع من أهل مكة، ولا أفقه من أهل يثرب، ولا أعف من أهل بيت المقدس، ولا آدب من أهل هراة، ولا أذهن من أهل الري ... ولا أصح موازين من أهل الكوفة، ولا أحسن من أهل حمص وبخارى، ولا أحسن لحى من الديلم، ولا أشرب للخمور من أهل بعلبك ومصر، إلخ ... فإن سأل سائل: أي البلدان أطيب؟ نظر، فإن كان يطلب الدارين، قيل له: بيت المقدس، وإن كان يطلب النعمة والحيازة والرخص والفواكه، قيل له: كل بلد أجزاك، وإلا فعليك بخمسة أمصار: دمشق، والبصرة، والري، وبخارى، وبلخ. ومن أراد التجارة فعليه بعدن أو عمان أو مصر».
وقال في موضع ثالث: «واعلم أن بغداد كانت جليلة في القديم، وقد تداعت الآن للخراب، واختلت وذهب بهاؤها، ولم أستطبها ولا أعجبت بها، وإن مدحناها فللمتعارف. وفسطاط مصر اليوم كبغداد في القديم، ولا أعلم في الإسلام بلدا أجل منه» إلخ.
ولما جاء مصر في رحلته أعجب بالفسطاط، وقال: إنه لم ير في الأمصار آهل منه، وأعجب بما فيه من كثرة العلماء، وقال: ليس في الإسلام أكبر مجالس من جامعه (جامع عمرو) وقد سرته أطعمته وحلواه، وكثرة بقوله وفواكهه، وأعجبته نغمة أهله بالقرآن، ودهش من كثرة المراكب في النيل، ومن كثرة المصلين في المساجد، ولكنه لم تعجبه كثرة البراغيث بها، وانتقد عدم عناية المصريين بالنظافة، وازدحام مساكنهم بالسكان، وكثرة الكلاب فيها، كما انتقد شرب الخمور، وانتشار الفجور، وكثرة السباب.
وحدثنا أن أهل الشام يعيبون على أهل مصر ثلاثة: «أن مطرهم الندى، وطيرهم الحدا، وكلامهم رخو مثل النسا». •••
وأيا ما كان فقد نخالفه ويخالفه المحدثون فيما وصف من مزايا الأقاليم وعيوبها، ولكن عذره أنه وصف ما شاهد، كما وصف أثر هذه المشاهد في نفسه، وقد يكون اختلاف رأينا عن رأيه اختلاف زمان، فزماننا قد تغيرت فيه الأوضاع والأوصاف عما كانت في زمنه، وألف سنة ليست بالقليلة في تغيير الشعوب.
وعلى كل فأهم ما للرجل برنامجه الدقيق الذي وضعه والتزمه، ولا يزال إلى الآن في نظري المثل الأعلى للرحالة، وقل أن يفوقه فيه الرحال المحدثون. فمن منهم يفعل ما يفعل؟ فيبيع في الأسواق ليعرف الحالة التجارية للبلاد التي رحل إليها، ويخدم ليعرف حال القصور، ودخائل البيوت، ويخالط التجار ويأكل مآكلهم ليتعرف عاداتهم، ويتشكل - كما قال - بكل الأشكال إلى الكدية؟
اللهم إن هذا - في بابه - لعظيم!
أسباب الضعف في اللغة العربية
1
رددت الجرائد والمجلات الشكوى من ضعف الطلبة وخريجي الجامعة في اللغة العربية - ولا شك أنها مسألة لا يصح أن تمر من غير أن يتداولها الكتاب بالشرح والتعليل، ويقلبوها على وجوهها المختلفة، حتى يصلوا إلى علاج حاسم .
أما أن الطلبة ضعاف جدا في اللغة العربية فأمر لا يحتاج إلى برهان. فأكثرهم لا يحسن أن يكتب أسطرا ولا أن يقرأ أسطرا من غير لحن فظيع يكاد يكون بعدد الكلمات التي يكتبها أو يقرؤها؛ وهم إذا خطبوا أو قرءوا أو كتبوا أو أدوا امتحانا رأيت وسمعت ما يثير العجب ويبعث الأسف. وأما أن الضعف في اللغة العربية نكبة على البلاد فذلك أيضا أمر في منتهى الوضوح؛ لا لأن اللغة العربية لغة البلاد، والضعف فيها ضعف في القومية فقط؛ بل لأنها اللغة التي يعتمد عليها جمهور الأمة في ثقافتهم وتكون عقليتهم؛ فاللغة الأجنبية التي يتعلمها طلاب المدارس الثانوية والعالية ليست هي عماد الثقافة للبلاد، وليست هي التي تكون أكبر جزء في عقليتنا، إنما الذي قوم بهذا كله هو اللغة العربية التي نتعلمها في الكتاتيب ورياض الأطفال، وندرس بها العلوم المختلفة في المدارس الابتدائية والثانوية والعالية. فالضعف في اللغة العربية ضعف في الوسيلة والنتيجة معا، على حين أن الضعف في اللغة الأجنبية في كثير من الأحيان ضعف في الوسيلة فقط؛ ولهذا أعتقد أن معلم اللغة العربية في المدارس على اختلاف أنواعها عليه أكبر واجب وأخطر تبعة، وبمقدار قوته وضعفه تتكون - إلى حد كبير - عقلية الأمة.
وبعد، فما هي الأسباب التي نشأ عنها هذا الضعف؟
عندي أن الأسباب ترجع إلى أمور ثلاثة: طبيعة اللغة العربية نفسها، والمعلم الذي يعلمها، والمكتبة العربية.
فأما طبيعة اللغة فهي صعبة عسرة إذا قيست - مثلا - باللغة الإنجليزية أو الفرنسية. ويكفي للتدليل على صعوبتها ذكر بعض عوارضها: فهي - مثلا - لغة معربة، تتعاور أواخرها الحركات من رفع ونصب وجر وجزم حسب العوامل المختلفة؛ ولا شك أن اللغة المعربة أصعب من اللغة الموقوفة، أعني التي يلتزم آخرها شكلا واحدا في جميع المواضع ومع جميع العوامل، كاللغة الإنجليزية والفرنسية.
وهي صعبة كذلك من ناحية أن حروفها وحدها لا تدل على كيفية النطق بها، بل لا بد لصحة النطق من الضبط بالحركات أو المران الطويل، على عكس اللغات الأوروبية التي تدل كتابتها على كيفية النطق بها في أكثر مواضعها. والضبط بالشكل عسير فلا نستعمله في الجرائد والمجلات ولا في أكثر الكتب الأدبية قديمها وحديثها.
وهي صعبة - أيضا - من ناحية الاختلاف الكثير في الفعل الثلاثي، فله أشكال كثيرة لا يمكن إخضاعها لضوابط حاسمة، وكصيغ جمع التكسير، فهي كثيرة وضوابطها قلما تطرد، وكنظام العدد والمعدود، فإنه معقد تعقيدا شديدا حتى لا يجيده إلا الخاصة وأشباههم.
كل هذا ونحوه يجعل اللغة العربية صعبة المنال، وإتقانها يحتاج إلى مران كثير ومجهود كبير من المتعلم والمعلم.
ولست أعرض هذا لبيان ما إذا كانت هذه الأغراض مظهرا من مظاهر رقي اللغة أو ضعتها، فإن هذا لا يعنيني الآن، وأما الذي يعنيني فهو تقرير صعوبة اللغة العربية وحاجتها الشديدة إلى عناية كبرى لتذليل صعوباتها، ورسم أقرب خطة للتغلب عليها، حتى يحذقها المتعلم من أقرب سبيل. •••
فإذا نحن وصلنا إلى المعلم فقد وصلنا إلى نقطة شائكة؛ ذلك لأننا اعتدنا دائما إلى أن ننقل النقد في الأمور العامة إلى مسائل شخصية، ونحول الكلام في المبادئ العامة إلى فئات وأحزاب، ونسيء الظن بالناقد، فإن كان من فئة خاصة ظنوا أنه يدافع عن فئته، وأنه يريد تنقص غيره. فهل يسمح لي المعلمون بأن أصارحهم القول مؤكدا أن لا غرض لي إلا الإخلاص للحق؟
إن كان الأمر كذلك فإني أصدقهم القول بأن جزءا كبيرا من ضعف اللغة العربية يرجع إليهم. ولست أنكر أن منهم أفذاذا نابغين يصح أن يكونوا المثل الذي ننشده، ولكن المنطق عودنا أن يكون حكمنا على الكثير الشائع لا على القليل النادر.
فالحق أن دار العلوم والأزهر وكلية الآداب لم تستطع أن تخرج المعلمين الأكفاء، الذين نتطلبهم والذين تتطلبهم اللغة العربية للأخذ بيدها والنهوض بها، ومحاربة الضعف المتفشي فيها.
فأما دار العلوم فقد تأسست، والذي دعا وزارة المعارف إلى إنشائها أنها أحست عجز الأزهر عن أن يمدها بالمعلمين الصالحين، إذ رأت أن الأزهر تنقصه - إذ ذاك - الثقافة الحديثة والعلم بمناهج التربية والتعليم، وقد نجحت الوزارة في تحقيق هذا الغرض إلى حد كبير، وأخرج رجالا نهضوا باللغة العربية إلى حد ما، وأحسنوا التدريس على خير مما كان يدرسه الأزهريون، ولكن دار العلوم كانت سادة لحاجة الأمة في السنين الأولى من إنشائها، ثم تقدمت الأمة في ثقافتها ووقفت دار العلوم حيث كانت، فأصبحت لا تؤدي رسالتها كاملة، وأصبح خريج دار العلوم لا يحذق الأدب القديم ولا الأدب الحديث، ولا يستطيع تغذية الشعب بالأدب الذي هو في حاجة إليه، وليس له من المهارة في الوسائل ما يستطيع به أن ينهض بالطلبة النهوض اللائق، ولا هو يساير الزمن في ثقافته حتى يخضع الطلبة لشخصيته القوية؛ ودليل ذلك أمور كثيرة: منها ضعف المكتبة العربية وهو ما سأبينه بعد؛ ومنها عجز معلمي اللغة العربية عن تشويق الجمهور والطلبة إلى القراءة العربية، حتى إنا نرى الناشئ لا يكاد يستطيع القراءة في الكتب الأجنبية حتى يهيم بها ويفضلها ألف مرة على المطالعة العربية؛ ومنه نظر الطلبة في صميم نفوسهم على أن اللغة العربية مادة ثانوية، وإن وضعت في المناهج في أوائلها؛ ومنها أن ثقافة الجمهور فيما تتعلق بالتاريخ الإسلامي والأدب العربية والمعلومات العامة التي تتصل بذلك ضعيفة إلى حد بعيد، والمسئول عنها - كما أسلفنا - هم معلمو اللغة العربية؛ لأنها لغة البلاد وعليها يعتمد في تكوين العقلية، إلى كثير من مثل هذه الأسباب.
وأما الأزهر من ناحية اللغة العربية، فهو الآن وليد دار العلوم، والمشرف على تعليم اللغة العربية فيه هم خريجوها؛ فقصاراه أن يبلغ من الرقي ما بلغته مدرسة دار العلوم في تعليمها ونظمها ومناهجها، حتى يحل محلها؛ ويكفي هذا برهانا على أنه لا يحقق الغرض الذي نرمي إليه.
وأما قسم اللغة العربية في كلية الآداب فكذلك ناقص ضعيف، فهو يعلم طرق البحث الجامعي، وهذا يضطره على أن يتوسع في مسألة وأن يهمل مسائل، فلا يخرج الطالب دارسا لكل ما ينبغي أن يدرس. أضف إلى ذلك أنه يعتمد في طلبته على طائفة تخرج أكثرها من المدارس الأميرية، وحصلوا على شهادة الدراسة الثانوية، وهؤلاء لا يصلحون صلاحية تامة لدراسة اللغة العربية إلا بعد عهد طويل لا تكفي له سنو الدراسة الجامعية؛ ذلك أن اللغة العربية - إلى الآن - متصلة اتصالا وثيقا بالدين، ولا يمكن أن يحذقها ويستطيع أن يفهم كتبها القديمة إلا من بلغ درجة عالية في فهم القرآن والحديث والفقه وأصول الفقه والتاريخ الإسلامي. والطلبة الذين تأخذهم الجامعة لهذا القسم لم يثقفوا هذه الثقافة، ولا تستطيع الجامعة أن تكمل هذا النقص مهما بذل المدرسون من الجهد. ومن أجل هذا ترى أن طلبته بينما يجيدون نهج البحث في بعض المسائل، يقصرون في مسائل تعد في نظر الأزهر ودار العلوم مسائل أولية وهي في الواقع كذلك. •••
إذا من الحق أن نقول: إن المعاهد التي تدرس اللغة العربية في مصر تعجز عن إخراج المعلم الكفء. ومن العجيب أن توجد هيئات ثلاث لتحضير معلمي اللغة العربية والبلد لا يحتاج إلا إلى هيئة واحدة؛ ثم كل هذه الهيئات معيب لتوزع قواها، ولو وحدت القوى في هيئة واحدة لاستطاعت أن تخرج خير أنموذج للمعلم، ولكن يعصف بهذه الفكرة الصالحة تعصب كل فئة لنفسها، وتدل السياسة عند حلها، فضاعت بذلك المصلحة العامة. •••
ويتصل بأمر المعلمين مسائل كانت هي الأخرى سببا في الضعف، وهي مناهج الدراسة والامتحانات والتفتيش.
فمناهج تدريس اللغة العربية متحجرة برغم ما يبدو من مدنيتها وأناقتها. خذ - مثلا - منهج قواعد اللغة العربية والبلاغة تجد أنهما إلى الآن لا يزالان هما بعينيهما منهجي سيبويه والسكاكي على الرغم من زخرفتهما؛ فالتقسيم الذي قسمه سيبويه في النحو، والتعاريف التي وضعها، والمصطلحات التي ذكرها هي هي في كتب المدارس اليوم. وكل ما حديث حتى في الكتب التي ألفت منذ سنوات قليلة هو ذكر المثلة الرشيقة وتبسيط الشرح، ولكن لم يبذل مجهود موفق في معالجة النحو على أساس جديد كضم مسائل متعددة إلى أصل واحد حتى يسهل على الطلبة فهمها وتحصيلها. وكوضع مصطلحات جديدة أقرب إلى الفهم ونحو ذلك؛ وحسبنا دليلا على ذلك ما نراه في أجروميات اللغات الحية الأخرى؛ فأجرومية اللغة الفرنسية أو الإنجليزية اليوم تخالف - في الجوهر - ما كانت عليه منذ عشرين سنة فضلا عن قرن وقرنين.
ومصيبتنا في البلاغة أعظم، فبرامجنا لا توحي بلاغة، ولا تربي ذوقا؛ وإلا فقل لي بربك: ماذا تفيد دراسة «الفصل والوصل» على هذا المنهج إلا تكرير مصطلحات فارغة ككمال الاتصال، وكمال الانقطاع، وشبه كمال الانقطاع، وشبه كمال الاتصال؟ وأخبرني: أي أديب يراعي ذلك عند كتابته؟ ومتى كانت هذه المصطلحات الفارغة وسيلة لرقي الذوق الأدبي؟
وليست برامجنا في الأدب بأقل سوءا من هذين، فإنا نضع في البرنامج أول الأمر مسائل فلسفية وقواعد في النقد وتاريخ الأدب في العصور المختلفة قبل أن يلم الطالب بجمهرة كبيرة من الأدب يقرؤها ويحفظها ويتذوقها، وبذلك نقدم له نتائج من غير مقدمات، ونصعده على السطح من غير سلم.
والذين يضعون البرامج يكلفون وضعها في أسبوع أو أسبوعين أو شهر أو شهرين. وماذا على وزارة المعارف لو كلفت من يضع لها البرامج المستقبلة في سنتين أو أكثر على ألا تضوع إلا بعد دراسة عميقة، ثم تنشر في الجرائد والمجلات وتتقبل الاعتراضات عليها ويعمل بالصالح منها، ثم تثبت الوزارة العمل بها عهدا طويلا حتى تتم تجربتها؟
ثم الامتحانات أمرها غريب! فمع هذا الضعف الذي نسمعه في كل مكان تظهر نتيجة الامتحانات في اللغة العربية باهرة، والسقوط فيها نادرا، فشيء من شيئين: إما أن تكون الشكوى في غير محلها، وهذا ما لا يسلم به عاقل، أو تكون الامتحانات على غير وجهها، وهذا ما يقوله كل عاقل. وسبب هذا السوء في الامتحان كثير؛ فنظريات النحو واسعة تحتمل أن يكون لكل خطأ تأويل من الصواب، ومنها عدم تقدير وقة الامتحانات في جملتها، حتى يصح أن يسقط الطالب إن أتى بخطأ شنيع في موضع ولو أصاب في مواضع أخرى؛ ومنها الرحمة والشفقة في التصحيح، وأؤكد أن لو زالت هذه الرحمة سنة من السنوات وأدرك الطالب ما تعامل به ورقته من الحزم في الامتحان لخدم هذا الموقف اللغة العربية في المدارس جملة سنين.
ثم التفتيش. والمفتش معذور، فهو كالقاضي يطبق مواد القانون ولا يشرعها، فعليه أن ينظر كم موضوعا إنشائيا كتبه الطلبة، وهل هذا يتناسب مع العدد المقرر في السنة، وهل ترك المدرس كلمة كتبها الطالب خطأ في كراسته، من غير أن يصححها، وهل أساء المدرس إساءة كبرى فاستعمل كلمة «التليفون» و«الراديو» أو على العموم استعمل كلمة ليست في «القاموس المحيط» أو «لسان العرب». فأما هل نجح المدرس في تعليمه اللغة العربية لطلبته، وما الوسائل التي استعملها، وهل تقدم الطلبة في القراءة والكتابة فأمر في المنزلة الثانوية؛ وأما ما ينبغي أن يدرس هنا أو لا يدرس، وما العوامل في الرقي باللغة العربية - على العموم - فأمر يرجع في الأغلب إلى المشرع لا إلى المفتش.
نعود - بعد - إلى الأسباب الأخيرة من أسباب ضعف اللغة العربية. وهي مسألة «المكتبة العربية» فالحق أنها مكتبة ضعيفة فاترة، هي مائدة ليست دسمة ولا شهية ولا متنوعة الألوان. والحق أيضا أن القائمين بإحضارها لم يجيدوا طهيها؛ فدار العلوم - وقد أتى على إنشائها أكثر من خمسين عاما خرجت فيها الألوف من أبنائها - هل أجادت في إخراج الكتب النافعة المختلفة الألوان والموضوع؟ أو هي قصرت كل التقصير، فأخرجت من الكتب ما لا يتفق وعدد خريجيها ومنزلتهم في الحياة الاجتماعية والأدبية؟
والأزهر - وهو أقدم عهدا وأعرق أصلا - لم يشترك في التأليف الحديث اشتراكا جديا، ولم يساهم بالقدر الذي كان يجب عليه، ولم يعرف عقلية الناس في العصر الحديث حتى يخرج لهم ما هم في أشد الحاجة إليه.
وكلية الآداب - وإن قصر عهدها - لم تؤد رسالتها في هذا الموضوع كاملة، واتجهت أكثر ما اتجهت إلى الثقافة الخاصة لا العامة.
فمكتبتنا في كل نواحيها ناقصة من ناحية الأطفال، ومن ناحية الجمهور، ومن ناحية المتعلمين. وحسبك أن نقوم بسياحة في مكتبة إفرنجية وأخرى في مكتبة عربية لترى الفرق الذي يحزنك، ويبعث في نفسك الخجل والشعور بالتقصير.
ماذا يقرأ الطفل في بيته وفي عطلته؟ وماذا تقرأ الفتاة في بيتها؟ وأين الروايات الراقية التي يصح أن نضعها في يد أبنائنا وبناتنا؟ وأين الكتب في الثقافة العامة التي تزيد بها معلومات الجمهور؟ وأين الأدب القديم المبسط؟ وأين الأدب الحديث المنشأ؟ الإجابة عن هذه الأسئلة يعرفه كل قارئ لمقالتي. وواضح أن اللغة لا ترقى بكتبها في قواعد النحو والصرف والبلاغة بمقدار ما ترقى بالكتب الأدبية ذوات الموضوع.
سيقول المعلمون: وماذا نصنع وليس العيب عيبنا، فوزارة المعارف ترهقنا بالدروس، وترهقنا بنظام الكراسات وتصحيحها، وبنحو ذلك حتى لا نجد وقتا لترقية نفوسنا والازدياد في معلوماتنا فضلا عن المساهمة في تضخيم «المكتبة العربية» والمشاركة في إصلاح جوانب النقص منها.
ذلك حق، ولكنه ليس ردا على ما أقول، فإني في هذا المقال أكتفي باستعراض الأدواء استعراضا خاطفا سريعا من غير أن أعني كثيرا بتحديد المسئول.
2
قرأت في الصحف وصفا لعلاج قيل: إن مكتب التفتيش في وزارة المعارف اقترحه؛ وخلاصته زيادة الحصص للغة العربية، وتوسيع مكتبة التلميذ. وأظن أن هذا علاج ليس كافيا ولا شافيا، وأنه لا يلاقي المرض في الصميم، وأنه لا يقدم في الموضوع ولا يؤخر، فلو ضاعفنا الحصص والمعلم على حاله من النقص، والمنهج كما هو من الضعف، لم نصل إلى نتيجة ولم تتحسن حالة المرض.
إنما العلاج الحقيقي في إصلاح المعلم وما إليه من منهج وامتحان وتفتيش؛ فالمعلم الآن تخرجه ثلاثة معاهد: دار العلوم والأزهر وقسم اللغة العربية في كلية الآداب، وكلها معيبة كما أبنت، فلا بد للإصلاح من توحيد تلك الجهود الموزعة والاقتصار على معهد واحد يسلح بكل أنواع الأسلحة الملائمة.
وعندي أن أصلح معهد لذلك هو «دار العلوم»، فتاريخها القديم في التعليم؛ وسبقها الأزهر في هذا الباب؛ يجعلان المصلحة في بقائها؛ وكذلك صبغتها الدينية، وما بين اللغة العربية والدين من صلة وثيقة يجعلها أصلح من قسم اللغة العربية في كلية الآداب، ولكنها في شكلها الحاضر غير صالحة، بل لا بد لصلاحيتها من أمور: (1)
فصلها عن «وزارة المعارف» وجعلها معهدا تابعا للجامعة أسوة لها بكل المدارس العليا، التي كانت تابعة للوزارة كالمعلمين والهندسة والزراعة والتجارة. فالجامعة أوسع حرية وأكثر استقلالا، والحرية والاستقلال أصلح للنمو العلمي والرقي العقلي. (2)
إعادة النظر فيها من جديد: في نظامها وبرامجها، فلم تعد أساليبها التي كانت صالحة منذ عشرين عاما صالحة الآن؛ على أن يشرف على وضع هذه النظم جماعة من خيرة رجال مصر ثقافة وعقلا وسعة تفكير وعلما بمناهج التربية. (3)
أن تكون الدراسة فيها مقصورة على المواد العلمية، وبعد الانتهاء يدرس المتخرج سنة أو سنتين أساليب التربية في معهد التربية. (4)
أن يعاد إنشاء تجهيزية دار العلوم لتغذي دار العلوم، ويعاد تنظيمها على خير مما كانت، فيتوسع فيها في الدراسة الدينية من قرآن وتفسير وحديث وما إلى ذلك، وتدرس فيها لغة أجنبية، حتى يخرج الطالب منها مساويا للطالب في المدارس الثانوية الأخرى ومتفوقا في اللغة العربية والدين الإسلامي، وخريجو هذه المدرسة يغذون دار العلوم وقسم الفلسفة في كلية الآداب ونحو ذلك، ويكون في دار العلوم دروس في اللغة الأجنبية أيضا تتمم ما درسه الطلبة في المدرسة الثانوية. (5)
تكون الدراسة في دار العلوم دراسة قاسية شديدة دقيقة، في الانتقال وفي الامتحان. فلا يسمح لضعيف ولا متوسط الكفاية أن يخرج من هذه المدرسة؛ لأنها ستكون - على ما أعتقد - أفعل مدرسة في رقي الأمة وتكوين عقليتها والنهوض بحياتها.
وهذا هو في نظري أهم علاج لضعف اللغة العربية، فالحصة من هذا المعلم الكفء خير من مئة حصة من معلم غير كفء. •••
ويلي هذا في الإصلاح برامج التعليم؛ فمناهج اللغة العربية - وخاصة في المدارس الثانوية - تحتاج إلى ثورة تقلبها رأسا على عقب، تبسط فيها المصطلحات، وتحذف منها الأبواب العقيمة ويقتصر فيها على ما ينتج استقامة اللسان والقلم، ويترك ما عدا ذلك للخاصة.
ولو ألف في وزارة المعارف هيئة فنية «مراقبة» للبرامج ووضعها وطريقة تنفيذها لكانت أفضل من كل المراقبات الأخرى؛ لأن هذا هو العمل الأساسي للوزارة وما عداه تبع له.
وليس عمل برنامج اللغة العربية في المدارس الابتدائية والثانوية من الأمور السهلة، فهو يحتاج إلى دراسة المناهج السابقة من أول وضعها، ويحتاج إلى دراسة المناهج للغات الحية الأخرى في الأمم المختلفة للاستفادة منها، والاتصال بتلاميذ المدارس في مراحلهم المختلفة لمعرفة مقدار عقليتهم ، وهكذا.
ثم الامتحان له كبير أثر في ضعف اللغة؛ لأن التلاميذ عندنا اعتادوا أن يقرءوا للامتحان، ويتعلموا للامتحان، وبقدر صعوبة الامتحان والتشديد فيه تكون عناية الطلبة.
والامتحان في اللغة العربية معيب من وجهين: من وجهة ورقة الامتحان، فإنها في أغلب شأنها نظرية لا عملية، وتعتمد على الذاكرة والحفظ أكثر مما تعتمد على التفكير والعمل، واللغة أداة للتعبير، والغاية منها تقويم القلم واللسان، فيجب أن يرمي الامتحان إلى هذه الغاية، أما أن تكون الأسئلة في ما هو التشبيه الضمني، وما هي الاستعارة المكنية، وما أثر الثقافة اليونانية في الثقافة العربية، فأسئلة لا يصح أن تكون في المرحلة الأولى ولا الثانية من التعليم، إنما تكون بعد أن يستكمل الطالب الجانب العملي.
وكذلك من جهة التصحيح، فقد استولى على مصححي اللغة العربية نوع من العطف أشبه ما يكون بالعطف على المجرم فلا يعاقب، وبعطف الأمر الجاهلة على ابنها فلا تؤدبه.
والمصححون يبنون تساهلهم على فكرتين باطلتين: أولاهما: أن اللغة العربية هي اللغة الأصلية، فلا يصح أن يرسب الطلبة فيها، وهذا خطأ؛ لأن لغتنا الأصلية هي اللغة العامية لا اللغة العربية الفصحى، وشتان ما بينهما، ولو كانت العربية لغتنا الأصلية ما شكونا هذا الضعف. وثانيهما: غلبة الرحمة عليهم وقد أبنا ضررها.
وليس أدل على فساد الامتحان من حسن النتيجة المئوية مع ضعف الطلبة ضعفا نضج منه جميعا بالشكوى. أمن المعقول أن نلمس هذا الضعف ثم تكون نسبة النجاح فوق الثمانين في المائة في أكثر السنين؟
كل هذا جعل التلاميذ يهزءون باللغة العربية ولا يعيرونها التفاتا، ويحترمون اللغة الأجنبية والرياضة؛ لأن الاحترام عندهم تابع لنسبة النجاح، فكلما كانت النسبة قليلة كانت العناية بالعلم أقوى؛ وليس ينسى أحد منا العبارة التي تدور على ألسنة الطلبة، وهي أنهم إذا سمعوا طالبا يجتهد في استذكار اللغة العربية قالوا له: «وهل يسقط أحد في العربي؟»
ثم لهم طريقة في التصحيح ليست صحيحة، فهم لا يقومون الورقة ككل، ولكن يجزئونها جزيئات صغيرة ثم يضعون درجة على كل جزيء، فيحدث أن الطالب يأتي بأخطاء شنيعة تدل على الجهل التام ومع ذلك ينجح، حتى يخيل إلي أن التلميذ إذا أعرب «في البيت» في حرف جر والبيت مفعول به منصوب لأعطوه 50٪ على إعرابه «في» وخطئه في إعرابه «البيت».
أنا كفيل بأن سنة واحدة توضع فيها ورقة الامتحان عملية أكثر منها نظرية، ويشدد فيها في التصحيح شدة حازمة تساوي الشدة في تصحيح الرياضة واللغة الأجنبية، كافية في أن يوجه الطلبة عنايتهم الكبرى للغة العربية، فيزول الضعف وتحسن النتيجة.
ولا ننسى أن التفتيش بعد ذلك له أثره، فلو حدد الغرض منه لبانت قوته الحالية أو ضعفه، فليس المفتش جاسوسا يضبط الجريمة، ولا هو عداد يعد موضوعات الإنشاء والتمرينات، ولا غرضه الأول أن يقول: إن كلمة كذا ليست في القاموس، كلا ولا غرضه الأول أن يكتب عن المدرس إنه جيد أو ممتاز أو ضعيف. إنما مهمته الأولى حسن توجيه المعلمين إلى تحقيق الغرض من دراسة اللغة العربية والوصول بالطلبة والمدرسين والكتب والمناهج إلى أرقى حد مستطاع، وبمقدار تحقيق هذا الغرض أو عدم تحقيقه يكون الحكم على قيمة التفتيش.
إذا أصلح المعلم والمنهج والامتحان والتفتيش صلحت اللغة العربية في المدارس، وهذا هو العلاج الوحيد الصحيح، أما عداه فعلاج غير حاسم ولا ناجع.
من وحي البحر أيضا
رأس البر
من نهاية «اللسان» في «رأس البر» جلست أرقب اللانهاية في البحر.
كان الوقت وقت غروب الشمس.
ولا أدري لماذا كلما رأيت غروب الشمس في البحر، وددت لو خليت جسمي، وحللت بنفسي في ملك ذي أجنحة، أو طائر قوي يصل بي إلى حيث هذا المنظر بشمسه وشفقه، فأحتضنه وأتحد به، وأفنى فيه كما يفنى الفراش في النار، وأشعر بشعوره معنى الأزلية والأبدية، وأشهد في مرآته أحداث الزمان، وتقلبات العصور.
إيه هذا المنظر! لقد شهدت خلق آدم، وحوار إبليس، وشهدت الإنسان الأول في سذاجته، ومغاراته وكهوفه، وشهدت كل خطوة يخطوها في تقدمه، فيعثر أحيانا، ويهتدي بعد أن يلج به العثار أحيانا، وشهدته يبني الحضارة ويهدمها ليبني خيرا منها، شهدت المدن تتكون شيئا فشيئا، وتشاد عليها الحضارات شيئا فشيئا، شهدت الأهرام وهي تبنى، ورمسيس وهو يحكم، وبابليون وهي تنشأ، وشهدت ميلاد كل مدينة، وموت كل مدينة، ونظرت إلى العلم وهو في مهده، والفلسفة وهي في بدئها، ثم ريعانها، وشهدت كل الأحداث على هذه الهنة الصغيرة التي تسمى «الأرض»، ولم تكن كل هذه المشاهدات إلا في لحظاتك الخيرة من عمرك الطويل الأزلي؛ هزأت بها كلها لأنك شاهدتها وليدة صغيرة، فلم توقرها كبيرة، شهدتها كلها وأنت شيخ هرم، فماذا رأيت في صباك وشبابك وكهولتك إذا كان كل هذا قد رأيته في لحظة من شيخوختك، على أنك ما شخت وما هرمت، فأنت في شيخوختك أنت في صبوتك، وأنت في شبابك لم ينل منك كر الغداة ومر العشي؛ لأنك أنت فاعل الغداة، وفاعل العشي.
وعلى الجملة لم يكن تاريخ الإنسان إلا جزءا هينا من تاريخك، بل ما تاريخ الأرض كلها منذ بدء تكوينها إلى اليوم إلا خطفة البرق من حياتك الطويلة، وما الأرض والإنسان إلا لون واحد من ألوانك التي لا عداد لها، ومنحة من منحك التي لا تحصى، وفوق هذا وذاك، سبحان ربي وربك. •••
هذا الإنسان المتناهي يعجب بهذا البحر اللامتناهي، وهذا الأفق اللامتناهي أيضا، ولكن. لا، ليس الإنسان متناهيا محدودا، فإن تناهى طوله وعرضه وحد مدى بصره، فله الخيال الذي لا يتناهى، والذي يطابق الأفق والبحر والسماء وما إلى ذلك مما لا يتناهى، بل قد يلف الخيال كل هذه الأشياء، ولا يزال فضفاضا واسعا يسع أمثالها وأمثالا من أمثالها.
وفي هذا الجسم المحدود نفس لا محدودة، أعمق من هذا البحر، وأرفع من هذه السماء، وأغمض مما وراء هذا الأفق، وأعجب مما يقع عليه البصر أو يحيط به الخيال، تهيج كما يهيج هذا البحر، وتهدأ كما يهدأ، وتحوي الدرر والأصداف كما يحوي، وتتكسر موجاتها كما تتكسر موجاته، وترغى وتزبد كما يرغى ويزبد، وتطالعك بالجمال والعنف كما يطالعك بالجمال والعنف، وهي في كلياتها أزلية أبدية أكثر مما هو أزلي وأبدي، وعزت شمائلها وخصائصها على العلم أكثر مما عز، فلما توافقا في هذه الصفات تآلفا. •••
غريبة هي اللغة، لم تعبأ بالعظم والسعة، ولم تعبأ بامتداد اللانهاية، فأرادت أن تنتقم من هذه السعة وهذه اللانهاية، فاختزلت اللفظ الدال عليها اختزالا، طولت ومططت في الحرباء - مثلا - وهي الدويبة الحقيرة ومنحتها خمسة حروف كاملة، ومدت كلمتها مدا لا يتناسب وخلقتها، وأتت إلى الممدود بطبيعته فقصرته، هذا البحر الفسيح إلى أبعد مدى، العميق إلى أبعد مدى، المملوء بالأعاجيب إلى أبعد مدى، ضنت عليه بألفاظها وامتدادها، فوضعت له كلمة مجزوءة مخطوفة من ثلاثة حروف فقط، وهكذا فعلت في «النفس» العميقة إلى ما لا نهاية، المتقلبة الأشكال والألوان إلى ما لا نهاية، وقل مثل ذلك في العقل والأفق وغير ذلك.
لا. لا، إنها كانت ماهرة كل المهارة، فأما ما حصرته فسمته في سهولة ويسر، وأما ما لم تحصره، فلم تقف أمامه طويلا تقيسه وتقدره وتعيا بتسميته، فليس لها من الزمن والفراغ ما يمكنها من القياس والتقدير، وإنما وضعت بطاقة صغيرة على جزء منه صغير ليدل صغيره على كبيره، وجزؤه على كله، كما يفعل المؤلف في عنوان الكتاب، أو كما يفعل التاجر في إلصاق بطاقة باسم البضاعة ونوعها على ثوب من الصوف، طويل ملفوف، ثم جاء الخيال فارتبط بالكلمة وأكمل نقصها وقوى عجزها ومد قصرها. •••
في حضرة اللانهاية ومناظرها يشعر الإنسان بالتسامي والرقي، ويشعر بلذة التغير من حياة مادية كلها أكل وشرب وشهوات، وتشع عليه اللانهاية من نفسها فيحن إلى اللامادية، ويسبح في التجرد، ويحتقر ما هو متقلب فيه أثناء حياته اليومية، وتلمع في نفسه لمعات برق مضيئة يود لو طالت، ولكنها لا تطول، فسرعان ما تجذبه أرضيته إلى الأرض، وماديته إلى المادة.
في هذه المواقف تتحرك العاطفة الدينية، فهذه اللانهاية الصغرى تذكر الإنسان باللانهاية الكبرى، وهذه الأزلية الأبدية المحدودة نوعا ما، تذكر بالأزلية الأبدية المطلقة، وهذه ضعة الإنسان أمام جلال البحر والشمس والأفق وما إليها، تذكره بضعة هذه كلها أمام خالقها، وتجرد النفس أمام هذه المناظر يطمعها في الخلود، على حين أن انغماسها في المادة يبعث فيها الشره؛ لتنعم أكثر ما يمكن من النعيم قبل أن يدركها الموت، ثم هذا الغموض في هذه المناظر يذكرنا بالموضوعات الدينية التي دقت عن الفكر وسبح فيها الخيال، كالنعيم المقيم، والعذاب الدائم، والجنة والنار، واللوح والكرسي والعرش، وما إلى ذلك.
أمام هذه المناظر الجليلة، والمناظر الجميلة، والمناظر اللانهائية، تنبعث صرخة من أعماق القلب: «هنا موضع سجود».
تذكرنا بهذه اللانهاية كل حواسنا، فنشعر بها في رؤيتنا للسماء ولمعان نجومها، والبحر وتكسرات أمواجه المتتابعة المتلاصقة، ونشعر بها عند دقات الساعة في سكون الليل، وفي الموسيقى الجميلة السامية العلوية، وندركها في حضرة الله في الصلاة الحقة، ونحسها في رؤية الموت.
وهي في كل أشكالها وأوضاعها رهيبة، لا يأنس إليها إلا من مرن عليها، وحاول خوض غمارها ثم ارتد، وما زال بها حتى آنسها وأنس بها؛ وهي رهيبة لأنها مجهولة، والمجهول مخيف، وهي عظيمة والعظيم مرهوب، وهي غامضة والغموض ظلام، والظلام مرعب؛ وهي جليلة لأنها تشعر الإنسان بحقارته، وبقصر عمره في جانب طول عمرها، وبضعفه بجانب قوتها.
لذلك هرب الإنسان من اللانهاية إلى التحديد، فسكن إلى المنزل؛ لأنه يأويه من الفضاء، وأنس بالمسجد يحدد شيوعه ويحصر شروده، وحصر نفسه في دوائر محدودة فرارا من اللامحدودة، حتى في عقله قد حكمه بالتعريفات؛ لئلا يسبح في الخيال، وجسم المعاني، تمسك بالعادات والشعائر والتقاليد هربا من اللامحدود واستئناسا بالمحدود. •••
فإذا نعمنا بك أيها الفضاء، وأيتها السماء، وأيها البحر في تموجاته، وأيها الأفق بحمرته، وأيتها الشمس في دمائها، فلذة التغير، ولذة إلى حين، ثم نعود سيرتنا الأولى نعيش في الحدود، ونبحث عن الحدود، ونألف الحدود. •••
وعرف صغاري مكاني، فأتوا إلي يدعونني أن أريهم «مدينة الملاهي»، فشعرت بما يشعر به من كان في ماء ساخن ثم انغمس في ماء بارد.
موسم الرجاء
نداء الباعة
صور قضائية
سيرة الرسول في كلمة
في المدنية الحديثة
هل يكون معلما ؟
صورة قضائية تاريخية (1)
الشيخ الدسوقي ومستر «لين»
قصة علم الدين
غاية العالم
أوقات الفراغ
التخريف1
المثقفون والسعادة
الزعماء الثلاثة
العدالة
مصدر تاريخي مهمل
الديمقراطية الأرستقراطية
دمية في دمنة1
الإنسانية والقومية
الأغاني المصرية
التقليم والتطعيم في الأدب
التقليم والتطعيم في اللغة
لغة الأزهار والثمار
حديث الخميس (1)
عذاب المصلحين
رحلة! ...
صورة قضائية تاريخية (2)
التوازن
قصة
القانون الطبيعي
الإسلام والإصلاح الاجتماعي
حديث الخميس (2)
أبو ذر الغفاري
العلماء في حضرة تيمورلنك
ضبط العواطف
كنوز في بيت جائع
يوسف الكيمياوي
الحلف العربي
بجوار شجرة الورد
النظام الاجتماعي في تركيا
ضحية
أول مجلة مصرية
التضحية
النار
العام الهجري الجديد
الخصومة في الأدب
الرمز في الأدب الصوفي
خداع النفس
موسم الرجاء
نداء الباعة
صور قضائية
سيرة الرسول في كلمة
في المدنية الحديثة
هل يكون معلما؟
صورة قضائية تاريخية (1)
الشيخ الدسوقي ومستر «لين»
قصة علم الدين
غاية العالم
أوقات الفراغ
التخريف1
المثقفون والسعادة
الزعماء الثلاثة
العدالة
مصدر تاريخي مهمل
الديمقراطية الأرستقراطية
دمية في دمنة1
الإنسانية والقومية
الأغاني المصرية
التقليم والتطعيم في الأدب
التقليم والتطعيم في اللغة
لغة الأزهار والثمار
حديث الخميس (1)
عذاب المصلحين
رحلة! ...
صورة قضائية تاريخية (2)
التوازن
قصة
القانون الطبيعي
الإسلام والإصلاح الاجتماعي
حديث الخميس (2)
أبو ذر الغفاري
العلماء في حضرة تيمورلنك
ضبط العواطف
كنوز في بيت جائع
يوسف الكيمياوي
الحلف العربي
بجوار شجرة الورد
النظام الاجتماعي في تركيا
ضحية
أول مجلة مصرية
التضحية
النار
العام الهجري الجديد
الخصومة في الأدب
الرمز في الأدب الصوفي
خداع النفس
فيض الخاطر (الجزء الثالث)
فيض الخاطر (الجزء الثالث)
تأليف
أحمد أمين
موسم الرجاء
حدثني صديقي قال: كانت الساعة السابعة صباحا بالتوقيت الجديد، أي ما يساوي السادسة بالتوقيت القديم، وانتبهت من نومي فإذا الجرس يدق، فظننته اللبان قد تقدم موعده، أو بائع الخبز قد أعجله أمر.
ولكن الخادم قد جاء يخبرني أن زائرا بالباب لم يشأ أن يذكر اسمه. - ليتفضل. فلا بد أن يكون قريبا أتى بأمر مفاجئ أو بنبأ خطير، وجال في ذهني كل الاحتمالات لهذا الضيف - لعل فلانا قريبنا المريض قد مات، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ولكن بالأمس كانوا يقولون: إن صحته تحسنت. ومع ذلك فمن يدري؟ فالموت لا ضابط له، قد يموت الصحيح ويصح السقيم، وربما كان تحسنه صحوة الموت، وإذا كان كذلك فماذا يصنع أهله وولده؟ أمري وأمرهم إلى الله.
ولكن لا، ربما كان الزائر فلانا قريبنا الآخر، وربما جاء يقص علي نزاعا جديدا بينه وبين أسرته، فما أكثر ما يتنازعون، وما أكثر ما يتحاكمون! ولكن لا بد أن ما دعاه إلى الحضور في هذا الصباح المبكر معركة حامية، أخشى أن تكون قد انتهت بالفراق، أو بحادث فظيع، مسكينة هذه الأسرة! الزوج طيب، والزوجة طيبة، ولكن الخطأ وقع في المزج لا في العناصر، كالسكر الطيب يراد منه أن يذوب في الليمون الطيب، أو ككتاب الفقه أعطي لأديب، أو ككتاب في حساب المثلثات أعطي لفقيه.
وربما، وربما، وجال في ذهني كل الفروض الممكنة لهذه الزيارة المبكرة، وفتح الباب، فإذا الزائر ليس شيئا من هذا كله، وإذا هو إنسان لو ظللت طول النهار أحدس فيمن هو لم يقع حدسي عليه. - أهلا وسهلا. بكم. - لا مؤاخذة، فربما أزعجتك. - لا إزعاج، فقد اعتدت البكور. - إنما أردت أن أستوثق من وجودكم في البيت قبل خروجكم، وقد أعيتني مقابلتكم أمس، فقد حضرت في الساعة التاسعة مساء والعاشرة والحادية عشرة، فلم يكن لي شرف مقابلتكم. - أنا آسف على تعبكم. - إن شاء الله تكون صحة الأنجال جميعا بخير. - الحمد لله. - أين صيفتم هذا العام؟ - في رأس البر. - رأس البر جميلة، ولي فيها ذكريات طيبة ... وهي تفضل الإسكندرية بجفاف هوائها ورخص أسعارها. - نعم. - وإن شاء الله يكون ابنك فلان قد نجح هذا العام. - الحمد لله. - لقد درست له، وكان شيطانا، وكم حدثت له حوادث معي ... ولكنه ذكي جدا، وأخلاقه قوية، ولا عجب، فالشيء من معدنه لا يستغرب. - أشكرك. - وبهذه المناسبة أهنئك على مقالك الأخير في «مجلة ...»، فقد كان مقالا ممتعا حقا، وقد سمعت الثناء عليه من كل من قابلته، وأصدقك أني حريص كل الحرص على تتبع كل ما تكتب وما تذيع، وأشتري هذه المجلة فلا أقرأ فيها إلا مقالك، وأحيانا أقرأ مقال «فلان» أيضا. - أشكرك، تفضل القهوة. - أخشى أن أكون قد أقلقت راحتك وأضعت عليك زمنك، ووقتك ثمين وأعمالك كثيرة وكل دقيقة من وقتك فيها نفع للناس. - أشكرك. - الأمر وما فيه أن لي مسألة بسيطة يكفي فيها كلمة منك لتتم على خير وجه، لقد مضى علي في الدرجة عشر سنوات، والآن قد خلت الدرجة التي فوقها، وأنا أحق الناس بها لجدي في عملي وشهادة رؤسائي بحسن كفايتي. - سأدرس المسألة - إن شاء الله - فمتى وجدت أحقيتك ساعدتك. - ثق كل الثقة بما أقول. - وأنت ثق كل الثقة بما أقول. - هل أعتبر المسألة منتهية؟ - منتهية عند الحد الذي ذكرت. - أنا متأكد من عطفك علي ومساعدتك لي، وإن شاء الله تتم على يديك - السلام عليكم. - عليكم السلام - شرفتم.
وعدت أقارن بين ما حدست وما وجدت، فبسمت وعجبت!
وبعد أن انتهى التبسم والعجب دق جرس التليفون. - فلان؟ - نعم. - وأنا فلان. - أهلا وسهلا. - لي ولد نبيه جدا، ولكن خانه الامتحان فتأخر في الترتيب، ولم يأخذ النصاب الذي يستحق به المجانية، وأريده مجانا.
وتليفون ثان وثالث ورابع وخامس، حتى وضعت حدا للتليفون.
ثم ذهبت إلى محل عملي.
فهذا فلان يود أن يوظف، وهذا يود أن ينتقل، وهذا يود أن يتخطى ابنه القوانين الموضوعة في السن أو المجانية أو في نصاب الدرجات. فأما العمل وكيف يرقى وكيف يحسن فلم ينله من الزمن إلا قليل.
وعدت مصدوعا واسترحت قليلا، ونزلت لعمل آخر، فإذا هو من جنس العمل الأول.
وزرت يوما صديقا فإذا حاله أسوأ من حالي: غرفة تملأ وتفرغ، ثم تملأ ثم تفرغ، وكلهم في المطالب متشابه. •••
هذا موسم الرجاء «في المعارف»، ولكل وزارة وكل مصلحة موسم، فوزارة العدل لها موسم كهذا في كل حركة قضائية، ووزارة الأشغال في معرض الأعمال، وهكذا.
رحماك اللهم، أين نجد مع هذا كله أنفسنا؟ وأين يجد الموظفون أنفسهم؟ وأين يجدون أوقاتهم لأعمالهم؟
ما معنى هذا كله؟
معناه أن الناس يفهمون أن ليس في البلد قانون محترم، ولا قواعد مرعية، ولا عدل، ولا حق، ولا جد في تنفيذ عمل، ولا همة في تسيير الأمور، وأن العصا السحرية التي تفعل كل ذلك هي الرجاء والرجاء وحده، فهو الذي يستطيع أن يعطي من لا يستحق ويحرم المستحق، وهو الذي يؤخر من حقه التقديم ويقدم من حقه التأخير، وهو الذي ينهي العمل في لحظة، وبغيره ينام سنين.
معناه ضياع زمن المرجو في مقابلات وزيارات وتحيات، وضياع زمن الراجي في «اللف» على أصحاب الأعمال ومن بيدهم زمام الأمور، وإهمال ما عهد إليه من عمل.
معناه أن مقاييس العدالة والحق مقاييس ضائعة، ومقاييس الخلق لا قيمة لها، وأن المقاييس الصحيحة النفاذة هي مقاييس الجاه والرجاء والنفوذ والسلطان؛ فهي التي تجعل غير الكفء كفؤا، وغير الصالح صالحا. ونتيجة هذا - لا محالة - إهمال الكفء وحرمان الصالح.
شيء من شيئين: إما أن يكون هذا صحيحا فالراجون معذورون، واللوم كله يقع على من بيدهم الأمور؛ فقد أضاعوا المقاييس الصحيحة، وأحلوا محلها المقاييس الزائفة، وأهملوا العدل والحق، وأحلوا محلهما الجاه والرجاء، فعرف الناس الطريق الذي يؤدي للغرض فسلكوه، والمقدمات التي توصل للنتيجة فاتبعوها، ولا لوم عليهم في ذلك، فمن السخف أن تكلفهم السير في طريق غير مؤد إلى غرض.
وفي هذه الحالة كان يجب مصارحة الناس بالحقائق، وتسمية الأشياء بأسمائها، وعدم الخداع بوضع قوانين ولوائح وتعليمات وقيود وشروط، والجهر بأن ليس هناك سبيل للتنفيذ إلا سبيل الرجاء.
وإما ألا يكون الأمر كذلك، وأنه يجري حسب العدل والحق، فيجب أن يفهم الناس ذلك بالقول والعمل، وألا يسمع منهم رجاء، إلا شكوى من عدم تحقيق العدل وتنفيذ الحق.
لقد عرفنا من الناس المهارة في هذا الباب، والحس الدقيق في شئونه، فهم يكثرون الرجاء حيث تسمع الآذان رجاءهم، وحيث تتأثر بتوسلاتهم، ويقلونه حيث تصم الآذان وتغلق الأبواب وتجهم الوجوه عند طلبهم ما ليس بحق وما لا ينطبق على قانون أو عدل.
أؤكد أن أكثر من نصف أوقات رؤساء المصالح وسائر الموظفين ضائع في مثل هذه التوافه من الأمور، ولو سد هذا الباب لاستفدنا فائدة مزدوجة: تفرغ الموظف لعمله الأساسي حتى يجيده ويتقنه، وشعور الناس والموظفين باحترام العدالة، وأن الرجاء لا يقدم المسألة ولا يؤخرها، واطمئنان ذي الجاه وعديم الجاه إلى أن حقه واصل إليه لا محالة.
وذلك لا يكون إلا بدروس قاسية من الموظفين، يحترمون فيها العدل مهما كانت نتائجه، ويلبون فيها صوت الضمير مهما أغضب، ويشمئزون ممن يحاول أن يميلهم عن الحق مهما كان ذا جاه وسلطان.
لا شك أن العدل مر، والحق صبر، ولكنه أحلى عند الرجل النبيل من القول المعسول والتصرف المزيف.
إن ذيوع الترجي في الأمة علامة الخراب في أخلاقها، فالرجاء يشيع في الراجي ذل السؤال، ويشيع في المرجو صلف المتصدق، وكبرياء المحسن لغير وجه الله، وهو يبث في الراجي والمرجو معا الاستهزاء بالعدل والسخرية بالحق، ويقلب المسألة من حق وواجب إلى علاقة شخصية، هي علاقة المستجدى منه، أو علاقة المدل بجاهه على من لا جاه له.
لا بد أن يفهم الناس أن كل رئيس مصلحة، وكل من بيده أمر من أمور الناس قاض، له حرمة القضاء، وله الحق أن يطلب من الناس أن يؤمنوا بنزاهته، فكما لا يصح أن يرجى القاضي في قضية معروضة عليه، لا يصح أن يرجى أولو الأمر فيما بين أيديهم من أعمال.
وواجب أن نوجه الطلبين في وقت واحد، فنطلب من أصحاب الحاجات أن يكفوا عن رجائهم، ونطلب من الموظف أن يعمل ما يفهم الناس أن الرجاء لا يجدي، وأن الحق بطبيعته نافذ والعدل محترم، والعمل سائر إلى نهايته.
كان الناس ولا يزالون يعدون من المثل العليا للرجل الطيب أن يمضي أكثر أوقاته في قضاء الحاجات، فهو يتلقى في صباحه ومسائه الوافدين والمترددين، هذا يطلب وظيفة، وهذا يطلب نقله إلى مصر، وهذا يطلب إلحاق ابنه بمدرسة، إلخ، ثم يستقل عربته ويدور على المصالح، وينتقل من وزارة العدل إلى وزارة المعارف إلى وزارة الأشغال وهلم جرا، فإذا جاء إلى بيته استراح قليلا، ثم استقبل في بيته في المساء من قابلوه في الصباح ليخبرهم بنتيجة مساعيه، وليستقبل غيرهم بمساعيهم الجديدة، وكانوا يسمون مثل هذا «كعبة القصاد » و«محط الآمال» إلى غير ذلك من الأوصاف.
وكان الناس يقيسون النائب في البرلمان بمقدار قضائه هذه الأعمال، فمن كان أكثر تقبلا للرجاء، وأكثر مسعى في تحقيقه، وأعظم جاها عند من يرجوهم، فهو خير نائب وإلا فلا.
ولكن الأمة إذا رقيت ينبغي أن تغير وجهة نظرها في هذا وذاك، يجب ألا تعد رجلا طيبا من يقبل كل رجاء، ويعين على كل مطلب، إنما هو رجل طيب إذا اقتصر في قبول الرجاء على أحد أمرين: إما رجاء في ماله الخاص، وإما رجاء قد بني على درس، وتحقق من مظلمة يرى من الواجب رفعها وإحلال العدل محلها، وأما غير هذين فتخريب للقانون، وإهدار للأخلاق، وتحطيم للعدالة، ومما يؤسف له أن أكثر الرجاء من هذا النوع الأخير! حتى لقد يبلغ ببعضهم أن يرجو في إنجاح ساقط في الامتحان، أو عفو عن مجرم، أو تعيين آخر شخص في الامتحان وترك الأول، أو إعطاء صدقة لغني وتفضيله على فقير، أو نحو ذلك من ضروب الإجرام، وليس هذا يصح أن يسمى «كعبة القصاد»، ولكنه «عون المجرمين».
والمثل الأعلى للنائب ليس الذي يحقق مطالب الناخبين مهما ساءت، ويسعى على أبواب المصالح للرجاء في كل ما هب ودب، إنما هو من خصص أكبر مجهوده لدراسة المصالح العامة للأمة، والمصالح العامة لدائرته، فإن بقي في زمنه فضل أو في مجهوده بقية، فالرجاء في رفع الظلم عمن ظلم، والإعانة على إيصال العدل لمن لم يصل إليه العدل.
وبودي لو بطل الرجاء كله واقتصر الأمر على مطالبة الناس بحقوقهم، ولو كان الأمر بيدي لأمرت أن يوضع على باب حجرة كل موظف لوحة كتب فيها «ممنوع الرجاء» كتلك التي يكتب فيها «ممنوع البصق» لو تنفع اللوحات!
نداء الباعة
امتازت مصر - فيما امتازت به - بنداء الباعة، فقد زرت مدنا شرقية ومدنا غربية، فلم أرها تحفل بالنداء على المبيع كما حفلت القاهرة، إذ جعلته فنا، وأدخلت فيه من أنواع المحسنات ما لم يتهيأ لغيرها.
من ذلك أنها أدخلت فيه فن البلاغة، فملأته بالاستعارات والكنايات والتشبيهات، حتى أصبحت هذه في كثير من الأحوال تحل محل الاسم الحقيقي للأشياء، فمثلا «بيض اليمام» هو العنب، و«قلل الشربات» هي الكمثرى، و«بير العسل» زنبيل البلح، والبصل كالرمان، والفجل كاللوبيا، وكيزان العسل نوع من التين، وهكذا.
وأحيانا يذكرون منافعه ويغنيهم هذا عن ذكر اسمه، «فالنافع الله» كناية عن الحلبة المنبتة، و«الشفا من الله» للموز إلى آخره.
وأحيانا ينسبونه إلى ولي من أولياء الله، كترمس الأنبابي، وحمص السيد، وخس المليجي و«مال الغريب» وهو ولي بالسويس يطلقونه على جوز الهند ... إلخ.
وأحيانا ينسبونه إلى البلد الذي يجود فيه كالملوخية الحبشي، والقلل القناوي، والحرير المحلاوي.
وهكذا جعلوا النداء فنا في حين أن ما رأيت في البلاد الأخرى يكتفي باعتها بذكر اسم الشيء مجردا أو مقرونا بوصف يدل على الجودة، فأما كثرة التشبيهات والكنايات على النحو الذي أشرت إليه فلم أجدها لغيرها.
ثم هم يدخلون في النداء فنا آخر، وهو فن الموسيقى والغناء، فهم يوقعون النداء توقيعا فنيا؛ ومن رزق الصوت الحسن منهم غنى على ما يبيع فأطرب، وتفنن فأجاد، وكم في شوارع القاهرة - ولا سيما في الأحياء الوطنية - من باعة يصففون سلعهم، ويجودون عرضها، ثم يتأنقون في النداء عليها، ويتفننون في الغناء لها، حتى كأنك تسمع مغنيا بارعا، وفنانا مجيدا، وهذا بائع العرقسوس كثيرا ما يستعمل الطاسات التي يمسكها، فيوقع عليها توقيعا موسيقيا جميلا في مهارة وإتقان.
ولا أنسى جماعة كانوا يشتركون في بيع «حب العزيز» في حارتنا، فكانوا يخترعون الأغنيات الكثيرة له، ويحمل أحدهم مزمارا والآخر دفا، ويوقعون الغناء مصحوبا بالمزمار والدف، فيؤلفون بذلك جوقة موسيقية، أو «تختا» غنائيا بديعا، فإذا بدءوا هرع إليهم أطفال الحارة وتحلقوا بهم، وأصغوا إلى موسيقاهم وغنائهم، وحملهم الإعجاب بهم على الشراء منهم.
والمصريون مولعون جدا بالغناء، تغنوا بالنداء على المبيع كما تغنوا بالقرآن وبالأذان، وفي الأفراح والمآتم، وفي حفلات الزار، وفي مجتمع الذكر.
ومن عجيب الأمر أن هذه الطوابع للأشياء تقليدية متوارثة، وكذا توقيعها الموسيقي، يتلقنها جيل عن جيل، رواها المحدثون عن الأقدمين، فأما المنتجات الحديثة فلا طابع لها، بل يذكر اسمها مجردا، كالمانجو فتذكر مجردة أو مع اسم صنفها أو مضافة إلى مستنبتها من غير تشبيه ولا كناية ولا موسيقى، وكالمثلجات وما إلى ذلك من أشياء حديثة، فليس لها طابع قديم، كقلل الشربات، وكيزان العسل، كأن الأقدمين كانوا أكثر فنا، وأقدر على الإبداع في التسمية، ولو كان للقدماء صحف كالأهرام والمقطم والبلاغ لصاغوا لها قوالب في النداء عليها، ووضعوا لها توقيعا يتناسب وقوالبها. •••
لقد رأيت كثيرا من المدن الأخرى - شرقية وغربية - تنادي على الأشياء نداء خاليا من الفن البلاغي والفن الموسيقي، فينادون على الزهر باسم الزهر، والفحم باسم الفحم، والملح باسم الملح، فإن زادوا شيئا فوصف بسيط، كأن يقولوا تفاح جميل أو خوخ جيد من غير نغم موسيقي، فما تعليل هذه الظاهرة في مصر، وخاصة القاهرة؟
الواقع أنها ظاهرة بسيطة، ولكن تعليلها معقد محير.
هل سببه توالي البؤس على مصر عصورا طويلة جعلت الطبيعة له متنفسا بكثرة الغناء وكثرة الموسيقى؟ ولذلك كانت الطبقة البائسة في الأمة أكثر ميلا للموسيقى والغناء، يغنون وهم يصنعون، ويغنون وهم يسيرون، ويتنادرون وهم يسمرون، بأكثر من الطبقة الوسطى والراقية.
قد يكون هذا تعليلا، ولكنه لا يثبت على الامتحان، فهل مصر أبأس من غيرها من بلاد الشرق؟ وهل القاهرة أبأس من غيرها من القرى؟
وقد تكون العلة مزيجا من أشياء مجتمعة، منها ميل المصريين إلى المبالغة والاحتفال، فمبالغتهم في وصف الأشياء عند البيع واحتفالهم بهذا يشبه مبالغتهم واحتفالهم في الاستقبال والوداع والمآتم والأفراح والولائم وتحية الزائر وما إلى ذلك، فهذه كلها لا تؤدى في بساطة وسهولة ويسر، بل في تعقيد وتركيب ومبالغة، فكان من هذا الباب ميلهم إلى المبالغة في وصف السلع، هذا مع ميلهم إلى المرح وطرق الإغراء ولفت النظر، فدعاهم هذا كله إلى الغناء في النداء وإلى الموسيقى.
وفن ثالث يضاف إلى فن البلاغة وفن الغناء والموسيقى في البيع والشراء، وهو فن العرض، فترى بائع العرقسوس قد وضع في قدره لوحا طويلا من الثلج ليبرهن لك على برودته، وبائع اللب قد وضعه على شكل مخروط أو هرم، وبائع الترمس قد زينه بالورد والأزهار، والفاكهي صفف فاكهته في شكل يستحث على الشراء وهكذا، وهو فن كفن الغناء والموسيقى، يدعو إلى لفت النظر، ويغري بالشراء. •••
ولكن إن كانوا يحمدون على إدخالهم هذه الفنون الجميلة في البيع، فمن العدل أن يؤاخذوا على إدخال فنون غير جميلة فيه أيضا.
فمن ذلك كثرة النداء كثرة مزعجة، فالموسيقى إنما تعجب وتطرب بقدر، فإذا زادت عن حدها انقلبت من مطربة إلى مصدعة، وهكذا كان الشأن في النداء، فقد زاد حتى صدع، فمن طلوع الشمس إلى منتصف الليل والنداء لا ينقطع، ولا أعلم بلدا من بلاد الله كثر فيها الباعة المتجولون كثرتهم في القاهرة، ولا أعلم أشد منهم جلبة ومقدرة على الإزعاج، وكلما حاولت الحكومات ضبطهم وتنظيمهم فشلت وأعلنت عجزها، والبطالة عندنا اتخذت من مظاهرها بيع التجول، وما أكثر العاطلين فما أكثر المتجولين، إن فتح الدكان يتطلب تأثيثا وأجرة وإضاءة وما إلى ذلك، فأما التجول فلا يكلف شيئا إلا حمل السلع والسير بها، ويكفي أن يكون مع الرجل خمسة قروش أو أقل أو أكثر ليشتري بها كيزان ذرة أو قليلا من اللب أو حزما من الفجل، ليقطع بها الشوارع رافعا صوته مكررا نداءه مغنيا مالئا الدنيا صياحا.
وهم يلاحقون الناس حيث كانوا: في البيوت، في المقاهي، في السينما، حتى لتجلس في مقهى فلا تمر لحظة حتى يمر عليك الباعة يتجولون في الداخل والخارج: مواسي حلاقة، ومانجو، وفوط وبشاكير، وخيار مخلل، وكل ما خطر على بالك وكل ما لم يخطر، فكأنك في معرض معكوس، يمر عليك كل شيء بدل أن تمر على كل شيء، فإن أنت طلبت الهدوء والحديث الحلو والسمر الممتع فمحال أن يكون ذلك من غير أن تنقطع كل كلمة من الحديث بنداء بائع.
فإذا أوقعك سوء الحظ بنظرة تدل على رغبتك، أو بإظهار ميلك إلى الشراء، فقد دخلت في قضية طويلة فيها مرافعة من الجانبين، وفيها إقامة الحجج والبراهين على الغلاء والرخص، وفيها الأيمان وفيها المماكسة والممارسة، وأخيرا فيها عرض الصلح أو رفض الدعوى.
وأظنك تسلم معي أن هذه كلها ليست فنونا جميلة.
ومنشأ هذه الفنون غير الجميلة شدة فقر البائع وشدة حرص المشتري على أن يشتري الشيء بأبخس ثمن، ففقر البائع حمله على التجول في الشارع لا استئجار دكان، ورضاه بأتفه ربح، والإلحاح في العرض، وبذل الخلق في سبيل قرش يقتات به، وتحمل مشاق السير الطويل الشاق، والعرض المضني، والتحايل والمكر والخداع، وما إلى ذلك، وقاتل الله الفقر.
وحرص المشتري حمله على الإعراض عن الدكان إلى بائع متجول يستغل فقره وعوزه، فيمارسه ويماكسه حتى يبيعه بالقليل التافه من الربح، أو يشتط في الإلحاح عليه حتى يضطره إلى البيع من غير ربح، وقاتل الله الحرص.
ومن مواضع النقد فن العرض الذي ذكرت، فهو فن بدائي، من جنس عرض الماشية في بعض القرى وفي بعض أحياء القاهرة قبل أن تذبح، وعرض العريس قبل أن يزف، فكان أولى في العرض من لوح الثلج في قدر العرقسوس، وشكل الهرم في بيع اللب، ووضع الأزهار على الترمس، أن يكون أساس العرض الترغيب بالنظافة، فهي أهم شرط من شروط العرض الجيد، فلأن يعرض الشيء بسيطا في نظافة خير ألف مرة من أن يعرض عرضا مركبا قذرا، وهذا هو ما ينقص العرض المصري، فإذا روعي أنه بلد يكثر فيه الغبار والذباب، كان هذا العرض القذر من أسوأ الأخطار، ولم تتنبه مصلحة الصحة إلى هذا إلا أخيرا، وهي اليوم في بدء برنامج طويل عسير.
ويضاف إلى شرط النظافة شرط الجمال، والجمال في العرض خاضع لسنة النشوء والارتقاء ككل شيء؛ فكما تعرض المرأة في الأمة الساذجة جمالها بكثرة حليها، والمبالغة في أصباغها، واختيار أزهى الألوان في ملابسها، ثم يرتقي ذوقها وذوق الناس إلى التجمل بالحلي البسيطة، واختيار الألوان الباهتة، فكذلك الشأن في جمال العرض، يبدأ ساذجا بالترغيب بكبر الكمية ورخص السعر وبالصوت القوي ونحو ذلك، وينتهي بحسن العرض في وجه الدكاكين، وبالذوق الجميل في الترغيب بالجودة والجمال والإتقان، والفرق بين العرضين كالفرق بين سائل يستثير رحمتك بثيابه المهلهلة وجسمه المشوه، ومبالغته في عرض العجز والعوز، وسائل آخر يعرض فقره بتوقيع قطعة موسيقية، أو رسم صور كاريكاتورية أو ألعاب بهلوانية، فالأول يسترحم بفن القبح، والآخر يسترحم بفن الجمال.
وأخيرا كل شيء عندنا يحتاج إلى مجهود جبار في إصلاحه، حتى نداء الباعة، وعرض البضاعة.
صور قضائية
أستسمح «القاضي الفاضل» الذي يكتب في «الثقافة» تحت هذا العنوان أن أختلس عنوانه مرة، ولكني أسارع فأطمئنه، فلست أريد أن أعتدي على اختصاصه، وإنما سأتكلم في قضايا من غير جنس قضاياه، ومحاكم غير محاكمه، وقضاة غير قضاته.
وحسبي فخرا أن محاكمي أكثر من محاكمه، فهي بعدد رءوس البشر في هذا العالم، وهي في مصر وحدها نحو سبعة عشر مليونا، على حين أن محاكمه لا تتجاوز المائتين، ومحاكمي تحررت من قيود المكان والزمان، فهي تعقد في كل مكان وكل زمان، وتحررت من قيود القضاء، ومتاعب «الكادر»، وشروط تعيينهم وانتقالهم وإحالتهم على المعاش ونحو ذلك، فقضاة محاكمي لا يعرفون شيئا من ذلك كله، بل ويهزءون بذلك كله، ومحاكمي تثيب المحسن وتعاقب المسيء، أما محاكمه فلا تثيب محسنا ولكن تعاقب مسيئا، ومحاكمي تعمل في هدوء وفي صمت، ومحاكمه تعمل في ضوضاء وجلبة، ومحاكمي لا تعترف بشرطة ولا بحجاب، ولا بأوسمة ولا بمظاهر، بينما محاكمه أثقلت بكل ذلك، إلى آخر ما هنالك.
تسألني بعد ذلك ما محاكمك؟ فأقول إنها «محاكم النفس» ففي باطن كل إنسان محكمة فيها قضايا لا عداد لها، وفيها قضايا مألوفة وقضايا غير مألوفة، وفيها مرافعة يتبارى فيها الخصوم، وفيها أحكام، وكما أن صاحبنا القاضي الفاضل يعنى بتدوين القضايا الطريفة التي تلفت النظر وتستخرج العبر، فلدينا في محاكمنا أشكال وأشكال من هذه الطرائف، فلنعرض أولا لوصف المحكمة، ولعلنا بعد نعرض لطرائف القضايا.
ماذا يحدث في ساحة هذه المحكمة؟
يظهر في أفق النفس شأن من شئون الحياة، من مأكل أو ملبس، أو مال أو جاه، أو تحصيل لذة من اللذائذ، فتتحرك الشهوة أو الرغبة، أو ما شئت فسمها، وتبدأ تترافع طالبة تحقيق هذا العمل وحصوله، وهذا بدء المرافعة، وصوتها له دوي وقوة، وإذا كانت هي المعبرة عن الجسم، ولسانه، فإن البدن ينفعل لها ويشرئب ويتلمظ، وتظهر عليه أعراض تختلف قوة وضعفا، فيجري ريقه إذا كان المطلوب مأكلا، ويجري الدم في عروقه، ويتحفز للوثوب كما يتحفز القط لقطعة لحم يراها أو لفأر يشم رائحته، وعلى كل حال فالجسم ينفعل ويتخذ أوضاعا مختلفة، ومظاهر مختلفة باختلاف المشتهى، وفي كل ذلك يوكل الجسم الشهوة في المرافعة عن مطلبه والإلحاح في تحقيقه والمطالبة بتنفيذه.
وكثيرا ما تتحرك الروح فتمانع، وتنيب عنها «محاميا» اسمه في عرف محاكمنا «الضمير»، فيتكلم ويتكلم، ويفند حجج الشهوة، ويعارض في تنفيذ المطالب، ويتكلم بلسان آخر، وبوجهة نظر أخرى، فبينا تبني الشهوة مطالبها على أساس «إني أرغب» و«إني أحتاج» و«إني أشتهي»، إذ يتكلم الضمير على أساس ما ينبغي وما لا ينبغي، وبينا لا تنظر الشهوة إلا إلى أفق ضيق هو حاجة الجسم في حالته الحاضرة، إذا بالضمير يوسع نظره إلى أبعد من ذلك، فيرى الحاضر والمستقبل، والعواقب القريبة والبعيدة، ونتائج العمل لجسمه وغير جسمه، ويشتد النزاع، ويستحر القتال، وقد يطول وقد يقصر، ولكن مما لا شك فيه أن كلا المتنازعين مخلص في تعبيره، هذا يعبر أصدق تعبير عن مطالب روحه، وذاك عن مطالب جسمه، من غير مواربة ولا تحايل ولا مماراة، وهذان المترافعان يختلفان قوة وضعفا عند الأفراد، فهذا وكيله الجسمي قوي كل القوة، بليغ كل البلاغة، يغطي بدوي صوته على صوت الضمير حتى لا يسمع، شأنه في ذلك شأن الحيوان الأعجم، وهذا وكيله الروحي بلغ الغاية في القوة حتى ضعف أمامه «المحامي» الجسمي كل الضعف، وحتى بلغ من قوته أن صاحبه يزعم أنه يسمع صوته كما زعم سقراط قديما وچان دارك حديثا. •••
ثم لا نلبث في هذا النزاع أن نرى شيئا دخل خصما ثالثا في الدعوى، وهو العقل، وهو - من غير شك - أمهر الخصوم الثلاثة وأمكرها وأقدرها على الصلاح والفساد معا. إن كانت الشهوة والضمير صادقين دائما، فالعقل ليس - دائما - صادقا، فهو محام قابل للرشوة ترشوه الشهوة أحيانا فيخترع العلل والأسباب والبراهين يؤيد بها وجهة نظرها، وبلغ من المهارة حدا كبيرا حتى لا تتبين مواضع ضعفه، ومن مهارته أنه استعمل علما سماه «المنطق» يضلل به الناس فيزعم أنه مقياس التفكير الصحيح، ووضع فيه شروطا للقضايا وشروطا للقياس، وقال: إننا إذا سرنا عليها أمنا الخطأ، ومن مهارته أنه عني بأشكال القضايا أكثر مما عني بالقضايا نفسها، فاستطاع بذلك أن يبرهن برهانا صحيحا - في الشكل - على الشيء ونقيضه، فإذا استخدمته في التدليل على أن هذا أسود أتى لك بما ينتج ذلك، أو أبيض فكذلك، وهو لهذا أفسد المجالس النيابية، وأفسد المحاكم النفسية والمحاكم الخارجية، وأظلم الحق وأضاع الزمن، هو أطول الثلاثة لسانا، وأقواها بيانا، وأشدها إلحافا، وأقدرها طغيانا، هو كوليده العلم، يخدم الحق والباطل، والسلم والحرب، والموت والحياة، إن استخدمته في الرفاهية أتى لك بالعجب العجاب، من راديو وتليفون وضوء وموسيقى وما شئت من ألوان النعيم، وإن استخدمته في الإفناء فما شئت من غواصات وطيارات ومدمرات وغازات.
على كل حال يدخل العقل في القضية، فقد يكون مرتشيا، وقد يكون نزيها، قد ترشوه الشهوة فينضم إليها ويترافع في صفها على غير اعتقاد منه، وقد يرشوه الضمير فينصره بحججه وقضاياه وأقيسته على غير اعتقاد منه أيضا، وقد ينزه فيخلص للحق ويقول فيه كلمته، ويتخذ لذلك كله وسائله الخاصة من عرض المعاذير والاستشهاد بالنظائر وتهدئة الخواطر الثائرة أو إثارة الشئون الهادئة. •••
ثم قد تتعقد القضايا وتشتبك المرافعة، فنرى ضروبا من المترافعين المساعدين بجانب المترافعين الأصليين.
هذا هو «الخوف» يظهر وسط المرافعة بلونه الأسود المرعب يلوح لهذا وذاك، يحمل في يده لوحة كتب عليها بوضوح: «الآلام المنتظرة من العمل» قد يخوف بها الجسم إذا استمر في خضوعه لشهوته، وقد يخوف بها الروح في إمعانها في الجري وراء مثلها الأعلى، وله في ذلك وسائل مختلفة، ومستندات قوية، يتخذ أسلحته من الرأي العام يحتقره، ومن بيئته تزدريه، ومن الفقر يلحق به، ومن الموت يدركه، ومن المرض يضنيه، ومن العار يلحقه، وهو ماهر في كل ذلك، يستعمل لكل موقف ما يناسبه من وسائل.
وهناك شبح آخر يقف بجانب الخوف غريب الأطوار حقا، يلبس لباسا خاصا غير ما يلبسه الوكلاء، يتخذ بعض أشكال الخوف وبعض أشكال الرجاء، فيه مسحة من الملائكة، ومسحة من الشياطين، يبعث منظره الغريب اليأس من جانب، والأمل من جانب، واللذة من ناحية، والألم من ناحية، لا يشبه شيئا من عالم الواقع ولا عالم الحقيقة، ذلك هو الخيال، يلعب في القضية ألعابا سيمائية، يرسم أحيانا صورا جميلة جدا يقوي بها الشهوة ويشد أزرها، ويرسم أحيانا صورا مخيفة يسلمها للخوف الذي بجانبه يحذر بها من الإقدام على تحقيق الشهوة فيجعلها تنضمر أمام الضمير.
وهذا محام آخر أخذ موقفه بجانب الشهوة، وتزيى بزي الفتاة اللعوب، تبرجت وازينت، اصطلح الناس على تسميتها العواطف، اعتادت أن تتشكل أشكالا مختلفة، أحيانا تقف موقف حب فتلهب الرغبة وتحمسها، وتطعن الضمير والعقل طعنات مميتة، وأحيانا تقف موقف بطولة، فتحيي الضمير وتلهبه وتمده بروح منها، وهكذا دواليك، تلعب في المحكمة ألعابا مدهشة، قد تستفيد منها الشهوة، وقد يستفيد منها الضمير، وقد يستفيد منها العقل. •••
أمام كل هذه المناظر جلست على منصة القضاء «الإرادة» تصغي إلى هؤلاء جميعا، وتمعن في النظر إلى هؤلاء جميعا، وتفهم كل المترافعين حسب لغاتهم ووسائل إغرائهم، ويعرض لها ما يعرض للقضاة، فتكون القضية مكيفة تكييفا قانونيا واضحا، فتصدر حكمها في سهولة ويسر وسرعة، وأحيانا تتعقد القضية وتتشعب، وتقوى أدلة الخصوم وتتعادل، فتؤجلها لتقديم المذكرات أحيانا وللنطق بالحكم أحيانا، ثم تمعن النظر وتصدر الحكم وأحيانا لا تصدره أبدا، ثم شأنها شأن القضاة، تخطئ وتصيب، ومنها نوع يكثر خطؤه، ونوع يكثر صوابه، وهناك قضايا جزئية ليس فيها استئناف ولا نقض ولا إبرام، وهناك قضايا تستأنف، وقضايا تنقض ثم تبرم، وهكذا.
ألست معي - أيها القاضي الفاضل - أن محاكمنا أصل محاكمكم، وأنكم قد قلدتمونا، فأخطأتم التقليد أحيانا، وأصبتم أحيانا؟ ولا أظنك تستطيع أن تدعي أن محاكمنا هي التي قلدتكم، فمحاكمنا قديمة قدم الإنسانية، ومحاكمكم حادثة حدوث المدنية.
سيرة الرسول في كلمة
من نسل إسماعيل، في بيت عرف بالدين
وتقلبك في الساجدين
يلي آباؤه أمور مكة، ويحجبون بيتها، ويطعمون حجيجها، ويبني جده قصي «دار الندوة»، فيجعل بابها إلى الكعبة، ويجعل إليها أمور قريش كلها، فلا يقضى زواج إلا بها، ولا يعقد لواء حرب إلا فيها، ولا ترحل رحلة إلا منها، وهو سيد قومه يتبعون أمره، ويعرفون فضله، ويتيمنون برأيه، وابتدع أشياء لقريش تحمسوا بها في دينهم، وتشددوا بها على أنفسهم، فسموا من أجل ذلك «بالحمس» - وأورث بنيه مجده وشرفه ودينه وعصبيته للبيت وإشرافه على شئون الحج، وجده هاشم صاحب إيلاف قريش
إيلافهم رحلة الشتاء والصيف
سن لهم رحلة اليمن والحبشة في الصيف، ورحلة الشام في الشتاء، ودعا قومه أن يجعلوا الحاج في ضيافتهم، يطعمونهم من مالهم، ويسقونهم من مائهم، ويقول: «إنهم ضيف الله، وأحق الضيف بالكرامة ضيفه».
ويرى الناظر في وجوه أهل هذا البيت علائم الدين والسيادة عن طريق الدين، هذا عراف اليمن يتفرس في أنف عبد المطلب فيقول: «والله إني أرى نبوة وأرى ملكا»، وهذه قتيلة الخثعمية ترى في جبهة عبد الله بن عبد المطلب غرة مثل غرة الفرس.
من هذا البيت ولد محمد بن عبد الله، يرث الدين ويرث المجد والشرف عن طريق الدين، ونشأ يتيما لا ترأمه أم ولا يحميه أب، ونشأ فقيرا لم يترك له أبوه إلا خمسة أجمال وقطعة غنم، فعرف طعم اليتم، وعرف طعم الفقر، وتولد في نفسه الرحيمة العطف على الفقراء، واليتامى:
فأما اليتيم فلا تقهر * وأما السائل فلا تنهر ، لقد «خدمه «أنس» عشر سنين، فما قال له أف. ولا لم صنعت. ولا ألا صنعت»، ولقد قالت له خديجة عند بدء الوحي: «والله ما يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق ».
ورعى الغنم - وهو غلام - مع أخيه من الرضاعة في بني سعد، ثم رعاها في مكة، فعرف من رعايته الغنم كيف يرعى الأمم، والنفوس المرهفة تتعلم من الأمر الصغير ما لا يتعلمه أوساط الناس من الكبير.
وخرج إلى الشام مرتين: مرة - وهو ناشئ - مع عمه أبي طالب، ومرة وهو ابن خمس وعشرين في تجارة، فرأى الشام تحت حكم الرومانيين، ورأى الحضارة كما رأى من قبل البداوة، ورأى ما لم يعجبه من الترف والنعيم، وفساد الخلق، وسقوط النفس، واطلع على صفحة من المعاملات المالية سوداء، فيها التهالك على المال، وفيها الخداع والاستغلال، وفيها أخلاق الناس كأخلاق السمك يأكل بعضه بعضا، وفيها يعبد المال من دون الله، فكره عبادة المال في الحضارة، وعبادة الوثن في البداوة، واجتمع له الوقوف على أخلاق هؤلاء وهؤلاء، فما أعجبته هذه ولا أرضته تلك.
وإنما كان يرضيه مواقف يدعى فيها للحق والعدل، ويتحالف عندها على رفع الظلم، كالذي حدث في حلف الفضول، إذ تداعت قبائل من قريش واجتمع ممثلوها في دار عبد الله بن جدعان، وتعاهدوا على ألا يجدوا بمكة مظلوما من أهلها وغير أهلها ممن دخلها إلا قاموا معه، وكانوا على من ظلمه حتى ترد عليه مظلمته.
لقد شهد محمد
صلى الله عليه وسلم
هذا الموقف، وحضر هذا الاجتماع، وكان في نحو العشرين من عمره، وأعجب به، إذ وافق نفسه الطامحة إلى العدالة المتأهبة لخير الإنسانية، وظل يذكره بالخير قبل بعثته وبعد بعثته ويقول: «لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو دعيت إليه في الإسلام لأجبت»، ويرضيه أن يتعاون الناس على الخير ولا يثور بينهم الشر، فلما اختلفت قبائل قريش في وضع الحجر الأسود في بناء الكعبة وأرادت كل قبيلة أن تنال فخر وضعه، واختصموا واستعدوا للقتال وتعاقدوا على الدم، أشار محمد
صلى الله عليه وسلم
بمد ثوب وضع فيه الحجر وأخذت كل قبيلة منه بطرف، ثم رفعه بيده ووضعه مكانه، وحجز الشر بينهم، وكان ذلك إرهاصا لما كان منه بعد من تأليف قلوبهم وتوحيد كلمتهم، وهكذا هو في تاريخه يرحب بالخير ويعين عليه ويكره الشر ويقف دونه.
ويتجلى فيه النبل والإخلاص في كل مواقفه، فإذا هوجم قومه من قريش في حرب الفجار وقف بجانبهم يدافع عنهم، ويتحدث عن ذلك بعد فيقول: «قد حضرت الفجار مع عمومتي ورميت فيه بأسهم وما أحب أني لم أكن فعلت» ويتزوج خديجة فيكون مثل الإنسان المخلص لزواجه، المخلص لحبه، المخلص لولده. •••
لقد بلغ الأربعين، فالثمرة أشرفت على النضج، والزهرة تهيأت للتفتح.
كل شيء حوله يدعو إلى الطمأنينة، فهو محبب في قومه، سعيد في أهله، في يسر في ماله، ولكن متى كان للنفوس العظيمة أن تقنع بأعراض الدنيا أو تركن إلى مظاهر الحياة؟
لقد أصبح قلق النفس حائر اللب، ما عليه الناس هو الباطل فأين الحق، والبدو والحضر في ضلال فأين الهدى؟ واللات والعزى أوثان لا تنفع ولا تضر، فأين من ينفع ويضر؟ إلى غير ذلك من مشاعر نعجز عن وصفها.
إذ ذاك حببت إليه العزلة فكان يأنس بنفسه، ويفر من بني جنسه، ويمكث في ذلك الساعات أولا، ثم الأيام، ثم الشهر وهو سابح في تأمله، غارق في تفكيره، تتكشف له الحقيقة رويدا رويدا، حتى جاءه الوحي، فلمعت نفسه وأضاء العالم حوله.
كان أول كلمة أوحيت إليه «اقرأ» ولكن ماذا يقرأ؟ وكيف يكلف القراءة وما كان يتلو من قبله من كتاب ولا يخط بيمين؟
كلا، إنه لم يكلف قراءة الحروف والكلمات، فهي تقيد البصر وتحد الفكر، إنما كلف قراءة أسمى من هذا وأرقى، إنها قراءة الكون دالا على خالقه، ووحدة العالم دالة على وحدة صانعه:
اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق ، اقرأ:
والشمس وضحاها * والقمر إذا تلاها * والنهار إذا جلاها * والليل إذا يغشاها * والسماء وما بناها * والأرض وما طحاها * ونفس وما سواها ، اقرأ:
أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت * وإلى السماء كيف رفعت * وإلى الجبال كيف نصبت * وإلى الأرض كيف سطحت ، اقرأ الله في السماء ونجومها، والأرض وجبالها ووهادها ، والطير في الهواء، والسمك في الماء، اقرأه في اختلاف الليل والنهار، واختلاف الألسنة والألوان، اقرأه في نبضات القلب وحركات الحس وخلجات النفس، اقرأه في كل شيء تجده في كل شيء.
نظرة غيرت كل شيء، وسر أوحي إليه فتكشف له كل شيء، وبدأ يقرأ العالم من جديد، فإذا كل شيء جديد، لقد كان هذا العالم قبل هذه النظرة جامدا فدبت فيه الحياة، وكان لا دلالة له على شيء فدل على خالق الحياة.
هذا ما نعلم فكيف بما لم نعلم؟
لقد كانت لحظة رائعة كل الروعة، جليلة كل الجلال، رهيبة كل الرهبة، فرأى ما لم يكن قبل رأى، وسمع ما لا عهد له أن يسمع، وتجلى له الحق في كل شيء، لقد كانت لحظة فارقة بين محمد بشرا ومحمد بشرا ورسولا، لحظة غابت فيها نفسه عن عالم الحس، واستغرقت في عالم الروح، فبردت أطرافه ورجف جسمه وعاد وهو يقول: «زملوني، زملوني؟» حتى ذهب عنه الروع.
لو كان الأمر أمر حق ينكشف، ونفس تهتدي، لكان في ذلك لذة لا تقدر، ومتعة لا تفنى؟ ولكن تلا الوحي الأول الوحي الثاني:
يا أيها المدثر * قم فأنذر
فكانت تبعة عظمى وعبئا ثقيلا، لقد كلف أن يرد الناس عن ضلالهم، وينتزعهم من دين آبائهم، ويدعوهم أن يحكموا في دينهم عقولهم وقلوبهم، وما أشقها تبعة! فالناس مذ خلقوا عبيد ما ألفوا، أعداء ما جهلوا، كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم استكبروا، ففريقا كذبوا وفريقا يقتلون، هذا تاريخ كل نبي، وكل مصلح، وكل داع إلى الخير، أدرك ذلك ورقة بن نوفل، وقد قص عليه النبي
صلى الله عليه وسلم
فلخصه تلخيصا بديعا، إذ قال له: «والله لتكذبنه، ولتؤذينه، ولتخرجنه، ولتقاتلنه، ولم يأت رجل بمثل ما جئت به إلا عودي»، وأدرك النبي ذلك كله فوجم، وأدرك تأييد الله فسكن.
ومن ذلك الحين يبدأ حياته في الجهاد، جهاد في الدعوة وتصويرها وتبليغها كما أوحيت إليه، والسعي في إيصالها إلى كل سمع، والسير بها خطوة خطوة ورويدا رويدا، كما أمر الله حتى تبلغ غايتها ويتم كمالها، وجهاد في حماية الدعوة بالرفق إن أغنى، وبالسيف إن عجز الرفق.
أس الدعوة إله أحد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، تعالى عن الصورة وتنزه عن المادة، خالق كل شيء، بيده ملكوت السموات والأرض، وهو على كل شيء قدير، لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير.
فما أحقر الأصنام، وما أحقر عبادتها! إنها سقوط الإنسانية وفساد الفطرة، إنها داعية الفرقة وموجبة الخلاف، فلكل قبيلة صنم ولكل قوم وثن، ولو أدركوا وحدة إلههم لتوحدت عبادتهم وتألفت قلوبهم.
ثم بجانب دعوته إلى العقيدة دعوة إلى نوع من الشعائر تعظيما لله، وإقرارا بربوبيته.
دعا دعوته سرا فآمن به أقرب الناس إليه وأعرفهم به: زوجه خديجة، ومولاه زيد، ومرببه علي، وصديقه أبو بكر، وظل على ذلك نحو ثلاث سنين استجاب له فيها أرسال من رجال ونساء، وصناديد قريش لا يهمهم أمره، ولا يعنيهم شأنه، ثم دعا جهرا فبسط دعوته من غير أن يهاجم عقائدهم، فسكتوا عنه ولم يردوا عليه، ولكن بناء الجديد لا يكون إلا بعد هدم القديم، فلتهاجم الأصنام في غير رحمة، وليشهر بالشرك في غير هوادة، ولتسفه أحلامهم ليعودوا إلى الصواب، وليلعن ضلالهم ليتبين لهم الهدى، فكان ذلك بدء الخصومة وفاتحة العداوة، وأجمعوا خلافه، وأظهروا عداوته، ثم رغبوه وأرهبوه، فما أبه لترغيبهم ولا ريع لإرهابهم، وصبر على إيذائهم يمعن في دعوته، ويبشر المؤمنين وينذر المشركين، ويؤمن أن العاقبة للمتقين، وازدادوا في إيذائه ومن معه، فأوعز إليهم بالهجرة، فهاجر كثير إلى الحبشة، فكان فيها بعض السعة، وعلم أن القوة إنما تدفع بالقوة، والسيف يقارع بالسيف، والله الذي أنزل الكتاب أنزل معه الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس، ويئس من قريش فرنا إلى القبائل الأخرى، وظل نحو سبع سنين بعد يتحين المواسم كل عام في الحج، ويتعرف القبائل ومنازلها، ويدعوهم إلى أن يحموه حتى يبلغ رسالات ربه، فلا ينصره أحد ولا يجيبه أحد، ويردون عليه أقبح رد، ويقولون له: أسرتك وعشيرتك أعلم بك حيث لم يتبعوك ويؤمنوا بك. حتى ساقه الله لنفر من الأوس والخزرج فدعاهم دعوته فأجابوا، وأسرعوا فآمنوا، وعادوا إلى قومهم في المدينة ففشا الإسلام في دورها، ثم هاجر رسول الله إلى المدينة ليكون بين أنصاره وحماة دعوته.
صبغت المدينة صبغة إسلامية قوية فتآخى المهاجرون والأنصار، وبنيت فيها المساجد وجلجل فيها الأذان يتردد صداه، وأقيمت شعائر الدين في طمأنينة وأمن، وجاء الإسلام ينظم الحياة الاجتماعية كما نظم الحياة الروحية، وألف في المدينة الجيش يحمي الدعوة ممن يهاجمها أو يقف في سبيل نشرها، كجيش مكة الذي يعلن الوثنية ويحميها، وينتشر الخبر في الجزيرة فينضم إلى هذا اللواء قوم، وإلى ذاك آخرون، وجاءت غزوة بدر فخرج المسلمون في قلة من عددهم وقوة في إيمانهم، والمشركون بصناديدهم وأفلاذ أكبادهم، فكان النصر للمؤمنين، وكانت الحادثة فتحا عظيما ملأت قلوب المسلمين بالأمل، والمشركين بالهلع، وتتابعت الغزوات، فكانت - في غالبها - فتحا بعد فتح ونصرا يعقبه نصر، والإسلام ينمو وينتشر، والشرك ينهزم ويندحر، حتى غزا المشركين في عقر دارهم - في مكة - ورأى أبو سفيان الجموع الحاشدة فقال: من هؤلاء يا عباس؟ قال: هذا رسول الله في المهاجرين والأنصار، قال: ما لأحد بهؤلاء قبل ولا طاقة، والله لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيما! فقال العباس: كلا، إنها النبوة. وجاء نصر الله والفتح، ودخل الناس في دين الله أفواجا، فما مسه زهو الفاتح ولا فخر الغالب، و«لقد رئي إذ ذاك على راحلة، معتجرا بشقة برد، وإنه ليضع رأسه تواضعا لله حين رأى ما أكرمه الله به من الفتح، حتى إن عثنونه ليكاد يمس واسطة رحله»، وحج حجة الوداع في مائة ألف وأربعة وعشرين ألفا يريهم مناسك الحج ويرد تحريفات الشرك.
انتهى الآن شأن الجزيرة فتوجه إلى ما حوله من فارس والروم، فكتب إلى ملوكهما يدعوهم دعوته، ويبين حجته، ويحملهم وزر قومهم، وضلال شعوبهم، وأخذ يعد لغزو الروم في الشام عدته ويخبر قوته.
ثم أدركه المرض واشتدت به العلة، وكان بين يديه إناء فيه ماء، فكان يدخل فيه يده فيمسح بها وجهه، ويقول: «لا إله إلا الله، إن للموت لسكرات»، ثم جعل يقول: «اللهم الرفيق الأعلى» حتى قبض.
وخلف العبء لرجال اهتدوا هديه واستنوا سنته، وأدوا الأمانة التي حملوها، ونهضوا بعظائم الأمور التي كلفوها، فما وهنوا في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا، فإذا فارس مسلمة، وإذا الروم مستسلمة، وإذا الأرض تتجاوب أنحاؤها بلا إله إلا الله محمد رسول الله. •••
فاللهم يا من أعززت المسلمين بعد عناء، وقويتهم بعد ضعف، ووحدت كلمتهم بعد فرقة، وألفت بين قلوبهم بعد شتات، أدرك آخرهم بما أدركت به أولهم، وأعزهم بما أعززت به سلفهم، وبصرهم بوجوه ضعفهم حتى يتخذوا العدة لنهوضهم، وأنر لهم سبيل القوة حتى يعودوا سيرتهم، واجعل العام الجديد فاتحة عهد جديد، يصلحون فيه أخطاءهم، وينعمون بقوتهم، ويعتزون بجاههم، ويباهون العالم بأعمالهم.
في المدنية الحديثة
لعل أهم مظهر من مظاهر المدنية الحديثة أنها جعلت الحياة مؤسسة على العلم.
حاولت أن تغزو كل مرفق من مرافق الحياة وتؤسسه على العلم؛ فالفلاحة مؤسسة على العلم في ري الأراضي وآلات الزرع والحصاد، والزراعة مؤسسة على العلم، في شأن النبات ووقايته، وآفاته وما إلى ذلك، وهكذا في كل شأن من شئون الحياة: تربية الأولاد مؤسسة على العلم، والحياة الاقتصادية مؤسسة على العلم، والحرب مؤسسة على العلم، ولا شيء يحدث اعتباطا، وإنما هناك درس علمي واستنتاج علمي وبناء العمل على ما وصل إليه العلم.
ولعلك إذا قارنت الشرق بالغرب فأول ما يفجؤك من وجوه الفروق أن الشرق - في كثير من شئونه - لا يسير على مقتضى العلم، والغرب يسير في كل شئونه على العلم.
الفلاح في الشرق يفلح لا على مقتضى العلم، ولكن على مقتضى التقاليد، والعلم يتقدم ويبحث ويخترع، ولا تزال آلات الزراعة عندنا على ما كانت عليه في عهد قدماء المصريين إلا في القليل النادر، وحياة الفلاحين كما كانت في عهد قدماء المصريين كذلك، وقد أحدث العلم ثورة في تربية الأولاد، وسير الغريبون تربيتهم وفق العلم، وحافظنا على تربية أولادنا وفق التقاليد، والتجارة صارت علما يدرس ، وله نظريات ثابتة بنوا عليها تجارتهم، ونظموا بها دخلهم وخرجهم، وتجارتنا مؤسسة على البركة، إلى آخره.
وهذا الفرق بين المدنية الغربية والمدنية الشرقية هو الذي مكن الغرب من استعمار الشرق، فقد أسس الغرب سفنه على علم الملاحة، وأعد أدوات قتاله حسب علم الميكانيكا والطبيعة والكيمياء، ودرس الجغرافيا، وعرف الأرض وما حوت، وحيي حياته كلها وفق العلم، ودرس الشرق فرآه لا يطبق حياته على العلم، فغزاه بالعلم، واستعمره بالعلم، وتمكن منه بالعلم.
وقد استغلت المدنية الحديثة العلم إلى أقصى حد ممكن، فطبقته على كل مرفق من المرافق، استعملته في الترف والنعيم بما اخترعت من قطارات وسيارات وتلغراف ولاسلكي وكهرباء، واستعملته في شئون الاقتصاد والتجارة، وفي تأسيس البنايات الضخمة والآلات الفخمة، واستخدمته أيام الحرب في الغازات الخانقة والكمامات وأدوات القتال على اختلاف ألوانها وأنواعها.
وكلما كان العلم أمس بالحياة كانت المدنية أكثر به عناية، ولهذا كانت العلوم الطبيعية أكثر العلوم أهمية في نظر المدنية، وقد بلغت هذه العلوم من الرقي حدا كبيرا نفذت به المدنية إلى مناحي الحياة المتشعبة في المنزل وفي الشارع وفي المدينة وفي السلم والحرب.
وكان من نتيجة هذا أن ضعفت العناية بما لم يترتب عليه في الحياة عمل، حتى الفلسفة غلبت عليها الناحية العملية، وعني فيها بالنفس والاجتماع والمنطق أكثر مما عني فيها بما وراء الطبيعة والإلهيات.
ودرات آلة العلم في المدنية الحديثة دورا عنيفا وسريعا، وأحل العلماء في المجتمع محلا رفيعا، وامتلأت أوربا بقاعات البحث، وتخصص العلماء للدرس والاستكشاف، وكلما وصلوا إلى نتيجة علمية أخذها التجار فحولوها إلى صناعة تملأ البيوت وتغزو الأسواق وتنفذ إلى صميم الحياة العملية.
أصبح هذا هو طابع المدنية الحديثة الذي يتجلى في كل مظهر من مظاهرها، كما أصبح هو مقياس رقي الأمم، فالأمة أرقى من أمة؛ لأنها أكثر تقدما في العلم وأكثر استخداما له في حياتها اليومية، والغرب أسبق من الشرق؛ لأن محصول الغرب العلمي أكبر ولأن سيره على مقتضى العلم أتم.
وهذا هو أيضا ما يحدد خطة السير التي يجب أن يسيرها الشرق إذا أراد أن يصل إلى ما وصل إليه الغرب، وهذه الخطة تتلخص في أن يجد في العلم ويسير في حياته وفق العلم ، وهذا يتطلب تعديلا في قائمة العلوم كما فعل الغربيون، فيوضع في أولها العلوم الطبيعية من طبيعة وكيمياء وميكانيكا وهندسة وما إلى ذلك، والعلوم الاقتصادية والاجتماعية وما إليها، ثم ثورة على الحياة المؤسسة على التقاليد، وابتداء صفحة من التاريخ مؤسسة على العلم، في الفلاحة والزراعة والتجارة والتربية والتعليم والسياسة وكل شأن من شئون الحياة، فإذا وجه الحياة يتغير، وإذا الشرق سائر سير الغرب، وإذا الركود يتحول إلى حركة، وإذا أخطاء حياتنا تظهر في أشنع صورها، وإذا الخلف يعجب كيف كان يسير السلف. «العلم وتأسيس الحياة على العلم» هو المبدأ الذي يجب أن يكون شعار الأمم التي تريد النهوض، وهو المفتاح الذي نفتح به أبواب الحياة، وهو المصباح الذي نبصر في ضوئه كل عيوب الحاضر.
الفرق بين مدنية العصور الوسطى والمدنية الحديثة كالفرق بين «الأجزاخانة» ودكان العطار، وكالفرق بين الطب الحديث وطب الركة، قد ينفع دكان العطار وقد ينفع طب الركة، ولكن نفعهما مبني على المصادفة والبخت، على حين أن نفع النوع الأول مبني على الدرس ومعرفة السبب والمسبب والعلة والمعلول، إذا نفع النوع الثاني فنفعه تقليد وعقيدة، وإذا نفع الأول فعلم ومنطق.
والفرق بينهما أيضا كالفرق بين عربات النقل والسيارة، أولاهما كانت تساير الزمن البطيء والحياة البطيئة التي كان الناس يحيونها، والثانية تساير الزمن السريع والحياة السريعة التي يحياها الناس الآن.
ومحال إذا أردت مجاراة الزمان ومواجهة الواقع أن تحارب الأجزاخانة بالعطار والقطار بالعربة، إلا إذا عشت في أتم عزلة عما حولك من العالم، ومحال أن يكون ذلك، فالعلم أيضا كسر الحدود، وصير العالم وحدة لا وحدات.
لقد آمنت المدنية الحديثة كل الإيمان بقانون السببية، فكل ظاهرة في الوجود إذا حدثت فهناك سبب لحدوثها، وإذا أريد علاجها فلا بد من علم بها ووضع العلاج على أساس العلم بها، تستوي في ذلك الظواهر الطبيعية والاقتصادية والاجتماعية، على هذا الأساس نظموا حياتهم في الصحة والمرض، في شئون المال، في شئون التربية، في الإقدام على المشروعات، في علاج المشكلات، الدرس أولا ومعرفة العلل والأسباب والنتائج.
ثم بناء العمل على هذا الدرس، لا شيء يعمل سبهللا، ولا شيء يعمل اعتباطا، في المدرسة يبنون حياتهم المدرسية على دراسة النفس وعلم التربية، وفي البيت يبنون حياتهم المالية على قوانين الاقتصاد، وفي حياتهم السياسية على قوانين علم الاجتماع، وفي حياتهم الحربية على علوم الحرب وفنونها وإحصاءاتها وتجاربها الميكانيكية والنفسية، حتى لهوهم ولعبهم مبني على قوانين النفس وقوانين الرياضة.
وبقدر ما توسع القدماء في دائرة القضاء والقدر ضيقت المدنية الحديثة من هذه الدائرة، فالغنى والفقر والصحة والمرض والفساد والصلاح والنصر والهزيمة والنجاح والفشل كانت كلها عند الأقدمين داخلة في دائرة القضاء والقدر، وأكبر جزء منها في المدنية الحديثة داخل في دائرة قانون السببية، وهكذا.
قد صيرت المدنية الحديثة العالم جامعة كبيرة وطبقت عليه نظام الجامعة، جمع للظواهر ودراسة دقيقة لها وإجراء التجارب عليها، وعمل ما يستلزمها من إحصاءات وما إليها، وإبعاد ما ليس للظاهرة المعروضة علاقة بها، واستنتاج الحل لهذه الظواهر بعد الدرس.
والفرق بين جامعة العالم والجامعة الخاصة أنهم في جامعتهم الواسعة يريدون أن يطبقوا ما وصلوا إليه من نتائج على الحياة العملية، ويعدون البحوث المجردة بحوثا ميتة لا حياة فيها ولا روح، ويرون أن العلم ليس للعلم، وإنما هو ليستخدم في الحياة وليسعد الحياة، وليس العلم اللذة العقلية فقط، ولكنه لتشكيل مرافق الحياة حسب قوانينه، فالطبيعة والكيمياء والميكانيكا والرياضة ليست للزخرف العقلي، ولكنها لبناء الجسور وشق الترع واختراع الآلات لخدمة البشر وكل ضروب المدنية، وما لم ينبن عليه عمل فهراء باطل وشعوذة ممقوتة. •••
هذا أهم فرق - في نظري - بين المدنية الحديثة والقديمة، وبين الأمم المتحضرة وغير المتحضرة، وبين الأمم الحاكمة والأمم المحكومة.
وهذا أيضا هو الجانب الحسن في المدنية الحديثة وجانب القوة فيها، ولكن هناك من ناحية أخرى وجها ضعيفا، وجها ينقص المدنية الحديثة لتكمل، ذلك أن للإنسان، بجانب قوته العاقلة التي نتاجها العلم والتي يرمز إليها عادة بالرأس، قوة أخرى روحية يرمز إليها بالقلب، ومن مظاهرها الدين والمثل العليا للخير والسلوك وما إلى ذلك، ولا بد لخير الإنسانية وسموها من تعادل القوتين ونمائهما معا.
وقد رأينا المدنية الحديثة تعلي شأن العقل والعلم علوا كبيرا، ولا تعلي شأن القلب كذلك، حتى لرأيناها تحكم العقل في القلب، والعلم في الدين، والمنطق الجاف في السلوك.
لقد أدى إعلاء شأن العقل والعلم وحده إلى هذه الحروب الطاحنة الدامية، ولو تدخل القلب فأعلى شأن الإنسانية لوقف العلم عند خدمة الحياة، ولم يتعدها إلى إعدام الحياة، كما أدى إعلاء شأن العلم إلى أن وجهوه إلى الدين يشرحه كما يشرح الطبيب الجسم، ويحلله كما يحلل الكيمياوي الأشياء، ففقد روحه وفقد قيمته، وفقد الناس احترامه، وأنى للعلم أن يحكم فيما ليس من اختصاصه؟ إذ كيف تخضع الحب للمنطق، والشعور للعقل، والعاطفة للبرهان؟ إن تحكيم العلم في هذا كتحكيم العين في المسموع والأذن في المرئي والأنف في الملموس،
لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون ، فلما حلل العلم الدين حوله من عاطفة إنسانية وطموح إلى المثل العليا إلى خدمة اجتماعية، لقد أنشأ الدين مملكة سماوية تشرئب إليها النفوس، وتسمو إليها الأرواح، فجاء العلم يحطم هذه المملكة ويرد الدين إلى حظيرة الواقع ودنيا الجماد.
لقد جاء الدين فدعا إلى إحياء القلب وإحياء البصيرة، وجاء العلم ينكر كل شيء إلا العقل وإلا المنطق، ولا أمل لسعادة الإنسان إلا بحياة عقله وقلبه معا، واعتراف كل بحدود دائرته من غير أن يتعدى اختصاصه، لقد حول العلم الدين إلى رياضة، وجعل البرهنة عليه من جنس البرهنة على نظرية هندسية، وجهل الفرق بين شيء خارجي يبرهن عليه، وشيء في النفس ينكشف بالشعور، إن الدين شعور وإلهام مركزهما القلب، والعلم يشرح ويوضح ويبرهن ويستمد ذلك من الرأس، إن العلم ليعجز عن إدراك جمال الدين كما يعجز عن الشعور بجمال ازدهار الزهرة وابتسامة الطفل، لقد ملأ العلم الحياة مالا واختراعا، ولكن كان شأن الإنسان معه شأن الرجل كثر ماله فأنفق عمره فيه يديره ويدبره حتى لم يجد وقتا ما يفكر فيه لنفسه، كذلك كان شأن الناس في المدنية الحديثة، تنوعت حياتهم وكثرت تكاليفهم، وازدحمت أوقاتهم، وامتلأت جيوبهم، ولكن فرغت قلوبهم، وعاشوا عيشة صاخبة لا يجدون فيها أنفسهم حتى كأنهم في حلم ثقيل.
كانت نتيجة هذه الحياة التي يعنى فيها بالعلم وحده، ويستخدم العلم فيها للحياة المادية وحدها أن أصبح مقياس الحياة القوة وحدها، القوة في المال وفي الجسم، ثم توجت هذه القوة بالتسلح، وكلما كانت الأمة أمضى سلاحا وأشد فتكا وأمعن في التنكيل كان ذلك دليل عظمتها وأدعى إلى احترامها، وهذا بعينه هو المقياس الوحشي القديم الذي كانت تقاس به الأمم أيام بداوتها، وكانت تقاس به الأفراد أيام سذاجتهم، ثم تغير هذا المقياس في حق الأفراد ولم يتغير في حق الأمم، أصبح الفرد يقوم بسلوكه وحبه للعدل والحق ونحو ذلك، ولكن لا يزال تقويم الأمم كما كان في نشأتها الأولى، بالقوة.
إن طغيان العلم على الروح والعقل على القلب هو وجه الضعف في المدنية الحديثة، ولا أمل في صلاحها إلا بتعديل عناصرها وحياة قلبها، إذ ذاك تنظر إلى الإنسانية لا إلى القومية، وإلى العدل والحق لا إلى الجنس، وإلى خير العالم كله لا إلى خير جزء منه، وهذا اللون هو لون المدنية المنتظر.
ولعل هذه الحرب بويلاتها تسلم إلى هذه النتيجة، فيعدل الأساس، ويعرف العلم حدوده والقلب حدوده، ويحيا الدين كما حيى العلم، وتزدهر الروح كما ازدهر العقل، ويتسلم زمام الأمم أقواها قلبا وأحياها ضميرا، لا أشدها دعابة وأكثرها تهويشا.
هل يكون معلما؟
سألني أب: هل أدخل ابني كلية الآداب ليكون معلما، أو كلية الحقوق ليكون محاميا أو قاضيا؟ وأضاف إلى ذلك: إن ابني يرغب أن يكون معلما وأنا أكره له ذلك؛ لأن التدريس عمل مضن لا يدر مالا ولا يفيد جاها.
نعم - أيها الأب - إذا أردت وأراد ابنك المال والجاه فإياه وإيا التعليم وإيا الأدب والفن وما إلى ذلك، فإنها ليست طريق المال ولا الجاه، ومن قصدها للمال والجاه خاب ظنه وضل سعيه.
إنما يصلح للتعليم قوم قنعوا من دنياهم بأن يعيشوا على ضروريات الحياة، وفي حدود ضيقة من الرزق.
ليس يصلح للتعليم من طلب بتعليمه الغنى والجاه، وليس يصلح كذلك من سدت في وجوهه طرق الكسب الأخرى، ثم رأى أن باب التعليم وحده هو المفتوح أمامه فدخله مرغما، إنما يصلح للتعليم من كان يرى - بحكم طبيعته ومزاجه - أن لذة التعليم تفوق كل لذة، وأنه سعيد باحترافه التعليم، وأن ما يجده من لذة في حرفته يعوض ما يجده من ضيق في رزقه وضآلة في جاهه، وإلا كانت حرفة التعليم عذابا، وكل درس يؤديه ألما يمتد بامتداد الدرس، وكل فترة من الزمن بين درسين أنينا من الدرس الماضي وإشفاقا من الدرس القادم، وكل ساعات فراغه شكوى من الزمان أن رماه بحرفة التعليم، وسبا للقدر أن بلاه بهذا البلاء المبين.
إن الحرفة الحقة الناجحة - أيها الأب - هي التي خلق لها صاحبها، لا التي أكره عليها صاحبها، ففي الأولى هي لذة وشوق، ونمو شخصية، وتفتح ملكات، والنجاح في الحرفة وبلوغ الذروة فيها هو القصد الأول، والمال والجاه إذا أتيا أتيا عرضا لا قصدا، وإذا لم يأتيا فلا بأس، فقد سعد في أثناء عمله وسعد في نجاحه ببلوغ غايته أو القرب منها، وفي الثانية ألم، وهي سخط، وهي فشل، وهي طلب للمال والجاه من غير وسائله الطبيعية وطرقه المشروعة، فسائل ابنك قبل أن تسائلني، واختبره قبل أن تختبرني: هل يجد لذة في تفتح الزهرة وإثمار الشجرة أكثر مما يجد من حفنة من المال في يده يعددها ويقلبها ويلعب بها؟
إن كانت الأولى فشجع ابنك على أن يكون معلما، وإن كانت الأخرى فوجهه إلى أي عمل غير التعليم، ولا تقع فيما يقع فيه الناس، إذ يستفتون شهوتهم في المنصب والجاه، ولا يستفتون ملكات أبنائهم وطبيعتهم واستعدادهم، ويختارون لأبنائهم من العمل ما يتفق والمنصب والجاه، ولا يتفق والطبائع والاستعداد، فيبوءون بالفشل الذي يبوء به من حاول أن يجعل من النحاس ذهبا، ومن الحديد نحاسا، فلا المنصب نالوه، ولا ما هم أهل له أدركوه، ووقفوا وسط السلم، لا فوق ولا تحت ، أو علقوا في الهواء، لا في السماء ولا في الأرض. •••
كل ذي صناعة منتج أو مبدع أو خالق، فالنجار والحداد والمثال ونحوهم يبدعون من المواد الخام صورا لم تكن، وقد يبلغون في الإنتاج حدا يستخرج الإعجاب والعجب، ولكنهم مهما بلغوا لا يصلوا إلى إبداع المعلم، وسمو صناعته، وسحر فنه.
ماذا يصنع المعلم؟
إنه يجلو أفكار الناشئين والشباب، ويوقظ مشاعرهم، ويحيي عقولهم، ويرقي إدراكهم، إنه يسلحهم بالحق أمام الباطل، وبالفضيلة ليقتلوا الرذيلة، وبالعلم ليفتكوا بالجهل، إنه يملأ النفوس الخامدة حياة، والعقول النائمة يقظة، والمشاعر الضعيفة قوة، إنه يشعل المصباح المنطفئ، ويضيء الطريق المظلم، وينبت الأرض الموات، ويثمر الشجر العقيم، إن المعلمين عدة الأمة في سرائها وضرائها، وشدتها ورخائها، لا تنتصر في حرب إلا بقوتهم، ولا تنهزم إلا لضعفهم، ولا يزهر العلم فيها إلا بهم، ولا ترقى مصانعها ومتاجرها إلا برقيهم، هم منشئو الجيل، وباعثو الحياة، ودعاة الانتباه، وقادة الزمن، هم عنوان الأمة، ومظهر ضعفها أو قوتها، في عقلها وقلبها وخلقها؛ لأنهم يصنعون القوالب التي تصب فيها أبناؤها وبناتها، ويشكلونها بالأشكال التي يتصورونها ويضعونها.
المعلم يملك نفوسا وعقولا ومشاعر بعدد من يعلمهم، ومن يصل نفعه إليهم، وغيره يملك مالا وضياعا وعقارا، فإن كان ابنك - أيها الأب - ممن يفضل ملك النفوس والعقول على ملك المال والعقار فاجعله معلما، وإلا فليكن تاجرا أو محاميا أو مهندسا أو ما شئت، غير أن يكون معلما، المعلم يتاجر، ولكنه يتاجر في الأرواح والعقول والمشاعر، ويكسب ويخسر، ولكنه يكسب نفوسا تتعلق به وقلوبا تتجمع حوله، أو يخسر عقولا أتلفها ونفوسا أفسدها، فإن كان ابنك ممن له غرام بالنفوس والقلوب يكسبها فليكن معلما، وإلا فخير له أن يتاجر في الذهب والفضة أو ما يدر الذهب والفضة، أما إن هو تاجر بالنفوس وأراد الذهب فبشره بالخسارة التي يمنى بها رجل الدين إذا أراد الدنيا، ورجل العلم إذا خدم بعلمه السياسة.
التعليم - أيها الأب - نوع من الرهبنة، انقطع صاحبه لخدمة العلم كما انقطع الراهب لخدمه الدين، أو إن شئت فقل: إن الراهب يعبد ربه من طريق تبتله واعتكافه، والمعلم يعبده من طريق علمه وتعليمه، كلاهما زهد في الدنيا إلا بقدر، وانقطع عن الناس إلا ما يمس عمله، وكلاهما ركز لذته وسعادته فيما نصب له نفسه، فإن رأيت راهبا ينحرف ببصره إلى زخرف الدنيا وزينتها فهو راهب فسد، وإن رأيت معلما يجعل غرضه الأول المال والجاه وعرض الدنيا فهو - كذلك - معلم فسد. •••
كم في الدنيا من أناس أشقياء أكبر شقائهم ناشئ من أنهم يعملون فيما لم يخلقوا له، هذا مهارته في يده يعمل بعقله، وهذا مهارته في عقله يعمل بيده، وهذا مهارته في قلبه يعمل بيده أو عقله، وهذا مالي يعمل عالما، وهذا عالم يعمل ماليا وهكذا، ومن هذا القبيل صنف من المعلمين لم يخلقوا للتعليم وإنما خلقوا للمال، فأجسامهم في التعليم، وطموحهم للمال، فلما لم يصلوا إلى المال - وذلك طبيعي - عذبوا عذابا شديدا، وضاقت نفوسهم، واضطربت عقولهم، وفشلوا في التعليم والمال معا، نسوا أن التعليم عمل روحي لا يصلح له إلا من تجرد للروح وشئونها، وقلبوه إلى عمل آلي فحرموا لذة الروح، ولم ينجحوا في العمل الآلي، وكانت حجرة التعليم سجنا، وعلاقتهم بالمتعلمين علاقة السجان بالمسجونين، فلم ينجحوا في التعليم الذي قيدوا أنفسهم به، ولا في المال الذي طمحوا إليه، وكان من الخير أن يريحوا أنفسهم من التعليم، ويريحوا التعليم من أنفسهم، لقد فهموا كما يفهم الماليون أن مقياس النجاح في الحياة سعة الرزق، وعظم المرتب، وتدفق المال، فلما لم يجدوا شيئا في أيديهم عدوا أنفسهم خاسرين، فنقموا على أنفسهم وعلى الزمان، وعلى حرفة التعليم، وعلى القدر الذي ألجأهم إليها، وفاتهم أنهم غلطوا في مقياس النجاح، فوزنوا بالمتر، وقاسوا الطول بالقنطار، فمقياس النجاح في الحياة العلمية غيره في الحياة المالية والمناصب الحكومية. •••
ومع هذا فلهم بعض العذر في الشكوى من الضيق والضنك، فنظم الحياة يسرت العيش للراهب ولم تيسره للمعلم، جعلت الراهب يعيش لنفسه وربه، وقطعت صلته بالأسرة فتخفف من أعبائها، ولكنها أباحت للمعلم أن يتزوج وأن يكون رب أسرة، ثم طالبته أن يترهب، فإن ترهب هو لم تترهب زوجه وولده، فهو يحلق بنفسه وعمله في السماء، وأسرته تجذبه في عنف إلى الأرض، يرضى بكسب القلوب، ويسر بفتح الزهور، ويعد نفسه غنيا بملك النفوس، ولكن ذلك كله لا يغني فتيلا عند أسرته، فهي تريد المال الصامت، ولا يرضيها ملك النفوس الناطقة، فهو بائس مسكين، مضطرب بين مثله السماوي ومثل أسرته الأرضي، وغناه النفسي وفقرهم المادي، وقناعته بلذته الروحية وإلحافهم في طلب لذائذهم المادية، وقد كان يكون مثل المعلم صحيحا وسليما لو عاش وحده وطمح وحده وتغنى وحده كما هو شأن الراهب، أما وهو معلم في معهده ومثقل بالأسرة في بيته، فتلك مشكلة المشكلات في العالم كله. •••
لو عقل الناس لأغنوا المعلم وأمكنوه من التفرغ لعلمه ولإنتاجه ولخلقه، ولو قاسوا الأشياء بفوائدها لقوموا المعلم أكبر قيمة، ولكن أنى هذا وتقويم الأشياء في الدنيا من أول عهدها إلى اليوم تقويم أخرق، بني على نظر أحمق، هذا كل مهارته أن يثير الضحك بمنظره أو بمنطقه أو بحركاته فينهال عليه المال انهيالا، وهذا يثير الشهوة بألفاظه وخدعه فيتدفق عليه المال بالهيل والهيلمان، وهذا شاب سخيف غر كل ميزته أنه ابن غني مات والده فانتقلت إليه ثروته التي لا تحصى ولا خير للمجتمع منه، وهذا وذاك من الأمثلة الوافرة، وبجانب هؤلاء جميعا نابغة لا يجد قوته ومعلم لا يجد الكفاف، كل ما في الدنيا من أمثلة يدل على فساد التقويم، كتاب مليء حكمة بدرهم، وحبة من لؤلؤ - ليست لها قيمة ذاتية - بآلاف، ومجهود الآلاف من الناس يحرثون ويزرعون لا يساوي خاتما من ماس تتزين به المرأة ساعة في العمر، ولاعب تقوم لعبته بالمئات، ومكتشف لا يقوم اكتشافه بشيء، وعلى الجملة فقد عجز العقل أن يدرك «أساس التقويم» عند الناس، فلا هو مقدار ما في الشيء من منفعة، ولا ما فيه من عدم منفعة، ولا هو الجمال ولا القبح، ولا الخداع ولا الصراحة ولا الصدق ولا الكذب، ولا الحق ولا الباطل، لا شيء من ذلك كله، ولا شيء غير ذلك كله، صالح لأن يفسر أساس التقويم عند الناس. •••
ومن مصائب المعلمين أنهم كثيرون، وأنهم يجب لصالح الدولة أن يكونوا كثيرين، فلا بد لكل طفل وطفلة أن يكون له معلم، فكان لا بد من معلمين يتناسبون في الكثرة مع المتعلمين؛ ومن مقتضيات كثرتهم أن مدى زمن التعلم يبلغ عند كثير من أفراد الأمة ثلث عمرهم أو أطول، وكثرة العدد في مهنة من المهن حليف الفقر، فلو قومتهم الدولة قيمتهم الذاتية التي يستحقونها لم تكفهم خزائنها، ولم تسد مطلبهم ميزانيتها، فكان الفقر من مقتضيات الحال وصروف الزمان.
وعلى كل حال فلا منفذ لهم من ضيق اليد إلا سعة النفس، ومن الفقر في المادة إلا غنى الروح، ومن الحياة اللاصقة بالأرض إلا السمو إلى السماء، ومن الشكوى من سوء تقويم الناس للأشياء إلا إنشاؤهم مملكة روحية في أنفسهم تقوم فيها الأشياء تقويما صحيحا عادلا. •••
قص - أيها الأب - هذه القصة على ابنك، واشرح له ما غمض، وفصل له ما أجمل، ثم اسأله بعد: هل هو راض عن التضحية كما يضحي الجندي؟ وهل هو قابل أن يحد من لذته كما يحد الراهب؟ وهل هو مستعد أن يتعزى بالمعنويات عن الماديات، وأن يخلق في نفسه عالما فيه كل ضروب القناعة، وتحل فيه اللذائذ العقلية والروحية محل اللذائذ الجسمية؟
إن كان كذلك فدعه يكون معلما، وإلا فجنبه الشقاء.
صورة قضائية تاريخية (1)
هذا قصر عبد الرحمن الناصر بقرطبة، يعمل في بنائه آلاف العمال، ويستجلب له من كل مدينة أحسن ما فيها، فالرخام الأبيض من المرية، والرخام المجزع من رية، والوردي والأخضر من تونس، والحوض المنقوش المذهب من القسطنطينية، وهذه نقوش تنقش، وتماثيل وصور على صور الإنسان تنصب في أماكنها، وهذه هي الأبواب تصنع من العاج والآبنوس المرصع بالذهب، وهذه هي الأعمدة تقام من الرخام الملون والبلور الصافي، وهذا هو مجلس الخليفة يحلى بقرامد الذهب والفضة ملونة ألوانا بديعة، وينشأ في وسطه حوض عظيم يملأ بالزئبق، فإذا دخلت الشمس سطعت على تلك الأبواب وهذا الحوض وهذه الأعمدة، فيكون من ذلك أشعة تخطف الأبصار وتأخذ القلوب، وهذه الحدائق تنسق، ويؤتى لها بأغرب الأشجار وأجمل الأزهار، وهذه القناة الغريبة الصنعة يجرى فيها الماء من جبل قرطبة إلى القصر فيلعب فيه لعبه البديعة، فهذه بركة عظيمة عليها أسد عظيم الصورة بديع الصنعة شديد الروعة مطلي بالذهب، وعيناه جوهرتان براقتان، يجوز الماء في مؤخرته فيمجه في البركة من فيه، ثم تسقى من مجاجه جنان هذا القصر، وما فضل عنه صب في النهر.
وامتلأ القصر بالطيور تغرد، والأزهار تتفتح، والفتيات تمرح، وصبيان الصقالبة يروحون ويجيئون، وتم فيه كل ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين.
ويأتي أمير المؤمنين الناصر فيزور القصر ويعجب به، ويمتلئ فرحا وسرورا، ويلهج لسانه بالشكر لله على ما أولى وأنعم، ويصعد إلى السطح الممرد فيشرف منه على الرياض الزاهية والمياه المتدفقة، والمجالس وقبابها المذهبة، وعجيب ما تضمنته من إتقان الصنعة وحسن المنظر، بين مرمر مسنون، وذهب مصفى، وعمد كأنها أفرغت في القوالب، ونقوش كالرياض، وبرك عظيمة، وحياض وتماثيل عجيبة، ويعجب من قدرة الإنسان الضعيف على إبداعها واختراعها من أجزاء الأرض المنحلة، ومادتها المهلهلة، وهو أشد عجبا من صنع الله للمادة، وصنع الله للإنسان.
ولكن (ودائما تأتي «لكن»، فهي نذير الشؤم والنقص، ولم يخل شيء في الدنيا من نقص فلم يخل شيء من «لكن»).
ولكن أبعد «الناصر» النظر فرأى على مداه مستشفى للمرضى يزدحم فيه أصحاب العاهات: هذا قد عصبت عينه، وهذا قد ربطت ذراعه، وهذا قد كسرت رجله، وهذه محفة تحمل طريحا، وهذا طبيب يداوى والعليل يتلوى، إلى آخر هذا المنظر.
ألم «الناصر» من هذا القبح وسط هذا الجمال، ومن مظهر الضعف بجانب مظهر القوة، وعد هذا نشازا في الأغنية الجميلة، وبيتا مرذولا في القصيدة الرائعة، وشجرة يابسة في الحديقة الناضرة، وعمودا مرضوضا في البناء الفخم، وعودا ذابلا في طاقة من الزهور.
لا، لا، لا يكون ذلك، إني أحب الانسجام في كل شيء، والمواءمة في كل نغمة، والانسجام في جلائل الأمور وصغائرها، إن هذا المنظر يذكرني بالضعف وأنا أحب القوة، ويشعرني بالفناء وأنا أحب البقاء، ويصور الحياة في أبشع صورها وأنا أحبها في أزهى صورها.
ولكن المرضى عضو من أعضائنا يجب العناية بهم، والحنو عليهم والإحسان إليهم، والتوفيق ممكن بين ما أطلبه من الانسجام في النظر والمواءمة في النغم، وبين ما أشعر به من واجب للمرضى وحسن رعايتهم، فلينقلوا إلى مكان آخر بعيد عن قصرنا، حيث يجدون فيه راحتهم، وحيث نجد في بعدهم راحتنا.
يبدو الأمر بسيطا سهلا، ولكن (تظهر «لكن» مرة ثانية).
فهذا المستشفى وقف، ولا بد أن يؤخذ في استبدال الأوقاف رأي رجال الشرع.
وكانت الأندلس قد شعرت بنقص نظام القضاء في الشرق، إذ لم يكن هناك قانون رسمي يعمل على وفقه القضاة، ويعرفه المتخاصمون والقضاة قبل الحكم، بل كان القاضي يقضي حسب اجتهاده في حدود مذهبه، وقد أدى هذا إلى إصدار أحكام مختلفة في قضايا متشابهة، فتداركا لهذا ألفوا جماعة سموها «جماعة الشورى»، يعين أعضاؤها بمرسوم من أمير المؤمنين، ومن اختصاصها النظر في مشكلات المسائل، ومسائل الأوقاف، والإشراف على أعمال القضاة وتوليتهم وعزلهم، والإشراف على أعمال رجال الدولة فيما يتصل بالشئون الدينية.
إذا، كان لا بد في أمر المستشفى أن يعرض على جماعة الشورى، فبعث الناصر بأحد وزرائه إلى رئيسها، وهو قاضي قرطبة «ابن بقي» وشكا إليه أمر المستشفى، وأنه يؤذي أمير المؤمنين الناصر، لرؤية المرضى إذا أطل من علالي القصر، وأنه على أتم استعداد أن يعوضهم عنه ما يساوي أضعاف ثمنه أرضا فسيحة غالية من أملاكه في ضاحية قرطبة هي «منية عجب».
قال «ابن بقي»: الرأي عندي أن هذا لا يجوز، وأن ليس لي فيه حيلة، فالوقف يجب أن تكون له حرمته، وأولى من يحترمه السلطان.
الوزير: يحسن إذا أن تعقد مجلس الشورى وتعرض عليهم الأمر ورغبة السلطان، فلعلهم أن يجدوا في ذلك رخصة.
هذا المجلس مجتمع، وها هم العلماء يقلبون الأمر على وجوهه، فلا يرون في فقه الإمام مالك الذي يتقلدونه مخرجا، فيقررون رفض الطلب، وها هو ابن بقي يعرض على القصر رأي المجلس بالرفض.
يغضب السلطان أشد غضب وأعنفه، ويأمر بإحضار مجلس الشورى في القصر، ومواجهة الوزراء لهم بالتعنيف والزجر، فينطلق أحد الوزراء معنفا قائلا: إنكم تستحلون أموال الناس، وتأخذون الرشا، وتلتمسون الروايات الضعيفة تبعا لشهواتكم، وقد أمرني أمير المؤمنين أن أطلعكم على عيوبكم، وأسفه أحلامكم في موقفكم، فهو مطلع على شروركم وخيانتكم، قد احتاج إليكم مرة في دهره في أمر من أموره، فلم يتسع نظركم لإجابته، فليكشفن ستركم، وليناصحن الإسلام فيكم. وأطال في مثل هذا.
قال أحد الأعضاء: عفوا عفوا - أيها الوزير - لقد أخطأنا في رأينا، وتبنا عما جنينا، فانبرى له شيخ شديد المنة قوي العارضة، يسمى «ابن حيونه»، وقال: عم تتوب يا شيخ السوء؟ نحن برآء إلى الله من مقامك، والتفت إلى الوزير وقال: بئس ما بلغت، وليس فينا وصف مما ذكرت، إنا أعلام الهدى وسرج الظلام، وبنا تقام الفرائض، وتثبت الحقوق، وتنفذ الأحكام، فإن كان من يتصف بما وصفت فأنتم، إن كان قد نطق أمير المؤمنين حقا بما نطقت فكان أولى أن تنصحه في قوله وألا تفشي سره، فإن كنت ولا بد مبلغا فجاملنا، ولا تقابلنا بما استقبلتنا، نحن على يقين أن أمير المؤمنين سيراجع بصيرته ويعاود رأيه، ولو كان الأمر ما قال فينا لبطل كل ما صنعه، فهو لم يثبت له كتاب حرب ولا سلم، ولا بيع ولا شراء، ولا صدقة ولا حبس (وقف) ولا هبة ولا عتق إلا بنا وبشهادتنا، هذا ما عندنا والسلام.
ووقف وتبعه الأعضاء، وخرجوا جميعا من القصر غاضبين، وشاع الخبر في الناس، فغضبوا لهم وأسفوا لإهانتهم، وأصبحت الحادثة حديث الناس ومجال التعليق.
وعاود الناصر فكره، ورأى فيما حدث خطورته، فاعتذر إليهم وترضاهم وأكرمهم، واعتذر عما فعل الوزير معهم.
ولكن بقي «المستشفى» غصة له، وزاد الأمر سوءا أن لم تصبح المسألة مسألة مستشفى فحسب، بل أكبر من ذلك هزيمته وعلم الناس بها، وهو المحارب الذي لم يعتد الهزيمة في الحروب.
ظهر في الميدان «أبو لبابة» رجل واسع العلم واسع الذمة، قوي العقل ضعيف الخلق، ماهر في التأليف، ماهر في التأويل، يؤلف كتاب «المنتخبة» في الفقه فيقول المالكية: إنه قل أن يكون له نظير، وهو مع هذا شره في المال، ضعيف الإيمان بالعدل، ولي قضاء «ألبيرة» فأساء السيرة حتى ضج الناس منه فعزل، وكان عضوا في مجلس الشورى فأخذ عليه أنه يفتي للمال، ويتأول للطمع، فعزله الناصر منه وألزمه بيته، ومنعه أن يفتي أحدا.
وجد «أبو لبابة» الفرصة سانحة، فكتب إلى الناصر يذكر له أنه محق في وجهة نظره، وأن مجلس الشورى متزمت، متعنت، ولو كان عضوا من أعضائه لاستطاع إقناعهم واستخراج الرأي الموافق منهم.
أعاده «الناصر» لمجلس الشورى، وجمع المجلس ثانية منه ومنهم، فأما الأعضاء فأصروا، وأما هو فعارضهم، وكان مما قال: إني أعلم أن قول مالك كما تقولون، ولكن ما الذي يمنعنا أن نأخذ في هذا الأمر بقول أبي حنيفة، وهو يرى عدم لزوم الوقف، وحاجة أمير المؤمنين إلى ذلك ماسة؟ ناشدتكم الله: ألم تنزل بأحدكم ملمة تركتم فيها قول مالك وأخذتم بقول غيره؟ فلم تترخصون لأنفسكم ولا تترخصون لأمير المؤمنين، ولا ضرر في هذا، إذ يعرض مكانا أنفع وأرضا أعلى؟ فسكتوا.
ثم طلب من رئيس المجلس أن يرفع الأمر إلى أمير المؤمنين، ويذكر له رأيه ورأيهم، وحجته وحجتهم، فجاء الأمر بالأخذ برأي أبي لبابة، وأزيل المستشفى وكان بعد قليل في «منية عجب» وكان أبو لبابة موضع الحظوة إلى أن مات.
ثم ذهب القصر بزينته وزخرفة ونعيمه، وذهب المستشفى ومرضاه، وبقي حديث أبي لبابة في أفواه العلماء: هذا يصب عليه سخطه؛ لأنه قضى بالغرض، ورأى رأيه لشخصه، وهذا يرى أنه واسع الأفق مرن الرأي، وهذا يؤرخ بحادثته القضاء، وكيف كان، وإلى أين صار.
الشيخ الدسوقي ومستر «لين»
1
إبراهيم الدسوقي الشهير بعبد الغفار من نسل سيدي موسى الدسوقي، أخي سيدي إبراهيم الدسوقي، صاحب المقام بدسوق، من أسرة تنتمي إلى الحسين بن علي بن أبي طالب، ولذلك كان يعد هو وأسرته من الأشراف، ولد ببلدته دسوق سنة 1226ه/1811م.
ونشأ يتيما، فقد مات أبوه وهو صغير، فأرسل إلى الكتاب وحفظ القرآن، وكان بدسوق معهد صغير، هو صورة مصغرة جدا للأزهر، تلقى فيه مبادئ العلوم الأزهرية، ثم أرسل إلى الأزهر مع طائفة من قومه.
وكان بالأزهر علماء كبار أصلهم من دسوق، أمثال الشيخ محمد عرفة الدسوقي والشيخ مصطفى البولاقي، كما كان فيه - ولا يزال - عصبية بلدية وعصبية منطقية، وساعد على هذه العصبيات وجود الأروقة، فرواق الصعايدة، ورواق الفشنية، ورواق البحاروة، وهكذا كانت العصبية، فعصبية أهل كل بلدة بعضهم لبعض، وعصبية لأهل المنطقة جميعا.
وكثيرا ما أدت هذه العصبية - حتى في أيامنا بالأزهر - إلى منازعات، فإذا كانت بين صعيدي وبحيري انتظم معسكران: معسكر للصعايدة ومعسكر للبحاروة، ودار الضرب بجميع الأسلحة الممكنة، إلا الحديد والنار، والحق يقال إن الصعايدة كانوا أشد بأسا وأكثر انتصارا، فكانوا أعز جانبا وأعظم هيبة، وكثيرا ما يتقى قتالهم بإجابة مطالبهم.
على كل حال اتصل إبراهيم الدسوقي بعلماء بلده وغيرهم من علماء عصره، كالشيخ محمد عليش شيخ المالكية، والشيخ محمد الشبيني، والشيخ عبد الرحمن الدمياطي.
وحضر - على حد تعبيرهم - علوم المعقول والمنقول، فنحو وصرف، وبلاغة وتفسير، وحديث وفقه، ومنطق وتوحيد، كما يحضر كل طلبة الأزهر، ولكن يظهر أنه تأثر تأثرا خاصا برجلين من شيوخه كانت لهما نزعتان خاصتان نادرتان في علوم الأزهر في ذلك العصر.
أولهما شيخه وقريبه وبلديه الشيخ مصطفى البولاقي، فقد كان هذا الشيخ مع تبحره في العلوم الأزهرية ميالا إلى العلوم الرياضية، كالحساب والهندسة والفلك، وأداه شغفه بهذه العلوم إلى مصادقة مشهوري الرياضيين، مثل محمود باشا الفلكي، وأساتذة مدرسة المهندسخانة، ومهر في هذه العلوم حتى ألف رسائل كثيرة في الجبر والمقابلة وحساب المثلثات.
والثاني الشيخ أحمد المرصفي - والد الشيخ حسين المرصفي صاحب الوسيلة الأدبية - فقد كانت له نزعة أدبية إلى نزعته الفقهية، واسع الاطلاع، وكان سميرا لطيفا، ومحدثا ممتعا، صحب أحد مماليك محمد علي باشا وسافر معه إلى الصعيد، وأقام معه سنتين، فكان خبيرا بالدنيا وشئونها، وكان مهيبا في درسه، إذا عرض لطالب سعال ابتعد حتى لا يؤذي الشيخ بصوته.
اقتبس شيخنا الدسوقي قبسة رياضية من شيخه الأول، وقبسة أدبية من شيخه الثاني، أفادتاه في عمله بعد، كما اقتبس العلوم الشرعية واللسانية والنحو والصرف والبلاغة من شيوخه الآخرين. •••
عاش الدسوقي في الأزهر مجاورا فقيرا، يأتيه الزاد من بلده من حين إلى حين، خبز جاف وقليل من السمن وشيء من الفريك، ونحو ذلك مما يرسله الأهل الفقراء إلى أبنائهم في الأزهر، وسكن مع رفقة من أهل بلده في حجرة قريبة من الأزهر، إذا دخلتها رأيت حصيرا باليا، ومسامير كبيرة سمرت في الحائط يعلق فيها الطلبة ملابسهم، وفي الركن صندوق يحتفظ فيه الشيخ بكتبه وملابسه وفرشة يفرشها إذا نام ويطويها إذا قام، وهذا كل ما في الغرفة - أستغفر الله - ففي الغرفة أيضا «حلة» وصحن، قد يشتهي هو صحبه اللحم فيشتركون في شراء رطل، ويتعاونون جميعا على شرائه وطبخه، وتقوم في الغرفة حركات عنيفة، ونداآت وأوامر ونواه، وتمتلئ الغرفة بالدخان، وقد يعوزهم الخشب فيتممون الطبخ بالورق، ثم يتحلقون لأكله في لذة ونهم، وتكون هذه الأكلة الفخمة حديث الأسبوع أو حديث الشهر.
وتنفرج الأزمة بعض الشيء بالجراية ترتب له، ثلاثة أرغفة كل يوم، فيكون فيها سداد من عوز، ويدخر منها أحيانا، ويبيع ما يدخره ليشتري بثمنه إداما لبعضه الباقي.
ويجاهد في الحياة، وينسى البؤس بلذة العلم والتحصيل، حتى يتم دراسته في الأزهر ويبدأ في التدريس، وليس للمدرس مرتب يتقاضاه، فهو في فقره مدرسا - كما كان في فقره طالبا.
ثم يسعده الحظ، فيعين «مساعد مصحح» للكتب الطبية في مدرسة أبي زعبل سنة 1248ه/1832م فكان أطباء هذه المدرسة يؤلفون ويترجمون ويطبعون، ويساعد هو في تصحيح اللغة وتصحيح الطبع.
ثم ينقل إلى مدرسة المهندسخانة ويترقى إلى وظيفة مصحح، وكان يدرس بهذه المدرسة علوم شتى، فميكانيكا وديناميكا، وتركيب الآلات، والجبر، وحساب التفاضل، والطبوغرافيا، والكيمياء، والطبيعة، والمعادن، والچيولوچيا، والهندسة الوصفية، وقطع الأحجار والأخشاب، والظل والنظر، ولم تكن هناك كتب في هذه المواد، فكان التلاميذ يكتبون عن المدرسين ما يسمعون في كراريسهم، ويفوتهم منها أشياء كثيرة، ثم تقدمت المدرسة فأنشأت مطبعة حجر يطبع عليها الأساتذة بعض كتبهم بأشكالها ورسومها، ثم أنشئت في المدرسة مطبعة حروف بجانب مطبعة الحجر، وتعين الشيخ الدسوقي لتصحيح هذه الكتب.
وانتقلت هذه المدرسة بعد إلى بولاق، فعهد إليه أمران: أن يعلم فرقتين من طلبة المهندسخانة اللغة العربية ليحسنوا الترجمة من الفرنسية إلى العربية، وأن يصحح ما تطبعه هذه المدرسة من كتب الرياضة.
وظل الشيخ يسكن في حي الأزهر، ولكنه اشترى حمارا يذهب به كل يوم إلى المدرسة ببولاق.
ثم أغلقت مدرسة المهندسخانة في عهد سعيد باشا، فحول الشيخ الدسوقي إلى المطبعة الأميرية ببولاق أيضا ليصحح فيها الكتب ويشارك في تحرير الوقائع المصرية.
خرجت كتب كثيرة من المطبعة الأميرية تحمل اسمه، فهو في آخر كل كتاب يصححه يضع له خاتمة بأسلوبه المسجوع حسب مألوف عصره، ولما كان لقبه «الدسوقي» - وهي كلمة صعبة في المزاوجة - كان يجهد نفسه في البحث عن سجعة تناسب هذا اللقب، وأحيانا يفر منها إلى سجعة أسهل منها تناسب عبد الغفار، فيقول - مثلا - في آخر تاريخ ابن الأثير: «يقول المتوسل إلى مولاه بالنبي المختار، إبراهيم الدسوقي الملقب بعبد الغفار، خادم تصحيح كتب العلوم والفنون، بدار الطباعة ذات الطبع السليم المصون».
وفي آخر كتاب «تزيين الأسواق»: «يقول المتوسل إلى مولاه بالقطب الحقيقي، إبراهيم عبد الغفار الدسوقي».
وفي آخر كتاب «الإنسان الكامل»: «يقول المتوسل إلى الله بالجاه الصديقي، إبراهيم عبد الغفار الدسوقي»، وفي آخر شرح العكبري: «يقول المتوسل إلى الله بالجاه الفاروقي، إبراهيم عبد الغفار الدسوقي».
وفي كل ذلك يدعو للخديو إسماعيل وأنجاله الكرام، كما يدعو لذوي المهارة والفطانة، مدير المطبعة والكاغدخانة، وملاحظ المطبعة ذي القدر الممجد، أبي العينين أفندي أحمد.
وقد خرجت كتب كثيرة مختتمة بكلمته الدالة على تصحيحه غير ما ذكرنا ككتاب «منار الهدى في الوقف والابتدا»، وصحيح مسلم، وصحيح الترمذي، وقانون ابن سينا في الطب، والتنوير على سقط الزند، إلى غير ذلك.
وقد وضع خاتمة لكتاب الكشاف المطبوع في بولاق ذكر فيها ترجمة الزمخشري وقيمة تفسيره.
ثم رقي في عهد الخديو إسماعيل إلى وظيفة باشمصحح المطبعة، ولم أعرف مرتبه بالضبط إلا أن أمثاله في ذلك الوقت كانوا يتقاضون خمسمائة قرش، وقد ظل فيها إلى أن أحيل إلى المعاش، ثم توفي سنة 1300ه/1882م عن نيف وسبعين سنة.
والحق أن طائفة من العلماء غبنوا حقهم، ولم يؤرخوا التاريخ الواجب لهم، وهم المصححون، فقد كانوا يمتازون في عصرهم بثقافة أوسع من أمثالهم، واقتضاهم عملهم أن يطلعوا على كثير من الكتب في التاريخ والأدب واللغة والفلسفة وغير ذلك، فاتسعت مداركهم وآفاقهم، واضطرهم عملهم أن يكتبوا خاتمة الكتب، أو شرحا لغامض، أو أن ينشئوا تقريظا لكتاب، أو تعليقا عليه، أو قصيدة في مثل هذه الأغراض، فجرت أقلامهم، ومرنوا على الإنشاء والكتابة في زمن عز فيه الأديب، وندر فيه الكاتب، وإن كان إنشاؤهم وكتابتهم مقيدة بنمط العصر من التزام السجع المتكلف، والاستعارة المشدودة، وما إلى ذلك.
اشتهر من هذه الطبقة الشيخ نصر الهوريني، ثم الشيخ محمد قطة العدوي، ثم الشيخ إبراهيم الدسوقي، ويظهر أنهم كانوا في درجة علمهم وأدبهم كما كانوا حسب ترتيب زمانهم.
نشروا كثيرا من الكتب القيمة، ولقوا في تصحيحها العناء، وأذهبوا في مسوداتها سواد عيونهم، وهم وإن لم تبلغ كتبهم منتهى الجودة من حيث الإخراج والضبط، فقد بذلوا غاية جهدهم، وجعلوها صالحة للاستفادة منها، واستخرجوها من أصول سقيمة، وخطوط عليلة. •••
حدث للشيخ الدسوقي حادث كان له في حياته أثر، وفي قصصه متعة: ففي سنة 1258ه/1842م، كتب المستشرق «لين» “Lane”
من لندن إلى صديق له فرنسي مستشرق أيضا في القاهرة يسمى «فرسنل» “Fresnel” (كان يتملح باسمه أمام العلماء ويقول: إن اسمي فرسنل على وزن فرزدق) يخبره بعزمه على المجيء لعمل هام، ويطلب إليه أن يبحث له عن شيخ مصري له ذوق في الأدب ومعرفة به، وأن يكون لطيف الحديث حسن العشرة دمث الأخلاق، فاختار له «فرسنل» جملة أشخاص وصفهم له، منهم الدسوقي، وكان «فرسنل » يعرفه ويتصل به، ويعمل معه في شرح شواهد كتاب «الصحاح» في اللغة، وكتب إلى «لين» بوصفهم، فوقع اختياره على الدسوقي وبعث يطلب إلى «فرسنل» أن يبلغه سلامه ويخبره بمقدمه.
ففي يوم من تلك السنة اعتزم الشيخ الدسوقي الذهاب صباحا إلى حمام السوق، وكانت عادة أوساط الناس وفقرائهم أن يترددوا على الحمام، إذ لم تكن بيوتهم صالحة للاستحمام فيها، فكان لكل حي حمامه، كما أن لكل حي مسجده ومرافقه، وكان الشيخ الدسوقي إذا أراد الحمام يخرج من بيته فيخترق خان الخليلي ثم ينحرف إلى حمامه.
مر كعادته بخان الخليلي حتى وصل إلى دكان يتاجر في العاديات القديمة والسبح وما إلى ذلك، كان صاحبه صالح أفندي كامل صديقا له، فوجد الشيخ في الدكان جمعا سلم عليهم، وسمع صاحب الدكان يقول: هذا هو الشيخ الدسوقي كفانا مؤنة البحث عنه، فسلم الشيخ عليهم، وسلم على رجل غريب معهم يلبس زي الأتراك، ويتكلم العربية الفصحى كأهلها.
عجب الشيخ من حسن استقبال هذا التركي، واستغرب، إذ يقبل عليه بالسلام كأنه يعرفه، والشيخ لا يعرفه، ثم عرفه بنفسه وأنه «لين» الإنجليزي، فذهبت حيرته، وجلسا جنبا إلى جنب، وتعارفا وتآلفا، ودعاه «لين» إلى زيارته في بيته في هذا المساء، فلبى دعوته، وكانت عشرة لطيفة عجيبة دامت سبع سنوات.
2
أما صاحبنا إدورد وليم «لين» فكان أكبر من صديقه الدسوقي بنحو عشر سنوات، إذ ولد في «هير فورد» بإنجلترا سنة 1801، وكانت أمه متينة الخلق لطيفة الطبع، فورث منها - كما كان يقول - كثيرا من حسن استعداده واستقامة تفكيره، تعلم في مدرسة بلده، ثم أريد أن يكون رجل دين، فأبى ذلك وتخصص للاستشراق، فجد في التعلم والبحث حتى ساءت صحته، فنصح أن يذهب إلى مصر، فجاءها لأول مرة شابا سنة 1825، وجعل همه أن يدرس اللغة العربية في أماكنها، وأن يدرس حالة الشعب المصري وأخلاقه وعاداته وثقافته وكل ما يتصل به، فمكث في ذلك ثلاث سنين، متزييا بزي الأتراك، متسميا «منصور أفندي زاده»، ساكنا في الأحياء الوطنية، متنقلا بين القاهرة والنوبة، فكتب في ذلك ما شاء من التعليقات واليوميات والملاحظات وعرضها على جمعية في إنجلترا بعد عودته، فاستحسنتها وأشارت بطبعها، ولكنه رأى أنها ناقصة تحتاج إلى إكمال، فعاد ثانية إلى مصر سنة 1833 ومكث فيها نحو سنتين قضى أكثرها في القاهرة وأقلها في الصعيد، باحثا منقبا عن العادات والأخلاق، مصححا ما دون من قبل.
وضع للوصول إلى هذا الغرض برنامجا دقيقا، فقد تعلم العربية حتى استطاع أن يتفاهم مع الشعب ويفهم منه، والتزم أن يعيش كما يعيش المسلمون، ويتعود عاداتهم، وحتى لا يثير شكوكهم، كان يصوب آراءهم ويمدح عاداتهم ما طاوعته نفسه، ويتجنب مخالفتهم وما يستوجب كراهيتهم، ويمتنع عن أكل ما لا يأكلون أو شرب ما يحرمون، فلا يأكل خنزيرا ولا يشرب نبيذا، بل تجنب حتى ما لا يعتادون ولو أباحه الدين، فلا يستعمل في أكله أمامهم شوكة ولا سكينا، ومكنه ملبسه وكلامه وعاداته ومظهره بمظهر الإسلام أن يدخل المساجد، ويشهد الموالد، ويرى الشعائر ويشترك في شهود الأعياد والمحافل، وكان يشعر بتحفظ المصريين عن الكلام في الجن وكرامات الأولياء والسحر وما إلى ذلك أمام من لا يعتقدها، فكان يتسقط من بعضهم كلامهم في هذا الموضوع، ويتظاهر بالاعتقاد فيه والإيمان به، ويحدث مستمعيه ببعض ما سمع، زائدا عليها من خياله، حتى يأمن محدثه جانبه فيفيض عليه من أحاديث الجن والكرامات، والسحر والمغيبات، ما يملأ رغبته ويحقق مطلبه، ويقفه على ما يدور برءوس عامة المصريين من هذا الباب، فكان يحدث عن أحداث رأى فيها الجن، وكان يقول: إنه يعتقد في الشيخ «أحمد الليثي» الذي كان يمشي حافيا في ركاب «الشيخ العروسي» أنه من أهل الكرامات، لأنه يحدث بأخبار لندرة في مواعيدها قبل أن يأتيه البريد بها، يستجلب بذلك كله أحاديث الناس في مثل هذه الموضوعات وتوسعهم فيها، كما كان يحدث خاصته من المسلمين بأنه يعتقد في عيسى - عليه السلام - أنه رسول لا إله، وفي محمد رسول الله سيد ولد عندنان، واختار شيخين مسلمين يأجرهما ليزيدا في تعليمه العربية، وليستقصي منهما الأخبار والآراء، وليستفسر منهما عما يتوقف فيه، وليعرض عليهما ما وصل إليه ليصححا خطأه إن كان، وصادق بعض الكبراء والعظماء والأغنياء، وكثيرا ما كان يتردد على الشيخ العروسي والشيخ العطار، ويفتح بيته للزائرين والمترددين، ويغدق عليهم من كرمه ، ويقدم لهم القهوة والدخان، ويدعوهم للغداء والعشاء، وتتردد أخته على قصور الأمراء فتتعرف عاداتها ودخائلها، وهكذا عمل كل ما يستطيع للوقوف على كل شيء في مصر.
وقد كان ماهرا في فن التصوير، فصور بيده كل ما يعنيه من الصور: الرجل في صلاته، والمرأة في بيتها، والسقاء بقربته، وحفلات الذكر، وأدوات الزينة، وآلات الغناء، وأنواع الحلي، إلى أن أتم 131 صورة أودعها كلها في كتابه الذي نشره سنة 1836.
كما عكف على ترجمة «ألف ليلة وليلة»، ولعل ذلك لأنها تتم حلقة عمله في العادات والأخلاق، فألف ليلة تمثل الحياة الاجتماعية الإسلامية في القرون الوسطى، وكتابه الذي أسلفنا يمثل الحياة الاجتماعية في مصر الحديثة، نشره سنة 1838-1840.
هذا هو «لين» قبل أن يتعرف بصديقه «الدسوقي»، ثم عمل «لين» تصميما لعمل خطير، هو أن يضع معجما للغة العربية باللغة الإنجليزية، أساسه ترجمة القاموس مع شرحه تاج العروس، وهذا يتطلب أن يفهم القاموس المحيط فهما جيدا، وهو صعب الفهم حتى على أهل العربية، وهو أيضا يقتضي نسخة صحيحة ما أمكن من القاموس، ثم تراجع على سائر النسخ ليتثبت من صحتها، ثم إذا وصل إلى نبات أو حيوان - وما أكثرها في القاموس - وجب أن يعرف مقابلها بالإنجليزية، وإذا اعترضته عبارة غامضة حل غموضها وهكذا، عمل شاق لا يستطيعه إلا رجل جبار، وليس يمكن ذلك إلا في مصر بلد العلم العربي، وهي - أيضا - حارة الجو جافته تناسب المصدورين أمثال «لين».
وضع خطته للسفر وبعث إلى صديقه «فرسنل» ليتخير له معينا، فكان هو الشيخ الدسوقي - كما أسلفنا.
حضر إلى مصر لثالث مرة سنة 1842، وكان عمره إذ ذاك 41 سنة، ولكن الشيخ الدسوقي قال: «وفد علينا في عقد الخمسين من البلاد الشاسعة، ذات المعارف الواسعة، والصنائع البارعة، والتحف الرائعة ... إنسان قد وخطه الشيب، وليس في لسانه لكنة ولا عيب، طويل القامة، كبير الهامة، تلوح عليه الأمارة، فصيح العبارة، كأنه عدناني أو قحطاني، إلا أنه ذو زي عثماني، لا يتكلم إلا بفصيح الكلام، وله بفنون الأدب إلمام».
اعتاد «لين» أن يسكن في الأحياء «البلدية» فكان يسكن في «حارة السقايين ثم في حارة قواديس» ودعا الشيخ الدسوقي أن يزوره في بيته، وعند أول لقاء عرفه بغرضه، وعرض عليه منهج العمل في القاموس، وطلب إليه أن يحضر إليه كل يوم عصرا، ورتب له كل شهر مبلغا من المال فوق ما كان يؤمل الشيخ الدسوقي، وشرعا - على بركة الله - في العمل.
أعد «لين» مكتبة يستعين بها على عمله، فعنده نسختان خطيتان من القاموس، ونسختان من الصحاح، ونسخة من تاج العروس شرح القاموس، وبعض نسخ أخرى، ونسخة من لسان العرب، يظن الدسوقي أنها بخط المؤلف، وأجزاء من المحكم لابن سيده، وكثير من دواوين الشعراء، والمزهر للسيوطي.
واقترح «لين» أن يبدأ بمطالعة المزهر حتى يتذوق اللغة وحدودها، ثم يقرأ كل يوم نصف كراسة من تاج العروس شرح القاموس يفهمها ويستفسر عما صعب منها ويراجعها على ما عنده من كتب اللغة حتى يستوثق من صحتها، وعلى هذا تم الاتفاق.
في حجرة في بيت «لين» في القاهرة كان يجتمع شيخان تباينا في المنشأ والتربية والعقلية، والنظر إلى الحياة: هذا إنجليزي تربى على آخر طراز، وعرف الدنيا وشئونها ودقائقها، وجاب البلاد شرقها وغربها، وبرها وبحرها، وخالط ساستها وعلماءها، ووصل من ذلك كله إلى غاية ما يستطيع مثقف أوربي في القرن التاسع عشر أن يصل إليه، وهذا شيخ مصري قضت طبيعة تعلمه ومنشئه وظروفه أن يعيش في دنيا محدودة الأفق، وكان الشعب المصري لا يزال محتفظا في عيشته وتقاليده وعاداته بما ورثه من القرون الوسطى، لم تغزه المدنية الغربية كما غزته بعد، ولم تتكسر الحدود والفواصل بينه وبين الغرب كما تكسرت بعد، وكانت مصر تتخذ قبلتها بغداد الرشيد، وقاهرة المعز، قبل أن تتحول فتتخذ قبلتها باريس أو لندن، فكان الشرقي يدهشه الغربي بتصرفاته وأفانينه، وكان الغربي يعجبه منظر الشرقي كما تعجبه العاديات القديمة، وكما يعجبه متحف الآثار.
على هذا التقى «الدسوقي» و«لين»، ولكن ألف بينهما الغرض العلمي واللسان العربي، ورغبة «لين» أن يتعرف كل ما عند الدسوقي من أفكار وعادات وعقائد ، ليدرسها لا ليحياها، وليشرحها لا ليعتقدها، وأن يعرف ما عنده من علم ليستعين به على أداء غرضه والوصول إلى غايته، ومهما كان من فوارق فالماء الحار والبارد إذا تلامسا وامتزجا تعادلا ونزل الحار عن شيء من حرارته، والبارد عن شيء من برودته، فهذا «لين» يعتاد أن يقول «باسم الله» في مبدأ عمله، ويلتزم ذلك في حياته حتى بعد عودته إلى إنجلترا، وهذا الدسوقي يدخن «البيبة» في شكل «شبك».
كان يذهب الدسوقي عصر كل يوم إلى بيت «لين» فإذا جلس قليلا حضرت صينية الشاي عليها أربعة فناجين كبار مملوءة شايا وقهوة محلاة بالسكر، لكل منهما اثنان وملعقتان لكل منهما معلقة، ورغيفان مستطيلان لكل منهما رغيف، فيشربان ويأكلان ويتحدثان، فإذا تم ذلك أحضر شبكان مكسوان بالحرير المقصب لكل منهما شبك، فيدخنان ويقرآن، فإذا بدآ القراءة فلكل منهما نسخة من الكتاب، وضعت على سطح مائل، يقرآن ويراجعان ويتفهمان، إلى أن يتم نصف الكراسة فينصرف الشيخ، ثم يأخذ «لين» في ترجمة ما فهم إلى الإنجليزية، فتسير الترجمة مع القراءة، ويستمران على هذا سبعة أعوام لا يكلان ولا يملان، والشيخ «لين» جاد في عمله، قد يمكث في بيته الشهر أو الشهرين أو الثلاثة لا يخرج فيها مرة، يعمل في الصباح بعد الفطور إلى نحو نصف الليل، لا يستريح فيها إلا أوقات الأكل، ونحو نصف ساعة يتروض فيه بين مشي وصعود الدرج وهبوطه، حتى أتم تسعة أعشار الكتاب.
ولندع الآن حديث ما بينهما من عمل علمي رسمي، لنتحدث حديث ما بينهما من عواطف، لقد تأكدت بينهما الصداقة وتوثق بينهما التآلف.
هذا الشيخ الدسوقي يظل طول عمره كادا يحصل قوته وقوت عياله، ويدخر القليل حتى يبلغ ما يدخره أربعة عشر كيسا،
1
فيعتزم أن يشتري بها بييتا يؤويه وذريته، وهو يحتفظ بها في صندوق البيت، ويوصي السمسار أن يبحث له عن منزل مناسب، فيريه هذا فيراه قديما، وهذا فيراه كبيرا، وسرعان ما يشيع الحديث أن الشيخ اغتنى، وأنه يبحث عن بيت يشتريه، وتصعد الرائحة إلى أنف اللص، فيتربص خروج الشيخ وغفلة أهل البيت، ويتسلل إلى الصندوق ويختلس المال، فيعود الشيخ وقد ضاع المال، فيضرب كفا على كف، ثم ينفعه إيمانه فيردد: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون
ويذهب إلى صديقه، فيراه «لين» مرتبكا فيقص عليه قصته، فتدمع عين «لين» ويبكي رحمة بالشيخ، ويحلف أن لو كان له مال لعوضه عما فقده في الحال.
كذلك يصاب الشيخ «لين» بمثل هذه المصيبة، فيكون له مال مودع في بنك في إنجلترا يسحب منه كل شهر ما يلزمه، فيفلس البنك ويقع «لين» في الضنك، وكان أخشى ما يخشاه أن يصد عنه الدسوقي، ويتخلى عنه إذا لم يأجره، فما كان من صديقه الدسوقي - وقد علم بهذا الأمر - إلا أن يصرف عنه هذا الخاطر - وأن يعاهده أن يستمر في تدريسه بل يزيد في اجتهاده، قال الشيخ: «وما زلت أوافيه على العادة، التي كانت بيننا معتادة، بل زدت على ما كان، فشكرني على هذا الإحسان، حتى قيض الله له ناسا من أهل لوندرة، ذوي ثروة معتبرة، فوضعوا له في البنك ما يرد منه ما يكفيه، فأجرى إلي ثانيا ما كان يجريه»، وهكذا كان الشيخان يتبادلان العطف والوفاء طوال السبعة الأعوام.
كان الشيخ «لين» يعيش في أسرته وهي مكونة من زوجة له رومية وأخته وابني أخته، وكانت زوجته وأخته تلبسان لباس المصريات، فلا تخرجان إلا مؤتزرتين مبرقعتين، فلم ير الشيخ الدسوقي لهما وجها مع كثرة تردده وتودده، ومع هذا كان إذا مرضت زوجه أو أحد أولاده، ذهبت أخت «لين» إلى بيت الدسوقي فعالجت ومرضت، وأعطت من الدواء ما عرفت حتى يتم الشفاء، ويشكره الشيخ.
ويعجب الدسوقي من هذه الأسرة، فبيتها مدرسة عجيبة: هذا الشيخ عاكف على ترجمة القاموس، وهذان الابنان تعلمهما أمهما اللغتين التليانية والفرنسية، ويقرأ لهما خالهما النبيل، شرح ألفية النحو لابن عقيل، وأصغرهما وسنه 15 سنة يجيد معرفة الهيروغليفية.
ويعجبني قول الشيخ: «فانظر يا ذا الكسل، الذي هو أحلى مذاقا من العسل، إلى هذا الاستعداد العجيب، والجد الغريب».
وانطلت الحيلة على الشيخ الدسوقي، فكان يعتقد أن «لين» يؤمن بالجن وكرامة الأولياء، ونبوة محمد، ونبوة عيسى، ويعجب أنه بعد ذلك كله لا يسلم، ولم يدر بخلده أن ذلك منه كان سياسة وقتية.
فإن أردت أن تعرف رأي أحدهما في الآخر، فرأي الدسوقي في «لين» أنه «لبيب ماهر»، «ذو غيرة إنسانية»، «كريم مواس»، «رقيق القلب، خالص الود»، «لا يؤثر في حسن معاملته للناس اختلاف الدين».
ورأي «لين» في الدسوقي أنه يرضى كل الرضا من ناحيته العلمية في العمل الذي يعمله معه، ولكنه يأخذ عليه من الناحية الخلقية أنه «حاد المزاج، ضيق الصدر، طماع بخيل».
وهو رأي قاس ونقد لاذع، ولا شك أنه عبر عن عقيدته فيه، ولكن أخشى أنه لم يرحمه في الحكم عليه، فلم يقدر ظروفه وأحواله، ونشأته الفقيرة وأسرته الكبيرة، وموارده الصغيرة. •••
بعد مضي سبع سنين تدخل الزمن الذي لم يبق شيئا على حال، فدعت الدواعي الملحة أن يعود «لين» إلى بلاده ولما يتم العمل، قال الشيخ: «وقضينا معا حقبة من الدهر ناضرة، في عيشة زاهية زاهرة».
ثم انقضت تلك السنون وأهلها
فكأنها وكأنهم أحلام
وقبل الرحيل أهدى «لين» الشيخ الدسوقي سجادة عظيمة ونسخة من القاموس وساعة جيب، وقاس نظره وبعث فأحضر له من لندن «نظارة» لائقة بعينيه، وأهداه ابنا أخته «خرجا عجميا شغل الإبرة».
وكلفه أن يتمم العشر الباقي من تاج العروس، يقابله على النسخ الأخرى، ويصحح خطأه، ويفسر غامضه فكان يفعل ذلك ويسلمه إلى مستر ليدر،
2
ليرسله إليه في إنجلترا حتى تم الكتاب.
عاد «لين» إلى إنجلترا سنة 1849 فعكف على العمل بمثل الجد الذي كان منه في مصر، حتى أنفق فيه عشرين عاما أخرى، ثم بدأ في طبعه سنة 1863، وظل يعمل في تصحيح التجارب إلى أن وصل إلى نصف الجزء السادس سنة 1876.
يعمل ليل نهار في حياة راتبة بين ملزمة تحضر، وملزمة تصحح، وجزء يتم ثم ينشر، لا ينقطع عن عمله إلا يوم الأحد، إذ يصرفه في الدين، فيصلي مع المصلين ، ثم يعكف على قراءة الكتاب المقدس لا ناقدا علميا، ولا ناقدا لغويا، ولكن مستخرجا معنى خلقيا، أو مبدأ روحيا، لقد كان يصلي في مصر في المسجد مع المسلمين، وكان يصلي في إنجلترا في الكنائس مع المسيحيين، والدين كله لله.
وفي يوم من أيام أغسطس سنة 1876 أصيب ببرد لم يعبأ به، ثم اشتد شدة لم تكن تتوقع، ثم انطفأت شعلته على غير انتظار.
مات عن خمسة وسبعين عاما قبل أن يموت صديقه الدسوقي بستة أعوام.
ولعل هذه العلاقة بين الدسوقي الأزهري و«لين» الإنجليزي كانت السبب في أن يضع «علي باشا مبارك» بمعونة صديقه «عبد الله باشا فكري» قصة طويلة ممتعة نسيها الأدباء - من غير حق - في تأريخهم القصة المصرية الحديثة، أتحدث عنها بعد.
قصة علم الدين
يظهر لي أن علاقة الشيخ الدسوقي بالأستاذ «لين» أوحت إلى علي باشا مبارك أن يضع قصة طويلة ممتعة ظلمها مؤرخو الأدب العربي عند تاريخ القصة، فأهملوها أو جهلوها، مع أني أعتقد أنها أول قصة مصرية قيمة ألفت في العهد الحديث، قصة قيمة من حيث موضوعها ومن حيث لغتها، وهي طويلة تقع في نحو ألف وخمسمائة صفحة في أربعة أجزاء، ولم تتم.
كان علي باشا مبارك وقت تأليفها «ناظر المعارف»، أو على حد تعبيرنا اليوم «وزير المعارف» فحشد جمعا كبيرا من المدرسين ورجال العلم في مصر ليعمل في هذه القصة، ووضع لها خطة محكمة، هي أن يحصروا أهم مظاهر المدنية الحديثة، كالسكك الحديدية والبريد والملاحة والتياترو والبورصة والبنوك وأوراق المعاملات ووسائل الإضاءة إلى غير ذلك، ثم أن يحصروا أهم المعلومات التي يجب أن يعلمها الإنسان المثقف، وآخر ما وصل إليه العلم فيها كالبحر وعجائبه والبراكين، وعجائب الحيوان، كدود الخشب ودود القز وكلب البحر، والذهب والأحجار الكريمة، والفلاحة والزراعة، وطبقات الأرض، وأشهر النباتات وما يستخرج منها كالقطن واللبن والعنب والأشربة والكؤول، والموضوعات الاجتماعية كعادات الأوربيين في مأكلهم وملبسهم ومجتمعاتهم، وعادات المصريين في ذلك، ثم موضوعات أدبية كالسلف والخلف في الإسلام، والميسر والأنصاب والأزلام، ومعنى المعلقات، وتاريخ القهوة والحشيش، والموالد والأعياد والمواسم، إلى غير ذلك، وكلف كل إخصائي في موضوع أن يكتب له فيه.
ووضع فكرة القصة، وأدخل فيها هذه الموضوعات كلها، وعهد إلى عبد الله باشا فكري، وكيله في المعارف، أن يشرف على لغتها، «ويهذب معانيها ويشذب مبانيها»، ففعل ذلك في أكثر الكتاب، «فجاء كتابا جامعا، اشتمل على جمل شتى من غرر الفوائد المتفرقة في كثير من الكتب العربية والفرنجية، في العلوم الشرعية، والفنون الصناعية، وأسرار الخليقة، وغرائب المخلوقات، وعجائب البر والبحر، وما تقلب نوع الإنسان فيه من الأطوار والأدوار في الزمن الغابر، وما هو عليه في الوقت الحاضر، وما طرأ عليه من تقدم وتقهقر، وصفاء وتكدر، وراحة وهناء، وبؤس وعناء ... مع الاستكثار من المقابلة والمقارنة بين أحواله وعاداته في الأوقات المتفاوتة، والأنحاء المتباينة».
رأى أن مصر واقفة في مدنيتها عند ما ورثت من القرون الوسطى إلا قليلا، وأن أوربا سبقتها بمراحل في جميع مرافق الحياة، وأن الخير لمصر أن يقف أهلها على كل ما وصلت إليه المدنية في أوربا؛ ليتخيروا منها ما يصلح لهم، ويدخلوا منها على نظامهم ما يرقي شئونهم.
ورأى أن النقد في مصر لا يستساغ ولا يباح، والناقد معرض لأنواع من الاضطهاد والعذاب.
ورأى أن التعليم بالقصص ألذ وأمتع، وأدعى إلى النشاط، وأبعد من الملال، وأن الناقد للشئون الاجتماعية في القصة أوسع حرية من الناقد الصريح، فالنقد فيها مألوف يجري على لسان غيره ولا يتعرض صاحبه لما يتعرض له الناقد الصريح، لهذا كله وضع هذه القصة.
بطل القصة شيخ من الأزهر اسمه الشيخ علم الدين، كان أبوه معلم كتاب في قرية من قرى الريف، علم ابنه ما يعلم في الكتاب، من حفظ للقرآن ومبادئ القراءة والكتابة، ثم رأى فيه من النجابة ما جعله يستخير الله ويرسله إلى الأزهر الشريف، فيزوده بالنصائح وبالزاد، ويسافر علم الدين في مركب مع قوم من أهل بلده يقضون فيه الأيام حتى يصلوا إلى القاهرة، ويذهب بخطاب من والده إلى صديق له في مصر يوصيه فيه بابنه، ويطلب منه أن يعرفه بمشايخ الأزهر ليعنوا بأمره، ويجد في طلب العلم، ويعيش على الجراية وعلى السهر في الختمات عيشة ضنكا، ولكنه يرضى بما قسم الله، ويخطر له الخاطر في الاعتراض على توزيع الغنى والفقر، وكيف يغتني الجهلاء ويفتقر العلماء، فيطرد هذا الخاطر سريعا، لأنها مشيئة الله الذي لا يسأل عما يفعل، والذي يجري الأمور بحكمة قد تدق عن الأفهام.
ويتم الشيخ علم الدين دراسته، ويجلس للتدريس، ويريد أن يتزوج، فيستخير الله في أن يتزوج غنية أو فقيرة، فتخرج الاستخارة على الفقيرة، ولو طلب الغنية ما أجابت، فيتزوج فتاة عاقلة دينة فقيرة جاهلة، فيعلمها ويجد في تعليمها حتى تصل قريبا من درجته في علمه، ويرزق منها بأولاد، ويلح الفقر عليهم فيألم الزوج وتألم الزوجة، ولكن كليهما يكتم ألمه، ثم يدخل الشيخ فيجد زوجته تبكي، فيسألها عن سبب بكائها فتداري، فيلح عليها، فتفصح أنه الفقر وسوء الحال، ويتدرج الحديث في سبب الفقر، فيذهب هو إلى أنه القضاء والقدر، وتذهب هي إلى أنه القانون الطبيعي، وأنه لم يسلك السبل الطبيعية لتحصيل المال ليكون غنيا، فلا بد أن يعمل عملا ما يكسبه مالا، ولو أدى إلى أن يذهب إلى بلده ليحل محل أبيه في تعليم أولاد القرية، أو نحو ذلك من الأعمال.
ويخرج الشيخ من بيته ضيق الصدر من هذا الجدال مفكرا في السفر إلى الريف كما نصحت زوجته، ثم تنفرج الأزمة، إذ يحضر رجل إنجليزي إلى القاهرة من المشتغلين باللغة العربية، ويلقى شيخ الجامع الأزهر ومعه رسائل من الأمراء والكبراء يوصون فيها شيخ الجامع بالرعاية له والعناية به، ويقص الإنجليزي على الشيخ أن عنده نسخة من لسان العرب لابن منظور يريد نشرها وطبعها، لعظم فائدة الكتاب، وأنه حضر إلى مصر لتصحيحها، وأنه يريد أن يدله الشيخ على أستاذ من أفاضل العلماء المتبحرين في تصحيح الكتب، ليعينه على عمله، وليقرأ عليه بعض العلوم العربية، وأنه مستعد أن يعطيه في نظير ذلك مرتبا يرضيه، وإذا اقتضى الحال أن يسافر معه إلى بلاد الإنجليزي استصحبه معه ، وضاعف له مرتبه، فسمى له شيخ الجامع جماعة من العلماء، فاجتمع بهم وحادثهم، وعرف ما عندهم، وعرض عليهم أمره، فمنهم من اعتذر لكبر سنه، ومنهم من رأى أن ذلك لا يجوز في الدين، ولكن الذي قبل وأعجبته الفكرة وأعجب به الإنجليزي كان هو الشيخ علم الدين، وعاد إلى بيته وشاور امرأته فشجعته على القبول وطلبت إليه أن يصحب معه أكبر أولاده «برهان الدين» وتم الاتفاق وتأهب الشيخ للسفر.
صورت القصة الشيخ علم الدين صورة طريفة، فهو شيخ طيب مسلم متمسك بدينه، مؤمن أتم الإيمان بالقضاء والقدر، لا يصدر عن عمل إلا بحكم الدين، وهو واسع العلم بما في الكتب، ولكن دنياه هي كتبه وبيته، والطريق بين الأزهر وبيته، ولا شيء غير ذلك، لم يركب القطار مرة واحدة في حياته، وعلى بيته لوحة تحدد رقمه في الحارة لم يعن مرة بأن يلتفت إليها ويعرفها، ولكن إن سألته عن الحكم في حادثة أفاض في الآيات والأحاديث التي تدل على حكمها، وإن سألته عن معنى بيت من الشعر تدفق في شرح مفرداته ومعناه وما يتصل به، والأقوال التي قيلت فيه، ومع هذا فللشيخ مزية كبيرة، هو أنه ذكي وأنه محب للاستفادة، وأنه سئول لما يجهل، مدرك لما يشرح.
هذا الشيخ على هذا الوضع سيسافر إلى إنجلترا مع إنجليزي خبير بالدنيا وشئونها كل الخبرة، واسع الاطلاع إلى أقصى حد، عرف الشرق والغرب، ودرس شئونهما والفوارق بينهما، وهو لطيف العشرة ميال إلى الإفادة والاستفادة، يرى دينا عليه أن يريح الشيخ ويفيده، ويوسع مداركه إلى أبعد غاية تستطاع.
هذا الشيخ علم الدين يسافر هو وابنه برهان الدين والإنجليزي، ويدق جرس القطار فيسأل الشيخ: ما هذا؟ ويتحرك القطار فيتحرك قلب الشيخ خوفا، ثم يرى الناس هادئين فيهدأ ويسلم أمره لله، ثم يعجب كيف تطوى الأرض طي السجل للكتب، وتسير العربات وما عليها كما قال الله تعالى:
وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب ، ويسأل الشيخ الإنجليزي عن القطار وكيف يسير، فيشرحه له شرحا مفصلا من ضغط وحرارة وبخار، وتاريخ السكك الحديدية، وكيف أنشئت، وكيف تمت، وماذا أنفق عليها، ومتوسط عدد المسافرين فيها، والأرباح التي تأتي بها، وكيف أثرت في الزراعة والتجارة، فيعجب الشيخ من هذا الشرح، ويعجب مما كان يقوله بعض العامة في مصر أنها إنما تسير بقوة جماعة من الجن والشياطين مسخرين لها بواسطة العزائم والسحر والطلاسم.
وما أتم الإنجليزي كلامه حتى كان القطار قد وصل طنطا، فسأل الإنجليزي الشيخ عن السيد أحمد البدوي وتاريخه، فأفاض الشيخ في ذلك وفي مولده، فقال الإنجليزي: إن هذه الموالد ترجع إلى قدماء المصريين، وقد تكلم في ذلك هيرودت في تاريخه، ويؤخذ من وصفها أنها كانت مواسم دينية وسياسية، وكان يحضر فيها الملك أو من ينوب عنه من عائلته، وأنها كانت أشبه بالأسواق الرومانية أخذها الرومان عن اليونان، واليونان عن المصريين، وجميع هذه المواسم كانت مرتبطة بأوقات الزراعة، فلعل هذه الموالد التي عندكم أثر من تلك.
ويعود الحديث إلى السكك الحديدية، فيذكر تاريخها في مصر من أول عهدها إلى يوم الحديث، وينتهي الحديث بأن الإنجليزي يسأل الشيخ عن كلمات وردت في أثناء كلامه عن السكك الحديدية، كالدست والقدر والعربة، هل هي عربية، فيفيض الشيخ في الإيضاح، ويأتي بالشواهد من كلام العرب، ويستطرد ما شاء له الاستطراد، ويتجادلان في أن القدر مذكرة أو مؤنثة.
ووصلوا إلى الإسكندرية في أربع ساعات ونصف ساعة، فعجب الشيخ من هذه السرعة، فقد كانت هذه المسافة تقطع في أكثر من أربعة أيام، وفيما كان الشيخ يبدي هذا العجب سلم ساع ورقة إلى الإنجليزي، ففتحها وضحك، وقال: أتدري لم أضحك؟ إن هذه الورقة تلغراف من والدي بلندن، وبيننا وبينها ثلاثة آلاف ميل، وقد أرسله والدي منذ ساعتين - فأنسته سرعة التلغراف سرعة الوابور.
توجهوا إلى «اللوكاندة» فظنها الشيخ أنها بيت كبير للإنجليزي أو أحد أحبابه ، لأنه لم ير مثل هذا قط، وعجب من نظافته وكثرة فرشه وسرره، وقال ابنه: لا بد أن يكون صاحبنا ذا مال كبير وثروة عظيمة، حتى يكون له منزل بهذه الحال، وعجب الشيخ من كل ما رأى: خيط نازل من سقف الغرفة يضغط عليه فيرن فيحضر رجل يسأله عما يريد! وقوم خارجون وداخلون! فلم يفهم سر ذلك كله حتى أفهمه الإنجليزي ما معنى «اللوكاندة» ففهم الشيخ أنها صورة مكبرة لما كان يعرفه عن الخان أو «الوكالة»، والإنكليزي يصف «اللوكاندات» وما وصلت إليه، والشيخ يصف «الوكالة» وترابها وقذارتها، وبقها وبراغيثها، وما قيل فيها من أشعار.
ويجلس الشيخ وابنه والإنكليزي على مائدة الطعام، وحولهم النساء والفتيات، وبجانب الشيخ شابة طليانية بديعة الجمال نادرة المثال تعرف اللغة العربية، وبعد الفراغ يدور الحديث بين الإنجليزي والشيخ عن المرأة الغربية والمرأة الشرقية والعادات والتقاليد وأيها أحسن، فيصر الشيخ على استحسان عادات الشرق، وينشد قول الشاعر:
لا تأمنن على النساء ولو أخا
ما في الرجال على النساء أمين
إن الأمين ولو تحفظ جهده
لا بد أن بنظرة سيخون
ويصر الإنكليزي على استحسان عادات الغرب، وأن الحجاب لم يمنع المرأة في الشرق من العبث إن شاءت، ويدور بينهما حوار لطيف يمثل العقليتين المختلفتين، كالذي كان بين قاسم أمين وخصومه بعد.
ويحن الشيخ إلى زوجته فيطلب إليه الإنكليزي أن يكتب لها خطابا يرسل بالبريد، فيدور الحديث حول البريد قديما وحديثا، ويصف الإنكليزي ما وصل إليه الآن، ويصف الشيخ ما كان يفعله، إذ ينتظر يوما أو يومين ليجد من يسافر إلى بلده في المركب فيرسل معه الخطاب، وربما توجه إلى ساحل البحر (النيل) ليعثر على من يسافر فلا يجد فيرجع بخطابه، وإذا سهل المولى ووصل الخطاب فلا يأتي رده إلا بعد شهر، إن أتى ويفتتح الشيخ خطابه اللطيف لزوجته بقوله: «إلى السيدة المصونة والدرة المكنونة، ومن لا أصرح باسمها، ولا يغرب عن خيالي لطف طبعها ورسمها، قرة العينين، وزوجتنا إن شاء الله في الدارين».
ويركبون البحر فيصف الإنكليزي للشيخ البحر وعجائبه، وأنواع مخلوقاته، وفعل الهواء بالماء، ويمرون بالقرب من جزيرة صقلية، فيجدون الركاب وهم يلغطون وينظرون بالنظارات، فيسأل الشيخ، فيجيب الإنكليزي إنه البركان، ويصف له البراكين وأسبابها وأفعالها.
وعلى المركب يتعلم الشيخ علم الدين وابنه برهان الدين اللغة الإنكليزية، ويجدان، والصغير يسبق أباه الكبير في التعلم، لكثرة حركته ومخالطته للركاب والجهد في أن يكلمهم بما تعلم. •••
ها هم ينزلون في مارسيليا ويستريحون، ويعرض الإنكليزي على الشيخ أن يذهبوا الليلة إلى التياترو، فيعتذر الشيخ ويسمح لابنه أن يذهب، ولكنه يسأل: ما هو التياترو؟ فيشرحه له الإنكليزي شرحا وافيا من تاريخه وغرضه وأنواعه، فيقول الشيخ: إن هذا إلا نوع راق مما يسمى في بلادنا «أولاد رابية» فهم يقلدون أحوالا حاضرة أو أمورا ماضية، فهم يقبحون حادثة سيئة حصلت في الزمن الحاضر أو الغابر، فيبرزونها في قوالب الهزل والسخرية، وكثيرا ما يخرجون في ذلك إلى السخف والعيب والألفاظ البذيئة التي يأباها الذوق، فيقارن الإنكليزي بين «أولاد رابية» والتياترو، وأن الأول من خلق العوام الجهلاء، أما التياترو فمن نتاج الأدباء ورجال الفن.
واحتفظ الشيخ وابنه بزيهما الشرقي، فبرهان الدين يذهب إلى التياترو بعمامته وجبته وقفطانه، وكان جميلا فيسترعي الأنظار، ويعطيه الإنكليزي نظارة ينظر بها ويوجهها إلى من يستجمل، ويقع في حب لم يلبث طويلا بفضل نصائح والده.
واستعرضوا مرسيليا: مناظرها وقهواتها النظيفة الواسعة وكل شيء فيها، وحدث أن كان على المركب رجل إنجليزي اسمه يعقوب اتصل به برهان الدين وأحبه وأحب حديثه، وكان يعقوب هذا ممن غامر في حياته، وركب البحار وجاب الأقطار، ورأى من عجائب الدنيا الشيء الكثير، فاستهوى برهان الدين بأحاديثه وسأل أباه أن يرجو الإنكليزي، ليتخذه خادما له حتى يكون على مقربة منه يشبع حبه للاستطلاع، فتم ذلك وأصبح يعقوب أحد أفراد الأسرة، يمتعهم بحديثه عن كلب البحر والنوء والغرق والذهب واستخراجه والسباع والنمور والقردة، إلخ.
وهكذا دخل يعقوب في القصة ليؤدي مهمة التحدث بعجائب العالم وغرائبه وما شاهده في رحلاته.
ولقي الشيخ في مرسيليا رجلا هرما يتكلم العربية، فاستخبره حاله ، فعرف أنه مصري وأنه كان من المصريين الذين التحقوا بجيش نابليون في مصر، وكان كثير منهم من القبط ونصارى الشام وبعض المماليك، فلما خرج الفرنسيون من مصر خرج بعض المصريين معهم، لأن أهل مصر كانوا يتوعدون كل من دخل في زمرة الفرنسيين بالقتل، فلما وصلوا إلى مرسيليا بقي بعضهم وذهب بعضهم يحارب في جيش نابليون، قال: وكنت ممن بقي في مرسيليا أزاول الأعمال، ولكن لما انقضت حكومة نابليون الأخيرة المعروفة بحكومة مائة يوم قام أهل مرسيليا على المصريين من مماليك وغيرهم - وكانوا نحو أربعمائة - فقتلوهم في وسط حارات مرسيليا وشوارعها قتلا شنيعا، ولولا أني كنت غائبا في ذلك الوقت لقتلت فيمن قتل، ولما عدت وجدت عيالي جميعا قتلوا مع والدتهم.
وقد دعا هذا الشيخ المصري شيخنا علم الدين إلى منزله وأكرمه، وفسر له هذه الأحداث وأسبابها تفصيلا. •••
بعد أيام قضوها في مرسيليا ركبوا إلى باريس، وها هو الإنجليزي يحدثه حديثا طويلا ممتعا عن باريس وتاريخها وتطورها وموقعها، وما أدخله عليها ملوكها على التوالي من تحسين إلى غير ذلك.
ويذهب برهان الدين مع يعقوب إلى «البالو»، ويعود إلى والده فيخبره بما رأى من الرقص، وكيف يرقص الرجال مع النساء أنواعا من الرقص كالبولكا والكانكان والولس، فيحوقل الشيخ ويغضب على ابنه ويقول له: أما علمت أن «من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه؟» أما سمعت قوله
صلى الله عليه وسلم : «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم؟» فيعتذر إليه، ويعتذر يعقوب بأنه إنما أراد أن يعرفه كل شيء في البلد.
وكان الشيخ يمشي في شوارع باريس، فيلاحظ نظافة الأطفال وسلامة أبدانهم، وحسن صورهم وامتثالهم لأمهاتهم، فيتحسر على أطفال القاهرة وأحوالهم الوخيمة وطباعهم الذميمة، ودناسة ملابسهم، وكثرة بكائهم وعنادهم، ويزور متاحف باريس وحدائقها، ويقف على أهم ما فيها، وعند كل حسن في باريس يذكر نظيره في مصر، ويتمنى أن لو رقيت القاهرة رقي باريس، وينصحه الإنكليزي أن يبني رأيه في الإصلاح على الإحصاء والتعداد، ويضرب له في استخدام هذا الأصل مثلا بالفلاحة والزراعة في مصر وفرنسا وإنجلترا مستشهدا بالأرقام، ويهيئ الإنكليزي للشيخ جماعة يصورون نزعات مختلفة من الفرنسيين، من ملحد يعرض إلحاده على الشيخ في شناعة، فيستعيذ الشيخ بالله من سماع مثل هذه الأقوال، ومن مستشرق يعرف الكثير من اللغة العربية وآدابها، فيهش له الشيخ ويبش، إلى أمثال ذلك.
ويحضر برهان الدين حفلة لطيفة من رجال وسيدات، ويقضون سهرة ممتعة في أنواع من الفكاهات العقلية والأحاجي والمعميات، والمهارة في استخراج المجهول من أوراق «الكتشينة» إلى غير ذلك، ويحدث والده بكل ذلك، فيقول الشيخ: لا بأس بذلك، إنها إعانة على توسيع العقل والمدارك، وعندنا في مصر بعض الشيء كالفوازير والأحاجي، ونحو ذلك.
ويعلم الدارسون للغة العربية في باريس بحضور الشيخ فيدعونه لإلقاء محاضرة في جمعية الدراسات الشرقية، فيلقي محاضرة في ديوان امرئ القيس، ويذكر من شعره بعض أبيات يفيض في شرح مفرداتها، ويستطرد عند كل مفرد فيما ورد فيه من معان واستعمالات، ويتحلق السامعون بعد المحاضرة حوله، هذا يسأله عن المعلقات، وهذا يسأله عن لهجات العرب وهكذا.
وأخيرا دعي الشيخ إلى تياترو، فلبى الدعوة، ورأى الشيخ الرواية، وكان الإنجليزي يشرح له ما يدور من ألعاب ومغزاها وموضوع الرواية، وما إلى ذلك.
وذهب يوما إلى المكتبة الأهلية وأعجب بما فيها من الكتب، ويوما إلى «البورصة» وشرح له كيفية المعاملات فيها، والبنوك والأوراق المالية والفوائد وتاريخ الأمم في هذا الباب، كما شرحت له أصول المعاملات المالية، فعجب الشيخ من ذلك أشد العجب، وقارن بين هذا وما يحدث في حارة اليهود بمصر، إذ يكثر الصيارفة والمرابون، ويتوارد عليهم الناس من الأرياف فينتهزون فرصة الاحتياج، فيثقلون الربا، ولا يقرضون إلا برهن أو ضمانة، فيئول أمر الناس غالبا إلى بيع ما رهنوه وتلحقهم الفاقة، والحكومة لا تتدخل في الأمر ولا تجعل للفوائد حدا، ويعجب الشيخ وابنه من كثرة ما سمعا في البورصة من الآلاف المؤلفة من الجنيهات، كأن أوربا قد فتحت لها خزائن قارون وخزائن كسرى.
ويقضي الشيخ أياما في باريس يتعرف فيها مظاهرها وحدائقها ومتاحفها وأهم ما فيها، فيمتلئ عقله خبرة وتجربة، ويصبح شيخا عصريا في نظراته إلى الأشياء مع الاحتفاظ بدينه وقوميته، وإذا الشيخ الذي كان يسكن في كفر الزغاري أو كفر الطماعين، يخطر في حدائق لكسمبرج وفي فرساي، وقد عرف الدنيا، وخبر أحوال الناس، وجمع إلى علمه الأثري تجارب واسعة، وعلما بالعالم صادقا.
وهنا - مع الأسف - تنقطع القصة فجأة وتقف الأحداث عند باريس، فلا يتممون رحلتهم إلى إنجلترا، ولا يعودون إلى مصر، مما يدل على أن القصة لم تتم، وقد كنت سمعت أن المرحوم إسماعيل بك رأفت هم مرة أن يتم هذه المرحلة، ويرجع بالشيخ علم الدين وابنه برهان الدين إلى مصر من طريق آخر، ولكنه لم ينفذ ذلك فبقي الشيخ وابنه ينتظران العودة إلى الآن.
هذا وصف موجز جدا لقصة علم الدين، وقد ألفت حول سنة 1296 هجرية، وطبعت في مطبعة جريدة المحروسة سنة 1299ه/1882م فيكون لها الآن نحو أربعة وستين عاما.
وفيها نظرات صائبة إلى الحياة الاجتماعية المصرية، ونقد خفي لاذع لأولي الأمر في مصر، وإهمالهم شئون الرعية، وفيها ضوء قوي يلقى على المدنية الغربية وأصولها وأهم مظاهرها، وفيها دعوة غير مباشرة للاقتباس منها، وفيها بث معلومات كثيرة عن العالم في جماده ونباته وحيوانه وإنسانه، في أسلوب شائق وفكاهة حلوة.
ولولا أنه أكثر من المعلومات وكدس فيها من العلوم والمعارف ما قلل من روابط القصة، وتكلف أحيانا خلق الحوادث ليدلي بعلمه، ولينقل بحثا كاملا في الموضوع يقلل من لذة القارئ في تتبعه للقصص، ولولا أنه لم يحبك شخصياته حبكا محكما، كأن ينسى شخصية الشيخ علم الدين، ويصوره لا يعرف شيئا من شئون الدنيا إلا في حدود منزله ومسجده، ثم ينسى ذلك وهو في فرنسا فينسب إليه معرفته بابن رابية وخلاعته ومجونه، ومعرفته بحارة اليهود ومعاملتها المالية بالتفصيل ونحو ذلك من هنات - لولا ذلك لعدت خير القصص المصري موضوعا وفنا، ومع هذا فهي لا تزال حافظة لقيمتها الكبيرة ناطقة بما بذل فيها من مجهود ضخم.
ألست معي - أيها القارئ الكريم بعد ما رأيت - أن الباعث على تأليف هذه القصة هي قصة الدسوقي و«لين» وأن مؤرخي الأدب لم يكونوا على حق في إهمالها وعدم التنويه بها؟
غاية العالم
هل للعالم غاية يجد للوصول إليها؟ وهل له خطة مرسومة يسعى إلى نهايتها، ويتجه نحوها دائما مهما عاقته العوائق؟
أسئلة دارت، وتدور في ذهن المفكرين قديما وحديثا.
أما ابن الشبل البغدادي فحار في الأمر، ولم يستطع الجواب، وقال في حيرته قصيدته الرائعة:
بربك أيها الفلك المدار
أقصد ذا المسير أم اضطرار
مدارك قل لنا في أي شيء؟
ففي أفهامنا منك انبهار
إلى آخر هذه القصيدة المفعمة حيرة وارتباكا، وشكا وامتعاضا.
وحار حيرته كذلك أبو العلاء المعري، فقال:
نفارق العيش لم نظفر بمعرفة
أي المعاني بأهل الأرض مقصود؟
لم تعطنا العلم أخبار يجيء بها
نقل ولا كوكب في الأرض مرصود
وقال:
أما اليقين فلا يقين وإنما
أقصى اجتهادي أن أظن وأحدسا
إلى آخر ما قال في الحيرة، وما أكثر ما قال!
ولندع الشعراء المتفلسفين ولننظر في آراء الفلاسفة المتعمقين، فنرى أنهم تساءلوا من قديم هذه الأسئلة، وأجابوا عنها إجابات متناقصة، فأما أرسطو فآمن بأن العالم يسير إلى غاية، وأن الغاية هي تحقيق العقل، هذا العقل ظهر ضعيفا أو كالعدم في النبات، وظهر أرقى من ذلك في الحيوان، وظهر أرقى من الحيوان في الإنسان، وهذا العقل لم يكن شأنه كبيرا في الإنسان البدائي، ثم نما شيئا فشيئا، وكلما تقدم الزمان ظهر سلطان العقل، واحتكم الإنسان إلى العقل، وسيظل يرقى ويرقى متجها إلى العقل الكامل، ولن يبلغ هذه الغاية، ولكنه سيسير دائما إليها، ويتجه دائما نحوها، وإنما عد الإنسان أرقى من الحيوان، لأنه أعقل، وعدت أمة أرقى من أمة، لأنها أعقل، والعالم يسير دائما إلى تحقيق العقل رغم ما يعوقه من عوائق.
وكفر آخرون برأي أرسطو، فرأوا أن العالم ليس إلا مخلوقا أخرق، وأنه يسير تارة إلى الأمام وتارة إلى الخلف، وتارة إلى اليمين، وتارة إلى اليسار، وليس له هدف يرمي إليه، بل هو يسير كما شاءت المصادفة ، وكما شاء له الهوى، وهو مجنون لا تعلل أعماله، انظر إلى الإنسان سيد العالم - كما يزعمون - في حروبه، وانظره في ملاجئ عجزته، وانظره في فقر فقرائه، وبؤس بؤسائه، ومستشفى مرضاه، وسجون مجرميه، وانظر ما يحدث في العالم كل لحظة من الكوارث، وفظائع الحوادث، وحتى السعادة التي فيه قد ربطت بالجهل، وهربت بالعقل، وحياة الناس مهازل تنتهي بالموت كما تنتهي الرواية بإسدال الستار، فليس صحيحا أن «ليس في الإمكان أبدع مما كان»، وإنما الصحيح أن ليس في الإمكان أسوأ مما كان، ولو أطلقت ثورا في مستودع خزف، أو مجنونا يحمل مشعلا في مخزن نسيج، ما صنعا ما يصنع العالم.
صحب الناس قبلنا ذا الزمانا
وعناهم من أمره ما عنانا
وتولوا بغصة كلهم من
ه وإن سر بعضهم أحيانا
وليست مظاهر التقدم إلا خداعا، وليس الفرق بين ما نسميه أمة متمدنة وغير متمدنة إلا كالفرق بين المرأة في طبيعتها والمرأة في زينتها، وسيترك كل جيل من الناس الدنيا كما دخلوها بشرورها وبؤسها وشقائها، وليست الحضارة والبداوة إلا طلاء ظاهرا لغرائز متشابهة.
ولكن هؤلاء المتشائمين قد أصيبوا بعمى اللون، فلم يروا في العالم إلا لونا واحدا هو لون السواد، ولم يروا مادة لأدبهم إلا نعيق البوم، وسواد الغراب، وحلكة الظلام، ولم يقوموا في الحياة إلا المآسي، ولم يسمعوا من النغمات إلا المحزن، ولم ينظروا في الحياة إلا إلى سطحها، لا إلى عمقها، وشغفوا بالأحداث الجزئية، لا النظريات الكلية.
إن نظرة شاملة لحركات العالم واتجاهاته تدل على أنه سائر لغاية، وأن له روحا وإرادة وعقلا لا يقاس بها ما للفرد، وأنه يعمل في دأب وجد واستمرار لبلوغ غايته، وأنه كالفرد له أعمال لا شعورية يدعو إليها العقل الباطن، وأعمال شعورية يدعو إليها الفكر، وله أعمال تدعو إليها الفطرة والغريزة، وأعمال تأملية، وله أعمال ظاهرة وأعمال خفية، وكلها تقرب إلى الغرض، والعالم يسير إلى الإمام في ثبات واستمرار، قد تتخلف بعض أجزائه، وقد تتعطل بعض خلاياه، ولكنه في جملته يسير قدما، لا يعبأ بما تخلف من جزئياته، كالجيش الظافر لا يعوقه موت بعض جنوده، ولا عطل في بعض آلاته، ولا تخلف من يصيبه الإعياء، بل هو بالغ غايته على الرغم من كل ذلك، هكذا كان تاريخ الإنسانية، فقد ترقى أمة ثم تتخلف ثم تموت، ولكن لا تموت حتى يتسلم منها مجدها قوم آخرون يخطون بالعالم خطوة جديدة، ويحققون روح العالم العامة التي تدفع إلى الأمام ولا تريد إلا الأمام، والتي تعد الوسائل لذلك دائما من أخلاق قوية، وأبطال أقوياء، ونوابغ أفذاذ، وتاريخ الإنسانية من مبدئها إلى الآن ليس إلا مراحل للتقدم إلى الأمام في نواحي الحياة المختلفة من شعور وحرية وتفكير، ولا يمنع الناس من إدراك هذا إلا قصر نظرهم على جزئيات العالم كأمة بعينها أو قطر بعينه، أما إن نظروا إلى العالم من حيث هو وحدة، فهناك تتجلى علائم التقدم بأجلى مظاهرها، فالعالم بناء شامخ شيدت طبقاته في أجيال، أو قصيدة واحدة نظمت أبياتها على تعاقب الأزمان، أو رواية محكمة يؤلف كل جيل منها فصلا، ثم لم تتم فصولها، ولم توضع خاتمتها، هو سائر إلى الأمام في كل مظهر من مظاهره، في فنه الدال على شعوره، وفي دينه الدال على روحه، وفي علمه الدال على عقله.
بني العالم على ثلاث قواعد: حفظ الذات، وحفظ النوع، وتحسين النوع، هذه هي الأوراق الثلاث التي يلعب بها العالم لعباته المختلفة في كل تصرفاته التي لا نهاية لها، وكل شيء في العالم من الحشرة الدنيئة إلى أرقى أنواع الإنسان يسعى إلى تحقيق وجوده الذاتي ووجوده النوعي، والعالم كله في جملته يتسامى لتحقيق غايته، وقد اتخذت الطبيعة لتحقيق ذلك كل الوسائل الممكنة من تحريك الغرائز المختلفة، والانفعالات المتباينة، والعواطف المتناقضة، ونحن لو بحثناها على شدة ما بينها من اختلاف لوجدناها كلها ترجع إلى هذه العناصر الثلاثة: تلعب الغرائز والانفعالات والعواطف كل ألاعيبها في النبات والحيوان والإنسان لحفظ الذات وحفظ النوع، وتلعب في الإنسان ألاعيبها كذلك للسمو به، فسعي النبات وراء قوته وتجهيزه بالآلات العجيبة للحصول على غذائه، وتكثير بذوره ، وسلوك الحيوان في شهواته وعواطفه، والإنسان في كل تصرفاته وعواطف حبه وغزله، وعواطف أبوته وأمومته وأفانينه - كل ذلك يفسر في النهاية حفظ الذات وحفظ النوع، فقانون الطبيعة في ذلك قانون ثابت لا يتخلف، ولا يمكن أن يصدر ذلك إذا لم يكن للعالم غاية.
ولا تتورع الطبيعة أن تخدع المخلوقات بكل صور الخداع لتعمل وفق ما ترسم، فهذا الإنسان - وهو أرقى أنواع المخلوقات - يخدع بكل أنواع الخداع لتحقيق غرض الطبيعة. إن شئت مثلا واحدا فطالع فصول غرامه وغزله وهيامه، وكل فصول حياته الزوجية، وكل أدب وفن نسائي، لترى كيف تلعب الطبيعة بالإنسان لحفظ النوع، وكل ما وضع من مبادئ أخلاقية، وقواعد قانونية، إنما دفعت إليه الطبيعة لخدمة هذه العناصر الثلاثة وللمحافظة عليها.
وشأن العالم شأن شجرة الورد، فكما أن آلاف الأعمال تعملها بذرة الورد من تغذ ونمو واستنشاق وتعرض للضوء ونحو ذلك لغرض واحد هو إنتاج زهرة الورد، فكذلك العالم يعمل كله - كوحدة - ملايين الأعمال من محافظة على الأفراد والنوع للوصول إلى غاية، وهي السمو وتحسين النوع.
والطبيعة لا تعبأ بالتضحيات الكثيرة للوصول إلى هذا الغرض، فكم من بذور النبات يهلك ليحيا أحسنه، وكم من ملايين الحيوان والإنسان تصادفه العقبات في سبيل حياته وبقائه، ولا يبقى إلا أصلحه، وهذه الأحياء كلها تتمخض عن عدد قليل من النوابغ الأفذاذ، هم قادة العالم في مرافقه المختلفة يقودونه إلى الأمام دائما.
قد يحدث في العالم كوارث في منتهى الفظاعة، كما تثور البراكين، وكما تزلزل الأرض، وكما تقوم الحروب الهائلة بين بني الإنسان، فيفنى في ذلك العدد الكثير، ولكن سرعان ما يسترد العالم كيانه، ويبدأ سيره وتقدمه، ويتجلى له أن هذه الكوارث ليست إلا إرهاصا ببناء جديد على أنقاض قديم، وأن هذه الكوارث الإنسانية ليست إلا نتيجة لتعفن النظم الحاضرة، وبناء نظم أرقى لإنتاج إنسان أسمى، وما العلم والنظم والحكومات إلا أدوات لرقي الإنسان ومظاهر لحالته الاجتماعية، يرقى فيرقيها، وترقى فترقيه، ومذهب الطبيعة أن لا بأس بهلاك الكثير لتحسين القليل، شأنها في ذلك شأنها في تدفق ماء الرجل يحمل ملايين من الأحياء لا يعيش إلا واحد منها هو أصلحها للبقاء، وكل يوم يكتشف الإنسان وسائل للسمو به، ولكن قد يجربها فتفني العدد العديد منه، حتى يضبط نفعها، ويستطيع التغلب على ضررها، كما يحدث في تاريخ الإنسانية عوائق تعوق سيره، يحدث كذلك ما يعوضها من وثبات وقفزات يطفر بها إلى الأمام، كم ألوف من الناس قد ذهبوا ضحية العلم والمخترعات الحديثة، ولكن ما كسبته الإنسانية - ككل - وما أفاده العالم - كوحدة - أعظم جدا مما خسره، قد يتخلف الجنود الضعفاء في سير الجيش، وقد يموت كثير من أفراد الجيش الزاحف، وقد يموت بعض الوحدات القوية الصالحة، ولكن إذا فتح الجيش المدينة المنشودة فلا بأس بمن فقد، كم فقد العالم من مستكشفين! وكم فقد العالم من رواد البر والبحر! وكم فقد من طائرين وطيارات! وكم فقد من المجربين في الكهرباء، ولكن ما كانت نتيجة ذلك كله؟ كانت نتيجته أن العالم تقارب نوعا ما، وأصبح وحدة ما، وسيسير في سبيله للتغلب على العقبات غير عابئ بالضحايا حتى يقرب من الغرض، بل هو كذلك يضحي بالعدد الكثير من عامة الأفراد، ليصل إلى إنتاج العدد القليل من النوابغ الأفذاذ.
ربما صعب على المفكر أن يرى تقدم العالم إذا نظر إلى أمة واحدة، أو قارن بين العالم اليوم والعالم منذ سنة أو سنتين أو عشر، ولكن ليطل الزمن قليلا، ولينظر إليه نظرة شاملة، وليقارن بين العالم في قرن والعالم في قرن قبله والعالم في قرون سابقة، ير أنه يسير إلى الأمام دائما وأنه على حد تعبير أرسطو يسير نحو تحقيق العقل، فللعلم الآن مكانته العظمى، وسيطرته القوية، والعلم هو مظهر العقل، وأعني بالعلم معناه الواسع، وهو العلم بقوانين العالم والإيمان بها، والسير على مقتضاها، ونحن إذا نظرنا إلى الماضي البعيد السحيق في البعد اغتبطنا لتقدم العالم هذا التقدم، ولكن إذا نظرنا إلى المستقبل البعيد السحيق في البعد أدركنا أن العالم لا يزال في طفولته، ولكنه سائر حتما إلى شبابه.
إن العالم له قلب ينبض، وله عقل مفكر، وله شعور بذاتيته، وله شعور بوحدته، وليست أجزاؤه إلا خلايا كخلايا الشجرة الضخمة، ولخلاياه وظائف متنوعة تعمل لغاية هي الثمرة، وكل ضروب أفعاله منسجمة متعاونة متوائمة، كان كذلك في القديم ، وهو كذلك في الحديث، وسيكون كذلك في المستقبل، لم يسر يوما وفقا لغرائز حفظ الذات وحفظ النوع ويوما على عكس ذلك، ولم يتقهقر الإنسان يوما فيرجع إلى حالته الأولى بعد ما خطا خطوات في تقدمه، ولم يكن في أمسه أعقل منه في غده.
أفبعد هذا ينكر منكر أن له غاية، ويدعي مدع أنه يخبط خبط عشواء؟
قد علمنا التاريخ أن العالم حين يقدم على خطوة جديدة، وحين يتمخض لولادة جديدة، تقوم زوابع كثيرة تقلب الأوضاع وتكسر ما يعترضها، ثم ينزل الغيث وتهدأ الزوابع ويلطف الجو، وأظن أن الحرب الحاضرة شأنها شأن الزوابع الماضية، ليست إلا علامة على أن العالم يتمخض للولادة، وأنه يريد أن يتخلص من بعض شرور الماضي؛ ليضع أسسا جديدة لمستقبل أسمى، ومما يؤسف له أن العالم في الحاضر والماضي ليس لديه إلا هذه الوسيلة للإصلاح، لا يستطيع أن يبني بناء جديدا إلا بعد هدم القديم، وإلا كان العمل ترميما لا تجديدا.
أوقات الفراغ
حدثت أن جنديا أجنبيا ظريفا رأى في مقهى بحلوان رجلين يلعبان النرد، وكانت الساعة السابعة مساء، فتقدم إليهما بكل أدب واحترام، وحياهما ثم سألهما: من أي وقت بدأتما اللعب؟ - من الساعة الرابعة. - وإلى متى؟ - إلى الثامنة أو التاسعة. - وما عملكما؟ - مدرسان.
فانهال عليهما ضربا ولكما، وقال: أما لكما عمل تعملانه، أو رياضة تقومان بها، أو خدمة اجتماعية تؤديانها؟ •••
ليت لنا مشرفين من هذا القبيل يعزرون من أضاع وقته على هذا النمط، إذا ما نجا من الضرب واللكم إلا القليل!
فالمقاهي والأندية مزدحمة بالناس في الصباح والمساء، والوقت فيها ضائع بين لاعب نرد، ولاعب شطرنج، وشارب «شيشة»، ومتحدث حديثا فارغا.
في مصر آلاف الموظفين يفرغون من عملهم في الساعة الثانية بعد ظهر ويعودون في الثامنة صباحا، فسائلهم كيف قضوا ثماني عشرة ساعة في كل يوم؟ وهل استفادوا من زمنهم في عقلهم أو جسمهم، أو عملوا عملا نافعا لأنفسهم أو أمتهم؟
وفي البيوت نصف عدد الأمة من النساء، فكيف يقضين أوقات فراغهن؟
وفي المنازل آلاف الآلاف من طلبة المدارس، يقضون أربعة أشهر أو خمسة إجازة صيفية، فهل تساءل الآباء كيف يقضى هذا الوقت الطويل فيما يعود بالنفع على جسمهم وعقلهم؟
إذا كان الزمن هو المادة «الخامة» لاستغلال المال وتحصيل العلم وكسب الصحة، فكم أضعنا من كل ذلك؟ وكم أعمار تضيع في عبث، لا في عمل دنيا ولا في عمل آخرة.
من نتيجة ضياع الزمن ضياع كثير من منابع الثروة، كان يمكن أن تستغل لولا إهمال الزمان وجهل باستعماله؛ فكم من الأراضي البور كان يمكن أن تصلح، ومن الشركات يمكن أن تؤسس، ومن المؤسسات المختلفة يمكن أن تنشأ وتدار بجزء من الزمان الفارغ.
ومن نتيجة ضياع الزمن كساد الكتب والمجلات الجدية في مصر والشرق، فهي لا تطبع إلا نسبة غريبة لعدد المتعلمين، وما يطبع لا ينفق إلا أقله، هذا على قلة ما تصدره المطابع من الكتب والمجلات؛ إذ ليس هناك عقل يطلب الغذاء ولكن معدات تضج بالتخمة، وليس هناك نفوس تألم من الجهل، ولكن أجسام تخلد إلى الراحة، إن شئت أن تندهش حقا فاجمع ما يطبع من المجلات الجدية في مصر، وهي أربع أو خمس، وانسبها لعدد المتعلمين، واستبعد منها ما يرسل إلى العالم العربي، تدرك مقدار الخمول الذهني، والفقر العقلي، والجمود النفسي.
والشأن في عالم المال كالشأن في عالم الكتب، فهناك القناعة بالقليل والرضا بما قسم الله والنوم على الوظيفة، والعمل الراتب الذي لا يدعو إلى جهد، ولا يبعث على تفكير؛ ثم هناك الفكر المضني، وإفساح الطريق للأجنبي النشيط الذي يعرف كيف يستغل زمنه. •••
لست أريد من المحافظة على الزمن أن يملأ كله بالعمل وأن تكون الحياة كلها جدا لا هزل فيها، وأن تكون عابسة لا ضحك فيها، فقد كان هذا هو المثل الأعلى في القرون الوسطى، وكان خير الناس من جد ولم يهزل، وعبس ولم يضحك، وواصل العمل وواصل العبادة، واستحضر الموت في كل لحظة، فلم يدخل السرور قلبه، ورؤي مهموما دائما كأنما هو راجع من جنازة، ثم كان من خير ما اتجه إليه دعاة العصر الحديث أن السرور والضحك واللعب في جزء معقول من الزمن ينفع الخق أكثر من الجد الدائم والوقار المتصل.
واستكشف علماء النفس أن مثل هؤلاء المتزمتين المدمنين على الجد، كانوا أقرب إلى القسوة على الناس، وأقلهم بهم رحمة، وأبعدهم عن التسامح، وعلى يد أمثال هؤلاء قامت محاكم التفتيش في أوربا، وعذب الناس على يد زياد والحجاج وأبي مسلم الخراساني وأمثالهم من المسرفين في الجد، وعلى العكس من ذلك كان الإحسان والتسامح والعفو والرحمة ممن كانوا يجدون ويلعبون، ويعملون ويمرحون.
إنما أريد ألا تكون أوقات الفراغ طاغية على أوقات العمل، وألا تكون أوقات الفراغ هي صميم الحياة، وأوقات العمل على هامشها، بل أريد - أكثر من ذلك - أن تكون أوقات الفراغ خاضعة لحكم العقل كأوقات العمل، فإننا في العمل نعمل لغاية، فيجب أن نصرف أوقات الفراغ لغاية كذلك، إما لفائدة صحية كالألعاب الرياضية، وإما للذة نفسية كالمطالعات العلمية أو الأدبية.
أما أن تكون الغاية هي قتل الوقت، فليست غاية مشروعة، لأن الوقت هو الحياة، فقتل الوقت قتل الحياة؛ فالذين يصرفون أوقاتهم الطويلة في نرد أو شطرنج لا يعملون لغاية يرتضيها العقل، وكذلك الذين يتسكعون في المقاهي والأندية والطرقات لا يطلبون إلا قتل الوقت كأن الوقت عدو من أعدائهم.
مفتاح العلاج لهذه المشكلة الاعتقاد بأن الإنسان يستطيع أن يغير موضوعات حبه وكرهه كما يشاء، ويستطيع أن يغير ذوقه كما يشاء، فيستطيع أن يمرن ذوقه على أشياء لم يكن يتذوقها من قبل، وعلى كراهية أشياء كان يحبها من قبل، ففي استطاعة أغلب الناس - إذا قويت إرادتهم - أن يقسموا أوقات فراغهم إلى ما ينفعهم صحيا، وإلى ما ينفعهم عقليا.
ومن الأسف أن عامة الناس يعتقدون أن قراءة القصص الخفيفة والمجلات الرخيصة كافية لغذاء عقولهم، فهم يلتهمونها التهاما، ويكتفون بها في لذتهم العقلية، وهي ليست إلا مخدرا للعقل، أو منبها للغرائز الجنسية، وقليل من الصبر وقوة الإرادة يجعل المتعلم صالحا للدراسة الجدية والقراءة المفيدة، وكل مثقف يستطيع أن يخلق في نفسه هوى لشيء جدي في نوع من أنواع المعارف يدرسه ويتوسع فيه ويتعمقه، سواء كان أدبا أو حيوانا أو أزهارا أو ميكانيكا أو تاريخ عصر من العصور أو أي ضرب من ضروب المعارف الإنسانية، ثم يثير رغبته فيه، ثم يخصص جزءا من يومه لدراسته والاهتمام به، فإذا هو إنسان آخر له ناحية من نواحي القوة، وله شخصيته المحترمة، وإذا الأمة غنية بأبنائها في شتى فروع العلم والمعارف والفنون، تعتمد على كل فيما تخصص فيه من نواحي الحياة، وإذا الناس في مجالسهم يرقى حديثهم، ويستفيد كل من كل في نوع معارفه وضروب تخصصه، وإذا الثقافة ارتقت والعقول اتسعت والحياة سمت.
إذ ذاك يشعر الناس أن عليهم واجبا أن يغذوا عقولهم كما يغذون معداتهم، وأن لا حياة لهم بدون غذاء، وإذ ذاك تنشط حركة التأليف والترجمة والنشر، بل وإذ ذاك يرتقي اللهو في دور السينما والغناء، لأن العقول المثقفة لا يلذها إلا عرض مثقف يلائم الذوق المثقف.
اجعل شعارك دائما أن تسائل نفسك: «ماذا عملت في وقت فراغك؟» هل كسبت صحة أو مالا أو علما؟ وهل خضع وقت فراغك لحكم عقلك، فكان لك غاية محدودة صرفت فيها زمنك؟ إن كان كذلك فقد نجحت، وإلا فحاول حتى تنجح، فقليل من الزمن يخصص كل يوم لشيء معين قد يغير مجرى الحياة ويجعلها أقوم مما تتصور وأرقى مما تتخيل.
إن الأمة الآن تعيش عشر ما ينبغي أن تعيش، أو أقل من ذلك، سواء في إنتاجها المالي، أو ثقافتها العقلية، أو حالتها الصحية، وباقي حياتها هدر، في كسل أو خمول، أو بين نرد وشطرنج، أو في لا شيء، ولا ينقصها لتعيش كما ينبغي إلا أن تكتشف طريقة ملء الزمن وخضوعه لحكم العقل.
التخريف1
كنت أقرأ في كتاب «لين» (مصر الحديثة - عاداتها وتقاليدها)، فراعني منه قوله: «إن العرب شعب مليء ذهنه بالخرافات، وليس في أمم العرب من يباري المصريين في هذا الباب».
ثم عدد مناحي تخريفهم، فالعفاريت تحتل جزءا كبيرا من تفكيرهم، وهي تسكن الأنهار والمنازل والكهوف والآبار والمقابر، وللموتى عفاريت، وللقتلى عفاريت، وفي كل جحر عفريت.
والعقيدة في المغفلين والمجانين الهادئين أنهم أولياء مقربون فاشية بينهم، حتى ليتبركون بهم، ويتقربون إلى الله بالإحسان إليهم، وطلب الدعاء منهم.
ومشايخ الطرق وكراماتهم، والصوفية وأعاجيبهم، والأقطاب وسلطانهم، وقصص الأولياء وغرائبهم، ولعبهم بقوانين الطبيعة وتفننهم، كل أولئك تملأ حياتهم، وتستولي على عقولهم، وتلون سلوكهم.
والأضرحة وزياراتها، والتوسل بها وبساكنيها، والتذلل في طلب قضاء حوائجهم منها، والموالد وما يجري فيها.
والبكرية والعنانية والسادات ونقابة الأشراف ومشايخ السجادة، وما إلى ذلك من طرق وشعائر ومراسم وأعمال وأذكار.
وثم ضروب أخر من هذا الباب، كالأحجبة وأنواعها، والأحراز لدفع العين على اختلاف أشكالها، والتعاويذ لشفاء الأمراض وجلب الأزواج وبث العداء واسترضاء النافر وتحنين القلوب، ثم طب الركة وأفانينه وأعاجيبه، والاعتقاد في ساعات النحس وساعات الوفق، ثم السحر والطوالع والتنجيم.
لقد وصف «لين» هذا الوصف منذ مائة عام، ومن غير شك قد قل التخريف في زماننا عما كان عليه في أيام «لين» بفضل انتشار الثقافة ورقي العقل، فالاعتقاد في العفاريت لم يبق إلا في أوساط العوام وأشباههم، وكذلك الشأن في كثير مما ذكر من ضروب التخريف، ومع هذا فلا يزال التخريف أكثر مما يلزم، ولا يزال وصف «لين» حافظا لشيء من جدته، نعم لم تخل الشعوب الممدنة كلها من ضروب من التخريف، ولكنه في مصر كثير كثرة تستحق بذل الجهد في محاربته والقضاء عليه.
من الكثير على أمة أن تتحمل هذه الأنواع كلها بأعبائها وتكاليفها، ولكل نوع ضحاياه وآثامه، فكم نفوس ضاعت بطب الركة! وكم بيوت خربت بالعفاريت التي ليست إلا في أذهاننا! وكم أموال ذهبت هدرا، فخرجت من مستحقيها إلى غير مستحقيها بصندوق النذور، ودجل مدعي الصوفية، وحيل فاتحي الكنوز والمتظاهرين بالورع! وكم أسر تهدمت بقارئي الكف وفاتحي البخت وشيخات الزار وصانعي التعاويذ! وفوق هذا كله خراب العقل بهذه العقائد.
أساس التخريف «الخوف من القوى الغيبية ورجاء النفع منها» والاعتقاد بأنها قادرة على النفع والضرر، فهو يتملقها بالتوسل والقرابين والعزائم، ويدفع شرها بالنذور والتعاويذ، ويستجلب خيرها بالزيارة وتقبيل الأيدي والأحجار والخضوع التام وطلب البركة وما إلى ذلك، وعجيب أن يفشو هذا كله في قوم أساس دينهم «لا إله إلا الله» وأن الله وحده القادر، وأنه النافع الضار، وأن لا واسطة بين العبد وربه، وأن الخير والشر كله بيد الله، وأنه خلق الكون ووضع له قوانين لا تتخلف، فلا مبدل لكلمات الله، ونحو ذلك من المبادئ!
كيف يلتئم مع هذه العقائد عفاريت تتصرف، ومشايخ طرق تتحكم، وأولياء تنفع وتضر على هواها، يرضيها الملق ويغضبها الهجران، ونجوم تسعد وتشقى، ومغفلون ومجانين بيدهم الخير والشر، ومعتوهون تنازل الله تعالى لهم عن سلطانه، وكون لا نظام له ولا قانون، فالولي يلعب به كما يشاء، ويجعل الماء جمدا، والهواء ماء، والزجاج غذاء، وبركة الشيخ تقتل دودة القطن في الحقل إذا رضي، وتحييها إذا غضب.
ليس من الممكن أن تجتمع عقائد الدين الصحيح وهذه العقائد الخرافية، فإذا دخل أحدهما من باب خرج الآخر من باب، والحق أن الإسلام يوم كان يعتقد اعتقادا صحيحا لم نكن نرى شيئا من هذا، وحين رأينا هذا لم نر الدين الصحيح.
التخريف يشل العقل ويجعله غير صالح لمواجهة الحياة الواقعية، ويجعل حياة من يستولي عليه خيالا مضطربا كخيال الحشاشين، ليس له ضابط ولا يخضع لقانون، وكخيال السكير يحسب الديك حمارا، والقرد غزالا، وإذا كان «متعاطي» الحشيش ومدمن الخمر يصلح للحياة صلح لها المخرف.
التخريف يلازم الجهل، ويلازم ضعف العقل، فالعقل القوي يرفض أي تخريف، والعلم بالكون وأسبابه ومسبباته وقوانينه ومسلكه يبدد التخريف كما يبدد النور الظلام.
اعتبر ذلك في الطفل والرجل، فالطفل لضعف عقله قابل للتصديق بالخرافات، يعتقد حكايات العفاريت صحيحة، ويعتقد قصص الحيوانات صادقة، فإذا نما شيئا فشيئا زال هذا الاعتقاد شيئا فشيئا، وحل محله إدراك الواقع، وفرق بين القصص الخيالية والسير التاريخية، فكذلك الشأن في الأمم، إذا كان عقلها عقل طفل آمنت بكل ما عددنا، وكانت حياتها مستغرقة بالمشايخ والأولياء والعفاريت والنذور والنجوم وما إليها، فإذا رقيت تبخر كل ذلك وحل محله الإيمان بالكون المعقول يدبره إله معقول.
لقد كانت أمم أوربا منذ أقل من ثلاثة قرون غارقة في مثل هذا التخريف، وكانت تعتقد في السحر والسحرة إلى حد بعيد، وكم سبب هذا من مصائب وضحايا ومظالم لا عداد لها، ثم أخذ يقل شيئا فشيئا بانتشار التعليم وترقية العقل، حتى قلت دائرته وجعل زمام الحياة لسلطان العقل، وانكمش سلطان التخريف.
أخطر ما في التخريف أنه يزلزل الإيمان بقوانين الطبيعة وقوانين السببية! فتكفي دعوة شيخ لقلب كل قوانين الاقتصاد وقوانين النبات، وتكفي تعزيمة رجل لتزيل أسباب الفقر الطبيعية، ويكفي وجود الأضرحة لتتقى بها الأعداء في الحروب، ويكفي عقد الزواج في ساعة من ساعات السعد، لتصبح الحياة الزوجية سعيدة رغم كل عوامل الشقاء الطبيعية، وهكذا.
ولا تشقى أمة شقاءها بهذا التخريف، ولا يضعفها في حياتها ما تضعفها هذه المعتقدات.
لقد قطع العالم هذا الشوط، وتحرر مما سببه هذا التخريف من تعاسة وشقاء، وأحل المصلحين المعقولين محل الأولياء والقديسين، وأحل قوانين الصحة والمرض محل طب الركة، وأحل علم الزارعة مكان الزراعة بالبركة، وأحل قوانين الاجتماع محل الاعتماد على القدر وحده، وليس في كل هذا ما يمنع من إيمان صحيح يعتقد فيه بأن للعالم إلها قادرا عادلا لم يتنازل عن سلطانه لمخلوق يعبث به، قد خلق خلقه، وحاطه بقوانين لم يسمح لأحد أن يتلاعب بها، ويستخدمها في أغراضه مهما كانت هذه الأغراض.
نعود إلى صدر الإسلام، فنرى عمر بن الخطاب يرى ناسا يأتون الشجرة التي بايع رسول الله
صلى الله عليه وسلم
تحتها بيعة الرضوان، فيصلون عندها، فيأمر بقطعها حتى تكون العبادة لله وحده.
وننظر اليوم فنرى باب زويلة - وهو ليس إلا بابا من أبواب سور القاهرة القديمة - قد اتخذ معبدا يزعمون أنه مسكن لقطب من الأقطاب الأربعة؛ ومن أجل هذا سمي «باب المتولي» والناس يتمسحون به، ويربطون في مساميره قصة من شعورهم أو خيطا من ملابسهم، ويشتفون به من وجع أسنانهم أو صداع رءوسهم.
ونعود إلى صدر الإسلام فنرى في سيرة عمر أنه خرج في حجة فمر بمسجد فبادره الناس بالصلاة فيه، فقال : ما هذا؟ قالوا: مسجد صلى فيه رسول الله. فقال: هكذا هلك أهل الكتاب قبلكم، اتخذوا آثار أنبيائهم بيعا، من عرضت له فيه صلاة فليصل، ومن لم تعرض له صلاة فليمض. ثم نرى الناس اليوم وقد تهافتوا على أمكنة وقف عندها ولي مزعوم، أو لمستها يد صالحة مباركة كما يقولون، أو رأى مدله رؤيا شاهد فيها قديسا من القديسين.
ونعود إلى صدر الإسلام فنرى عمر ينظر إلى شاب قد نكس رأسه فيقول له: «يا هذا ارفع رأسك، فإن الخشوع لا يزيد على ما في القلب، فمن أظهر للناس خشوعا فوق ما في قلبه فإنما أظهر للناس نفاقا على نفاق»، ونرى اليوم تصنعا في التدين والصلاح، بعمة حمراء وعمة خضراء وسبحة طويلة، وانكسار وتقشف، وغيبوبة عقل، فيخدع الناس بمظاهرهم، وينسبون الولاية إليهم، ويستمدون البركة منهم.
ونعود إلى صدر الإسلام فنرى علي بن أبي طالب يعين عاملا من عماله ويقول له: «ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله، ألا أدع تمثالا إلا طمسته، ولا قبرا إلا سويته».
ونرى اليوم الأضرحة والمزارات منتشرة في كل مكان للصالحين وأشباه الصالحين، بل لمن لو رجعت إلى تاريخه لوجدت أن لا منقبة له إلا مظالم ارتكبها، وظن أن بناء المسجد والضريح يكفر عنها.
لا لا أيها الناس، ليس في الإسلام وثنية، وليس في الإسلام الصحيح تخريف، ولكن دخل فيه أقوام وفي رءوسهم خرافات الوثنيات الأولى! فوثنية العرب الجاهليين، ووثنية مصر القديمة، ووثنية المجوس، ووثنية الرومان، كل هذه اندست بين المسلمين، واصطبغت بصبغة الإسلام، والإسلام بريء منها، وذهب الماء الصافي ولم يبق إلا عكره، وامتلأ الإناء بالدردي.
المثقفون والسعادة
قرأت قول المتنبي:
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله
وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم
وقرأت قول الآخر:
كم عاقل عاقل أعيت مذاهبه
وجاهل جاهل تلقاه مرزوقا
هذا الذي ترك الأفهام حائرة
وصير العالم النحرير زنديقا
وقول ابن المعتز:
وحلاوة الدنيا لجاهلها
ومرارة الدنيا لمن عقلا
وقول ابن نباتة:
من لي بعيش الأغبياء فإنه
لا عيش إلا عيش من لم يعلم
وقرأت كثيرا مثل هذا في الشعر العربي يدور حول لعنة العالم، لأنه يعذب العالم ويسعد الجاهل.
فتساءلت: هل هذا صحيح؟ هل العلماء في جملتهم أشقى من الجهلاء؟ وهل العلم يسبب الشقاء والجهل يسبب السعادة؟
إن كان هذا صحيحا، وكان العالم إنما يسعى وراء السعادة، فالنتيجة المنطقية لهذا أنه يجب علينا محاربة العلم ونشر الجهل، وإغلاق المدارس، وعد تأليف الكتب جريمة وطبعها جريمة والجامعة جريمة، وكل حركة علمية جريمة، لأنها تبعد من السعادة التي هي غاية الإنسان بطبعه، أو على الأقل يجب أن تكون غايته.
إذا فلا بد أن يكون أحد الرأيين خطأ، أما والناس يكادون يجمعون على فضل العلم وأنه وسيلة من وسائل السعادة، فوجب أن يكون الرأي الأول باطلا، ولكن أين وجه البطلان؟
وجه البطلان من نواح عدة: أولها - سوء تصور الناس للسعادة، فالرأي السائد فيها أنها حياة كسل لا يكدرها عمل، وحياة حقوق لا واجب فيها، وحياة لذة مشتعلة لا خمود لها، وأكل شهي من غير عناء، وتنوع ملاذ من غير انقطاع، وارتواء باللذات من غير جهد، وبعد للآلام من غير أن يتعب في إبعادها، وحضور لكل ما يخطر بباله من مسرة من غير نصب في جلبها، ونحو ذلك.
وهو تصور فاش بين الناس حتى عقلائهم، ومن لم يقله جهارا اعتنقه سرا، ومن لم ينله طمع فيه، وتحرق شوقا إليه، ومن حرمه في الدنيا أمله في الجنة، وجعل عبادته وسيلة لإدراكه.
وهو تصور لمعنى السعادة باطل، وفهم خاطئ، وإني لأتخيل حياة من هذا النوع أشبعت فيها كل الرغبات من غير جهد، وأتصور رجلا أجري عليه كل أنواع النعيم: من قصور فخمة وحور وولدان وكل ما تشتهي الأعين وتلذ الأنفس، فأجده بعد قليل قد صرخ من السعادة واشتاق إلى الشقاء، وإن شئت فقل: إنه يبحث عن سعادته في شقائه، ويستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، ويطلب الفوم والعدس والبصل بدلا من المن والسلوى، ويفضل المرأة الشوهاء على المرأة الحسناء، ويشتهي جلسة على التراب بدل الأرائك والحرائر ، ويتمنى ساعة عذاب يتقي بها شر هذا النعيم المقيم.
هذا هو الإنسان، وهذه طبيعته، ليست سعادته في هدوء متطامن، ولا في ركود مستمر، وإنما هي كما قال القائل:
سأطلب بعد الدار عنكم لتقربوا
وتسكب عيناي الدموع لتجمدا
والسعادة إنما هي في السعي للغرض أكثر منها في الغرض، والطريق إلى الغاية هو السعادة لا الغاية، وإنما يسعد الإنسان باستخدام قواه وملكاته لبلوغ غايته، فإذا بلغها تفتحت له غايات جديدة، وبذل فيها جهودا جديدة، وظهر في أثناء الطريق صعوبات استخرجت أقصى الجهد في التغلب عليها، فشعر بلذة الجهد ولذة الغلبة ولذة اعتداده بشخصيته واستخدامه ملكاته واستكماله نفسه أكثر من لذته بالغاية نفسها.
فلما تصور الناس السعادة بمعناها الخامل الذي ذكرنا، نظروا فوجدوا كثيرا من العقلاء والعلماء محرومين منها، فأفاض المحرومون في الشكوى، وصبوا على العالم سخطهم، ولو حسبوا حساب لذاتهم في السعي، ولذاتهم العقلية في فهم الكون، ولذاتهم في الكد في الطريق، وإن لم يبلغوا الغاية، ولو وزنوا بالميزان الحقيقي سعادة الجهلاء، ولم يبالغوا في تقديرها، لو فعلوا كل ذلك لصححوا حكمهم، وأدركوا خطأهم، ولقللوا من سخطهم على الزمان، ولعنتهم للدهر، وعتبهم على القدر.
وهب أن العلماء أشقى من الجهلاء، وأن العالم لم يسعد بعلمه، بل ساءت معيشته بعلمه، وأن علمه كان نقمة عليه، وأن العلم وسع نظره فأدرك واجباته وتبعاته، وأرهف حسه فجعله يألم مما لا يألم منه الجاهل، وأبعد طموحه فصار لا يرضى بما يرضى به العامي، ووسع حوض لذته (كما يعبر الفرنج) فأصبح لا يملؤه إلا الكثير، وقد كان - وهو جاهل - كالطفل، حوض لذته ضيق يملؤه القليل، وكبرت نفسه وبعدت غايته، فأصبح يدرك أن ما ناله من اللذائذ ناقص مهما كان.
هب كل ذلك كذلك، فهناك الخطأ الثاني الخطير، وهو مقياس الأشياء بمقياس الفردية ، فعلى مر آلاف السنين وصل العقلاء والعلماء والنوابغ إلى نتيجة باهرة تلو نتيجة باهرة، وإلى مخترع لنفع الإنسانية تلو مخترع، حتى وصل العالم بفضل هذه المجهودات والمخترعات إلى حضارته الحاضرة ومدنيته الحديثة، وكان سعي العلماء في طريقهم شاقا عسيرا، وقامت في وجوههم صعوبات يعجز القلم عن وصفها، وذهب كثير منهم ضحايا في سبيل غايتهم، ولم يكونوا يتحملون هذه المشقات والتضحيات في سبيل فرديتهم وذاتيتهم، إنما يتحملونها في سبيل الجمعية القومية أو الإنسانية، وكانوا يتلذذون من تضحيتهم أكثر من تلذذ المادي بشهواته.
فهب أن العلماء شقوا أكثر مما شقي الجهلاء، وسعدوا أقل مما سعد الجهلاء، فماذا يضيرنا ما دام العالم كان أسعد وكان أرقى وكان في جملته أصلح؟
فلا يصح للعلماء أن يبكوا لشقائهم أفرادا ما دامت الجمعية الإنسانية تستفيد من جدهم وشقائهم، كما لا يصح أن نسمع لشكوى فرد نزعت ملكيته لفتح شارع عام، أو جنود قتلوا في سبيل انتصار أمتهم، أو أطباء ماتوا في سبيل مكافحة وباء، بل لا يصح أن يتقدم أحد من هؤلاء بالشكوى، لأن العالم علمنا بطريق سيره أن العبرة بتقدم المجموع ولو فني الأفراد في أثناء سيره، والفرق بين أمة منحطة وأمة راقية نظرة الأولى إلى صالح بعض الأفراد أو بعض الأحزاب، ونظرة الثانية إلى الصالح العام.
فغلط العلماء والعقلاء والمخترعين الذين يشكون نشأ من أنهم نظروا إلى أنفسهم كأنهم آلات مستقلة، ولم ينظروا إليها كأنهم تروس في الآلة الضخمة، آلة الأمة أو آلة الإنسانية، وخطؤهم أيضا نشأ من اعتقادهم أن علمهم وثقافتهم وقوة عقلهم - إنما ركبت فيهم لنفع أفرادهم، وأن غايتهم استفادتهم منها لنفع أشخاصهم، وليس ذلك بصحيح، فكل الملكات الممتازة في الأفراد، وكل قدرة على الاختراع والتثقيف وبث المبادئ، إنما منحت للأفراد لخدمة الجماعة وترقيتها، فمتى أدت هذا الغرض فلا يهمنا بعد عاش أفرادها في بؤس أو رخاء، في نعيم أو شقاء. •••
ولكن ... من طبيعة الثقافة أنها ترقي العقل وترقي المشاعر، ومتى رقي العقل والمشاعر كان صاحبهما أقدر على اللذة، كما يكون أكثر تعرضا للألم، فمتى وجد في ظروف مناسبة كان أسعد من الجاهل، ومتى وجد في ظروف غير مناسبة كان أشقى من الجاهل، والمثقف بعقله الراقي كثير التساؤل: ما الحياة؟ وما الغرض منها؟ وما قيمتي فيها؟ ثم هو واسع الطموح كثير التطلع لحالة خير من حالته، وكلما أدرك حالة تطلع لما هو خير منها، ثم هو جيد التقدير، يقدر نفسه ويقدر من حوله، فيرى من حقه ومن حق ثقافته ومن حق سعة عقله، أن ينعم في الحياة المادية بأكثر مما ينعم الجاهل، ويرى واجبا على المجتمع الذي يعيش فيه أن يكرمه نظير علمه الذي يخدمهم به، فتوفر له وسائل العيش ووسائل السعادة حسب نظره، فلماذا تطلب منه التضحية فقط، ولا يطلب من الأمة أن تضحي بجزء من مادتها ليضحي هو بأغلى من ذلك، بعقله وصحته ونفسه أحيانا؟
هذه هي وجهة نظره، وهذا هو سبب شقائه، وهي وإن كانت وجهة نظر صحيحة معقولة، إلا أنها معقدة، وتعقيدها آت من قلة الثقافة في العالم، لا من كثرة الثقافة، فغير المثقفين - وهم السواد الأعظم - لا يقدرون عظم ما يبذله المثقف، وهم يقدرون الأشياء على مقدار عقلهم القاصر، وهم الذين في يدهم السلطة والمال، فهم معذورون إذا لم يوفروا للعالم والنابغة وسائل العيش حسب نظره وتقديره هو، ومن أجل هذا كلما انتشرت الثقافة في أمة وتولى زمامها مثقفوها، كان علماؤها ونوابغها أسعد حالا؛ وكذلك من أسباب شقائهم عدم تنظيم قوى المجتمع على قواعد معقولة، والفوضى في تقويم الأشياء والمعاني، وتمسك من بيدهم السلطة بالتسعيرة القديمة، ولكن العالم يسير إلى تنظيم كيانه، وإلى إصلاح عيوبه، وإلى ضبط فوضاه، وإذ ذاك - ونرجو أن يكون قريبا - تكون ثقافة العالم، ونبوغ النابغ، وأدب الأديب، وعقل العاقل موضع التقدير.
ولكن إلى أن يتم هذا لا بد أن ننظر لصالح المجتمع أكثر من صالح الأفراد، وأن ندعو إلى انتشار الثقافة لا انكماشها، وكثرة العلماء لا قلتهم، وألا نعبأ بمن يشقى من العلماء إذا كان في شقائهم سعادة المجموع، وأن نطالبهم أن يصوغوا أنفسهم حتى يجدوا سعادتهم في علمهم وشعورهم برقيهم، وكما قالوا: «لأن تكون سقراط ساخطا خير من أن تكون أبله راضيا».
الزعماء الثلاثة
أغسطس سنة 1941
في هذا الشهر من هذا العام مات زعيمان جليلان: زعيم هندي روحاني هو تاغور، وزعيم مصري مالي هو طلعت حرب، وفي هذا الشهر منذ أربعة عشر عاما مات زعيم مصري سياسي هو سعد زغلول، فكان لأغسطس حق الفخر في احتوائه هؤلاء العظماء إن حق لشهر أن يفخر باعتدائه واحتوائه، أو له حق الخجل عن عمله، إذ حرم أممهم وعالمهم الفخر بقيادتهم والانتفاع بمواهبهم، أو هو لا يفخر ولا يخجل، لأن الدهر له مقاييس غير مقاييسنا، ونظرات غير نظراتنا، وله عذره في أن الموت لا يعدو أشخاص الزعماء وأجسادهم، أما أفكارهم ومبادئهم فحية أبدا، خالدة أبدا، إن عدا الدهر عليهم يوما فلا يضن يوما آخر أن يبعث من يأخذ رايتهم، ويسير قدما إلى غايتهم، وينقل التقدم من ميدان إلى ميدان، فإن أساء فقد كفر، وإن أمات فقد أحيا.
كان كل زعيم من هؤلاء عظيما وكان كل ينظر إلى الحياة من زاوية آمن بها، وضحى لها، وفني فيها، ووصل إلى أعماقها، فاستخرج مكنونها، وأضاء ظلامها، وشوق إليها، واستحث أتباعه أن يؤمنوا إيمانه، وينظروا نظرته، ويسيروا سيرته، وقد أوتوا جميعا من حرارة العقيدة وجميل البيان وصفاء الإيمان ما أنجح دعوتهم، ونصر مبادئهم، فماتوا وقد لونوا عالمهم بلونهم، ورفعوا أتباعهم إلى قريب من منزلتهم، ونشروا الإيمان بالفكرة والكفر بالعقبات، وبثوا الاعتزاز بالمبدأ والاستهزاء بالصعوبات، فكان لهم بعض ما أرادوا، والزمن كفيل أن يحقق كل ما أرادوا. •••
فأما «تاغور» فرجل روحاني، هو خلاصة أفكار الهند، وعصارة نزعاتها الروحية والحلولية، عبر عنها بأساليب العصر الحديث ولغته وروحه، لا فرق عنده بين الحق والخلق ولا بين الله والعالم، فالعالم مظهر الله، والطبيعة شعاره، وهو - تعالى - حال في كل ذرة من ذرات العالم، تراه في رمال الصحراء، وفي صفاء الماء، وفي أوراق الأشجار، وفي تفتح الأزهار، وفي البعوضة فما فوقها، وفي النجوم فما دونها ، يتجلى في كل شيء حسب استعداده، ولا شيء سوى الله، والكائنات أجزاء منه وأبعاض له، وكلها كله، فهي وهو كأمواج البحر في البحر:
فما البحر إلا الموج لا شيء غيره
وإن فرقته كثرة المتعدد
فمن مزامير تاغور: «هو الله في كل شيء: في الماء وفي النار، وفي العشب والشجر، هذا إلهنا، الذي تعنو له وجوهنا».
أداه هذا النظر إلى أن يألف الطبيعة ويهيم بها ويتذوقها بحواسه كلها وبروحه كلها، وينفق الساعات ذوات العدد في الاستمتاع بجمالها والإصغاء إليها وعبادة الله فيها.
كما أداه ذلك إلى أن يكره من المدنية الحديثة عنفها في محاربة الطبيعة، ومحاولتها إخضاعها وإذلالها، كأن نزعة الحرب فيها عمت كل شيء، فالإنسان يحارب الطبيعة، والإنسان يحارب الإنسان، والطبقات تحارب الطبقات، وروحانية تاغور تدعو إلى الحب لا الحرب، فحب الطبيعة، وحب الإنسان، وحب العالم، لأنه يحب الله فيحب مظهره، ويرى الله في كل شيء فيحبه فيه.
وهو روحاني، يرى أن المادة ليست كل شيء، وأن لنا روحا غير مادتنا، وأن ليست علاقة فكرنا بمخنا علاقة معلول بعلة، وأن لنا صلة بالأرض وصلة بالسماء، ومن أجل هذا نعى على المدنية الغربية أنها تعنى بالمادة ولا تعنى بالروح، فهي تعبد المادة وتفكر في المادة، وينقصها التأمل الشرقي، كما ينقص الشرقي العمل الغربي وقوة الإرادة الغربية حتى تتعادل الكفتان، ويكمل العنصران.
كانت هذه عناصر دينه، ثم هو منح قوة فنية رائعة، وثقافة عصرية واسعة، واطلاعا على العالم برحلاته العديدة إلى أوربا وأمريكا واليابان، ونظرا نافذا إلى بواطن الأمور، وملكا لناصية اللغة الإنجليزية كملكه لناصية لغته الأصلية، فصب فيهما آراءه وفنونه، ونشر تعاليمه بشعره ونثره وقصصه وموسيقاه، فسمعها العالم، ووجد فيها نوعا من الغذاء الصالح الجديد يخالف في عناصره عناصر الغذاء الغربي القديم، لقد جلجل صوته بكل النغمات: في جمال الطبيعة، وحب الأطفال، وحب البساطة، وحب الله، وترك من كل ذلك ثروة للعالم سوف تنقضي السنون ولما يهضموها.
وكان ينظر إلى السياسة كما ينظر إلى الفلسفة، إنما يهمه من النظم السياسية آثارها في الحياة الاجتماعية، ويقوم أنواع الاستقلال بقدر ما تستتبع من إصلاح. •••
ولئن كان تاغور رجلا «مثاليا» يغوص تارة إلى أعماق الماء، ويجوز مرة أجواز الفضاء، ويرى في كل شيء من نبات وحيوان وجماد شيئا وراء ظاهره، وروحا وراء مادته، وإلها وراء شكله - «فسعد» رجل واقعي يفهم الحياة كما تبدو للعين، وكما يدل عليها الحس والعقل، لا الشعر ولا الخيال.
فإن كان كل إنسان كما يقولون إما أفلاطونيا أو أرسططاليسيا، فتاغور أفلاطوني، وسعد أرسططاليسي.
نشأ محاميا يرى دنيا الوقائع، ويدرس قانون الحوادث، ويوكل عن الخصم فيدرس قضيته، ويكيف موقفه، فما زال يكبر في حرفته بتقدمه في سنه ونضجه في عقله، حتى صار وكيل الأمة، يدرس قضيتها، ويكيف موقفها، ولكن قضية الفرد مهما عظمت سهل أمرها يسير حلها، وخصمه مهما عظم في مثل منزلته أو قريب منها، أما قضية الأمة فمعقدة أشد تعقيد، والخصم فيها قوي عنيد، يلجأ في المحاربة إلى كل الوسائل: إلى الإغراء والتهديد، وإلى المال والحديد، وما ظنك بخصم في يده كل قوى الاستعمار، من علم ومال، وقوة ودهاء، وحيل وأفانين، وجنة ونار، وإغداق من نعيم، وإلقاء في جحيم، وموكله أعزل، قريب عهد بحيل الاستعمار ودهائه، وألاعيب السياسة وتلونها؟ لا بد لمن يقف للدفاع في مثل هذه القضية من مواهب نادرة، وقدرة قادرة، فهو - من ناحية - عليه أن يقدم السلاح لقومه، ومن ناحية - عليه أن يجرد السلاح من خصمه، وعليه أن يكون فيهم رأيا عاما يعقل ويشعر، ويتحمس ويطيع، ويضحي ويصبر، وعليه أن يكون من الأمة كتلة متجمعة ترهب المنافقين فلا تسمع لهم ركزا، وتحير المستعمرين فلا يجد دعاؤهم منفذا، وعليه أن يتقدم الصفوف فيحدد السير يمينا ويسارا وهجوما وانتظارا، ثم هو - إذ يحمل اللواء - يتعرض لكثرة السهام، فلا يزيده ذلك إلا قوة، وينفى ويحبس ويشرد، فيكسبه ذلك صفاء في نفسه وقوة في يقينه، ويزيد الأمة إيمانا به والتفافا حوله، فتضحي من تضحيته، وتقتبس من شعلته، وتلتهب من حرارته، وتأخذها حالة أشبه بنوبة عصبية، أو غيبوبة صوفية: تؤمن به إيمان العجائز، وتطيعه طاعة المريد للشيخ، وتصم أذنها عن دسيسة الدساسين ومؤامرات المنافقين، ولا يزالون هو وهم في جهادهم حتى يصلوا إلى الغاية أو يقربوا منها.
كذلك كان سعيه، وكذلك كانت أمته، بصر من قومه فعرف مواضع ضعفهم وقوتهم، وعرف كيف يعالج الضعف ويزيد القوة، وبصر بأساليب الاستعمار فعرف كيف يصابرها ويجابهها، وأوتي من فن الخطابة معجزته، ومن اللسن سحره، فما خطب إلا ألهب ولا جادل إلا غلب، ولو كانت قضية الاستقلال يقضى فيها بالمنطق والحق لكسبها في يومه، ولكن الاستعمار لا يسمع للمنطق، وإنما يسمع للقوة، فلتكن قوة الأمة في وحدتها وفي إجماعها وفي حماستها، وفي شل حركة خصمها، وفي التشهير به، وفي الاحتجاج عليه، وفي تغذية هذه الحركات في كل حين، وفي كل مناسبة، وفي خلق المناسبة، فكان كذلك، يغذي الصحف بآرائه، ويغذي الأسماع بخطبه، ويلهب النفوس ببيانه، وينقض تدبير الخصم بإحكام تدبيره، ويطلع كل حين بجديد، ولولا منافذ ضيقة خفية دخل منها الخصم فأفسد بعض الحركة، وشوه منظر الإجماع، لكان له في حياته ما أراد لقومه، ولو استعرضت حال الأمة حين تسلمها وحين سلمها لرأيت كيف كان عظيما في نفسه، عظيما في أثره.
لقد غنى تاغور وغنى سعد، فكان لكل صوته، ولكل نغمته، فأما صوت تاغور فهادئ وديع، يسمعه الرحيم فيذرف من العين دمعة، ويسمعه العاشق فيقبل الطفل في مهده، ويتبسم للبستان لزهره، ويقبل الجمال حيث كان، ويسمعه المتدين فيسجد للطبيعة وبهائها وسحرها وفتنتها، ويسمعه الظلمة فيسخرون، والقساة فيستهزئون، وأما صوت سعد، فيدوي كالرعد، يسمعه المظلوم فيثور، والظالم فيغضب، ويهيج وينقم، فإذا صراع عنيف بين المظلوم والظالم، ومعركة حامية بين المسلوب والسالب، صوت تاغور يؤثر ولكن كالماء في الصخر، وصوت سعد يؤثر ولكن كالريح العاتية في الأشجار الخاوية، ولكل فضل. •••
وأما طلعت حرب فغض نظره عن السماء ونجومها، والبحار وأمواجها، والأزهار وجمالها، كما لوى وجهه عن السياسة ونارها، وحدق في الذهب والفضة والأوراق المالية، وسال لعابه لها حتى كاد يلتهمها، ولكن لم ينظر إليها لنفسه كما فعل غيره، وإلا ما كان عظيما ولا زعيما، إنما أدرك قيمتها لقومه، فسعى لها سعيه، وأنفق في ذلك عمره، رأى المال عصب الحياة، فأيقن أنه إذا قويت الأعصاب قويت الحياة.
قد كان سعد يرى الاستقلال كل شيء، فإذا كان كانت الحرية وكان العلم وكان الخلق وكان المال، وكان «طلعت» يرى المال كل شيء، فإذا كان كانت الحرية وكان العلم وكان الخلق وكان الاستقلال، فكان لكل سيرته، ولكل وجهة هو موليها، رأى «طلعت» أن كل مرض اجتماعي علاجه المال، فعلاج الفقر المال، وعلاج الجريمة المال، وعلاج البطالة المال، وعلاج الجهل المال، وعلاج الاستعباد المال، فكأن المال هو السحر الحال، ما يمس من مرض إلا كان فيه الشفاء، إن الفلاح بائس لفقره ومريض لفقره وجاهل لفقره ومجرم لفقره، والعاطل عاطل لفقره أو فقر بلده، فلا مشروعات ولا جمعيات ولا نقابات ولا شركات، ومن كان في يده المال ولم يعرف كيف يستخدمه كان ماله والفقر سواء، والأجانب يحتلوننا بالمال والعمل أكثر مما يحتلوننا بالسيف والسياسة، وأمة واحدة تحتلنا سياسيا، وكل الأمم تحتلنا ماليا، ولا ينفع استقلال من غير مال، كما لا ينفع السيف ولا قتال، فلتستقل مصر أول كل شيء بمالها، بإنشاء بنكها، وليعمل المصريون في كل أنواع النتاج المصرية حتى السمك والأصداف، ولتمتد اليد المصرية حتى تقلب الأرض وتستخرج خيرها من بطونها، ولتنقب في الصحراء حتى تستخرج كنوزها من أحضانها، فإذا كان ذلك فلا عاطل ولا فقير، بل إن كان كذلك فلا استعمار، فإنما أساس الاستعمار الاستغلال، ثم لنعبر ماءنا بسفننا، وهواءنا بطياراتنا، ونلهو في مسارحنا، ونلبس من مزارعنا، ولا بأس أن نستجلب اليوم بعض الشيء من الخارج فسيكون لنا كل شيء غدا من الداخل، ولنتوسع في كل جهة، ولنمتد في كل اتجاه، وليكن ذلك كله عرضة للخطأ، ولا بأس، فالإقدام مع احتمال الخطأ خير من الإحجام مع الصواب، وسنتعلم من خطئنا أكثر مما نتعلم من صوابنا.
هكذا فكر وقدر، ثم فكر وقدر، ثم أراد وعمل، فكان له بعض ما أراد، ولولا أنه سمح لمخلوقة أن تدخل باب أعماله اسمها «المجاملة»، ولولا أنه لم يحكم التجريد بين نفسه وعمله، ولولا أن بعضهم استباح لنفسه من الأموال المصرية ما لم يستبحه من الأموال الأجنبية، لكان له أكثر ما أراد - ومع هذا فأي عظيم لم تكن له هنات؟!
لقد ترك مصر ولها مؤسسات مصرية تعتز بها، ولها آمال اقتصادية مرسومة محدودة تسعى لاستكمالها، وترك الشرق العربي كله له أمل كأمل مصر، وسعي في سبيل الاستقلال الاقتصادي كسعي مصر، وخلق عند هؤلاء وهؤلاء شعورا حساسا بالوطنية المالية، وفكرا مفتوحا للحالة الاقتصادية، وإدراكا صحيحا للأهمية التجارية والصناعية. •••
رحمهم الله جميعا، فقد كان كل عظيما في ناحيته، نافذ النظر إلى زاويته، وأكثر الله من أمثالهم، فالزمان شحيح في السماح بهم، وصدق الشاعر:
بغاث الطير أكثرها فراخا
وأم الصقر مقلات نزور
العدالة
ينقص الشرق الآن في «العدالة» شيئان: الأول عقلي، وهو الفهم الصحيح لمعناها، والثاني شعوري وهو إجلالها وتقديسها.
ولست أقصد هنا العدل الفردي، كأن يكون عليك دين فالعدل يقضي أن تؤديه والظلم أن تنكره، ونحو ذلك؛ فهذا شيء ساذج وصل الناس إلى فهمه من قديم، وقدسوه من الأزل، وإن غمض منه شيء فتقدم القانون حل أكثر غموضه، وأوضح أكثر تعقيده.
وإنما أريد العدل الاجتماعي والتصرفات التي لها أثر مباشر في حياتنا الاجتماعية، وأهم خطأ نرتكبه في هذا الباب أننا لا ننظر إلى أثر العمل في الأمة، حيث يجب أن ننظر إليها، وننظر إلى الأفراد حيث يجب أن لا ننظر إليهم، ولأضرب لذلك أمثلة قليلة بما يحدث كل يوم: (1)
هذا شخص يعين في عمله؛ لأنه قريب لعظيم، ويترك من هو أكفأ منه لأنه لا قريب له، أو لأنه من حزب الحكومة والأكفأ من الحزب المعارض. (2)
وهذا شخص يستبقى في عمله مع عدم صلاحيته لمرضه، ولا يستغنى عنه ويحل محله الصالح للعمل؛ لأن هذا المريض خدم المصلحة مدة طويلة، أو لأن له أسرة كبيرة ولا عائل لها غيره.
والأمثلة في هذا الباب كثيرة، والخطأ فيها ناشئ من النظر للأفراد، والواجب أن ينظر للأمة، فهذا الذي عين لقرابته أو لحزبيته أساء إلى الأمة أكثر مما أفادها، فقد حرمها عمل من هو أكفأ منه من جهة، ومن جهة أخرى كان في تعيينه إفساد لمعنى العدالة في عقول الناس، وإشعار للأكفاء بأن كفاياتهم ونبوغهم وتفوقهم كل هذا لا يساوي شيئا بجانب القرابة أو النسب أو الحزبية، وضرر هذا على الأمة كبير، إذ يجعلها تقوم ما لا يستحق التقويم، وتهدر ما يستحق الإعزاز، تهدر الكفاية وتعزز المحسوبية، وفي ذلك قلب للعدالة وإفساد لصحة التقويم، وحمل الأكفاء على العدول عن إثبات كفايتهم بعملهم - وهو الطريق المشروع - إلى البحث عن وجيه أو قريب أو حزب، يتقربون إليه من طريق الملق لا من طريق العمل، وحسبك هذا من إفساد للخلق.
وهذا الذي استبقي مع مرضه لخدمته السابقة أو لأسرته الكبيرة، لو نظر فيه إلى الأمة لم يستبق، إذ كيف يعهد إليه بالتدريس - مثلا - وهو مريض، أو بالقضاء بين الناس وهو غير قادر، أو نحو ذلك من الأعمال؟ وكيف ينظر إلى شخصه أو أسرته، ولا ينظر إلى من يتعدى إليهم عمله من التلاميذ أو المتقاضين، وكيف يخلط بين أجر يتقاضاه في مقابل عمل، وبين صدقة يراد أن تجرى عليه في معهد عمل لا في مكان إحسان؟!
إن الأمة إذا عقلت أنشأت معاهد الإحسان بجانب معاهد العمل ولم تخلط بينهما، فلم تبق في العمل إلا من صلح للعمل، فإذا لم يصلح فمكانه معاهد الإحسان، وبذلك نوفق بين مصالح الناس ومصالح المرضى والمستضعفين، فإذا لم نستطع فلنضح الأفراد لمصلحة المجموع.
فالتفرقة يجب أن تكون تامة بين إحسان يعطى لنوع من أنواع الضعف كالفقر والمرض، وبين أجرة تعطى في مقابل نوع من أنواع القوة كعمل أو تفكير أو إدارة. أما الخلط بينهما في السلوك فخلط في التفكير. •••
وخطأ آخر غريب في فهم معنى العدالة يكثر الوقوع فيه، وله أمثلة أخرى: (1)
تكون رئيس مصلحة أو مشرفا على عمل، فيقدم إليك أحد الموظفين في «مصلحتك» خدمة شخصية لك في إصلاح أرضك أو الإشراف على بناء بيتك أو نحو ذلك، فتكون مكافأته منك الترقية في «المصلحة» قبل أقرانه، أو علاوة استثنائية قبل أوانها. (2)
لك صلة شخصية برجل يجالسك ويلاعبك أو يضحكك أو يتولى لك بعض شئونك، أو يهاديك أو يقرظك ويشيد بذكرك، فتبذل جاهك في تعيينه أو ترقيته من غير نظر إلى كفايته أو أحقيته.
هذا الخطأ في فهم العدالة منشؤه الخلط بين النظر الشخصي والنظر للأمة، وملك الشخص وملك الأمة.
معروف يسدى إلى شخصك فتبخل أن تكافئه مما تملك، ثم تكافئه بما تملك الأمة، فيكون الغنم لك والغرم على الأمة، هو ضرب مستور من الرشوة، إذ لا فرق بين هذا وبين قاض يأخذ الرشوة ويحكم حكما ظالما على حساب الأمة، فينتفع هو ويتضرر الناس، بل هذا في نظري أخطر من رشوة القاضي؛ لأن الرأي العام في الشرق تكون على احتقار القاضي المرتشي، وعد الرشوة جريمة منكرة - ولما يتكون بعد لاحتقار الرشوة من هذا الضرب الذي ذكرت، وكل يوم يرى منه صنوفا وألوانا من غير أن يظهر استياؤه ظهورا كافيا.
إذا - نحن في حاجة قصوى إلى التفرقة أيضا تفرقة تامة بين ما يعمل لشخصك وما يعمل للأمة، فما يعمل لشخصك يجب أن تكون المكافأة عليه من مالك، وما يعمل للأمة يكافأ عليه من الأمة من غير خلط ولا اشتباك.
وهذا الضرب يحتاج من ذي الضمير الحي إلى عناية شديدة ومراقبة للنفس دقيقة، فإنه يلبس فيه على النفس، ويدخل فيه الوهم، فيخيل للشخص أن فلانا أكفأ وأحق وذو صفات ممتازة، ولو حاسب نفسه حسابا شديدا لرأى أن حكمه هذا راجع إلى منفعة شخصية كسبها منه أو ملق تملقه به، أو نحو ذلك من مسارب النفس الخفية التي لا ينجو من شباكها إلا الراسخون في العلم، وقليل ما هم.
قرأت مرة أن وزير مالية في دولة أوربية عرف بالنزاهة التامة وتحري العدالة، عرض عليه أمر يتصل بشركة ولها من ورائه ربح، فتردد في إمضائه، إذ لم يتبين فيه النفع لأمته، ولكنه كان مغرما بلعب الورق فدست إليه الشركة من يلاعبه، فلاعبه وخسر له مبلغا كبيرا، ثم بعثت إليه الشركة هذا اللاعب الخاسر يوضح له مسألة الشركة ويبين له فيها وجه النفع للأمة، فدعا بالورق وأمضاه وهو يكذب نفسه ويظن أنه اقتنع بعدالة المطلب، وإنما الذي أقنعه في الحقيقة مكسبه في اللعب. •••
وخطأ ثالث يتجلى أكثر ما يكون في وظائف الحكومة وأمثالها، وهو إهدار الكفاية وحسن الإنتاج، لمراعاة الأقدمية أو نحوها.
ويتجلى هذا الخطأ إذا راعيت أن الآلة الحكومية ليست إلا صورة مكبرة لمصنع أو شركة، فواضح أن المصنع أو الشركة إنما تضع أجور عمالها أو موظفيها على حسب مقدرة كل على الإنتاج وقيمة العمل الذي يقوم به للمصنع أو الشركة، وبعبارة أخرى غرم الشركة أو المصنع يتناسب تمام المناسبة مع غنمها من العامل، فمن لم يعمل لا يأكل، ومن عمل أكل بمقدار ما عمل، سواء كان هذا الموظف جديدا أو قديما، وشابا أو مسنا، فلا بأس أن يكون الجديد والشاب رئيس القديم المسن، لأن الأجرة غير الصدقة، قد يراعى في الصدقة السن والقدم وكبر الأسرة والعجز ونحو ذلك، أما الأجرة فهي نظير عمل ونظير كفاية، مثلها مثل أجرة البيت وأجرة كل شيء، تتناسب مع الشيء المؤجر في جودته أو رداءته، وصلاحيته وعدم صلاحيته، وجماله وقبحه، ثم لا يراعى بعد ذلك أي اعتبار آخر خارج عن الانتفاع بالشيء المؤجر.
فأي نظام لحكومة أو بنك أو شركة يراعى فيه أي اعتبار غير الكفاية والمقدرة وخدمة المصلحة المكلف بها نظام فاسد، ونظام ظالم، ونظام خلط فيه بين الرحمة والعدل، وبين الصدقة والأجر، وبين معهد الإنتاج ومأوى المساكين.
وهذا النظام الذي أدعو إليه وحده هو الذي يفسح الطريق أمام القادرين على العمل، ويخلق التنافس في الإجادة، ويبعث على التسابق إلى المجد، أما نظام الأقدمية وأشباهها فمدعاة للكسل، وانتظار الزمن في جمود لإثبات الأحقية بالأقدمية، وانتشار الخمول الذي نشاهده ونشعر به ونلمسه في كل تصرف، ثم قتل الكفايات، والقضاء على الزهرة الجميلة قبل أن تتفتح، والمكافأة على الضعف وعدم الاكثراث، بحكم الأقدمية.
هناك نظام عادل ونظام ظالم في كلمة، أما النظام العادل فالمكافأة بمقدار الصلاحية والإنتاج، وأما النظام الظالم فالمكافأة بالأقدمية أو المحسوبية أو القرابة أو الحزبية، أما النظام العادل فتقدير الشيء من حيث هو ومن غير خلط بين الرحمة والاستحقاق، وأما النظام الظالم فتقدير الشيء لاعتبارات لا ترجع إلى العمل، والخلط الفاسد بين الرحمة والاستحقاق.
أما النظام العادل فكتربية الأولاد على أساس المصلحة فقط، وأما النظام الظالم فكإضاعة المصلحة لداعي الشفقة.
وجه الحق في هذا الكلام واضح جلي، ولكن تنفيذه في منتهى الصعوبة، وكثير من الناس يؤمن بهذا المبدأ، ولكن يحمله على العدول عنه فساد الميزان في يد أولي الأمر وعدم قدرتهم على الحكم الصحيح، فإذا قرر مبدأ المكافأة للكفاية وحدها فكم يرتكب من الجرائم للمحسوبية والحزبية تحت ستار اسم الكفاية.
فهذا الميزان الذي أدعو إليه إنما يصلح في يد القدير الحازم النزيه، وإلا انقلب إلى ضده وساد الفساد وعمت الفوضى، فهيئ الرجال القادرين على استعمال الميزان الصحيح، ثم ضعه في أيديهم، وإلا كان أسوأ من الميزان الفاسد. •••
هذه هي بعض النواحي العقلية في فهم «العدالة»، أما الناحية الشعورية فهي تعليم الشعب إرهاف الشعور نحوها، والغيرة عليها غيرة البدو على أعراضهم، والصرخة تخرج من أعماق القلب لظلم يحدث وعدالة تنتهك، والثورة على الظالمين حتى لا يعودوا إلى مثل ظلمهم، وتكون رأي عام يحمي العدالة ويقدسها تقديس عبادة في كل مكان: في القرية، فلا يستطيع عمدة أن يظلم؛ لأن الرأي العام للفلاحين يحتقره لظلمه ويهينه لجوره، ويصرخ في وجهه لانحرافه عن العدالة، وفي المركز، فلا يستطيع مأمور أن يظلم؛ لأنه لا يستطيع بعد ظلمه أن يبقى في مركزه لقوة الرأي العام في دائرته، وفي الأمة كلها، فالحكومة تحسب ألف حساب للرأي العام، فيسقطها إذا ظلمت، ويؤيدها إذا عدلت، ويقوم الأحزاب فيها بمقدار حبهم للعدالة.
إذ ذاك - وإذ ذاك فقط - تسير الآلة الحكومية في إدارتها وفي قضاتها وفي كل مرفق من مرافقها نحو العدل، والعدل دائما، لخوفها من الرأي العام، وشعورها التام بأن كل عضو من أعضائها وأنها في جملتها مرتكزة في بقائها على «العدالة»، والعدالة وحدها.
مصدر تاريخي مهمل
هناك مصدر هام من مصادر التاريخ الإسلامي لم أر إلى الآن من اتجه إليه واستفاد منه مع ما فيه من غنى وثروة، وتظهر أهميته إذا عرفنا أنه يلقي ضوءا قويا على الحياة الاجتماعية في العصر الذي يعرض له، وهذا هو الجانب الضعيف في كتب التاريخ عندنا، فأهم نقطة ترتكز عليها هذه الكتب هي الخلفاء والملوك والأمراء والوزراء، أما الشعب نفسه فلسنا نعرف حالته إلا من ثنايا الكلام ومما يذكر عرضا لا قصدا، فإذا كان هذا المصدر الذي أشير إليه يعنى بشرح الحالة الاجتماعية للعصر، فلا شك أنه يكون مصدرا لا يصح إغفاله، وتجب العناية به.
تلك هي «كتب الفتاوى في الفقه»، وما أكثرها، ووجه أهميتها أن مؤلفها - عادة - يكون من أكبر رجال عصره علما وفقها ومركزا، حتى تتجه إليه الأنظار بحكم مركزه العلمي أو منصبه الرسمي، فإذا حدثت أحداث تنازع فيها الناس - وخاصة الأحداث العظام - هرع الناس إليه يستفتونه، وليسوا يقتصرون في مسائل الاستفتاء على المسائل الفقهية بأضيق معانيها، بل على المسائل الاجتماعية بأوسع معانيها، فيكون لنا من هذه الأحداث وشرحها وبيان أسبابها ورأي العلماء فيها صورة بديعة لعقلية الناس في ذلك العصر، ولأسق لذلك مثلا يوضح الفكرة:
فمثلا بين يدي الآن «الفتاوى الحديثية» لابن حجر الهيتمي، وهو إمام مشهور مصري الأصل والمنشأ، وعاش بعض زمنه الأخير في مكة، وكان في القرن العاشر الهجري، فقد ولد في محلة أبي الهيتم من أعمال الغربية سنة 909ه، ودرس في الأزهر، ورجع الناس إليه في الفتوى، ومنذ سنة 940 استقر في مكة وأقام بها إلى أن توفي سنة 974، واشتهر اسمه في العالم الإسلامي، واستفتي من جميع الأقطار.
تقرأ هذه الفتاوى فتجد فيها صورا مختلفة تتبين منها جانبا من الحياة العقلية للمسلمين في هذا القرن.
فهذه صورة ترينا أن العالم الإسلامي إذ ذاك كان مضطربا بين حركتين متناقضتين في شأن التصوف وما إليه: إحداهما الحركة التي قام بها ابن تيمية المتوفى سنة 728 يطعن فيها على ابن عربي وابن الفارض وابن سبعين والغزالي وغيرهم من المتصوفة، ويدعو إلى الرجوع للكتاب والسنة، وترك البدع كالتوسل بالأولياء وزيارة القبور وغير ذلك. والأخرى حركة تؤمن بالصوفية وكراماتهم وشطحاتهم إلى أقصى حد.
وقد كانت هاتان الحركتان عنيفتين في عهد ابن تيمية، وكان من جرائهما اضطهاده وسجنه إلى أن مات، فالتف حوله علماء يؤيدونه وعلماء يكفرونه ويناهضونه؛ وانتقلت هاتان الحركتان إلى القرن العاشر الذي تصوره هذه الفتاوى.
وإذ كان ابن حجر هذا فقيها شافعيا محدثا متصوفا، فقد أيد الصوفية وآمن بكل شيء يدعون إليه، وهاجم ابن تيمية في عنف، وادعى أنه لا يقام لكلامه وزن، وأنه مبتدع ضال مضل جاهل غال، وأفاض في مدح الصوفية الذين هاجمهم ابن تيمية، كابن عربي وابن الفارض والغزالي.
وليس يدل هذا القول على رأي ابن حجر وحده، بل يدل على اتجاه العقلية نحو الحركة التي تؤيد الصوفية وخفوت صوت المعارضين؛ لأن كثيرا من أهل هذا العصر ناصر ابن حجر كما حكى هو، وانضموا إلى الشعب في الانتصار للصوفية بجميع مظاهرها، وقد قص علينا ابن حجر نفسه في هذه الفتاوى أن العالم - في زمنه - إذا اعتقد في التصوف والمتصوفة أقبل الناس عليه وعلى كتبه وتبركوا به، كالشيخ زكريا الأنصاري، أما إن أنكر على الصوفية شيئا من أقوالهم صد الناس عنه ولم ينتفعوا بعلمه، كالشيخ البقاعي، فقد كان عالما جليلا، وكان نابغة في حسن العبارة وقوة الذكاء وسعة العلم، وخاصة التفسير والحديث، وألف في تفسير القرآن وفي مناسباته كتبا - قال ابن حجر عنها: إنها لو كانت للشيخ زكريا لكتبت بماء الذهب، ولكن البقاعي كان يعترض على ابن عربي ويفند بعض أقواله، ويؤلف الكتب في نقده، ويرى في ابن الفارض أنه شاعر جيد، ولكنه متصوف غير جيد، وأنكر على الغزالي قوله: «ليس في الإمكان أبدع مما كان» فهاج عليه العامة، ثم حكم بتكفيره وإهدار دمه، وكاد يتم ذلك لولا تدخل بعض الأمراء في أمره فاستتيب وجدد إسلامه، ودخل عليه بعض أهل العلم فوجده وحده، فما زال يضربه بنعله على رأسه حتى أشرف على التلف، وقام العلماء يؤلفون الكتب في الرد عليه والذب عن الغزالي، وأصيب بضيق التنفس فاعتقدوا أن هذا سر ابن الفارض.
ويرسم الكتاب صورة الاندفاع وراء الاعتقاد بالمغيبات والكرامات والشطحات والجن، وهي صورة تبعث على الشفقة والأسى على ما وصلت إليه العقلية في هذا العصر. •••
ويصور لنا ابن حجر الجدال حول تعليم البنت الكتابة والقراءة، فيستفتى في ذلك، فيفتي بأنها تعلم العلم، ولكن لا تعلم الكتابة، ويروي حديثا أن لقمان مر على جارية تعلم فقال: «لمن يصقل هذا السيف؟» أي أنها تعلم الكتابة لتذبح بها، ويقول: إن المرأة إذا تعلمتها توصلت بها إلى أغراض فاسدة؛ لأنها تبلغ بها في أغراضها ما لم تبلغه برسولها؛ فلأجل ذلك صارت المرأة بعد الكتابة كالسيف الصقيل الذي لا يمر على شيء إلا قطعه، ثم قال: واعلم أن النهي عن تعليم النساء الكتابة لا ينافي طلب تعليمهن القرآن والعلوم والآداب؛ لأن في هذه مصالح عامة من غير خشية مفاسد تتولد منها، بخلاف الكتابة.
ويستفتى في كلمة «الأشراف»: من هم؟ وما تاريخ عمامتهم الخضراء؟ فيذكر أن اسم الشريف كان يطلق في الصدر الأول على من كان من أهل البيت ولو كان عباسيا أو عقيليا،
1
ومنه قول المؤرخين: الشريف العباسي والشريف الزينبي،
2
فلما ولي الفاطميون مصر قصروا الشرف على ذرية الحسن والحسين فقط، واستمر هذا إلى الآن، وأما العمامة الخضراء فلا أصل لها، وإنما حدثت سنة 773 هجرية بأمر الملك شعبان بن حسن، وفي ذلك يقول ابن جابر:
نور النبوة في وسيم وجوههم
يغني الشريف عن الطراز الأخضر
فإذا كانت هذه العمامة الخضراء حادثة، فلا يؤمر بها الشريف ولا ينهى عنها غيره. •••
والفتاوى تدل على انتشار الأحاديث الضعيفة والموضوعة بين الشعب وكثرتها كثرة مفرطة، وتناولها أدق الأشياء في المأكل والملبس والزواج والطب وما إلى ذلك، وسيطرتها على عقول الناس وسلوكهم، والخاصة يهرعون إلى المفتين يستفتونهم في شأنها، فبدلا من أن ينكروها ويبددوها، يجتهدون في الكثير منها أن يجدوا له مخرجا، فيقولون: رواها فلان في كتابه وفلان في مسنده، ولا يقرون بضعف الضعيف ووضع الموضوع إلا في القليل النادر، ويتركونها تأكل عقول الناس وتشعوذ سلوكهم. •••
ثم من غريب أمر هؤلاء المفتين من الفقهاء والمحدثين في ذلك العصر أنهم لا يؤمنون بأن هناك علوما وراء علومهم، ولا تخصصا وراء تخصصهم، ويؤمنون بأن الفقه والحديث كافيان وحدهما للإجابة عن كل سؤال، سواء اتصل بالتاريخ القديم أو بالطب أو بالفلك أو طبقات الأرض أو ما شئت من العلوم، فإذا سئل المفتي عن شيء من ذلك فما عليه إلا أن يقلب كتبه ليعثر على حديث ضعيف أو قول شيخ قديم، فيكون هو الجواب، وهو الصواب، وهو كل الحق، فالشيخ ابن حجر يسأل عن السواد الذي في القمر، فيجيب بأن عليا - كرم الله وجهه - سئل عن ذلك فقال: هو أثر مسح جناح جبريل؛ لأن الله خلق نور القمر سبعين جزءا كنور الشمس، فمسحه جبريل بجناحه فمحا منه تسعة وستين جزءا حولها إلى الشمس، فأذهب منه الضوء وأبقى فيه النور، فذلك قوله تعالى:
فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة .
ويفتي بأن القمر يقطع الفلك في شهر والشمس لا تقطعه إلا في اثني عشر شهرا.
ويفتي في المطعومات وما يناسب منها وما لا يناسب، ويفتي في مقدار المدة بين الأنبياء، وفي عدد زوجات سليمان وسرياته إلخ، مما يدل على أن هؤلاء المفتين لا يحترمون للعلم اختصاصه. •••
ثم كان الناس فارغين يبحثون في أوهام ويتساءلون عما لا يمكن العلم أن يصل إليه، ويتجادلون في فروض، ويضيعون أوقاتهم فيما لا ينبني عليه في الحياة عمل، وهم يتساءلون: هل يجوز زواج الجن؟ وهل يروى عنهم الحديث؟ وهل خلقت الملائكة دفعة واحدة أو على دفعات؟ وهل الجن تتشكل كالملائكة؟ وهل الجن يموتون؟ وهل كان إبليس عارفا بالله ثم سلب منه ذلك؟ وهل يدخل مؤمنو الجن الجنة؟ وهل الأفضل المشرق أو المغرب؟ وهل تصح الصلاة خلف الجن؟ وهل أذن للأنبياء أن يخرجوا من قبورهم ويتصرفوا في الملكوت؟ إلخ .
تلك تصورات فاشية بين المسلمين في القرن العاشر، لم يجدوا في الحياة جدا فهزلوا، ولم يجدوا من ينير عقولهم فسخفوا، وما زلنا إلى الآن نرث تركتهم المثقلة بالديون، ويعاني المصلحون أشد العناء في محو هذه الأوزار وإزالة هذه الآثار. •••
هذه بعض صور لما عثرت عليه في هذه الفتاوى، وقبل ذلك قرأت في «فتاوى ابن تيمية» فوجدت فيها من الفوائد التاريخية ما لم أجده في كتب التاريخ نفسها.
أفلست ترى - بعد ذلك - أن هذه الفتاوى مصدر تاريخي هام لتأريخ الحياة الاجتماعية في العصور المختلفة في العصور المختلفة، وأن المؤرخين لم ينصفوا في إهمالها؟
الديمقراطية الأرستقراطية
أليس عجيبا هذا الوصف؟
إنه كما تصف الحلو بالمر، والأبيض بالأسود، والطويل بالقصير، والكبير بالصغير - وإن هذا لا يجوز إلا في عرف المجانين.
ولكن دنيا الواقع غير دنيا النظريات، فمثل هذا يحدث تحت سمعنا وبصرنا وذوقنا كل يوم.
أفليس الليل الواحد طويلا قصيرا؟ طويلا في الهجر، قصيرا في الوصل، طويلا في الشقاء، قصيرا في الرخاء؟
أوليس ألف دينار عند الغني الواسع الثراء شيئا تافها حقيرا صغيرا، وفي نظر الفقير البائس شيئا عظيما كبيرا.
أولم يقل الله - تعالى -:
إنهم يرونه بعيدا * ونراه قريبا ؟
أولم يقل الشاعر:
منعت تحيتها فقلت لصاحبي
ما كان أكثرها لنا وأقلها
إن أمثال ذلك كثير، فلا عجب - إذا - أن نرى أرستقراطية ديمقراطية، وديمقراطية أرستقراطية.
فأما الأولى فتشاهدها كل يوم، في الفتاة من «بنات الذوات»، تصور في زي فلاحة؟ تلبس لباسها، وتحمل ماعونها، وتتحلى بحليها، وتتظاهر بوشمها.
وتراها في السيارة الفخمة الضخمة تعطب في الطريق فيجرها إلى «مقرها» حمار هزيل، وتراها في السيد العظيم والغني الكبير يتواضع فيؤاكل الفلاحين جبنهم وبصلهم وعدسهم، وتراها في الأسر العريقة في المجد، أو ورثة بيت الخلافة والملك، يعدو عليهم الزمن الغادر فيضيع ملكهم، ويبدد مالهم وثروتهم، فيعيشون في بيت صغير وبإحسان قليل، ويحتفظون بحسن مظاهرهم ولامع طلائهم، وتراها وتراها، في كثير من أمثال ذلك.
وأما النوع الثاني، وهو «موضوع العنوان» فمثله قوم يتغنون بالديمقراطية ومزاياها وخيراتها، فيقول الناس : آمنا. فإذا جاء دور التطبيق رأيت الساسة الجامدين يفزعون إلى أن مبادئ الديمقراطية إنما تطبق على أمم خاصة وأجناس خاصة، وليست هي لكل شعب ولا كل جنس، فأما في أوربا وأمريكا فديمقراطية حقة، وأما في غيرهم من الشعوب فشيء يصعب وصفه ويدق بيانه، ولعل أصدق وصف له أنه ديمقراطية أرستقراطية؛ لأنها ذات لونين متباينين في مظهرها ومخبرها، واسمها ومسماها.
أذكرني ذلك قوله تعالى:
ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل ، فهو يحدثنا أن من أهل الكتاب من إن تأمنه على عظيم من المال يؤده إليك ولا يخنك فيه، ولا يفرق بين من له المال من أي جنس ومن أي دين؛ لأن الأمانة واجبة لأي كان، والفضيلة واجبة في أي زمان ومكان، ومع أي إنسان، فليس أكل مال الغير حراما إن كان من دينه وجنسه، وحلالا إن كان من غير دينه وجنسه، ويحدثنا عن قوم آخرين نزعوا غير هذا المنزع الحق، فكان «من اليهود من قالوا: لا حرج علينا فيما أصبنا من أموال العرب ولا إثم لأنهم على غير الحق وإنهم مشركون»،
1
ولقد نزع قوم من المسلمين أن يعاملوا أهل الكتاب هذه المعاملة، فقال رسول الله: «ما من شيء كان في الجاهلية إلا هو تحت قدمي، إلا الأمانة، فإنها مؤداة إلى البر والفاجر»، وجاء رجل إلى ابن عباس، فقال له: إنا نصيب في العذق من أموال أهل الذمة الدجاجة والشاة.
فقال ابن عباس: فتقولون ماذا؟ قال: نقول ليس علينا بذلك بأس، قال: هذا كما قال أهل الكتاب:
ليس علينا في الأميين سبيل ، لا تحل لكم أموالهم إلا بطيب أنفسهم.
إن المعاملة على أساس الديمقراطية كالصدق والعدل، والوفاء بالعهد، حق لكل إنسان على كل إنسان، وواجب على كل إنسان لكل إنسان، وليست كالعملة، إنما تروج في بلدها، ولا كالعرف والمواضعات، لكل أمة عرفها ومواضعاتها.
ما معنى الديمقراطية؟ إنها حكم الشعب بالشعب لخير الشعب، إنها القضاء على تحكم طبقة ممتازة - في الشعب بأجمعه، إنها نشر التعليم ونشر المساواة والحرية والإخاء بين أفراد الشعب، إنها هدم العوائق في سبيل رقي الشعب، إنها حد للغنى الواسع وقضاء على الفقر المدقع، إنها حرب على الامتيازات السياسية والاقتصادية، إنها إفساح للفرد أن ينمي ملكاته وقواه حسب استعداده، إنها تربية للرأي العام وتعويده الرقابة على الحكومة وعلى توجيه الحكام للخير العام، إنها روح عامة تسيطر على الشعب فتوجهه لخير الجميع، إنها قضاء على رق الأفراد ورق الأمم، وما يستعبد الأفراد من جهل وشهوات، وما يستعبد الأمم من استغلال واستعمار، إنها ثورة على استعباد الأقليات للأكثريات، والأفراد للأمم، والأمم للأمم.
إن كانت كذلك وهي خير للغرب، فهي خير للشرق، فأي معنى من هذه المعاني محلي لا يصلح إلا في مكان خاص وزمان خاص؟ هي نظام يمتحن كما يمتحن الذهب، فإن كان ذهبا حقا فهو ذهب في مصر والشام وأمريكا واليابان والسند والهند وفرنسا وإنجلترا، وإن كان ذهبا مزيفا لم يصلح في أي مكان، ولم تكن له قيمة في أي قطر، قد تختلف أعراضه في الأقاليم بحسب اختلاف بيئتها، ولكن الجوهر في كل البيئات واحد.
إن كان هذا معنى الديمقراطية فهو يتنافى مع الانتداب والاحتلال ومع سائر هذه المترادفات، ولماذا يظهر ظهورا بينا أن الديمقراطية لا توافق أن تحكم فرنسا إنجلترا أو إنجلترا فرنسا، ولا يكون مثل هذا الظهور في حكم الغرب للشرق؟ إن الديمقراطية عدو للاستبداد في كل شكل من أشكاله، وتحت أي اسم من أسمائه.
لقد وصلت الديمقراطية في الأيام الأخيرة من الأجيال المتعاقبة إلى مبادئ قويمة ظهرت على لساني زعيميها روزفلت وتشرشل، فقررا مبدأ احترام رغبة الشعوب في اختيار نظام حكومتها وحكمها كما تشاء، ومبدأ حرية الحصول على المواد الأولية اللازمة لها وتصريف محصولها كما تشاء، ومبدأ التعاون الاقتصادي بين جميع الأمم، ومبدأ حرية البحار وحرية التجارة، وهي مبادئ في غاية الأهمية لخير الإنسانية.
ولكن هل يحق للشرقيين أن يفهموا أن هذه المبادئ تنطبق على الشرق كما تنطبق على الغرب، وأن سيكون لبلاد المغرب وفلسطين وسوريا والعراق ومصر والسودان رأيها في حكومتها ونظام حكمها وحرياتها السياسية والاقتصادية؟
إني ألمح شبه تناقض بين هذه المبادئ السامية وبين الخطابات المتبادلة بين القائدين «ليتلتون» و«ديجول» في امتيازات الدول الأوربية وحقوق الدول الأوربية في سوريا، كما ألمح شبه تناقض بين هذه المبادئ السامية والاعتراف القريب في البرلمان البريطاني بأن موقف الحكومة البريطانية نحو اليهود في فلسطين لم يتغير.
وإني آمل ويأمل الشرق معي أن تكون هناك التزامات صريحة من قادة الديمقرطية أمثال روزفلت وتشرشل بأن هذه المبادئ إنسانية عامة لا محلية خاصة، وأنها وضعت لخير الشرق كما وضعت لخير الغرب.
إن الديمقراطية في نظام الحكم كالعلم في نظام العقل، كلاهما صالح كل الصلاحية، بل واجب كل الوجوب، للإنسان من حيث هو إنسان، ولا فرق بين بدوي وحضري، وشرقي وغربي، وليس هناك قواعد من العلم صحيحة بالنسبة للحضري غير صحيحة بالنسبة للبدوي، وصحيحة بالنسبة للشرقي غير صحيحة بالنسبة للغربي، فقاعدة العلم إما أن تكون صحيحة للشرق والغرب أو فاسدة للشرق والغرب، قد يحدث الاختلاف في مناهج التعليم، وفي طرق البيداجوجيا بين أمة وأمة، أما العلم ذاته فلا خلاف فيه، كذلك الشأن في الديمقراطية، أن تحكم أمة نفسها بنفسها، وأن تكون الأمة مصدر حكمها، بمنزلة قواعد العلم، فإن كان خلاف بين أمة وأمة ففي الشكل دون الجوهر.
بل إن الشرق عرف الديمقراطية قبل أن تعرفها أوربا، وحاربت دياناته الشرقية الاستبداد، ودعت إلى أن الناس سواسية لا تفاضل بينهم إلا بالأعمال، وحاربت الجهل ودعت للعلم، وألزمت الخضوع للقانون العادل، وطالبت بالثورة على الظالم، قبل أن تدعو إلى ذلك الثورة الفرنسية، نعم إنها لم تسم ذلك كله ديمقراطية، بل سمته أسماء مختلفة، ولكن ما قيمة الألفاظ بجانب المعاني؟ ولولا عواد عدت على الشرق فأفسدت عليه سيره، وحرمته نظمه العادلة، لكان هو القائد، وهو المشرع، وهو رافع لواء الحضارة، فمن الظلم أن يقال له: إنك لا تصلح للديمقراطية، وإن تاريخك سلسلة استعباد .
إني أربأ بدعاة الديمقراطية أن يكونوا يدعون باسمها ومعناها ومبادئها السامية في الغرب وباسمها فقط في الشرق، كما أربأ بالشرق أن يتلهى بالألفاظ ويتعلل بالمظاهر، فمن الحق أن الديمقراطية خير للشرق كما هي خير للغرب، ولكنها الديمقراطية التي في ذهن الإنجليزي أو الأمريكي لبلاده، وعلى أساس وحدة المعنى ووحدة التطبيق، وإلا كانت ديمقراطية أرستقراطية.
كما أرجو أن تسفر هذه الحرب عن انتصار الديمقراطية الصادقة، ويكون من نتائجها أن يتعمق الشرقي في معناها، وأن يوسع الغربي مداها، وأن يطبق الجميع ما تدعو إليه من إخاء.
بل أن يتخذ كل من اليوم عدته، ويرسم للغد خطته، وأن نتصارح، فالصراحة خير للجميع.
دمية في دمنة1
الشيخ يوسف الشربيني أديب مغمور، لم أر من ترجم له، احتقارا لشأنه، وازدراء بتآليفه؛ لأنها تآليف شعبية، وليست تآليف أرستقراطية - وقديما غبن الأدباء الأدب الشعبي - ولأنه كذلك ماجن إلى أقصى حدود المجانة، لا يتحرج من استعمال كلمات الفحش عارية صريحة في غير كناية ولا إيماء، ولا يخضع لمواضعات الناس في الوقار والاحتشام، وإذا تزاحم في فكره كلمتان إحداهما مؤدبة والأخرى داعرة، اختار الثانية وهجر الأولى عن قصد وتعمد، فالقارئ المهذب يشمئز من قراءتها ويكره عري كلماتها وفحش تعبيراتها، ولكنها مع ذلك تحوي صورا جميلة، وترسم أشكالا بديعة قد تعجز الكتب الأرستقراطية عن رسمها وتصويرها.
بين أيدينا من كتبه كتاب اسمه «هز القحوف في شرح قصيدة أبي شادوف»، وقد ذكر في أثناء الكتاب أنه ألف كتبا أخرى، ولكني لم أرها.
ويدل هذا الكتاب على أن المؤلف من بلدة «شربين» وأنه طلب العلم بالأزهر، وحضر على أستاذه الشيخ القليوبي الذي كان عالما جليلا كثير التأليف، ومات سنة 1069ه، وأنه ألف هذا الكتاب بإشارة من الشيخ السندوبي، وكان من أكابر علماء الأزهر وأدبائه ومؤلفيه، ومات سنة 1097ه.
فصاحبنا إذا عاش في القرن الحادي عشر الهجري، وقد حدثنا أنه حج سنة 1074ه ولم يتحرج من أن يذكر عن نفسه أنه كان متهتكا يحب الغلمان ويتتبعهم، ولست أدري أكان ذلك حقيقة يذكرها أم مزاحا يمزحه.
أما الصورة الحسناء التي يستطيع القارئ أن يخرج بها من هذه الدمن، فهي وصف الفلاحين وبؤسهم في القرن الحادي عشر.
قصيدة أبي شادوف هذه قصيدة عامية، لست أدري من نظمها، ولعله هو ناظمها، وموضوعها فقر الفلاح وتعاسته، فجاء الشربيني هذا وشرحها في جزء كبير يقع في نحو 230 صفحة كبيرة شرحا هزليا استطراديا، فلا تأتي كلمة حتى يتلاعب بها ويهزئ نحوها وصرفها واشتقاقها، وفي أثناء ذلك يذكر معلومات تاريخية طريفة تصور في جملتها الصورة التي أشرنا إليها.
يصف الفلاح وبؤسه، وطول معاشرته للبهائم، وحمله للطين والسماد، وملازمته للمحراث والجرافة، ودورانه حول الزرع والجرن، وجهله إلا بما يتصل بزراعته، كالساقية والليف والحزام والنبوت، وقد نشأ عن هذا كله غلظ في ذوقه، فأفراحه وأعراسه ليست إلا صراخا وصياحا، وورده عند الأسحار ليس إلا التفكير في الغنم والأبقار، و«حط العلف وهات الكلف»، وأسماؤهم دالة على ذوقهم، فجنيجل وجليجل، وزعيط ومعيط، وأسماء نسائهم شباره وشراره، وعليوه وحليوه، وخطيطه وعويطه، وأولادهم مكشوفو الرأس، غارقون في الأدناس، وفقهاؤهم جهل مركب وخلط في الدين، وقلة عقل، وأدبهم وأشعارهم وقصصهم من نوع سخيف، ونظم خسيس، وتشابيه باردة، وخرافات باطلة.
وقد أطال في كل باب من هذه الأبواب، وذكر الشواهد والقصص والأمثال بإسهاب.
والكتاب خصب جدا من الناحية الاجتماعية في هذا العصر، فهو يصور لنا الفلاحين السذج، وكيف يستغفلون إذا دخلوا القاهرة، وكيف ينظرون إلى مشاهدها ومرافقها نظرة بلهاء، وكيف يفسرونها تفسيرا مضحكا، ويقارن بين حياة المدن وحياة الريف، وعلم المدن وجهل الريف، وذوق المدن وذوق الريف، في المأكل والمشرب والملبس وما إلى ذلك.
ويصور لنا تصويرا رائعا بؤس الفلاح عند تحصيل الأموال الأميرية، فهذه مشكلة المشاكل ومصيبة المصائب، فيقول: إنه - دائما - معرض للهلاك من ضرب وحبس وفقدان لذة الأكل والشراب، وهو دائم التفكير في المال الذي عليه آناء الليل وأطراف النهار، والمؤلف يحمد الله على أنه ليس له أرض، ولا يشتغل بالفلاحة، ويتمثل بقول البهلول:
إذا ركب الملوك على الجياد
وقد شدوا البنود على القصاد
ركبت قصيبتي ولبست مسحي
وسرت كسيرهم في كل وادي
فلا الأجناد تطلبني بمال
ولا الديوان يغلط في عدادي
ويقص علينا أن النصراني (وهو الصراف) إذا حضر القرية أو الكفر لأخذ المال، كثر الخوف والحبس والضرب لمن لم يقدر على الدفع، فمن الفلاحين من يقترض الدراهم بالربا، أو يبيع زرعه أوان طلوعه بما ينقص عن بيعه في ذلك الزمن، أو يبيع بهيمته التي يحلبها لعياله، أو يرهن مصاغ زوجته أو يبيعه كرها، وإن لم يجد شيئا أعطى ابنه رهينة حتى يدفع، وقد يحبس ويعذب حتى يدفع، وقد يهرب ليلا فلا يعود إلى بلده قط، ويترك أهله ووطنه وعياله من هم المال وضيق المعيشة، وروى لنا في ذلك أمثالا مشهورة عندهم نحو: «مال السلطان يخرج من بين الظفر واللحم» و«يوم السداد عيد» إلخ، ويصف لنا «السخرة والعونة» وصفا دقيقا، فالملتزم يأخذ القرية أو الكفر يزرعه على حسابه ويسمي هذا «زرع الوسية»، فإذا احتاج الأمر لتطهير الترع، أو حفر القنوات، أو نقل الطين، أو ضم الزرع، نادى الغفير: «يا فلاحين العونة يا بطالين» فيخرجون في صبيحة اليوم جميعهم ويعملون ما يؤمرون به من غير أجر، وثم نظام آخر: وهو أن يفرض على كل بيت عدد معين للعمل في العونة، فيقولون: يخرج من بيت فلان شخص، وبيت فلان شخصان، وهكذا، وفي كلتا الحالتين من تأخر أو تكاسل أخذه «المشد» وعاقبه وضربه وغرمه دراهم معلومة، ومن الناس من يختبئ في الفرن إذا نودي على العونة أو نحو ذلك.
وإذا نزل النصراني والمشد والملتزم بلدة فأكلهم وشربهم على الفلاحين يقسمونه عليهم، ويسمى «وجبة»، كل على حسب أرضه وقراريطه وأفدنته، وربما رهنت المرأة شيئا من «مصاغها» أو ملبوسها على دراهم، واشترت بها الدجاج لطعامهم، وربما حرمت أولادها الدجاج والسمن والدقيق وقدمته إلى هؤلاء، و«النصراني إذا نزل قرية لقبض مالها يحضر إليه الفلاحون، ويكرمونه ويرسلون له الوجبة، ويتذللون بين يديه، ويطيعون أمره ونهيه، بل يكون غالبهم في خدمته، وبعض الملتزمين يولي النصراني أمر القرية فيحكم فيها بالضرب والحبس وغير ذلك، فلا يأتيه الفلاح إلا وهو يرتعد من شدة الخوف».
وأما «الكاشف» فهو رئيس الإقليم، وإذا أقبل على بلدة يقرع له الطبل، فيخاف منه أهل البدع وأرباب المفاسد، ويأتي إليه مشايخها، ويقفون بين يديه في أشد ما يكون من الرعب والخوف، ويستخبرهم عن أحوالهم ثم بعد ذلك يسرعون له في الأكل والشرب والتقاديم على ما جرت به العادة، وإذا وقع في قرية فتنة أو خرج أهلها عن طاعة «أستاذهم» أو «قائم مقام القرية» هجم الكاشف عليهم بعساكره وأخرب القرية وقتل منهم من قتل، وقد يحصل منه ومن أتباعه نهب القرية، وتكليفهم في المأكل والمشرب فوق طاقتهم، وفي ذلك يقول أبو شادوف من قصيدته: «ومن نزلة الكشاف شابت عوارضي
وصار لقلبي لوعة ورجيف»
ويصور لنا أن أهل إقليمه ينقسمون قسمين: منهم من يتعصب لقبيلة سعد، ومنهم من يتعصب لقبيلة حرام،
2
فإذا ثار الشر تنادى قوم: «يا لسعد» وآخرون: «يا لحرام» فتهجم سعد وحرام على البلد، ويقع بينهم الحرب والعناد، وتخرب بسببهم البلاد، وتقطع الطريق على العدو والصديق، وفي ذلك يقول المؤلف في أرجوزته التي لخص فيها كتابه.
فذا يصيح يا لسعد أسعدوا
وآخر يا لحرام أنجدوا
فذانك اللفظان دون لبس
عندهم أمر بقتل النفس
فيخربون الأرض بالغارات
ويرصدون القتل في الطرقات
وإن أتتهم للقتال عسكر
فروا إلى جبالهم واستتروا
وفي الكتاب صورة لنظر الفلاحين والمصريين للمماليك والأمراء الأتراك وأتباعهم، فهي نظرة تعظيم وتبجيل وإعظام يبلغ حد التقديس، فهم يتطلعون إلى معيشتهم، وقصارى أملهم أن يقلدوهم في شيء من تصرفاتهم، فهذا فلاح ذهب يؤدي المال إلى الملتزم التركي، فرأى كيف يعيش وكيف يعامل زوجته، فلما عاد إلى بلده أراد أن يسلك مع زوجته «أم معيكة» سلوك الأمير مع زوجته الأميرة، فانتهت بكارثة، وهؤلاء ثلاثة من الفلاحين يريدون أن يزوروا مصر فقالوا: «إن مدينة مصر كلها جنادي وعسكر يقطعون الرءوس، ونحن فلاحون إن لم نعمل عملهم ونرطن معهم بالتركي وإلا قطعوا رءوسنا» وتعاقدوا فيما تعاقدوا عليه أن يتعلموا بعض الألفاظ التركية ، ثم يدخلون الحمام، فإذا طالبهم صاحبه بالأجر صاحوا في وجهه بالكلمات التركية فأخلى سبيلهم، وإذا رجعوا إلى بلدهم رطنوا بالتركي فخافهم مشايخ الكفر وأجلوهم وأعظموهم - إلى كثير من أمثال ذلك من الصور البديعة.
والكتاب بعد ذلك معجم غير مرتب في بيان مصطلحات الفلاحين في ملبسهم وأنواع مأكولاتهم، ومرافقتهم ومواويلهم، وكل ما يتصل بهم. •••
إن أخذ عليه شيء فهو هذا الفحش المنتشر فيه، والبذاءة في كل نواحيه، وأنه عرض لأمر الفلاح وبؤسه عرض الزاري الناقم، لا عرض العاطف الراحم، وكان أولى - وقد رأى هذا البؤس الذي هو فيه، والظلم الواقع عليه - أن يصرخ في وجه من ظلمه وأن يستغيث لإنقاذه مما هو فيه، وألا يزيد تعاسته بالزراية به، وألا يعيبه على ما وصل إليه اضطرارا، بل يعيب من أنزله هذه المنزلة الوضيعة اختيارا، فإن لم يستطع أن يصل ذلك لقسوة الزمان وظلم الحكام، فلا أقل من أن يلون صوره بالعطف الجميل على حاله، والرثاء الباكي لبؤسه وشقائه.
وأخشى أن تكون الخطوط التي رسمها «الشربيني» ليبين الفواصل بين حياة المدن في نعيمها ورخائها، وحياة الريف في بؤسه وشقائه، لا تزال حافظة لنسبتها إلى اليوم، وقد مضى منذ تصويرها ثلاثة قرون، بل أخشى أن تكون الفروق قد زادت، والفواصل قد تباعدت، فالمدنية الحديثة غزت المدن كثيرا ولم تغز الريف إلا قليلا، هذه الكهرباء تفتن أفانينها في المدن، والريف لما ينعم بماء نظيف؟ وهذه القصور الشامخة في المدن والحدائق الغناء، والشوارع النظيفة، والنساء السافرات، والكاسيات العاريات، ودور التعليم المختلفة الألوان، ودور الملاهي المتعددة الأشكال، إلى ما لا يحصى من ضروب الترف والنعيم، والفلاح في مأكله ومشربه ومسكنه ونظام حياته ونوع أحاديثه ومجال علمه وعلاقته بأرضه وأدوات زرعه، لم تختلف كثيرا عما كانت أيام الشربيني، بل أيام عمرو بن العاص، بل أيام رمسيس، بل أيام منا أومنيس، والأجيال المتعاقبة، وميزانيات الدول المتعاقبة، والحكومات المتعاقبة، أعجبتها المدن فزادت في الإنفاق عليها، ولم يعجبها الريف فضيقت عليه، وعيب «الشربيني» أنه رأى بؤس الفلاح تقع تبعته عليه، ولم يدرك أن بؤسه نتيجة عوامل اجتماعية كثيرة ليس هو مسئولا عن أكثرها، لقد رأى المصب ولم ير المنبع، ورأى النار تشتعل في البيت ولم ير من أشعلها، ورأى النتيجة ولم ير مقدماتها.
فأما ناحيته الفنية فالشربيني إذا جد فهو أديب واسع الاطلاع في الأدب، حافظ للشعر الكثير مستحضر له في مناسباته المختلفة، قارئ للكثير من الكتب الأدبية والتاريخية المجهولة، كانت في زمانه، عارف بكتب المحاضرات والمسامرات، مقتبس منها، محكم لوضعها في مواضعها، دارس لحالة الناس في عصره دراسة تفصيلية، ولا يستحيي أن يضرب مثلا بنفسه وبما حدث له، كما لا يستحيي أن يروي عن أمه لغزا في البرغوث، ولا عن الحشاشين أحاديثهم في مجالسهم، على الطريقة التي سلكها الجاحظ في كتبه؛ وإذا هزل ففنه في الهزل غريب حقا، قيم حقا، لولا فحشه وعريه، له خيال واسع في المجون، وقد هزأ النحو والصرف والاشتقاق بأسلوب جديد، ولأسق لك مثلا في هذا عند تصريفه لكلمة «أبو» فهو يقول: إنه «مشتق من آب إذا رجع، قال ابن زريق:
ما آب من سفر إلا وأزعجه
رأي إلى سفر بالرغم يجمعه
وكذلك الأب؛ لأنه كل ساعة يرجع إلى ولده ويفتقده وينظر إليه ... وقيل: إن «أبو» فعل ماض ناقص، وأصله «أبوس» ويدل على ذلك قول الشاعر:
قالوا حبيبك وارى ثغره صلفا
ماذا تحاول إن أبداه قلت: أبو
أي أبوس، وإنما حذفت السين لقصد حصول اللبس على السامع، إذ هو اللائق بهذا عند الأدباء، والأقرب إلى السلامة من الواشين والرقباء، وقيل: لأن السين في الجمل بستين والستون في البوس إسراف عند البعض إلخ.
ويقول في «مترد»: وهو إناء من فخار أحمر، وهو غالب أواني الريف، وأصله مركب من فعلين مات ورد؛ لأنه لما عمل أولا وكسر عملوا بدله فقالوا: مات ثم رد، ثم حذفوا الألف وجعلوها علما، وقيل: إنه في الأصل عمل بمدينة تسمى ما تريد التي ينسب إليها الشيخ الماتريدي نفعنا الله به، وهكذا.
فهو في هزله، ولعبه بالنحو والاشتقاق، واستطراده الغريب وخياله الماجن البعيد، من أوائل الكتاب الهزليين في الأدب المصري الحديث، ثم تفقد بعض الحلقات، ويظهر بعد «أبو نضارة» في صحيفته، والشيخ حسن الآلاتي في كتابه «ترويح النفوس ومضحك العبوس» ثم عبد الله النديم في صحيفة «الأستاذ» ثم «حمارة منيتي»، ثم الكشكول، ثم آخر ساعة، فهي مدرسة كلها واحدة فكاهية متتابعة، خليقة بالدرس اللطيف، والبحث الطريف.
الإنسانية والقومية
فكرة القومية أو الوطنية كانت أثرا من آثار الثورة الفرنسية، فقبلها لم تكن الدول معروفة على النحو الذي نعرفه الآن، ثم ثار العالم هذه الثورة، وكان من نتائج ثورته انقسامه إلى ممالك على النمط الحالي، وبثت في كل مملكة تعاليم الوطنية تدعو إلى الاحتفاظ بالوطن والتعلق به، وتوجيه كل النظم الاجتماعية والاقتصادية ونظم التربية لخدمته.
حتى أصبح من مميزات القرن التاسع عشر انتشار روح القومية واشتدادها وتجمعها حول المملكة، وتوجيه كل نظم الدولة نحو خدمة هذه النزعة الوطنية، وحل التعصب الوطني محل التعصب الديني الذي كان سائدا في القرن السابع عشر، فبعد أن كان أكبر الحماسة وأكثر مظاهر التعصب دينيا، وأشد النزاع دينيا، بين نصارى ومسلمين ويهود، وبين الفرق المختلفة من كل دين بعضها وبعض، أصبح أشد النزاع بين الأمم المختلفة ولو اتحدت دينا، كما هو المشاهد اليوم، فأكبر النزاع بين أمم متحدة دينا تقريبا، وأصبح النزاع بين الوطنية الإنجليزية والوطنية الألمانية، والوطنية الإيطالية والوطنية اليونانية إلخ.
وكان من أثر هذا أن أسست الأخلاق على نفس الأساس السياسي، فكما أن سياسة كل دولة ينبغي أن تخدم مصالح دولتها - أولا - كذلك أسست الأخلاق على مبدأ القومية، ينظر ساسة كل أمة إلى مصالح أفرادها، وفي مصالح مجموع الأفراد الذين يعيشون داخل حدود الدولة الجغرافية فقط، وكذلك الأخلاق لونت هذا اللون أيضا، فكانت أخلاقا قومية دعا إليها مكيافيلي وهوبز وأتباعهما، فعد السلوك فضيلة إذا أطاع الرجل فيه دولته وخدم أمته، بقطع النظر عن أثر هذا السلوك للأمم الأخرى.
والأخلاق القومية تساير السياسة القومية في جميع مراحلها، كلتاهما لا تنظر إلا إلى مصالح قومها، فقد تتنافى السياسة القومية مع العدل العام، فتدعو السياسة إلى اتباع السياسة القومية، وكذلك تدعو الأخلاق القومية، يتجلى هذا في معاملة الأمم بعضها لبعض، وفي معاملة الأمم المستعمرة للأمم المستعمرة، وعلى هذا الأساس وضعت النظم الاقتصادية لكل أمة، من حماية متاجرها ومصنوعاتها، وفرض الضرائب «الجمركية» وهكذا ، وعلى هذا الأساس وضعت سياسة الإغارة من دولة على دولة إذا شعرت بقوتها وشعرت بمصالحها الخاصة، من غير نظر إلى شعور الآخرين ومصالحهم، وكذلك أخلاق الأفراد في كل أمة لونت هذا اللون، فالعمل خير إذا مكن أمته من مصلحة عاجلة أو آجلة، وشر إذا أضاع على أمته مصلحة عاجلة أو آجلة.
وقد توجهت هذه النزعة القومية بالحرب العظمى الماضية، وبالحرب الأشد عظمة الحاضرة، فقد تجلت النزعة القومية على أتمها في السياسة والخلق على السواء، فسياسة كل أمة محاربة موجهة إلى مصلحتها وإضعاف عدوها بكل الأساليب الممكنة، وسلوك الأفراد موجه طوعا أو كرها لخدمة السياسة القومية. •••
وهناك نزعة أخرى مخالفة لهذه كل المخالفة، وهي النزعة الإنسانية لا القومية في السياسة وفي الخلق.
تدعو هذه النزعة إلى النظر إلى الأشياء نظرة واسعة، لا محدودة بحدود الأمة، ولكن بحدود العالم، فالعمل خير إذا زاد خيره عن شره للعالم، وشر إذ زاد شره عن خيره للعالم.
وجدت هذه النزعة قديما فقالوا: «الإنسان أخو الإنسان» إلخ، وأيدها بعض الفلاسفة أمثال «كانت» القائل: «لا تعامل إنسانا ما على أنه وسيلة، ولكن عامل كل إنسان على أنه غاية»، وبنتام القائل: «قدم أكبر خير لأكبر عدد».
يتطلب هذا المبدأ عدم اعتبار أي جنسية أو لون أو أي قومية في حسبان العمل خيرا أو شرا، فالظلم ظلم من غير نظر إلى من وقع منه أو من وقع عليه، والعدل عدل سواء صدر من أسود أو أبيض، وعومل به أسود أو أبيض، ويتطلب هذا النظر كسر الحدود الجغرافية والسياسية والاقتصادية، وتقويم المسائل بالنظر الواسع.
وكانت النصرانية والإسلام أقرب إلى النظر الثاني، فقد أهدرا الجنسية واللونية والقومية واللسان والدم، واعتبر الأساس وحدة العقيدة، فلا فرق أمامها بين أسود وأصفر وأبيض و «لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى»، وكسرا الحدود الجغرافية، فالمسلم - مثلا - يعد المملكة الإسلامية كلها وطنه، لا فرق بين حجازي وخراساني ومغربي وهندي
إنما المؤمنون إخوة ، والإسلام كسر الحدود بين الرجل والمرأة، وبين المولى وسيده؛ وفي الحروب الصليبية وقفت الكتلة المسلمة أمام الكتلة النصرانية مهدرتين الجنسية إلا ما كان من اعتبارات شخصية أو تنازع على الرياسة.
وكان اليونان والرومان أميل إلى النظر الأول، فاليوناني سيد، وغيره - مهما كان - عبد، حتى فلاسفتهم كأفلاطون وأرسطو نظروا هذا النظر، ورأوا أن الدم اليوناني سيد الدماء، والرومان رأوا جنسهم فوق الأجناس، فلما فتحوا فتوحهم نظروا إلى الشعوب المفتوحة نظرة ازدراء، فلم يدم ملكهم، وكان من أسباب انهياره اصطدام نظرة النصرانية الواسعة بنظرة الرومان الضيقة، ولكن أثرت نظرة اليونان والرومان القديمة أثرا كبيرا في نظرة أوربا الحديثة؛ لأنها وارثتهما، فحييت القومية، وتغلبت النزعة الوطنية، وبعثت نظرة اليونان والرومان أكثر مما بعثت النظرة المسيحية، وقلد الشرق الغرب من اليابان والصين إلى العالم الإسلامي، فأصبحت قومية عراقية وأخرى مصرية وثالثة شامية، وهكذا، طبقا لفرنسا وإنجلترا وألمانيا وإيطاليا. •••
ولكن النزعة الإنسانية لم تمت، فظلت تعيش في عقول الفلاسفة وفي رءوس بعض الدعاة، وتتحرك في بعض الضمائر الحية، وتصطدم بالنزعة القومية، فيكون لهذا الاصطدام مظاهر، كالاختلاف في أمريكا: هل تنغمس في سياسة العالم وتصلح منه ما تستطيع وفقا للنظرة العالمية، أو تنفض يدها من سياسة العالم إلا بما يمس مصالحها الخاصة وفقا للنظرة القومية؟ وكالخلاف الناشب في أمريكا أيضا بين أنصار السود الذين يرون إهدار اللون وتحقيق العدل المطلق وفقا لمبدأ الإنسانية، وأنصار البيض الذين يرون القضاء على السود وفقا لمبدأ الجنسية، وكالخلاف بين كبار الساسة ممن يعطفون على الأمم المستعمرة ويرون حقها في البقاء وحقها في الاستقلال، وخصومهم الذين يرون عكس ذلك، وهكذا.
ولم تعدم كلتا النظرتين فلاسفة يتحمسون لها ويبدون محاسنها وعيوب الأخرى، فلم تعدم النظرة القومية من يقول: إن القومية هي التي أحيت الشعور وأظهرت التنافس بين الشعوب على أتم وجه، فكان من أثره التقدم العلمي والفني، والحب إذا تشعع وشمل العالم لم يكن له من القوة كما إذا تركز، كما لم تعدم النظرة الإنسانية من يؤيدها بما يحدث من الويلات الحاضرة التي جرتها القومية. •••
لقد كسر العلم الحدود بين الأمم، وألغى المسافات بين أجزاء العالم، وتبين كل جزء من العالم حاجته إلى كل أجزاء العالم، وأصبح من المستحيل أن تعيش أمة بنفسها ولنفسها، فوسائل النقل هي وسائل العالم، والراديو صوت للعالم، وخيرات العالم للعالم، وشرور العالم مصيبة العالم، المخترعات ملك العالم ونعمته أو شقاؤه، ومحصول الشرق لا يستغني عنه الغرب، وصناعة الغرب لا يستغني عنها الشرق، أفيمكن مع هذا كله أن تكون السياسة قومية فقط والأخلاق قومية فقط، أو يكون شأننا إذا شأن من يلبس ثوب طفل لرجل أو يقطع المسافة البعيدة بجمل، أو ينير القصر البديع بزيت، أو يواجه المدفع الرشاش بقوس؟
إن مهمة السياسة والأخلاق إنما هي تحديد العلاقات، فإذا تعقدت العلاقات فلحلها نظم، وإذا سذجت فلحلها نظم، وهذه النظم ليست جسما صلبا ولا حجرا صلدا، وإنما هي تابعة لنمو الإنسان وتطوره، فسياسة الطفل غير سياسة الرجل، وسياسة البدوي غير سياسة الحضري، وقانون سكان الوبر غير قانون سكان الحضر، فمحال أن تتصور نمو العالم ونمو العلاقة بين أجزائه، ثم تريد أن تحتفظ بنوع السياسة أو نوع الأخلاق الذي يحدد هذه العلاقة.
لست أفهم هذه الحرب إلا أنها ثورة عنيفة على النظم التي تحدد هذه العلاقة، وإعلان دموي بعدم صلاحيتها ومطالبة صاخبة بتغييرها وفق تقدم الإنسانية وتقدم فهمه وعلمه وعلاقاته، ودعوة صريحة بأن علاقات العالم الواسعة تتطلب حتما سياسة واسعة وخلقا واسعا، وإلا عدت جنونا.
وأدهش كل الدهش من دعوة إلى جنسية لتحل محل القومية والوطنية! فهذا أيضا نظر قاصر، ولا فرق في الضيق بين نظرة جنسية ونظرة قومية، والانتقال من هذه إلى تلك ليس إلا انتقالا من مرض إلى مرض وانتقالا من فن من الجنون إلى فن آخر. •••
ليس من الممكن ولا من المصلحة القضاء على الوطنية والقومية، فحب الوطن طبيعي في الإنسان بل والحيوان، والعمل على إسعاده طبيعي أيضا فيهما، فالطير يحمي وكره، والأسد يحمي عرينه، والبدوي يموت دون قبيلته، والحضري لا يحيا إلا بأمته، ثم هذه الوطنية قد أثرت في الأفراد تأثيرا سحريا، فاستخرجت منهم أقصى ما يمكن من المجهود العقلي والفني والنشاط الفكري والجسمي، ودفعت المدنية خطوات واسعة إلى الإمام، وعرضت مناظر من التضحية هي غاية في الروعة والجمال، وما كان يكون ذلك كله لو طلب من الأفراد أن يعملوا للإنسانية كلها لا لأمتهم، فالقنطار من السكر يحلي حوضا، ولكن لا يحلي نهرا، والمصباح الكهربائي قد يضيء غرفة وقد يضيء دارا، ولكن لا يضيء سماء، فخير لنا أن ننتفع بالسكر على قدر إحلائه والمصباح على قدر إضاءته.
ولكن لم لا تكون علاقة الوطنية بالإنسانية كعلاقة الفرد بأسرته وعلاقة الأسرة بأمتها؟
لقد كان الإنسان قديما لا يستطيع التوفيق بين شخصه وأسرته ولا بين أسرته وأمته، وكان يضطرب سلوكه إذا تعارضت هذه المصالح، ولا يزال الإنسان المنحط لا ينظر إلا إلى نفسه أو لا ينظر إلا إلى أسرته، ويفضل أن يتخم هو ولو كان كل من حوله جائعين، وتؤمن أسرته ولو كان كل الأسر حوله خائفين، ويسعد هو وأسرته في وسط الشقاء، ولا يرى بأسا من بؤس عام إذا كان هو وبيته في رخاء - ثم تطور الإنسان ورقى وأصبح ينشد مع أبي العلاء قوله:
فلا هطلت علي ولا بأرضي
سحائب ليس تنتظم البلادا
ومع البارودي قوله:
أدعو إلى الدار بالسقيا وبي ظمأ
أحق بالري لكني أخو كرم
لقد رقى شعوره ورقى عقله حتى وفق بين مصلحته الشخصية ومصلحة أسرته، ثم رقى شعوره ورقى عقله حتى وفق بين مصلحة أسرته ومصلحة أمته، ورأى أن ليس من الخير في شيء أن يعيش لنفسه دون أسرته أو لأسرته دون أمته، وبلغ من رقي بعض الأفراد أن يدرك أن خير أسرته وخير أمته يتحدان، فقبل تجنيد أبنائه عن طيب خاطر، ورأى أن مصلحة أسرته ومصلحة أمته في ذلك شيء واحد، ودفع الضرائب راضيا كذلك، والتزم كل ما توجبه القوانين ولو ضحى ذلك بجزء من ماليته وجزء من حريته، لسمو نظره فوق الاعتبارات الشخصية والاعتبارات العائلية، كل هذا تم مع الاحتفاظ بالأسرة والاحتفاظ بالأمة معا، فلماذا لا يخطو العالم الإنساني خطوة أخرى في الرقي، فيوحد بين خير الأمة وخير الإنسانية، ويرى خير الأمة من خلال خير الإنسانية، ولا يرى الخير لأمته إذا تعارض مع خير الإنسانية!
لقد حدث هذا فعلا في بعض المسائل الجزئية كاتحاد البريد بين الأمم، فاحتفظت كل أمة بشخصيتها في نظام البريد وطوابعه واستغلاله، ومع ذلك تقيدت بما هو خير عام للنظام العالمي للبريد، فلو خطونا خطوة أخرى سياسية من هذا القبيل لتحقق هذا الأمل.
لقد لمع هذا الرجاء على أثر الحرب الماضية بتعاليم الرئيس ولسن ووضعه أسسا لعصبة الأمم، ولكن فشل هذا النظام لأنه كان كالرقعة الجديدة في الثوب البالي، ولم يغير نظام الدول بما يتفق ونظام العصبة، ولا يمكن تحقيق هذا النظام إلا إذا تغير «الطقم» كله من نظام سياسي واقتصادي واجتماعي، وتوج بالعصبة التي تنسجم وهذا النظام.
ومما لا شك فيه أن العالم مستعد الآن جدا لهذه الخطوة، وأن المصائب المرة التي يشهدها، والفجيعة الفظيعة التي يئن منها في الأنفس والأموال والثمرات، ستقربه جدا من هذه الغاية، وسيتم هذا الأمل لو وفق قادة السياسة فنظروا إلى العالم من عل، ومزجوا نظرتهم المادية بنظرة روحية، وشعورهم القومي بالشعور الإنساني، وفكرتهم العلمية بفكرة أرقى فلسفية.
وهذا ما لا بد - عاجلا أو آجلا - أن سيكون.
الأغاني المصرية
بالأمس وقع في يدي كتاب من طريق المصادفة البحتة عنوانه «مجموعة الأغاني الشرقية» وهي الأغاني التي سجلت على «الأسطوانات» من شركة «بيضافون» و«جرامفون» و«أوديون» و«بوليفون»، وكنت في ذلك اليوم ضيق الصدر، لا تتفتح نفسي لتفكير، ولا قراءة ولا كتابة، فحمدت الأقدار التي رمت بهذا الكتاب إلي، أو التي رمتني على هذا الكتاب، فلدي ساعات فراغ لا أعرف كيف أقضيها، فلا أنا صالح لجد ولا لعب.
أخذت أقلب فيه، وأقرأ وأقرأ، ثم قلت: اجتهد أن تسلط عليه البحث الجامعي، أوليست الدراسة الجامعية تجعل من الحبة قبة، ومن الهزل جدا، وإن شاءت فمن الجد هزلا؟ وقد وصفتها مرة بأنها تميت الحي وتحيي الميت، فهي تحيي اللاتينية واليونانية والحبشية والأكادية وقد ماتت، وتنبش الأحجار وقد دفنت ، وتبعث ما في القبور وقد طويت، وهي تميت الحي، فتدرس اللغات الحية دراسة تميتها وتفقدها روحها، وتبعد عن تذوقها، ولذلك قل أن تخرج الجامعة أديبا شاعرا أو كاتبا، وإنما تخرج أديبا ناقدا أو أديبا عالما، ومن كان أديبا من رجال الجامعة فمن طبعه ومن نفسه، لا من الدراسات الجامعية، وإن شئت فقل: إنه أديب على الرغم من الدراسات الجامعية، لا أديب بفضل الدراسات الجامعية!
ما لنا ولهذا؟ فقد أنفقت أمس في كتاب «الأغاني» هذا، فقلت - أولا - أحصر عدد ما فيه من أغان، وأعرف موضوعاتها، فرأيت أن الكتاب ينقسم إلى قسمين: قسم خاص بالأدوار والمواويل والمذاهب والتواشيح والطقاطيق، والقسم الثاني «للقصائد»، ووجدت أن في الكتاب بقسميه 1199 أغنية، بين دور وموال وتوشيح وطقطوقة وقصيدة، ووجدت أنها كلها في الحب، ما عدا خمس عشرة أغنية في موضوعات غير الحب، أي إن نسبة ما قيل في غير الحب للحب كنسبة واحد إلى مائة تقريبا.
ثم موضوعات غير الحب بعضها أيضا يتعلق بالحب، فامرأة تشكو من أن زوجها تزوج عليها أربعا في أغنية «جوزي اتجوز علي أربعه»، وامرأة تشكو حماتها في أغنية «حماتي علي قوية وأنا ما اقدرش على العيشة ديه»، ورجل يشكو العزوبة في أغنية «العزوبيه طالت علي، قومي اخطبي لي حلوه وغنيه» ثم ماذا؟
استعجبوا يا أفنديه
لتر الجاز بروبيه
وطقطوقة في شكوى الحشاشين من عدم الإنصاف، إذ تصادر الحكومة الحشيش وتترك الخمر، مطلعها:
انصفنا يابا - دحنا غلابه
حنشد فين ونحشش فين
دي بقت بميتين الوقيه
ورجل يتحسر على حرمانه من «الجنيه»، فيقول:
غاب الجنيه قلبي عليه
جرى له إيه هو في سفر
رمز الحياه باب النجاه
يشفي العليل يجلي النظر
وشكوى من دودة القطن، مطلعها:
يا شيخ العرب يا شنودة
والقطنه كلتها الدودة
والبنات عاوزة تجوز
والجدعان نفسها مصدوده
وطقطوقة في زيادة النيل:
البحر أهو زاد - عوف الليه
غرق البلاد - عوف الليه
ثم بعض قصائد وطنية، كمارش البرلمان:
وطني أنا بالروح أفديه
حب الوطن دا من الإيمان
تعيش مصر حره
ويلاحظ أن الأغاني الوطنية في لغتها ونغمتها وعباراتها جارية على نمط الحب:
مصر الجميله ما أحلاك
يا بخت اللي يكون في حماك
واللي يعيش تحت سماك
ويملا قلبه بهواك
يبقى سعيد
يا بلادي يا بلادي
يا ضيا البلدان
لك حب في فؤادي
موقد نيران
وأغنيتان دينيتان تدعوان إلى التوكل على الله وترك الأمور تجري في مجاريها:
سلم الأمور للرب
لا تخف ولا ترهب
الزم باب ربك
واترك كل دون
ثم لنرجع بعد إلى الأغلبية الساحقة وهي أغاني الحب، فنجد أنها تتنوع أنواعا مختلفة: شكوى الغرام وما سببه الحب من سقام، فالهجر طال، والدمع سال، والجسم ذاب، والعقل راح، ونحو ذلك مما تمثله هذه الأغنية:
ياما شفت مرار وقضيت أيام
وأنا ليل ونهار إزاي أنام
والعشق ده نار وعذاب وهيام
وضنى وغيره وبكا وحيره
ثم شكوى العذال والدعاء عليهم وعدم الاكثراث بهم:
روح يا عذولي - ما لك وما لي
لو ذبت وجدا - ما أفوت غزالي
ثم التفنن من الرجل في وصف من يحب، ومن المرأة في وصف من تحب.
فقوامه غصن البان، وورد خده على الزهور سلطان، والخد أسيل والجفن دابل، وحبيبه فريد عصره وأمير زمانه، كحيل العين خفيف الذات، جالس على عرش الجمال، إلى نحو ذلك من معان طال الزمان عليها وهي كأوراق اللعب وحجارة النرد أو الشطرنج، يلعب الأدباء بها فيختلف تصفيفها ويتحد عددها وجوهرها.
رأيتها مجموعة مختلفة العصر من عهد «عبده الحمولي» و«محمد عثمان» إلى الآن، ورأيت إنشاءها مختلف القوة، مما يدل على أن مؤلفيها بعضهم من أرقى الأدباء نزلوا إلى الميدان فألفوا بالعامية وسلموها للمغنين يلحنونها ويغنونها مثل دور:
أدك أمير الأغصان
من غير مكابر
وورد خدك سلطان
على الأزاهر
والحب كله أشجان
يا قلبي حاذر
دا الصد ويا الهجران
جزا المحاطر
ودور:
الله يصون دولة حسنك
على الدوام من غير زوال
إلخ.
وبعضها مهلهل من وضع العوام وأبناء الشوارع وبنات الحارات كطقطوقة «دندرمه يا دندرمه»، وطقطوقة «اسم النبي حارسك» إلخ.
ثم منه حب عفيف مؤدب، وحب غير مؤدب وهو الأغلب، ومنه ما لا يمكن أن يقال إلا في حانة أو بيت دعارة، وبعضها استخدمت فيه مخترعات العصر وأساليب المدنية في الخلاعة والحرية، مثل طقطوقة «التاكسي على الباب مستني»، وطقطوقة «قل لي على نمرة تلفونك»، وطقطوقة «بنجور يا هانم»، وطقطوقة «قابلني حبي وأنا رايحه الموسكي وسقاني كونياك على وسكي» إلخ.
ثم هذه الأغاني على كثرتها لا ترى فيها ظلا - إلا قليلا جدا - لوصف المرأة المحبوبة بنبل الخلق وحسن المعاني وجمال الفكر وسمو النفس، إنما هي كلها حول خدها الوردي وعيونها العسلية، وأن نهودها رمان، وقدها غصن البان - والمرأة لا تتطلب من الرجل رجولته وحسن صفاته، إنما تطلب أن يكون جميلا و«جدع قيافه» و«صغير في العمر» و«دمه خفيف» و«عاوج طربوشه».
ثم ما هذا الحزن الشائع في الأغاني؟ فالحب عذاب، والهجر عذاب، والعذال عذاب، والقلب مجروح و«دمي بدمعي امتزج» و«ما حيلتي غير دموع العين»، و«ما حد زيي على خله انضنى حاله»، و«ناعس جفونك حرمني النوم»، و«يا كنز نوحك على الأحباب»، و«آسيت كتير لما حبيت»، و«يا ما بآسي وبشكي» إلخ إلخ، وكثيرا ما تبدأ الأغنية بالسرور والفرح، ولكن سرعان ما تنقلب إلى غم وكمد، ثم التذلل المفرط والاسترحام المفجع، والاستغاثة بالناس، وبالأحباب وبالأعداء، وبالمسلمين وبالنصارى، حتى يتدخلوا في الحب ويتوسطوا في الوصل. •••
أما بعد فهذه صورة مصغرة لما قرأت، ثم تساءلت: ما وظيفة الغناء في الشعب؟ وهل تؤدي هذه الصورة التي عرضتها تلك الوظيفة؟
إن الغناء فن من الفنون الجميلة كالتصوير والموسيقى والأدب، وهذه كلها وظيفتها نقل عواطفنا إلى غيرنا في ثوب جميل، وهي تقابل في ذلك الكلام غير الفني في نقله أفكارنا إلى غيرنا، فالفنون الجميلة لغة العواطف، والكلام لغة العقل، وإذا كانت اللغة قاصرة كل القصور في التعبير عن العواطف استعنا على تكميل نقصها بمحسنات من إشارة وتمثيل في الخطابة، واستعارات وكنايات وتشبيهات ومحسنات بديعية وخيال في الأدب، وألوان مختلفة في التصوير، وصوت جميل في الغناء، وآلات مختلفة في الموسيقى، والغناء غني بهذه المحسنات، فهو يعبر عن هذه العواطف، مستعينا بالأدب وجماله، والصوت وجماله، وكثيرا ما يقرن بالموسيقى وجمالها، فهو في هذا كله احتفال جمال ليس له نظير في هذا الباب.
إن الفنون كلها تنبع من عواطف، وتؤدى بشكل جميل إلى العواطف، فتثيرها وتخلق المشاركة فيها، إنها - على اختلاف أنواعها - غذاء العواطف، كما أن العلم - على اختلاف أنواعه - غذاء العقل، وظلت المدارس جاهلة أن الإنسان عقل وعواطف، سائرة على أنه عقل فقط، فملأت برامجها بالعلم لغذاء العقل، وأهملت العواطف، حتى آمنت أخيرا بأنه عقل وعواطف، فعدلت برامجها وأدخلت فيها الموسيقى والرسم والتصوير والغناء، فآمنت - بعد كفر طويل - أن الفنون تربية يستكمل بها الإنسان بعض نواحي النقص فيه.
إن كان كذلك، أفليس عجيبا أن يكون موضوع الحب في أغانينا يستغرق منها تسعة وتسعين في المائة؟ كأن ليس لنا عاطفة إلا عاطفة الحب! ثم أي حب؟ إنه الحب المادي الوضيع، والحب المائع، والحب الذائب.
إن مثلنا - إذ ذاك - مثل أمة كل شعرها ونثرها الفني غزل، وكل تصويرها امرأة عارية، وكل أكلها نوع من الغذاء واحد، وكل حياتها لون واحد.
أين غذاء العواطف الأخرى في الغناء؟ أين غذاء عواطفنا في مشاهد الطبيعة الجميلة؟ وأين عواطفنا في الإعجاب بالبطولة المجيدة؟ وأين عواطفنا في مواقفنا التاريخية الجليلة؟ وأين عواطفنا في كرهنا للنذل والجبان؟ وأين إعجابنا بالمرأة تنتج النتاج القوي الباهر؟ والرجل يضحي لأسرته، والرجل يضحي لقومه، إلى ما لا يحصى من عواطف! أعدمنا كل هذا ولم يبق إلا الحب؟
ألجأنا إلى هذا كله أننا نظرنا إلى الغناء على أنه مسلاة فقط، ولما يصل رقينا إلى أن نشعر أنه تربية للأمة.
إننا من أكثر الأمم حبا في الغناء، وحسنا في الصوت، وقدرة على تكييفه ، فالغناء في الإذاعة، وفي القرآن، وفي الأذان، وفي النداء على المبيعات، وفي الذكر، وفي الزار، وفي الأفراح، وفي المآتم، وفي كل مظهر، ولكن كل هذا ضائع، لأننا لم نعرف استغلاله، ويحمل وزر هذا الأدباء والمغنون: فالأدباء تأخذهم عزة الأرستقراطية فلا ينزلون إلى ميادين الشعب يضعون له غناءه، وإذا نزلوا لا يحسنون، لأنهم لا يدركون روحه، والمغنون مائعون، تضع في حناجرهم أناشيد الحماسة والقوة فسرعان ما يقلبونها إلى تخنث وضعة وتذلل وبكاء.
ومما يؤسف له ظاهرة شائعة، وهي تأنث المغنين وترجل المغنيات، كما كان من دواعي الأسف أننا ننحدر من سيئ إلى أسوأ، فقد استعرضت أغاني عبده الحمولي ومحمد عثمان، فرأيتها أقوى وأسمى وأعف من كل ما وصلنا إليه في أغانينا الحديثة في الكثير الأغلب، والأمة لاهية، تترك السم يفعل في عقولها وعواطفها، ولا تبحث عن دواء.
لا أحب أن تنعدم أغاني الحب، فما دامت عاطفة الحب موجودة، وهي - بحق - يجب أن تكون موجودة، فلا بد لها من غذاء، ولكني أحب لها غذاء قويا نقيا، وأحب أن يكون بجانب أغانيه أغان تعادله من حب للبطولة والنجدة والشجاعة والرحمة ولغيرها من العواطف.
إن العود لم يخلق عبثا له أوتار متعددة، والحنجرة لم تخلق عبثا لها قوى متعددة، والغرب أدرك هذا كله، فعدد مناحي موسيقاه، وعدد مناحي غنائه: فهل نحن فاعلون؟
ثم تساءلت عن السبب الاجتماعي الذي أدى إلى هذا التدهور! ثم إذا طبق ما يقولون من أن الفنون عامة - والأغاني خاصة - أدل على حالة المجتمع، فماذا يمكن أن نستنتج من هذه الأغاني المصرية؟ فرأيت أن المقال يطول، فلنعد له في مقال تال إن شاء الله.
التقليم والتطعيم في الأدب
جرني التفكير في «الأغاني المصرية» إلى توسيع النظر في الفنون والآداب المصرية والعربية، فوجدتها كلها تحتاج إلى عمليتين هامتين خطيرتين: أولاهما عملية التقليم، والثانية عملية التطعيم، ولأقتصر في حديثي اليوم على التمثيل بالأدب العربي، فهو أخطر الفنون وأكثرها أثرا في حياة الشعوب. •••
واضح أن آداب الأمم تختلف باختلاف شخصياتها ومميزاتها وميولها، كما تختلف باختلاف أمزجة أدبائها، وكما تختلف باختلاف بيئتها، سواء كانت بيئة طبيعية من جو ووضع جغرافي، أو بيئة اجتماعية من سياسة ودين وأوضاع وتقاليد ونحو ذلك.
والأدب عامة يتطور بتطور الأمة، ويتفاعل معها، فيوثر فيها ويتأثر بها، وإنك لتستطيع - بالنظر العميق - إذا درست أدب أي أمة في أي عصر أن تستنتج منه حالة الأمة الاجتماعية، وظروفها السياسية، ونظم حكمها، وحالة شعبها.
إن كان كذلك فمن المحال أن تعيش أمة على الأدب القديم وحده، أو على أدب العصور الوسطى فقط، وإلا كانت كالتاجر يعيش على تصفح دفاتره القديمة فحسب، وهذا علامة الإفلاس.
إن أدب كل أمة يرسم المثل الأعلى لها، والمثل الأعلى ليس صورة ثابتة متحجرة، بل هو مرن، ويجب أن يكون مرنا، ويختلف بتقدم الإنسان وتغير ظروفه وملابساته، ويتقدم كلما خطا الإنسان خطوة إلى الأمام.
وهذا هو الشأن في الأدب العربي، فهو ليس أدب أمة واحدة، بل هو أدب أمم مختلفة في عناصرها، ونوع ثقافتها، ودرجة عقليتها، وموقع إقليمها، كما هو أدب أمم مختلفة العصور والأزمنة، والوضع السياسي، والحالة الاقتصادية، والمعيشة الاجتماعية - وهو في عصوره المختلفة قد صور المثل الأعلى أشكالا وألوانا، فالمثل الأعلى الجاهلي غيره في العصر الأموي، وهما غيره في العصر العباسي، وهو في العراق غيره في مصر.
وأمم الشرق في العصر الحاضر من حيث موقفها من المدنية الغربية، ومن حيث آمالها السياسية، ومن حيث عواطفها القومية، ومن حيث نظمها الاجتماعية، لا بد لها من مثل عليا جديدة تحض الجيل الجديد على الطموح إليه والسعي وراءه وإلهاب العواطف لنيله، وهذه وظيفة الأدب في كل أمة، ومنها الأدب العربي.
في الأدب العربي القديم لا نجد كل غذائنا، وفي الأغاني القديمة لا نجد ما يغذي كل عواطفنا، وفي كل فنوننا القديمة لا نجد ما يرسم كل مثلنا الأعلى الذي ننشده.
لقد قامت مناظره مرة في أن الأدب العربي القديم يصلح غذاء للجيل الحاضر أو لا يصلح، فاخترت الشق الثاني، ولست أعني أنه قليل القيمة أو عديم المنفعة، ولكن أعني أنه وحده لا يكفي في الغذاء، وأنه ينقصه كثير من أنواع «الفيتامين»، ليصلح به العقل وترقى به العواطف.
وللوصول إلى هذا الغرض لا بد من العمليتين اللتين أشرت إليهما، وهما التقليم والتطعيم.
أما «التقليم» فأعني به أن الأدب العربي مثله مثل تل كبير من قمح، بعضه طين اختلط بالقمح فيجب أن ينقى منه، وبعضه حب مسوس يجب أن يستبعد، وبعضه صالح يجب أن يفرز وحده لنستعين به على الغذاء الصالح، لقد كان كله صالحا، أو على الأقل نتاجا طبيعيا لعصره، ولكن ما كان صالحا لعصر قد لا يصلح لعصر آخر.
إن الأوضاع السياسية للأمم - مثلا - غيرت نظرة العصور الماضية إلى الحكام، فيجب أن نغربل الأدب القديم، فلا نقر منه ما يضع من شأن الأمة كأمة ويقدس الحاكم كحاكم، والعلم بالأحوال الاقتصادية غير من نظرنا إلى الفقر، فلم يجعله قضاء وقدرا فقط، بل جعله نتيجة طبيعية لحالة الأمة ووجوه دخلها وخرجها، ونظام ميزانيتها ومواردها ومصادرها، فالأدب العربي الذي يبعث على الرضا بالفقر كنتيجة محتومة لا دخل للأمة ونظامها فيه يجب أن يستبعد، وأحوال الأمم كلها الآن تستدعي نفوسا قوية في إيمانها، قوية في عقيدتها، قوية في عواطفها، فلنقس الأدب العربي بهذا المقياس، فما كان منه يبعث على الميوعة، وعلى الانهماك في الشهوات، وعلى الخذلان وضعف الثقة بالنفس والثقة بالأمة والثقة بالله يجب أن يعدم.
إن الأمم الآن تتطلب التضحية، تتطلب مثلا أعلى أساسه خير المجتمع لا خير الفرد وحده، وتتطلب إعداد الفرد للكفاح، فما كان من الأدب العربي يدعو الفرد أن يبحث عن لذته مهما كانت نتائجها على المجتمع يجب أن ينحى، والأدب الذي عماده أن فلانا أعطاه من مال الأمة لقصيدة أشاد فيها بذكره فجعله ملكا فوق البشر، ليس صالحا لجيلنا بحال من الأحوال، بل إن مدح الملوك والأمراء والحكام يجب أن يكون أساسه العدل وخدمة الرعية، وأداء ما عهد إليهم بذمة وصدق، سواء أعطوا مالهم الخاص أو منعوا، كرموا أو بخلوا، وأن الأدب الذي يخيف من الموت، ويجعل الحياة كلها توقعا للموت، وخوفا من الموت، يجب أن يموت، ويحل محله تقديس الحياة والعمل للحياة، حياة الأمة وحياة الفرد، ولا بأس بالموت إذا الموت نزل! •••
امتحنت هذه النظرية فقرأت كتابا من كتب الأدب العربية، فوجدتني في كل صفحة من صفحات الكتاب قد علقت - في ذهني - على بعض الجمل بأنها غير صالحة، لأنها تبعث الضعف، وبعضها غير صالح، لأن العلم الحديث أثبت كذبه، وبعضها غير صالح، لأنه كان مثلا أعلى قديما وليس مثلا أعلى حديثا، وبعضها صالح كل الصلاحية، لأنه يناسب زمننا كما كان مناسبا لزمنه، فهو مستحق للبقاء.
قرأت مثلا قول المغيرة بن شعبة: «أحب الإمارة لثلاث، وأكرهها لثلاث: أحبها لرفع الأولياء، ووضع الأعداء، واسترخاص الأشياء، وأكرهها لروعة البريد، وفوت العزل، وشماتة العدو»، فقلت: إن هذا نظر غير صائب، وشعور غير نبيل، إنما تحب الإمارة للعدالة، وإيصال الحقوق لأصحابها، وتحقيق ما أمكن من إصلاح، أما حبها لنفع الصديق وضر العدو ونحو ذلك فنظر سطحي سخيف، لا يصح أن يعرض على النشء.
وقرأت قول القائل: «كان الناس ورقا لا شوك فيه، فصاروا شوكا لا ورق فيه».
فقلت: هذا غير صحيح وإن حسن لفظه؛ لأنه في كل أمة، وفي كل عصر، وفي كل جماعة، ورق وشوك، فلا يخدعنك حسن التعبير عن فساد المعنى.
وقرأت خطبة لسعيد بن سويد: «لا يزال الإسلام منيعا ما اشتد السلطان، وليست شدة السلطان قتلا بالسيف، ولا ضربا بالسوط، ولكن قضاء بالحق، وأخذ بالعدل».
فقلت: هذا قول حق، يصلح لكل زمان ومكان، ويصح أن يعلم لكل ناشئ، ويردده كل متأدب.
وقرأت قول الشاعر:
أشرقت حتى تركت الشمس ساجية
كأنما ألبست دكنا من الحلل
وراح نقعك في أجفانها كحلا
وما عهدنا بجفن الشمس من كحل
لقد حقنت دم العليا بجود يد
مخضوبة بدماء المحل والبخل
أظما إلى رشفها يوما فيصدفني
عنها تعرض سيل العارض الهطل
فقلت: إن هذا الضرب لا يعجبني، رجل أعطى الشاعر قبضة من مال، فجعله أكثر إشراقا من الشمس، وجعل يده مخضوبة بالدم من قتل البخل إلخ، وهي معان مبتذلة، وموقف استجداء وضيع، وعاطفة شخصية جزئية حقيرة، فهذا الضرب لا أشجع عليه، ولا أقدمه مثالا يحتذى، وخير منه قول المتنبي في المديح:
إذا الدولة استكفت به في ملمة
كفاها، فكان السيف والكف والقلبا
إلخ.
وقرأت من الأمثال قولهم : «الوقت كالسيف، إن لم تقطعه قطعك»، فقلت: قول مبهرج، ولا معنى له، فليس بصحيح أن السيف إن لم تقطعه قطعك.
وقرأت قول الشاعر:
تطامن للزمان يجزك عفوا
وإن قالوا ذليل قل ذليل
فقلت هذا شعر يجب أن يضرب به وجه ناظمه الحقير.
وقرأت نصيحة عمرو بن عتبة لمعلم ولده: «روهم من الحديث أشرفه، ومن الشعر أعفه»، فقلت: قول شريف صحيح. ثم قرأت قوله: «ولا تنقلهم من علم إلى علم حتى يحكموه، فإن ازدحام الكلام في القلب مشغلة للفهم» فقلت: هذا غير صحيح فيما أثبت علم التربية الحديث.
وبجانب ذلك قرأت أدبا جيدا كل الجودة، حقا كل الحق، نافعا لأن يكون جزءا من مثلنا الذي ننشده، لا أطيل بذكره لكثرته.
وهكذا وجدت فيما استعرضت خيرا كثيرا، وشرا كثيرا، فلا بد من التقليم والتطهير واستبقاء الأصلح.
خرجت من فكرة «التقليم» هذه بأن أولي الرأي في الأمة يجب أن يكون لهم غرض واضح معين في تربية النشء، ووضع أسس ثابتة في التربية، ورسم مثل أعلى واضح جلي، فإذا تم ذلك وجب على كل طائفة أن تسعى لتحقيق هذا الغرض، والأدباء والفنانون في طليعة هذه الطوائف، يجب أن يعيدوا النظر في الأدب والفن، فلا يضعوا في يد النشء من الأدب العربي والغناء والأناشيد والتصوير، إلا ما ينسجم مع هذا المثل، وإلا كنا كطائفة تغزل غزلا، وتأتي طائفة أخرى فتنقض غزلها.
إن عملية التقليم هذه تكسبنا عينا ناقدة نفرز بها الجيد من الرديء، ونميز بها الصالح من الطالح، في الشعر والخطب والأمثال والحكم والقصص والأغاني والروايات، وكل ضرب من ضروب الأدب، وكل نوع من أنواع الفن.
إن الأدب العربي في جملته نوعان: نوع غير صالح لحياتنا الواقعية التي نحياها الآن، ولا يتفق مع مثلنا الأعلى الذي ننشده في هذا الزمان، وهذا يجب أن يوضع في متحف، كالآثار القديمة، يعنى به الخاصة وحدهم ومؤرخو الأدب فقط، ونوع صالح لزماننا ومثلنا، وهذا وحده هو الذي نسلمه لنشئنا، ونصوغ منه أمانينا، ويستشهد به أبناؤنا، ويحفظ منه جيلنا.
إنا بعرضنا كل الأدب العربي على الناشئين بغثه وسمينه وصحيحه وفاسده - من غير «تقليم» - نضع في أذهانهم صورا مختلفة متناقضة لمثل مختلفة يضرب بعضها وجه بعض، ولا نكون لهم مثلا أعلى منسجما، فتكون النتيجة بلبلة الأفكار، وحيرة الأذهان واضطراب الناشئ يمينا ويسارا، وأماما وخلفا، وفي هذا ضرر بين على عقله وعواطفه.
ما بالنا في فروع العلم المختلفة نعلمه ما أثبت العلم صحته في الطبيعة والكيمياء والرياضة والجغرافية وعلم الأحياء، ولا نعلمه بجانبه ما أثبت العلم فساده من سطحية الأرض، ودوران الشمس حولها، وخلق الحي من غير الحي ونحوها، ثم لا نفعل ذلك في الأدب، فنعلمه ما صح وما فسد، وما يبعث عواطف مريضة بجانب ما يبعث عواطف صحيحة؟!
لا بد أن يكون لنا منهج واحد وأسلوب واحد في هذا وذاك، وإلا كنا نزن بميزانين ونكيل بكيلين. •••
هذه العملية الأولى، وأما العملية الثانية وهي «التطعيم» فأعني بها أننا ندرس وجوه النقص في أدبنا وفننا، فيعكف أدباؤنا على ملاقاته، وندرس مثلنا الأعلى فنرى ما يدعمه ويقويه مما ليس في أدبنا فنخلقه، ونجعل هذا النوع وما استصفيناه من الأدب القديم غذاءنا.
لشد ما نحتاج في أدبنا إلى الإكثار من تحليل الشخصيات العظيمة لتخلق فينا عظماء جددا، ولشد ما نحتاج إلى الكتب الجذابة لنشئنا لتغذيتهم بالمبادئ القويمة، ولشد ما نحتاج إلى شعر في الطبيعة وجمالها، وإلى شعر جاد قوي أخلاقي روحي نابع من خيال رفيع، ولشد ما نحتاج إلى القصص تشرح العيوب الاجتماعية وتستغفل القارئ فتضع له الدواء القوي المر أثناء تلذذه بحادثة أو منظر! إلى نحو ذلك.
عملية «التقليم والتطعيم» هي قانون الحياة، نشذب الشجر لينبت العود الصالح، ونقطع العضو الفاسد في الجسم حتى لا يسري فساده إلى السليم، ونطعم الشجرة لتنتج خير الثمار وأحسن الأزهار، ونضحي في كل شيء بالقليل لنغنم الكثير وندفن الميت لنستقبل الحي. فما لنا لا نفعل ذلك في الأدب والفن؟!
لقد مر على العالم الإسلامي عصور حية زاهرة أنتجت أدبا حيا زاهرا، ومر عليه عصور ميتة جامدة أنبتت أدبا ميتا جامدا، ولا بد لنا من التنقية والاختيار.
وعلى الجملة لا يمكن أن يصلح أدبنا وفننا إلا بعمليتي التقليم والتطعيم، ولو كره الكافرون.
التقليم والتطعيم في اللغة
ما قلناه من إجراء العمليتين في الأدب يصدق تمام الصدق على اللغة، فمادة اللغة العربية تحتاج إلى تقليم وتطعيم.
ذلك أن اللغة عرض من أعراض الأمة تتقدم بتقدمها وتنحط بانحطاطها، فلغة العرب في الجاهلية كانت تكفي لحاجاتهم القليلة ومنازع نفوسهم المحدودة وشئونهم الاجتماعية الأولية، فلما جاء الإسلام لم ير اللغة الجاهلية كافية له، فنماها من ناحيتين: من ناحية استعمال الكلمات الجاهلية في معان جديدة لم تكن تستعمل فيها من قبل، ومن ناحية تعريب كلمات من لغات أخرى، وهكذا كان الشأن في العصر الأموي والعصر العباسي، ولو أحصينا مفردات اللغة في هذه العصور المختلفة لوجدناها قليلة نسبيا في الجاهلية، كثيرة في صدر الإسلام، كثيرة جدا في العصر العباسي، وليس الأمر في ذلك مقصورا على مفردات اللغة وعدد كلماتها، بل نجد كلمات ماتت بموت مدلولها في الجاهلية وكلمات ظلت حية في العصور المختلفة لحاجة الأمة إليها.
كانت إذا عملية التقليم والتطعيم مستمرة في هذه العصور، تحكم بالإعدام على الألفاظ التي لا تحتاج إليها أو التي تستثقلها، وتقتبس من العبرانية والسريانية والهيروغليفية والحبشية والفارسية واليونانية واللاتينية وغيرها ألفاظا جديدة حسبما تدعو إليه الحياة اليومية الواقعية.
متى تعد اللغة راقية وافية؟
عندي أن مقياس ذلك شيئان أساسيان: (1)
أن تكون في طبيعة اللغة مرونة من اشتقاق وارتجال ووضع ومجاز ونقل عن لغة أخرى، وهكذا يمكن أصحابها أن يقلبوا الكلمات ويصوغوها حسب تعدد المعاني وتغيراتها الدقيقة. (2)
أن تسد حاجة المتكلمين بها، وتوفر ما وصلت إليه أمتها من علوم وفنون، وتعبر عما يشعرون به ويفكرون فيه في شمول ودقة وإحكام ، ولكن بشرط أن تكون الأمة بلغت مبلغا كبيرا في الحضارة، أما إذا كانت الأمة أولية ولغتها مثلها أولية فلا يكفي لعدها راقية أن تسد حاجتها.
ويخيل إلي أن الشرط الأول يجعل اللغة راقية، والشرط الثاني يجعلها وافية، وهما معا يجعلانها راقية وافية.
واللغة العربية - في ضوء هذا الذي ذكرنا - راقية بمرونتها التامة، غير وافية الآن؛ لأنها لا تطابق بينها وبين حاجاتنا، ولا تسد كل ما وصل إليه العلم والفن والفكر من إنتاج، فالعلماء والفنانون لا يجدون فيها كفايتهم، والصناع والعمال لا يعبرون بها عما في أيديهم، والمفكرون يتعثرون في التعبير بها عن بعض أفكارهم.
وإذا كانت اللغة العربية بطبيعتها راقية كان العيب ليس عيبا ذاتيا فيها، وإنما عيبها عيب القائمين عليها المصرفين لزمامها المالكين لقيادتها.
ولا بد - لمعالجتها - من هاتين العمليتين: «التقليم والتطعيم».
فأما التقليم فإن معاجمنا مملوءة بكلمات لا حاجة لنا بها ومترادفات كثيرة للشيء الواحد يكفينا بعضها، والزمن قد فعل فعله المعقول فأهمل كلمات كثيرة لم يستعملها الكتاب ولا الشعراء ولا المؤلفون ولا المتحدثون فيما ينتجون، ولم يشعروا يوما ما بحاجتهم إليها لغناء غيرها عنها، أو لانعدام مدلولها في حياتهم اليومية.
والسبب في هذه الكثرة البالغة المتجاوزة الحد في متن اللغة أن اللغة العربية كانت لغة قبائل متعددة، لكل قبيلة ألفاظها وتراكيبها في حدودها المعقولة وحاجاتها المتداولة، فجاء العلماء في آخر العصر الأموي وصدر العصر العباسي، فجمعوا ما وصلوا إليه من كل هذه اللغات من غير تفريق ولا تمييز، ومن غير أن يفردوا كل قبيلة بألفاظها، فكان لنا من ذلك كله ثروة كبيرة لا حاجة لنا بها إلا في شرح ما ورد عن هذه القبائل من أدب، أما حياتنا اليومية وتفكيرنا وأدواتنا فليست تحتاج إلى شيء كثير من هذا المترادف.
ومما يؤسف له أن هؤلاء العلماء عنوا في عملهم بالجمع، ولم يعنوا بجانب ذلك بالاختيار، مع أن الاختيار عمل لا يقل شأنا عن عملية الجمع.
وأكثر من هذا داعيا للأسف أنهم قصروا جمعهم على اللغات الممعنة في جزيرة العرب البعيدة عن الحضارة، كتميم وقيس وأسد وهذيل، ولم يرضوا أن يأخذوا شيئا من المتاخمين لأهل الحضر لفساد لغتهم في زعمهم، مع أنهم لو أخذوا عنهم لأمدونا بألفاظ كثيرة نحن أحوج إليها في حضارتنا؛ فقالوا: لا نأخذ من لخم وجذام لمجاورتهم أهل مصر، ولا من قضاعة وغسان لمجاورتهم أهل الشام، ولا من تغلب لمجاورتهم سكان الجزيرة، ولا من اليمن لمخالطتهم الهند والحبشة، وتفرغوا فقط لجمع لغة العرب الصرفة المنزهة عن الاختلاط، وهي وجهة نظر قد تكون صحيحة لو أنهم لم يقتصروا عليها، وجمعوا معها اللغات المتاخمة؛ لأنها أغنى وأوفر وأقرب لسد حاجة المدنية والحضارة.
أرادوا - لقصر نظرهم - أن يقتصر الناس على استعمال الألفاظ العربية الصحيحة المستعملة في جزيرة العرب، وفاتهم أن هذا مستحيل، وأن الناس بعد مدنيتهم لا تكفيهم لغة بداوتهم، كما لا يكفي ثوب الطفل لجسم الرجل.
ولذلك اضطر المؤلفون والأدباء والكتاب والمتحدثون ألا يخضعوا لحكمهم وأن يستعملوا الكلمات غير العربية، سدا لحاجتهم، وطبقا لمقتضيات أحوالهم، واضطر أصحاب المعاجم أن يدخلوا في معاجمهم الكلمات الأعجمية المعربة والمصطلحات العلمية المستحدثة، كما فعل صاحب القاموس المحيط، فقد تضخم معجمه بهذا كله، وكما فعل أكثر منه صاحب تاج العروس في شرح القاموس. •••
عملية التقليم هذه تتطلب أن نستبعد الألفاظ التي لسنا في حاجة إليها، وأن نخلي مكانها لما نحتاج إليه، فليس فخر اللغة أن يكون فيها ثمانون اسما للعسل، وخمسون للأسد، وأربعمائة للداهية إلخ. بل يكفي من كل ذلك أربعة ألفاظ أو خمسة، ثم نفسح المجال لأسماء المخترعات الحديثة والمصطلحات الجديدة، نعم يجب أن تكون هناك معاجم تحوي كل ما أثر عن العرب، ولكنها تكون معاجم تاريخية يرجع إليها الخاصة، أما المعاجم التعليمية التي تكون بأيدي جمهور الناس فيقتصر فيها على الكلمات الحية.
لقد قالوا: إن كتاب الصحاح اشتمل على أربعين ألف مادة، والقاموس على ستين ألفا، ولسان العرب على ثمانين ألفا، فما أحوجنا إلى إماتة نصف هذا العدد على الأقل، لنحيي مكانه ما نحن في حاجة إلى إحيائه.
ثم هذه المعاجم اللغوية محتاجة أيضا إلى تقليم من نوع آخر، وهو كثرة ما ورد فيها من تخريف يفسد العقل، ففيها - مثلا - أن: «القاف جبل محيط بالأرض أو من زمرد، وما من بلد إلا وفيه عرق منه»، وفيها: «أن الهرمين بناءان أزليان بمصر بناهما إدريس - عليه السلام - أو بناهما سنان بن المشلشل، أو بناهما الأوائل لما علموا بالطوفان من جهة النجوم، وفيهما كل طب وسحر وطلسم» وفيها: «أن أبا عروة رجل كان يصيح بالأسد فيموت فيشق بطنه فيوجد قلبه قد زال عن موضعه»، إلى كثير من أمثال هذا الهذيان.
كل هذا يجب أن يقلم، ويقلم أيضا التفسير الذي كان جاريا على ما كان معروفا أيام المعاجم القديمة ثم تغير بتقدم العلوم، فتفسير الكسوف والخسوف والظواهر الطبيعية والنبات والحيوان وما إلى ذلك كله يجب أن يكون حسبما وصل إليه العلم الحديث، لا حسب ما كان معروفا في العهد القديم.
لسنا في حاجة إلى أن يكون للأسد خمسون اسما وللعسل ثمانون وللسيف أكثر من ذلك، إنما نحن في أشد الحاجة إلى أن يكون لكل شيء تقع عليه حواسنا وكل معنى تصل إليه عقولنا اسم نصطلح عليه ونتبادل به التعبير عنه، ولا يكون ذلك إلا بإغفال كثير مما ورد في المعاجم مما لا نحسه ولا نحتاج إليه، ولا يمس شيئا من حياتنا الواقعية.
فإذا أعدمنا هذا الذي لا نحتاج إليه فتلك عملية التقليم، ثم تأتي بعد ذلك عملية التطعيم بأن نملأ المكان الذي فرغ من إزالة الألفاظ الميتة باستعمال كلمات للدلالة على كل شيء نحسه أو نشعر به أو نفكر فيه، إما بالتعريب والوضع أو توسيع معاني الكلمات القديمة.
وهذا ما فعلته الأمم الحية كلها، وفعله العرب أنفسهم والمستعربون الأولون، لقد كانوا يأكلون الثريد والمضيرة، ثم صاروا يأكلون الفالوذج والسكباج والكباب، فلما أكلوها عربوا أسماءها وأدخلوها في لغتهم، وكانوا يسمعون الصنج والمزمار، فصاروا يسمعون الناي والقانون والبربط، فلما سمعوها عربوها، وكانوا يسكنون في الخيام، فصاروا يسكنون الدور مزينة بالفسيفساء والقاشاني، فلما استعملوها عربوها، وما كانوا يعرفون علما، ثم عرفوه، فواجهوا مصطلحات العلوم من جبر وهندسة ومنطق وطب وفلسفة، فمرنوا لها وتغلبوا على صعوبتها، وجعلوا لكل شيء لفظا منقولا أو مرتجلا أو مشتقا، فكانت لغتهم تطابق معيشتهم.
أفليس غريبا بعد ذلك أن نجمد على ما وصلوا إليه مع أن المدنية والحضارة والعلم والصناعة ووسائل المعيشة لم تقف حيث وقفوا، ونمت أضعاف ما كانت؟
أخطر خطأ في هذا الباب اعتقادنا أن اللغة مقدسة، فنعبدها ونجلها، ولا ندخل عليها تغييرا ولا تعديلا، مع أن اللغة خادمتنا وليست سيدتنا ولا إلهنا، هي التي تخضع لنا، لا نحن الذين نخضع لها، هي عرض من أعراض حياتنا كالثوب نلبسه والمتاع نستخدمه والبيت نسكنه، وكل شيء من ذلك يجب أن يخضع لظروفنا ومقتضيات أحوالنا، يغير الثوب حسب تغير الجسم، ويبدل بناء البيت حسبما تتطلبه راحتنا، ويصلح المتاع حسب موقفه منا: وهكذا اللغة هي آلة خادمة ذليلة للتعبير عما في نفوسنا، نملكها ولا تملكنا، وتقدسنا ولا نقدسها، ويجب أن تموت أجزاؤها وتحيى أجزاؤها وتخلق أجزاؤها حسب حاجتنا، وأن تتشكل لنا لا أن نتشكل لها، وإلا كانت لغة أثرية لا لغة حية.
إن كانت اللغة غير مقدسة فمعاجمها غير مقدسة، يجب أن تخضع لكل تقدم علمي نصل إليه، فتعريف الألفاظ يجب أن يكون حسبما أقره العلم الحديث، واللفظ إذا استعمله جيلنا ولم يكن في المعاجم وجاريا على النمط العربي يجب أن يدون فيها، ولا يحتج بأنه غير موجود في المعاجم القديمة، ولا نصغي إلى هؤلاء المتزمتين الذين يصرخون دائما في وجهنا: «إن هذا ليس في القاموس» كأن القاموس كتاب منزل يتعبد به - إن هذا النمط من القول شل للفكر وعقدة في اللسان وتعويق للأقلام، وحرام ما نحن فيه من ضياع أوقات المدرسين والمفتشين في الجدال في أن هذه الكلمة في المعجم أو ليست فيه، وفي سبيل ذلك تضيع قيمة المعاني والأفكار والأساليب.
كم أعمار ضاعت في هذا الباب على غير جدوى، وكم صحائف سودت في هذا الموضوع من غير طائل، وكل هذا مبني على هذا الخطأ في تقديس اللغة.
ما يضرنا أن نستعمل تعبير «من جديد» إذا استسغناه ولو لم يرد في المعاجم؟ وما يضرنا استعمال كلمة «هناء» إذا أقرها أدباؤنا ولو لم توجد في المعاجم؟ ولماذا نفحم في الإجابة إذا قال قائل: إنها وردت في كتاب «العمدة» أو في مقدمة ابن خلدون، ولا يكون لنا الحق الذي كان لابن رشيق وابن خلدون؟!
لقد ظنوا أن «القاموس» نص على كل لفظ عربي، فما لم يوجد فيه فليس بعربي، وهذا غير صحيح مطلقا، فهو لم يذكر «الرحمن الرحيم» في رحم، وقال: «الشنار أقبح العيب والعار» ولم يذكر العار في مادته، وقال في أول كتابه: «الحمد لله منطق البلغاء باللغى في البوادي»، ولم يذكر في مادة لغة أنها تجمع على لغى، وقال في الخطبة أيضا: «فصرفت صوب هذا القصد عناني» ولم يذكر في مادة صوب أن من معانيها الجهة، إلى كثير من أمثال ذلك.
وهب أن العرب لم ينطقوا بها، فلماذا لا ننطق بها نحن إذا جرت على أساليب العرب وأوزانها وأصولها؟!
كل ما في الأمر أن المسألة لا يصح أن تكون فوضى ينطق كل من شاء بما شاء، وإلا انقلبت الحرية إلى عكس المراد منها، فاللغة مواضعات ووسيلة للتفاهم في حدود معقولة، إنما الواجب أن يكون في الأمة متخصصون مرنون أحرار عالمون بالعربية وأسرارها مطلعون على حاجة الأمة ومطالبها اللغوية، يوسعون على الناس في كلامهم وفق أسس اللغة ويضعون لها ما هي في حاجة إليه.
وهذا هو عمل المجامع اللغوية لو أنها قامت بواجبها.
لغة الأزهار والثمار
مما التفتت إليه الحضارة الإسلامية وتفننت فيه لغة الأزهار والثمار والتخاطب بها، وخاصة في مجال الحب والغرام.
لقد عنوا بالأزهار والثمار، فجلبوا أنواع الأشجار من أطراف الدنيا، وتفننوا في المغارس وطعموها، وولدوا منها أنواعا جديدة، وبحثوا وجربوا وألفوا، ووضعوا التقاويم لما يعمل في كل شهر من شهور السنة لأنواع النبات المختلفة، ثم أنشأوا البساتين حول البيوت وعلى شواطئ الأنهار وفي ضواحي المدن، وبلغت بغداد في ذلك مبلغا عظيما، فخصصوا بعض البساتين لبعض الأزهار أو الثمار، فنرى - فيما يرد من الأخبار - «بستان النارنج» و«بستان التفاح» و«حديقة النرجس» و«حديقة الورد» و«حديقة البنفسج»، وقال ابن وحشية: «إنهم لشدة غرامهم بالنرجس أكثروا من زرعه، وأقاموا له حدائق بذاتها».
وقال المقدسي: «إنهم اعتنوا شدة الاعتناء بالبنفسج، فكان من أحسن ما يمكن، جيد الرائحة، لا يشبهه بنفسج، وغرسوه في حدائق خاصة»، وأحاطوا البساتين بشجر السرو، قال أحمد بن سليمان بن وهب:
حفت بسرو كالقيان تلحفت
خضر الحرير على قوام معتدل
فكأنها والريح حين تميلها
تبغي التعانق ثم يمنعها الخجل
كما أحاطوها بشجر الخطمي؛ لأنه يتشابك ويعلو نحو القامة وله شوك، ومن أجل ذلك صلح سياجا، وحرسوها بالكلاب الكبيرة القوية الجارحة، جاء في الأغاني أنه قيل لعثمان بن دراج الطفيلي (وكان في أيام المأمون): أتعرف بستان فلان؟ قال: إي والله، إنه للجنة الحاضرة في الدنيا. قيل: فلم لا تدخل إليه فتأكل من ثماره، وتجلس تحت أشجاره، وتسبح في أنهاره؟ قال: «لأن فيه كلبا لا يتمضمض إلا بدماء عراقيب الرجال».
وتردد عليها الناس ينعمون بمناظرها وهوائها، ويأكلون من ثمارها، ويشربون تحت ظلالها، وكانت نعمة على الأدب بما أوحت وما ألهمت، ومصداق ذلك شعر أبي نواس وغيره من الشعراء.
وأكثروا من زراعة الأزهار، وأبدعوا في تلوينها وتوليدها، فهذا الخيري (المنثور) كانوا يعرفون منه سبعة ألوان، قالوا: «وقد يركب بعضه على بعض، فيقبل التركيب، ويخرج زهره مركبا في اللون والطبع والريح، ولكن في تركيبه صعوبة، لأنه يحتاج إلى لطافة في العمل وصبر وحذق».
وهذا البنفسج يحتفلون به كل الاحتفال، وباكورته لا تهدى إلا لخليفة أو وزير أو أمير، وتجعل منه طاقات تدور بها فتيات جميلات في الشوارع والأسواق، فيأخذ المشتري من الفتاة زهرة، ويمنحها ما شاء من دراهم، وعنوا به عناية فائقة في غرسه وسقيه واختبار منبته، لرقة طبعه ولطف مزاجه.
وهذا الورد أصنافه لا تعد ولا تحصى: منها الأبيض الخالص البياض، والأبيض المنقط بصفرة، والأصفر الذهبي، والأحمر القاني، والأحمر الفاتح، والأحمر القريب من السواد ، والورد الألفي سمي بذلك لكثرة ورقه، حتى ظنوا أنها تبلغ الألف مبالغة، ومنه نوع نصفه أحمر ونصفه أبيض، أو نصفه أحمر ونصفه أصفر، وورد خارجه أحمر وداخله أصفر، وسموه الورد الموجه، وفيه يقول بعضهم:
ووردة جمعت لونين خلتهما
خدي حبيب وخدي هائم عشقا
تعانقا فبدا واش فراعهما
فاحمر ذا خجلا واصفر ذا فرقا
وكان بعض باعة الورد يدخنون الورد الأحمر بالكبريت على أشكال مهندسة فيبيض مكان دخان الكبريت، ويكون له نقش عجيب، ويدعون أن ذلك طبيعي، فيبيعونه للمغرمين بالورد بأثمان عالية.
وهذا النرجس أحبوه وفتنوا به، وحسنوا نوعه، وقالوا: إن خير أنواعه النرجس المضاعف والنرجس الدمشقي.
وتأمل فيما ذكره المسعودي في وصف «بستان النارنج» قال: «وكان للخليفة القاهر بستان من ريحان وغرس من نارنج قد حمل إليه من البصرة وعمان مما حمل من أرض الهند، قد اشتبكت أشجاره ولاحت ثماره، من أحمر وأصفر وأزرق وغيرها، وبين ذلك أنواع الغروس والرياحين والزهر، وقد جعل مع ذلك في الصحن أنواع الأطيار من القماري والشحارير والببغاء، مما قد جلب إليه من الممالك والأمصار، وكان «القاهر» أكثر جلوسه فيه، وكل شربه عليه». •••
ثم بلغ من ولوعهم بالأزهار والثمار أن كان لها بين الظرفاء والمحبين والمتيمين لغة متعارفة تدل على الهجر والوصل، والدعوة والتحذير، والتفاؤل والتشاؤم، وما إلى ذلك.
فأحيانا يتخذون هذه المعاني مما يرمز إليه اسم الزهرة أو الثمرة، فكرهوا التهادي بالسفرجل لأن أوله سفر، قال الشاعر:
أهدت إليه سفرجلا فتطيرا
منه وظل متيما مستعبرا
خاف الفراق لأن أول اسمه
سفر فحق له بأن يتطيرا
وكرهوا كذلك التهادي بشقائق النعمان؛ لأن أوله شقاء، وفي ذلك يقول الشاعر:
لا يحب الشقائقا
كل من كان عاشقا
إن نصف اسمه شقا
ء إذا فهت ناطقا
ويكرهون التهادي بالذهب حتى لا يعتري العشق ذهاب، ومن ذلك كراهتهم للتهادي بالسوسن؛ لأن أول اسمه سوء، والياسمين لأن أوله يأس، والخلاف لدلالته على الخلاف، والبان لدلالته على البين وهكذا، وقد وردت في ذلك أشعار كثيرة.
وكثيرا ما كانت تخرج الجارية ومعها حارس فتصطحب طاقة من أزهار ورياحين، ثم تشير لصديقها خلسة بما تريد مما يدل عليه نوع هذا الزهر أو هذا الريحان، فتشير - مثلا - بالنمام إلى أن حارسها نمام، وهكذا.
ويتفاءلون بالتهادي بالعود؛ لأن في اسمه معنى العودة، وبالنبق لإيمائه إلى البقاء كما قال الشاعر:
أيا أحسننا خلقا
ومن فات الورى سبقا
تفاءلت بأن نبقى
فأهديت لنا النبقا
فأبقاك إله النا
س ما سرك أن تبقى
وأحيانا يرمزون بالزهر أو الثمر، لا من حيث ما يدل عليه لفظه، ولكن من حيث ما يدل عليه معناه أو ترمز إليه صفاته، فكرهوا التهادي بالأترج؛ لأن ظاهره غير باطنه، فهو حسن الظاهر حامض الباطن، طيب الرائحة مختلف الطعم، قال الشاعر:
أهدى له أحبابه أترجة
فبكى وأشفق من عيافة زاجر
خاف التلون إذ أتته لأنها
لونان باطنها خلاف الظاهر
ورمزوا بالبنفسج للوفاء والمحافظة على العهد، قال الشاعر:
أهدت إليه بنفسجا يسليه
تنبيه أن بنفسها تفديه
وإلى قريب من هذا المعنى يرمز بعض الإفرنج، ففي إهدائه معنى اذكرني ولا تنسني، ولا أدري من أي صفات البنفسج اشتقوا هذا المعنى إلا أن يكون مجرد مواضعة.
وأما الورد فاستعملوه كثيرا أداة للتحية، قال الشاعر:
عشية حياني بورد كأنه
خدود أضيفت بعضهن إلى بعض
وتطير منه بعضهم؛ لأنه قليل اللبث، سريع الفناء، وفي ذلك يقول القائل:
أنت ورد وبقاء ال
ورد شهر لا شهور
يذهب الورد ويفنى
وإلى الآس نصير
ورمزوا بالورد الموجه للتهتك والحب للمال، فيشير به المحب للقينة المغنية بأنها لا تفي بحب، إنما تحب المال.
ويرمزون بالطرفاء إلى أن صاحبها عشق فذبل فاصفر، فهو يحملها استعطافا، يشكو الألم ويستجدي الرحمة. •••
ومما يتصل بهذا الباب ما شاع عندهم من صنع تماثيل من العنبر يمثلون فيها أشخاصا أو طيورا أو أزهارا أو حيوانات، ويكسون بعضها بالذهب، ويضعون فيها فصوص الأحجار الكريمة، يبتاعها الناس للتهادي، ويرمزون بها لغرض يرمون إليه.
وقريب من هذا - وإن لم يكن رمزا - ما حكى بعضهم أنه رأى بين يدي بعض الكتاب طبق ورد أحمر قد كتب فيه بورد أبيض، وما حكى آخر أنه رأى طبق ريحان كتب فيه بياسمين ونسرين.
أما التفاح فقد تفننوا فيه أكبر تفنن، وحملوه أنواع الرسائل، وجعلوه يمثل أعظم دور في الحب والغرام، وساعدت حمرته وصفرته أن يتلاعبوا به، حتى بلغ من حب بعض الظرفاء له أن حرم على نفسه أكله؛ لأنه تمثل فيه حبه، وحتى بلغ من تفنن الهواة أن كان بعضهم يبتدر التفاح وهو على شجره، فيشير فيه إشارة، أو يكتب عليه شعرا، حتى إذا نضجت التفاحة كانت صفراء والإشارة أو الكتابة عليها حمراء أو العكس، فيتهادون بها أو يبيعها البستاني بالثمن الكبير، وقد قال الشاعر في تفاحة صفراء كتب عليها بالأحمر:
تفاحة صيغت كذا بدعة
صفراء في لون المحبينا
زينها ذو كمد مدنف
بدمعه إذ ظل محزونا
وتصوف فيها بعض العشاق، فقرأ فيها رمز الجمال، واتخذها أنيسا في خلوته، جليسا في وحدته، نديما على الشراب إذا عدم الندمان، وأهداها المحب رسول الغرام، وشفيع الهوى، وأهدتها الحبيبة دليل الرضا وانتهاء الجفا:
لما نأى عن مجلسي وجهه
ودارت الكأس بمجراها
صيرته تفاحة بيننا
إذا ذكرناه شممناها
واها لها تفاحة أشبهت
خديه في بهجته واها
ذكرتك بالتفاح لما شممته
وبالراح لما قابلت أوجه الشرب
تذكرت بالتفاح منك سوالفا
وبالراح طعما من مقبلك العذب
هذا قليل من كثير مما ورد في الأدب العربي في هذا الباب.
حديث الخميس (1)
كانت جلسة طريفة، جلسة الخميس الماضي في «لجنة التأليف» ضمت طائفة من خير رجالنا، ومن بعض إخواننا السوريين، وتشقق الحديث وتنوع وذهب فنونا، إلى أن انتهى المطاف بنا إلى الشرق وشئونه.
قال أحدنا: إن أشد ما يؤسفني من حالة الشرق الآن أن أمامه فرصا نادرة، ثم هو لا يعرف كيف ينتهزها، كل أمم الأرض تدرس موقفها واحتمالات نتائج الحرب الحاضرة وترسم خطتها لمستقبلها، وتكلف علماءها وقادتها أن يدرسوا شئونها، وما كشفته الحرب الحاضرة من عيوب نظامها، وما تقترح في المستقبل من معالجتها هذه العيوب، وما تؤمل من نظم جديدة لإصلاح هذه الأمراض، فهم يجمعون الإحصاءات، ويتقصون المشكلات، ثم يضعون الخطط، ويرسمون طرق التنفيذ، أما الشرق فلم يعبأ بكل ذلك، وترك الأمور للقدر يسيرها كيف شاء، كأن الحرب لا تعنيهم، وكأنها لا تقرر مصيرهم، وكأن الأمم لا تتقاتل عليهم، فلو سألت قادتهم: ما خطتكم المستقبلة، وماذا تؤملون، وماذا تفعلون، لتبلغوا ما تريدون؟ لم يحيروا جوابا، كأن السؤال لم يخطر لهم بال. - هل هناك حاجة لمثل هذه الأسئلة؟ إن الغاية واضحة وهي الاستقلال، كفى به مطلبا. - الاستقلال - يا أخي - كلمة عامة لا يصح أن يكتفى بطلبها، والمناداة بها من غير بحث وتفصيل، هي كخطيب الجمعة يقول: اتقوا الله واعملوا صالحا، من غير بيان لما هو العمل الصالح المحدود المبين الذي يدعو إليه، خذ لذلك - مثلا - استقلال سوريا، فهم حين بدءوا يخرجونه إلى حيز العمل ظهرت مشاكل عدة: ما هي حدود سوريا؟ وكيف تحكم؟ وما موقف أجزائها المختلفة؟ ونحو ذلك، فإذا فصلت الأمور ظهرت عيوبها ومشاكلها، وتطلبت هذه المشاكل وهذه العيوب حلولا. - وماذا تطلب من الشرقيين أن يفعلوا؟ - أطلب أن يتناسى قادة كل أمة الخلافات الشخصية بينهم، ويجتمعوا ويتشاوروا في مستقبلهم، ويضعوا الخطط التي يكسبون بها من ظروفهم الحاضرة، فليس يكفي تدبير الغذاء وضبط الأسعار، إنما لا بد من حصر ما نشكو منه وما أبانت الحرب الحاضرة من سوء موقفنا، ثم الإجابة عن هذه الأسئلة: كيف نتقيها؟ وكيف نسلك السبيل لملاقاتها وما واجبنا الآن نحوها؟ وما واجبنا بعد أن تضع الحرب أوزارها؟ فإذا فرغ قادة كل أمة من ذلك التقوا بقادة الأمم الأخرى الشرقية، فتفاهم الجميع على الخطط المشتركة الممكنة، ورسموا مدى التعاون فيما بينهم، وأعلنوا ما يصح إعلانه في ذلك لأممهم، فإن في كل أمة شبانا ملئوا وطنية وحماسة وإخلاصا، ولكنها حماسة غامضة، حماسة حائرة لا تعرف أين تتجه، وهم يتطلعون يمينا ويسارا إلى قادتهم فلا يجدون منهم مرشدا. - إني أفهم قولك فيما يتعلق بكل أمة، ولكن أصارحك القول أني لم أفهم هذا الكلام فيما يتصل بالأمم الشرقية أو العربية، فلكل أمة مشاكلها الخاصة، هذه فلسطين مشكلتها اليهود، وهذه سوريا مشاكلها طريقة اتحادها، وكيف يكون موقفها من لبنان، وموقفها إزاء فرنسا الحرة وغير الحرة، ومشكلة العراق الخلافات بينه وبين إيران، وتنوع عناصره بين عرب وكرد، وسنية وشيعة، وبدو وحضر إلخ، فكيف تربط هذه الأمم برباط واحد، وتحملها كل هذه المشاكل؟ إنك إن فعلت هذا كنت كمن يكلف عشرة رجال من أرباب الأسر ألا يعنى كل بأسرته، بل يعنى العشرة بالأسر العشر على السواء؛ وفي هذا من الضرر ما لا يخفى، ومن ضياع المصالح ما هو واضح جلي، لهذا لم أفهم الحلف العربي على الصورة التي شرحها الكتاب، خير لكل أمة أن تعنى بشئون نفسها وتجاهد في سبيل نيلها حقوقها، وتتخذ الوسائل التي تراها لترقية أحوالها. - إن اختلاف المشاكل لا يحيل التعاون، فهذه الأمم الأوربية والأمريكية مع اختلاف مواقفها ومشاكلها لم يمنع كل دولة أن تتحالف مع من ترى المصلحة في محالفتها.
ولست أقصد أن مشاكل كل أمة تحلها الأمم جميعا بواسطة ممثليها، فهناك مشاكل داخلية تستقل بحلها كل أمة كما يتراءى لها، وهناك مشاكل خارجية يمكن التعاون بين الأمم الشرقية في حلها، وقادة الرأي في الأمم المختلفة مجتمعين أقدر على حلها متفرقين، وصوتهم أشد قبولا وأدعى استماعا، وهب أن التعاون السياسي والحربي عسير، فما قولك في التعاون الثقافي والاقتصادي؟ أليس إذا بدأنا هذه الخطوة وثبت نجاحها كان ذلك أدعى إلى التعاون السياسي، وعلى الأقل التشاور السياسي؟ - إني أسلم بالتعاون الثقافي والاقتصادي، ولكني أستصعب التعاون السياسي، وهب أنه جائز نظريا، فهل ترى أن الدول الأوربية تمكن الشرق من ذلك؟ - أعتقد كل الاعتقاد أن نظرة الغرب إلى الشرق ستتبدل بعد هذه الحرب، لقد كانت النظرة السائدة عند الغرب إلى أيام الحرب الحاضرة أن الشرق يجب أن يكون ضعيفا حتى يسهل استغلاله، وجاهلا حتى لا يعرف حقوقه، ومنهمكا في شهواته حتى لا يفيق إلى نفسه، ولكني أعتقد أنه وجد في الساسة الغربيين من أصبح يرى من مصلحته أن يكون الشرق قويا مسلحا عاقلا متيقظا، ثم يصادقه مصادقة القوي للقوي، ويوجهه لخير الإنسانية ولبناء العالم؟ وأظن أن هذه النظرة البعيدة العميقة هي التي ستسود بعد الحرب، وهب أنها لم تسد أفيحق للغرب أن يتعاون على عدم تمكيننا من التعاون، ثم لا نجد في تذليل الصعوبات التي تحول بيننا وبين التعاون؟ - يظهر - يا أخي - أن الفرق بيني وبينك هو الفرق بين مزاجين: مزاجك المتفائل، ومزاجي المتشائم، فقد بلوت من تفكك الشرقيين ونومهم وخصوماتهم وبحثهم عن لذاتهم الشخصية ما جعلني أيأس كل اليأس، وأقلب الأمور على وجوهها المختلفة واحتمالاتها المتعددة، فأنتهي في كل احتمال إلى اليأس اللاذع. - إنك مخطئ في يأسك، محتاج إلى منعش لمزاجك، وعليك أن تنظر إلى الماضي لتمتلئ أملا في المستقبل، فانظر إلى الشرق منذ عشرين عاما أو خمسين عاما وانظره اليوم.
ألا تراه يخطو نحو النجاح بخطى واسعة، وإن لم تنظر إليه وحده فانظر إلى أساليب الاستعمار في الأمم المختلفة كيف تحسنت وتقدمت، وكيف اتجهت نحو اكتساب قلوب الأمم المحكومة بعد أن كانت تحكمها بالعنف، وسيؤدي هذا السير حتما إلى إلغاء الاستعمار فعلا كما ألغي - تقريبا - اسما، وكلا الأمرين يبشر بمستقبل للشرق زاهر، سواء من ناحية تنبه شعوبه، أو من ناحية تنبه الغرب وإدراكه التام للحقائق وبعد النظر. •••
ودعيت للحديث في التليفون، فغبت عن المجلس دقائق، فلما عدت وجدت مجرى الكلام تغير، فلم أدر كيف تسلسل الحديث حتى وصل إلى الكلام في الاقتصاد.
سمعت قائلا يقول: لا أمل لنهوض الشرق إلا بعنايته بمسائله الاقتصادية، سيظل الفلاح بائسا والعامل بائسا وأوساط الناس تعساء ما لم تصلح الحالة المالية، فهي عصب الحياة، وقد خبرت حالة سوريا والعراق ومصر فوجدتها كلها في سوء الحال سواء. - كيف يمكن أن تصلح الحال الاقتصادية ومال البلاد في يد الشركات الأجنبية، وخير المال وزبدته لغير أهله، وليس لأهله إلا الفضلات؟ إن جمهور الأغنياء من المصريين لا يعرفون لاستغلال المال وسيلة إلا شراء الأراضي، ولا يؤمنون بشركات ولا مشروعات، وإذا آمنوا بها نظريا فضعف ثقة الناس بعضهم ببعض يحول بينهم وبين الإقدام على التعاون وتأسيس الشركات المالية. - وحتى إذا أسسوا لم يعرفوا كيف يزاحمون الأجانب فيها، وقد أعجبني ما روي أن كبيرا زار مؤسسة وطنية، فلما درس حالتها قال: «لا بأس بها لولا أنه ينقصها يهودي»، وهو بالطبع لا يعني اليهودي بمعنى الكلمة، ولكنه يعني الخلق اليهودي في معرفته وجوه تدبير المال. - إن مشاكل الشرق المالية لا تقل خطرا عن مشاكله السياسية، فأمامه شركات وهيئات أجنبية قد وضعت يدها على موارد الثروة الهامة، وهي مسلحة بجميع أنواع الأسلحة القوية، فهي مسلحة برأس المال الكبير، وبالإدارة الناجحة، وبالأخلاق التجارية الرابحة، وبغير ذلك من أنواع السلاح الظاهرة والخفية، فكيف يستطيع الشرق أن يتخلص من هذا كله؟ وماذا في يد المواطنين إلا الصنائع التافهة، والزراعة التي لا تدر القوت الضروري، وأعمال الخدم الحقيرة، والتجارة التي ترشح من خرم إبرة؟ - ومن الغريب أننا إلى الآن لم نكتشف كيف نعد أبناءنا للخلق التجاري والصناعي، ولا يزال التعليم كما كان منذ قرن أكثر غايته إعداد الموظف الحكومي. - مصداقا لقولك أعرف آباء كانت لهم تجارة رابحة، أو زراعة ناجحة، فرزقوا أبناء علموهم ليحلوا محلهم، فعلموهم التجارة الحديثة والزراعة الحديثة، ومع هذا لم ينجحوا نجاح آبائهم الجهلاء، بل في حالات كثيرة أضاعوا ثروة آبائهم، ولم ينفعهم علمهم الحديث بشيء. - وما تظن سبب ذلك؟ - سببه نقص الخلق التجاري أو الزراعي العملي الواقعي الذي يسترشد بالحياة لا بالكتب وحدها، ويدعو إلى ضبط النفس لا الجري وراء الشهوات، وإلى معرفة الرجل دخله وخرجه، وما يسمح له دخله بإنفاقه وما لا يسمح. •••
واستحر الحديث، حميت الرءوس، وتحفز الكثيرون للكلام في الموضوع وتأييده والرد عليه، وما نشعر إلا والنور قد انطفأ، وأتى من يخبرنا أن الأسلاك تماست ولا أمل في إصلاحها الآن، وكثيرا ما حدث مثل هذا، فمشكلة النور في «اللجنة» مشكلة مزمنة، وكل يوم تفسد الأسلاك وتصلح، وحتى هي الأخرى محتاجة إلى خبير أجنبي يصلحها صلاحا لا فساد معه.
فإلى اللقاء!
عذاب المصلحين
قرأت قوله تعالى:
أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون .
وقرأت حديث ورقة بن نوفل مع رسول الله، إذ حدثه الرسول بما نزل عليه من وحي، فقال له ورقة: «ليتني أكون حيا، إذ يخرجك قومك»، قال رسول الله: «أومخرجي هم؟!»، قال: «نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي».
وقرأت كثيرا من سير المصلحين المجددين، فرأيت أكثرهم - في اضطهاد الناس لهم - سواء، ورأيت تاريخهم يكاد يتشابه، دعوة حارة إلى الإصلاح، يتبعها تألب العامة عليهم، واضطهاد الرأي العام لهم، والتنكيل بالمصلح، ثم انتصار الأفكار الجديدة التي أتى بها هذا المصلح، بعد أن يكون قد انهدت قواه، أو انتقل إلى رحمة الله.
لماذا كل هذا؟ ولماذا يتشابه التاريخ حتى كأنه قانون طبيعي؟ ولماذا يتكرر هذا المنظر في الشرق والغرب وكل مكان حل به الإنسان؟
السبب في هذا أن الفكرة الجديدة تأتي وقد التأمت أفكار الناس على نمط خاص، وتجمعت وشد بعضها بعضا وتماسكت حلقاتها.
تأتي الفكرة الجديدة غريبة عن هذه الأفكار المألوفة فلا تجد لها مكانا بينها، ولا تجد نفسها منسجمة مع الأفكار الموجودة، ويشعر الناس أن هذه الفكرة نابية عن أفكارهم، غير منسجمة مع النظام العقلي الذي استقر في أذهانهم، فيكرهونها، ويقفون في سبيلها، وكلما كانت الفكرة الجديدة أبعد عن المألوف كانوا لها أكثر كراهية ومقتا، وأشد تحمسا لمناهضتها وطردها أو القضاء عليها.
إن أفكار كل إنسان تبنى بنيانا بطيئا مما رآه وسمعه وقرأه وصادفه في حياته، وهي مع تكونها في أزمان مختلفة تكون وحدة منسجمة، ولا تقبل أن يزيد عليها إلا ما لاءمها وانسجم معها، فإذا رأت فكرة جديدة لا تلتئم مع هذا النظام المحبوك، ولا تستطيع أن تكون حلقة في الشبكة العقلية المنسوجة طوردت وأقصيت، ثم إن هذا النسيج من الأفكار يشعر أنه إذا أتت الفكرة الجديدة الغريبة عنه ودخلت فيه أفسدت نظامه وأقلقت راحته، فهو يصدها ويقف في سبيلها ولا يسمح لها بالدخول، كطائفة من الدجاج مؤتلفة منسجمة نشأت في بيت واحد ثم دخلت عليه دجاجة جديدة لم تنشأ في بيئتها ولم تعتد عاداتها ، فهي تطارد وتبعد عن الحب وتنقر وتعذب.
ثم إن المخ يشعر أنه إن قبل هذه الفكرة اقتضته تعديلا في نظامه، وتجديدا في أوضاعه، وتغييرا في نسيجه، ومجهودا كبيرا في إعادة ترتيب القديم والمألوف، وهذه عملية شاقة لا يرتضيها العقل في سهولة ويسر، ولا سيما أنه يشعر أن الفكرة الجديدة ستكلفه إعادة تقويم الأشياء ووزنها وزنا جديدا، وهو قد استنام إلى ما حدث وألف ما كان.
ومخ الإنسان - وهو مركز عقله - أحدث الأعضاء وجودا في الإنسان، ومادته التي يتكون منها رخوة هينة لينة، لم تتصلب تصلب الأعضاء القديمة في أسلافنا من الحيوان كاليد والرجل ونحوهما، ومن أجل هذا كان المخ أشد الأعضاء حساسية بالتعب وكراهية لمداومة العمل، وليس من الناس إلا القليل القادر على إعمال العقل وتحريك المخ زمنا طويلا، والفكرة الجديدة تكلف المخ عناء شديدا في قبولها، لما يترتب عليها من أعمال كثيرة، ولذلك هو يرفض كل هذا العناء فيرفض الفكرة ويستريح، ولذلك كان أكثر الناس يخافون التفكير؛ لأنه مؤلم لهم، فما يبدأ فيه حتى يشعر بانقباض في صدره، وصداع في رأسه، وما أقل من يجد في التفكير لذته.
من أجل هذا كان دعاة التجديد والإصلاح في كل أمة وفي كل عصر نادرين جدا، وندرتهم لم تأت من ندرة الذكاء، وإنما أتت - في الأغلب - من ندرة احتمال العقل الصبر على البحث وراء الحق، وندرة الشجاعة في اعتقاد الحق والجهر به، فالناس - إلا في القليل النادر - يألفون الحياة كما هي لا كما ينبغي أن تكون، وهم بين من لا يجد زمنا إلا لتحصيل قوته، ومن يجد الفراغ ولكن لا يستطيع عقله الصبر على البحث الحر، أو يجد كل ذلك ويستطيعه، ولكن لا يستطيع الجهر به لما يتوقع من متاعب وآلام: من مساس بسمعته، وقدح في ذمته، وتهكم على عقله، وتجريح لخلقه، ونيل من دينه.
والتاريخ يجري على نمط واحد منذ تكونت الجمعية البشرية إلى اليوم، يلمع فيها أفراد قلائل في كل عصر، يخرجون على إلف الناس وما اعتادوه في أفكارهم وعقائدهم وعواطفهم، فيتألب عليهم جمهور الناس، لكسلهم العقلي، ولأن الدعوة الجديدة تقلق راحتهم وتدعوهم إلى قلب نظامهم العقلي والعاطفي، كالذي يدعو كسلان أن يغير نظام بيته أو نظام معيشته، وبدلا من أن يوجه غضبه إلى نفسه، لكسلها أو جمودها، يحول غضبه على من سبب له هذا القلق، ثم لا يقتصر على محاربته بالأساليب الشريفة، بل يحاربه بكل سلاح، ولا يتورع عن أن يختلق عليه ويتهمه بما يستطيع من تهم، ويرى أن كل وسيلة تفضي إلى قتل هذه الفكرة الجديدة جائزة ومشروعة، فإذا وصل إلى هذا الغرض بإعدام الفكرة أو إعدام قائلها، اطمأن واستراح؛ لأنها تتفق مع طبيعته في الكسل، واستنامته إلى ما ألف.
وقد اعتدنا أن نجد مسألتين تتصلان بهذه الظاهرة التاريخية:
الأولى:
أن أكثر من يناصر الفكرة الجديدة يكونون عادة من الشباب، أو من ينتفع بها من الطبقات والأفراد؛ وتعليل ذلك واضح، فالشباب لم تتجمد بعد شبكة أفكارهم، ولا يزال فيها مرونة تصلح لأن تتقبل شيئا جديدا، كما تصلح للتشكيل الجديد، ولأن عواطفهم الحارة ترحب بالشيء الجديد الذي يتطلب منهم عملا وقوة ونزالا، وأما من ينتفعون بالفكرة فأمرهم واضح، فقد ارتبطت الفكرة بمصالحهم، فهم يؤيدونها لما وراءها من مغنم.
والثانية:
أننا نرى - في الغالب - تأييد السلطات للفكرة القديمة ومناهضتهم للفكرة الجديدة، سواء كانت الفكرة الجديدة تمسهم مباشرة أو لا تمسهم؛ وسبب ذلك أن السلطات في الغالب تتطلب السلامة أكثر مما تتطلب التقدم، والرأي العام والسواد الأعظم من الناس يناصر الأفكار القديمة لما أسلفنا، فالسلطات يهمها - محافظة على السلامة والطمأنينة والهدوء - أن تغضب على من يغضب الرأي العام ويقلق راحته؛ لأن في راحة الجمهور راحة السلطات، ولأن السلطات كالأفراد أحب شيء إليها راحتها من التفكير ومن وجع الدماغ، الفكرة الجديدة تحمل في ثناياها حربا وحركة واضطرابا وانقساما إلى معسكرات، وذلك يتطلب مجهودا من السلطات كانت في غنى عنه، فهي أيضا تغضب على من سبب لها هذا القلق والاضطراب ودعاها إلى التفكير ورسم الخطط.
لهذا كانت عظمة المصلحين في تحملهم هذه الصعاب كلها أكثر من عظمتهم في العثور على الحق؛ لأن عثورهم على الحق تم في هدوء بينهم وبين أنفسهم، أما تحقيق هذا الحق فلا يتم إلا بكل هذه المصاعب التي ألممنا بها.
ومع هذا فإنا نرى أن الأفكار الجديدة الصالحة تبقى على الرغم مما لاقت من صعاب، وعلى الرغم من موت دعاتها، بل إن موت دعاتها يخفف من غضب المعاندين للفكرة؛ لأن السواد الأعظم من الناس لا يستطيع الغضب على المعاني ما لم تجسم في شخص، فإذا مات هذا الشخص الحسي فترت قوة المعارضة للمعاني، ويأتي جيل الشباب الذي اعتنق الفكرة الجديدة، فيكتسح الجيل القديم المعارض، ويتبوأ مراكزه في الحكم وفي العمل، فتسود أفكاره، حتى تبلى أفكاره هو أيضا، ويمثل الدور من جديد.
هذا هو قانون الطبيعة منذ خلق الإنسان، يجري الناس شوطا، فيلهم القادة فكرة أو أفكارا يستلزمها الرقي، فيعارضها أعداء الرقي، ثم يموت الدعاة والمدعوون ويموت النزاع وتسود الفكرة، ثم يتجدد تمثيل الرواية.
ولو وقف الأمر عند هذا الحد لكان طبيعيا، ولكن الناس بجهلهم يخلقون معسكرات غير طبيعية تدعو إلى النزاع غير الطبيعي، فيفتحون مدارس تعلم على أنماط مختلفة، فتخلق عقليات مختلفة، ويعددون النظم التي تخلق مطامع مختلفة، ويشرعون نظما اقتصادية تكون طبقات متعادية، إلى أمثال ذلك، فيكثر العداء بين الأفكار ويضيع جهد المصلحين في التقريب بين العقليات، مع أن عوامل التبعيد الأساسية لا تزال تعمل عملها.
والأمة العاقلة التي يدرك قادتها هذه الحقائق تقضي على عوامل هذه الاختلافات، ولا يبقى لديها حرب في الآراء إلا ما تقضي به الطبيعة مما يتفق وتقدم الزمان.
رحلة! ...
- إلى أين - يا قائد الرحلات - رحلتك هذا العيد؟ - إلى الطور. - فليكن. «وشددنا رحالنا»، ولكن هذا تعبير لا يعجبني، فقد كان تعبيرا صحيحا أيام الجمال والرحال، أما الآن فلم نركب جمالا ولم نشد رحالا، وإنما أعددنا السيارات، واختبرنا الآلات، وزودناها بما يكفي من ماء وبنزين، فلنعبر عن ذلك كله تعبيرا واقعيا لا تقليديا.
وسرنا على بركة الله نضرب في الصحراء، ونقطع في عشر ساعات ما كانت تقطعه الإبل في عشرة أيام، ولكن ما أعجب العرب! كانوا يركبون الإبل فبلغوا الغاية في التعبير عنها، وعرفوا أجزاءها، وسموا أعضاءها، ووصفوا كل شيء فيها، وأنشأوا حولها أدبا استوفوا فيه كل معنى رائع وقول جميل، حتى لم يتركوا من بعدهم فيها قولا لقائل، وأتينا بعدهم فلم نستطع - مع حضارتنا وتقدمنا وزعمنا إرث العرب - أن نضع أسماء عربية لأجزاء السيارة، ولا أن ننشئ حولها أدبا، لا رائعا ولا غير رائع، واكتفى خبراؤنا أن ينقلوا أسماءها الإفرنجية، كما نقلوا مسماها الإفرنجي، وأخذنا نصوغ عبارات الإبل للدلالة على سير السيارات، وهكذا نحن عالة على الأوربيين في المسمى، وعالة على قدامى العرب في التعبير عنها، فمتى نشعر بالاستقلال؟
ما لنا ولهذا؟ فقد قطعنا الطريق البديع يجمع بين السهول الفسيحة، والوديان تكتنفها الجبال الجليلة ذات الألوان البديعة، نقرب من البحر فنؤخذ بزرقته وتموجه وحركته، ونبعد عنه فنؤخذ بألوان الأرض المختلفة وجمال وشيها وسكونها، وينظر جميعنا إلى ذلك كله نظرات متفاوتة حسب تفاوتنا في ثقافتنا، هذا عالم جيولوجي يقرأ في كل لون دلالة على نوع من المعدن، وفي كل طبقة دلالة على الأعمار، وهذا أديب لا يعنيه من كل ذلك إلا جمال المنظر وجلاله، وروعته وبهاؤه، وموسيقاه ونغماته، وهذا اقتصادي يقرأ في كل صفحة تطالعه منجما مجهولا وثروة ضائعة، يعلم ويندم، ويدرك ويتحسر، وكلنا يلقي خطرات من فيض علمه أو فيض أدبه، وكلنا يأنس بالطبيعة ويستوحيها ويستوعبها، ومن حين إلى حين ندع الطبيعة وحقائقها وجمالها، ونستمع إلى حديث يسرنا بأفانينه، ويؤلمنا بإعادتنا إلى ما هربنا منه.
وكان جميلا منظر الغروب في الصحراء والماء، وحنت علينا الشمس فأخذت تلعب أمامنا ألعابا مدهشة! وآخر ما فعلت أن رسمت لنا في السماء لوحة عجيبة في ألوانها ورسومها وتخطيطها، فلم تدع لونا إلا عرضته في دقة وإحكام، وجمال وانسجام، ورسمت لنا أشكالا فوق الهندسية، تسحر النفس، وتأخذ باللب، ثم أشفقت علينا أن نجن بإبداعها فأسرعت في الاحتجاب، وأرسلت إلينا ابنها البار القمر، فلم يلعب بالألوان لعبها، ولم يتفنن في الأشكال أفانينها، ولكن لونه الفضي الواحد جميل في الماء، جميل في الصحراء، وادع في غير عنف، هادئ هدوء الليل، ملهم إلهام الحب. •••
هذه هي «الطور» أرخى عليها الليل سدوله، وكساها من غموضه فلا ترى إلا أشباحا: شبح أحجار، وشبح أبنية ، وشبح شجر، فلندعها في غموضها وسدولها حتى تأتي إلينا الشمس القوية ثانية فتمزق حجبها، وتكشف أستارها، ولننم الآن نحلم بجمال ما رأينا، ونذوق ما ادخرنا.
وأصبحنا فارتدنا البلد، أبنية حديثة جميلة نظيفة متفرقة، بنيت كلها على أساس فكرة «المحجر الصحي» حيث يعود الحجاج يقيمون فيه أياما للتحقق من صحتهم، فهذه حجر الحجاج، وهذه بيوت الأطباء، وهذه المباخر للتعقيم، وهذه أبنية الموظفين لخدمة هذه الفكرة، ودعانا الشوق إلى ارتياد مكان نزلنا فيه حين عدنا من الحج منذ ثلاث سنين، فاستعدنا ذكريات الحج ومن صحبنا وما لقينا، وكيف كنا في سجن لطيف لا نقدر على ما نقدر عليه اليوم من الطواف في البلد ورؤيته.
وعلى مدى الطرف رأينا مكانا يعج بالناس، عليه حراس أقوياء، شاكو السلاح. - ما هذا أيها الدليل؟ - إنه مجمع المجرمين الخطرين، خيف منهم أثناء الحرب، فتحري عنهم في أنحاء القطر بشهادة العمد والمشايخ وأمثالهم، وجمعوا جموعا وأرسلوا إلى هذا المحجر تباعا، ألف وراء ألف يقدمهم ألف حتى زادوا على ثلاثة آلاف، وهم متخصصون في نواح من الإجرام مختلفة: منهم المتخصص في القتل، ومنهم في تسميم المواشي، ومنهم في المكيفات، ومنهم في السرقة، إلى ما شئت من أنواع الإجرام، قد بلغ من مهارتهم أنهم يجرمون ويختفون ولا تثبت عليهم التهمة فيعاقبوا، فلم يكونوا في السجون، أو حكم عليهم بمدد انتهوا منها، ويخشى أن يعودوا إلى ما ارتكبوا، وليست الحكومة فارغة لهم حتى تفكر في شئونهم مع تحملها أعباء الحرب بل خشية الحرب، فحشدتهم إلى الطور حتى تأمن شرهم وتوفر على الناس ويلهم. - ولكن لماذا اختاروا لهم هذه البقعة؟ - اختاروها لبعدها وانقطاعها، حتى يسهل مراقبتهم، ويصعب فرارهم، ولعلهم اختاروها لأنهم سيكونون على بعد أمتار من الحجاج، فيكون في البقعة أطهر قوم وأخبث قوم، فلعل بركة الحجاج تنضح على خبث المجرمين فتزيل إجرامهم وتمحو الشر من نفوسهم، كما يذهب الماء الطهور بالخبث.
وأحسست بما يجذبني نحوهم، فقربت من سورهم بقدر ما يسمح النظام بالقرب منهم، ومشى أمامى «تابور» منهم عند عودتهم من عمل كلفوه، فتفرست في وجوههم وقرأت في سحنهم، ورثيت لحالهم، ووددت لو سمحت الظروف بأن أعاشرهم، وأدرس نفسيتهم، وأقف على خواطرهم، وكيف يأكلون ويشربون، وكيف يتحدثون - إذا لكان كل هذا مادة خصبة للأديب والنفسي والاجتماعي، يشرفون منها على مجال فسيح في الأدب والنفس والاجتماع.
ورأيت بعض شبابيكهم عريت منها أخشابها، فسألت عن سبب ذلك، فعلمت أنهم أحيانا يعوزهم الدفء فيقلعون أخشاب الشبابيك يستدفئون بنارها، وأحيانا يعوزهم التدخين على نمط خاص فيأخذون عوامات السيفونات يتخذون منها «جوزة» للتدخين، إلى كثير من أمثال ذلك، ولولا أصحابي لوقفت بجانبهم طويلا أعيش في لذة الدرس لأحوالهم ومعيشتهم وبؤسهم والبؤس منهم.
أيتها النفس، لقد جئنا للرياضة وخلفنا الدرس في القاهرة، فارأفي بنفسك وتروضي ولا تدرسي.
وهذا دير كبير من سلسلة أديار في الصحراء، يدل حسن موقعها على دقة ذوق منشئيها، فقد عرفوا خير الأمكنة ينعمون فيها بالهدوء، ويقربون فيها من الله، أرهف حسهم فلم يحتملوا أباطيل الدنيا، وفشلوا في الدنيا فأدركوا أنهم خلقوا للآخرة، وخافوا أن تغويهم زخارف الحياة فهربوا إلى حيث تنقطع عنهم أسباب الغواية، وقاسوا أبعاد الدنيا وأبعاد الآخرة، ووزنوا لذائذ الدنيا ولذائذ الآخرة، وحاولوا أن يجمعوا بين الأبعاد المختلفة واللذائذ المختلفة، فرأوا من اختلاف طبائعها ما يحيل الجمع بينها، ففضلوا ما يطول على ما يقصر، وما يبقى على ما يفنى، وصدمتهم الدنيا صدمة عنيفة ففروا منها حتى لا تتكرر، ولفظوا الحياة أو لفظتهم الحياة فعاشوا على هامشها، وثاروا على الطبيعة الإنسانية فهربوا من العمار إلى الخراب، ولكن سرعان ما خضعوا للطبيعة، فأخذوا يعمرون الخراب، وينشئون من الصحراء جنانا تزهر بالنخيل والأعناب.
ومشينا ومشينا، ووصلنا إلى عين ماء بني عليها حوض يخرج الماء من جانب عذبا دافئا، ويخرج من جانب آخر فيسيل في الوادي، فتنبت منه الأعشاب والأشجار والنخيل، وتزين الصحراء بجمال الخضرة.
ونتسلق الجبال فنحس بما خلفته الحضارة في نفوسنا من أثقال وأوبئة، حتى نعيا من السير اليسير وتنقطع أنفاسنا من الصعود القليل، ونفقد مزايا العيشة البسيطة الطبيعية الملائمة للصحة، ولكننا نكد ونجد حتى نبلغ القمة، وقد بلغ منا الإعياء مبلغه، وإذا بمنظر رائع تنسينا لذاته ما نالنا من الضنى، ننظر يمنة فهذا واد فسيح، وصحراء جرداء نثرت فيها أشجار تكافح للحياة، وننظر يسرة فهذا بحر يعج بالموج وبالحياة، وأمامك جبال متسلسلة تبعث فيك الروعة والجلال، وتتناغم كل هذه المناظر فتؤلف موسيقى يعجز عن وصفها البيان.
ونعود إلى مأوانا فنسمر سمرا لذيذا فيه الفكاهة الحلوة، والقصص الممتع، والحديث يجري عذبا في غير كلفة ولا تصنع ولا منطق، ويملأ وقتنا شاعر يطربنا من إنشائه ومن إنشاده، وتضيق بنا الحجرة فنخرج إلى الجو الطلق والسماء الصافية، والبحر يلاعبه القمر.
ثم إذا خلوت إلى نفسي لا يبرح خيالي حال المعتقلين من المجرمين، أمن الحق أن يحشر المجرمون المتنوعون في مكان واحد، فيكون كل مجرم أستاذا في نوع إجرامه يلقنه تلاميذه، فإذا هم جميعا مجرمون في كل أنواع الإجرام؟ أمن الحق أن نضعهم في هذا المحجر الصحي الذي صرف في أبنيته نحو مليون من الجنيهات، فنعيده إلى مكان غير صحي بفضل ما تسببه معيشة هؤلاء المعتقلين من الأوبئة والأمراض؟ أمن الحق أن نقيد هؤلاء في حريتهم ثم نضيق عليهم في معيشتهم من حيث الأكل والدفء ووسائل الحياة، فيفشو فيهم المرض وتكثر الوفيات؟ قد يصح أن نذهب إلى هذا ونقول: إنهم مجرمون خطرون، فليتهم يموتون فتستريح الأمة منهم، ويستريحوا هم من أنفسهم، ولكنهم لم يحاكموا، ولم يحكم عليهم بالإعدام، فإلى أن يصلح القانون إن كان فيه نقص يجب أن يتمتعوا ولو بأقل ما يتمتع به الإنسان من ضرورة الحياة.
ولكني أعود فأكرر على مسامعي أني أتيت للرياضة ولم آت للدرس، فويح نفسي من نفسي، ولا سبيل للرياضة الحقة إلا إذا خلعت نفسي إن عزمت على الرياضة، وحبذا هذا لو كان في الإمكان. •••
وقضينا في الطور ثلاثة أيام كثلاثة الحجر الصحي، ننعم فيها بالعيشة البسيطة، ونهرب من تكاليف الحياة، ونمعن مرة في الصحراء، ونمشي مرة على هامش البحر، ونرقى جبلا ونهبط واديا، حتى مرت كأنها حلم لذيذ.
واعتزمنا العودة فأخذنا على أنفسنا أن ننعم بمنظر لم نره في المجيء.
قمنا قبل الفجر والطبيعة كلها نائمة والقمر قد أضناه السير فعلا وجهه الشحوب، وأدى رسالته فاعتزم الراحة، وعلم بقدوم أمه الشمس فأخلى لها الطريق، وسارت سيارتنا تقلق السكون بأزيزها، وبدت تباشير الصباح، ومحت آية النهار آية الليل، وطلعت الشمس فأضفت على الكون من شعاعها الذهبي الجميل، وعادت مناظر الصحراء والماء تعرض علينا من جديد، من غير أن تفقد شيئا من روعتها الأولى وجمالها، وكانت فصول الرواية طويلة غير مملولة، وصحبنا الشمس في كل حالاتها، واستقبلنا القمر في طلعته كما ودعناه في غيبته.
وتزودنا من محاسن الطبيعة ما تزودنا، وقربنا من خالقها ما استطعنا.
ثم ها هي أضواء القاهرة وضوضاؤها تردنا إلى حياتها المعقدة وتكاليفها الشاقة، وها هم باعة الجرائد يتصايحون يذكروننا بما نسينا من شئون الحرب وويلاتها، وها هي أماكننا المحدودة وأبنيتنا المتلاصقة تحجبنا عن الطبيعة وجمالها، وها هي حياتنا الأولى تعود سيرتها وتتكرر نغمتها، حتى تسنح لنا الفرصة فنفر منها في رحلة أخرى إن شاء الله.
صورة قضائية تاريخية (2)
حادثة ارتجت لها مصر أشهرا، وتأثر بها القضاء أثرا بالغا، واضطرب لها الرأي العام اضطرابا هائلا، وارتبكت فيها السلطات الثلاث ارتباكا بينا، ودلت وقائعها على الفرق البعيد بين حياة الناس في ذلك الزمان وحياتهم الآن.
أما مكانها فالقاهرة، وأما زمانها فليلة السبت ثاني عشر شوال سنة 919 هجرية، والعهد عهد السلطان قانصوه الغوري، وأما بطلتها فامرأة جميلة لعوب متزوجة بنائب قاض اسمه غرس الدين، وقد عشقها نائب آخر اسمه نور الدين، وتوثقت الصلة بينهما، وتحدث بذلك الجيران وجيران الجيران، وبلغ مسامعهم كلهم ما كان يجري إلا الزوج الكريم.
فيوم السبت هذا دعي غرس الدين ليقضي ليلة عند صديق له في حي الإمام الليث، فانتهزت زوجته الفرصة وراسلت صديقها نور الدين ليبيت عندها هذه الليلة، فقد خلا الجو لهما، فأجاب الدعوة، وأرسل ما لذ وطاب، وذهب في أثره ممنيا نفسه بليلة سعيدة حتى الصباح، ولكن مصيبة المحبين دائما في العذال، فهذا عذول اسمه شمس الدين، كان أحد النواب أيضا وكان يسكن بجوار غرس الدين، وقد حنق على الزوجة أن هويها ولم تهوه، وهام بها ولم تلتفت إليه.
فعلم بما كان هذه الليلة، وعلم بحضور العشيق في البيت، فركب من فوره إلى الإمام الليث، وأخبر الزوج بما كان وعادا معا إلى القاهرة، وأوصله إلى بيته وانصرف.
وجد الزوج الباب مغلقا، والدنيا كلها ساكنة هادئة، وليس من شيء يدل على قول العذول، وكان للباب مفتاحان، مفتاح عند الزوجة ومفتاح عند الزوج، فلما وصل الزوج إلى الباب فتحه في هدوء وسكون، وتسلل إلى حجرة النوم، فوجد الكلة مرخاة، فتقدم ورفعها في رفق، فرأى الجريمة - ووقف الثلاثة موقفا دونه الموت رهبة، فرهبة الموت رهبة جلال، ورهبة هذا الموقف رهبة خزي وعار.
فأما العشيق فبكى واستعطف وهوى على رجل الزوج يقبلها، ويقول: اغفر لي ذنبي أكتب لك صكا الآن بألف دينار ولا تفضحني، وأما الزوجة فتلطم وجهها وصدرها، وتقول: أنا المذنبة، خذ جميع ما في البيت من أمتعة واستر علي فالستر مطلوب، والزوج يسب ويلعن ويثور ويهدر، ويأبى إلا أن يبلغ الأمر إلى الحكومة، ثم تقدم في حزم وأغلق عليهما باب الغرفة وباب البيت، وخرج إلى «حاجب الحجاب» وهو إذ ذاك يقوم مقام «الحاكمدار» وقص عليه القصة.
أما العشيقان فكانا كالفأر في المصيدة يدور ويدور ولا يجد مخرجا، فالباب محكم، حاولا فتحه فلم يستطيعا، والشباك مرتفع، إن سقطا منه دك عنقاهما، والانتحار لم يدر بخاطرهما، إذ لم يكن بدع ذلك العصر، فاستسلما للقضاء، وظل الرجل يحوقل ويلعن النفس الأمارة بالسوء، ثم انقلب يعنفها على ما جنت، فهي التي راسلته وهي التي دعته لقضاء هذه الليلة المشئومة، وهي تذكر الفضيحة والعار، وتضرب نفسها، وتبكي وتنتحب، وتود لو أن الأرض انشقت وبلعتها.
وفيما هما كذلك فتح الباب ودخل الحجاب، وقادوهما إلى حاجب الحجاب، فسألهما وداورهما، فاعترفا بكل ما كان، وأحضر حاجب الحجاب - طبقا للإجراءات المتبعة - أحد النواب، وكان هو العذول رسول الشر، ليحدث الإقرار أمامه، وكتب المحضر ووقع عليه الجميع، وحبسا إلى الصباح.
حتى إذا طلع النهار عري الجاني من ثيابه أمام حاجب الحجاب، وتوالى عليه الضرب حتى كاد يهلك، ثم حملت المرأة على أكتاف «المشاعلية»
1
وضربت كذلك، ثم أصدر حاجب الحجاب أمره بأن يشهرا في القاهرة.
ألبس نور الدين عمامته وأركب حمارا، وجعل وجهه لذيل الحمار، وأركبت المرأة حمارا آخر على هذا الوضع، وطافوا بهما في الصليبة والقاهرة وقنطرة السباع، والناس والأطفال يجرون وراءهما، يتصايحون بهما، ويتنادرون عليهما، وتحدث بهما كل السكان، وانتقل الخبر من القاهرة إلى كل مكان، فكان يوما قليل النظير، ثم رجعوا بهما إلى بيت حاجب الحجاب، حيث انتهى بهما هذا الطواف الشنيع.
لم يكتف بذلك حاجب الحجاب، فطلب من الزوجة مائة دينار نظير أتعاب، ولست أدري لم قررها على المرأة دون الرجل، فسر ذلك عنده!
امتنعت المرأة من الدفع وقالت: أعار وخراب ديار!؟ إن زوجي وضع يده على جميع مالي، فأصبحت لا أملك من الدنيا شيئا.
قال حاجب الحجاب: إذا فليدفعها زوجها.
وقال الزوج: وكيف أدفع وقد خسرت الزوجة، وخسرت الشرف، فهل كذلك أخسر المال؟
فلما توقف عن الدفع حجزوا عليه.
كان لهذا الزوج ابن يتصل بالمقرئين المقربين من السلطان الغوري، فتمكن بهم من الوصول إلى السلطان فوقف بين يديه، وقص عليه القصة من أولها إلى آخر الحجز على أبيه.
طلب السلطان محضر القضية، واستحضر النائب شمس الدين - الذي ثبت أمامه الإقرار - والقضاة الأربعة، وانتهز شمس الدين الفرصة وزاد النار اشتعالا، وحبب إلى السلطان أن يعيد إلى الشريعة الإسلامية سيرتها الأولى، فيعلي شأن الإسلام ويعمل بسيرة سيد المرسلين، فيرجم الزاني والزانية، وقال: إن في هذا مجد الإسلام، وتخليد ذكر السلطان.
قال له السلطان: فافعل ذلك. قال: لا أستطيع حتى يأمر بذلك قاضي الشافعية ، فقال القاضي: قد أمرت. وانفض المجلس على هذا - أمر من القاضي الشافعي بالرجم وموافقة السلطان، ولم يبق إلا حفر الحفرة وإحضارهما ليرجما.
ولكن صادف ذلك موسم الحج والاحتفال بالمحمل وخروج الحجاج، فشغل السلطان ورجال الدولة بذلك، وأجل تنفيذ الرجم. •••
حدث في هذه الأيام أمر لم يكن في الحسبان، إذ ظهر في الميدان نائب شافعي اسمه «الزنكلوني» كان ماهرا ماكرا، وكان له ضلع مع المتهم، أوعز إليه أن ينكر جريمة الزنا فأنكر - ثم كتب فتوى ودار بها على كثير من العلماء وهي: «ما قولكم دام فضلكم في رجل أقر بالزنا ثم رجع عن إقراره، هل يسقط عنه الحد أم لا؟!» فأجابوا عنها بالحكم الفقهي، وهو أنه إذا رجع عن الإقرار يسقط الحد - ومن مهارته أنه مر بها على أكبر عدد ممكن من العلماء، فوقعوا عليها هذا التوقيع.
بلغ ذلك السلطان فجن جنونه واشتد غضبه، وقال: هذا غير معقول، هذا عجيب! رجل يدخل بيت رجل وينام مع زوجته ويقبض عليه تحت اللحاف معها ويعترف بالزنا ويكتب خطه بيده بما وقع منه، ثم يقولون بعد ذلك: له الرجوع! وإذا رجع فلا حد عليه؟! هذا ما لا يكون.
وكانت أزمة شديدة جدا بين السلطان والقضاة، كلاهما يرى أن وجهة نظره بديهية صحيحة لا تحتمل الجدل.
أما السلطان فيحتكم إلى الفطرة وإلى المنطق الساذج وإلى البديهة الطبيعية: رجل دلت كل الدلائل على جريمته، فهو في بيت غير بيته، نائم مع امرأة غير زوجته، يضبطهما الزوج، ويعترف المجرم بالجريمة أمام هيئة رسمية، فماذا يطلب من الدلائل بعد ذلك؟ وكيف يسمع ممن يدحض هذه الأدلة؟ إن هذا منتهى ما يصل إليه الإثبات، فإذا شككنا في مثله فما الذي يصح بعد أن يكون سندا للحكم، ووراء ذلك كانت تدور في نفسه فكرة أنه بتنفيذ الرجم في هذه القضية سيكون بطل الإسلام، ومحقق العدالة التي كانت في عهد الرسول، وهؤلاء العلماء يريدون أن يفوتوا عليه هذا الموقف والفخر.
وأما العلماء فكانوا يستندون إلى نصوص الفقه وأقوال الأئمة، قد رجعوا إلى كتب الفقه وأطالوا النظر فيها حتى بليت منها صفحات هذا الموضوع من كثرة البحث والتنقيب.
هؤلاء جمهور الأئمة - إلا ابن ليلى وعثمان البتي - يرون أن من رجع بعد الإقرار في الزنا قبل رجوعه ولم يحد، وحد الرجم حد شنيع جدا درأه الإسلام بأى شبهة، فهذا «ماعز» الذي أمر رسول الله برجمه، لم يأمر برجمه إلا بعد أن غمره بالأسئلة لعله يرجع، وحتى روى بعضهم أنه قرره على ذلك أربع مرات، وحتى رووا أنه لما رجم ومسته الحجارة هرب فاتبعوه فقال لهم: ردوني إلى رسول الله، فقتلوه رجما وذكروا ذلك للنبي
صلى الله عليه وسلم
فقال لهم: «هلا تركتموه» ولأن الله يحب الستر على عباده، فلا يلجأ إلى الرجم إلا عند الضرورة القصوى بانعدام أي شبهة وبإصرار المجرم - فكيف يجرؤ القضاة بعد ذلك أن يخالفوا هذه النصوص؟
تعقدت المسألة وتمسك كل بوجهة نظره، فما الحل؟
خطر للسلطان أن يجمع مؤتمرا يشهده كل القضاة وكل مشهوري العلماء، ثم يسمع منهم ويسمعون منه، لعلهم يصلون إلى حل، وأرسلت الدعوة وحدد لذلك يوم الخميس الرابع والعشرون من شوال بالقلعة، وانعقد المجلس: هذا هو السلطان يتصدر المجلس، وهؤلاء القضاة الأربعة عن يمينه، وهؤلاء كبار العلماء عن يساره، يرأسهم شيخ الإسلام زكريا، وكان مجلسا رهيبا حقا، خطيرا حقا.
أغضى السلطان النظر عن القضاة والتفت إلى شيخ الإسلام زكريا وقال: كيف يحدث ما حدث، ويضبط الرجل مع زوجة آخر ويقر، ثم تقولون: له الرجوع؟!
رد أحد الحاضرين: هذا هو الشرع، وأخرج كتابا من كمه وأراه النص.
فقال السلطان: إني لا ألتفت إلى النقول في ذلك، ألست ولي الأمر؟ أوليس لي الحق في الحكم؟ أوليس لي أن أصدر أمري كما يتبين لي؟
أحد العلماء :
نعم، ولكن بشرط أن يكون على مقتضى الشرع، فإذا أنت قتلتهما مخالفا النص تلزمك ديتهما.
فغضب السلطان أشد الغضب من هذا الجواب، وكاد يبطش به، ثم التفت إلى الشيخ زكريا وقال: ما تقول أنت في هذه المسألة؟ - أقول: إن الرجوع بعد الاعتراف يسقط الحد.
السلطان :
هل هذا ما ترتضيه ذمتك؟
الشيخ زكريا :
هذا ما ارتضته ذمة الإمام الشافعي صاحب المذهب.
السلطان :
أنت شيخ قد كبرت وضعف عقلك، أما أنتم أيها القضاة فلا تروني وجوهكم بعد الآن.
وقام وانفض المجلس على أسوأ حال.
وبدأ السلطان ينتقم؛ فهذا الزنكلوني الذي صنع الفتوى ضرب هو وأولاده بالعصا حتى كادوا يتلفون، ثم أمر بنفيه إلى الواحات.
وهؤلاء القضاة عزلوا، وظلت مصر بلا قضاء خمسة أيام مما لم يسبق له نظير، ثم عين غيرهم، وهذان المتهمان - الرجل والمرأة - نصبت لهم المشنقة على باب «حارة أولاد الجيعان» ثم أحضرا، وجعل وجه كل إلى وجه الآخر، وشنقا بحبل واحد.
وظلا يعرضان يومين، والناس يأتون من كل فج لمشاهدتهما كما يشاهدون المعارض في هذه الأيام، وظل حديثهما على كل لسان، ثم نسج عليهما ثوب النسيان كما هو شأن الزمان.
التوازن
يظهر أن الأرض التي نعيش عليها لما كانت مدينة في بقائها للتوازن - فهي سابحة في الفضاء بقوة التجاذب المتعادل - كان كل شيء فيها إنما ينتظم شأنه وتنسجم أموره بالتوازن أيضا، فإذا اختل توازنه ساءت حاله، وأدركه الفناء، ولعل مقياس رقي كل شيء توازنه، ومقياس انحطاطه عدم توازنه.
سواء في ذلك الأفراد والأمم، وسواء في ذلك الماديات والمعنويات.
هذا الجسم إنما صحته توازنه، ومرضه عدم توازنه، فليست الصحة إلا أن كل عضو متوازن مع الأعضاء الأخرى في إنتاجه واستهلاكه، ومقدار هذا الإنتاج وهذا الاستهلاك، فإذا ضعفت المعدة ولم تحسن الهضم اختل التوازن، فأصبحت لا تستهلك كما تستهلك الأعضاء الأخرى، ولا تفرز كما تفرز الأعضاء الأخرى، فكان المرض، كما لا يكون الجسم صحيحا إلا بتوازنه مع غذائه، فإذا قل الغذاء كانت المخمصة، وإذا كثر كانت التخمة، وكلاهما شر نشأ من عدم التوازن، ولا يزال الجسم بخير ما توازن، بين طعامه وقدرته على الاستهلاك، وبين طبيعته والبيئة التي حوله، وبين كل عضو فيه وسائر الأعضاء.
وهذه العين لا تبصر إلا بالتوازن من حيث المسافة بينها وبين المرئي، ومن حيث مقدار الضوء الذي يشع على الشيء، فإذا زادت المسافة أو قصرت، أو زاد الضوء أو قل، اختل التوازن فاختل الإبصار، وكذلك الشأن في كل حاسة.
والبناء على الأرض إنما يقوم بالتوازن، وينهدم بعدم التوازن بين المواد التي يتكون منها البناء، والتوازن بين أجزاء البناء بعضها وبعض من حيث الثقل ونحوه.
إن رقيت بعض الشيء ونظرت إلى الحياة المالية - مثلا - وجدت الشأن فيها هو الشأن في الأجسام، فانتظام مالية الفرد والأسرة إنما هو بالتوازن بين الدخل والخرج، والتعادل بين الكسب والإنفاق، وإلا فالخلل والاضطراب، فإن زاد الدخل كثيرا عن الإنفاق فثم الشح والتضييق على النفس والأهل والناس، وانقلاب الرجل إلى خازن ليس له من المال إلا ما للحارس، وإن زاد الإنفاق فهناك متاعب الدين، وهم الحاجة، وفوضى المعيشة.
وكذلك الشأن في مالية الأمة، إنما تسعد بالتوازن بين دخلها وخرجها، وإيرادها ومصروفها، وليس هذا فقط، بل بالتوازن بين وجوه الدخل، وأيها يجب أن يكون، أيها يجب ألا يكون، والتوازن بين وجوه الصرف، ما الذي ينبغي وما الذي لا ينبغي.
وكلما ترقيت في شئون الحياة، وأمعنت في المعنويات، وجدت مبدأ «التوازن» صحيحا وإن كان إدراكه عسيرا.
هذه النفس الإنسانية مثلها مثل الجسم الإنساني، كلاهما ينتظم بالتوازن، ولكن مناحي النفس أكثر تعددا وأشد تعقدا، وإدراك التوازن فيها أدق وأغمض - فالجسم محدود، والنفس لا حدود لها، وأعضاء الجسم معدودة، ومناحي النفس لا عد لها، فحفظ التوازن فيها لا يتم إلا في القليل النادر وبتوفيق من الله عجيب.
هذه الغرائز الموروثة تختلف وتتباين، وهذه العواطف المنبعثة منها تتكاثر وتتنوع، وهذا هو العقل الذى لونته العلوم والمعارف والمدنية ألوانا لا تحصى - كل هذه في نفس الإنسان الواحد، حتى كأنها جبل تنوعت كهوفه ومغاراته، أو بحر كثرت موجاته وتعددت مخلوقاته، فكأن بين جنبي الإنسان آلاف النفوس لا نفسا واحدة، ومن أجل هذا كان لكل إنسان آلاف المظاهر لا مظهر واحد، فهو في ساعة صاف كأنه المرآة المصقولة، وهو في أخرى مغبر كاليوم العاصف، شجاع جبان، كريم يخيل، عادل ظالم، وهو بين ذلك في أوضاع لا عداد لها، وفي ألوان لا يضبطها ضابط، وليست هذه المظاهر المختلفة إلا نتائج لآلاف العوامل عملت في الخفاء، وكان لها تاريخ طويل أطول من عمر الإنسان.
وليست تصح النفس إلا إذا توازنت كل هذه القوى، وقلما تتوازن، فليست تخلو نفس إنسان من مرض بل أمراض، ومن غريب الإنسان أنه عني أشد العناية بأمراض جسمه، وحاول أن يرد له توازنه إذا اختل، ولم يعن مثل هذه العناية بأمراض نفسه واختلال توازنها، ولعله استصعب الداء فيئس من العلاج.
ما المجرم؟
في المجرم كل الغرائز والعواطف والإدراكات التي في سائر الناس، ولكن قد اختل توازنها، فغلبه الطمع وضعف عنده ضبط النفس فكان سارقا، أو غلبه حب الانتقام وضعف عنده تقدير إزهاق النفس فكان قاتلا، أو غلبته الشهوة وضعفت عنده الإرادة فكان سكيرا أو عربيدا، وليس يفقد المجرم صفات يتحلى بها الفاضل إلا عدم الاتزان.
ولقد أدرك أرسطو هذا التوازن في الأخلاق فقال بنظرية الأوساط، بمعنى أن الفضيلة وسط بين رذيلتين، أي في نقطة التعادل، فالشجاعة بين الجبن والتهور، والعفة بين الزهد والتهتك، والكرم بين البخل والإسراف، والأثر المشهور «أحب لأخيك ما تحب لنفسك» إنما يطالب بالتعادل بين حب النفس وحب الغير، والتوازن بين الأثرة والإيثار، وقديما قالوا:
حب التناهي غلط
خير الأمور الوسط
والتوازن ذو حظ عظيم في باب الجمال، وقد سموه «السيسترية»، فإن نظرت إلى جسم الإنسان - مثلا - رأيت التوازن ملحوظا فيه على أتم وجه، فالأعضاء الثنائية متناسقة على أبعاد متساوية، فالعينان والأذنان متوازنان وبينهما العضو المفرد كالأنف والفم والذقن، وإنما يتم جمالها إذا كانت الأبعاد بينها متساوية، فإذا انحرف الأنف، أو انحرفت الشفتان، أو ضاقت عين واتسعت عين اختل التوازن فكان القبح، وهذا هو بعينه ما لوحظ في هندسة المباني، فالباب يقابله باب، والشباك شباك، والباب القصير يقابله باب قصير، والشباك الكبير يقابله شباك كبير، وهو بعينه أيضا ما لوحظ فيه هندسة الحدائق، فشجرة في زاوية يقابلها شجرة مثلها في زاوية أخرى، وحوض مستطيل يقابله في الناحية المقابلة حوض مثله، وهكذا، حتى كأن الجمال هو التوازن.
وشاع التوازن في البلاغة، إذ كانت فنا من الفنون الجميلة، وسموه بأسماء مختلفة، فالسجع توازن، والطباق توازن، والمساواة في «باب المعاني» توازن، وأساس البلاغة كلها حسب قولهم «مطابقة المقال لمقتضى الحال»، وهذا ليس إلا توازنا بين معاني القول وصياغته وبين حال السامع أو القارئ، وهكذا الشأن في كل فن من الفنون الجميلة، لأن الجمال، كما أسلفنا، يعتمد - إلى حد كبير - على التوازن.
فإذا نحن وصلنا إلى المجتمع فمجال القول في التوازن ذو سعة، ففي المجتمع قوى كثيرة تتعاون وتتعاند، ولا يرقى مجتمع ولا يسعد إلا بتوازنها، وإذا حل الشقاء بمجتمع فذلك لاختلال توازنه، وإذا قامت فيه الثورات فلاختلال توازنه، وإذا انحط أو فني فلاختلال توازنه أيضا.
فأول كل شيء لا بد أن يوازن المجتمع بينه وبين بيئته الطبيعية، فمنذ خلق الإنسان وهو في حرب مع الطبيعة، كان يحارب الحيوانات المستوحشة، وكان يحارب شدة الحر وشدة البرد، وكان يحارب طغيان الماء وصلابة الأرض، وكان ضعيفا فقهرته الطبيعة، ثم رقي فاستخدم عقله لمحاربة الطبيعة، واستخدم قوانين الطبيعة لمحاربة بعضها بعضا، حتى توازنت قوته وقوة الطبيعة فسعد، لقد اختلف الفلاسفة في أن الطبيعة قاسية بخيلة فظيعة، أو أنها سخية كريمة تمد الإنسان بما يحتاجه، والحق أنها لا هذا ولا ذاك في حد ذاتها، إنما هي في كفة، وقوة الناس واستعدادهم في كفة، وسعادة الإنسان في توازن قواه وقوى عقله وقوى تسخيره مع قوى الطبيعة وأفاعيلها، وكل حياة الإنسان مهاجمة من الطبيعة ودفاع منه، فإذا توازنت قوة الدفاع والهجوم فالخير والسعادة للإنسان وإلا فالفناء.
كان الإنسان الأول مستعبدا للطبيعة يعيش على هامشها، ثم انغمس فيها وأدرك قوانينها فتحرر، كانت الحرارة والبرودة تؤذيه فاستخدمها، وقوة الماء تهلكه فضبطها، والكهرباء يجهلها فعرفها واستخدمها، ثم كان أن قسم الطبيعة على نفسها فضرب بعضها ببعض، وعادل بين قواها، وتسلح ببعضها ليحارب بعضها الآخر، فلما تم التوازن أو كاد كانت المدنية، ولا يزال المجال أمامه فسيحا.
وأخلاق كل أمة وفلسفتها وأساطيرها وعقليتها وأدبها تتعادل مع بيئتها الطبيعية، فكما أن أبا الهول والأهرام لا يمكن أن تكون إلا في مصر، وما كان يمكن أن تعيش هذه العصور في فرنسا أو إنجلترا أو سويسرا، وإنما تعيش في طبيعة مصر، فكذلك أخلاق كل أمة وعاداتها تتعادل مع طبيعتها.
وكذلك الشأن في قوى المجتمع الإنساني نفسه، لا بد فيها من التوازن وإلا ضعف وانحل، انظر مثلا إلى القوة الاقتصادية في الأمة، فإذا كان فيها جماعة المنتجين فلا بد أن يوازنهم جماعة المستهلكين، وإذا كان عرض فلا بد أن يوازنه طلب، وإلا ساءت الحالة الاقتصادية باختلال التوازن، وكثيرا ما كانت الثورات في الأمم من سوء الحالة الاقتصادية، كالإفراط في الغنى بجانب الإفراط في الفقر، أو كثرة المعروض ولا طلب، أو كثرة المطلوب ولا عرض، وهكذا.
ثم يجب التوازن بين الحياة الاقتصادية في الأمة وطرق التربية، فالتعليم في كل أمة يجب أن يشكل حسب حالة الأمة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية ويتوازن معها، وإلا فالخراب، فإن أنت علمت للوظائف الحكومية التي لا تتسع لجميع المتعلمين، واجهت مشكلة المتعلمين العاطلين، وكلما زدت في ذلك زاد الخطر، وإذا علمت لغير وظائف الحكومة وجب أن تفتح في أبواب الحياة الاقتصادية بقدر ما تعلم، وإلا واجهت نفس المشكلة.
وهكذا، في كل مجتمع قوى متعددة مشتبكة، كالآلة الضخمة ذات القطع المتنوعة المعقدة، لا يمكن أن تسير إلا بتوازن الأجزاء، هذه قوة الأسرة وقوة الدين وقوة الحكومة بما لها من سلطة تشريعية وتنفيذية وقضائية، وقوة اللغة والعلم والأدب وغير ذلك من القوى، لا بد أن تكون كلها في حالة توازن.
ولما اتسعت القوى وتعددت في المجتمع كان لا بد لها من ضابط أو ضوابط تعادل بين القوى إذا طغت إحداها على الأخرى، فقام بهذه المهمة الرأي العام أحيانا، يثور ويطالب بالإصلاح وينادي بالتعادل، والقانون أحيانا باستناده إلى العدل ورد الحق إلى ذي الحق، وتفصيل الحقوق والواجبات حتى يتم التعادل.
وعلى الجملة فالتوازن هو حجر الفلاسفة، وهو كيمياء السعادة، يدخل الجسم فيصح، ويفارقه فيختل ويمرض وينفى، ويحل في الشيء فيكون جميلا، وفي الكلام فيكون بليغا، وبقدر ما يكون منه في الأمة يكون رقيها وصحتها، وعلى قدر خلوها منه يكون فشلها وانحطاطها.
صدق الله العظيم
الشمس والقمر بحسبان * والنجم والشجر يسجدان * والسماء رفعها ووضع الميزان * ألا تطغوا في الميزان * وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان .
قصة
زعموا أن رجلا عرف بصحة الرأي وصدق النظر، فكان مقصد أمته في الأزمات ورجاءها في حل المشكلات، يقول الرأي فكأنما ينطق بلسان الغيب، ويظن الظن فكأنما يرى ويسمع، يتنبأ فكأنما يتلوا المستقبل من كتاب.
كان أعجوبة الأعاجيب في أمته، وأحدوثة قومه في زمنه، وما لبث أن طارت شهرته فعمت العالم، وطبقت الآفاق، وشاء القدر أن يرحل عن بلده إلى بلد سحيق، فسبقته شهرته، وعرف بمقدمه أهله، فاحتفوا به وأنزلوه منزلا كريما، وأزمع أكابر رجاله أن يستفتوه في مشاكلهم، ويستنصحوه فيما صعب من أمورهم.
فأوفدت وزارة الشئون الاجتماعية وفدا من رجالها يسأله: ماذا تعمل لتقضي على الفقر، وتمحو الإجرام، وتضع حدا لكل الشرور، وتنهض بالفلاح فيرقى عقله، وترقى معيشته؟ وكيف تتغلب على مشكلة البطالة، وكيف تحل مشكلة الزواج والطلاق، وتبرج النساء، واستهتار الرجال، إلى غير ذلك من مشكلات تدخل في اختصاصها.
وأوفدت الوزارات كلها تسأله عن حل لمشكلاتها، فوفد وزارة المال يشكون من قلة الدخل وكثرة المطلوب، وإسراف المصالح الحكومية، وأن كل وزارة تطلب، كأن مال الدولة قد أرصد لها وحدها، ويشكون من الموظفين وكثرتهم ومطالبهم وإلحاحهم، ومن الجمهور ونظره إلى مال الدولة كأنه غنيمة يحل نهبها، والوزارات كلها تشكو من وزارة المالية، إذ تسيطر عليها، وتقدر كل المسائل بالأوراق المالية، ولا تقدر المسائل الأدبية ولا المنافع العلمية ولا الاعتبارات المعنوية، وأنها تعامل المصالح على أساس تجاري لا على أساس مصلحي، والكل يشكو من سوء ظن بعضه ببعض، ومن عدم التعاون، ووزارة العدل تشكو من ضياع العدل في الأمة، فالمحسوبية، والوساطة، والرجاء، كل هذا وأمثاله أضاع معنى العدل، وأن هناك وسائل تعمل في الخفاء فتخنق العدالة، فلا يزال هناك نظام الطبقات يفسد العدل ، فالفقير لا يصل إلى حقه من الغني؛ وإذا اتهم غني بالرشوة فليس كما يتهم الفقير، وإذا ضرب أحد «الذوات» جنديا أو نحوه حفظت القضية؛ أما إذا ضربه أحد السوقة، فالعدل يجري مجراه، وشكت وزارة العدل - أكثر من ذلك - من حال العدل الاجتماعي، فليس مال الدولة يوزع بالعدل، ولا مناصب الدولة توزع بالعدل، ولا معاملة الحكومة للناس توزع بالعدل.
وهكذا لم تبق وزارة من وزارات الدولة إلا رفعت صوتها بالشكوى، وأسرفت في وصف سوء الحال، وطلبت رأيه في العلاج.
وليت الأمر اقتصر على الوزارات، فكل طائفة شكت: فلاحون يشكون الفقر والبؤس، ويشكون الحكومة وملاك الأراضي، ويسألون السبيل إلى الإنصاف، وموظفون يشكون الكادر الجديد، وتجار يشكون مزاحمة الأجنبي، وكل حزب يتهم الأحزاب الأخرى بالتقصير، والكل يتهمون الحكومة، والحكومة تشكو الأحزاب وتشكو الأمة، لأنها تلقي كل أعبائها عليها.
وجاء رجل فقال: لست أمثل وزارة ولا أمثل حزبا، ولا أمثل نقابة ولا أي جماعة، ولكني أشكو من شكوى الناس، فكلما جلست إلى قوم في أي مجلس، في فرح أو حزن، في طبقة المتعلمين أو الجاهلين، ملأوا مجلسهم بالشكوى من فساد الأخلاق وسوء الأحوال، ثم لم يزد الأمر بعد على أن ينفض المجلس، والمتكلم معجب بفصاحته وبلاغته في حسن الوصف، والسامعون مسرورون بقضاء الوقت في حديث لطيف، وكلهم يختم الجلسة بغسل يده من الموضوع والاكتفاء بالدعاء إلى الله أن يصلح الحال.
وهكذا تتابعت الوفود على هذا الرجل تعج بالشكوى حتى خيل إليه أن ليس في هذه الأمة إلا شاكون، وأن ليس لهم وظيفة إلا الشكوى.
ومع هذا طيب خاطرهم، ووعد أن يجد حلا لهذه المشكلات كلها في أسبوع، وحدد لهم موعدا في مثل هذا الوقت من الأسبوع الآتي، ثم أتبع ذلك بقوله: ولكن لا بأس أن يزورني مصلحوكم فيدلوا إلي بآرائهم حتى أستعين بها على إبداء رأيي، فتتابعت عليه طوائف المصلحين والزعماء كل ينظر إلى المسألة بعينه.
فجاء رجال الدين يقولون: إن سبب الفساد كله عدم التمسك بالدين، فلو نصحت بأن يتبع الناس الدين لذهب كل ما سمعت من شكوى، ولاستقامت الأمور، وصلحت الأحوال، ففساد الحال لا سبب له إلا غضب الله على الناس من عصيان أوامره، وارتكاب نواهيه.
وقال رجال المال: إن العلة كلها في المال، فلو أصلحت موارد البلاد، واستثمرت منابع الثروة خير استثمار، ووزعت الغلة خير توزيع لكان في هذا العلاج من كل داء، لو تم هذا لانعدم الفقر، وانعدمت الجرائم، وقل الطمع، وارتقت الأخلاق، فأكثر فساد الأخلاق منشؤه الفقر، فالفقر داع إلى الإجرام، وداع إلى الجهل، وداع إلى الذل والعبودية، فإذا زال زالت معه شروره، وليس من فرق بين أسرة مهذبة راقية سعيدة، وأسرة بائسة شقية إلا المال، فالمال يعلم، والمال يهذب الذوق، والمال يبصر بطرق المعيشة، والمال يسعد.
وقال رجال السياسة: ادع إلى إصلاح سياسة البلد يصلح فيه كل شيء، فصلاح السياسة معناه صلاح الحكم، فإذا عدلت الحكومة في رعيتها، وساست الناس كما يقود القائد المحنك جنده، لا كما يصيد الصائد صيده، ونشرت العدل بين الناس، فهناك الطمأنينة، والرخاء والأمن، والسعادة والتقدم، وإلا فلا إصلاح.
وهكذا ظل طول الأسبوع يسمع من القادة آراءهم في الإصلاح، ولم يفته أن يسمع من رجال الأحزاب، ولا من رجال الصحف، ولا من الديمقراطيين والدكتاتوريين، ولا من الفلاسفة والشعراء، والنساء والفنانين، فقد قضى الأسبوع في معرض متنوع بديع.
وحان وقت إبدائه الرأي، وحضرت الوفود ممثلة لكل الطوائف، واشرأبت الأعناق، وأرهفت الأسماع، فقام بينهم خطيبا وقال:
سيداتي! سادتي!
لقد سمعت كل وجوه الإصلاح التي اقترحها قادتكم، ورأيت أن في كل منها خيرا كثيرا، ولكن فيها عيبا كبيرا.
إن كل ضروب الإصلاح التي سمعتها موجهة إلى الجيل الحاضر، وليس فيه كبير أمل، إنه جيل فسد، قد أفسدته السياسة بألاعيبها، وأفسده الجو الذي عاش فيه، والخلاف الذي دب فيه، والعقلية التي حلت فيه، والمثل التي قدمت له، كل خطأ الآراء التي سمعتها أنها علقت الأمل على شيء مهدم، وعلى قصبة مرضوضة، وعلى بناء متداع.
لقد فقد كل منكم الثقة بأخيه، ولا حياة إلا بالثقة، ولا عودة للثقة إذا زالت، لقد شممت من اقتراح كل منكم أنانية بغيضة، وتعصبا للرأي ذميما، واحتقار لرأي الغير معيبا، فتفرقت بكم السبل، وزال بينكم الحب، وساد فيكم ضيق النظر، وهذا عنوان الانحلال.
سيداتي وسادتي:
نصيحتي لكم ألا ألتفت إليكم، وألا تلتفتوا إلى أنفسكم ، ولا أعلق الرجاء عليكم، ولا تعلقوا الرجاء على أشخاصكم، وأن تساعدوني على إهمالكم أنفسكم، وأن تلتفتوا معي إلى صغاركم، ولا شأن لي بكم إلا شأن الوزير الذي عين فدخل مكتبه فوجد الدفاتر مكدسة، والملفات مبعثرة، والأوراق مغبرة، وحاول أن يدرس مسألة فلم يفهم، وأن يتبع تاريخ أثر فلم يستطع، فأمر بإحراقها جميعا، وأنشأ دفاتر جديدة على نمط جديد.
ثم ماذا تعملون لصغاركم؟
أنشئوا لهم المدارس التي تتسع لهم جميعا، واحملوا الحكومة أن تخصص أكبر ما تستطيع من ميزانية لهذه المدارس، اجعلوا لغنى الغني حدا إذا تجاوزه ذهب إلى هذه المدارس.
ثم لا أمل في هذه المدارس أيضا إذا علمتم تلاميذها ليكونوا مثلكم في عقلكم وأخلاقكم.
فعلموهم أول ما تعلمونهم فن الحياة الذي فشلتم فيه واستطعموا مرارة الفشل، ليحلو لكم أن تعلموهم وسائل النجاح، وحددوا غرض الأمة الذي تنشده ووجهوا التعليم والتهذيب نحوه، وارسموا في وضوح حاجات الأمة ومرافقها المختلفة، وشكلوا التعليم كمية وكيفية حسب هذه المرافق، علموا أطفالكم جميعا الأمانة والرجولة، ونظافة اليد، ونظافة الخلق، وقيمة الحق، والشجاعة في قول الحق، والحياة للحق.
ولا تقولوا: إن فاقد الشيء لا يعطيه، فإن هذا قول سخيف من آثار القرون البالية، فإنا نرى كل يوم المصائب تعلم اتقاءها، والرذيلة تعلم الفضيلة، وسخافة السخيف توحي حكمة الحكيم، علموهم ضد ما تعلمتم في السياسة، علموهم من صغرهم أن يحكموا أنفسهم ليصلحوا إذا أسند الحكم إليهم، وعلموهم الحرية التي لم تعرفوا أنتم أن تنتفعوا بها ليعرفوا هم كيف ينتفعون بها، وعلموهم الإيثار والتضحية في ضوء ما ألمتم من الأثرة والأنانية.
وجهوا كل همكم إلى الصغار، إلى الجيل القادم، إلى قادة المستقبل، واجتهدوا أن تحموهم من تقليد جيلكم، فضعوا أمامهم أمثلة نبيلة غير أمثلتكم، واخفوا عن أعينهم شروركم، فإنكم إن تعبتم في إنشاء جيل واحد على هذا النمط ضمنتم الخير لأجيال متعاقبة.
أما أنتم فيغفر الله لكم. •••
قال الراوي: فهاج السامعون وماجوا، وسخط عليه قوم لسماجته وقلة حيائه، ووقاحته وسبابه، وازدراه آخرون لسخفه وسوء منطقه، إذ لم يحل مشكلا، ولم يصلح فاسدا، واحتقر الكبير، واستعظم الصغير، وهزأ بالرجال، وعني بالأطفال، ولأن مآل نصحه ترك الفساد ينخر في عظامهم حتى يأتي على آخرهم، فأتمر به هؤلاء وهؤلاء، وأجمعوا رأيهم على أن يودعوه مستشفى المجاذيب ...
القانون الطبيعي
كل ما عرفنا من قوانين الطبيعة والكيمياء وقوانين الفلك، وما اكتشفنا من قوانين العلوم على اختلاف أنواعها قوانين طبيعية، أو هي سنة الله في خلقه لا تقبل تبديلا ولا تحويلا.
لقد تمت الطبيعة وتمت قوانينها، فكل ما في الطبيعة خاضع لقوانينها لا يستطيع الخروج عنها مهما حاول.
وليست قوانين الطبيعة كقوانيننا الوضعية تعذر بالجهل ولا تعاقب إلا بعد إعلانها، بل هي توقع عقوبتها علم الناس أو جلهوا، قصدوا أو لم يقصدوا، فمن تعاطى سما على أنه سكر عوقب بالموت، ولو جهل، ولو حسنت نيته.
والطبيعة قاسية كل القسوة في تطبيق قوانينها، لا ترحم من خالفها، ولا تغفر - مرة - ذنب من يتجرأ على نظامها، سواء عندها الصغير والكبير، والطفل الرضيع، والشيخ الهرم، لا ترحم طفلا؛ لأنه وحيد أمه، ولا كبيرا؛ لأنه عائل أسرته، من تعرض للنار احترق مهما كان شأنه، ومن سقط من أعلى خضع لقانون الجاذبية من غير نظر إلى أي ظرف من ظروف السقوط.
وهي في قسوتها ديمقراطية كل الديمقراطية، سواء عندها الغني والفقير، والملك والسوقة، وصاحب الحول والطول، ومن لا حول له ولا طول، كلهم يخضع لقوانينها كما يخضع الجماد، وتجري عليه أحكامها كما تجري على الريشة في الهواء.
وقوانينها أشكال وألوان: منها ما ينفذ سريعا كسرعة البرق، حاسما كحد السيف، ومنها ما ينفذ بطيئا بطء السلحفاة، هذا يكسر قوانين الطبيعة بسقوطه من نافذة، أو احتراقه بنار، أو اصطدامه بقطار، فينفذ عليه القضاء العاجل، وهذا يكسر قوانين الطبيعة بالإتخام أو بكثرة التدخين أو بإدمان السكر أو بتعاطي المخدرات، فتنفذ فيه الطبيعة قوانينها بهدوء حتى لا يشعر بها، وتهدمه في بطء كأنها لا تهدمه، هي تغضب حينا فتضرب الضربة القاضية في سرعة وعجلة، وتهدأ حينا فتطحن طحنا بطيئا ولكن ناعما، وهي في الحالين بالمرصاد لا تنسى ولا ترحم، ولا تصدر حكما مع وقف التنفيذ، إنما تجعل بعض أحكامها مشمولا بالنفاذ العاجل، وبعض أحكامها مشمولا بصيغة التنفيذ الهادئ، ولكنه تنفيذ على كل حال، وتنفيذ من غير إخلال.
وهذه القوانين الطبيعية تختلف وضوحا وخفاء، وبساطة وتعقدا، فقد تبلغ من الوضوح والبساطة ما يدركه كل الناس كقوانين الطبيعة والكيمياء وظواهر الطبيعة، وقد تغمض وتتعقد حتى لا يدركها إلا الخاصة، وحتى لا يدركها الخاصة، وتاريخ الإنسان ليس إلا سلسلة لمحاولة فهم القوانين الطبيعية، وتضييق دائرة المجهول منها وتوسيع دائرة المعلوم، ولا يزال المدى أمامه فسيحا لمعرفة ما جهل وتوضيح ما غمض، وسواء من قوانينها ما عرفنا وما لم نعرف، فهي تجري علينا حكمها وتنفذ فينا إرادتها.
وكلما كان المخلوق ساذجا منحطا كانت قوانينه الطبيعية سهلة يسيرة واضحة، وكلما رقي تعقدت قوانينه وكثرت واشتبكت، ومن سوء حظ الإنسان، أو حسن حظه، كما تشاء، أنه أرقى المخلوقات الأرضية، فقوانينه الطبيعية أعقد القوانين وأغمضها، وأكثرها تركبا واشتباكا.
هذا جسمه يخضع لقوانين طبيعية كالتي يخضع لها الجماد والنبات والحيوان، وهذه نفسه تخضع لقوانين أشد غموضا وتعقدا لم يبلغ اكتشافها مبلغ اكتشاف قوانين الجماد، وهذه علاقته بالبيئة الجغرافية جعلته خاضعا لقوانينها، فشكلت شكلا خاصا جسمه وعقله، وحددت نشاطه، وحكمت حكمها في طبيعة عمله ومنهجه في العمل، ورسمت خطاه في مدنيته، وهذه أخلاقه خاضعة في تكوينها لقوانين الوراثة وقوانين الكسب، فما كان وراثيا منها فله قوانينه، وكان من أثر هذه القوانين للوراثة والاكتساب اختلاف الأفراد فيما بينهم قوة وضعفا، وذكاء وغباء، وصلاحا وفسادا.
فإذا نحن نظرنا إلى مجموعة من الناس - كأمة - وجدنا هذه الجمعية خاضعة لقوانين طبيعية من حيث شئونها الاقتصادية ونظمها الاجتماعية والسياسية، وهي خاضعة في كل خطوة من خطوات تقدمها أو تدهورها إلى هذه القوانين الطبيعية، ومن أجل الاختلاف في هذه القوانين الطبيعية اختلفت الأمم كما اختلف الأفراد قوة وضعفا وتماسكا وانحلالا، وصلاحية للبقاء وعدم صلاحية.
وشأن قوانين الجماعات كشأن قوانين الأفراد في قوتها ومضائها وعدم تخلفها، وإن اختلفت عنها في أن الأولى أصعب إدراكا وأشد اشتباكا.
أما بعد، فما السعادة والشقاء، و ما النجاح والفشل؟ ليست هذه الألفاظ إلا تعبيرا آخر مرادفا للسير على قوانين الطبيعة أو الخروج عليها.
إن للطبيعة إرادة لا تقهر، فمعاكسة قوانينها سبب الشقاء وسبب الفشل، وإطاعتها سبب السعادة وسبب النجاح.
قد يغتر ضيق النظر فيرى أمثلة من مخالفة قوانين الطبيعة ومعها سعادة، قد يرى قوانين الصحة تخالف ومع ذلك يبقى الجسم صحيحا، ويرى قوانين الأخلاق - وهي فرع من فروع القوانين الطبيعية - تخالف ثم يصحبها نجاح، وقوانين الاقتصاد تخالف ومع هذا يكون الغنى، ثم تطاع ويكون مع الطاعة الفقر، وهكذا، قد يكون هذا منظرا شائعا في الحياة اليومية، ولكن استتبع كل مثال تجد في الحكم نتيجة قصر في النظر وخطأ في التقدير.
هذا الذي استغفل قوانين الصحة فأفرط في الأكل أو في السكر أو نحو ذلك ينفذ فيه القانون الطبيعي أمره ولكن في هوادة على النحو الذي وصفت، حتى ينتهي أمره بالتنفيذ التام، فإذا هو صريع المخالفة، وهذا الخائن أو الكاذب قد ينجح، ولكن نجاحه إلى حين، وحتى لو نجح طويلا فقد عاقبته الطبيعة بأن استلبت منه احترامه لنفسه وضميره وحبه للحقيقة، ومنحته شعوره بالضعة وبالدناءة، فكانت النتيجة أن ذبحه نجاحه، إن الطبيعة لا تهتم كثيرا أن يغتني الخائن أو الكاذب أو يفتقر، ولكنها تهتم كثيرا أن تنزل العقوبة بنفسه وأن تسلبها أحسن صفاتها، ولا تقصر في ذلك أبدا. •••
أهم ما تفضل به أمة أمة إيمانها بالقوانين الطبيعية، وإيمانها بأنها لا تتخلف، وجدها في أن تعرفها وتكتشفها وأن تبني حياتها على وفقها، فالفرق بين أمة راقية وأمة منحطة أن الأولى تسير في كل شأن من شئونها على الكثير مما عرفته من قوانين الطبيعة، فهي تربي أطفالها حسب قوانين الطبيعة، وتزرع أرضها حسب قوانين الزراعة، تنظم ماليتها حسبما وصل إليه علم المال، وتقيم حكومتها حسب قوانين العدالة، وهكذا هي في حياتها، مقدمات ونتائح، وقياس أحد أركانه دائما قوانين الطبيعة، وأما الثانية فتسير حيثما اتفق، تزرع حسب التقاليد، والتقاليد ليست قانونا طبيعيا، وإنما القانون الطبيعي علم الزراعة، وتربي أطفالها كما اتفق، وتنفق ميزانيتها حسب الشهوة، وتمشي يمنة أو يسرة اعتباطا، فتكون النتيجة دائما فشلا؛ لأن السير الغامض غير المؤسس على علم عرضة دائما لمعارضة القوانين الطبيعية.
الأمة المنحطة تتسع عندها جدا دائرة الأوهام، وتضيق فيها جدا دائرة الإيمان بالعلم والقوانين الطبيعية، فالزرع ينمو أو يهلك لغير سبب، والطفل يصح أو يمرض للجن، والتاجر ينجح أو يفشل للحظ، والزوجان يسعدان أو يشقيان للقسمة، والسماء تمطر أو لا تمطر للغضب، والعمل يعمل أو لا يعمل بالاستخارة، والإنسان يرزق أو لا يرزق بمجرد التوكل، ونتيجة هذا من غير شك أن الأمة التي تسير على هذا المنهج تنهار أمام الأمة تسير حسب قوانين الطبيعة، وأن الأمتين إذا تزاحمتا كان الفوز لمن يسير على قوانين الطبيعة.
إن مزرعة تزرع بالعلم خير لا محالة من مزرعة تزرع بالتقاليد، وإلا كان علم الزراعة غير صحيح، وإن تاجرا يسير على قوانين الاقتصاد ينجح لا محالة أكثر من تاجر يسير بالبركة، وإلا كان علم الاقتصاد خطأ، وهذا هو وحده السر في نجاح الأجنبي حيث يفشل المواطن، إنه يسير في تجارته ومعيشته وجده ولهوه حسب قوانين الطبيعة فينجح، ويسير المواطن حيثما اتفق فيفشل، لو تكشف قوانين الطبيعة لإنسان لقرأ المستقبل قراءة لا تخطئ؛ لأن خالق العالم خلقه على قاعدة السبب والمسبب والمقدمات والنتائح، فلو أدركنا كل المقدمات والأسباب لجزمنا جزما قاطعا بالنتائح والمسببات.
وأهم عمل المصلحين - في كل أمة - على اختلاف أنواعهم ليس إلا اكتشاف قوانين الطبيعة وحمل الناس على السير على وفقها، فالعالم ليس إلا مكتشفا لهذه القوانين مسجلا لها راصدا لنتائجها، والمصلح الاجتماعي ليس إلا رجلا عرف بعض هذه القوانين، ورأى أمته تسير على عكسها فدعاها للسير على وفقها، وماذا يفعل المصلح الديني؟ إنه يرى أن قومه غلبت عليهم الأوهام، وأضلتهم عقائد فاسدة أعمت أبصارهم وأصمت آذانهم، فأخذ يفتحها لتدرك الكون وقوانينه، خير ما يعمله رجال الدين لأمتهم أن يؤسسوا حياة الناس على قوانين الطبيعة، ويدعوا الناس للسير على قوانينها المعقولة، وفي الحق أن قوانين الطبيعة هي في لغة الدين سنن الله، وإرادة الطبيعة هي إرادة الله، وأن السير على وفقها تقديس لأوامر الله.
ولقد بلغ من تقديس الدين لها أن عد خرقها معجزة الأنبياء، أما وقد ختم الأنبياء، فقد ختمت المعجزات، واطردت قوانين الطبيعة فلا تتخلف، وقد قال تعالى:
وتمت كلمت ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته
ومن كلماته تعالى قوانينه التي بثها في كونه، ويعجبني ما روي عن عمر بن الخطاب أنه ذكر عنده الغيلان وأنها تتحول من خلق إلى خلق فقال عمر: «ليس أحد يتحول عن خلقه الذي خلق له».
وعمل السحر ونحوه ليس قلبا للقوانين الطبيعية وكسرا لها، وإنما هو تخييل كما عبر الله عن ذلك أصدق تعبير، إذ قال:
فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى .
ومما يؤسف له أن مرت على الناس عصور مظلمة دعا فيها بعض عامة المتدينين إلى زلزلة العقائد في هذه القوانين الطبيعية، فالماء يسار عليه، والأرض تطوى للمشي عليها من أقصاها إلى أقصاها في لحظة، والفاكهة تحضر بتحريك يد في الهواء، ونحو ذلك - مع أن خاصة الصوفية كانوا يتبرءون من ذلك وينهون عنه، فكان «سهل التستري» يقول: «أكبر الكرامات أن تبدل خلقا مذموما من أخلاقك» وجاء رجل فقال له: إن الناس يقولون: إنك تمشي على الماء! فقال: سل مؤذن المحلة فإنه رجل صالح لا يكذب. قال: فسألته، فقال المؤذن: «لا أدري هذا، ولكني أعلم أنه نزل الحوض في بعض الأيام فوقع فيه فلو لم أخرجه لبقي فيه أبدا».
فلما اعتقد العامة في تخلف القوانين الطبيعية بنوا حياتهم اليومية حيثما اتفق، فليزرع الزارع كما شاء، فقد تنقلب القوانين الطبيعية فينجح المهمل ويفشل المدقق ، وليسرف التاجر كما يهوى وليسر سبهللا، فقد يرزق الأخرق ويحرم الحذر، ومثل ذلك الصانع في صناعته والعامل في عمله، والموظف في وظيفته، والأم في تربية الولد، والأب في الإنفاق على الأسرة، ليست هناك غاية محددة يسعى إليها بخطوات محددة، إذ ليس هناك إيمان بقانون السببية ولا بالقوانين الطبيعية.
وهكذا أصبح هذا الشأن مرضا من أمراض المجتمع الخطيرة، لا بد أن يتكاتف رجال الدين والمصلحون الاجتماعيون على القضاء عليه، حتى يؤمن الناس أن لا تبديل لكلمات الله، ولا تبديل لقانون الطبيعة، ولا نجاح لأمة أو فرد إلا بإطاعة هذه القوانين وتعديل الحياة على وفقها.
يجب أن يفهم الناس أن الموت والحياة قانون طبيعي، وأن الغنى والفقر قانون طبيعي، وأن الصحة والمرض قانون طبيعي، وأن صلاح الناشئين وفسادهم بالوراثة والتربية قانون طبيعي، وأن الهزيمة والنصر قانون طبيعي، وأن موقف الأمم في سلم العالم قانون طبيعي، وأن من أراد من الأمم أن يرقى لا بد أن يعمل مقدمات الرقي الطبيعية ليصل إلى النتيجة الطبيعية، وأن الله ربط الأسباب بالمسببات ربطا محكما، وجعل بين المقدمات والنتائج عروة وثقى لا انفصام لها، وأن السماء لا تمطر ذهبا ولا فضة، وأن من زرع الحنظل جنى الحنظل.
الإسلام والإصلاح الاجتماعي
بعض الأديان اقتصرت على تنظيم العلاقات بين العبد وربه، فشرعت شعائر العبادة واكتفت بذلك، ولم تمس شئون الدنيا في قليل ولا كثير، بل منها ما دعا إلى الابتعاد عنها والتجرد منها.
ولم يكن الإسلام من هذا الطراز، بل نحا منحى آخر، فقد نظم العلاقة بين العبد وربه بما شرع من أنواع العبادات، ومن ناحية أخرى واجه الحياة الدنيوية، ووقف منها موقف المصلح الاجتماعي والشارع القانوي، فقد نظم الأسرة، ووضع نظاما للزواج والطلاق والميراث وما إلى ذلك، ونظم المعاملات المالية بما وضع من أحكام للبيع والشراء والإجارة وتحريم الربا، ووضع أسس القوانين الجنائية من بيان للجرائم والعقوبات، وبين العلاقات في السلم والحرب، وقرر أصول نظام الحكم من وظائف الخلافة ونظام الشورى وما إلى ذلك، وعلى الجملة واجه كل مرافق الحياة الدنيوية أيضا، وتعرض لأسسها، وأصلح ما كان عليه الناس في جاهليتهم، ووضع القواعد التي تنير للناس السبيل في الحياة.
ولكن كل دين يسير على هذا النهج من تنظيم لشئون المجتمع، يجب لنجاحه أن يشتمل على عنصر هام من عناصر الحياة، وهو (عنصر المرونة)، وإلا تخلف وأصبح في عداد التاريخ، ولم يصلح لكل زمان ومكان، إنما يصلح لقوم معينين في زمان معين.
ذلك أن الشئون الاجتماعية في تغير دائم ورقي مستمر، تتغير بتغير المدنية وبرقي العقل، وبما يستكشف من مخترعات، وبأحداث الزمان التي تغير الأوضاع تغييرا كبيرا.
اعتبر في ذلك بما حدث في العصور الحديثة في قرن واحد، فالمخترعات الحديثة غيرت أوضاع الحياة وقلبتها رأسا على عقب، والثورة الصناعية غيرت نظام العالم الاقتصادي والاجتماعي، وأخلاق الناس ومعاملاتهم بعد الحرب الكبرى تغيرت كل التغير عما كانت قبلها، وستغير هذه الحرب أخلاق الناس ومعاملاتهم ونظم الحكم ونظم الاقتصاد إلى حد كبير، فإن حدث هذا في قرن واحد، فما بالكم بقرون عديدة، وما بالكم بعمر العالم؟
من أجل هذا كله كان لا بد لكل دين يواجه الشئون الاجتماعية أن يحمل في ثناياه روح المرونة يواجه بها هذه التغيرات، وأن يفصل فصلا تاما بين قواعد أساسية لا تتغير بتغير الزمان، كقواعد العدالة، ولا ضرر ولا ضرار، ولكم في القصاص حياة، وأن تعدلوا أقرب للتقوى، وإن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربي، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، وبين مسائل جزئية تفصيلية هي وليدة البيئة والظروف، إذا تغيرت تغيرت.
والإسلام جاء ليكون دينا عاما، لا لأمة خاصة، ولا لزمن خاص، فلا بد له أن يقرر عنصر المرونة، وكذلك فعل، وعنصر المرونة فيه هو «الاجتهاد»، وأصل هذا ما جاء في الحديث المشهور أن رسول الله بعث معاذ بن جبل ليقضي بين الناس في اليمن، فسأله: بم تحكم؟ قال: بكتاب الله. قال: فإن لم تجد؟ قال: بسنة رسول الله. قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيي.
هذا الأصل - وهو الاجتهاد - يتضمن أن يكون المجتهد عالما بمقاصد الشريعة وأغراضها ومراميها، دقيق النظر في معرفة أسرارها وأصولها، ثم يواجه المسائل الجديدة والأحداث العارضة، فيقضي فيها برأيه مستندا إلى كليات الشريعة وأغراضها، مقدرا ظروف الأحداث وما يترتب عليها من منافع ومضار.
هذا الأصل المرن يمكن الشريعة من أن تساير الزمان والمكان، فلكل ظرف تقديره، ولكل حادثة حكمها.
وكان من نعم الله على الإسلام أن حدثت الفتوح الأولى في أيام عمر بن الخطاب وهو من أكثر الناس مرونة، وأشدهم اجتهادا في حدود مقاصد الشريعة الكلية.
لقد واجه المسلمون في الفتوح الأولى آلاف المسائل التي لم تكن معروفة في جزيرة العرب، فهذه نظم الري في مصر والعراق المعقدة المشتبكة، وهذه ضروب المعاملات المختلفة التي لم تكن معروفة من قبل، وهذه نظم الحرب الجديدة، وقواعد الحرب والسلم، ونظام الأراضي والمحاربين، وهذه أشكال المدنية الفارسية والرومانية المتعددة الألوان، وهذه الجرائم التي تخلقها المدنيات ولم تكن معروفة للعرب، ونحو ذلك من مسائل لا عداد لها، كل هذه أمور واجهت الدولة الإسلامية وعلى رأسها عمر بن الخطاب، فبم حلها هو وصحبه؟
بالاجتهاد، بمرونة الاجتهاد، بعينين تفتح إحداهما على مقاصد الشريعة وأغراضها ومراميها وتفتح الثانية على الظروف الجديدة، والعوامل الجديدة، ويستخرج من بين هذين النظرين أحكام اجتهادية عدت نبراسا لمن جاء بعد من الفقهاء والشارعين، ولو لم يحصل هذا الظرف السعيد لوقف المسلمون حيارى أمام الحوادث الغريبة والتصرفات العجيبة، ولكن الإسلام رباهم هذه التربية المرنة، فسلحهم بالأصول وأسلس لهم في تطبيقها على الفروع، فحلوا المشكلات، واتقوا الأزمات، وضربوا بأعمالهم خير مثال يحتذى.
ومثل هذا ما حدث فعلا طوال العصر الأموي، والعصر العباسي الأول، نقرأ التاريخ فتأخذنا الروعة من كثرة المجتهدين ومرونة الشارعين، حتى أربوا على خمسمائة، يواجهون الأحداث، ويضعون لها الأحكام، كل حسب اجتهاده، وحسبما فهم من كليات الدين وأصول القواعد، فلم تحدث حادثة إلا لها حكمها، بل أحكامها، مقدرين الظروف، والمنافع والمضار، دارسين عادات البلاد وعرفها وتقاليدها، عالمين الحدود التي يتسامحون فيها؛ لأنها لا تتعارض مع كليات الدين، وعارفين الحدود التي لا يتسامحون فيها لمعارضتها لهذه الكليات.
ولم يشك الناس قط في تلك الأزمنة من عدم الاجتهاد وقلته، ومواجهة الأحداث الجديدة؛ فلئن كانت شكوى فقد كانت من كثرة الاجتهاد وكثرة الأحكام، حتى اضطرت الممالك الإسلامية أن تعالج هذه الحرية في الاجتهاد بأشكال مختلفة، ففي المشرق حاولوا معالجتها باختيار مجموعة للأحكام يعرفها الناس قبل التقاضي، كما روي من حديث أبي جفعر المنصور مع مالك في شأن الموطأ، وفي الأندلس ألفت رسميا جماعة تسمى جماعة الشورى، جعلت هي المرجع في الاجتهاد.
ثم كان - مع الأسف الشديد - أن جهل الناس هذا العنصر الأساسي في الإسلام، وهو الاجتهاد، فأغلقوا بابه فأغلقوا عليهم باب الرحمة، وإذا عدم الناس الاجتهاد أصابهم الركود، وتصلب العود، والزمان لا يقف أبدا، والحوادث تتجدد دائما، فإذا لم تواجه بالاجتهاد المرن، ولم ينتفع بتجددها، تخلف الناس عن زمانهم، وجمدت عقولهم، وسكنت حركتهم، وأصيبوا بالفقر العقلي، وهذا ما حدث للمسلمين فعلا.
وقد تدرج هذا التصلب من اجتهاد مطلق إلى اجتهاد في المذهب، إلى اجتهاد في الفتيا، إلى لا شيء.
وكان لهذا الركود أسباب تاريخية عدة، لا مجال لتفصيلها، أهمها القضاء على حرية الفكر التي كان يقوم بها المعتزلة، وغلبة بعض المحدثين في عهد المتوكل، ثم غلبة نوع من التصوف ينشر القول بالجبر، لا بالمعنى الفلسفي الذي هو ربط الأسباب بالمسببات، ولكن بمعنى التسليم المطلق لحوادث الدهر، من غير تدخل في شئونها، مطالبين أن يكون العبد كالميت بين يدي الغاسل يقلبه كيف يشاء، لا يكون له حركة ولا تدبير.
وقد أحس بعض كبار المسلمين بهذا الخطر الناشئ من ضياع الاجتهاد، فحاولوا محاولات عنيفة في هذا الباب، كما فعل عبد المؤمن بن علي في المغرب حول سنة 550ه، إذ وجد العلماء انهمكوا في الفروع، ورضوا بالتقليد، فأحرق كتب الفروع، وألزم العلماء بالاجتهاد وترك التقليد.
وكما فعل ابن تيمية عقب سقوط بغداد، إذ نادى بالاجتهاد ودعا إليه، ولقي في ذلك من العناء ما لا يوصف، ولكن مع الأسف ذهبت دعوتهم هباء.
إن وقوف الاجتهاد معناه الركود، معناه الحكم بالإعدام على العقل، معناه وقوف الناس حيث هم، وكذلك كان تاريخ المسلمين منذ القرن الخامس، حياتهم متكررة، ولا جديد ولا قائد ولا مجتهد يبعث على حركة، أو يحول الحركة إلى جهة صالحة.
ولم يكن إغلاق باب الاجتهاد مؤثرا على التشريع وحده، ولا على الإصلاح الاجتماعي وحده، بل شمل كل مرافق الحياة، فاللغة واقفة حيث وقف المتقدمون، والمعاجم كما كتب الأولون، والصناعات كما صنع السابقون، وهكذا، وظللنا كذلك حتى صفعتنا المدنية الحديثة فانتبهنا مذعورين.
كانت المدنية الحديثة مشكلة كبرى أمامنا، كيف نحدد موقفنا إزاءها؟ وقد عرضت هذه المشكلة لكل أمة مسلمة، في الهند، في الشام، في فارس، في العراق، في تركيا، في مصر، وقد رأينا أنه في كل قطر تقريبا، وجد مذهبان مختلفان لحل هذه المشكلة، وطريقة الإصلاح التي يدخلونها على الأمة، فأما طائفة فرأت حصر الدين في دائرة ضيقة جدا؛ لأنه فقد مرونته، وفقد أهله مرونتهم، ولتكن هذه الدائرة دائرة العبادات والأحوال الشخصية، وأما ما عدا ذلك من نظم الحكم وقوانين البلاد وما إلى ذلك من مرافق الحياة، فيجب أن يتجه فيها إلى أوربا ونظمها وقوانينها، فهذه باب الاجتهاد فيها مفتوح والمرونة فيها على أتمها، فلندرس ما وصلت إليه أوربا في السياسة، وفي الإصلاح الاجتماعي، ولنجتهد فيه ولنأخذ منه ما يصلح للأمم الشرقية، وليبق باب الاجتهاد مفتوحا على مصراعيه، كلما جد في أوربا جديد اقتبسنا منه، وكلما تغير الزمن عندنا غيرنا ما يتفق والعقل والمصلحة، قالوا: لقد فصلت أوربا بين الدين والدولة فلنفصل نحن أيضا، ولنجعل حدود الدين في العبادات وما يتصل بها، ولنجعل حدود الدولة واسعة كل السعة، وليكن شارعونا في الدولة ممن علموا على النمط الغربي، وممن يحكمون العقل المطلق ويجتهدون الاجتهاد المطلق، وبدل أن كان يشترط في المجتهد المطلق العلم بكليات الشريعة ومقاصدها ومراميها نشترط نحن أن يكون عالما بمقاصد المدنية الغربية وكلياتها ومراميها، ذلك لأنا أمام مدنية تشبه التي واجهتها جزيرة العرب أيام عمر بن الخطاب، بل هي أشد تعقدا وتركبا: معاملات جديدة أشكال وألوان، ومخترعات جديدة، ونظم سياسية جديدة، وكل شيء جديد، فما لم نواجهها باجتهاد مطلق قوي واسع المدارك وقفنا مشلولين، ولا أمل في مرونة كالمرونة الأولى أيام عمر - في العصور الحاضرة على الأقل - فوجب أن نجتهد اجتهادا آخر، أساسه العقل المطلق، وقياس المنفعة والمضرة من غير قيد، ولنؤسس القومية والوطنية كما أسستها أوربا؟ ولينظر كل وطن وكل قوم في مصالحهم حسبما ترشدهم إلى ذلك عقول مجتهديهم.
وبجانب هؤلاء دعاة آخرون يرون أن الإسلام في أساسه عنصر صالح كل الصلاحية، يحمل في ثناياه المرونة الكافية - كما أسلفنا - وجمود أهله عارض، وقشرة ظاهرية إذا أزلناها بقي على صلاحيته، والأمم الإسلامية قد تأقلمت بالإسلام أجيالا طوالا حتى صار في لحمها ودمها، فإذا جئتها بمبادئ جديدة بعيدة عنها اضطربت أمزجتها وحياتها بين الموروث والمكتسب، وهذه المدنية الغربية إنما تنفع بحذافيرها في البيئة الغربية، وأساس تعاليم الإسلام عدم التفرقة بين شئون الدين وشئون الدنيا، فالعمل شيء واحد له وجهان دائما: وجه دنيوي ظاهري، ووجه ديني يتعلق بالنية، والمدنية الغربية قد فصلت بين الدين والدولة؛ لأن الدين المسيحي لم يتعرض لشئون الدنيا، فأمكن وضع الدين في دائرته، وتأسيس دائرة أخرى للدولة وشئونها؛ وقال هؤلاء للطائفة الأولى: ربما كان يكون قولكم صحيحا وحجتكم قوية لو أن المدنية الغربية برهنت على صلاحيتها للحياة، أما وكل يوم دليل جديد على فسادها، من حرب تهلك الحرث والنسل، ونحو ذلك من شرور، فأولى ألا نندمج هذا الاندماج، وألا ندعو إلى وطنيات وقوميات، وإنما إلى عالم إسلامي يطمح أن تعم مبادئه الإنسانية كلها، ثم أن نؤسس إصلاحاتنا الاجتماعية على أساس نظريات الإسلام، فذلك أقرب إلى قلب الأمة وأدعى إلى الإصغاء للدعوة وتلبيتها، نعم إن ذلك لا يكون إلا بإزالة القشرة الظاهرية التي غلفت الإسلام، والرجوع إلى عناصره الأولى، ومنها الاجتهاد المطلق، والمرونة الكافية، وهذا مطلب عسير، ولكنه ممكن.
إذا فكل فرقة من الفرقتين تدعو إلى الاجتهاد المطلق، وإن اختلف منبع كل.
والعالم الإسلامي الآن حائر بين النزعتين والدعوتين، ويخيل إلي أن الدعوة الأولى غالبة والعمل يجري عليها والاتجاه إليها أقوى في صمت وسكون، والأمم الإسلامية تختلف في مدى تطبيقها والعمل بها، وربما عدت تركيا في طليعة الآخذين بها.
وعلى قادة العالم الإسلامي واجب قوي الآن، وهو إنقاذه من هذه الحيرة، ورسم الخطة المحكمة الحازمة التي يحب السير عليها ، وتنظيم الإصلاح الاجتماعي حسب الفصل في هذا الأساس، ويحب ألا يكون هذا الإصلاح ارتجالا، فليست تقبل إحدى هاتين الطائفتين هذا الإصلاح المرتجل؛ لأن الارتجال سير على غير هدى، وبناء من غير تصميم، وحبذا لو أمكن السير على الرأي الثاني، ولكنه - كما أسلفت - لا يمكن حتى يثبت أهله صلاحيتهم للمرونة، وللاجتهاد المطلق، والله الموفق.
حديث الخميس (2)
وعدت القراء أن أوافيهم من حين إلى حين بما يدور مساء الخميس في «لجنة التأليف».
لقد كان حديث الليلة حديثا طريفا، فبعد أن التأم الجمع بدأ أحدنا يقص علينا عملا عمله في يومه، وأعقبه بقوله: «لقد كانت قرفته ثقيلة».
وهنا تعلق أحد الحاضرين بهذه الكلمة وسأل: من أين جاء هذا التعبير، فيقولون للعمل إذا سار في يسر وسهولة: «إن قرفته خفيفة» وإذا تعقد وارتبك: «إن قرفته ثقيلة»؟ وكلنا يعرف القرفة، وأنها نوع من الأفاويه يستعمله المصريون مشروبا ساخنا كالشاي، فكيف استعمل هذا الاستعمال الغريب؟
رد أحد الحاضرين بأن مصدر هذا الاستعمال حلقات الذكر، وقد جرت العادة أن يوزع فيها مشروب القرفة، ولكن توزيعها في هذه الحفلات فوضى في غير نظام ولا إتقان، فالقرفة تصنع على عجل وتوزع حيثما اتفق، فهذا يناله فنجان سكره خفيف، وهذا سكره كثير، وهذا قرفته خفيفة، وهذا قرفته ثقيلة - هذا أصل الاستعمال، ثم تطور المعنى، فصاروا يعبرون عن كل شيء خفيف الظل بأن قرفته خفيفة، وكل شيء ثقيل الظل بأن قرفته ثقيلة. - ولكن هناك ما هو أصعب من السؤال عن اللفظ وأعقد: ما معنى أن الشيء قرفته خفيفة أو ثقيلة؟ هل هو أمر يعود إلى أسباب طبيعية يمكن تفسيرها وشرحها، أو أن وراء هذه الأشياء الطبيعية التي نعلمها أشياء روحية نجهلها؟
تبلبل الحاضرون واختلفت الآراء. - أما أنا فإني أرى أن الأمر يمكن تفسيره بالقوانين الطبيعية، فالإنسان إذا كان معتدل المزاج، قوي النشاط، معدته صحيحة، ودورته الدموية نشيطة، وكبده في حالة جيدة، والعمل يناسبه، كانت قرفته خفيفة، وأما إذا ساء مزاجه، أو اضطربت معدته، أو ساءت حالة كبده، أو كان العمل ليس في مقدوره، كانت قرفته ثقيلة، وكل ذلك طبيعي ولا شيء غير الطبيعة. - وأما أنا فإني أرى أن الأمر ليس بهذه البساطة، وأنه أعقد من أن يحل بهذه السرعة، لقد أكون معتدل المزاج، متوفر في كل الشروط التي ذكرتها، وأحيانا أعرض لعمل فيسهل، وأعرض لمثله أحيانا فيصعب.
لقد سكنت بيتا وكانت كل الدلائل تدل على حسنه، مبناه جميل، وهندسته جميلة، وحائز لكل الشروط الصحية، ومع ذلك كانت قرفته ثقيلة، بليت فيه بالمرض، وابتلي أولادي بالمرض، وأصبت فيه بالنكد، وكانت حياتي فيه سلسلة مصائب، حتى إذا انتقلت منه إلى بيت آخر زالت كل هذه الشرور. - وتصديقا لقولك، هذا رجل يتزوج زوجة قد لا تكون حسناء، ومع ذلك فهو سعيد موفق في تجارته، يأتيه الرزق من كل مكان، وتنهال عليه الخيرات وينعم بضروب السعادة، ثم تموت هذه الزوجة، ويتزوج غيرها قد تكون أجمل منها، ومع هذا يبتدئ يضيق رزقه ويقل مورده، وتكثر متاعبه، ولا يزال يتدهور حتى يصل إلى الحضيض، فكيف تفسر ذلك تفسيرا طبيعيا؟ - وهذا رجل يلعب نردا أو شطرنجا أو ورقا، فهو في أسبوع حسن الحظ جدا، يلعب فيكسب، ثم يلعب فيكسب، ويلي الأسبوع أسبوع آخر يلعب فيه فيخسر، ثم يلعب فيخسر، واللاعبون معه هم هم، وهو هو فكيف تفسير ذلك طبيعيا؟ - وهذا يوم اصطبحت فيه بشخص، فكان يوما أسود: ركبت سيارتي فتعطلت في الطريق، فاستأجرت أخرى فاصطدمت، وذهبت إلى عملي فكان غير موفق، واشتريت شيئا فكان سيئا، وعدت إلى بيتي فوجدت ابني قد رجع من المدرسة مكسور الذراع، ودعوت الطبيب فلم أجده، واصطبحت بشخص آخر يوما آخر، فكان كله توفيقا، فكيف نفسر ذلك تفسيرا طبيعيا؟ ولم تجمع كل الخذلان في يوم؟ ولم تجمع كل هذا التوفيق في يوم؟ إذ ذاك انقسم الحاضرون إلى معسكرين: معسكر يرى أنه لا شيء في هذا كله مما يصعب تفسيره تفسيرا طبيعيا، فلا شأن للبيت المشئوم في شؤمه، ولو كان من حدثت له هذه الأحداث في أي بيت لجرى له ما جرى، إلا أن يكون في البيت نفسه شيء غير طبيعي يخل بالصحة، ودليل ذلك أن البيت الواحد قد يسعد فيه قوم ويشقى آخرون، ولو كانت المسألة مسألة البيت لاتحدت نتائجه من سعادة أو شقاء دائما، بل إن البيت الواحد للأسرة الواحدة قد يكون مكان سعادة لها حينا وشقاء حينا لأسباب خارجة عن البيت نفسه.
وكذلك الشأن في حديث الزوجة، ليس لها دخل في فقر الزوج وشقائه بعد غناه وسعادته، إلا أن يكون لها من الأخلاق ما يسبب ذلك، كإسرافها أو تبديدها أو إهمالها، فإذا لم يكن شيء من ذلك فلا بد أن تكون هناك عوامل اقتصادية أخرى غير المرأة سببت تدهور تجارته، لو حدثت أيام الزوجة الأولى لحدث الفقر نفسه، ولسنا ننكر المصادفات، وأن حوادث الشر قد تتجمع في يوم، وحوادث الخير تتجمع في يوم، ولكن كل مصادفة ترجع إلى قانون السببية.
ووقف المعسكر الآخر يحمل على هذا التفسير، ويرى أنه لا يحل الإشكال، وأنه لو كان الأمر دائما يرجع إلى علل معقولة فما بالنا نرى من تجمعت فيه كل شروط النجاح ثم فشل، ومن تجمعت فيه كل أسباب الفشل فنجح؟ وما بالنا نرى الشخص يضع يده في التراب فيكون ذهبا، ونرى الآخر يضع يده في الذهب فيصير ترابا، ولو حاولنا أن نبين لذلك أسبابا معقولة لعجزنا كل العجز.
ثم تشعب الجدل وطال، ورأينا أنفسنا قد انتقلنا في خفة ورشاقة إلى شيء يتصل بذلك أتم الاتصال، قد كان مدار الحديث حول «القرفة الخفيفة والقرفة الثقيلة»، فإذا بنا نتحدث عن الدم الخفيف والروح الخفيف، والدم الثقيل والروح الثقيل. - ما هذا أيضا؟ إنا لنرى من استوفى كل شروط الجمال في لونه وتقاطيعه، ولو طبقت عليه كل القواعد التي وصل إليها علماء الجمال لانطبقت عليه، ومع هذا نقول: إن دمه ثقيل. وآخر قد اجتمعت عليه كل ضروب القبح في لونه وكبر أنفه وجحوظ عينيه وانحناء متنه، وهو مع ذلك خفيف الروح تأنس النفس به وتنجذب إليه، هذا من جنس ذاك، فما تفسيره؟ أهو أيضا خاضع لقوانين طبيعية أو تدخل فيه قوانين روحانية؟ - تفسير ذلك أن الجمال أنواع: فمنه جمال الأعضاء والتقاطيع والألوان، ومنه جمال الحركة، وجمال الحديث، وجمال العقل والتفكير وجمال الروح، وخفة الدم ترجع إلى جمال الروح، وليس هذا فقط، بل إن الجمال سواء كان حسيا أو معنويا لا بد فيه من الانسجام بين الرائي والمرئي والشاعر والمشعور به، ومن هذا ترى الإنسان جميلا في عين إنسان وليس جميلا في عين آخر، وخفيف الروح في عين وثقيلها في عين، ثم قد يكون الشخص جميلا جمالا حسيا، وليس جميلا جمالا معنويا، فإذا رأيته أعجبك شكله، فإذا تكلم أو عرض عقله تبينت ثقله؛ لأن قبح عقله غطى على جمال شكله، فالمسألة كلها ترجع إلى قوانين طبيعية سواء في ذلك جمال الحس وجمال المعنى. - أما أنا فالأمر عندي أدق من ذلك، فأعتقد أن هناك إشعاعا روحيا أدق وألطف من إشعاع الضوء، وأن كل إنسان له نوع إشعاع، فإذا توافق إشعاع الناظر والمنظور على نوع من أنواع الاتفاق أحس بالجمال وعبر بخفة الروح، وإذا لم يتوافق الشعاعان عبر عن ذلك بثقل الروح، و«الأرواح جنود مجندة، ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف»، وكيف ننكر هذا الإشعاع وقد قربنا من إدراكه اكتشاف اللاسلكي، وأمواج الروح أدق من أمواج السلكي واللاسلكي. - ولكن إذا كان هذا صحيحا فلم نستثقل شخصا ثم نستلطفه أو نستلطفه ثم نستثقله؟ ولو كان الأمر أمر إشعاع وتوافق لاستمر ذلك أبدا ولم يحدث فيه هذا التغير؟ - الأمر يمكن تفسيره بأن هناك طاقات ينفذ منها الإشعاع، تفتح فيخرج إشعاعها وتغلق فينعدم، فهذه طاقة إشعاع تنفتح عند الحديث، وأخرى عند الخطابة، وثالثة عند تلاقي العيون، ورابعة عند الحركات، وهكذا، وقد تكون أشعة طاقة من الطاقات لطيفة جميلة، وإشعاعات طاقة أخرى ليست لطيفة ولا جميلة، وقد تكون جميلة بامتزاجها مع إشعاعات شخص، وليست جميلة إذا امتزجت مع إشعاعات آخر، ومن أجل ذلك ننظر إلى شكل إنسان فنستجمله فإذا تحدث نستقبحه، وإشعاعات الأفراد تختلف كمية وكيفية، فتختلف كمية كقوة مصابيح الكهرباء ، وتختلف كيفية كالأمواج القصيرة والطويلة والمتوسطة، ولهذا يختلف الأفراد في قوة التأثير حسب قوة الإشعاع وضعفه وكثرته وقلته. - هذا كلام شعري لا كلام علمي، هو كلام يستسيغه الأديب الذي يروعه التشبيه والاستعارة وسائر ضروب الخيال، ولكن لا يأبه له العالم الذي يحلل ويعلل ولا يقنع إلا بالسبب والمسبب. - وما ضرر هذا وليست حقائق الدنيا كلها علما، بل فيها العلم والأدب؟ وطبيعة العالم فيها الصنفان جميعا، هذا النهر يتكون من عناصر الماء العلمية ومن جمال مناظره الأدبية، من أوكسيجينه وهيدروجينه، ومن بريقه وخريره، وهذه الأشجار تتكون من عناصرها الأولية ومن زهرتها الجميلة وحفيف أوراقها الجميل ولعب النسيم بأغصانها الجميلة، فلماذا تريدنا على العلم الجاف، ولا تريدنا على الأدب الجميل، إذا كانت حقائق الدنيا فيها النوعان معا؟ ثم ما هذا الغرور العلمي الذي يريد ألا يؤمن إلا بما يقع تحت حسه ولا يقر إلا بما يحلله في معمله؟ فكم في الدنيا من عوالم: عالم يخضع لقوانين السببية وعالم لا يخضع، عالم اكتشف وعالم سيكتشف، وعالم لا كشف ولا سيكتشف، وكل يوم يطلع على العلم بقوانين جديدة، وكل يوم تتسع فيه دائرة المعلوم وتضيق دائرة المجهول. - أما إن وصلنا إلى هذا فالأمر يسير، فأنا - كعالم - أقف عند حدود العلم، ولا أومن بالفروض حتى تدخل في باب الحقائق، ومع هذا لا أدعي أن العلم وصل إلى كل شيء، وحل كل شيء، وإنما الذي أنكره عليك أن تعرض جمال الروح وقضايا الإشعاع على أنها علم لا فرض، أما إن عرضتها كفرض فلنبحثها بحث الفروض.
ودقت الساعة مؤذنة بالانصراف فتفرقنا، وكانت جلسة روحها خفيفة، وقرفتها خفيفة، أليس كذلك؟
أبو ذر الغفاري
لم يكن أبو ذر بطلا من أبطال الحروب تؤثر عنه المغامرات الحربية وتؤثر عنه الانتصارات والفتوح، ولكنه بطل من نوع آخر، هو الإصرار على الحق والمجاهرة به والتضحية في سبيل قوله والدعوة إليه بنفسه وماله، لا تأخذه في الحق لومة لائم، ولا تفزعه سطوة حاكم.
هو من قبيلة تسمى غفار، قبيلة مضرية كانت تسكن الحجاز على الطريق بين مكة والمدينة، ولم يكن عظيما في قومه، يستند - كعادة الجاهلية - في عظمته على الحسب والنسب، والمال والثروة، وإنما كان عظيما في عقله، يحكمه في دينه وفي عقيدته، ويستطيع إدراك ما هو خير وما هو شر، لذلك يؤثر عنه أنه قبل الإسلام أدرك سخافة عبادة الأصنام وتحرر منها، ومال إلى عبادة الله وحده، على نحو غامض لم ينكشف له تمام الانكشاف إلا بالإسلام.
وأدرك قومه الجدب فرحل مع بعض أهل بيته إلى بعض أقاربه في أعلى نجد، ولكنه لم يسترح هناك فهاجر إلى مكة، وصادف عند هجرته أول دعوة محمد
صلى الله عليه وسلم
إلى الإسلام، وسمع الناس في مكة يتحدثون بمحمد هل هو نبي أو ساحر أو شاعر أو مجنون، فأحب أن يخبر الخبر بنفسه ويعرف كنه دعوته، ويحكم في ذلك عقله هو لا كلام الناس، وساعده على ذلك أنه نفسه كان ثائرا على الأصنام، فلما سمع بثائر آخر أحب أن يعرف دعوته، فتلمس لقاء محمد حتى وجده، وأصغى إليه، وإلى أساس تعاليمه، فعرف فيها الخير، فسرعان ما آمن قبل أن يؤمن الناس، وكان خامس مؤمن.
ولكنه لما آمن تحرك طبعه من حب مجاهرته للحق، فلم يشأ أن يسكت وقد نصح بالسكوت، فتعرض لصناديد قريش وجهر فيهم بالإسلام، فأوذي وضرب ضربا شديدا حتى كاد يقضى عليه لولا أن تدخل العباس وقال لقريش: يا معشر قريش أنتم تجار، وطريقكم على غفار، أتريدون أن يقطع الطريق عليكم، فكفوا عنه، وعاود ذلك فعادوا، فأدرك النبي
صلى الله عليه وسلم
أنه لن يسكت، وأنه معرض للقتل، فأمره أن يلحق بقومه حتى إذا ظهرت الدعوة فليأته، فرجع إلى بلده يدعو بعقيدته، ثم ظهر بعد أن هاجر النبي
صلى الله عليه وسلم
إلى المدينة وبعد غزوة بدر وأحد، فإن أبا ذر لم يشهدهما.
وكان أبو ذر من أهل الصفة، والصفة موضع مظلل في مسجد المدينة كان يأوي إليه فقراء الصحابة ممن لم يكن له منزل يسكنه، كانوا فقراء فكان يمدهم الأغنياء بمالهم، ويقدمون إليهم طعامهم ويستضيفونهم في منازلهم، وإذا أتى النبي صدقة بعثها إليهم، يلبسون رقيق الثياب ويأكلون تافه الطعام، وكانوا يختلفون في العدد من حين إلى الآخر، فكانوا أحيانا سبعين وأحيانا دون ذلك أو أكثر من ذلك، وكان النبي يزورهم في مكانهم الفينة بعد الفينة ويحدثهم ويصغي إليهم، ولأنه كان يقوم الأشياء والناس غير التقويم الجاهلي من الاعتزاز بالمال والنسب، وإنما يقومهم بالأخلاق والعمل، كان يكرم هؤلاء ويقدرهم ولا يرى غضاضة في الجلوس إليهم، وكان صناديد العرب يأنفون من ذلك ويعدونهم عبيدا أذلاء لا يصح أن يجالسوهم، فلما جاء الأقرع بن حابس التميمي وعيينة بن حصن الفزاري وأمثالهما إلى المسجد طلبوا من النبي أن يفردهم بالجلوس وقالوا: إنا نستحي أن ترانا العرب قعودا مع هذه الأعبد فإذا نحن جئناك فأقمهم عنا، فنزل قوله تعالى:
ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه
وقوله:
واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا ، وكان من أهل الصفة هؤلاء أمثال أبي ذر وسلمان الفارسي وبلال وأبي سعيد الخدري وغيرهم.
كانت ميزتهم المشتركة بينهم الفقر، وكثرة الاتصال برسول الله، ثم هم يختلفون بعد ذلك في مزاياهم الشخصية.
وكان لرسول الله
صلى الله عليه وسلم
نظر صائب في الأشخاص ومواضع قوتهم وضعفهم، وكان يوجه كلا حسب استعداده وما يصلح له، ويلقي بالنصيحة لكل فتذهب خبثه، وتصهر نفسه.
ولقد كانت نصيحته الكبرى لأبي ذر التي تتفق ونفسه، وما عرف عنه من قول الحق والدفاع عنه ما حدث به أبو ذر أنه قال: «أوصاني رسول الله أن أحب المساكين وأدنو منهم وأنظر إلى من هو دوني، ولا أنظر لمن هو فوقي، وألا أسأل أحدا شيئا، وأن أصل الرحم، وأن أقول الحق وإن كان مرا، وألا أخاف في الله لومة لائم».
وقد نفذ أبو ذر هذه النصيحة في دقة، فلم يحد عنها.
جاءت الدنيا بخيرها ونعيمها، فعمت العرب، واغتنى بعض أهل الصفة، وظل أبو ذر متلذذا من فقره، متخففا من حاجاته، متعففا عن الغنى حتى لقي ربه.
يعطى العطاء فينفقه على الفقراء، ويتصدق به على المحتاجين، ولا يدخر لنفسه إلا القليل، يرى من النعم الكبرى عليه أن له ثوبين، ثوبا لبيته وثوبا للمسجد، وله أعنزا يحلبها، وله أحمرة يحمل عليها الميرة، وعنده من يخدمه ويكفيه مهنة طعامه، ويقول فأي نعمة أفضل مما أنا فيه، ويحلب غنيماته فيبدأ بجيرانه وأضيافه، ويبقي القليل لنفسه، ويرفق بزوجته السحماء السوداء، ولا يقبل نصيحة أصحابه في أن يتزوج غيرها.
ميزة أبي ذر الكبرى هي ما نصحه به رسول الله أن يقول الحق ولو كان مرا، فقد تجلت فيه هذه الصفة على أتمها، حتى اعترف له بها كل الناس، وحتى روي عن علي أنه قال: «لم يبق اليوم أحد لا يبالي في الله لومة لائم غير أبي ذر، ولا نفسي، وأشار بيده إلى صدره»، وكان أبو ذر نفسه يقول: «ما زلت آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر حتى ما ترك الحق لي صديقا».
تجلت فيه هذه الموهبة على أتمها - فيما تجلت - في آخر أيامه، وقد ذهب إلى دمشق، وواليها معاوية من قبل عثمان، والبلد تزخر بالنعيم، وتتدفق بالذهب والفضة، والناس ينعمون بأطايب العيش ومتع الحياة، وكان قد ذاق وذاق معه كثيرون ألم الفقر في الحجاز، وجرب بنفسه آلام البؤس، فحز في نفسه ترف هؤلاء، وبؤس هؤلاء، وتلا قوله تعالى:
والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم
فتملكته عقيدة أنه لا يصح الإفراط في الترف بجانب الإفراط في البؤس.
اصطدم أبو ذر بمعاوية، وطبيعي أن يصطدما، فمعاوية رجل سياسي، محاور مداور، فيه الاعتزاز بالأرستقراطية العربية، من اعتداد الحسب والنسب ، فأبوه أبو سفيان سيد بني أمية، والخليفة عثمان من بيته، وأبو ذر رجل من سواد الناس لا يعتز إلا بدينه وخلقه، ومعاوية هو الوارث في إمارته بالشام ملك الرومان وزهوهم وفخامتهم وجبروتهم وأبهتهم، يسكن القصور الفخمة ويعيش العيشة المترفة الناعمة ويتلو قوله تعالى:
قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق ، وأبو ذر بدوي لا يملك إلا أعنزا وثوبين وقليلا من الميرة ويعيش حتى في دمشق في خيمة من الشعر، ويرى الذهب والفضة نارا لا يصح أن تلمسها يده فتحترق، ويتلو قوله تعالى:
والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم ، ومعاوية سياسي ينظر للمال على أنه يخدم السياسة ويدعم الملك والإمارة، فهو يتألف به قلوب النافرين، ويقرب به نفوس الثائرين، ويهبه للشعراء يشيدون بذكره ويعلون من شأن بيته، ويمكنون له في سلطانه، ويهجون المنحرفين عنه، والناقمين عليه وما إلى ذلك من أفانين السياسة، وأبو ذر رجل صريح لا شأن له بالإمارة، وقد عرف فيه رسول الله ذلك، فقال له: «لا تأمرن على اثنين»، فهو ينظر إلى الأمور نظرة صريحة مجردة من اعتبارات السياسة وملابساتها، ويرى أن المال إنما جعل وسيلة لإسعاد الناس، وسد حاجات البائسين، وإعانة المعوزين، لا لترف المترفين، ولا لإعطاء الشعراء والمادحين والثائرين، ولا لكنز الكانزين، وأن المال خلق لسد الضرورات أولا، ولترف المترفين أخيرا.
فلا عجب وهذا هو الشأن أن يصطدم أبو ذر بمعاوية اصطداما عنيفا، وأبو ذر على بساطته وبداوته وفقره لم يكن رجلا هينا، يستطيع معاوية - على عظمته وسلطانه وسعة حيلته - أن يتغلب عليه في سهولة ويسر، فقد كان أبو ذر حارا في عقيدته، والعقيدة الحارة تزلزل الجبال، وكان لسنا يجيد التعبير عما في نفسه، فيبلغ ببيانه من نفوس سامعيه مبلغا كبيرا يخيف معاوية، ولكن ماذا حدث؟ حدث أن معاوية في الشام كان إذا جاءه مال من ضرائب أو خراج أو نحو ذلك احتجز بعضه للصرف على المصالح العامة التي منها مصارف السياسة التي أشرنا إليها، وكان معاوية يسمي هذا الجزء المحتجز «مال الله»، تمشيا مع قوله تعالى:
واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه
ومعنى مال الله أن الإمام يصرفه حيث يشاء في المصالح العامة، فلم يرض أبا ذر هذا الرأي، ولا هذه التسمية، ورأى أن المال يجب أن يصرف أولا في سد حاجة الفقراء، وأنه يجب أن يسمى مال المسلمين.
وذهب إلى معاوية، وقال له: ما يدعوك إلى أن تسمي مال المسلمين مال الله؟ قال معاوية: يرحمك الله يا أبا ذر، ألسنا عباد الله، والمال ماله، والخلق خلقه، والأمر أمره؟! قال أبو ذر: فإني لا أقول: إنه ليس لله، ولكن سأقول: مال المسلمين. اختلفت نظرية أبي ذر ومن تبعه، ونظرية معاوية ومن على رأيه ومنهم الخليفة عثمان، فعثمان ومعاوية ومن على رأيهما يرون أن وسائل الكسب حرة مفتحة أمام الجميع، فمن استطاع أن يغتني من طرقها المشروعة فليغتن، فإذا اغتنى وجب عليه أن يؤدي الزكاة للفقراء على حسب الشريعة، ثم هو بعد ذلك حر في أن ينعم بالحياة أو يزهد فيها، فإذا هو شاء النعيم في حدود ما أحل الله، فلا حرج عليه في ذلك، وقد عبر عن ذلك كله عثمان بن عفان بقوله لأبي ذر: «يا أبا ذر علي أن أقضي ما علي وآخذ ما على الرعية، ولا أجبرهم على الزهد، وأن أدعوهم إلى الاجتهاد والاقتصاد».
وأما نظرية أبي ذر فهي أن الناس مطالبون أن يعينوا بمالهم الفقراء، وأن الزكاة ليست هي كل ما يجب، وإنما هو الواجب القانوني، ووراء هذا الواجب القانوني واجب أخلاقي وديني، وهو معاونة البائسين والمحتاجين حتى يذهب بؤسهم واحتياجهم، وليس لأحد أن ينعم كل النعيم وجاره بائس كل البؤس، وقد عبر عن ذلك بقوله لعثمان: «لا ترضوا من الناس بكف الأذى حتى يبذلوا المعروف، وقد ينبغي للمؤدي الزكاة ألا يقتصر عليها حتى يحسن إلى الجيران والإخوان ويصل القرابات».
على كل حال اصطدمت النظريتان، وأحس معاوية بخطر أبي ذر في الشام، وأن دعوته خطرة من جهتين، من جهة خطرها على حرية الغنى، وحرية العمل، وحرية الكسب، وحرية الاستمتاع بالحياة، ومن جهة أخرى أن بعض رءوس الفساد يستغل هذه الدعوة، ويستغل طهارة أبي ذر فيشعل الفتنة في التأليب عليه وعلى دولته.
فكتب معاوية إلى عثمان يشكو أبا ذر ودعوته، فكتب إليه عثمان: «إن الفتنة قد أخرجت خطمها وعيبتها، فلم يبق إلا أن تثبت، فلا تنكأ القرح، وجهز أبا ذر، وابعث معه دليلا وزوده وارفق به».
فبعث إليه أبا ذر فحاجه عثمان فلم يقنعه، وطلب إليه أن يسمح له بالخروج إلى بلدة بعيدة عن الناس، فسمح له فخرج إلى الربذة (وهي قرية على ثلاثة أميال من المدينة في طريق مكة)، وما زال بها حتى مات رحمه الله.
لقد كانت أكبر ميزة فيه حبه للحق، وصراحته فيه، وعمله وفق عقيدته، لقد اعتقد هذه العقيدة في المال فألزم نفسه اتباعها، ولقد كان - على فقره - يحلب غنيمة له فيبدأ بجيرانه وأضيافه، ويقدم لهم ما عنده من تمر، ثم يعتذر إليهم ويقول: لو كان عندنا ما هو أفضل من هذا لجئنا به، ويبيت أحيانا على الطوى، وعرف منه رسول الله هذا الخلق، فقال: «ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر».
ولطيفة أخرى له، وهو أنه خالف معاوية واشتد في مخالفته، وخالف عثمان واشتد في مخالفته، ولكنه رأى أن الأمور لا تصلح إلا بطاعة من بيده الأمر بعد أن يبين له وجه الحق في صراحة، وأنه إذا عمل كل حسب رأيه من غير طاعة لرئيس أصبح الناس فوضى، فكان هذا من أجمل المواقف لأبي ذر، حدث المؤرخون: «أن أبا ذر وعثمان تناجيا حتى ارتفعت أصواتهما، ثم خرج أبو ذر مبتسما، فأتاه نفر من أهل العراق فقالوا: يا أبا ذر، فعل بك هذا الرجل وفعل، فهل أنت ناصب لنا راية (؟) (يريدون راية الثورة)، قال: يا أهل الإسلام لا تعرضوا علي ذاك، ولا تذلوا السلطان، والله لو أن عثمان صلبني على أطول خشبة لسمعت وأطعت، وصبرت واحتسبت، ورأيت أن ذلك خير لي ، ولو سيرني ما بين المشرق والمغرب لسمعت وأطعت، وصبرت واحتسبت، ورأيت أن ذلك خير لي». رحم الله أبا ذر، فقد كان محبا للحق، مخلصا له جاهرا به ملتزما له.
العلماء في حضرة تيمورلنك
كان تيمورلنك من هؤلاء الأفذاذ الذين يظهرون من آن لآخر في التاريخ، فيصبغون أديم الأرض بالدماء، أمثال الإسكندر وهولاكو ونابليون، ويتجلى عليهم الله باسم المنتقم الجبار، كما يتجلى على الأنبياء باسم الرحمن الرحيم أو الهادي الأمين.
تواتيهم الظروف وتسعفهم الأقدار، فيقطعون الأرض طولا وعرضا، وشرقا وغربا، كما يقطع اللاعب رقعة الشطرنج، فيخربون ويدمرون، وينكلون بمن يقف في سبيلهم، أو تحدثه نفسه بصدهم، قد جردوا من ضمير مؤنب، أو وجدان مشفق، تلذهم الدماء كما يلذ الأكل الشهي النهم الأكول، أو كما يلذ الماء الزلال الظامئ الصادي، كأن بينهم وبين الإنسانية ثأرا، فلا يهدأون حتى يقضوا عليها، ويطووا صحيفتها، وهم مع هذا كله يعتقدون أن العناية الإلهية أرسلتهم ليدفعوا الظلم، وينشروا في الأرض راية العدل! وويل للإنسان من العقل، فهو قدير أن يسمي أقسى الظلم غاية العدل، وأن يسمي التخريب تعميرا، وأن يسمي الوحشية إنسانية، وهو في كل ذلك يجد المنطق الذي يخدمه، والبرهان الذي يؤيده. •••
كان لتيمورلنك قلب أقسى من الحديد، وأصلب من الجلمود، لا تأخذه رأفة، ولا تلجه رحمة، سلط على ممالك آسيا فدوخها، وصاد سلاطينها، وأباد البلاد، وأهلك الحرث والنسل، وأزهق النفوس، وبنى القلاع من الرءوس، وكان كما حدث عن نفسه: «في قدمه ثلاثة أشياء: الخراب والقحط والوباء».
ولكن كان له بجانب قسوته وغلظته جوانب غريبة، كان له فراسة في الأشخاص ولا فراسة إياس، تستخرج من أعماق الصدور ما لا يستخرجه القياس، وكان إلى هذا يألف الأولياء والعلماء، وتلذه مجالسهم ورؤيتهم، وأحاديثهم ومناقشتهم، يستمد البركة من الأولياء، ويزورهم ويطلب دعاءهم، وإذا فتح بلدة دعا علماءها للمجادلة معهم.
سمع - وهو بخراسان - عن ولي من أولياء الله ذي كرامات ظاهرة ومكاشفات صادقة، اسمه زين الدين أبو بكر الخوافي، فقصده تيمورلنك ونزل عن فرسه ودخل عليه، فقام الشيخ له ، فانحنى تيمورلنك على رجله يقبلها، فوضع الشيخ يده على ظهره ثم رفعها، فقال تيمور: «لو لم يرفع الشيخ يده لقضى علي، فقد تصورت أن السماء تقع على الأرض وأنا بينهما»، ثم جلس في أدب بين يدي الشيخ وقال له: لم لا تأمرون ملوككم بالعدل بين الرعية؟ فقال له الشيخ: أمرناهم فلم يأتمروا فسلطناك عليهم، ففرح تيمور بهذا وقال: «ملكت الدنيا ورب الكعبة».
هذا موقفه من الأولياء يحترمهم ويطلب الدعاء منهم ويعتقد فيهم، ولكن موقفه من العلماء كان غير ذلك، يتفرس فيهم ومن زل منهم لا يرحمه، يلعب بهم كما يلعب الذئب بالحمل أو القط بالفأر، ويلذه فيهم أن يوجه إليهم الأسئلة المحرجة وينتظر كيف يجبيون وكيف يخرجون من المأزق الذي وضعهم فيه، ثم هو بعد ذلك حسب أحواله، فتارة يسر من الإجابة ويبسم، وأحيانا يعبس، وأحيانا يعفو، وأحيانا يقتل.
وكان لتيمورلنك إمام يصلي به، وهو عالم جليل يتولى أمام تيمور مناقشة العلماء وجدالهم، وهو عبد الجبار المعتزلي الحنفي الخوارزمي، برع في فنون العلم ومهر في الفقه والأصول واللغة والبلاغة والأدب، وكان فصيحا في اللغات الثلاث: العربية والفارسية والتركية، له جاه عند تيمور، يلطف من حدته وقسوته أحيانا، وقد صحبه في فتح الشام وتولى أمامه مناقشة علمائه وإحراجهم بالأسئلة العويصة.
من ذلك أنه لما فتح «حلب» واستولى على قلعتها، دعا علماءها وقضاتها، فانتخبوا من بينهم من يجيب عنهم وهو ابن الشحنة أحد العلماء المشهورين، كان من أصل تركي وتولى القضاء بحلب، وله كتابه التاريخ المعروف، واشتغل بالحركات السياسية في مصر والشام.
انعقد المجلس وفيه تيمور وعبد الجبار والعلماء، فقال عبد الجبار: سلطاننا يقول: إنه بالأمس قتل منا، وقتل منكم، فمن الشهيد؟ قتيلنا أم قتيلكم؟ فوجم الجميع، وقال العلماء في أنفسهم: هذا والله ما بلغنا عنه من التعنت.
وأحرج ابن الشحنة حقا، أيقول قتيلكم فيكذب نفسه ويغضب ربه، أو يقول قتيلنا فسيف تيمور على رأسه؟
ولكنه كان داهية ملهما، فقال: هذا سؤال سئل عنه رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وأجاب عنه .
فبهت الحاضرون وظنوا أن الشيخ أدركه الخبل، وغضب تيمور وقال: أيسخر من كلامي، كيف سئل رسول الله، وكيف أجاب؟! قال: جاء أعرابي إلى رسول الله وقال: يا رسول الله، إن الرجل يقاتل حمية، ويقاتل شجاعة، ويقاتل ليرى مكانه، فأينا في سبيل الله؟ فقال رسول الله: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو الشهيد».
فسر تيمور لهذا الجواب، وأعجب بدهاء الشيخ ولطف بديهته، وأخذ يؤانس العلماء.
ثم أخذ يسألهم أسئلة أخرى، فلما شعروا بلطفه نقضوا توكيلهم للشيخ ابن الشحنة، وأخذوا يتسابقون للإجابة، ولم يكونوا في مهارته ولا خبرته.
كان تيمور شيعيا يفضل عليا على أبي بكر وعمر، وكان يكره من أهل الشام نصرتهم لمعاوية وقتالهم عليا، ولكن العلماء لا يدرون ذلك، إنما يدريه الشيخ ابن الشحنة الداهية المؤرخ.
سأل تيمور ابن الشحنة: ما تقول في علي ومعاوية ويزيد؟ فقبل أن يجيب ابن الشحنة أجاب القاضي علم الدين فقال: الكل مجتهدون، والكل على صواب، فغضب تيمور غضبا شديدا، وسب أهل حلب وقال: أنتم حلبيون وتابعون لأهل دمشق، وهم يزيديون، قتلوا الحسين وأعانوا يزيد.
فكانت ربكة، وكانت حيرة، وكان وجوم.
ولكن ابن الشحنة أنقذ الموقف أيضا، فقال: إن الشيخ علم الدين أجاب بشيء وجده في كتاب لا يعرف معناه، فسري عن تيمور وعاد إليه بشره.
وانتقل بعد ذلك تيمور إلى دمشق وفتحها، ووقف من علمائها موقفه في حلب.
فذهب إليه جماعة من العلماء وعلى رأسهم الداهية المؤرخ الآخر ابن خلدون، وذهب إليه بلباسه المغربي، وزيه الأنيق الرقيق، وقد أنابه العلماء أيضا في الكلام عنهم، ورضوا بأقواله لهم أو عليهم، فعرف تيمور من شكله وزيه أنه ليس من أهل هذه البلاد، ثم دعاهم تيمور إلى الطعام، ومد سماطا كوم عليه اللحم تلالا، فمنهم من أكل، ومنهم من جبن، وجعل تيمور يلحظهم ويتفرس فيهم، وابن خلدون يسترق النظر إليه، فإذا وقعت عينه على عين تيمور أطرق، وإذا ولى عنه رمق، ثم جاءت فرصة الكلام، فقال ابن خلدون كلام اللبق الحاذق الماكر، قال: رأيت الملوك ، وشهدت مشارق الأرض ومغاربها، وخالطت ملوكها وأمراءها، ولكن الله من علي بأن أحياني حتى رأيت الملك على الحقيقة، وطعام الملوك إن كان يؤكل لدفع التلف، فطعام مولانا الأمير يؤكل لذلك وللفخر والشرف، فسر تيمور بذلك، وسأله عما يعرف من أحوال البلاد وأخبارها.
واجتمع يوما علماء دمشق بين يدي تيمور، فأثار ثانية مسألة علي ومعاوية، إذ هي أنسب المسائل التي يتذرع بها للتنكيل بأهل الشام، وذكر يزيد ومقتل الحسين، وقال: إن هذه الأعمال كانت بمظاهرة أهل الشام، فإن كانوا مستحليها فهم كفار، وإن كانوا غير مستحليها فهم عصاة أشرار، وقد هدأ من ثائرته أحد العلماء محمد بن عمر المعروف بأبي الطيب، فقال: إن نسبي يتصل بعمر وعثمان، وكان جدي الأعلى ممن حضر تلك الوقائع، وقد توصل إلى رأس الحسين ونظفه وغسله ودفنه، ولذلك سموه أبا الطيب، وتلك أيها الأمير أمة قد خلت، وفتن أزاحها الله عنا، ودماء طهر الله سيوفنا منها، فلا خير في إعادة الماضي ونبش ما دفن.
وقد أرضاه هذا الكلام على علاته، وصادف حالة الرضا من حالاته.
ولكن لعل ألطف ما حدث في هذا الباب مجلس مثل هذا، أثار فيه تيمور سؤالا من أسئلته المحرجة، وهو: أيهما أعلى، درجة العلم أم درجة النسب؟
وموضع الإحراج فيه أن تيمور يعتز بنسبه لا بعلمه، والعلماء يعتزون بعلمهم لا بأنسابهم، ويقررون أن شرف العلم فوق شرف النسب.
سمع العلماء هذا السؤال فوجموا وأحجموا عن الجواب، ولكن أحدهم تردد بين أن يسكت سكوتهم أو يجهر برأيه، ولم يلبث إلا قليلا حتى أخذته الحمية الدينية والعصبية للحق، كان هذا العالم هو شمس الدين النابلسي الحنبلي، اشتهر بالعلم الواسع، حتى لقب بالجنة؛ لأن لديه من العلم ما تشتهيه الأنفس.
لم تطاوعه نفسه أن يكون لبقا كابن الشحنة وابن خلدون، ولا أن يواري ويداري كما فعل غيره، ولكنه أراد أن يكون صريحا كل الصراحة صادقا كل الصدق، وأراد أن يقول الحقيقة كلها عارية، صرخ في وجه تيمور وقال: «العلم أعلى من النسب» ولم يكتف بذلك ، بل استدل بأدلة في الصميم مما يكره تيمور، فقال: الدليل على ذلك أن الصحابة أجمعت على تقديم أبي بكر على علي، لأن أبا بكر أعلم، وإن كان نسب علي أشرف.
وما أتم هذا حتى أدرك نتيجة ما فعل، فلم يتراجع ولم يجمجم وصمم على أن يتم فصول الرواية فأتمها بفصل ظريف حقا.
نظر الحاضرون فرأوه يفك أزراره ويخلع إزاره، فدهشوا ودهش تيمور، وسأل: ماذا تصنع؟ فقال: إني قلت ما قلت وأنا أعلم بنتيجته، فأنا أستعد للسعادة، وأختم حياتي بالشهادة.
وعلا الجميع رهبة رهيبة، وشدت أعينهم بلسان تيمور، ينظرون بماذا يأمر وبأي نوع من القتل يشير، وهم يعلمون أنه يقتل بالظنة، ويخسف بالناس الأرض للكلمة الخفيفة، وللقول يحتمل التأويل، فكيف بهذا وقد بلغ الغاية في الإساءة وتجاوز الحد في الصراحة؟ ولكن الله مقلب القلوب أجرى على لسان تيمور هذا القول ولم يزد عليه: «لا يدخلن علي هذا بعد اليوم».
ضبط العواطف
تختلف الأمم في ضبط العواطف اختلافا كبيرا كاختلاف الأفراد، فبعضهم حاد المزاج سريع الانفعال، وبعضهم هادئ المزاج بطيء الانفعال، وكذلك الشأن في الأمم، فهي تختلف في حدة عواطفها وبرودتها ومقدار انفعالاتها أمام الحوادث، ودرجة حزنها وسرورها وخوفها وطمأنينتها إلى غير ذلك.
ولعلنا إذا قارنا الأمة المصرية بغيرها من الأمم الأوربية وجدناها من أكثر الأمم حدة عواطف وشدة انفعال، وذلك يظهر في مظاهر شتى.
من ذلك أنها تبالغ في مظاهر فرحها وحزنها، فالميت إذا مات فانفعالات شديدة جدا يتبعها مظاهر قوية من عويل وصراخ، ومغالاة في إقامة المآتم وما إلى ذلك، وكذلك الشأن في الأفراح، مظاهر زائطة وطبل وزمر عنيفان ومبالغة في الحفلات وما إلى ذلك.
نقارن بين ذلك وبين مثل هذه المظاهر في بعض الأمم الأخرى، فنجد الهدوء والاقتصاد في العواطف والاقتصاد في مظاهرها، وأسوق مثلا من هذا القبيل، فقد كان لدينا في الجامعة المصرية أستاذ أجنبي في الثامنة والأربعين من عمره، عاد إلى بلاده في الصيف فخرج يتروض فتسلق جبلا فزلت قدمه وما زال ينحدر ويتخبط في الصخور حتى فارق الحياة - بلغني أن الخبر وصل إلى زوجته وصادف أن أباها كان يزورها ويقضي ليلة عندها، فكتمت الخبر عنه وكتمت عواطفها وإذا احتاجت إلى البكاء انفردت في حجرتها وبكت، فإذا ظهرت أمام أبيها تجلدت، حتى أمضى أبوها ليلته هادئا لم يعكر صفوه شيء ثم رحل في الصباح، ثم أعلنت هي وفاة زوجها العزيز عليها في هدوء.
ومن مظاهر حدة العواطف الخوف من الأمور الصغيرة، والفزع الشديد من الحوادث التي قد تكون تافهة، والغضب الشديد للكلمة النابية، والوصول إلى أقصى حد في الانفعال للحوادث اليومية، التي يكفي لمرورها غض الطرف عنها، إلى كثير من أمثال ذلك.
ومن مظاهرها عندنا الفنون، فالموسيقى لا تعجبنا إلا إذا كانت عالية جدا وزائطة جدا في السرور، ومائعة جدا وباكية جدا في الحزن، أما الهادئة المعتدلة في السرور والحزن فلا.
وكذلك الشأن في الأدب، لا بد من مبالغات قوية جدا واستعارات ومجازات ممعنة في الخيال حتى تعجب، فإذا كان يحب فلا بد أن يذوب، ولا بد أن يصيبه الهزال حتى لا يكاد يرى، ولا بد أن تسيل دموعه أنهارا، ولا بد أن يبكي دما، وقلبه لا بد أن ينفطر، وكبده لا بد أن تتصدع، وهكذا، فأما حب في اعتدال وأدب في اعتدال فلا، وإذا فرح فلا بد أن تضحك الشمس لضحكه، وتترنح الأغصان لترنحه، وتبتسم الأزهار لتبسمه، وهكذا.
ويظهر ذلك أيضا في النكت والنوادر، فهي لا تعجبه إلا إذا كانت ظاهرة مكشوفة تستخرج الضحك العالي لا التبسم الخفيف، وإذا كانت نكتة ناقدة فلا بد أن تكون لاذعة وأن تكون مميتة، فأما نكتة خفية مستورة تمس ولا تجرح أو تسر ولا تضحك فلا، وهذا هو الشأن في التمثيل، فالرواية الجيدة هي التي تهز العواطف هزا عنيفا، إن أضحكت فلا بد أن يمسك قلبه من كثرة ضحكه، وإن أحزنت فلا بد أن يبل منديله من كثرة دموعه، والإخراج لا بد أن يكون فيه صراخ كثير وانفعال قوي، فأما أن يتكلم الممثل كما يتكلم الناس في مجالسهم العادية، وأما أن يقتصد في حركاته وإشاراته ونحو ذلك، فكل هذا يخرجه عن أن يكون ممثلا قديرا ومخرجا نابغة.
فالذوق لتمشيه مع العاطفة لا يعجبه إلا ما فيه حدة، حتى المأكولات لا بد أن تكون دسمة أو حريفة أو زاعقة، والملبوسات لا بد أن تكون زاهية أو صارخة، والمشمومات لا بد أن تكون ذات رائحة نفاذة قوية وإلا لا يستسيغها الذوق.
هذه الحدة في العواطف، والمبالغة في الانفعال تتخذ في الأمة مظاهر واضحة، فجانب كبير من الجرائم سببه حدة العواطف، فكل يوم نرى في الجرائد أخبارا عن قتل أو كسر أو جراح لأسباب تافهة يعجب العقل الهادئ كيف وصلت إلى هذه النتائح، فقتل لنزاع على ماء للري، وضرب أفضى إلى الموت لكلمة صدرت اعتبرها السامع سبا فاضحا، وهكذا مما نطالعه كل يوم، حتى في الطبقة المثقفة يثور الجدل بينهم ويبدأ هادئا، ولكن سرعان ما يحتد المزاج وتعلو نغمة الجدال فتنقلب إلى سباب، ولا يقتصر الأمر على حجة ولا برهان أمام برهان، بل يتعداه إلى سباب أمام سباب ونقد لاذع أمام نقد لاذع، وتنسى المسائل الأصلية وتبقى الحزازات النفسية، هذا هو المظهر العام في الشارع، وفي البيت وفي المحاكم وفي الصحف، كأن كل الناس يحمل مستودعا من البنزين ينتظر أقل اشتباك أو احتكاك.
ومما يؤسف له أن هذه الحدة في العواطف، والحرارة في الانفعال تظهر في كل الأشياء التي ذكرنا وتكون فيها أكثر مما ينبغي، مع أنها تبرد أمام أشياء أخرى وتكون أقل مما ينبغي، فلا نرى حرارة في الانفعال أمام جمال الطبيعة ولا جمال المعاني ولا حسن النظام، ولا نرى غيرة شديدة على الحرية الفردية ولا الحرية الاجتماعية، وهذا الذي يغضب غضبا شديدا لكلمة جرحت إحساسه لا يغضب لمنظر أوذيت فيه العدالة، وهذا الذي ينفعل انفعالا شديدا على شيء من ماله لا ينفعل للتعدي على سمعة قومه أو حرية قومه، وهذا الذي يذوب حبا ويفنى عشقا فيمن يحب لا يتحرك قلبه لجمال طبيعة أو جمال مبدأ سام، فأوتار أعصابه لا تنفعل هذا الانفعال العنيف إلا للنواحي الشخصية والأشياء المادية، ولو أنها انفعلت لهذا وذاك لاحتمل ذاك القبح في سبيل هذا الجمال.
حدة العواطف وشدة الانفعال في الأمة تسبب لها متاعب كثيرة في الحياة، وتفقدها سعادتها، فالبيت جحيم من غضب الآباء والأبناء، فكلمة صغيرة من أب لابنه أو ابن لأبيه أو من أم لبنتها أو من بنت لأمها تشعل النار في البيت وتجعله جحيما زمنا طويلا، والعلاقات بين الأصدقاء عرضة للخطر لتوافه الأمور، والعلاقات بين العاملين في مصلحة أو جمعية معرضة للفساد ولأقل حادث، والعلاقات بين الأحزاب علاقة عداء حاد غالبا، والمحاكم مكدسة بالقضايا من أثر النزاع الحاد، وهكذا، حتى بين الذين لا علاقة بينهم، كالناس في السينما وفي الترام وفي القطار، لا يخلو مجتمعهم من أحداث كثيرة بسبب الانفعال السريع، ولو تعودنا ضبط العواطف في كثير من الأحوال لمرت الحوادث بسلام، ولكن هل هذا العيب قابل للإصلاح، وهل هذه الانفعالات قابلة للانضباط؟
قد يرى قوم أنها حركات نفسية اضطرارية كنبض القلب وإفراز المعدة، وأنها نتيجة طبيعية لحرارة الجو وطبيعة الإقليم، ولكني لست أرى هذا الرأي، وأنها حركات نفسية إرادية يمكن إصلاحها وتهذيبها والتغلب عليها، بدليل أننا نعيش جميعا في بيئة واحدة خاضعة لدرجة واحدة من الحرارة، ومع ذلك فينا من يضبط عواطفه ويحكم انفعالاته، ولو كان الأمر خاضعا لفعل الطبيعة وحدها لم يشذ عن الخضوع لها أحد، وكما يقول الفلاسفة: «ما بالطبع لا يتخلف» والمثقفون - في جملتهم - أضبط لعواطفهم من غير المثقفين في جملتهم.
ونحن لو نظرنا إلى سلم الرقي من الحيوان إلى أرقى نوع من الإنسان وجدنا أن الحيوان تسيره غرائزه وانفعالاته الوقتية فقط، وكذلك الشأن في الإنسان البدائي، فإذا ارتقى وجدنا عاملا جديدا يظهر في تسيير تصرفاته وهو الفكر والعقل، ونراه محكوما بهما معا، وكلما رقى الإنسان كان الفكر أظهر في تصرفه، ووجدنا الحدود الفاصلة بين العواطف والفكر تتكسر، فعواطفه تلطفها الفكرة وتهدئها الحكمة، وعقله تحمسه العاطفة ويزيد حرارته الشعور والانفعالات، ووجدنا العلاقة بين عواطفه وفكره علاقة متينة، ذلك لأنه إن عاش بعواطفه وانفعالاته فقط لم يكن هناك تفاهم بينه وبين غيره إلا من شعر مثل شعوره؛ لأن أساس التفاهم هو العقل، فمن قال: إني أحب هذا الشيء أو أكرهه، ولم يزد على ذلك لم يكن هناك سبيل إلى مناقشته وإقناعه بخطئه، ولأن الخضوع للعواطف وحدها عرضة للاندفاع السريع ثم التراجع السريع، كما نشاهد في الحب الذي لم يؤسس على التفكير، ولا على النظر في العواقب، فهو انفعال مؤقت كثيرا ما يعقبه فشل أليم، وعلى العكس من ذلك العواطف بعد التفكير، والاندفاع بعد العلم والتأمل، ولو تتبعت أكثر الناس الذين يسيرون وراء عواطفهم فقط لوجدت عاقبتهم الفشل دائما، فمن يغضب لأقل سبب ويحب لأول نظرة، ويندفع لداعي الغريزة لم يستطع السير في الحياة طويلا، ولا بد للنجاح من عواطف يحكمها الفكر، وأفكار تحمسها العواطف.
يتطلب ضبط العواطف كظم الغيظ عند دواعي الغضب، والاعتدال في الانفعال عند بواعث السرور والحزن، والتؤدة والتفكير عند إصدار الحكم، والتفكير عند نزوات الهوى، فلا إفراط في السرور والحزن ولا الغضب، ولا نحو ذلك من أنواع الانفعال.
وهو فضيلة في الأمم كما هو فضيلة في الأفراد، فقد تكون حدة العواطف في الأمة سببا في شقائها، فكثيرا ما تعرض للأمة أزمات سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية فيمكنها أن تجتازها بضبط عواطفها، وتلطيف انفعالاتها، والحكمة في تصرفاتها، ووزن عواقبها، على حين أنها تعرض نفسها للخطر إذا انقادت لعواطفها من غير تفكير.
ضبط العواطف في الفرد يكتسب بالمران والتعود، فلا يزال المرء يغضب فيكظم ثم يغضب فيكظم حتى يكون حليما، ولا يزال يقاوم نفسه فلا يندفع في سروره وحزنه حتى يكون حكيما، وكثيرا ما تكون حدة العواطف نتيجة قصر النظر وضيق العقل، فإذا هو وسع أفقه وجرب الحياة ودرس الأشياء ونتائجها علم كيف يضبط نفسه.
أما تربية هذا الخلق في الأمة، فهو - أولا - في يد الرأي العام، فإذا احتقر الناس الغضوب لغضبه، والجبان لخوفه، والمرح لاستهتاره، والحزين لجزعه، تصلب عود الأمة وانضبطت عواطفها واعتدلت في انفعالاتها.
وهو - ثانيا - في يد قادتها، فالأمة تحتاج في طور تكونها إلى مثل عليا من قادتهم يقتدون بها، فإذا رأتهم قد ضبطوا عواطفهم إذا اختلفوا، وحفظوا ألسنتهم إذا غضبوا، وضحوا بشهواتهم إذا أزموا، كانت كل هذه دروسا للشعب يحتذي حذوهم ويسير على منهجهم، ثم قادة الفنون في الأمة يجب أن يتخلوا عن هذه الميوعة في العواطف، فالغناء يجب ألا يكون كله ذوبانا في العشق وهياما في الغرام، والأدب لا بد أن يكون مما يبعث القوة في النفس، ويسبب الصحة في العاطفة، والتمثيل يجب أن يكون معتدلا في العاطفة طبيعيا في الإخراج، ويعلم الناس أن ليست أحسن الروايات ما أسالت الدموع، ولا بعثت على القهقهة العالية، إنما أحسنها ما أثار عاطفة صحيحة لا مريضة، وبعث على التبسم اللطيف أو الحزن الهادئ.
هذه كلها تصبح دروسا يتعلم منها الشعب فيعتدل مزاجه، وتصح عواطفه، ويحسن تصرفه.
كنوز في بيت جائع
كنت أعتقد - كما علمونا في المدارس - أن قيمة مصر في واديها الضيق الواقع بين جبلين، وأن هذا الوادي المزروع نفحة من نفحات النيل، فيه كل ما في مصر من خير، وأنها بلاد زراعية فحسب، غناها في زراعتها ولا شيء غير ذلك، وكانوا يلقنوننا أن «ما عدا الوادي براري وصحاري قليلة النبات والسكان»، فإذا زادوا شيئا قالوا: «وفيها بعض المعادن كالرخام والنطرون والشب والملح والجير».
هكذا كانوا يعلموننا أيام التلمذة، فخرجنا من ذلك على أن مصر خط طويل منزرع، أودع فيه كل ثروتها وإنتاجها، وحوله صحراء جرداء «فيها كثير من الأرانب والغزلان وبعض الحيوانات المتوحشة»، ووقع من ذلك في نفوسنا أن هذه الصحراء ليس فيها من خير إلا أنها تلفحنا بسمومها وزمهريرها، وتحمينا بجدبها وفقرها وقلة مائها من إغارة عدونا علينا، وأحيانا تجود شمسها في الشتاء، ويجود قمرها في الصيف، فيخرج إليها الهواة يستمتعون بدفئها ونسيمها، والغزليون والشعراء يستلهمونها في غزلهم وشعرهم.
حتى أتيحت لي قراءات خاطفة ورحلات متعاقبة، أيقنت معها أن الصحراء كنوز متفرقة وثروة ضخمة، لا تقل شأنا عن النيل ومزارعه، والخصب ونتاجه، وأنها كفيلة أن تحول مصر إلى بلد صناعي كما حولها النيل إلى بلد زراعي، فتكون بلدا زراعيا وصناعيا معا، وينعم أهلها بالخصب الزراعي وبالنتاج الصناعي، ويتدفق المال عن أيمانهم وعن شمائلهم فإذا هم أغنياء ناعمون، وليس ينقصهم للوصول إلى ذلك إلا شيء اسمه العلم ، وشيء اسمه الخلق.
أدرك هذه الثروة في بلادنا الأجانب قبل أن ندركها، وعلموا من قيمتها ما لم نعلم، فجابوا الصحراء، وتسلقوا الجبال، وهبطوا الوديان، ودرسوا وامتحنوا واختبروا واكتشفوا، ورسموا الخرائط، ووضعوا الخطط للاستغلال، وألفوا الشركات، وما لم تواتهم الظروف لاستغلاله كتموه سرا دفينا في نفوسهم حتى يجيء زمنه وتنضج ثمرته ويحين قطفه، وأبناء البلد لاهون غافلون، يتجرع أكثرهم الفقر ويتلوى من الجوع، ولا يرون في الصحراء إلا ترابا متجمعا أو صخرا متجمدا، والأجنبي يراها كتابا مقروءا وكنزا مفتوحا.
طف - إن شئت - بالصحراء تر الشركات على اختلاف أجناسها: هذه تستخرج زيوتا، وهذه تستخرج معادن لا حصر لها، وما كل ذلك إلا قليل من كثير تضمه الصحراء بين جوانحها سرا مكتوما، تبوح به لمن أوتي «عزائم الكنوز»، وهي العلم والخلق.
أما العلم فأغنى به طائفة تتخصص في معرفة المعادن والتعدين معرفة واسعة عميقة تصل فيها إلى ما وصل إليه علماء الغرب، من معرفة بطبائع الأرض وطبائع طبقاتها وطبائع معادنها وكيفية استخراجها وكيفية استغلالها، وما إلى ذلك.
وأما الخلق فمطلبه أعسر، إذ أعني به حرصا شديدا على مصالح الأمة، ورغبة قوية في العمل، وإرادة جبارة في التنفيذ، وتعاونا وثيقا بين الجهات المختصة وأرباب الأموال، وإهدار الحزبية للصالح العام، والشجاعة في التجارب أمام احتمال الفشل، وما إلى ذلك.
ألم تبلغك مأساة كهربة خزان أسوان وما جر تأجيلها من كوارث وما أضاع على البلاد من فوائد كانت تجنيها منها، وبخاصة أيام هذه الحرب؟ لقد أضاعها تخلخل الإرادة، وضعف الإيمان، ودسائس الحزبية، والرغبة القوية في الجدل دون العمل. •••
كل الناس في مصر يرغبون في استثمار أموالهم من طريق ملكية الأراضي وزراعتها، وكل الأمل معقود باستصلاح الأراضي «البور» واستغلالها، خلق موروث من القرون الأولى، وقفوا عنده وتمسكوا به ولم يتزحزحوا عنه، وكان ذلك طبيعيا لو لم يكن لهم موارد غير الأرض، وحتى هذا الاستغلال الزراعي لم يؤمنوا بمنهج له إلا مناهج قدماء المصريين في نوع زراعتهم وآلاتها وتصريفها، وفاتهم أن العلم في العصر الحديث تفنن في الوسائل الزراعية وأبدع فيها، كما فاتهم أن العلم قد اكتشف في مصر كنوزا لا عد لها يمكن أن تستغل بخير مما تستغل به الأراضي الزراعية، وأن رءوس الأموال يوم تودع فيها تربح ما لا يربح القطن والغلال، ولكن عيبها أنها تحتاج إلى علم أوفى وخلق أرجح وإقدام أقوى وإرادة أنفذ وتعاون أوثق. •••
وليس الاستغلال الصناعي يعود على الأمة بالخير من ناحيتها المادية فحسب، بل من ناحيتها الخلقية والاجتماعية أيضا، فالأمة الصناعية أرقى - عادة - من الأمم الزراعية في عقلها وخلقها وإدراكها لحقوقها الاجتماعية وواجباتها القومية، فإذا أضفنا إلى طبقتنا الزراعية طبقة أخرى صناعية، كان لنا من ذلك طبقة أخرى جديدة أشد نشاطا وأصلح حياة وأرقى إدراكا، تكون مع الطبقة الزراعية مزاجا منسجما، ومزيجا متجانسا. •••
دعاني إلى الكتابة فيه هذا الموضوع رحلة في الصحراء مع صفوة من الأصدقاء في عطلة هذا العيد، فاخترقناها من أسيوط إلى الواحات الخارجة فالداخلة، وعهدي بالواحة الخارجة قديم، فقد عينت فيها أول ما عينت قاضيا، وجبت بلادها، وزرت أكواخها؛ وعاشرت أهلها، وقضيت بين خصومها، فلما زرتها هذه المرة بعد أكثر من عشرين عاما، حننت إليها حنيني إلى الشباب، ووقفت على دورها القديمة، وقلت: هنا كنت أسكن، وهنا كنت أقضي، ورأيت أكثر من عرفت قد اخترمتهم المنية، وعدا عليهم الزمن، ورأيت مظاهرها الخارجية قد حسنت، وأصبحت تعجب الناظرين، فقد تحولت من مركز يديره معاون إدارة إلى محافظة يسكنها محافظ، فشوارعها قد اتسعت، ومدخلها نسق بالأشجار، وهذا ناد للموظفين، وهذه استراحات للحكومة، ومع هذا فالشعب بائس كما تركته، فقير كما تركته، مريض كما تركته، وموارده النخيل كما تركتها، والأرض الخفيفة القليلة كعهدي بها، والحيوانات الهزيلة كما خلفتها.
ورحلنا إلى الواحات الداخلة، فوجدنا منجما جديدا يكتشف، وكنوزا وافرة يهتدى إليها .
وكانت هناك منذ القدم مياه على بعد قريب من الأرض يعثر عليها، فإذا مدت الأنابيب إليها خرج ماؤها يسيح على وجه الأرض يستقون منه، ويزرعون به أرضهم القليلة الضعيفة، ثم تقل المياه، وتطمر عين وتفتح عين، والماء محدود، العيون يؤثر بعضها في بعض، تتأثر العليا منها بالسفلى.
فمن عهد قريب أرادوا تجربة النزول بالأنابيب إلى عمق أبعد، واختراق طبقة أسفل، فما إن دقوا أنابيبهم ووصلوا إلى ثمانمائة قدم حتى تدفقت المياه على سطح الأرض في غزارة عجيبة، وإذا بالعين الواحدة تقذف خمسة عشر ألف طن في اليوم من غير آلات رافعة، ومن غير أي عناء، ثم تجرب التجربة نفسها في أربعة مواضع فتخرج عيون أربع كالتي وصفنا، ويدل البحث على أن هناك مساحات فسيحة في أعماق الأرض تدخر هذه المياه في وفرة عظيمة وغزارة عجيبة، فماذا كان؟
هل حللت هذه المياه لمعرفة عناصرها، وما تحتويه من مواد وما لا تحويه؟ وما هو نوع الزرع الذي يناسبها والذي لا يناسبها؟ هل اختبرت المياه وعرف ما تفيد من الأمراض وما لا تفيد؟ هل رسمت خطة منظمة للانتفاع بهذه المياه الدافقة؟ هل تعاونت وزارة الزراعة ووزارة الأشغال ووزارة الصحة في استغلال هذه المياه؟ فالأولى تنظم الزراعة، وتشير بطرقها وما يصلح لها، والثانية تنظم الري، وتستخرج كمية المياه المطلوبة، والثالثة تنتفع بها من الوجهة الصحية، وتمنع ما ينجم من ركودها من أضرار؟ لا شيء من ذلك كله، وكأن العيون قد نبعت في المريخ، وقد رأيت المستنقعات حولها تتكون، والأيدي العاملة لا تتناسب وغزارتها، وكأن العيون عز عليها سوء استقبالها، فتسربت إلى الرمال لتعود إلى أعماقها في خجل وخزي، وسمعت بعض أولي الأمر هناك يشيرون بسدها إلى أن يستيقظ النائم، ويجد الخامل.
رحماك اللهم! لو نبعت مثل هذه العيون في أمة يقظة، لحولت ما حولها جنانا ناضرة، وبساتين مزهرة، وحدائق غلبا، وفاكهة وأبا، ولأزالت البؤس وأجرت النعيم، ولأفنت العطالة، والتهمت البطالة، ولرأيت المستشفيات تبنى حولها، والمشاتي تقام في نواحيها، والمواصلات تمد إليها؟ ولرأيت ثم نعيما وملكا كبيرا، ولكن وا أسفاه؟ عز العقل المدبر، وضعفت الهمة النافذة، فلننتظر حتى يأتي إليها من غير أهلها من يعرف كيف يستغلها.
ويا لله للشعب البائس! ويا لله ممن بيدهم تصريف الأمور! أليست هذه كنوزا في يد مساكين!
يوسف الكيمياوي
العهد عهد السلطان الناصر محمد بن قلاون، الجالس على عرش مصر والشام، والمستبد الذي ترتجف منه قلوب الولاة والأمراء، والقوي بجيشه ومؤامراته، فتخطب وده الدول المجاورة، والقابض بيده على زمام الأمور كلها، فترفع إليه كل يوم التقارير عن العمال والولاة، والحركات والتدابير، والدخل والخرج، فلا يفوته منها شيء.
والسنة سنة 731 هجرية وقد أصبح المال معبود هذا السلطان؛ لأنه محتاج إليه في أبهته وعظمته، وبذخه وترفه، وجواسيسه وأتباعه، وزوجاته الكثيرات، وجواريه العديدات، وبيوته الكثيرة، ونفقاته الضخمة وعماراته، وشروره وخيراته، فإن لم يحصل على المال حلالا فليحصل عليه حراما، وليتعرف أحوال رجاله ومقدار ثروتهم ومخبأ كنوزهم، وليتلمس لهم العثرات بالحق وبالباطل حتى يستبيح مصادرتهم واستحواذ أملاكهم، ووضع يده على ثرواتهم.
وهؤلاء الأمراء على دين ملوكهم يفعلون بالشعب ما يفعله السلطان الناصر بهم، فيغتنون من الفقراء، ويسرقون من البؤساء، ويجمعون ما يصل إلى أيديهم، ثم يصادر السلطان ما تعبوا في جمعه، وتحيلوا في الاستيلاء عليه، جزاء وفاقا.
هذا «سلار» يتولى نيابة السلطنة إحدى عشرة سنة، ثم يموت، فيتعب الحساب في إحصاء تركته، هذه صناديق مصفحة مملوءة بفصوص الياقوت والماس وعين الهر، وهذه صناديق تظهر في اليوم الأول فيها مائتا ألف دينار وأربعمائة ألف درهم، وهذه ضياع لا حصر لها، وهذه الخيول والجمال والمراكب والعبيد والجواري والأغنام والأبقار مما لا يحصيه عد، وكل يوم تظهر له مخابئ جديدة فيها كنوز جديدة، من أين أتى بهذا كله؟ من الشعب، من الظلم.
ويأتي السلطان فيسمع بثروته فيجري لها لعابه، ويقبض عليه ويسجنه ويجيعه حتى يأكل نعاله، ثم يموت جائعا فيستولي السلطان على ثروته، وتنتهي الرواية، وهذه صور تتكرر كل يوم، ورواية تمثل في كل إقليم.
المال - المال - كلمة سحرية تصدر عنها الأعمال، وتتكيف بها السياسة، ويحلم بها كل وال وأمير وسلطان.
في هذا الجو يظهر «يوسف النصراني الشامي»، الفقير المسكين، فيضع خطته المحكمة في هدوء، إن الناس يعبدون المال فليستعبدهم هو بشبح المال، يظهره ويخفيه، ويطمعهم ويؤيسهم، ويلعب بعقولهم لعب المال بهم، إن لمعان الذهب يخلب لبهم فالعب بلمعانه، وإن أملهم في الغنى يفسد منطقهم وحكمتهم فالعب بأملهم.
ولكن قد تقف نصرانيتك حائلا بينك وبينهم، فيرتابون في أمرك ولا يطمئنون إليك اطمئنانهم إلى أهل دينهم، فالعب بدينك لعبك بالذهب، وتظاهر بالإسلام وبالصلاح وبالتقوى، فالغاية تبرر الوسيلة.
تنقل في بلاد الشام متفرسا في أمرائها، باحثا عن فريسة يصيدها، حتى وصل إلى «صفد» وأميرها يومئذ الأمير «بهادر» فوجده الغنيمة.
قال: إني أرى السعد في طلعتك، والغنى مكتوبا على جبينك، وقد جئت إليك لأملأ خزائنك ذهبا وفضة، وقد أنفقت عمري في طلب الإكسير حتى وجدته، إن الفلزات واحدة في نوعها، والاختلاف الذي بينها ليس في ماهيتها وإنما في أعراضها، وكل شيئين تحت نوع واحد اختلفا بعرض فإنه يمكن انتقال كل واحد منهما إلى الآخر، فالذهب والفضة والحديد والرصاص متحدة النوع مختلفة العرض، فلو أخذنا حديدا أو رصاصا ونقصنا بعض عناصره وزدنا بعض عناصره تكون من ذلك الذهب لا محالة، وقد وصلت إلى الإكسير الذي يفعل ذلك بعد عناء، فإني أطبخ الرصاص أو النحاس بطريقة خاصة أرشدني إليها العلم والتجارب الطويلة، ثم أضيف إليه من هذا الإكسير الذي يمتاز به الذهب عن النحاس أو الرصاص، فإذا الذائب ذهب، وما يوجد بالطبيعة يوجد مثله بالصناعة، فالطبيعة تخرج الذهب من العناصر الأخرى بحرارتها ومزجها، وهذا هو ما أعمل بصناعتي:
وقد ظفرت بما لم يؤته ملك
لا المنذران ولا كسرى بن ساسان
ولا ابن هند ولا النعمان صاحبه
ولا ابن ذي يزن في رأس غمدان
وستكون إن شاء الله بهذا أغنى الأغنياء وأعظم العظماء، تقتني من المال ما أردت، وتسود على الأنام بما شئت وكيف شئت.
ومع هذا كله فإن لم تقتنع بالمنطق فاقتنع بالتجربة، فأتى له «بهارد» بقليل من الرصاص، وأفرد له غرفة يجري عليها تجاربه، فأشعل النار وطبخ ثم أشعل وطبخ، وأخرج حقا فيه إكسير وأضافه، فإذا المزيج ذهب.
جن جنون الأمير «بهادر» وتمنى الأماني وسبح في الأحلام، وجمع ليوسف الكيمياوي كثيرا من النحاس والرصاص، وأعطاه كثيرا من الأموال لينفق منها على إحالة هذه المعادن ذهبا خالصا، ولكنه تعلل مرة بفساد الإكسير ومرة بخطأ التجارب، وأخيرا غافل صاحبه وفر إلى دمشق، وأراد أن يمثل مع واليها الرواية التي مثلها أمام «بهادر»، ولكن ساء حظه فعلم بأمره فأراد قتله.
وهنا أدته حيلته أن يملأ دمشق ضوضاء وجلبة، وأنه يريد السلطان حتى يملأ خزائنه ذهبا وفضة، وتحدث الناس به بين مصدق ومكذب، ولم يجرؤ نائب دمشق على قتله بعد أن ذكر اسم السلطان ورسالته إليه، وانتقل خبره من دمشق إلى مصر، وإذا بالبريد يأتي من السلطان إلى دمشق في طلب يوسف الكيمياوي.
دخل يوسف إلى مصر في السابع عشر من رمضان، فأنزله السلطان في بيت أمير، وأجرى عليه الرزق الوفير، ورتب له عدة من الخدم يتولون أمره حتى يختبر صدقه، فطلب يوسف أنواعا من الآلات ورسمها وبالغ في تركيبها وتعقيدها، فصنعت له، وحدد يوم للتجربة، فاحتفل به السلطان وشكل مجلسا فخما لامتحانه، هذا ناظر الجيش، وهؤلاء عدة من الأمراء، وهذا نقيب الصاغة ومعه جمع من الصياغ، وأوقدت النار وأحضرت الآلات، وطلب يوسف نحاسا وقصديرا وفضة، فوضعها في بوتقة ووضعها على نار حامية حتى ذاب الجميع، فأخرج من جرابه إكسيرا وضعه على الخليط المذاب، وصبر عليه برهة ثم أنزل البوتقة من على النار، فأفرغوا ما فيها فإذا سبيكة من ذهب كأجود ما يكون، زنتها ألف مثقال، وامتحنها شيوخ الصاغة، فأفتوا بأنها ذهب خالص لا شبهة فيه.
سر السلطان بذلك سرورا عظيما ودهش الحاضرون، وأنعم السلطان عليه بهذه الألف من الذهب، وبالغ في إكرامه وأركبه فرسا سلطانيا مسرجا ملجما بحرير، ومنى نفسه أن هذا الكيمياوي سيجعل له كل حديد مصر ونحاسها وقصديرها ذهبا.
وما هي إلا ساعة حتى انتشر الخبر في المدينة أن قد ظهر رجل عجيب يحيل كل شيء ذهبا بإذن الله، فما هو إلا أن تقدم له قطعة من حديد، أو إناء من نحاس، أو كتلة من رصاص حتى يعزم عليها ويجعلها ذهبا خالصا، وها قد قتل الفقر وذهب البؤس، وسيسيل الذهب في مصر سيلا ويتدفق أنهارا، وسوف لا يكون بعد اليوم فقير ولا مسكين، وكان أحرص الناس - أول الأمر - على أن يغتنوا الحاشية، فقد قدموا المال الكثير ليوسف وقدموا له النحاس والحديد الكثير ليقلبه لهم ذهبا، وهو يلعب بهم ويستخف عقولهم ويضحك على هذا بجزء من الذهب مما سلبه من ذاك، وهكذا.
وأراد السلطان أن يستوثق من الأمر مرة أخرى، فأجرى يوسف أمامه التجربة ثانية فأخرج له سبيكة ذهبية كالأخرى كاد يطير بها فرحا.
وتدفق على يوسف المال من كل جانب، وعاش عيشة البذخ والترف، وأفرط في اللهو، ومرت عليه أيام سرور ومتعة لا ينعم بمثلها إلا القليل.
والسلطان يستحضره بالليل ويناجيه، ويعرض عليه المشروعات الضخمة التي ينوي القيام بها من وراء الذهب المصنوع، ويوسف يسايره ويحبك له خياله.
والناس يأتون إلى يوسف يعرضون عليه الأموال والحديد والقصدير، وهو يعدهم ويمنيهم، وأخيرا قابل السلطان وقال له: إن الإكسير قد فرغ.
السلطان :
إذا فاصنع غيره.
يوسف :
إنه مركب من نبات وأعشاب لا تنبت في مصر، وإنما تنبت في الكرك. - سمها لي وصفها أبعث بالبريد من يحضرها. - إنها سر أخذت على الله عهدا ألا أذيعه، وإذا أذعته فسد الأمر علي وعليك، إذ يستطيع كل إنسان بعد أن يحصل على الإكسير فيحصل على الذهب، وهو أمر حرصت أن يكون لك وحدك، وسر اخترت أن أخصك به، فأنت ولي الأمر، وهو في يدك مصلحة، وفي يد غيرك مفسدة. - فما العمل؟ - تأذن لي أن أسافر إلى الكرك وأستحضر منه قدرا كبيرا صالحا لتنفيذ مشروعاتك الضخمة.
أذن له السلطان، إذ لم ير بدا من ذلك، وأركبه البريد وأوصى به خيرا حيثما حل، وأمر الولاة أن يمدوه بالمال الذي يريد.
ها هو ذا يوسف يتنقل من بلد إلى بلد ، والكرم يتدفق عليه، إذ هو ضيف السلطان ونجيه ومأمله، حتى إذا وصل إلى غزة وأقام بها أياما، غافل من معه وشمع الفتلة
1
واختفى، ثم يبحثون عنه ويبحثون، فلا يقفون له على أثر.
وتتبخر الآمال وتنهار القصور التي شيدت في الخيال.
وفي يوم من أيام ذي الحجة من هذا العام يعثر عليه مختفيا في إخميم، وإذا كل أعماله نصب واحتيال، وإذا الناس كبيرهم وصغيرهم يستكشفون أنهم مغفلون، وإذا السلطان يحكم عليه أن يسمر ثم يشهر على جمل.
وإذا الستار يسدل.
الحلف العربي
كتب إلي صديق سوري يقول: «أليس عجيبا أن يقف رجال الفكر في العالم العربي موقفا سلبيا، فيكتفوا بقراءة الأخبار والأحداث من غير أن يكونوا لأنفسهم رأيا في مستقبلهم؟ أوليس من العجيب أن يقرأ العالم العربي أن إنجلترا تؤلف هيئة رسمية لبحث تنظيم العالم بعد الحرب، ويخطب الخطباء من الإنجليز والأمريكيين في مستقبل العالم بعد الصلح، ولا نسمع أن أولي الرأي في العالم العربي فكروا أو اجتمعوا لبحث موقفهم وما يؤول إليه مصيرهم، كأنهم عبيد تركوا تدبير شئونهم لسادتهم؟! أوليس عجيبا حقا أن تمتلئ أعمدة «الثقافة» بالكلام في اليابان وروسيا، والقانون الدولي، وما إلى ذلك، ثم لا يمتلئ عمود واحد فيها في موقف العرب، ومصير العرب، وآمال العرب، كأن الأمر لا يعنيكم، فكنتم في ذلك كالحاضنة بيض غيرها وهي تترك بيضها في العراء؟ ولست أظن أن السياسة تحول بينكم وبين ما تبدونه من آراء، لأن عرض هذه المسائل فيه مصلحة مزدوجة للأمم العربية، فتحدد مصيرها وتحرك أفكارها وتفتح آمالها، والأمم الصديقة فتعرفها ما يجول بخاطر العرب وما تتطلبه وما تأمله» إلى آخر ما قال.
وهو كتاب ممتع طويل، أجتزئ منه بهذا القدر؛ لأنه هو الذي يهمنا في موضوعنا اليوم، وكلام الصديق كلام حق، ولكني آسف أشد الأسف؛ لأن الموضوع شاق عسير متشعب النواحي، يحتاج الكاتب فيه أن يدرسه دراسة واسعة عميقة، وأن يطيل التفكير في كل رأي يبديه، وقد علمنا التعليم الجامعي ألا نكتب إلا بعد درس، ولا نخط كلمة إلا بعد تفكير، فإن قصدت - أيها الصديق - من كتابك أن أكتب في هذا الموضوع كتابة جدية مستوفاة، فإني أعتذر إليك؛ لأن الأسباب كلها لم تهيأ لي، أما إن أردت أن أقول بعض كلمات فطيرة لا يكون الغرض منها إلا توجيه النظر ، وإثارة ذوي الرأي، وفتح الكلام في الموضوع، واستعراض بعض المسائل الهامة، فذلك في إمكاني.
في ذهني صورة لحلف عربي هي مجال للأخذ والرد، والتعديل والتبديل، وهي أن يتكون الحلف العربي الآن من دول أربع: مصر والسودان وحدة، والشام وفلسطين ولبنان وشرق الأردن وحدة، والعراق وحدة، وبلاد العرب وحدة، وأن تكون كل وحدة مستقلة في شئونها الداخلية، وأن تربطها مع سائر الوحدات روابط ثقافية واقتصادية وسياسية، فأما الروابط الثقافية فأن تكون لكل وحدة جامعة تكون منارة للحركة العقلية، تتكون حسب ظروف كل وحدة وبيئتها ومقدار ثقافتها، وأن تعنى كل جامعة العناية الكبرى بتاريخ أمتها وطبيعة إقليمها وتراثها القديم بجانب الثقافة العامة المشتركة، وأن يكون لكل جامعة مجلسها وإدارتها، وبجانب ذلك يكون مجلس أعلى تمثل فيه كل الجامعات، وهو الذي يقرب بين نظمها ويوحد - بقدر الإمكان - اتجاهها، ولا يتدخل إلا في المسائل العامة التعليمية، وأن تتبادل هذه الجامعات المنتجات العلمية، فتتبادل المؤلفات والمجلات، وتتبادل الأساتذة، وتتبادل رحلات الطلبة والأساتذة، وتسهل وسائل التحاق الطلبة في كل إقليم بأي جامعة حسب شهرة أساتذتها ونبوغ كل في فرع من فروع التعليم.
ثم يكون هناك مؤتمر يتكون من عدد محدود من رجال التعليم في كل أمة، يجتمع كل سنة في الأقطار المختلفة على التعاقب، وفي هذا المؤتمر يتلو ممثلو كل أمة تقريرا عن حالة التعليم في أمتهم، ويعرضون المشاكل التعليمية التي اعترضتهم في عامهم، ويسمعون الآراء المختلفة في حلها، ويرسمون السياسة العامة للتعليم، والسياسة الخاصة لكل قطر حسب بيئته ودرجة ثقافته ومطالبه الاجتماعية.
وأما الروابط الاقتصادية فتنظيم الجمارك بين هذه الدول على أساس أفضليتها على غيرها من الدول الأخرى، وتنظيم إنتاج كل أمة حسب طبيعة إقليمها وشهرتها الصناعية وما إلى ذلك، على أساس التعاون المشترك كما يرسمه الإخصائيون الاقتصاديون.
وأما الروابط السياسية فهي أصعب الروابط وأعقدها، وهي نوعان: روابط بين هذه الوحدات الأربع، وروابط بينها وبين الأمة الأوربية الحليفة.
فأما الروابط بين هذه الوحدات الأربع فإني أتصورها كعصبة أمم عربية، يوضع لها نظام خاص تتقى فيه العيوب التي تكشفت في عصبة الأمم الغربية، فقد كان أهم عيوبها تسخيرها لمصلحة أمة أو أمتين، وعدم اشتراك أمريكا فيها، وعدم القوة الكافية التي تسندها حتى تستطيع أن تنفذ قراراتها، ونحو ذلك، فلنتق هذه العيوب في عصبة الأمم العربية، وليكن أساسها ما قال الله - تعالى -:
وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين .
وهذا يتطلب أن يكون للعصبة قوة مشتركة أقوى من قوة كل أمة منفردة، وأن يكون لها جيش مشترك، وأن يكون ممثلوا العصبة من أحكم رجال الوحدات وأعقلهم وأصلبهم وأحبهم للخير، وأن يكون نظرهم أوسع من أن ينظروا إلى أمتهم وحدها، ومصلحتها الخاصة وحدها.
ثم هذه العصبة لا تتدخل في المسائل الداخلية البحتة، فلكل أمة حريتها في داخليتها، لا يحدها من ذلك إلا النظر في المصالح المشتركة.
وإذا نجحت هذه العصبة العربية كانت نواة في المستقبل لعصبة أمم شرقية، تضم تركيا وإيران وأفغانستان، وتونس والجزائر ومراكش.
وتكوين عصبة على هذا النحو أنفع للعالم وللإنسانية، فهي تخلق من الشرق قوة تعمل في خدمة العالم، وإلا فما مصلحته في أجزاء صغيرة مفرقة لا تتعاون ولا تتسامى؟ ليس في مصلحة أي جسم أن يكون بعض أعضائه مشلولا، والنظر القصير فقط هو الذي يؤثر ضعف جزء منه ليستغله في مصلحة الجزء الآخر، يجب أن يكون كل عضو صحيحا، وكل عضو قويا، وكل عضو منتجا ومستهلكا، وهذا ما لا بد أن يسود العالم اليوم أو غدا.
في كل وحدة من هذا العالم العربي قوة كامنة وصلاحية للعمل والنهوض، وفي كل منها مزايا كأفراد الأسرة الصالحة، ولا ينقصها إلا أن تستكشف مزاياها ويفسح الطريق لها، فيعمل كل حسب ملكاته واستعداده ومزاياه، ويكمل نقص الآخرين، ويستكمل نقصه من مزايا الآخرين.
أما علاقة هذه العصبة أو هذه الوحدات بالأمة الأوربية الحليفة فقد عقدت معاهدات بين أكثر الأمم الشرقية وبين الدول الحليفة، فما الذي يمنع من النظر في هذه المعاهدات من جديد على ضوء الظروف الحاضرة، والدروس الماضية، والآمال المستقبلة، فتعقد معاهدة سمحة مع كل وحدة من هذه الوحدات تضمن فيها مصالح الطرفين، وفيما عدا ذلك تكون كل وحدة حرة طليقة، ثم يتكون الحلف العربي الجديد وعصبة الأمم العربية، وتكون العصبة مطلقة التصرف، لا يقيدها إلا المصلحة العامة والمعاهدات التي تعهدت بها كل أمة، وبذلك يفسح الطريق للنهوض الشرقي واستعادته قوته ليخدم بها العالم مع العاملين؟
هذه هي الصورة الصغيرة التي في ذهني، ليست وافية ولا كاملة، وكل خط من خطوطها يحتاج إلى وقفة طويلة وتفصيل واف، أعرضها ليتولاها من هو أقدر مني بالنقد والبحث والتفصيل.
بجوار شجرة الورد
أخذت قلمي وورقي، وجلست بجوار شجرة الورد في حديقتي الصغيرة المتواضعة، أستمليها ما أكتب، فأوحت إلي بهذه الخطرات.
هذه شجرة الورد تمتد وتشرئب وتتفرع وترتشف - في نهم - ما تقدمه لها الشمس من ضوء وحرارة، وتشرب كأس الحياة إلى الثملة.
فليت الناس يعملون عملها، فيفتحوا قلوبهم للضوء والحرارة، ويمدوا فروعهم ما استطاعوا ليمتصوا غذاءهم، وينموا قواهم وملكاتهم، ويشربوا كأس الحياة مترعة. •••
وهذه شجرة الورد تمد جذورها، وتفرز ما يعرض لها، فتختار ما يصلحها وينفعها، وتتقي ما يضرها ويسمها.
فليت الناس يسيرون سيرها، ويعلمون أن حولهم غذاء صالحا يجب أن ينالوا منه ما وسعهم، وأن حولهم سموما يجب أن يتجنبوها ما أمكنهم، وأن أمامهم كئوسا مختلفة الألوان، مختلفة الطعوم، مختلفة الصلاحية، بعضها شراب صالح وقد يكون مرا، وبعضها شراب سام وقد يكون حلوا، غذاء شجرة الورد سهل يسير، فما عليها إلا أن تحول ما حولها إلى عناصر أولية، فتمتص ما ناسبها وترفض ما خالف طبعها، ولكن غذاء الإنسان في عواطفه وميوله وغرائزه ومشاعره مركب معقد، حتى قد يكون الغذاء داء ودواء معا، هذا الطموح الحالم يبعث على الجد، وهذا التواضع النبيل يدعو إلى الخمول. •••
ها أنت قد تقيدت بطينتك، ونزلت على حكم تربتك، فلا تستطيعين الخلاص منها والخروج عنها، جيدة كانت أو رديئة، صالحة أو فاسدة، فوطنت نفسك على الرضا بما كان والانتفاع بالكائن حسب الإمكان، ولم يمنعك ذلك أن تثوري على ما قدر لك، وتحاولي التخلص منه والتحايل عليه، فخرجت من ظلام الأرض إلى نور السماء ومن مقبرة الباطن إلى مسرح الظاهر، ومن سكون الجذور إلى لعب الغصون، ومن عبوس المنبت إلى ضحك الثمرة - وهكذا كان أخوك الإنسان، خضع للقدر كما تخضعين، وثار كما تثورين، فاجتمع له جبر البيئة واختيار الإرادة، وعمل على أن يخرج من الظلمات إلى النور، وخلق من الطين، وتطلع إلى السماء، وبلغ من تطوره أن كاد يكون ملكا كريما أو شيطانا رجيما، وكل ميسر لما خلق له. •••
يعجبني منك أنك دفنت فسكنت، وتكونت في الخفاء، ولم تجزعي من الظلام، ولم تظهري إلا بعد أن تم نضجك، واكتمل وجودك، واستطعت أن تغالبي الأحداث، وتقفي أمام العواصف - فليت أخاك الإنسان يعمل عملك فيدفن نفسه حتى تكتمل قواه، ولا يظهر إلا بعد أن تنضج ملكاته، ويحسن استعداده، ويقوى على مصارعة الزمان ومغالبة الصعاب، فمن ظهر قبل أن يتم نضجه لم يرج خيره، والقيمة الحقة ولو قليلة، خير من الشهرة الزائفة ولو واسعة. •••
أعجب ما فيك صبرك وعملك المتواصل حتى تأتي بالمعجزة، ومعجزتك أنك رسمت خطتك في صمت وسكون، وما زلت تكدين وتجدين، وتختفين ثم تظهرين، وإذا بك قد استخرجت من الحمأ المسنون والطين اللازب ألوانا زاهية تستخرج العجب، ورائحة عطرة تنعش النفس، وجمالا فتانا يأخذ باللب، فما أبعد مرماك! وما أقدرك على تحويل القبح إلى جمال، والظلمة إلى نور، وكراهة الرائحة إلى عطر! فمن استطاع من الناس أن يأتي بمثل ما أتيت به فيفيض على الناس جمالا ونورا وشذى، كان - ولا شك - عظيما أي عظيم. •••
يحدثني علماء النبات عنك أن أخطر الأوقات عليك وعلى أمثالك يوم يجري الماء في جذعك وعيدانك، فإذا صادفك إذ ذاك جو شاذ من سموم أو صقيع كنت أشد تعرضا للهلاك، كذلك عصر الشباب أشد العصور على الإنسان خطرا، إذ يجري فيه ماء الحياة فيشعر بحرارة الشوق، وحرارة العواطف، وتتعرض حياته يومذاك إلى أشد الأخطار، ويستولي عليه نوع من القلق، خوفا من أن تتثلج عواطفه أو تقوده إلى المهالك. •••
هذه أنت زهرة وشوك كلاكما من بذرة واحدة تسقى بماء واحد، ثم يجري الماء في الجذوع والأغصان، فيكون مرة زهرة وادعة ضاحكة، وتارة شوكة حادة قاسية عابسة، فعلمتنا أن الجمال محفوف دائما بالأشواك، وأن الخير دائما ممزوج بالشر، والذي أنزل الكتاب فيه هدى ورحمة أنزل الحديد فيه بأس شديد، ولا بد أن يقلم شوكك ليكثر زهرك، هكذا نفس الإنسان، زهرة جميلة محاطة بالأشواك، ويجب أن تقلم أشواكها ليتفتح زهرها، فإذا أهملت وتكاثر شوكها كانت كلها شوكا لا زهر فيه، ما أكثر نفوس الناس التي يجد الإنسان في الهرب منها حتى لا يتعلق بأشواكها! أولئك كل مظاهرهم ومخبرهم شوك لا خير فيه، وشر لا نفع فيه، إن كل نفس تحيط بها أشواك من رغبات وشهوات وميول وإرادات وأعمال، وما التهذيب والتربية والديانات ونظم الحكومات الصالحة إلا عمليات تتحد في الغرض، وهو تقليم هذه الأشواك لتتفتح الزهرة جميلة نقية، تشع الخير والسرور والرحمة على من حولها، وبعض النفوس لم تقلم أو ساءت تربتها، أو ساء محيطها، فكثر شوكها، وقل أو انعدم زهرها، وبعض النفوس قلمت وصلحت تربتها فأنبتت الزهرة الجميلة يعجب لونها، وينفح عطرها، فهي جذابة لمن رآها أو سمعها أو قرب منها، وهي بلسم لجراحات الزمان، وطعنات السنان. •••
ها أنت يمر عليك دور تتكونين فيه لنفسك، وتبحثين عن غذائك لنفسك، وتمدين جذورك لنفسك، وتتفرعين فروعا لنفسك، وعلى الجملة تعيشين لنفسك، فإذا أزهرت فقد وصلت إلى الغاية، فتجاهلت نفسك لنفع غيرك، ووزعت خيرك وجمالك على من حولك، فملأت محيطك بعبيرك، وأشععت جمالك على كل من له عين تنظر وقلب ينبض، وهكذا أخوك الإنسان يبدأ حياته لنفسه، ولا تشغله من الحياة إلا نفسه، فهو أناني مستأثر، وقد يقطع حياته كلها في هذا الدور، فيكون مثلك إذا شوكت
1
ولم تزهري، أما إن هو قطع دور أنانيته وتوجه قلبه لخير الناس وحب الناس، وأخذ يفكر ويعمل لنفع الناس أولا ونفسه ثانيا، فقد بدأ يزهر، وقد يصل به الخير أن يرى سعادته في سعادة الناس، أو أن يدخل السرور على الله بإدخال السرور على الناس، فتكون وردته قد بلغت الغاية في نفح الطيب وإشعاع الجمال. •••
غمرتني الشمس وغمرتها، ورأيت من الذوق أن أتركها تنعم بحرارتها وضوئها فاستأذنت فأذنت، ورجوتها أن تسمح بنشر الحديث فسمحت، غير أنها أومأت إلي أن عندها أحاديث أخرى لا تسمح بها لكل الناس، وأن معانيها تنوء بالألفاظ مهما سلست ورقت، وإنما تنتقل باللاسلكي من زهرتها المتفتحة إلى القلوب المتفتحة.
النظام الاجتماعي في تركيا
ترجم أخي الأستاذ «محمد بدران» مقالا عن تركيا الجديدة من الوجهة السياسية، وأشار إشارة خفيفة إلى حركتها الاجتماعية، فأحببت أن أعرض لهذه الناحية بشيء من التفصيل، على أن أقف منها موقف العارض، لا المقرظ ولا الناقد.
إن احتكاك الشرق بالغرب فتح أعين العالم الإسلامي وجعله يتطلع إلى حياة خير من حياته، وعملت على ذلك عوامل كثيرة، أهمها: معرفة الشرق بأحوال الغرب، وكانت مجهولة لديه كل الجهل، وتدفق كثير من أبناء الشرق إلى أوربا يتعلمون فيها ويدرسون أحوالها ونظمها السياسية، ويعودون إلى بلادهم يبثون فيها ما شاهدوا وما تعلموا، فلما قامت الحرب العظمى اكتووا بنارها، وتسمعوا بشغف إلى أخبارها، وسمعوا الدعايات المختلفة، وكونوا رأيهم فيها، وجاءت تعاليم «ولسن» فزادت في آمالهم، وتشوقوا إلى معرفة مصيرهم، حتى إذا سكتت المدافع وتكلم القادة في الصلح، أرهفوا أسماعهم ليسمعوا ما تقوله أوربا فيهم، ولم يكفهم ذلك، بل ذهب كثير من أولي الرأي إلى باريس يتجادلون ويطالبون ويحتجون، ولم تكن باريس عاصمة فرنسا فقط، بل أصبحت مركز عظماء القارات الأربع، وكنت تسمع في شوارعها لغات العالم عالية، وأشكاله المختلفة ظاهرة، ومن بينهم ممثلو العالم الإسلامي على اختلاف أجناسهم وألسنتهم وألوانهم، وتحول المسلمون بشكل ظاهر من مطالبة بجامعة إسلامية إلى مطالبة باستقلال قومي؛ تقليدا للنزعات الأوربية، وتمشيا مع روح العصر، وساعد على ذلك انفصال جزء كبير من العالم الإسلامي عن تركيا - بعد أن خسرت الحرب - كالشام وفلسطين وجزيرة العرب والعراق.
فلما تم الصالح أحس العالم الإسلامي بخيبة أمل، إذ لم يحقق مطالبهم، ولم ينلهم حقوقهم، فوضعت فرنسا يدها على سوريا، وبريطانيا على فلسطين والعراق، فاضطربت النفوس وثارت الثورات.
وكانت حالة تركيا أسوأ الحالات، إذ فقدت أرضها، وفقدت استقلالها، فكان من حروبها للدفاع عن كيانها ما عرفت تفصيله.
فلما انتصر مصطفى كمال سياسيا وحربيا، وحفظ لتركيا استقلالها اتجه إلى الإصلاح الاجتماعي، فكان من أول ما فكر فيه إلغاء الخلافة، وكان الباعث على إلغائها أمور، منها: خوفه هو وحزبه من أن الخليفة وأسرته لا يرضون عن نظام الحكم الجديد، فيدبرون المكائد، ويدسون الدسائس، لإعادة سلطانهم القديم؛ لأن الخليفة في النظام الجديد فقد سلطته الدنيوية والروحية جميعا، وأصبح مظهرا فقط، ولا عمل له إلا استقبال الزائرين، وصلاة الجمعة في ملأ من الناس، ومع هذا لم تطمئن أنقرة إلى هذا الوضع، وكان السلطان يسكن إستانبول والحكومة الجديدة تقيم في أنقرة، وتعتقد أن الخلافة دائما عش الدسائس الأجنبية، ومهما كان السلطان «عبد المجيد» مخلصا وصادقا ومحبا لرقي شعبه، فإنه قابل للانقلاب والتغير بنفسه أو بخلفه واستحضر حزب «مصطفى كمال» في أذهانهم كل سيئات الخلفاء العثمانيين في العصور المتأخرة، وما جروه على البلاد من وبال.
ثم هذه الميزانية الضخمة التي تصرف على الخليفة وبيته من غير مبرر ومن غير عمل، والبلاد أحوج ما تكون في نهضتها إلى المال.
وأخيرا أنهم يريدون أن يكونوا دولة مدنية ينظمونها تنظيما أوربيا، ويقفوا بين حكومات العالم موقف المساواة، والخلافة تقف عثرة في سبيل هذا التنظيم.
كل هذا جعل القابضين على زمام الأمور يفضلون إلغاء الخلافة ففعلوا، نعم كان للمسألة وجه آخر، وهو أن الخلافة كانت تربطهم بالعالم الإسلامي، وتمكنهم من حق الزعامة الروحية على الممالك الإسلامية، وهذه الناحية العاطفية لها قيمتها، ولكن لم تأبه تركيا لهذه الاعتبارات، ورأت أن العالم يسير نحو تكوين القوميات، فأولى أن تعنى أكبر عناية بأمتها وحدودها وقوميتها.
لهذا كله قرر الزعماء الوطنيون أن يصلوا إلى هذه النتيجة على خطوات كان آخر خطوة فيها إلغاء الخلافة، في مارس سنة 1924، وإخراج السلطان عبد المجيد وأسرته من تركيا.
كان في العالم الإسلامي نزعتان ظاهرتان، وإن شئت فقل ثلاث نزعات: نزعة محافظة ترى التمسك بالتراث الإسلامي من غير تغيير، ونزعة ترى الاحتفاظ بخير ما في التراث الإسلامي مما يتفق وروح العصر، ثم تطعمه بالمبادئ الجديدة مما اخترعته المدنية الحديثة، ولكن في تريث وحذر، ونزعة ترى التجديد المطلق، واحتذاء المدنية الحديثة في أكثر ما يمكن، وبأسرع ما يمكن.
وربما صح أن يمثل النزعة الأولى الحجاز، والثانية مصر، والثالثة تركيا.
وقد أدى إلغاء الخلافة في تركيا، وإحلال الجمهورية محلها، إلى تغيير كبير في النظام القديم الذي يجعل الخلافة مصدر السلطات، من قضاء وجيش وتشريع، فلما زالت الخلافة اضطرهم ذلك إلى التغيير في الأسس.
لم يهملوا الدين جانبا كما يتصور البعض، ولكن - على وجه الإجمال - ضيقوا من دائرته، فأما التشريع العام ووضع نظم الحكومة وما إلى ذلك، فجعلوا أساسه ومنبعه المدنية الحديثة، وتحكيم العقل، والنظر إلى الشعب، فهم يدرسون المدنية الحديثة، ويقارنون في الشيء الواحد بين ما فعلته أمم أوربا المختلفة، ومن ناحية أخرى ينظرون إلى شعبهم وحالته الاجتماعية، وما يناسبه، وما لا يناسبه، ويختارون له بعقولهم من النظم الحديثة ما هو أليق بالشعب، وأما الدين فينظم العلاقة بين الإنسان وربه.
على هذا الأساس قامت كل إصلاحاتهم الاجتماعية، فمثلا في سنة 1926 قدم وزير العدل مشروعا بقانون للدولة مكون من 1800 مادة مقتبس في الأغلب من القانون السويسري، ووافق عليه البرمان في 4 أكتوبر من هذه السنة، وهو في بعض مسائله ثائر على النظم المعمول بها في الممالك الإسلامية جميعا، فقد كان تعدد الزوجات - مثلا - جائزا، فجاء هذا القانون وحرمه بتاتا، وكذلك الشأن في المهر، فقد ألغي في القانون الجديد، ولم يفرض على الزوج، وطلب من الزوجة أن تبذل جزءا من مالها في تأثيث المنزل إن كان لها مال، وسلب الزوج الحق في الطلاق، وجعل للمحكمة وحدها حق الفصل لسبب من أسباب ستة محصورة، وأكثر من هذا خطورة أن المرأة التركية أصبح لها الحق بهذا القانون أن تتزوج من تشاء من أي دين كان، فللتركية المسلمة أن تتزوج نصرانيا أو يهوديا أو بوذيا.
وعدلت قواعد الميراث تعديلا كبيرا، فسوت بين الذكر والأنثى، فللبنت كما للابن، وللأم كما للأب، وللزوجة كما للزوج، وألغت نظام الإرث بالتعصيب، والإرث بالقرابة البعيدة، في نظام طويل لا محل لتفصيله، وغيروا نظام الولاية والوصية على أساس الحرية.
ثم نظروا فرأوا جزءا كبيرا من أموال الدولة قد شله الوقف، فمنعت إرادة الواقفين أن يتصرف فيه الجيل الحاضر حسبما يرى من صالح عام، وكانت الأحكام التي وضعت له مقيدة لحرية الدولة في الإصلاح، والأوقاف الأهلية مزرعة رديئة للاستغلال، ومفسدة للمستحقين بترك العمل المنتج اعتمادا عليها، ومفسدة لنظار الأوقاف بانتهابها، ومفسدة لكل هؤلاء يخصوماتهم ومنازعاتهم، وقضاياهم التي لا نهاية لها؛ فهي - في نظرهم - سيئة من سيئات الماضي، سواء من ناحيتها الاقتصادية أم الاجتماعية أم الأخلاقية.
لهذا عمدوا - بجرة قلم - إلى إلغائها وإلغاء وزارتها.
ثم إن الجمهورية التركية أعطت للمرأة التركية حريتها وأصغت إلى صوتها، وسمحت لها بأن توسع حركتها التي بدأتها من سنة 1908، حين ظهر أول وجه سافر في الآستانة، فألفت نالدة هانم جمعية مؤلفة من نحو خمسمائة من الأعضاء المثقفات، وطالبن بضروب من الإصلاح: أهمها وضع حد لسن الزواج لا تتزوج من لم تبلغه، وإصلاح أوضاع الزواج، وتأسيس الطلاق على قاعدة المساواة بين الرجل والمرأة وتحريم تعدد الزوجات.
وتسابقت البنات إلى الجامعات، وزاحمن الأبناء في الحصول على الدرجات.
وخرجن إلى دور السينما وإلى المساجد، وألغين نظام الحريم، وحجز أمكنة خاصة لهن في الترام أو القطار، وطالبن بحقهن في الانتخابات وعضوية البرلمان، وصحب الشبان أخواتهم في القيام بهذه الحركات إلى غير ذلك.
ثم جدت تركيا في نشر التعليم بين أفراد الشعب ذكورا وإناثا، وكانت أسرع من مصر في تنفيذ قانون التعليم الإجباري، فقد استصدرته مصر سنة 1923، ثم عاق تنفيذه قلة المعلمين، وقلة المال، وقلة الهمة، إلى غير ذلك، ولكنه نفذ في تركيا بأسرع وأقوى، واعترض نشر التعليم في تركيا صعوبة الحروف العربية والشكل، فوقفت بين اختراع ما يسهلها وبين السير مع الأوربيين في استخدام الحروف اللاتينية، ففضلت الطريقة الثانية متأثرة بإغراقها في حب المدنية الحديثة، وقلبت كل أدبها وصحافتها وتعليمها إلى الحروف اللاتينية، حتى القرآن نفسه كتبته بهذه الحروف، وقد ساعد هذا في سرعة نشر التعليم، ولكنه من جهة أخرى قطع صلتها - إلى حد ما - بأدبها القديم وتراثها القديم.
وأسست التربية عندها على أسس وطنية، ووضعت كتبها ونظمها على هذا الأساس، واعترضها في هذه السبيل ما رأت من مدارس أجنبية، فتخوفت من صبغتها التي تصبغ بها تلاميذها، ورأت أن كثيرا من مشاكلها السياسية القديمة كانت ترجع إلى هذه المدارس، وما تبثه من مبادئها التي تبعث الإعجاب بالدول الأوربية والاحتقار للأمم الشرقية، فوقفت تركيا إزاء هذه المدارس وقفة حازمة اضطرتها أن تتركها.
ودعتهم الحماسة الوطنية أن يسيروا بخطى واسعة نحو نشر الثقافة، والاطلاع على كل عناصر التقدم الأوربي، ليسيروا سيره، ويحتذوا حذوه، سواء من الناحية الاقتصادية أو السياسية أو الثقافية أو الاجتماعية أو الحربية.
ثم حافظوا على المظهر محافظتهم على الجوهر، فالجوهر الائتمام بأوربا، والاقتباس من نظمها وقوانينها، والتحرر من سلطة رجال الدين، والمظهر لبس القبعة وسفور المرأة، فحموا الجمهورية من كل عبث بنظامها ومن كل ما يهدد كيانها، كما فرضوا لبس القبعة فرضا، وجعلوها قانونا، وحرموا لبس العمامة تحريما، ولم يجيزوها إلا لمن له عمل رسمي ديني، ونهوا عن الحجاب، وعاقبوا عليه، وهكذا ربطوا المظهر بالجوهر، وتمسكوا بالشعائر التي تدل على المعنى.
وكان بعض الناس يعتقد أن حياة هذا النظام مرتبطة بحياة «مصطفى كمال» فإذا مات مات، لأنه نما من خارج الأمة لا من داخلها، ولا من أعماق نفوسها، فمات مصطفى كمال، وبقي النظام سائرا في طريقه، حتى قامت قيامة العالم بهذه الحرب الطاحنة، التي لا يعرف مداها وعقباها إلا علام الغيوب.
ضحية
حدثني صديقي قال: اعتدت يوم الجمعة في الشتاء أن أخرج من بيتي قبل طلوع الشمس إلى جبل المقطم، أنفض عن نفسي ضوضاء الأسبوع، وملل العمل الراتب، وسآمة الحديث المعاد ، وأهرب من جو القاهرة المسمم، وأريح أعصابي من مطالب البيت وتكاليف المهنة، وأفر من الإنسان الموحش لأستأنس بالطبيعة الطاهرة، وأكرم نفسي بالعزلة عن الناس، وأهين جسمي بالحركة العنيفة؛ فقد خلق من طينة لا تصح إلا بالإهانة.
واعتدت أن أنوع الطرق، وأخالف بين الجبال، فمرة أختار الجبال والوديان مما يلي حلوان، وأحيانا جبال المعادي ووديانها، وأحيانا العباسية وما إليها.
ففي ذات يوم اخترت العباسية وتغلغلت في جبالها ووهادها، أعلوا أكمة وأهبط واديا، وأتخذ مسيري صوب الأزهر، حتى حان الظهر، ونال مني التعب، فبحثت عن مكان أتفيأ ظلاله، وأنعم بنسيمه، وأطل منه على الدنيا الفانية وما فيها حتى وجدته.
واستمتعت بيوم دافئ جميل، وعزلة مريحة، فلم أصادف منذ خرجت من القاهرة إنسانا، وخلعت قبعتي وحططت مخلاتي وألقيت عصاي وجلست، وكان الجوع قد بلغ مني مبلغه، فأخذت أخرج ما حملت: هذه «زمزمية» ماء، وهذه شطائر بعضها باللحم وبعضها بالجبن، وهذا عدد من الليمون الحلو لا بأس به، وهذه عقل صغيرة من القصب، وهذا كل ما معي، فصففتها أمامي وتغزلت فيها، وجرى لها لعابي، وأعددت نفسي لأكلة شهية بعد سير طويل.
فلم أشعر إلا وشبح يبدو من بعيد، لم أتبينه أول الأمر، ثم ظهر أنه إنسان، ثم ظهر أنه يقصدني، وأخذت مظاهره وملامحه تبدو شيئا فشيئا.
جف اللعاب من فمي، ونسيت منظر الأكل لمنظره، وحل الخوف محل لذة النهم، وذكرت قول القائل:
عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى
وصوت إنسان فكدت أطير
ويلاه من الإنسان! هو كالموت لا بد منه، وكظلام الليل لا بد أن يلفك، ولا مهرب منه إلا إليه.
لكنه إنسان عجيب حقا، ليس ككل الناس الذين رأيتهم، أبيض البشرة بياض الأجنبي، ويلبس جلبابا أزرق كلبس البلدي، ملامح وجهه وزرقة عينيه وشكل رأسه واصفرار شعره دلالة على أنه أوربي صميم، وطاقية رأسه المشبكة وحفاء قدمه المتيبسة دلالة على أنه مصري بائس فقير.
هذا لغز معقد! وقد كنت تركت عقلي الذي يحاول حل الألغاز في القاهرة، وأتيت هنا بشعوري وعواطفي، وروحانيتي الفطرية، فلأسرع الآن في استرداد عقلي القاهري لأحاول به حل هذا الإشكال. - سلام عليكم. - عليكم السلام ورحمة الله، هل تتفضل وتأكل معي؟ - لا بأس.
وأخذ يلتهم الأكل بنهم أشد من نهمي، فأسفت لقلة زادي، ونزلت له عن أكثر ما معي.
واعتذر عن نهمه في أكله بأنه قضى يوما كاملا لم يذق فيه طعاما. - لماذا؟ - لأني لم أجد عملا، ولم أجد مالا. - ماذا كنت تعمل قبل اليوم؟ - خادما في قهوة بلدية، وما عملك أنت؟ - مدرس في مدرسة عالية. - إذا اتفقنا. - كيف اتفقنا؟! - هي كلمة خرجت من فمي ولا معنى لها. - ما بلدك؟ - خرجت اليوم من القاهرة لأستريح من عناء التفكير. - هل أنت مصري؟ - أقمت في القاهرة زمنا طويلا. - وما وطنك الأصلي، ولم قدمت؟
وبدأ يتكلم، ولكن أصابته حبسة: أنا. أنا. أنا أتيت اليوم من القاهرة وكفي.
وعلت وجهه الأبيض - المشرب بحمرة، في الأصل والمشرب بصفرة الآن من الجوع - حمرة الخجل، وظهر لي أنه يحمل بين جنبيه سرا دفينا يجرح عزته، فحبست نفسي عن الاستقصاء، وكلمته في الجو والجبل والمسافة بيننا وبين القاهرة، وأتى موعد الرحيل فسلمت، وأخذتني الشفقة عليه فتركت له عنواني إذا احتاجني، ومشيت.
لم يفارقني التفكير في هذا المنظر الغريب، ولا هذا اللغز العجيب الذي لازمني من وقت أن وقع بصري عليه، وكل ما حدث بعد لم يكشف سرا ولم يلهمني حلا، بل زاد اللغز تعقيدا، فهو يمسك الشطيرة كالأوربي المثقف في ظرف ولباقة، ويأكلها أكل المصري البائس الفقير في نهم وشراهة، عقليته عقلية مثقف، ومنظره منظر جاهل، وهو يتكلم كمصري، وإذا سألته: أمصري هو؟ عرض ولم يصرح، وجمجم ولم يبن، واكتفى بأنه أتى من القاهرة، لو كان جاسوسا فلم يجوع ولم يخجل، ولو كان غير جاسوس وكان أوربيا فلم يجمجم؟
لعن الله الإنسان ومناظره، لقد أردت الهرب منه فلحقني، وأردت البعد عن مشاكله فوقعت فيها، وأرادت الأنس بالطبيعة على طهارتها فأصبت بالطبيعة مدنسة.
جال هذا وأكثر منه في نفسي حتى وصلت إلى بيتي، وشغلتني دنياي عن التفكير في هذا المخلوق العجيب، فأنا بين مطالب أسرة وتحضير درس وإلقائه وغير ذلك من الشئون. •••
وفيما أنا عصر يوم في بيتي، منصرف لبعض أمري، وإذا بالجرس يدق، فتحت الباب فإذا هو صاحبنا. - السلام عليكم. - وعليكم السلام.
وفرحت بمجيئه، ولكن لنفسي لا له، فقد خطر لي أني سأكشف السر الذي حيرني، وأقف على حقيقة نفسه وجلية أمره.
ولم آنف أن أجلسه على كرسي مجنح في غرفة استقبالي، ولو كان حافيا وفي جلباب أزرق، وقد تعلمت من حديثه السابق ألا أجرحه بسؤاله المباشر عن موضع سره، فحدثته في كل شيء يخطر ببالي إلا ما يتصل به، وأمرت أثناء الحديث أن يهيأ له أكل شهي دسم، لا من جنس الشطائر الجافة التي التقمناها في الجبل، فأكل بنفس النهم الذي أعهده واستزدته حتى لم يبق عنده مكان للمزيد، وأهل بيتي وأولادي وخدمي يعجبون من هذا المنظر الغريب، ومن تفاهة ملبس الضيف وشدة عنايتي به، وبعد الفراغ من القهوة استأذن لينصرف فأذنت له ومنحته ما استطعت، وقبل أن ينصرف وضع يده في جيبه، وأخرج كراسة طلب مني أن أقرأها وأدبر علاجا لما فيها.
ولا أكتمك أني فرحت بها فرح الطفل بفتح صندوق البخت، أو فرح الفتاة بهدية مغلقة أتت إليها ممن تحب، فأخذتها وتسللت إلى غرفة مكتبي، وأغلقتها علي، وأضأت المصباح، وجعلت ألتهم ما فيها التهام صاحبنا للأكل، وما زلت بها حتى أتممتها، فأخذني منها كل العجب، فماذا هي؟
هي يوميات لهذا الشاب منظمة مرتبة، ذكر فيها أهم ما استرعى نظره في دقة وإحكام.
إنه شاب هولاندي، تخرج من جامعة هولاندية، وتخصص لدراسة اللغات الشرقية والدراسات الإسلامية، ورأت جامعته نبوغه وجده، فمنحته مكافأة دراسية، وإجازة طويلة يقضيها في بلد عربي إسلامي، ليتقن العربية والإسلاميات، فلم يجد لذلك خيرا من القاهرة.
فحضر إليها، وسكن في حي مصري في المنشية، ولبس جبة وقفطانا وعمامة ومركوبا أحمر، ليتسنى له في يسر حضور دروس الأزهر، وجد في الدراسة، واختلف إلى المشايخ يحضر دروسهم ويتفهم كتبهم، وانتهز كل فرصة يتقن فيها الكلام العربي الفصيح واللغة العامية الدارجة، فجلس مع العامة، وتحدث إلى الناس، وإلى الباعة، وغشي الأسواق.
وفي كل شهر كان يكتب تقريرا مفصلا بما حصله وما عمله وما أتقنه، والجامعة من جانبها تمده كل شهر بما ينفقه عن سعة.
ثم خطرت له فكرة نبيلة جميلة، هي أن يدرس الحالة الاجتماعية بمصر بجانب دراسته اللغوية والعلمية، فوضع لذلك برنامجه الدقيق، فغشي مجالس الذكر، وحضر الصلوات في المسجد، وشاهد أسواق البيع والشراء، وحضر الولائم والجنائز وما إلى ذلك.
وأخيرا رأى أن يشاهد مجالس اللهو، ولكن هذه كان لا بد له فيها من مرشد خبير، وكان من بدء دراسته قد عرف «كتبيا» يتاجر في الكتب القديمة، فيشتري منه الكتب بثمن رخيص، ويلتهمها قراءة ودرسا، فتوثقت الصلة بينهما، وكان هذا الكتبي داعرا عربيدا، عليما بأماكن اللهو، خبيرا بمجالس الحظ فأفضى إليه بمكنونه، فهش له وبش.
وقال له: «على الخبير سقطت».
فما زال يتنقل به من ملهى إلى ملهى، حتى كان آخر المطاف «غرزة الحشيش» دخلها مع صاحبه الكتبي، وأداه حب استكشافه ألا يكتفي بمنظر الحشاشين و«جوزتهم» وطريقة تعاطيهم، بل أراد أن يجرب تجربتهم ويختبر فعل الحشيش في نفوسهم، فدخن معهم، وسمع لفكاهاتهم وتنادرهم، ولكنه شرق وسعل، ولم يجد في نفسه أثرا بالغا كما كان يسمع عن الحشيش، فشكا ذلك لصاحبه، فقال له - في خبث ودهاء - إن ذلك لا يتم إلا بالتعود والتكرار، فاستمع لنصيحته وعاد وكرر، فرأى - كما يقول - أن أعصابه تخدرت، وتتابعت الصور على ذهنه، وغاب عن الزمان والمكان، وأحيانا كانت تتراءى له صور مرعبة مفزعة، كأن يرمى من جبل، أو تتخلخل الأرض تحت قدميه، وأحيانا صور مفرحة منعشة سارة كأنه في جنة النعيم، وبعد أن أفاق أحس بشهوة شديدة للطعام، فأكل كل ما قدم إليه في شراهة، ونام نوما حالما لذيذا.
ولزمته العادة، وخضع لحكم «الكيف»، فإذا هو حشاش لا يطيق صبرا عن الحشيش، ولا يستطيع أن يعيش ليلة من غير أن يحشش.
قال: وقد شعرت بضعف حيويتي وسقوط نفسي، وميلي إلى الكسل والخمول، وفتور في قوى عقلي وسوء تقديري للأمور.
قال صاحبي: وإلى هنا انتهت يوميات صاحبنا، وبقي الفصل الأخير من الرواية لم أتبينه مما كتبه: كيف وصل إلى ما شاهدت من حالته، فتشوقت إلى أن أراه ليتم لي روايته.
فأتاني بعد أيام، فاستقبلته ونفسي مغمورة أسفا وعطفا وإشفاقا، وسألته عما حدث له بعد فقال: لم أجد بعد لنفسي ميلا إلى قراءة أو درس، ولا إلى أي عمل، ولم أكتب لجامعتي حرفا، وانقطعت أخباري عنها، فقطعت ما كانت تمدني به من مال، وضاقت بي السبل، ولم أجد موردا أقتات منه، ولم يرشدني صاحبي الكتبي إلى أي عمل أعمله، ولم أعد أعبأ بنظافة ملبس ولا حسن مظهر، وتخاذلت قواي وفقدت كرامتي، فعرضت نفسي على من يستخدمني، وأخيرا لم أجد إلا عملا في قهوة، وبعد مدة وجدتني لا أصلح حتى لهذا العمل، وخرجت هائما على وجهي في الجبل يوم قابلتك!
ثم بكى، وما أشد وقع بكاء الرجال على نفسي!
فكرت طويلا فيما أستطيع أن أعمله لإنقاذ إنسانية ضالة معذبة، وزهرة كانت يانعة فذبلت وجفت وسقطت.
فهداني التفكير إلى أن أذهب به إلى من يعنى بأمر الهولنديين، وكان يستطيع أن يهتدي بنفسه إلى ذلك لولا أنه سلب قدرة التفكير وقوة الإرادة، فشرحت لهم حاله، وتفاهمت معهم أن يسفروه إلى بلده فرحبوا بالفكرة ونفذوها، ثم انقطعت عني أخباره، ولم أدر - بعد - من أمره شيئا.
أول مجلة مصرية
كانت ساعات ممتعة تلك التي قضيتها وأمامي ثمانية مجلدات من أول مجلة عربية علمية أدبية مصرية،
1
أتصفحها وأقرأ بعض مقالاتها، وأقارن بين أعدادها، فمنذ إحدى وسبعين سنة، في عهد الخديو إسماعيل كان علي باشا مبارك «مدير ديوان عموم المدارس»، وهذا كان اللقب الذي حل محله فيما بعد ناظر المدارس فناظر المعارف فوزير المعارف.
وكان «رفاعة بك الطهطاوي» «ناظر قلم الترجمة بديوان المدارس»، وقبل ذلك بسنوات كانت قد نشطت حركة المدارس والمكاتب وفتحها، وأقبل عليها المتعلمون، فرأى القائمون بالأمر أن تصدر إدارة المدارس «مجلة» تشد أزر هذه الحركة، وتعمل على نشر التعليم، فأنشأوا مجلة أسموها «روضة المدارس المصرية» وقد صدر أول عدد منها يوم السبت 15 محرم سنة 1287 هجرية، الموافقة سنة 1870 ميلادية، واختاروا لها رمزا جملة كتب عليها دواة غمست فيها ريشة تستملي منها، وحولها قوسان من غصون الشجر، وطبع تحت الاسم هذان البيتان في كل عدد:
تعلم العلم واقرأ
تحز فخار النبوه
فالله قال ليحيى
خذ الكتاب بقوه
وتحتهما أنها «تحت نظارة رفاعة بك»، أي كما نعبر نحن اليوم «مدير المجلة»، وأن «مباشرة تحريرها» علي فهمي بك بن رفاعة بك، أي أنه رئيس تحريرها، وكان علي فهمي هذا مدرس الإنشاء بمدرسة الإدارة والألسن، وجعلوها تظهر كل أسبوعين، وكانت تخرج في 16 صفحة من حجم الكتاب المتوسط - وجعلوا اشتراكها 77,6 قرشا، ولعلهم اختاروا هذا الرقم؛ لأنه يساوي «البنتو» وهي عملة مشهورة كانت في ذلك العصر، ولم يسموا هذا «اشتراكا» كما نسميه نحن، بل قالوا «ثمن ترتيبها» كذا، وطبعوها بمطبعة «جرنال وادي النيل» بباب الشعرية.
وافتتحوها بمقال يبين الغرض منها، فقالوا: «إن جل مرغوب ديوان المدارس المصرية، اعتمادا على مساعدة العناية الخديوية، تعميم العلوم وتتميم المعارف، وانتشار الفنون وإكثار اللطائف، ومداولتها بين جميع أبناء الوطن، وتسويتهم في الورود على مستعذب هذا المشرع الحسن ... بحيث تكون فيها الفوائد متنوعة، والمسائل المتأصلة والمتفرعة، أقرب تناولا للمطلع المستفيد، وأسهل مأخذا لمن يعانيها من قريب الفهم والبعيد، بقلم سهل العبارة، واضح الإشارة، وألفاظ فصيحة غير حوشية ولا متجشمة لصعب التراكيب، ومعان رجيحة تنخرط في سلك مستحسن الأساليب».
وقد ذكرت أنها لا تتعرض للسياسة ولا للإدارة، وأنه مما سيعينها على أداء غرضها ما أنشئ من دار الكتب بجانبها «تقتطف الأزاهر عن مكامنها، وتلتقط الجواهر من معادنها» - وأن سعادة مدير المدارس (وهو علي باشا مبارك) «جعلها ملحوظة بنظر نظارته ، لا يندرج فيها شيء إلا بإشارته، ومنحها الرئاسة التشريفية والإدارة العملية».
ثم قدر القائمون عليها أن ستكون لها أبواب مختلفة، فجعلوا على كل باب مشرفا يحرر فيه ويراقب ما يأتي منه.
فعلي باشا مبارك عليه وصف البحار العمومية، وذكر متعلقاتها وأحوالها الكلية والجزئية.
وعبد الله بك فكري العلوم العربية والفنون الأدبية، وذكر أساليب العرب في النظم والنثر.
ومسيو «بروكش» ناظر مدرسة اللسان المصري القديم، عليه مسائل التاريخ القديم والحديث.
وإسماعيل بك الفلكي الفلكيات.
ومحمد أفندي قدري (وهو الذي صار بعد محمد باشا قدري مؤلف كتب الفقه المشهورة) عليه الجغرافية والأخلاق والعوائد والمعاملات والاعتقادات.
ومحمد أفندي بدر علم الأبدان.
ومحمد أفندي ندا النبات.
والشيخ عثمان مدوخ (وكان سوري الأصل)، عليه غرائب النوادر والفكاهات والمضحكات والألغاز.
وعلي فهمي رفاعة رئيس التحرير عليه الكلام في تخطيط مصر القاهرة ومقارنة جديدها بقديمها.
وعلى خوجات المدارس جميعها المشاركة في تحرير باب العلوم الرياضية.
وخرج العدد الأول كنموذج، ففيه مقال لعلي باشا مبارك في إنشاء دار الكتب الخديوية، فخبر عن إيفاد بعثة من عشرة من نجباء التلامذة إلى إيطاليا «لتعلم الإدارة الملكية» وذكر أسمائهم، ثم فائدة جليلة عن سكان أقسام الدنيا، فقصيدتان في تهنئة الخديو إسماعيل بالعام الجديد، إحداهما لصالح مجدي بك، والأخرى للتلميذ اللبيب أحمد أفندي نظمي، ثم ملحتان إحداهما في السريرة الحسنة والسريرة السيئة، والأخرى في صاحب هرة، وبذلك انتهى العدد.
وصدرت تباعا تجري فيها أقلام الكتاب والعلماء من مصريين، وأجانب تترجم مقالاتهم إلى اللغة العربية.
وفي العدد الثالث تنبهوا إلى ضرورة فهرس في أول العدد يبين المقالات وأصحابها، وابتكروا طريقة نشر كتب تنشر بالمجلة تباعا، فيلحق بها ملزمة أو أكثر من كتاب أو أكثر، وكان من المساهمين في تحريرها بعض علماء الأزهر كالشيخ حسونة النواوي، والشيخ سليم القلعاوي، والشيخ حسين المرصفي، ومشهورو الأدباء كصالح بك مجدي وعبد الله بك فكري وبعض التلاميذ، وتنشر فيها الخطب التي تقال في حفلات الامتحانات العمومية، وتقارير إصلاح التعليم، ومقالات خوجات المدارس في العلوم الرياضية والطبيعية والكيمياوية إلخ .
ومن العدد الثالث زادت صفحاتها إلى 20 ثم 22 ثم 24.
وحدث في العام الثاني من حياة المجلة أن قررت وزارة المعارف إعطاء دروس للثقافة العامة تلقى من مشهوري العلماء في دار العلوم، يحضرها كل من أراد، وكانت دار العلوم إذ ذاك في درب الجماميز.
فالشيخ حسين المرصفي يلقي محاضرتين كل أسبوع في علوم الأدب، وإسماعيل بك الفلكي في علم الفلك، ومسيو ويدال فن السكك الحديدية باللغة الفرنسية، وفراتس بك فن الأبنية، ومسيو بروكش للتاريخ العام، إلخ.
فكان هذا المشروع الجليل مادة صالحة جليلة لتغدية المجلة، فكان ينشر فيها خلاصة بعض هذه الدروس.
وفي السنة الرابعة من المجلة يخرج العدد السابع في 15 ربيع الثاني سنة 1290 لا يحمل اسم رفاعة بك، إذ كان قد توفاه الله، فنشرت المجلة ما رثته به الوقائع المصرية، ويكتفى بذكر «مباشر التحرير» علي فهمي رفاعة، ثم يتحول النص إلى أنها «تحت إدارة ناظر الروضة ومطبوعات المعارف علي بك فهمي نجل رفاعة بك» وتضعف بعض الشيء في عهد الابن، إذ لم يكن له من الشخصية العلمية ما للأب، فيقل ما يرد من الأقلام المشهورة، ولكن تستمر وتستمر إلى السنة الثامنة، فيخرج العدد السادس عشر في آخر شعبان سنة 1294 وليس فيه إلا خطب افتتاحية وختامية قيلت في المدارس والمكاتب الأهلية، ولما بلغت من الضعف إلى هذا الحد أسلمت روحها لخالقها.
قد كانت هذه المجلدات الثمانية معرضا جميلا يمثل للناظر كيف كانت الأقلام تجري في هذا العصر، وبأي أسلوب تكتب، وبأي عقلية تفكر، وإلى أي حد بلغ مجهود القوم ونشاطهم العلمي والأدبي، وما الموضوعات التي كانوا يحبونها ويتذوقونها، وكيف كان عقلاء مصر أمثال علي مبارك وعبد الله فكري وصالح مجدي ومحمد قدري وأمثالهم، حركة دائبة لا تعرف الكلل في تنظيم المدارس والمكاتب وتغذيتها بالكتب تؤلف وتترجم، وبالحفلات تقام وبالمجدين النابغين يشجعون ويكافئون، وبالمحاضرات العامة تلقى على الجمهور، وبهذه المجلة يسجل النشاط ويبعث الشوق.
وهي في ناحية أخرى صورة لحالة النظم والنثر في ذلك العصر يبعث من مرقده، فيتعلم السير ويتعثر بالسجع وبالاستعارة المتكلفة، ثم يحاول أن يتحرر من قيوده، فيقطع في ذلك شوطا لا بأس به.
والقوم يواجهون المصطلحات العلمية في العلوم على اختلافها، ويكلفون ترجمة الكتب الأجنبية والمحاضرات التي يلقيها الأساتذة الأوربيون، فيجدون في وضع الكلمات العربية التي تقابلها، أو يستعملون الكلمات الأجنبية مصوغة صوغا يستسيغه اللسان العربي.
ثم هي تقوم بنشر ما يهم المدارس من الأخبار، فتنشر أسماء النابغين، وتنشر التقارير الواردة عن طلبة البعثة، فتنشر أن «عثمان غالب» مثلا من تلاميذ مونبليه «أخذ في أول السنة الأخيرة درجة المسرورية»، ومحمد علوي «تحصل في أول امتحان آخر السنة على درجة مسرورية جيدة زائدة وهو نبيه».
وتنشر أسماء من تفوقوا واستحقوا مكافآت ونوعها، وتقتبس من تقارير التعليم والمكتبات في الممالك الأجنبية، إلخ.
ثم نرى ألفاظا كثيرة في طور التكون، كما رأينا في «درجة المسرورية»، و«ثمن ترتيبها» بدل «قيمة اشتراكها»، ومثل ذلك في مصطلحات العلوم، وبعض هذه الألفاظ أقر وبعضها عدل.
ونرى المجلة تكثر فيها الألغاز حسب ذوق العصر، حتى يضج المشرف على المجلة منها، ويطلب من الكتاب الإقلال من إرسالها.
ونرى فن «المقالة» لم يتكون بعد، وإنما هي محاولات في كتابة المقال.
ونرى الجمهور لم يعرف الكتب القديمة، ولم يطلع على ما فيها، فيستغفله بعض العلماء، وينقلون من هذه الكتب بعض فصول وقصائد يدعونها لأنفسهم، ويمضونها بإمضائهم.
وعلى الجملة فهذا وأكثر منه موضع لدراسات قيمة في نواح متعددة.
التضحية
لعل من أهم الفروق بين أمة راقية وأمة غير راقية، أن أفراد الأولى يشيع بينهم العمل لأنفسهم ولغيرهم، وأن أفراد الثانية لا يعملون إلا لأنفسهم.
ها هو الجو حولنا مشبع بالأنانية إلى أقصى حد، هذا موظف كل همه أن يرضي رؤساءه في الحدود الضيقة لينال «درجة»، ولا يهمه بعد ذلك قضيت مصالح الناس أو لم تقض.
وهذا موظف آخر لم يمنح من المرتب ما يشتهي، فهو يضن بمقدرته وكفايته على الناس، وكل ما يعمل أن يؤدي الأعمال الآلية التي تنجيه من العقوبة ومن التبعية القانوينة، فهو يحضر في الميعاد وينصرف في الميعاد، ثم لا روح في عمله، ولا شعور بواجبه، وهذا غني لا ينظر في تصرفاته إلا إلى شخصه مهما شقي الناس من حوله، وهذا مزارع من كبار المزارعين لا ينظر في مشروع القطن والقمح إلا بمقدار ما يحتمل أن يدخل جيوبه من مال، مهما جاعت الأمة وعدمت القوت، وهذا ثري ذو جاه يستعمل جاهه ونفوذه في الهرب من ضريبة واجبة عليه، أو يتحايل في تخفيضها إلى أقصى حد ممكن، فتكون النتيجة أن يدفع الضريبة كاملة غير القادر، ويهرب منها أو ينقص منها القادر - وهذه هي الروح الشائعة التي نراها في البيت وفي الشارع وفي المصلحة، وفي البيع والشراء، والأخذ والعطاء: أنانية مسرفة، في حدود ضيقة، لا ينظر منها الإنسان إلا إلى نفسه، وإلى نفسه فقط، يدور في خلده أن ينهب من اللذائذ ما استطاع قبل فوات الوقت، ويهرب من الواجبات ما استطاع مع المحافظة على الشكل، حتى لا يقع في يد القانون، يردد قول أبي فراس: «إذا مت ظمآنا فلا نزل القطر»، ويهزأ ببيت أبي العلاء:
فلا هطلت علي ولا بأرضي
سحائب ليس تنتظم البلادا
وبقول البارودي:
أدعو إلى الدار بالسقيا وبي ظمأ
أحق بالري لكني أخو كرم •••
ليس مظهر التضحية مقصورا على الجنود في مواقف القتال، فليس هذا إلا مثلا عاليا من أمثلة التضحية، ولكن هناك أمثلتها العديدة في الحياة اليومية لكل فرد، فالذي يتنازل عن لذته الفردية الضيقة للمصلحة العامة الواسعة يكون مضحيا على قدر ما بذل، والموظف ينال شيئا من العناء لراحة الجمهور مضح، والمدرس يبذل أقصى جهده في إعداد درسه وإيصاله إلى طلبته مضح، والغني يتنازل عن بعض لذائذه لخير الناس مضح، والمزارع يرعى حال فلاحيه مضح، وهكذا، وعلى قدر انتشار هذه الروح في الأمة يكون مقدار رقيها ونجاحها - ولا تفلح أمة يبحث أفرادها عن لذائذهم الشخصية فقط، مهما حسن تشريعها وصلح قادتها، فشرع ما شئت لتنظيم التموين فلن ينجح، ما دام كل فرد لا ينظر إلا إلى شخصه، وشرع ما شئت لتنظيم الضرائب فلن ينجح مع محاولة الأفراد الهرب منها، وشرع ما شئت لإصلاح الفلاحين فسيظلون كما هم، ما دام التشريع لا يلقى مجاوبة من نفوس القادرين. •••
لقد أضاع علماء النفس المحدثون جمال التضحية بما أفرطوا من تحليل، وما أرجعوا من أعمال نبيلة إلى غرائز وضيعة ، وما وصلوا إليه من أن مظاهر إنكار الذات تعود في آخر أمرها إلى حب الذات، فقالوا - مثلا -: إن السياسي الكبير الذي يدل مظهره على أنه يؤدي واجبه، ويخدم أمته، ويتحمل أشق الأعباء في سبيل مجدها ورقيها ونهوضها، لو حللت البواعث التي دفعته إلى عمله وسلوكه هذه السبيل، لوجدتها ترجع في النهاية إلى غريزة حب الذات، وشعوره الكمين بأهمية ذاته وعظم شخصه، والواعظ الذي يعظ الناس ويذكرهم بالدين، ويخلص في سبيله، ويتحمل أشد العذاب في سبيل تحقيق دعوته وانتشار عقيدته إنما نصل في النهاية عند تحليل نفسه إلى حبه إظهار شخصه، وتمجيد ذاته، والتفات الناس إليه، واتجاههم نحوه، والزاهد الذي فر من الحياة ولذاتها، واعتكف في الأديار أو التكايا أو نحوها، وتجرد من الدنيا وشئونها، لم يكن في الحقيقة عند التأمل العميق في بواعثه إلا ناظرا لنفسه، هاربا من تبعات الحياة وتكاليفها، والطبيب الذي يعنى بمرضاه ولا يعنى بنفسه، ويتعرض للأخطار أيام الوباء، إنقاذا للناس، ولو كان في ذلك حتفه - قالوا - إنما يبحث وراء حسن سمعته وذيوع شهرته، والعالم الذي يقضي أوقاته في معمله أو في مكتبه باحثا منقبا وراء حقيقة يكتشفها، أو نظرية يعثر عليها، أو اكتشاف يخدم به الإنسانية دواء لمرض أو إمتاعا للناس في ناحية من نواحي حياتهم، ليس - في نظرهم - إلا مجيبا لما ركب في طبيعته من حب الاستطلاع، والمصلح الذي يكدح ليله ونهاره في سبيل خدمة قومه وإصلاح عيوبهم، ومعالجة ما أصيبوا به من مرض اجتماعي، ليس يرجع ذلك - في رأيهم - إلا إلى حب الظهور، وإشباع رغبته في إعظام نفسه، والدوي حول شخصه، بل قالوا أكثر من ذلك وأعنف، قالوا: إن الممرضة التي تهب نفسها لخدمة المرضى، وتعمل جهدها في الرحمة بهم، وتلطيف عذابهم، وتضميد جراحهم، وتجد من نفسها السعادة في تفريج كربهم وتخفيف آلامهم، ليست في الحقيقة مدفوعة إلى ذلك إلا لداعي ما ركب في غريزتها من الاستطلاع الجنسي، قالوا: وإنما اختارت هذا الضرب من الإحسان؛ لأنه محفوف بما يغذي نفسها من مظاهر الإعجاب والمدح والثناء، والظهور بمظهر من يفني ذاته في نفع الناس، ويضحي بخيره لخير الناس.
وهكذا رجعوا كل البواعث النبيلة، ومظاهر التضحية الجميلة للغرائز الوضيعة المتأصلة في النفس، وللبواعث الذاتية المتأصلة في الإنسان منذ ظهوره على وجه الأرض.
وقالوا: وما ذنبنا أن وجدنا الإنسان هكذا خلق، وعلى هذا طبع، وهو هو من بدايته إلى نهايته؟!
ولكن أحق كل هذا؟ أيستطيعون أن يستمروا في تفسيرهم لكل أنواع التضحية من شخص لا يؤمن بدين، وهو - مع هذا - يرمي بنفسه في ميدان القتال دفاعا عن أمته، وأم تضحي براحتها ولذتها لابنها من غير أن تنتظر مثوبة أو جزاء، ونحو ذلك من أمثلة لا تعد؟
وهب ذلك كله صحيحا، فهل ذهب جمال التضحية، وقيمة التضحية؟
لتكن كل هذه الأعمال النبيلة ناشئة عن غرائز شخصية وبواعث ذاتية، فهذه الغرائز في الحقيقة والواقع قد تتجه إلى أعمال خسيسة فنكرهها ونشمئز منها، وهي هي قد تتجه إلى أعمال تنفع الناس فنعجب بها ونمجدها، إن حب الذات قد يدفع الشخص إلى أن يقتل، استيلاء على مال القتيل، وقد يدفعه إلى أن يقتل، دفاعا عن أمته، أو دفاعا عن عرض فتاة، ومحب الظهور قد يغذي غريزته بتضليل الناس، وخلق المؤامرات، وتدبير الدسائس حتى يعترف له بالمقدرة، وقد يغذي غريزته بالإحسان الكثير والإصلاح الكبير، والمرأة قد تدفعها غريزتها الجنسية إلى الاستهتار، وقد تدفعها الغريزة نفسها إلى التمريض، فالغريزة في كل هذه الحالات واحدة، ثم قد يصدر عنها الخير، وقد يصدر عنها الشر، فالعبرة بالنتائج لا بالتحليل إلى العناصر الأولية، وخطأ علماء النفس هؤلاء - إن كان ما يقولونه صحيحا - أنهم أفرطوا في التحليل، ولم ينظروا في التركيب، بالغوا في المقدمات وأعرضوا عن النتائج.
لتكن كل الأعمال ناتجة عن حب الذات، فلا تزال هناك أعمال نبيلة وأعمال خسيسة، ولا يزال هناك من الأعمال ما يصح أن يسمى «أثرة» وأنانية وما يصح أن يسمى إيثارا وتضحية، وكل الفرق فرق في التعريف لا في المعرف، وفي العرض لا في الجوهر، فعلى قولهم تكون التضحية أن يجد المرء لذته الشخصية فيما يعود على الناس بالنفع، وعلى قول الآخرين هي أن يبعثه على عمله نفع الناس وخيرهم، ولا عبرة بالمقدمات إذا تساوت النتائج، وليس يهمنا أن يكون الباعث له على إتيان الخير لذته الشخصية أو رغبته في الصالح العام ما دام العمل ينتج هذا الخير.
ولا يزال الناس بعد هذا البحث السيكولوجي منقسمين إلى قسمين: قسم لا ينظر إلا إلى شخصه في حدوده الضيقة، وقسم ينظر إلى شخصه في حدوده الواسعة. قسم ينظر إلى ذاته كالحيوان، وقسم ينظر إلى ذاته كفرد في أمة وعضو في جسم وفرع في شجرة، يوفق بين نفعه ونفع أمته ونفعه ونفع شجرته. قسم بلغ به ضيق النظر أن يجد لذته في حرمان الناس وسعادته في شقاء الناس، أو هو على الأقل لا يهتم بالناس. وقسم قد بلغ من سعة نظره أن يجد لذته في لذة الناس، وسعادته في سعادتهم، وخيره في خيرهم، وهذا غاية الرقي.
وخير الناس من استطاع أن يوفق بين غرائزه وخير الناس، فإذا كان محبا للظهور فليظهر بما ينفع أمته، وإذا كان محبا للاستطلاع فلا يستطلع أخبار الناس وعيوبهم وخفاياهم، وإنما يستطلع حقيقة مجهولة في العلم أو قانونا مجهولا في الطبيعة، ومن كان من طبعه الخوف فليخف من شر يلحق الناس، وأذى ينالهم، ولا يخف من أوهام من خلقه، وعفاريت من خياله، وهكذا.
مهما قيل فالتضحية أنبل ما وصل إليه الإنسان، منظرها أجمل منظر وأروعه، ولا شيء يكسب الأمة قوة كما تكسبها التضحية، فالأمة المضحية تأكل غير المضحية في سهولة ويسر؛ لأن الأمة المضحية كتلة متماسكة ووحدة واحدة، والأمة غير المضحية أفراد متفككة، وشهوات متعددة، تتحارب أجزاؤها، ويأكل النزاع والشهوات والأنانية قواها، فالأسرة التي يعمل فيها كل فرد لشخصه أسرة ميتة، والمصنع الذي يعمل فيه كل فرد لمصلحته الخاصة لا يبقى شهرا، والحزب الذي ينظر فيه كل عضو إلى نفسه فقط حزب مصطنع لا حول له ولا قوة، والأمة التي يحسب فيها كل فرد حساب لذته الخاصة هي أفراد لا أمة.
في الأمة التي تسودها التضحية كل أفرادها أقرباء، وفي الأمة التي تسودها الأنانية كل أفرادها غرباء.
التضحية عشق وهيام، ومحال أن يصدق عشق على أساس الأنانية، وإنما يصدق يوم يقول ويؤمن بما يقول: «إني أضحي أنانيتى وسعادتي وشخصي وكل ما يقف في سبيل الحب لحبي».
لا تكون التضحية حتى يتعود القلب لذة العطاء كما يتعود لذة الأخذ، ولذة أن الناس يجدون ويسعدون، كما يتعود أن يتلذذ من أن يجد ويسعد.
التضحية إرادة القوي ليقوى، وإرادة الضعيف ليتخلى عن ضعفه - هي حجر المسن تشحذ عليه الإرادة لتقطع الصعاب وتجتاز العقاب، وهي النار المقدسة التي تطهر النفوس وتأكل الأعشاب الطفيلية.
التضحية أشرف الطرق تسير فيه الأمة لتحقيق ذاتيتها، وأنبل السبل تسير فيه الإنسانية لتبلغ غايتها، وبدونها يصبح الإنسان حجرا لا روح فيه، أو بهيما يعيش ليأكل.
التضحية أفق واسع تنعم فيه النفس بجمال السعة وبعد المدى وجلال اللانهاية، والأنانية أفق ضيق تألم فيه النفس بضيق المكان، وتنقبض فيه من كثرة السدود والحدود.
في التضحية حرارة وإيمان يسعد، وفي الأنانية جمود بارد وإلحاد مقبض.
في التضحية حياة كلية شاملة وفناء النفس فيما حولها ومن حولها، وفي الأنانية حياة جزئية محصورة، ودوران النفس حول ذاتها في خمود وركود.
في التضحية كرم وسماحة، وفي الأنانية شح وكزازة
ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون .
النار
كان الجو باردا قارسا، وكان الهواء عاصفا قاصفا، وكان الليل مظلما حالكا، فأويت إلى بيتي وكأني لا أجد جسمي، وخلعت ملابس التكلف ولبست ملابس البساطة، وفرحت بالنار الموقدة في حجرتي، والجو الهادئ حولي، فكل شيء يحيط بي نائم، وأنا والنار وحدنا يقظان.
جلست بجوارها أتأمل صنيعها، وأستمليها معانيها. •••
يعجبني فيك - أيتها النار - ميلك إلى السمو دائما، يلعب بك الهواء في نواحيك، فتقاومين وتعارضين، وقد يتغلب عليك الحين بعد الحين، ولكن لا تملين ولا تخضعين، حتى يمل هو فيسكن، وتستمرين في تساميك أبدا، وفي تعاليك دائما، فتبا لمن يخضع لأول عاصفة ويطأطئ رأسه لأول صدمة.
قوية قوة لا نهاية لها ، لا تلمسين شيئا حتى تأكليه وتخضعيه لأمرك، وتحلليه إلى شيء واحد مهما اختلفت أنواعه - جمادا كان أو حيوانا أو نباتا، عظيما أو حقيرا، جميلا أو قبيحا - إلى رماد، إلى هباء، إلى فناء، تحللينه بحرارتك، وتهضمينه بقوتك، ثم تتركينه باردا برود الموتى، أين منك مخالب الأسد؟ وأين منك أنياب الأفاعي السامة؟ وأين منك الريح العاتية ترمي ولا تفني، وتقتلع ولا تبتلع؟ لولا أن رأينا أفاعيلك قبل أن نعقل لجن جنوننا لرؤيتك، وأخذنا العجب كل العجب لقدرتك. •••
عجب المجوس لقدرتك فعبدوك وألهوك، واستدل الموحدون بعظمتك على عظمة خالقك وامتن الله بك على عباده، فقال:
الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون . •••
اشتق العرب أقوى فترة من العمر من صفاتك، فسموا الشباب من شبوبك، ووصفوا التهاب الشعور من التهابك، وقالوا: ضرام الحب من ضرامك، واندلع لهيب الثورة من لهيبك، وكما استعاروا صفات القوة من قوتك، استعاروا صفات الضعف لغيابك، فقالوا: انطفأت شعلته إذا مات، تشبيها بانطفائك، وهمدت قوته وخمدت، من همودك وخمودك.
وكما عبدك المجوس جعلك العرب أعظم مفاخرهم وأشهر مآثرهم، فرفعوك للسفر ولمن يلتمس القرى، وكلما كان موضعك أرفع كانوا بك أفخر، فقال شاعرهم:
له نار تشب بكل ريع
إذا الظلماء جللت القناعا
وما إن كان أكثرهم سواما
ولكن كان أرحبهم ذراعا
ومثل ذلك كثير لا يحصيه عد. •••
لقد أبت الشمس أن تنزل من سمائها، وتتنازل عن عليائها، فأنابتك في الأرض عنها، ومنحتك أعظم صفاتها، وهي الضوء والحرارة والقوة، فضوءك من ضوئها، وحرارتك من جنس حرارتها، وقوتك بعض قوتها، وكأنك تبرهنين على ولائك لها، فتميلين دائما للصعود إليها! تستطيعين أن تمزقي الظلام، فتكوني آية الليل كما كانت أمك آية النهار، وتستطيعين أن تقهري البرودة، وتبعثي الدفء إذا غابت أمك، وتستطيعين أن تبعثي الحياة بحرارتك. وهل الحياة إلا حرارة، وهل الموت إلا برودة؟ •••
ثم أنت بقوتك نفاعة إلى أشد حدود النفع، ضرارة إلى أشد حدود الضرر، فيك الحياة وفيك الموت، هأنذا أستدفئ بك وأحذر القرب منك، وهذا الأكل تنضجينه وتحرقينه، وهذا القطار تسيرينه وتمزقينه.
عد الإنسان اكتشافه لك أجل شيء في حياته وأعظم حادثة في تاريخه، لا يستغني عنك بدوي في بداوته، ولا حضري في حضارته، عرفت المدنية الحديثة طرق استغلالك فقفزت في تقدمها، واتخدتك أكبر وسائلها في بنائها وهدمها، وبؤسها ونعيمها، ورفاهيتها وعذابها، وسلمها وحربها، وهل بنيت المدنية إلا على الحديد والنار؟ ومهما اختلفت الأسماء التي وضعوها لك من فحم وبنزين وغيرهما فأنت أنت التي صيغت من ضوء وحرارة. •••
لقد كنا نحن وأرضنا وما حولنا جذوة منك، فلما بردت قشرتها دبت الحياة فيها وظل باطنها شعلة منك، تنبئ بأصلها وتدل على تاريخها، ومن أجل ذلك كان كل شيء حولنا إما نارا ظاهرة، أو نارا كامنة. •••
لك فوق جلالك وقدرتك جمال عجيب -! وقل أن يجتمع الجلال والجمال والقوة في شيء كما اجتمعت فيك، أدرك الرضيع جمالك فناغاك، وشدت عيناه إلى مرآك، وارتبط جمال الليل بجمال ثرياك، واجتمع فيك سر جمال النور وجمال اللون وجمال الحركة وجمال القوة وجمال الوداعة، تهدئين فتكونين شمعة، وتثورين فتكونين بركانا، وقد أنصف العرب، إذ سموك «النار» قريبا من «النور»، لقرب حقيقتك من حقيقته، وجمالك من جماله. •••
ثم ها هي النار من أكثر ما في الوجود إيحاء وإلهاما، فلأمر ما ارتبطت النار في حياة موسى بنور الوحي
إذ رأى نارا فقال لأهله امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى * فلما أتاها نودي يا موسى * إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى ، ولأمر ما كانت النار معجزة إبراهيم
يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم ، ولأمر ما عظمها اليهود وقالوا: إنها تأكل قربان المخلص ولا تأكل قربان النغل، ثم هي والجنة عدلان تلعب عليهما عواطف الإنسان من خوف ورجاء ورغبة ورهبة، وبفضلها لم نجد تعبيرا خيرا من حرارة الإيمان وحرارة العواطف وحرارة القلب، ولو انعدمت حرارة الإيمان لكان إيمانا جافا، ولو انعدمت حرارة العواطف لتجمدت وماتت، ولو انعدمت حرارة القلب لكان حجرا، إنما يقوم الشاعر بحرارة شعره، والخطيب بحرارة قوله، والأمة بالتهاب وطنيتها، ولا فرق بين الموت والحياة إلا الحرارة، وإذا أظلمت النفس فما أحوجها إلى لمعة كلمعة البرق تضيء جوانبها، وإذا برد القلب فلا يحييه إلا قبس من نار يلهب شعوره، وإذا جمدت عواطف أمة فليس إلا النار والعذاب يحييان مشاعرها، ويبعثان وجدانها.
لم يجد العاشق - أيتها النار - تعبيرا صادقا عما يجد إلا النار ترعى فؤاده، والنار تحرق كبده، والنار تكوي قلبه.
ولم يجد الصوفي خيرا منك ومن النور ولد منهما معاني عجبا. •••
وهنا أحسست أن جسمي أخذ حظه من الدفء، ورأسي كأنه شعلة نار من التفكير في النار، فأطفأت نارها وأطفأت رأسي، وقلت: إلى مخدعي.
العام الهجري الجديد
باسم الله نستقبل هذا العام الهجري الجديد، وباسم الله نرجو أن يكون خيرا من أخيه الراحل، وأن يكون يمنا وبركة وسعادة للإنسانية عامة، وللعالم الإسلامي خاصة، وأن ينظر فيه المسلمون إلى أنفسهم فيعرفوا مواضع الضعف فيها فيقووها، وإلى مواضع القوة فيزيدوها، وأن ينظر العالم الأوربي إليهم نظرة عادلة، فيعلم أن المسلمين قد شعروا بإنسانيتهم فلم يعد في الإمكان أن يستعبدوا، وبصروا بأنفسهم فأصبح من العسير أن يستغلوا، وتجاوزوا طور الصبا فلا بد لكسبهم من إخائهم لا سيادتهم، ومن مساواتهم لا السيطرة عليهم، ومن معاملتهم معاملة الإنسان للإنسان، لا معاملة الإنسان للسلع، وفوق ذلك فتكاليف المدنية كثيرة، والقيام بأعبائها شاق عسير، وتسيير آلاتها يحتاج إلى أيد لا عداد لها، وعقول لا تحصى، فلماذا نضعف المدنية بتسليط قوة على قوة بدل أن تتعاون القوتان؟ ولماذا نضيع الوقت في إذلال نصف السكان لنصفهم الآخر، ولا نضع أيدينا بعضها في بعض للتعاون والتساند؟ ولماذا يخيل لقوم ألا ينجحوا إلا بهدم أممهم للأمم الأخرى، مع أنها صالحة كل الصلاحية لتبني كما بنوا ، وتشيد كما شيدوا؟ والله قد قسم الخيرات على الناس، فكما جعل أرضا صناعية وأرضا زراعية، جعل لعقول الأمم مميزات ولنفوسهم مميزات، ولا شك أن للعالم الإسلامي مميزات تغل الخير الكثير لو استغلت، وتساعد في بناء المجتمع لو استخدمت. •••
جرى العالم الأوربي - إلى عهد قريب - على تنحية المسلمين وإبعادهم عن أن يشتركوا في البناء، ورسم خطة محدودة نحوهم، هي خطة المالك للعمال في مزرعته، وخطة صاحب رأس المال للمنتجين في مصنعه، لا خطة تعاون أصحاب رءوس الأموال، ولا خطة الشركاء في الإنتاج.
لقد غزا العالم الأوربي في القرن الماضي العالم الإسلامي بكل قواه، وبعبارة أخرى غزت قارة أوربا الممالك الإسلامية في آسيا وأفريقيا واستعملت في إخضاعها كل أسلحتها، فالمبشرون ينظمون قواهم لنشر دعوتهم في البلاد الإسلامية، ويتخذون لذلك المستشفيات والمدارس والملاجئ ستارا لنشر دعوتهم، والملحدون يدعون إلى الإلحاد، وينشرون آراءهم في لباقة ومهارة، عارية صريحة، أو تحت ستار من ألوان براقة خداعة، ويأملون أن يتحرر المسلمون من دينهم، فإن ظفروا بذلك فقد ظفروا بنصف المكسب، ورجال السياسة يضعون الخطط لإذلال المسلمين وتحكيم دولهم فيهم، وتسيير الآلات الحكومية في الدول المستعمرة لخدمة الاستعمار، حتى لا يخرجوا قيد شعرة عما رسموا، ولا يفكروا في غير ما خطوا، ورجال الحرب ينفذون ما تشير به السياسة، فمن حدثته نفسه أن يفتح فاه في غير مصلحة الحاكم المستعمر فالويل له، ورجال الاقتصاد من وراء رجال السياسة يدرسون الحالة الاقتصادية للمسلمين دراسة عميقة، ويضعون الوسائل لاستغلالها في مصلحة أممهم، لا مصلحة من يستعمرونهم، فإن عجزوا عن تنفيذها اقتصاديا نفذوها سياسيا أو حربيا، وهكذا.
كان هذا كله، وأكثر من هذا كله، والمسلمون - كانوا - في شغل عن أمورهم، ترضيهم لعب كلعب الأطفال، ويسر كبارهم أن يطعموا أرفه الطعام، ويلبسوا أنعم الثياب، ولا يعنيهم من أمتهم إلا أنفسهم وأولادهم، ثم كانوا - كذلك - كالأطفال في عدم استطاعتهم إدراك المعاني المجردة، فالطفل لا يدرك أبوة ولا أمومة، وإنما يدرك أبا أو أما.
فكذلك هؤلاء، كانوا لا يدركون المعاني وإنما يدركون الأشخاص، فالفكرة لا تقدر في ذاتها، وإنما تقدر بقائلها، ويكفيهم في هذا المجال التنازع على فتات السلطة التي خلفها لهم المستعمر من موائده، والتنازع على الجاه والتنازع على العرض، وكلمات الصالح العام، ومصلحة الأمة، وخير البلاد، ونحو ذلك، كلمات جوفاء تقال على أفواههم ، ولم تسكن قلوبهم، وتقال للتنكيل بخصم سياسي أو للقفز بها إلى الحكم، فإذا حكموا كانوا كسابقيهم، جعجعة ولا طحن، وقول ولا عمل! •••
مضى على هذه الحال أعوام وأعوام، حتى بدأ النائم يستيقظ، وعمل على هذه اليقظة عوامل، من أخطاء ارتكبها الساسة في الحكم، ومن تعاليم أتت مع المدنية الحديثة، ومع الفاتحين في نظم الدولة وحقوق الإنسان، فتسربت إلى القادة، وتقطرت منهم إلى العامة، ومن مبادئ إنسانية عامة أعلنها قادة السياسة في الحرب العظمى، تبين حقوق الإنسان، أو تستعطف الأمم للدخول في صفها، أو تدعو إلى السلم، إلى غير ذلك من أسباب لا أطيل بذكرها.
غير أني لا أنسى هنا أن أذكر بالفضل قوما من المنصفين الأوربيين، وقفوا للدفاع عن الإسلام وعن المسلمين، واستطاعوا بأقوالهم وخطبهم وكتبهم أن يعدلوا كثيرا من الرأي العام الأوربي، فلم يعد الإسلام في نظر كثير منهم - كما كان - ذلك الدين الذي ينفث العصبية والحقد، ولا ذلك الدين الذي لا يصلح للعالم الحاضر ويجب أن يسرع في القضاء عليه قبل أن يموت تدريجا، ولا ذلك الدين الذي ليس له أسس أخلاقية شريفة، ولا ذلك الدين الذي ليس له تأثير في الضمير إلخ، بل تحول كثير من الرأي العام إلى الاعتراف بصلاحية الإسلام للحياة، وابتنائه على أسس أخلاقية قويمة، كما تحول كثير إلى الوقوف على الحياد، بعد أن كان موقفهم موقف عداء، ثم كان من موضع الإعجاب ما ظهر به المسلمون أنفسهم من مناعة نحو تمسكهم بدينهم وبقوميتهم، فلم يلق التبشير الديني ولا السياسي من النجاح ما كان ينتظر! •••
تحرك المسلمون يطالبون بحقوقهم، وسببوا بحركاتهم مشاكل للدول التي تحكمهم، ورأى الساسة أن حكمهم لم يصبح من السهولة كما كان، ورأى الاقتصاديون أن الاستغلال في أراضي المملكة الإسلامية أصبح عسيرا، وأن غفلة المسلمين التي كانت تمكنهم من الاستغلال على أحسن وجه وأيسره قد زالت أو زال أكثرها، فعسر عليهم الإنتاج.
كما صادف أن العالم الأوربي تمزق بالخصومات والعداء، ولم يعد الأوربيون كلهم على اتفاق فيما بينهم، حتى يستطيعوا أن يرسموا خطة واحدة نحو الممالك الإسلامية.
كان من نتيجة ذلك كله أن تحول موقف الدول نحو البلاد الإسلامية تحولا ظاهرا، ورأوا أن يصانعوا المسلمين ويحاسنوهم ولا يخاشنوهم، فكانت المعاهدات المختلفة، للأقطار الإسلامية المختلفة، وإلغاء الامتيازات في الدول التي بقيت فيها، إلى كثير من أمثال ذلك. •••
هذا عرض سينمائي سريع لتاريخ المسلمين الحديث وموقفهم الحديث، ولكن هذا الموقف الجديد يتطلب واجبات جديدة، ويحملهم أعباء ثقالا، فإحداث الثورة أيسر من استغلالها، إذ هدأت، وإشعال النار أسهل من استخدامها في تسيير القطارات وإدارة الآلات، وقد ظل العالم يشعل النار طوال عهوده، ولكنه لم يعرف أن يستخدم البخار إلا في عهده الحديث، وواجبات العبد أيسر من واجبات السيد، ومسئولية الرجل أعظم من مسئولية الطفل.
فالعالم الإسلامي الآن يقف - لأول مرة - بعد العصور المظلمة - على رجليه، ويحاول أن يدير حكومته بنفسه، ويتحمل غلطاته، ويفخر بحسناته، وقد أصبح لأول مرة في العصور الحديثة عقلا يدبر بعد أن كان يدا تدار، وأمسك بيده المصباح، فإما أن يضيء به منزله إذا أحسن استعماله، وإما أن يحرقه إذا أساء استعماله، ووقف الآن يحمل أوزاره وأوزار آبائه، وديونه الثقيلة وديون آبائه، فكان الأمر جدا لا لعب فيه، وميدان جهاد لا مسرح مهزلة.
وإن أبواب الجهاد عديدة ليس شيء منها أولى من شيء، وقد علمنا الإسلام في تعاليمه الأساسية الأولى أن نعد أنفسنا ما استطعنا من قوة، نتسلح بالعلم كما تسلح القوم بالعلم، ونتسلح بالأداة الصالحة للحكومة كما تسلحوا، ونتدرع بتنفيذ العدل الدقيق كما تدرعوا، وبوحدة الأحزاب عند الخطر كما توحدوا، وبالاستعداد للطوارئ كما استعدوا، وفوق ذلك نتقوى بالخلق كما تقووا.
فأما أن يترك العالم الإسلامي بيوته فوضى، ويتنازع على الرياسة أو على من يمثله في المجتمعات والمؤتمرات، وأما أن تتحارب أحزابه لا للمصلحة القومية، ولكن لتولي الحكم، وأما أن يبذر أمواله على أنواع الترف والكماليات، وهو في أشد الحاجة إلى الضروريات، وأما أن يسير في آلاته الحكومية على أساس المحسوبيات والشهوات لا على أساس العدل الدقيق، وأما، وأما ... فضرب من العبث إن اغتفر في الماضى فهو أكبر أنواع الإجرام في الحاضر.
إن موقفنا اليوم موقف التاجر يمارس التجارة لأول عهده، وموقف الشاب أونس منه الرشد فرد إليه ماله وروقب كيف يتصرف، ولسنا في عزلة عن العالم نفعل كما نشاء، وإنما نقف على مسرح نظارته كل العالم، وليس لدينا من القوة العلمية والأدبية والحربية ما يحمل العالم على أن يغفر لنا خطايانا ويغمض طرفه عن زللنا، ويقف العالم منا موقف الرقيب ماذا نصنع والراصد ماذا نعمل، وفي أعناقنا تبعاتنا وتبعات أبنائنا من بعدنا.
فلنجعل العالم يهابنا في إجلال، ويحترمنا كصديق، ويعاملنا كشريك، ولا يمس حقوقنا لقوتنا، ويفسح لنا في بناء المدنية لقدرتنا، ويؤمن - بأعمالنا لا بأقوالنا - بأن لنا مجدا قديما أتبعناه بمجد حديث، ولنسمع من لم يسمع أن المسلمين لم تمتهم الأحداث الثقال، وإنما أنامتهم ثم انتبهوا، وخدرتهم ثم انتعشوا، وأنهم منذ انتبهوا عملوا مع العاملين وجدوا مع الجادين.
هذا، أيها العام الجديد، رجاؤنا فيك وأملنا منك، فكن صفحة مجيدة يسجل فيها العالم الإسلامي نبل فعاله وخير أعماله، وكن لهم منارا حتى يهتدوا بضوئك ويأنسوا بنورك ويبددوا ما يحيط بهم من ظلام، ويضطلعوا فيك بأعبائهم الجسام، حقق الله الآمال.
الخصومة في الأدب
كانت الخصومة بين الأدباء دائما نعمة على الأدب وإن كانت نقمة أحيانا على الأدباء أنفسهم.
فالخصومة - أول الأمر - في كثير من الأحيان هي التي تنتج الأديب وتهيج مشاعره، وتطلق لسانه، وفي تاريخ الأدباء الشيء الكثير من ذلك، فقديما كان الشاعر العربي يهجو القبيلة ويعيرها ويجسم مثالبها ويقلب حسناتها سيئات، فتتلفت يمنة ويسرة تنظر من يدافع عنها، ويصد كيد عدوها، فتفعل هذه اللفتة في المستعد المتهيئ فعل السحر، فإذا للقبيلة من يروض نفسه على القول، ويعدها للنضال ويطلق لسانه بالقول، وإذا هو شاعر، ولولا هذا الهجاء وهذه الخصومة لكان إنسانا كسائر الناس لا شاعرا كسائر الشعراء، وحديثا سمعنا أن «عبد الله نديم» أطلق لسانه بالقول رجل دعاه ليعلم أولاده ثم أكل عليه أجره، فأخذ يعمل لسانه في هجوه فإذا هو هجاء، وإذا هو أديب، وإذا هو كاتب وشاعر.
ثم الخصومة هي التي أورثتنا بابا كبيرا من أبواب الأدب هو باب الهجاء، فلولا الخصومة ما كانت لنا نقائض جرير والفرزدق ونقائض جرير والأخطل، ولا كانت أهاجي بشار وأبي نواس وابن الرومي وغيرهم من الهجائين، وكثير ما هم، ولحرمنا ما أبدعوا في هجائهم من صور فنية هي غاية في الروعة والإتقان، تثير في النفس الهزء والسخرية حينا، والضحك حينا، والإعجاب من مصورها حينا، ولو فقدت هذه الصور لكانت كارثة على الأدب ولفقد ركنا كبيرا من مقوماته.
ثم هذه الروايات الكثيرة في الأدب الغربي التي وضعت لنقد كاتب والهزء به وبآرائه، والتي وضعت لنقد فكرة والسخرية بها وبواضعيها ومؤيديها - كل هذه ما كانت تكون لولا الخصومة الأدبية، وكلها ثروة كبيرة من ثروة الأدب لا غنى عنها، ولا حياة له بدونها.
وبعد هذا كله فما النقد؟ أليس هو خصومة، شريفة أحيانا وغير شريفة أحيانا؟ إن كان النقد في قليل من أوقاته مدحا وتقريظا فهو في كثير من أحيانه عيب وتجريح.
وليس يشك شاك في نعمة النقد على الأدب، فهو الذي بخصومته يهاجم الأدباء في شدة وعنف فيبين أغاليطهم، ويوضح ضعفهم، ويظهر عيوبهم، فإذا هم حذرون يجيدون، خوف النقد، ويحاولون أن يتبرءوا من العيوب، خوف النقد، وينشدون الكمال، خوف النقد، فإذا خرج نتاجهم كاملا أو قريبا من الكمال فالفضل في ذلك للنقد.
وفي كل عصر تنشأ خصومة حادة عنيفة بين رجال الأدب من أنصار القديم وأنصار الجديد يتجادلون ويتسابون، وجدالهم وسبابهم أدب، وينقسم الناس إلى معسكرين: أنصار المجددين وأنصار المحافظين، ويحمل كل فريق أقلامهم فيجيدون ويمتعون، فيكسب الأدب من هذه المعارك مكسبا مزدوجا، مكسبا من ناحية ما يقال في هذه المعارك من هجاء وتعنيف وسب وخصام، ومكسبا من ناحية ما يكسبه المجددون - غالبا - من توجيه الأدب وجهة جديدة، وإدخال عناصر فيه جديدة، ولولا ذلك لظل هيكل الأدب كهيكل الأهرام تمر عليها الدهور والأعوام وهي هي في شكلها ومادتها، ولكان أدبنا اليوم هو الأدب الجاهلي، ولكان أدب الغرب اليوم هو أدب القرون الوسطى، فلولا ثورة المجددين والخصومة بين الأدباء لما تقدم الأدب خطوة، ولظل على حالته كما تركه الأولون ... هذا في إجمال نعمة الخصومة على الأدب. •••
ثم إن الخصومات بين الأدباء هي من جنس الخصومات بين ذوي المركز الواحد أو أهل الصنعة الواحدة.
هي من جنس الخصام بين الضرائر، فالضرة تخاصم الضرة؛ لأن كلتيهما تتنازع قلب الزوج، وتريد أن يكون لها السلطان عليه كاملا، وهي من جنس الخصام بين الزوجة والحماة؛ لأن الحماة تدل بأمومتها وكبر سنها، والزوجة تدل بجمالها وشبابها وغير ذلك.
وهي من جنس الخصومة بين ذوي الصنعة الواحدة، فالنجار قل أن يحب النجار، والحداد قل أن يحب الحداد، والتاجر في نوع من السلع قل أن يحب التاجر في هذا النوع، وكلما قرب الشبه اشتد النزاع، فالنجار في حي من الأحياء أشد كراهية للنجار في حيه من النجار في غير حيه، وتاجر الغلال أشد كراهية لتاجر الغلال منه لتاجر القطن، والسبب في ذلك تسابقهم إلى اكتساب «الزبائن»، فكل يريد أن يستولي على السوق، وينفرد بالمكاسب، ويستبد بحسن السمعة والجاه، فإذا شعر بأن هناك من يزاحمه في هذا انتقصه وكرهه وعمل على إخماد أنفاسه، ولذلك كانت كراهية التاجر العظيم للتاجر العظيم أشد من كراهيته للتاجر الصغير؛ لأنه كالآمن من ناحيته، المطمئن إلى أنه لا يبلغ شأوه.
فالخصومة بين الأدباء من هذا الصنف، ولذلك قل أن تجد خصومة بين أديب وعالم أو أديب وموسيقي؛ لأن ميدان السباق بينهما مختلف، إنما يخاصم الأديب الأديب؛ لأنهما من واد واحد، ويريد كل أن يكون له السوق وحده، فإذا شعر من أحد أنه يزاحمه في ميدانه خاصمه وهجاه، وقلل من شأنه وشأن أدبه، وفعل الآخر مثله، فكانت النقائض والمهاجاة ونحو ذلك، وعلى قياس ما سبق كلما كانت درجة الأدباء متقاربة كانت الخصومة بينهم أشد، والمهاجاة أعنف، وقد يتصافى الأديبان ظاهرا ويتخاصمان باطنا، فتكون الخصومة دفينة تنتظر عود الثقاب ليشعلها، وقد يمر زمن طويل قبل أن يشتعل هذا العود، وكلما زاد أحد الأدباء حظوة عند القراء أو أخرج كتابا أقبل عليه الناس، ازداد خصومه غيرة فراحوا يقللون من شأن نتاجه، ويتمحلون الأسباب في انتقاصه، وقد تتكون حول كل أنصار وحول كل خصوم فيكون النزاع بين جماعات لا بين أفراد.
ولكن من الحق أن نقول: إن الغيرة ليست كل شيء في الموضوع، فقد تكون تربية الأدباء وثقافتهم سببا في الخصومة بينهم، هذا أديب نشأ نشأة عربية خالصة، ولم يقرأ إلا لشعراء العرب، ولم يطلع إلا على الكتب العربية، فعنده أن الأدب الغربي تافه ثقيل الظل، وخير مثال يحتذى هو أسلوب الجاحظ أو أسلوب البديع أو شعر المتنبي أو أبي تمام، وهذا أديب أخذ حظه من أدب الغرب، ومزج بين الثقافتين وفضل الأدب الغربي على الأدب العربي، وصار المثل الأعلى له أن يحاكي شكسبير أو لامارتين أو جوته، فهو يريد أن يطعم الأدب العربي بخير ما في الغربي، ويريد أن يجدد في بحور الشعر وفي موضوعاته وفي ميادينه، فتنشأ الخصومة العنيفة، وهي في الواقع خصومة بين مدرستين ونزاع بين مذهبين؛ هذا يتعصب للقديم ولا يريد أن يتحول عنه أنملة، ويريد أن يتبع عمود الشعر كما كانوا يعبرون، وهذا ثائر لا يرضى عن القديم إلا أن يمزجه بجديد، وقد كانت هذه الخصومة في كل عصر تقريبا، عاب الناس على أبي تمام تجديده ونصره قوم، وهاجم العقاد والمازني شوقيا وحافظا لهذه النزعة بعينها ونصرهما آخرون، وسيصبح الحديث قديما ويعيبه جيل المستقبل ويريدون جديدا، وهكذا سنة الله في كل شيء حتى في الأدب.
وسبب آخر في الخصومة كثيرا ما يحدث، وهو الخصومة بين شيوخ الأدب وشباب الأدب، وهي خصومة - لا شك - واقعة، غاية الأمر أن المسألة ليست بالسن، فقد يكون شيخا وهو من أدباء الشباب ، وقد يكون شابا وهو من أدباء الشيوخ؛ لأن المسألة ليست تقدير عمر، إنما هي نزعة، والنزعة إلى التجديد قد يشترك فيها شيوخ وشبان، والنزعة إلى المحافظة قد يشترك فيها شيوخ وشبان.
والخصومة بين الشيوخ والشبان ترجع إلى عوامل مختلفة: منها: هذا الذي ذكرنا من اختلاف النزعات، ومنها: أن الشبان قد يكرهون من الشيوخ استيلاءهم على السوق وكثرة الزبائن فينفسون عليهم ذلك ويريدون أن يهدموهم ليحلوا محلهم، ويدافع الشيوخ عن مراكزهم فتكون المعركة مروعة تختلف فيها الأسلحة وآلات القتال، وقد يكون السبب أن الشاب إن كان ناشئا في الأدب رأى من وسائل شهرته أن ينازل شيخا، فإن ظفر به فقد فاز فوزا عظيما؛ إذ غلب عظيما، وإن لم يظفر به فليست هزيمة منكرة، ويكفيه فخرا أنه ناوشه، فهو كاسب على كل حال.
وبعد، فكل الناس يتخاصمون، تاجر يخاصم تاجرا، وصانع يخاصم صانعا، ورب أسرة يخاصم رب أسرة، وأمة تخاصم أمة وتقاتلها، ولكن الأدب هو الذي يظفر بتخليد خصومته، فقد ذهبت كل الخصومات في العهد الأموي وبقيت خصومة جرير والفرزدق، وذهبت خصومات الناس في العصر العباسي وبقيت خصومة الخوارزمي والبديع، وخصومة المتنبي وأعدائه، وهكذا.
وكم تساب الناس وذهب سبابهم، أما سباب الأدباء فباق خالد، وهو طرفة، وهو إبداع، وهو يثير التبسم ويستخرج الضحك أو الإعجاب، وسبب ذلك أن الأديب طويل اللسان، وقلمه أطول من لسانه، وهو ماهر فنان يستطيع أن يصوغ سبابه في قالب فني يكسبه الخلود، أما سائر الناس فمساكين، إما قصار اللسان، وإما طواله، ولكن ليست لهم القدرة الفنية.
الرمز في الأدب الصوفي
تدور العقيدة الصوفية على فكرة «وحدة الوجود»، فليس العالم والله شيئين منفصلين، وليس الله في السماء وحدها ولا في الأرض وحدها، بل هو في كل شيء، بل هو كل شيء، وليس هناك محب ومحبوب، وعاشق ومعشوق، بل المحب والمحبوب واحد، يختلفان في المظاهر والأحوال، ويتحدان في الحقيقة؛ وكل شيء في العالم له مظهر فان متغير متقلب، وله مخبر دائم باق لا يتغير، ونفس الإنسان كذلك: نفس ناقصة فانية ظاهرة، ونفس كاملة باقية باطنة، والنفس الأولى تشق الطريق لتحقق نفسها الثانية، فتتحد بالحقيقة وتنشر بها وتفنى فيها، وسمى الصوفي هذا المسلك «طريقا» أو «طريقة»، وسمى نفسه «سالكا»، وسمى المسافات التي يقطعها فيقف عندها للاستجمام «مقامات»، وسمى الغرض الذي يقصده من سلوكه وهو اتحاد نفسه بالحقيقة، وبعبارة أخرى اتحاد ذاته بالله «الفناء في الحق»، وقد رسموا «خرطا» لهذا الطريق، وتعددت «خرطهم» بتعدد أنظارهم، وسموا كل مرحلة وكل مقام باسم، فهي عند بعضهم مقام التوبة، ثم مقام الورع، ثم مقام الزهد، ثم مقام الفقر، ثم مقام الصبر، ثم مقام التوكل، ثم مقام الرضا، وفي كل مقام من هذه المقامات يقف السالك فيشعر بمشاعر نفسية خاصة سموها «الأحوال»، فحال الخوف، وحال الرجاء، وحال الشوق، وحال الأنس، وحال الطمأنينة، وحال المشاهدة، وحال اليقين، إلخ، ولا بد للسالك أن يستوعب كل مرحلة من هذه المراحل ويؤقلم نفسه بها ليستعد للمرحلة التي تليها، حتى يصل في النهاية إلى حالة اتحاد بالعالم وبالله، فيستحق بذلك أن يسمى «عارفا» ولا بد للسالك أن يقوده «شيخ» في هذه الطريقة الوعرة حتى لا يضل المسلك.
وليس المقام مقام تفصيل لتعاليمهم وعقائدهم، وإنما نريد أن نقول: إنهم بتعمقهم في هذا المبدأ الذي ألممنا به إلماما بسيطا قد أقاموا أنفسهم في عالم غير العالم المادي الذي يعيش فيه غيرهم، فلهم لغة خاصة بهم ومسميات لا يعرفها إلا هم، ولكنهم فعلوا في اللغة كما فعل كل العلماء في اللغة العربية، فأخذوا الألفاظ العربية وأطلقوها على مدلولات خاصة كما فعل النحاة بالفاعل والمفعول والمبتدأ والخبر والجار والمجرور، ونحو ذلك من ألفاظ كان يستعملها العرب في مدلولات عامة فأخذها النحاة ووضعوها لمصطلحات خاصة، حتى إن العربي القح لم يكن يفهمها في معاني النحاة، وهكذا الشأن في البلاغة والعروض والفلسفة، غير أن هناك فرقا كبيرا بين المتصوفة وغيرهم، فالأوضاع النحوية والصرفية والبلاغية لها مدلولات ترجع إلى العقل في تفهمها، أما المصطلحات الصوفية فلا ترجع إلى العقل، وإنما ترجع إلى الذوق، ولهذا لا يفهمها أحد بعقله فهما صحيحا، إنما يفهمها من تذوقها ووقف في المقام الذي يقف فيه المتصوف، والفرق بين العاقل والمتذوق كالفرق بين شخصين أحدهما لم يذق الكمثرى قط فوصفت له وصفا لفظيا علميا، وشخص ذاقها وعرف الفروق الدقيقة بين مذاقها ومذاق الموز والتفاح ، فاستعمل شعراء الصوفية ألفاظ الشعراء الغزلين من «ليلى» و«الخمر» والوصل والعناق والهجر والعذال، واتخذوها رموزا لأحوالهم ومقاماتهم، وكان لهم من ذلك كله أدب رمزي بديع غريب، يمتاز عن غيره من الأدب بروحانيته وصفائه، كما يمتاز بغموضه وخفائه.
والسبب في الغموض والخفاء أن الشاعر المادي إذا وصف خمرا أو لوعة حب أو هجرا أو وصالا، فإنما يصف عواطف يدركها الناس وهي في متناولهم، أو بعبارة أخرى هي قدر مشترك بينهم، فكل الناس أحب، وكل ذاق لذة الوصل وألم الهجر، أما الصوفي فيعبر عن مقام يقفه وحال غلبت عليه، فوصف مقامه وحاله بحيث لا يفهمه إلا من كان في موقفه وحاله، أو كان قد قطع هذه المرحلة إلى مرحلة أبعد منها مدى، ومن أجل هذا لا يفهم الصوفي إلا الصوفي، بل قد لا يفهم الصوفي الصوفي إذا سلك كل منهما مسلكا خاصا أو كان الصوفي الشاعر في مقام بعيد عن مقام الأول، ومن أجل هذا شرح بعضهم قصائد بعض المتصوفة، فكان الشرح غامضا كالأصل، وصاحب القصيدة معذور كل العذر؛ لأنه في حال لا يجد فيها ألفاظا تعبر عما في نفسه في وضوح وجلاء، وهناك سبب آخر قد يدعو إلى الغموض، وهو أنه في حال لو أوضح ما في نفسه لرماه من يفهمه بالكفر والإلحاد.
على كل حال يمتاز الأدب الصوفي بأنه أدب رموز من ناحيتيه القابلة والفاعلة، فهو يفهم مظاهر العالم على أنها رمز، والعالم عنده لا يختلف عن أحلام النائم، فكما أن الحلم يعرض حوادثه عرضا رمزيا فكذلك العالم كل ما فيه رمز، فكل ما يقع تحت عينه وما يسمع بأذنه، وما يتصل بجميع حواسه رموز يستنتج منها ما يغذي عواطفه ومشاعره، وبذلك انفتح أمامه عالم غريب الأطوار مملوء بالجمال، مفعم بالتخيلات، حتى كأن كل شيء - ولو كان صغيرا - كتاب ملئ علما، أو لسان ينطق دائما بالحكمة، هو في العالم دائما يقرأ ولا مقروء، ويسمع ولا مسموع، ويستخرج من الحبة قبة، ومن القطرة بحرا خضما، يقرأ في كل حادثة نفسه وعالمه وربه، ويفسرها تفسيرا يتفق ومزاجه وحاله.
وهذا الأدب الرمزي والدين الرمزي والحكمة الرمزية نزعة كانت في الإنسان منذ القدم، فالديانة المصرية القديمة مملوءة بالرموز الدينية، وكذلك ديانة الهنود والفرس الأقدمين، ترمز إلى الحقيقة في بعد وخفاء، والمثيولوجيا اليونانية ليست إلا رموزا لما كانوا يرون من حقائق، وكثير من شعائر الأديان إنما وضعها فلاسفة متصوفون رمزوا بها إلى بعض الحقائق، فأتى العامة الجهلة، وظنوا الرموز حقائق، فما الأصنام ولا النجوم ولا نقوش المصريين في عباداتهم ولا كثير غيرها إلا رموز أتى عليها الزمن فنسي أصلها وعبدت ذواتها، وجرى كثير من الفلاسفة على هذا النحو، فيحكى عن فيثاغورس اليوناني أنه كان يكثر من الكلام الرمزي، ليدل به على الحقيقة، وكذلك كان من بعده أفلوطن.
ولهذا الأدب الرمزي جماله، فهو يمتاز بأنه جمال مقنع تدركه ولا تلمسه، وتتخيله ولا يسمح لك أن تحدق فيه، فهو جمال تنظره وكأنك لا تنظره، وتسمعه وكأنك لا تسمعه، وتعرفه وكأنك لا تعرفه، قد خلع عليه الخفاء جلالا فكان جميلا جليلا معا، تسمعه فتلتذ له وتترنم به، فإذا أردت أن تقبض عليه قبضت على هواء، ليس لكلماته مدلول محدود، ولا لمعانيه حدود، وإنما هو إمعان في اللانهاية، وسبح ولا غاية.
يرى الصوفي أن لكل ظاهر باطنا، وفي كل شيء إشارة، وفوق السطح عمقا، ووراء القناع جمالا فاتنا، ويتيه عجبا على الناس، إذ فهم ولم يفهموا، وغنى لهم ولم يطربوا، ويرى أن العقل حجاب يحجب النفس عن إدارك الجمال، وأن كشف هذا القناع إنما هو بالذوق والإلهام، لا بالمنطق والقضايا والأحكام.
وبهذا النظر نظر الصوفي إلى العالم، فسمى الحقيقة ليلى وسعدى، وأعجب بالخمر وتغنى بها، ورأى في الخمر معاني ليست في غيرها، فهي رمز إلى رقي النفس وتساميها، فالنفس ترقى بالفناء في الحقيقة كما تنشأ الخمر بفناء العنب، فيكون شيء من شيء، ويختلف الشيئان والأصل واحد، وإذا خرجت الخمر من العنب بقيت إلى الأبد وصلحت بمرور الزمان، على حين أن العنب نفسه لا يصلح للبقاء، فكذلك النفس إذا تجردت من مادتها الفاسدة ونزعت إلى الكمال صلحت للبقاء، ولم يعتورها فناء، وكلما مرت عليها السنون والأعوام زادت نقاء، ورقت صفاء.
وهكذا ولد الصوفية من كل شيء أشياء، ورأوا في كل مادة رمزا لمعان لا عداد لها، وبنى آخرهم على ما أتى به أولهم.
ونظروا إلى الدين نظرهم إلى كل ما في العالم، فكل آية في القرآن رمز، وكل حديث له تأويل، فليسوا يفهمون من الآيات ما يفهم الناس، ولا من الأحاديث ما يفهم الناس.
إن شئت مثلا لذلك فخذ ما فهموا من حادثة شق صدر النبي
صلى الله عليه وسلم
فعلماء السيرة يرون أنه
صلى الله عليه وسلم
شق قلبه وهو مع رابته ومرضعته في بني سعد، وأنه جيء بطست من ذهب فيه ثلج فغسل به قلبه، إلى آخر ما رووا، والصوفية لا يفهمون هذا إلا على أنه رمز؛ فقلب الإنسان قد ران عليه الخوف والشهوة والطمع وغير ذلك من السيئات، فأراد الله أن يذهب عنه الرجس ويطهره تطهيرا، فأبعد عنه ما غشي قلوب الناس، وفتح قلبه ونقاه من كل سوء حتى يستعد للنبوة، فرويت هذه القصة وفهمها العامة حقيقة، وفهمها الخاصة رمزا.
وهكذا كان شأنهم فيما عرض عليهم من العالم ومن الدين ومن الأدب، وهكذا كان شأنهم فيما أنتجوا من دين وأدب - عاشوا في حلم لذيذ من حب وتضحية، ونعموا بما قرءوا في العالم من رموز، وأخذوا أدب الأدباء وشعر الشعراء فنقلوه إلى أحوالهم ومقاماتهم، فطربوا لشعر مجنون ليلى وأبي نواس وفسروه بليلاهم وخمرهم، فلما شعروا هم أسبغوا على شعرهم من معانيهم ورموزهم، فكان لنا من ذلك كله نوع من الأدب طريف، أرجو أن أعرض لتفصيله فيما بعد.
خداع النفس
هل علمت أن العين تخدع فتريك الشمس في حجم الرغيف، والقمر في مقدار الكرة، والنجم كجذوة نار، وتريك المتساويين غير متساويين، وغير المتساويين متساويين، وهكذا الشأن في الحواس كلها، يخيل إليك أنك تسمع ما ليس له وجود، ولا تسمع ما له وجود، وتغمس إحدى يديك في ماء بارد والأخرى في ماء حار، ثم تغمسهما في ماء دافئ، فتريك الأولى أن الماء حار، وتريك الأخرى أنه بارد، وهكذا من أمثلة لا تعد ولا تحصى؟
وهل علمت أن الناس يخدعون الناس، فيحتال محتال ويهرج مهرج، ويظهر الرجل بمظهر السياسي الكبير، وليس في حقيقته سياسيا ولا كبيرا، ويظهر الآخر بمظهر العالم المحقق، وليس عالما ولا محققا، وتمر أمام أعيننا مناظر من الخداع لا عد لها، تشبه الحاوي في لعبه، والممثل في روايته؛ غني يتصعلك، وفقير يتغنى، وعيي يتفاصح، وماجن يتواقر، وفاسق يتصالح؟
ليس هذا ولا ذاك شيئا بجانب خداع النفس للنفس، وكذب النفس على النفس. هذا كل إنسان تقريبا يستصحب نفسه منذ صباه وشبابه، فلا يقر بشيخوخته وهرمه، فيرى نفسه شابا مهما تجعدت أسارير وجهه، ومهما دب الضعف في جسمه.
وهذه المرأة - دائما - تخدع نفسها بالجمال وبالصغر، مهما حسبت عمرها، ومهما رأت كبر أبنائها وبناتها، ومهما نظرت في مرآتها، فترى آية القبح آية جمال، وتقرأ علامات الكبر علامات الصغر، وتغالط نفسها في عمرها، لا خداعا للناس فحسب، بل خداعا لنفسها أيضا، حتى لتؤمن بما كذبت، وتصدق بما ادعت، وتجعلها حقيقة ما توهمت.
وهؤلاء المؤلفون والمصورون والموسيقيون والأدباء والشعراء، يرون أجمل ما في الوجود ما ألفوا، وخاصة آخر ما أبدعوا، والفنانون بما منحوا من خيال واسع وتصور عريض يستعملون خيالهم في نتاجهم، فيتخيلون أنه بعيد المنال، قد بلغ حد الكمال، إن نقص أسلوبه فهو بديع المعاني، وإن أعوزته الحقيقة فهو بديع الخيال، وعلى كل حال فهو وليد النبوغ، تتجلى فيه العبقرية ويمتاز بالسمو، إن عابه الناس فالعيب في ذوقهم، وإن نقدوه فالفساد في ميزانهم، يأكل قلوبهم الحقد، وتفسد حكمهم الغيرة.
سبحان الله! حتى مشتري السلعة - ومثلها عند البائع كثير - لا خير مما اشترى ولا أجود مما اقتنى: سجائره أحسن السجائر ولو رخصت، وثيابه خير الثياب ولو عيبت، والتاجر إنما اصطفاه بها؛ لأنه صديقه، وأكرمه في ثمنها؛ لأنه يحرص عليه، وفستانها خير الفساتين؛ لأنه اختير بذوقها، وخيط بإرشادها، إن عيب الشيء بنسجه اطمأن الشاري لحسن منظره ورخص سعره، وإن عيب بمنظره اعتذر بحسن نسجه وقوة متانته، كالمرأة لم يعجب منظرها فتعزت بخفة دمها، وطعن في خفة دمها فاحتكمت إلى منظرها.
ما أظلم النفس تنقد الصغير في غيرها ولا تنقد الكبير في نفسها، وتزن بميزانين، فتبالغ في تحري العيوب إذا وزنت لغيرها، وتبالغ في تحري المحاسن إذا نظرت إلى ذاتها! ف
ويل للمطففين * الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون * وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون . •••
في السنين الأولى من حياة الطفل - وخاصة الثالثة والرابعة - يبدأ يشعر بذاته، وتبتدئ في الظهور شخصيته، ويأخذ رويدا رويدا يحدد موقفه من العالم، وتظهر عليه الأعراض الأولى منبئة بما سيصير إليه شأنه مع الدنيا، من تشاؤم وتفاؤل، وأمن أو خوف، وأنس أو وحشة، وأهم من ذلك التفاته إلى نفسه وشعوره بها، وإعظامه لها، واهتمامه بشأنها، وهذه النظرات الأولى لنفسه ولعالمه تكاد تلازمه طول حياته، وتحدد نوع أخلاقه مع ما يدخل عليها من تعديل بعوامل التأثير.
بهذه النفس - المتكونة تحت ظروف خاصة من وراثة وبيئة - ينظر الإنسان إلى العالم، فليس ينظره كما هو، بل ينظره من خلال نفسه، كمن يضع على عينيه منظارا أسود أو أصفر أو أزرق، فهو ينظر الدنيا من خلاله بلون نفسه، ويفسر الأحداث تبعا لمنظاره، ويقوم الأشياء بميزان شخصيته، وينظر إلى الأعيان لا حسبما هي في الخارج، ولكن حسبما لونتها نفسه، كالثوب تغمسه في لون من الصبغ فيظهر بلون ما صبغته، وكزجاجة المصباح تظهر نوره أحمر أو أزرق، حسب لونها لا حسب لونه، والفيلسوف والأبله تقع عيناهما على شيء واحد، فيرى الفيلسوف فيه معاني جمة، ولا يرى فيه الأبله شيئا، وليس عيبه في عينه ولكن في نفسه، والعالم وكلبه ينظران إلى صفحة في كتاب، هذا ينظر فيفهم، وهذا ينظر ولا يفهم.
من أجل هذا اختلف الناس في حكمهم على الأشياء وفي تذوقهم لها، وفي سلوكهم نحوها، ومن أجل هذا آمن المؤمن وكفر الكافر، ومن أجل هذا نبل النبيل، وسخف السخيف، وصلح الصالح، وفسد الفاسد.
فالمنظور واحد ولكن الناظر متعدد، والحق واحد والآراء مختلفة.
قد يبالغ الإنسان في تقويم نفسه - وهو الأغلب - فيمنحها من الأهمية في العالم ما ليس لها في الحقيقة، ويرى كأن الدنيا لا تنتظم إلا به، ولا تسير إلا بنفسه، وإنه - في حقيقة أمره - ليس إلا ملكا متخفيا، ويبالغ الصوفي في احتقار نفسه، فهي ليست شيئا، ولا قيمة لها في حياتها أو مماتها، ثم ينظر كل من هذا وذاك إلى العالم على أساس هذا الاعتقاد، ويختلفان اختلافا تاما في تقويم الأشياء، وقل من يعرف نفسه على حقيقتها، ويقومها حق قيمتها.
ثم خداع النفس هذا قد يكون عاما، وقد يكون خاصا كالجنون، بعضه كلي وبعضه فرعي، فيحدثنا الأطباء أن من المجانين من هو مجنون في كل شيء، ومنهم من هو مجنون في شيء خاص، فهو عاقل في كل شيء، ولكنه يعتقد أن له إصبعا من زجاج، أو هو إنسان مألوف في كل شيء إلا في عقيدته أنه ملك سلب ملكه ونحو ذلك، وهذا هو الشأن في النفوس، قد تخدع النفس نفسها في كل شيء، في العلم والمال والخلق، وقد تكون عاقلة حكيمة، إلا فيما يتصل بعظمتها، فهي لم تتبوأ مركزها في الوجود، ولم يقدر الناس ما لها من قيمة، وقد يكون خداع النفس منصبا على الشئون المالية وحدها، فهو حريص كل الحرص، يخدع نفسه بالخوف من الفقر، والخوف من الاغتصاب، وهكذا الخداع فنون، كما أن الجنون فنون، وكل الناس خادع لنفسه، ومخدوع بنفسه، إلا من رحم ربك، وقليل ما هم.
1 - من صور الحياة
2 - مع الطير
3 - حوار في أسرة
4 - سلطان العلماء (1)
5 - سلطان العلماء (2)
6 - سلطان العلماء (3)
7 - نظرة في الكون
8 - أول ثورة على التربية في مصر
9 - في الهواء الطلق (1)
10 - في الهواء الطلق (2)
11 - قصتان طريفتان
12 - الربيع
13 - المتنبي وسيف الدولة (1)
14 - المتنبي وسيف الدولة (2)
15 - فلسفة القوة في شعر المتنبي
16 - تحية العيد
17 - رد الصديق
18 - فارس كنانة (1)
19 - فارس كنانة (2)
20 - فارس كنانة (3)
21 - فارس كنانة (4)
22 - ألعصا أم القضا؟
23 - العلم والدين1
24 - الإيمان بالله
25 - الحياة الأخرى
26 - مستقبل الدين
27 - ابن الشبل البغدادي وأبو العلاء المعري
28 - نزعة صوفية ومزاج رمزي (1)
29 - نزعة صوفية ومزاج رمزي (2)
30 - نزعة صوفية ومزاج رمزي (3)
31 - ست النساء1
32 - الخوف
33 - الأدب الاجتماعي
34 - جمال الدين الأفغاني
35 - حب الهجرة
36 - بساطة العيش
37 - في المدرسة
38 - في الهواء الطلق (3)
39 - أدب الابتهال
40 - محمد رب بيت
41 - ثلاث رسائل للمؤلف
1 - من صور الحياة
2 - مع الطير
3 - حوار في أسرة
4 - سلطان العلماء (1)
5 - سلطان العلماء (2)
6 - سلطان العلماء (3)
7 - نظرة في الكون
8 - أول ثورة على التربية في مصر
9 - في الهواء الطلق (1)
10 - في الهواء الطلق (2)
11 - قصتان طريفتان
12 - الربيع
13 - المتنبي وسيف الدولة (1)
14 - المتنبي وسيف الدولة (2)
15 - فلسفة القوة في شعر المتنبي
16 - تحية العيد
17 - رد الصديق
18 - فارس كنانة (1)
19 - فارس كنانة (2)
20 - فارس كنانة (3)
21 - فارس كنانة (4)
22 - ألعصا أم القضا؟
23 - العلم والدين1
24 - الإيمان بالله
25 - الحياة الأخرى
26 - مستقبل الدين
27 - ابن الشبل البغدادي وأبو العلاء المعري
28 - نزعة صوفية ومزاج رمزي (1)
29 - نزعة صوفية ومزاج رمزي (2)
30 - نزعة صوفية ومزاج رمزي (3)
31 - ست النساء1
32 - الخوف
33 - الأدب الاجتماعي
34 - جمال الدين الأفغاني
35 - حب الهجرة
36 - بساطة العيش
37 - في المدرسة
38 - في الهواء الطلق (3)
39 - أدب الابتهال
40 - محمد رب بيت
41 - ثلاث رسائل للمؤلف
فيض الخاطر (الجزء الرابع)
فيض الخاطر (الجزء الرابع)
مقالات أدبية وإجتماعية
تأليف
أحمد أمين
الفصل الأول
من صور الحياة
وسط في ثقافته وعقله، وسط في خلقه، ولكن آتاه الله بسطة في المال، وقوة في الجاه، وحظا في مباهج الحياة، له المزارع الواسعة بحيواناتها وآلاتها، تغل عليه خيراتها، وله القصر الفخم على البحر يتخذه مصيفا، وعلى حافة الصحراء يتخذه مشتى؛ ما اشتهى شيئا إلا كان لديه حاضرا، فالمال لا يعز عليه شيء، كل الناس مسخرة له، تنفذ إشاراته وتمجد إرادته، سواء منهم من انتفع بغناه ومن لم ينتفع، طلبه نافذ بين رجال الحكومة لجاهه، وفي بلده لماله، وعند من لم يعرفه لمنظره الفخم ورنة صوته التي توحي بالعظمة والسلطان، استطاع المال أن يجعل منه «باشا»، وأن يتخذ منه عضوا في البرلمان، على اختلاف الحكومات في ألوانها ومذاهبها، تخالف قوانين الري لسقي أرضه، وتعطل اللوائح لتحقيق غرضه، ويقف تنفيذ الأحكام عليه خوفا من بطشه.
لم تستطع رغباته الكثيرة، ولا مطالبه الوفيرة، ولا نفقاته الواسعة أن تنقص شيئا من ماله، بل كل سنة يشتري أرضا جديدة وأسهما في الشركات جديدة.
ولم يذق يوما طعم الحاجة ولا ألم الدين، ولا تمنى شيئا ثم لم يجد من المال ما يسعفه، بل إن حق له أن يشكو شيئا فهو أنه يأكل في الحياة من مائدة فخمة دائما ليس فيها توابل، وينعم دائما نعمة لم يلونها الشقاء.
ثم تزوج فسعد في زواجه سعادته في ماله، ضم بزواجه مالا إلى مال، وجاها إلى جاه، ونعيما إلى نعيم، ورأى في زوجته ما يتمنى من جمال ومن خلق ومن ذوق.
تكشفت له الدنيا عن صورتها الجميلة، وحجبت عنه كل نواحيها السيئة، فكان يعجب من شكوى الناس ومن ذم الدنيا، ويقيس كل شيء بمقياسه، فيرى أن ليس في الإمكان أبدع مما كان؛ ويعلل شكوى الناس بسوء طباعهم؛ وفقرهم بقلة عقلهم، وألمهم بضيق نظرهم. •••
لم يرزق من الدنيا إلا ابنا واحدا وضع فيه كل أمله، ومنحه كل عنايته ورعايته، حتى شب كأحسن ما يكون الشباب صحة وثقافة وخلقا.
أخذته الحمى فارتفعت حرارته، وذبل جسمه، واصفر وجهه، وغاب عقله، وبذل الأب كل ما يستطيع لنجاته؛ هؤلاء أشهر الأطباء، وهذا أعز الدواء، وهؤلاء الممرضات ينفذن التعاليم في دقة وإحكام، وهذا كل ما يستطاع وما لا يستطاع لإنقاذه.
وينظر الأب إلى مزارعه الفسيحة ودنياه العريضة فيراها أضيق من سم الخياط.
يتمنى أن لو جرد من كل ثروته، ومن كل صحته، ومن عينيه يبصر بهما، وأذنيه يسمع بهما، ليبرأ ابنه من المرض، وينجو من الموت، ويرجو أن يكون سائلا يتكفف الناس، ومعدما لا يجد قوت يومه، ومسكينا لا يملك من الدنيا إلا ثوبه المهلهل يستر جسمه، ثم يشفى ابنه.
ويود أن لو كانت الصحة توهب فيهبها له، والحياة تمنح فيخلعها عليه، ويتشهى أن يفقد كل نعم الدنيا لينعم - فقط - بابنه صحيحا بجانبه.
كان يؤمن بالطب فدعا الأطباء، وكان يكفر بالرقى والتعاويذ ودعوة الصالحين فآمن بها وتشفع بأهلها، وكان لا يذكر الله في سرائه فذكره في ضرائه، وحشد لشفاء ابنه كل ما يستطيع من قوى مادية وقوى روحانية.
ولكن غلب القدر فمات الولد. •••
لقد انقلب برنامج حياته رأسا على عقب، شكا الدنيا كما كان يشكو الناس، ولم يستطعم لذائذ الحياة كما كان يستطعمها من قبل، ما قيمة المزارع الواسعة والقصور المشيدة والمال الكثير إذا لم تكن نفس تتذوقها ورغبة تتشربها؟ وما جمال الدنيا إذا لم تكن عين تبصرها؟ وما الموسيقى الرائعة إذا لم تكن أذن تسمعها؟ إن النفس المرحة التي لم تصب بكارثة تجتاحها تستطيع أن تخلق من العدم وجودا، ومن الألم لذة، أما النفس التي براها الحزن فلا تستطيع أن تجد في الجنة متاعا، والروح التي أظلمتها الكوارث لا تضيئها الشمس.
لقد وجد في الدين عزاءه الوحيد فتدين، أدرك فشل المال والجاه في دفع المرض فآمن بسلطان القدر، ورأى عجز الطب والعلم والدواء فلجأ إلى من لا يعجز، وفهم أن الإلحاد يدعو إلى اليأس ويقرر فناء الميت فكفر بذلك كله، ورأى الإيمان يقول بحياة بعد هذه الحياة، وتلاق بعد الفراق، وفناء الجسم وحياة الروح، فطبق ذلك على ابنه وعلى نفسه، فبعث عنده الأمل وأحيا فيه الرجاء، وقرأ أن العمل الصالح يقربه إلى بغيته ويجعل الحياة الأخرى أسعد وأهنأ فأكثر من الصلاة والزكاة، وشارك في أعمال البر، وكان يقرأ القرآن ويقف كثيرا عند آيات الجنة ونعيمها، فيتلهف شوقا إلى أن يجمعه الله وابنه فيها، كان يناجي ربه «أن قد مات قلبي بموت ابني فأحيه بك، وقد انطفأت شعلتي فأمدها بنورك، إني فقير إليك فألهمني الصبر، لقد كنت في حلم فتبدد، وفي سعادة فزالت، وكنت معتمدا على مالي وجاهي فإذا هما هباء، فلا ألجأ الآن إلا إليك، ولا أسألك الآن سعادة فقد مللتها، ولا شيئا من متع الدنيا فقد زهدتها؛ وإنما أسالك أن ألمس قوتك لأستعين بها على حمل عبئي، وأن أمس رحمتك لألطف بها حرارة الحمى في كبدي، وأن أسبح في بحرك الواسع أطهر فيه نفسي من يأسي، وأن تنيلني قبسا من حكمتك أدرك به الدنيا على حقيقتها، فلا أجزع لمصايبها، ولا أخدع بزخارفها.
أي ربي: اغفر لي جهلي بك، وغروري بمالي، واعتزازي بجاهي، فلا عز إلا بك، ولا أمل إلا فيك، ولا اعتماد إلا عليك.
أي ربي: اسكن قلبي فقد صار هواء، وآنس وحشتي فقد فزعت من كل شيء حولي، واطو الحياة طيا حتى ألقى وجهك ووجه ابني». •••
كان يقرأ الجرائد فأهم ما يلفت نظره أخبار الوفيات، ومصادمة السيارات، وحوادث الحريق، وخروج القطار والترام عن الطريق، ثم يعقد مقارنة دقيقة سريعة بين مصاب الناس ومصيبته، ثم يقرأ أخبار الحرب فيسليه إحصاء القتلى والجرحى وغرق السفن بمن فيها، وشن الغارات، وكثرة ضحايا الطائرات، ويقف عند ذلك طويلا يفكر ويوازن، فإذا وقع نظره على حفلة عرس أو خبر خطبة مر بها سريعا، وعلق عليها بأن السرور ظل زائل، والسعادة حلم نائم.
وأخذ يتذوق الأدب، ولكن لم يعجب فيه بشيء إعجابه بقصائد الرثاء ولزوميات أبي العلاء، سمع الثناء على قصيدتي ابن الرومي في الرثاء فما زال يرددهما حتى حفظهما، وتخير من اللزوميات أنكاها في شكوى الزمان وحقارة الدنيا وفساد العالم.
ولم يعجبه من المجتمعات إلا عزاء في ميت أو حديث وعظ في مسجد - ودلوه على كتاب مخطوط في دار الكتب للسيوطي اسمه «فضل الجلد عند فقد الولد» فذهب ونسخه بيده. •••
ما الدنيا إذا كانت تذهب في لحظة؟ وما النعيم يضيع في لمحة؟ وما كل شيء في الدنيا بجانب الحياة؟
الحياة عرض، ونعيمها وشقاؤها عرض العرض.
موجة سارت إلى شاطئ ثم اختفت، ولفافة تحللت إلى دخان، ثم تحلل الدخان في اللانهاية.
كلمة لفظ بها ثم انتهت.
لم يسلم أحد من لطمة القدر لعلل لم ندرك أسرارها ولا الغرض منها، والحياة طريق مملوء بالأشواك لا يسلم مار من أن يشاك بها، ومهما اختلفت المسالك فستنتهي بالنتيجة المحتومة، بالموت ، إليه ينتهي كل سالك من ملك وصعلوك، وبه تتحلل كل كمية من اللذة والألم إلى صفر.
ثم إن هذا الطريق - طريق الحياة - امتحان شاق للسالكين؛ فمنهم من يجتازه في خوف وضعف، كلما مسته شوكة صرخ وتحطمت نفسه وسقط من الإعياء؛ ومنهم من يجتازه في شجاعة وقوة واحتمال، فمهما أصابه فإنه يركن إلى ركن ركين من قوة نفسه وحكمته وروحانيته.
لا شيء يضيء هذا الطريق الشائك المظلم إلا طهارة النفس ونور القلب وسمو الروح؛ إن أضاء القلب بدد ضوءه ضباب الطريق، وإن طهرت النفس انسجمت مع العالم، وإن سمت الروح لم تعد المادة إلا جسم الشمعة لا نورها، وغمد السيف لا نصله، وجذع الشجرة لا ثمرتها ولا زهرتها، فلا يأبه كثيرا بالحوادث، ولا تحطمه الكوارث، إن مسه الخير فليس منوعا، وإن أصابه الشر فليس جزوعا.
الفصل الثاني
مع الطير
من نعم الله علي أن غنيت حديقتي الصغيرة هذه الأيام بالطيور، فهذه شجرة - لا أدري السر فيها - جذبت العصافير الكثيرة إليها، فهي في حركة دائمة حولها وفيها؛ وهذه بعض زوايا البيت عشش فيها اليمام يغرد من حين إلى حين بصوته الشجي الجميل، ولوددت أن أتخير من الطيور أجملها وأظرفها وأضعها في أقفاص تحت سمعي وبصري، أستمتع بجمال شكلها وجمال صوتها، لولا ما يؤلمني من حبسها.
هي أحب الحيوان إلي وأقربه إلى قلبي، وهي تقوم في عالم الحيوان مقام الأديب والفنان في عالم الإنسان؛ جمال في شكلها، جمال في هندامها، جمال في غنائها، مرح في حياتها، ظرافة في بناء عشها، حنان في حبها لأولادها. •••
أبرز شيء فيها عواطفها، فهي تغني استجابة لعاطفة، وتمرح لعاطفة، وتتحبب لجنسها وأولادها لعاطفة، وبحق علمت الإنسان الأول أن يواري سوءة أخيه بعد موته، فقال:
يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوءة أخي فأصبح من النادمين ، كما علمته درس الحرية، ولقد كان حرا مثلها ثم أباح لنفسه أن يغل غلا بعد غل، فلما استثقل حمل الأغلال أخذ يجاهد في فكها قيدا بعد قيد ولما ينجح، وغار من الطير فأخذ يحبسه حبس نفسه، ويتحين الفرص لصيده وتكبيله، فما يجد الطائر فرصة للفرار حتى يهرب، ولو كان قفصه من ذهب، وحبه أغلى حب، وشرابه ماء الورد، ضنا بحريته أن تباع بأي ثمن، وأن تسترق بأي جزاء، وحافظ على حريته من مبدئه إلى منتهاه ، لا كالإنسان الأبله يرضى بالقيود، ثم يبذل في فكها الجهود، وما كان أحراه ألا يقيد ولا يفك، وقديما حكوا أن رجلا كان يدعو: «ربنا أدخلنا بيوت الظالمين وأخرجنا منها سالمين»، فأجابه آخر: «وما أدخلك وما أخرجك!». •••
حلوة الغناء، تغني حبا، وتغني سرورا ومرحا؛ تغني سرورا في موسم الوصال، وتغني أسى وضنى وحزنا يوم الفراق، وكم وددت أن يسجل صوت الطيور وأغانيها على أسطوانات أو على شريط الراديو حتى أكررها على سمعي كلما شئت، فهي أفعل في نفسي من كثير من أغاني الإنسان؛ ولكن لا، لست أريد حبسها ولا حبس أصواتها، فلتكن حرة في كل شيء لها، ولو حرمت الاستمتاع بها وبأصواتها.
إن موسيقاها متنوعة تنوع نغمات البيان، علوا وانخفاضا، ورقة وغلظا، وقوة وضعفا، تغني إذا هاجت عواطفها ليلا أو نهارا، وما أحلاها وهي تغني فتقفز من شجرة إلى شجرة، ومن سطح إلى سطح، مندفعة في طيرانها بشكل كله خفة ورشاقة! لقد حرمنا دقة الملاحظة فحسبنا أن كل أصواتها سواء، وأن غناء كل نوع منها متشابه؛ ولكن ما أبعد هذا عن الحق، فهي تغني مناغاة للحب، وتغني محذرة من خطر، وتغني سرورا بحياة الربيع، وتغني دعوة إلى الرحيل، وتغني حزنا على فقد حبيب؟ فما أكثر أغانيها وما أغبانا في فهمها! لغاية مغنينا أن يكون «بلبل الشرق»، وغاية أديبنا أن يكتب «هدية الكروان» و«دعاء الكروان». •••
أمامي الآن يمامتان ظريفتان حقا، سكنتا بالقرب من غرفة نومي، ما أجمل غناءهما، وخاصة في الفجر إذا شعشع النور، وما أرشق حركتهما، لا عيب فيهما إلا أني آنس بهما ولا تأنسان بي، وأحن إليهما وتفرقان مني، ما ألطفهما وألطف نوعهما وألطف الحمام كله! لقد كان ذوق رسول الله (
صلى الله عليه وسلم ) ظريفا حقا؛ إذ روي أنه كان يعجبه النظر إلى الخضرة وإلى الأترج وإلى الحمام الأحمر، وشكا إليه «علي» الوحشة فقال له: «اتخذ زوجا من حمام تؤنسك وتوقظك للصلاة».
ظريف هذا الحمام كل الظرف! غزله علم الإنسان الغزل، يدعو فتتمنع، ثم تجيب وتلوي عنه عنقها ، «ثم يتعاشقان ويتطاوعان»، ثم ما شئت منه من رشف وتقبيل، ثم ما شئت منها من تيه ودلال، ثم ما شئت منهما من فرح ومرح بالوصال.
ثم هو لطيف في حنانه على ولده، أرأيت كيف يقلب بيضه حتى تنال جوانب كل بيضة حظها من حرارته وحضنه؟ أو رأيت تعاقبه ذكرا وأنثى على رعاية بيضه وفرخه في الحضن والتغذية؟ أو هل رأيت عنايته بعشه كيف يتخير مكانه، وكيف يتخير عيدانه ثم ينسجها نسجا متداخلا؟ وكيف يهندسه ليحفظ البيض من التدحرج، ثم يتعاون الذكر والأنثى على العش: «يسخنانه ويطيبانه وينفيان عنه طبعه الأول، ويحثان له طبيعة أخرى مشتقة من طبائعهما، ومستخرجة من رائحة أبدانهما ... لكي تقع البيضة إذا وقعت في موضع أشبه المواضع بأرحام الحمام»
1 ؟
ليت كل أسرة تربي في بيتها حماما وترقب عيشته، فيتعلم منه الآباء كيف تكون العناية، وكيف يكون الحنان، ويتعلم منه الأبناء كيف يجازون جهد الآباء وتضحيتهم. •••
لتمنيت أن تكون الطيور كالأزهار، آنس بها وتأنس بي، وأكون بجوارها وتألف جواري، ولكنها سيئة الظن بالإنسان جدا، ولعلها وحدها التي عرفت حقيقة الإنسان فهربت منه، وأبت أن يكون بينها وبينه رابطة، تحوم حوله في حذر، وتمس أرضه في وجل، وتفضل حياتها القليلة - تتعب في البحث عنها - على القرب منه، وإن كان معه شبعها وريها، أنفة منه، وكراهية له، وضنا بحريتها وطلاقتها.
هل عرفت بغريزتها طبيعته ففرت منه ابتداء، أو سالمته وأنست به، فلما جربته ورأت أنانيته وسوء سلوكه رسمت خطتها في البعد عنه؟ أقرب ظني أنه الوجه الثاني، فإنها تأنس ببعض الحيوان الذي لا يؤذيها، ويذكر بعض الرحالين أنهم نزلوا في جزيرة لم ينزلها قبلهم إنسان، فرأوا طيورها تألفهم وتطير عليهم وتأكل من الحب في أيديهم ، وهذا حمام الحرم أمن شر الإنسان فاستأمن، وأنس به الإنسان فاستأنس، فلولا ما رآه قديما، من مطاردة الإنسان ومحاولاته نصب الشباك له والإيقاع به بكل الأشكال، واستلذاذه قتله، وتعلمه الرماية فيه، وتصويب أسلحته عليه؛ ما ذعر من الإنسان هذا الذعر، ثم هو قد رآه خائنا غادرا، غفر له أولا أن كان جائعا فصاده ليأكله، فكيف يغفر له أن رآه شبعان ثم يصيده لمجرد اللذة في قلته؟ وعجب كيف يكون مجرد القتل لذة، فعد الإنسان - بحق - أعدى أعدائه، ولم يقرب منه للضرورة إلا وترتعد فرائصه، وأسر الآباء للأبناء هذا السر الرهيب؛ فما رأى طائر إنسانا إلا واستحضر هذا السر وأدركه الفزع منه. •••
من عظمة الطير أن الإنسان سهل عليه أن يدرك مزايا الحيوان فيقلدها وينتفع بتقليدها، تعلم من الأسد شجاعته، ومن القرد كياسته، ومن الحرباء تلونها، ومن الذئاب خداعها، ومن الثعالب روغانها، ومن النحل مهارتها في صناعتها، ومن النمل جده وادخاره ... إلخ، ولكن مرت آلاف السنين، وهو يعجب من الطير كيف يطير، وحاول تقليده فلم ينجح؛ وأخيرا جدا بعد أن شاب الزمن اهتدى إلى سر طيرانه فطار، وليته لم يطر؛ فقد عاش الطير منذ خلق وهو يطير من ظلم الإنسان، ولا يظلم الإنسان، ويطير جمالا ولا يطير قبحا، ويطير سرورا إلى عشه، وحنينا إلى إلفه، وطلبا في رزقه، فلما طار الإنسان لون طيرانه بشره فخرب ودمر، وسفك وأهلك، وكره إلينا السماء والقمر، وطأطأ رءوسنا مما لزمنا من عار وخجل! فيا لله للإنسان!
ومع هذا التقليد من الإنسان لا يزال أمر الطير عجبا أي عجب! فهو يقطع المسافات الشاسعة باحثا عن غذائه ودفئه، فما كان منه في شمالي آسيا يأتي في الربيع إلى مصر، وما كان في شمالي أوروبا يرحل إلى جزائر في البحر الأبيض، أو يعبره إلى إفريقيا، ويرحل أكثر ما يكون ليلا يتقي الأخطار، ويهتدي بالريح وبالشواطئ وسير الأنهار، ويعلو في طيره عن الأرض ميلا إلى ثلاثة أميال، ثم هو يقطع آلاف الأميال عابرا البر والبحر من غير دليل إلا طبيعته، فإذا لم يقتله الإنسان عاد كما جاء إلى عشه مهتديا بذاكرته، فسبحان خالقه. •••
تحسن الطيور إلى الإنسان كثيرا ويؤذيها الإنسان كثيرا، فهل كان الإنسان يستطيع أن يحصل على قوته وزرعه لو لم يعنه الطير على الفتك بدوده وحشراته؟ فمئاتها طعام كل يوم لكل طير من أكلتها، فكيف لو سلطت على مزارع الإنسان ولم تسعفه الطيور فتقضي عليها؟ إذن لرأيت الأرض غطيت بالدود، واكتسحت الزرع وأعقبه فناء الإنسان، لقد أحصى ظريف ما تأكله الطيور من الدود في مقاطعة في أمريكا فكان مليونين ونصفا كل يوم، فقدر حالتها لو تركت وتناسلت، ومع هذا كله جهل الإنسان فضل الطير، واتخذه ملهاة لصيده، ومجالا لقماره، وملعبا لرمايته؛ كان المتوحش يصيد طالبا لغذائه، فأصبح المتمدن يصيد ملأ لفراغه. •••
لقد عجب أوروبي أن الطيور في مصر لا تغني كثيرا، فلك الله أيها العاجب، فلم تغني وكيف تغني ولمن تغني؟ لو رأت ما يسرها لغنت، فالأسى يبعث الأسى، والسرور يبعث السرور، وسعادة الجار تنضح على الجار، ولو ضحك من في الأرض لضحك من في السماء، ولو غنت الطير في مصر كثيرا لغنت حزينا كما غنى الناس حزينا، ولكن تأبى طباعها إذا غنت إلا أن يكون غناؤها مرحا وطيرها فرحا، ففضلت السكوت إلا أن تلح بها الحاجة، وهل سمع الناس - يا أخي - غناءها القليل لتفيض عليهم بالكثير؟ إنهم في شغل عن جمال الطبيعة بتزييف الصناعة، وعن غناء السرور بغناء الحزن، وعن النداء العالي بالنداء السافل، وعن التسامي بالتدلي؛ فيوم يبتهج أهل الأرض يبتهج أهل السماء، ويوم يسعد السكان يغني الطير، ويوم يتسامى الناس تعلو أغراضهم وتطير نفوسهم، فتحاذي الطير ويحدو لها فيمرح كثيرا ويغني كثيرا. •••
ولفخر للطير عظيم أن تخلق الملائكة خلقته، وتعار أجنحته
الحمد لله فاطر السماوات والأرض جاعل الملائكة رسلا أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع يزيد في الخلق ما يشاء إن الله على كل شيء قدير .
الفصل الثالث
حوار في أسرة
كانت أسرة وسطا, لم يفسدها الفقر, ولم يبطرها الغنى؛ تتمثل فيها الإنسانية بصفوفها, فأب وأم وابن وبنت؛ كان الأبوان من الجيل الماضي بأخلاقه وميوله, وتقاليده وعقائده, يكرهان البهرجة والرياء, ويغاران على سمعتهما كل الغيرة, ويحرمان على أنفسهم كل اللذائذ إلا ما أحل الله, ويدبران مالهما على قدر مطالب الحياة, ولا يسمحان لأنفسهما أن يقترضا لأى سبب وفي أي ظرف .
حتى شب الابن وشبت البنت في ظروف غير ظروفهما, وحياة غير حياتهما وجيل غير جيلهما، نشأ بين أغاني الراديو ومناظر السينما ومشاهد التمثيل, وفي بحبوبة الحرية وبهرجة السفور والاعتداد بالشخصية, ونظرا إلى أبويهما نظرهما إلى التاريخ القديم وآثار القرون الوسطى, تحترم لقدمها لا لصالحيتها, وتبجل لدلالتها على زمنها لا لرقيها، ونظر الأبوان إليهما نظر الآمل ضاع أمله, والسلطان خرج الأمر من يده, والمربي فشل في تربيته؛ فهم إن جمعتهم أسرة فأهواؤهم متفرقه وقلوبهم موزعة وآراؤهم متباينة, وإن ضمهم بيت واحد فلضرورة الحياة لا وحدة المشرب. •••
كانت ليلة سعيدة تلك التي اجتمعوا فيها على مائدة المنزل يتصالحون بعد خصام، ويتعاتبون بعد نفار، ويتصارحون بعد الكتمان، وحضر وليمة الصلح قريب للأسرة يحترمه الجميع لسعة عقله وصدق نظره وحسن حديثه، قد منحته الطبيعة ما منحت البلسم لمداواة الجروح وما منحت الدواء لشفاء الداء، متقدم في السن ولكن عقله من عقول المستقبل لا الماضي ولا الحاضر، خبير بالماضي بما قرأ، وبالحاضر بما شاهد، وبالمستقبل بما استنتج، له جاهه في المنصب وجاهه في المال وجاهه في العلم وجاهه في الخلق، فإذا تكلم أنصت الجميع وأطاع الجميع، رأيه الحق وقوله الفصل.
قال الأب لابنه: كم تعبت في تربيتك، وعانيت الأمرين في العناية بك، وسهرت الليالي لمرضك، وهجرت راحتي لراحتك، وضيقت على نفسي في الإنفاق لأوسع عليك، وحرمت نفسي من اللذائذ لأوفرها لك، فإذا جاء زمن تعليمك في المدرسة فكم بذلت جهدي لتنجح، وأنفقت مالي لتكون رجلا، وترقبت النتيجة كل عام في وجل من رسوبك؛ وعلى الجملة إن تعد نعمي عليك لا تحصيها، فقد ضحيت كل شيء لي في سبيلك، وأغمضت عيني عن كل شيء وراء هذه الدار لأجلك؛ أفحين شاب رأسي وضعفت قوتي، وحين صرت رجلا تهدر كل هذه التضحيات، وتكافئ الجميل بالقبيح، والإحسان بالجحود؟
قال الابن: لقد أكثرت يا أبي من ذكر التضحية والإحسان، والجميل والمعروف، فهل فعلت شيئا أكثر مما يجب عليك وعلى كل أب أن يفعله؟ إنك تفسد ما أديت من واجب بالمن به، وتذهب جمال التضحية بذكر اسمها، إنك تريدني أن أكون ذيلا لك أتبعك في حركاتك وسكونك وميولك، فهل هذا يتفق والطبيعة؟ إن زمني غير زمنك، وآمالي غير آمالك، ونظرتي إلى الحياة غير نظرتك، إن الثمرة إذا نضجت فارقت شجرتها، إنني شاب أخضع لقوانين الشباب ويجري في دم الحياة، وتملؤني الآمال وتستهويني المغامرات، فمحال أن تخضع إرادتي لإرادتك، وليس لك مني إلا احترامك وإجلالك، لا بد لي أن أعيش حسب طبيعتي وشخصيتي وزمني وأملي؛ حتى أحقق غرضي أنا في الحياة لا غرضك لي، ولأن أشكرك على أن أبحت لي حرية العمل خير من أن أشكرك على أن تعاملني معاملة طفل كبير يحتاج إلى الرعاية دائما، بل إن تركت لي الحرية فأنا أشكرك وعملي الحر الطليق يشكرك، ويعترف لك بفضل أنك نزلت عن استبدادك وسلطانك، وسايرت الزمن في تغيره الطبيعي وتقدمه المستمر، ثم لا تخش من خطئي إن أخطأت، فسأتعلم من خطئي أكثر مما أتعلم من تحذيرك، وأستفيد من فشلي أكثر مما أستفيد من نصائحك، ولأن أكون رجلا يخطئ خير من أن أكون حجرا لا يخطئ، وليس أضيع من ابن سلبت إرادته، ولو كان السالب لها أباه، ولا أفشل من إنسان أحيط بالرعاية التامة فمنعته الرعاية من أن يجرب بنفسه الحياة، دعني أتعلم السباحة في بحر الحياة، ولا بأس إن غرقت، فسأغرق حتما إن لم أتعلم العوم، وسأغرق احتمالا إن تعلمته.
دهش الأب من هذا الحديث الصريح الجريء، وأطال التفكير.
فانتهزت الأم فرصة هذا السكوت وخاطبت ابنتها: إن موقفي معك موقف أبيك من أخيك ... لقد وقفت حياتي على العناية بك، وكم خفق قلبي حزنا لألمك وسرورا لسرورك وعددتك صورة مني، واتخذتك في الحياة أملي، وأنست بك أكثر من أنسي بأخيك؛ لأنك من جنسي، أعرف شعورك كما أعرف شعوري، وتدور برأسك الأفكار التي كانت تدور برأسي، وتتحركين بالعواطف التي كانت تحركني، وقد اختصصتك بأسراري وآمالي وآلامي، وحرمت نفسي من الخير لخيرك، وتحملت الآلام لراحتك ونعيمك، والآن وقد صرت شابة لم أر قلبك يتناغم مع دقات قلبي، ولا عطفك يساير عطفي، وأرى شخصك في البيت وأحلامك وآمالك خارج البيت، وأرى حبا مني لا يقابل بحب منك، وحناني لا يجازى بحنانك.
قالت البنت: أصارحك يا أمي أني أحترمك أما، ولكن لا تنتظري أن تكوني معقد أملي ومجال حبي، إنك إن تطلبي ذلك تطلبي محالا في الطبيعة، إن كان الحب أنواعا فنوع منه أساسه الاحترام والاعتراف بالجميل، وهذا لك مني، ولكن هناك نوع آخر من الحب أسمى وأرقى وأصفى، وهذا أمنحه لمن يكون زوجي، إن الرابطة بيني وبينك رابطة الدم، والرابطة بيني وبينه رابطة الروح، إني ألجأ إليك حتى ينضج هذا الحب، كما تبقى الثمرة على شجرتها حتى تنضج، وألجأ إليك - لا قدر الله - إذا فشل هذا الحب، ففيك العزاء، سأحافظ على شرفي من أجلي وأجلك وأجل أبي، وسأحافظ على الوفاء لك لمعروفك عندي، ولكن ليس من حقك أن تطلبي مني الحب الروحي الخالص الذي لم تعده الطبيعة إلا للأليف، إذا طلبت إجلالا واحتراما فهذا حق لك جزاء تضحيتك، وإذا طلبت حبا ساميا خالصا روحيا فليس ذلك لك ولا تجابين إليه؛ إذ ذاك لا تتكلمين باسم التضحية ولكن باسم الأنانية.
دهشت الأم كما دهش الأب من قبل، وساد الجميع سكون عميق.
ثم بدأت الزوجة تقول لزوجها: ما دمنا وصلنا إلى هذه الدرجة من الصراحة ومن العتاب، فلأصارحك بما في نفسي، لقد أصبحت حياتي معك عناء في عناء، حرمت متاع الدنيا لإدارة البيت ومطالبك ومطالب أولادك، وأصبت بالأمراض، وأنا طول النهار موزعة بين نظافة البيت وإعداد الأكل إلى ما لا يحصى من مطالب، فلا يجيء وقت النوم إلا وقد دار رأسي، وفتر جسمي وكل عقلي؛ وقد أصبح البيت سجنا أبديا مظلما، ليس له نافذة إلى العالم؛ ومع هذا كله لا أرى منك اعترافا بحسن صنيع ولا إقرارا بجميل، ولا مظهرا لحب، ولا تقديرا لقديم؛ وأصبحت المعيشة كآلة تدور بلا زيت، وزيت الحياة هو العطف والحب، وقد فقدا، فلست أسمع إلا أوامر جافة، ونواهي حازمة قاسية، متى يأتي الموت ففيه راحتي؟
قال الزوج: وهل أنا أقل منك في حمل الأعباء واحتمال الرزايا؟ فلا أزال أسعى وأكد سدادا لمطالبكم، وحرصا على راحتكم، وليس لي نصيب مما أجمع إلا أقل من نصيب أحدكم؛ ولو كنت وحدي لكنت سعيدا، أنعم بملذات الحياة ولا أحمل عبء الواجب، وأعيش كالفراشة تنتقل من زهرة إلى زهرة، ثم تتطلبين أن أظهر لك بمظهر الحب كأيامنا الأولى، ونسيت أن الزمن له حكمه، فالحب إن لم ينطفئ هدأ، والنار تشتعل ثم تكون رمادا، وطول العشرة يذهب الكلفة ويذهب بالتصنع، وأنت تغارين أن أضحك مع الضيوف ولا أضحك معك، وأمزح مع الأصدقاء ولا أمزح معك، وتحاسبينني على أني أتكلم في التليفون برقة لا تبدو في خطابي معك؛ وفاتك أن التصنع عبء ثقيل يتكلفه المرء مع الغريب، وثوب مصطنع مع الناس؛ فكيف تكلفينني أن أتصنع دائما وأرائي دائما؟ ألا ترينني أتجمل في ملبسي إذا خرجت وأتبذل إذا رجعت؟ أتريدينني مرائيا حتى في البيت، ومتصنعا حتى معك؛ فأين إذا سعادة المعيشة على الفطرة، ثم لا تكثري من ذكر التضحية، فتضحيتك لا تساوي شيئا بجانب تضحيتي، ومتاعبك تافهة بجانب متاعبي؛ أين عمل اليد من عمل العقل، وأين مطالب الأولاد من مطالب الرؤساء، وأين تعب الإنفاق من تعب الكسب؟ •••
ساد الجميع سكون رهيب، وانتهى الأكل ولم يشعروا أنهم أكلوا، وانتهت الأصناف ولو سألتهم ما دروا ماذا طعموا؛ لأن الحديث التهم عقولهم وأفكارهم، وتسلط على كل حواسهم، ثم انتقلوا إلى حجرة أخرى وانتظروا كلام الشيخ الحكيم.
بدأ الشيخ يقول: لعل أسرتكم هذه من خير الأسر شعورا بالتبعة وأداء للواجب، وإن متاعبكم التي سمعت الليلة بعضها ليست شيئا بجانب ما أعلم من أسر تحطمت، وبيوت خربت، وأمراض فتكت، وكانت أمراضها أشكالا وألونا: هذه مرضها في ربها، سكر وقامر حتى خر البيت على رأسه، وهذه مرضها في ربتها، أسرفت في ملذاتها وملاهيها حتى انهار البنيان عليها، وهذه مرضها في أبنائها وبناتها، أسرفوا على أنفسهم وجرفهم تيار المدنية حتى أصبح البيت شعلة من نار، لا يستقر لأهله قرار.
أما أنتم فمرضكم على هامش الأسرة لا في صميمها، والأعراض قريبة العلاج سهلة الدواء، ويخيل إلي أنها ترجع إلى سببين: أولهما: أن الأبوين لم يدخلا في حسابهما عامل الزمان، فلكل زمن تقاليده، ولكل جيل مطالبه؛ ومحال أن تتجاهلوا فعل الزمن وتغيير الأحداث وتطور الناشئة، فمنشأ كثير من النزاع تحجر عقول الآباء وقلة مرونتها، ومحاولتها إخضاع الحاضر للماضي، وهو ما تأباه الطبيعة، إن أبناءكم مخلوقون لزمن غير زمانكم، فإما أن تحسبوا في سلوككم حساب زمانهم، وإما أن يثوروا عليكم، ألا ترون أن أثاث البيت من عشرين عاما لا يصلح أن يكون أثاث بيت اليوم، وأن البدع في ملابس أمس غير البدع في ملابس اليوم، وأن طراز البيوت منذ أعوام غير طرازها الآن، وأن التربية والتعليم ومناهجهما ونظمهما منذ عهد قريب غيرهما في عهدنا؟ فلماذا تؤمنون بهذا كله ولا تؤمنون بتغير طباع الأولاد وعاداتهم وتقاليدهم، وتودون أن تسلكوا معهم سلوك آبائكم معكم، على أن الفرق كبير بينكم وبين آبائكم وبينكم وبين أبنائكم! فقد حدثت في العالم ثورة قلبت الأوضاع وكسرت الحدود، ولا أمل في المسالمة وحسن العلاقة بينكم وبين أبنائكم إلا أن تفهموا الواقع وتسايروا الزمان؛ نعم إن الأبناء يجب أن يعذروكم في نظرتكم ويقدروا حسن نيتكم، ولكن من العسير أن يفهموا ذلك ولما تنضج عقولهم وتكتمل مشاعرهم.
وثاني الأمرين أني لمست في حديث كل منكم طغيان الشعور ب «أنا» وضعف الشعور ب «نحن»؛ إن «أنا» مبعث الاحتكاك والنزاع والخصام، فمتى برزت «أنا» في الميدان قابلتها «أنوات» أخرى تعاكسها وتحاربها، أما «نحن» فليس لها محارب؛ لأنها تعبير عن الجميع، إذا قلت: أنا ضحيت؛ قال الآخر: أنا ضحيت، وإذا قلت: أنا فعلت، قال الآخر: أنا فعلت ، ولكن إن قلتم جميعا «نحن» لم تكونوا في حاجة إلى «نحن» أخرى تعارضها.
إنكم في أسرتكم كالهواء في منزلكم، وأشعة الشمس تغمر حجركم، والروحانية ترفرف عليكم، إنها تسعكم جميعا من غير نزاع، فكونوا كالهواء سعة، وأشعة الشمس امتدادا، والروحانية شمولا، تضمر «أنا» فيضمر النزاع، ويضمر المن بالتضحية، إن «أنا» مظلمة ظلمة السجن، ضيقة ضيق القبر، و«نحن» شاملة شمول الشمس، منعشة إنعاش النسيم، سمحة سماح الكريم. •••
نزل كلام الشيخ بردا وسلاما على الجميع، كما استقبلوه بالتبجيل والتعظيم، وعاد كل إلى مأواه يفسر كلام الشيخ بما يهواه، وكل يغني على ليلاه.
الفصل الرابع
سلطان العلماء (1)
هذا لقب لقبه به تلاميذه لما رأوا من سعة علمه، وعظمة خلقه، فسار اللقب في الناس، وأصبح في البلاد سلطانان: سلطان الدولة، وسلطان العلماء، وكان السلطانان أحيانا ينسجمان ويتصالحان، وأحيانا يتصارعان ويتصادمان؛ فيكون لصراعهما منظر رهيب كمنظر الجيوش إذا تقاتلت، والسباع إذا تصاولت، والديكة إذا تهارشت، وأكثر ما يدعو المنظر إلى الإعجاب إذا رأيت المحارب غير المسلح يغلب المحارب المسلح، وسلطان الدنيا بجنوده يخضع لسلطان الدين وليس له جنود ولا بنود إلا قوة الخلق، وقوة الحق، وقوة اليقين.
عمر «سلطان العلماء» هذا عمرا طويلا عريضا، فقد عاش ثلاثة وثمانين عاما، والأعوام وإن اتحدت في الطول فهي تختلف في العرض، فهناك أعوام طويلة لا عرض لها، وهناك أعوام طويلة عريضة، وهناك أعوام عقيم، وأعوام ولود، وأعوام «عالمنا» هذه أعوام خصبة طالما ولدت الأحداث العظام، والخطوب الجلى؛ فقد شاهدت دولة الأيوبيين في هرمها وآخر أيامها، وشاهدت دولة المماليك البحرية في نشأتها وعزها، وشاهدت بعض الحملات الصليبية على الشرق ومقاومته لها، وشاهدت حملة التتار على الممالك الإسلامية واكتساحهم لها، ووقوف مصر أمامهم تصد هجماتهم وتكسر شوكتهم، وشاهدت سقوط الخلافة العباسية في بغداد وانتقالها إلى القاهرة.
ذلك كله شاهدته حياة «عالمنا» الدمشقي، فقد ولد سنة 577، وتوفي سنة 660ه، لقد نشأ في دمشق فقيرا يعمل بيديه ليكسب عيشه ويحصل قوته، يبيت في مسجد دمشق؛ إذ لم يجد له مأوى، وظل على هذا حتى صار شابا، ثم حبب إليه أن يتعلم وهو كبير فقير، فمارس العلم وسرعان ما نبغ فيه، ولفت النظر إليه، وجمع إلى العلم التصوف، فيأخذ العلم عن شيوخه، والتصوف عن رجاله، ويكسبه العلم سعة في عقله وصقلا لذهنه، ويفيده التصوف صفاء في قلبه، ونورا في روحه، وقناعة وطمأنينة في نفسه، وزهدا في نعيم الدنيا، وحبا لله وطلبا لرضاه؛ فهو إذا تكلم رأيت علما غزيرا من دراسته، ورأيت إخلاصا من تصوفه، ورأيت هيبة وجلالا، ونفوذا لكلامه إلى قلوب سامعيه من قوة يقينه وصفاء روحه، وإذا بعالمنا «عبد العزيز بن عبد السلام، أو عز الدين بن عبد السلام» الذي كان يعمل بيديه نهارا، ويفترش أرض المسجد ليلا، خطيب الجامع الأموي وإمامه، وقبلة الناس ومنارهم، ومعقد رجائهم.
لقد رمى بنظره بعد أن نضج عقله، فرأى حال الدولة تدعو إلى الأسى، هذه الأسرة الأيوبية تقسم أبناؤها المملكة، ففرع في مصر، وفرع في دمشق، وفرع في حلب، وفرع فيما بين النهرين، وفرع في حماة، وفرع في حمص، وفرع في جزيرة العرب، وبين بعضهم وبعض إحن وعداء، وحزازة ودماء، والصليبيون على الأبواب، والتتار يتحفزون للوثوب، ولا قبل لهم بذلك كله إلا أن تذهب حزازاتهم، وتتوحد كلمتهم، وتصفو قلوبهم، ويعدوا ما استطاعوا من قوة؛ فاتخذ عالمنا هذا منهجه في الخطب على المنبر، وفي الوعظ، وفي نصح الأمراء، فها هو يدخل على الملك الأشرف موسى بن العادل بدمشق وهو يتأهب لغزو أخيه السلطان الكامل في مصر، فيقول له: هذا أخوك الكبير ورحمك، وأنت مشهور بالفتوح والنصر على الأعداء، والتتر قد خاضوا بلاد المسلمين، فخير لك ألا تقطع رحمك، وأن تتوجه إلى نصر دين الله وإعزاز كلمته، وأن تحول وجهتك في مقاتلة أخيك إلى مقاتلة أعداء الله وأعداء المسلمين، وأن تتقرب إلى الله قبل ذلك بإصلاح داخل مملكتك، فتبطل المكوس، وترفع المظالم، وتمنع الخمور والفجور، فيصغي السلطان إلى نصيحته ويعمل بها، ويقول له: جزاك الله خيرا عن إرشادك ونصيحتك، ثم أصلح ما في الداخل وحول وجهته إلى الخارج ، وقدم السلطان للشيخ ألف دينار يستعين بها على شئون الدنيا، فردها الشيخ في لطف وقال: إن هذه نصيحة لله وللدين، فلا أكدرها بشيء من الدنيا، وذاعت نصيحة الشيخ وزهده في المال، فزاد مقامه علوا ومكانته رفعة. •••
لكن في كل عصر سخافات تستوجب الضحك، لولا أنها تحدث في مأتم، فهؤلاء ضيقو العقول من الحنابلة - والدولة كلها معرضة لخطر الغزو من عدوين لدودين قويين: وهما التتار والصليبيون - يعيدون فتنة خلق القرآن والكلام فيها كما كانت أيام المأمون والمعتصم والواثق؛ فهم يزعمون أن كلام الله القديم هو ما نقرؤه بألسنتنا، ونكتبه بمدادنا، ونخطه في أوراقنا، وترمقه عيوننا، والأشعرية من أهل السنة يرون أن كلام الله الأزلي القديم ليس بحرف ولا صوت، وإنما ألفاظنا وكتابتنا ومصاحفنا دلالة عليه، فيجب احترامها لدلالتها على كلامه، كما يجب احترام أسمائه لدلالتها على ذاته.
وتقوم الثورة في هذا بين الحنابلة والأشعرية، ويتبادلون السب والضرب، فهنا في دمشق مجادلات حارة ومناقشات حامية: هل الحروف والأصوات كلام الله؟ وهناك على مقربة منهم في صفوف الصليبيين دعوة حارة أخرى لتنظيم الآلات، وإعداد المعدات، وتوحيد الصفوف؛ هنا كلام وخصام في الكلام ودعوة إلى الانقسام، وهناك عمل وإعداد وسيوف وقنابل ودعوة إلى الوئام.
ويشتد النزاع بين الحنابلة والأشعرية: المكتوب والمقروء كلام الله؛ ليس المكتوب والمقروء كلام الله. كلمات يعلو بها صوت الناس في المساجد والشوارع والبيوت، ويتزعم فريق الأشعرية عالمنا، وأعوان السلطان منقسمون كذلك إلى قسمين، والسلطان يسمع من هؤلاء اتهاما ومن هؤلاء اتهاما: هؤلاء يتهمون الأشعرية بأنهم يستهينون بالمصحف، وهؤلاء يتهمون الحنابلة بأنهم مجسدة، ويعكف العلماء من هؤلاء وهؤلاء على تأليف الرسائل واستنباط الأدلة، وأخيرا يحار السلطان بينهم فيأمر بقطع الكلام في هذا الموضوع بتاتا، ويأمر الشيخ عز الدين بأمور ثلاثة: ألا يفتي، وألا يجتمع بأحد، وأن يلزم بيته، فلما جاء الملك الكامل في مصر وسمع ما جرى قال للملك الأشرف: ما فعلت أكثر من أنك سويت بين أهل الحق والباطل، وحرضه على القول برأي الأشعرية ونصرة الشيخ عز الدين، ففعل وشدد على الحنابلة فسكنوا، وانتهت المشكلة بعد أن أخذت من قوتهم وأكلت من تفكيرهم، وعاد عز الدين إلى مجده وسلطانه. •••
أخذ الشيخ يدعو دعوته الأولى إلى أن يتحد سلاطين الأيوبيين وتتحد كلمة المسلمين، ويخطب في ذلك على منبر دمشق ويختم خطبته - في العادة - بقوله: «اللهم أبرم لهذه الأمة أمرا رشدا، تعز فيه وليك، وتذل فيه عدوك، ويعمل فيه بطاعتك، وينهى فيه عن معصيتك.» والناس وراءه يبتهلون ابتهاله ويدعون بدعائه حتى ترتفع أصواتهم إلى عنان السماء.
وكان يقول: «كل جندي لا يخاطر بنفسه فليس بجندي.» و«المخاطرة بالنفوس مشروعة لإعزاز الدين.» و«ينبغي لكل عالم إذا أذل الحق وأهمل الصواب أن يبذل جهده في نصرهما، ومن آثر الله على نفسه آثره الله، ومن طلب رضا الله بما يسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن طلب رضا الناس بما يسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس، وفي رضا الله كفاية عن رضا كل أحد.».
فليتك تحلو والحياة مريرة
وليتك ترضى والأنام غضاب
هذا بعض ما كان يقوله الشيخ، ولكن من كان يظن أن هذا القول الصريح الذي لا مجمجة فيه ولا إبهام يؤول بأنه يريد به نصرة بعض الأيوبيين على بعض، ومن كان يظن أن هذه الدعوة التي يبذلها الشيخ إلى الاتحاد تنتكس ولا يستجاب لها، وتنتهي بأن الملك الصالح إسماعيل يصالح الصليبيين على أن يسلم لهم صفدا والشقيف وغير ذلك من حصون المسلمين لينجدوه على الملك الصالح نجم الدين أيوب، ومن كان يظن أن الشيخ لا تسمع دعوته، فيرى المسلمين في دمشق يبيعون السلاح للصليبيين ليقاتلوا به عباد الله المؤمنين؟
لقد صرخ الشيخ من أعماق قلبه مستنكرا هذا الأحوال، مستغيثا بالله من هذه المخازي والأهوال؛ فاعتقل وعذب، فما بالى باعتقال ولا بعذاب، وجاءه رسول من قبل الصالح إسماعيل يحتال عليه كما يحتال الشيطان ويوسوس له ويخوفه ويمنيه؛ وأخيرا يقول له: «ليس بينك وبين أن تعود إلى مناصبك وأكثر منها إلا أن تطأطئ رأسك للسلطان وتقبل يده.».
هاج الشيخ وغضب واحمر وجهه، وصاح في الرسول: «يا مسكين، والله ما أرضاه أن يقبل يدي فضلا عن أن أقبل يده، يا قوم أنتم في واد وأنا في واد، والحمد لله الذي عافاني مما ابتلاكم به.».
هؤلاء ملوك المسلمين في الشام يعبثون بحقوق المسلمين، ويسلمون الصليبيين الحصون والقلاع، ويسمحون لهم بشراء السلاح من بلادهم اليوم ليحاربوهم به غدا، والشيخ في اعتقاله في خيمته، يحز في قلبه الألم مما صار إليه حال المسلمين، فيعكف على القرآن يتلوه وعلى العلم يدرسه، ويمر الملك الصالح إسماعيل الذي فعل تلك الأفاعيل مع ملك الفرنج من الصليبيين على الشيخ في خيمته، فيفتخر الملك ويزهى بعمله ويقول: «هذا أكبر قسوس المسلمين، اعتقلته؛ لأنه أنكر علي تسليمي لكم حصون المسلمين، وعزلته عن الخطابة وعن مناصبه، ثم أخرجته من دمشق، وأبعدته هنا في بيت المقدس، كل هذا لأجلكم وحبا في رضاكم.».
قال ملك الفرنج: لو كان هذا قسيسنا لتشفعنا به وتبركنا بماء طهوره.
وانتصرت العساكر المصرية فأطلق سراح الشيخ، فأبى أن يكون في دمشق، حيث رأى ما رأى.
وفي سنة 639 رؤيت قافلة فيها شيخ أبيض اللحية مهيب وقور، يتجاوز الستين قليلا، ومعه صديق له يبدو عليه أنه مصري اسمه ابن الحاجب
1 ، وفيها أسرتهما وأمتعتهما وأتباعهما، تجتاز بلاد الشام قاصدة مصر.
الفصل الخامس
سلطان العلماء (2)
دخل عز الدين بن عبد السلام مصر، وقد سبقته شهرته بالعلم الواسع في مذهب الشافعية، وبغيرته الدينية وبعظمته الخلقية، وكان يعرفه بذلك كله ملك مصر «نجم الدين أيوب»، فولاه الخطابة في جامع عمرو بن العاص، وقلده القضاء في مصر (الفسطاط) والوجه القبلي (أما القاهرة فأفرد لها قاضيا خاصا) وعهد إليه بعمارة المساجد المهجورة بمصر والقاهرة.
وزاره المحدث الكبير وعالم مصر العظيم «عبد العظيم المنذري» فرأى من عز الدين فقها غزيرا وعلما كثيرا، ورأى عز الدين من عبد العظيم بحرا في الحديث وعلمه، فامتنع «عبد العظيم» من الفتوى وقال: لا أفتي وعز الدين بها، وامتنع عز الدين من «الحديث» وقال: لا أحدث وعبد العظيم بها.
وسرعان ما شاهد الناس من «عز الدين» فصاحته في الخطابة، وعلمه بأسرار الفقه وإخلاصه في عمارة المساجد، ونزاهته في القضاء، وصلابته في الحق، فكانت مكانته في مصر كمكانته في الشام.
ولكن هذه المناصب مع هذه الأخلاق لا بد أن تصطدم بذوي الرغائب وأولي الجاه والسلطان، فالحق مر لا يحلو في ذوقهم، والعدل ثقيل لا تهضمه نفوسهم، فما لقيه في الشام بدأ يلقاه في مصر.
هذا السلطان أيوب تقبل الأرض بين يديه، فيستفظع «عز الدين» هذا العمل أيما استفظاع، ويستنكره في صراحة أمام السلطان وأمام الحاشية وأمام الجمهور، ويخشى أخصاؤه عليه من هذه الجرأة فيقول: «لقد استحضرت هيبة الله فرأيت السلطان أمامي قطا.» ويطيع السلطان أمره وتنتهي المسألة بسلام.
ولكن كل يوم أحداث تؤلم الشيخ وتثير غضبه.
كان في منصب «أستاذ الدار» فخر الدين عثمان بن شيخ الشيوخ، وقد كان عظيما في منصبه، فهو القيم على الدواوين؛ والواسطة بين الرعية والسلطان، والمشرف على تحصيل الأموال من الملاك والمزارعين، والمتسلط على كثير من شئون الدولة، كما كان عظيما في جاهه فأولاد شيخ الشيوخ الأربعة متقلدون أهم المناصب، مقربون إلى السلطان؛ لأنهم إخوته من الرضاع.
هذا فخر الدين
1 - وهو ما قد رأيت - يعمد إلى مسجد من مساجد مصر، فيبني فوقه بناء يتخذه «طبلخاناه» تضرب فيه الطبول، وتنفخ فيه الأبواق، وتزمر المزامير لاستدعاء الجند والإعلام بالنوبة، وكان لكل أمير «طبلخاناه» لجنده، تضرب فيها الصنج من النحاس بإيقاعات خاصة يدل كل إيقاع على معنى، فإذا خرج الجند للقتال صحبت كل فرقة «طبلخاناتها» تحمسهم للقتال، وتفهمهم حركات الحرب من تقدم أو تأخر، أو تجمع، أو نحو ذلك، ففخر الدين يبني هذه الطبلخاناه لأخيه عماد الدين، فالناس تحت في صلاة، والجنود فوق رءوسهم يطبلون ويزمرون، ويفسدون عليهم عباداتهم.
هذه قلة ذوق لا ترضي أحدا، أفيليق أن تستخدم بيوت الله بيوتا للجند؟ وأن يؤذن المؤذن للصلاة والجنود تنفخ في بوقها، وتزمر بمزمارها، وتضرب بكاساتها؟ إن في هذا إفسادا لسكون العابد، وانتهاكا لحرمة الصلاة، وكان في الأرض ذات الطول والعرض ما يسع الطبل والزمر بعيدا عن بيوت الله، ولكنه الغرور بالجاه الذي لا يعبأ بشيء.
وآذان المغرورين لا تسمع لنصح ناصح، ولا عظة واعظ، فما هو إلا أن يأخذ «عز الدين» أولاده وتلاميذه وأتباعه وبيدهم الفئوس والمعاول، وإذا بحركة هدم عنيفة تقضي على الطبلخاناه في لمحة، وإذا الشيخ عائد إلى منزله بعد أن أبعد عن المسجد الطبل والزمر، ويصبح الصباح فيذهب إلى مكان القضاء فيحكم على «فخر الدين» بإسقاط عدالته وعدم قبول شهادته، ثم يسجل ذلك ويكتب استقالته ويرفعها إلى السلطان فيقبلها، ويجلس في بيته راضيا عن عمله مخلصا لربه.
وتذيع الحادثة، وترد على كل لسان في مصر، ويعجب المصريون بالشيخ وصلابته في الحق، وتضحيته، بمناصبه حسبة لله؛ ويتنقل الخبر من مصر إلى الشام، ومن الشام إلى بغداد، حتى يصل إلى أذن الخليفة، فيكبر الشيخ ويجله، وتشاء الأقدار أن يبعث السلطان برسالة إلى الخليفة؛ فيسأل الرسول: هل سمعتها من الرسول مشافهة؟ فيقول الرسول: لا، ولكن سمعتها من أستاذ الدار فخر الدين عثمان، فيقول الخليفة: لا أقبلها؛ لأن عز الدين أسقط فخر الدين فلا تقبل روايته. •••
استراح الشيخ من عناء المناصب الحكومية، وتفرغ للدرس، والتف حوله نوابغ الطلبة الذين تصدروا للعلم في الجيل التالي، كابن دقيق العيد، وعلاء الدين الباجي، وهبة الله القفطي؛ فهو يدرس فقه الشافعية، وتتحلق حوله الطلبة يناظرون ويتفقهون ويستفتون، والشيخ في بيته يحضر دروسه، وفي المسجد يلقي دروسه، وكلهم معجب بصفاء ذهنه، وصدق نظره في الاستنتاج الفقهي، وسعة اطلاعه، وفي لحظة إعجاب قال تلميذه «ابن دقيق العيد»: إنه «سلطان العلماء»، فصادفت هوى من نفوس السامعين، وشاعت على الألسنة ولبست الشيخ، كما قرر صديقه ابن الحاجب أنه أفقه من الغزالي، وأصبح الشيخ مصدر حركة علمية واسعة في مصر، في الفقه والتوحيد والتصوف، وتأتيه الأسئلة الدينية من الأقطار الإسلامية فيفتي فيها، ويخطئ مرة في فتواه، فيرسل من ينادي في مجتمعات الناس: إن الشيخ أفتى بكذا، فلا يؤخذ به؛ لأنه قد أخطأ في الفتوى. •••
ولكن اضطربت البلاد بغزو الصليبيين لمصر، فجمع لويس التاسع (ملك فرنسا) الجنود، وأعد الأسطول، وقاد ذلك كله بنفسه، وإذا بسبع مئة سفينة حربية صليبية محملة بالجنود وآلات القتال تظهر أمام دمياط، فيهرع أهلها إلى المنصورة، وتأتي الأخبار إلى مصر بأن الصليبيين أخذوا برج السلسلة (وهو برج عال مبني في وسط النيل، ومن ناحيتيه سلسلتان عظيمتان إحداهما تمتد منه إلى دمياط، والأخرى منه إلى البحيرة، تمنع كل سلسلة عبور المراكب من ناحيتها، وكانوا يسمون - بحق - هذا البرج بسلاسله «قفل الديار المصرية»، ونزل الصليبيون دمياط وتوجهوا إلى المنصورة. •••
تحول الشيخ عز الدين من عالم مدرس في المسجد إلى خطيب في المجتمعات يحرض على القتال، ويؤلب المسلمين على الصليبيين، ويستحث الأمراء على السرعة في الإعداد، والشعب على الإمداد، ويقوم بما تقوم به الآن الدعاية، مع فارق واحد، وهو تأسيس الدعاية؛ إذ ذاك على العزة الدينية والغيرة الإسلامية.
وها هي الدعوة تستجاب، والعدة تعد، وينضم إلى جيوش الأمراء والمماليك وجنودهم طائفة كبيرة من العربان ومن عامة الشعب المصري، وإذا الشيخ عز الدين - الرجل الأشيب المسن - يسافر مع العسكر إلى المنصورة، وينضم في صفوفهم، ويخطب فيهم، والجنود إذا رأوه ازدادوا حماسة وقوة، وامتلئوا أملا في الله، وعقيدة في النصر.
حارب المسلمون في البر والنيل، وانكسر الصليبيون، وأسر لويس التاسع واعتقل في دار ابن لقمان القائمة بالمنصورة إلى اليوم، وبعثت الكتب إلى الأمصار تبشر المسلمين بالظفر بالعدو وتقول في وصفه: «وكان قد استفحل أمره، واستحكم شره، ويئس العباد من البلاد، والأهل والأولاد، فنودوا: لا تيأسوا من روح الله ... فانتصرنا عليهم، فتركوا خيامهم وأموالهم وأثقالهم ... وما زال السيف يعمل في أدبارهم عامة الليل، وقد حل بهم الخزي والويل، فلما أصبحنا قتلنا منهم ثلاثين ألفا، غير من ألقى نفسه في اللجج، وأما الأسرى فحدث عن البحر ولا حرج، وطلب الفرنسيس (لويس التاسع) الأمان فأمناه، وأخذناه وأكرمناه، وتسلمنا دمياط بعون الله وقوته وجلاله وعظمته.».
ورجع الجيش ظافرا منصورا، وعاد الشيخ عز الدين فرحا مسرورا.
الفصل السادس
سلطان العلماء (3)
التاريخ يعيد نفسه، فقد نبتت فكرة استعانة الخلفاء بالموالي من الأتراك وغيرهم في العصر العباسي، يجندونهم أيام الحرب، ويتخذونهم زينة لهم وأبهة لملكهم أيام السلم، يخضعون بهم الخارجين عليهم لما عرف من بأسهم، ويتخذونهم عدة لهم في أيام شدتهم، وبدأ يفعل ذلك المهدي والرشيد، واستكثر منهم المعتصم، حتى ضاقت بهم بغداد، فاتخذ لهم مدينة سامرا ، وما زالوا يقوون ويستولون على شئون الدولة شيئا فشيئا حتى صاروا كل شيء، ولم يبق للخلافة شيء.
كذلك فعلت الدولة الأيوبية، فاستكثر منهم صلاح الدين الأيوبي وأخوه العادل، ثم من أتى بعدهم، حتى بالغ الصالح نجم الدين أيوب في ذلك، وحتى كان كل عسكره من هؤلاء الموالي، ثم ضاقت بهم القاهرة كما ضاقت بغداد بإخوانهم من قبل؛ فاتخذ الصالح أيوب لهم مكانا في الروضة إزاء المقياس، ثم استفحل أمرهم أيضا، فكان لهم الملك والسلطان، وزالت على أيديهم دولة الأيوبيين.
كان هؤلاء الموالي من ترك وتركمان وأرمن وروم وجركس وغيرهم، وكانوا يصلون إلى أيدي الأيوبيين إما عن طريق الأسر في الحروب، وإما عن طريق تجارة الرقيق، وكانت تجارة رابحة واسعة منظمة، تستخدم في ذلك البر والبحر، ويورد النخاسون من الرقيق أشكالا وألوانا؛ فهؤلاء جنود ضخام شداد يصلحون للقتال في البر والبحر، وهؤلاء غلمان حسان يملكهم الأمراء ويلازمونهم، وهم يتجملون بالملابس ويتزينون تزين النساء، ويفتنون الناس بجمالهم وزينتهم، وهؤلاء جوار كاللآلي، عيون نجل وشعور شقراء وبياض مشرب بحمرة وقدود حسان، والبريد كل حين يحمل ما يتمنى الأمير من مماليك وجوار، والمراكب تحمل المئات من هؤلاء وهؤلاء.
وقد كثرت في تلك الأيام هذه التجارة؛ لأن غزو التتار قد هيج هذه البلدان، وأوقع بالترك والجفجاق والروس والأرمن، فشرد السكان، وخرجوا هائمين على وجوههم، فمنهم من قتل ومنهم من سبي، وكثير ممن سبي شحن إلى مصر بلاد الغنى والترف والرخاء، وهي التي تقوم الجندية وتقوم الجمال.
يأتون كلهم إلى مصر ولا يعلمون شيئا من العربية ولا من الإسلام ولا من تقاليد الأمة، فيأخذ الأيوبيون في تعليمهم كل ذلك، والجند يمرنون على المناضلة بالسهام والمسالحة بالسيوف والرمي في البر والبحر ، والغلمان والجواري يمرنون في القصور حتى ترق حاشيتهم وتتهذب طباعهم وتصقل عاداتهم؛ فما هو إلا قليل حتى يملكوا زمام الأمور في الحكومة، وزمام الأسر في البيوت، ويرقى المملوك حتى يكون السلطان أو نائب السلطان، وترقى المرأة حتى تكون شجرة الدر، ثم هؤلاء المماليك ينقسمون أقساما ويتشعبون شعبا، ويختلفون نسبا؛ فهؤلاء العزيزية مماليك العزيز عثمان بن صلاح الدين، وهؤلاء الصالحية نسبة إلى الصالح نجم الدين ... إلخ، وكل فرقة تتعصب لسيدها وتتحزب ضد خصمها. •••
أصبح الناس في مصر في ذلك العهد - عهد آخر الدولة الأيوبية وعهد المماليك - ينقسمون قسمين متميزين: عنصر المماليك من أتراك وأرمن وما إليها، وفي يدهم أغلب المناصب الحكومية وأمر الجيش، ومنهم أغلب الجنود، وعنصر الشعب المصري، وهؤلاء هم الفلاحون والتجار والصناع، وعلى الجملة هم القائمون بالحركة الاقتصادية في البلاد، وأحيانا يجند منهم جنود إذا اشتد الأمر وجد الجد، وهناك طبقة العلماء، وهؤلاء يكادون يكونون حلقة الاتصال بين الطبقتين الأوليين؛ فطبقة الشعب تحتاجهم في أخذ الدين والعلم عنهم والاستشفاع بهم عند الولاة والأمراء، وإيصال شكاياتهم وتبليغ رغباتهم وما إلى ذلك، وطبقة الأمراء تحتاجهم في بعض المناصب الحكومية كالقضاء والخطابة والإمامة، وتحتاجهم في تنفيذ رغباتهم؛ لأنهم مسموعو الكلمة عند الشعب، فالشعب يطيعهم من قلبه ويطيع الأمراء من خوفه، والأمر إذا جاء من قبل الدين فالناس له أطوع، وقيادهم له أسلس، من أجل هذا كانت تلتقي في العلماء رغبات الشعب ورغبات السلاطين والأمراء؛ فإذا ضج الشعب من شيء وسطوا العلماء، وإذا احتاج الأمراء إلى مال من الشعب وسطوا العلماء، وكان كثير من العلماء يخضعون للولاة والأمراء أكثر مما يخضعون لله، فهم يتحسسون رغباتهم ليجاروهم في أهوائهم، ويؤولون أوامر الدين ونواهيه حسب مطالبهم، ويقلبون صفحات كتب المذاهب ليعثروا على قول لأحد الفقهاء يجاري رغبة الأمراء، وقليل منهم قد باع دنياه لآخرته، ورضا الأمراء لرضا ربه، فلا يهمه ماله بقي أم صودر، ولا تهمه حريته أطلق أم سجن، بل لا تهمه نفسه حي أم قتل.
وكان صاحبنا عبد العزيز بن عبد السلام من هذا القليل الذي فني في الحق وأخلص لدينه، فلا يقدر عاقبة نفسه، وإنما يقدر عاقبة أمته وموقفه بين يدي ربه. •••
لقد اشتد التتار في الغزو واجتاحوا البلاد، ووصلوا إلى «عين جالوت»، ولا بد لمصر أن تقف أمامهم وترد كيدهم؛ ولكن العدو شديد وعدده وفير، والقوة لا تدفع إلا بالقوة والعدد بالعدد والعدة بالعدة، وهذا يتطلب أن تبذل الأمة أقصى ما تستطيع من المال في سبيل المكافحة، والعلماء هم الذين يستطيعون أن يقنعوها بالإنفاق من طريق الدعوة الإسلامية والغيرة الدينية.
فهذا الملك المظفر سيف الدين قطز يجمع العلماء بحضرته، وعلى رأسهم عبد العزيز بن عبد السلام، ليتدبروا في المال كيف يجمعونه، والعاطفة الدينية كيف يستفزونها؛ فيقف الشيخ ويقول: «يجب أولا أن تخرجوا ما في بيوتكم من حلي لا حصر لها، وما في بيوت أمرائكم وجنودكم من الثياب المزركشة والمناطق المذهبة والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة في أيديكم وأيدي أتباعكم ومماليككم، ثم تذيبوها وتضربوها نقودا وتنفقوا منها على إعداد الجيش وتموينه؛ فإذا تم ذلك واحتجتم إلى مال بعد فكلنا على استعداد - إذا - أن نطلب من الناس أن ينفقوا، ومن العامة أن يخرجوا عما في أيديهم، أما أن تبقوا على ما في أيديكم من أنواع الترف والسرف، ونطلب من الناس أن يتبرعوا بما في أيديهم من ضرورات الحياة فلا، يجب أن يسوى الأمراء بالرعية فيما يملكون، فإذا تساووا وجب الإنفاق من الجميع.» وإذا قال الشيخ لا فلا، ولا رجعة فيها، والأمة وراءه.
فاضطر الملك أن ينفذ ما قال، فخرجت الأكداس المكدسة من الحلي والثياب المزركشة، وانتزع الذهب والفضة من السيوف والأواني، وصيغا سكة فكفت وأغنت، ولم يحتج إلى أن يمس الناس في شيء من أموالهم. •••
ثم كانت الحادثة العجيبة الجريئة التي أقامت الدنيا وأقعدتها، هؤلاء جماعة من المماليك دفعت أثمانهم عند الشراء من بيت المال ثم لم يعتقوا، والشيخ في منصب القضاء والمشرف على بيت المال، والمسئول عن مال المسلمين وصحة الأحكام الشرعية، وهؤلاء المماليك أصبحوا أمراء بارزين وبيدهم الحل والعقد، ومنهم من بلغ أن يكون نائب السلطنة، وجاههم عريض وأمرهم نافذ؛ ولكن الشيخ لا يأبه بذلك كله، ويحدث أزمة حادة قل أن يكون لها مثيل، أعلن الشيخ أنهم أرقاء لا يصحح لهم بيعا ولا شراء ولا زواجا، فتعطلت مصالحهم؛ فهم إن ملكوا لا يسجل لهم ملكا، وإن تزوجوا لا يعقد لهم زواجا، ثم هم أهينوا في أنفسهم وشرفهم وجاههم بدعوى رقهم؛ ولكن الشيخ واقف وقفة الأسد لا يلين ولا يتزحزح. - وما الحل أيها الشيخ؟ - الحل أن يباعوا في الأسواق ويتزايد الناس في شرائهم، ومن ملكهم إن شاء أعتقهم وإن شاء استرقهم، وثمنهم يدخل في بيت مال المسلمين كما خرج منه. - هذا غير معقول، نائب السلطنة يباع؟ ومن هم أسياد البلد يصبحون عبيدا كالسلع يباعون ويشترون، هذا ما لا يكون ولا يدخل في عقل!
الشيخ: هذا حكم الله وكلنا عبيده وعبيد أحكامه، وأنا القيم على تنفيذها.
والمسألة كل يوم تتسع وتتحرج، وينقسم الناس حزبين: طبقة الأرستقراطية والحكام والسلطان في جانب، والشعب وعلى رأسه الشيخ في جانب، والمجالس تعقد والأزمة تستحكم، والحلول تعرض، والشيخ يأبى إلا بيع الأمراء. •••
غضب السلطان واحتد على الشيخ، وأعلن أنه لا يعمل برأيه.
ها هي الحمير تعد، ومتاع الشيخ يزم، والشيخ يعتزم الخروج من مصر كما خرج من قبل من الشام، ويطير الخبر، فيعتزم كثير من الأعيان والعلماء والتلاميذ الخروج مع الشيخ والرحيل معه متى رحل، والإقامة معه حيث يقيم؛ وإذا البلد في حركة عجيبة وفوران شديد؛ وإذا طائفة كبيرة من العلماء والصلحاء والتجار بنسائهم وأولادهم وأمتعتهم يستعدون للرحيل، وإذا العزم يصبح تنفيذا، فها هي قافلة كقافلة الحج تخرج من مصر.
وينظر السلطان فيرى أن خير من في البلد راحل من مصر، وأن مصر لا تصلح بعد خروجهم، وأن من بقي بعدهم باق على مضض، فكيف يستقيم ملك مع هذا كله؟ فإما أن يرجع الشيخ وإما أن يضيع الملك.
لا بد مما ليس منه بد، هذا السلطان يخرج مسرعا ويلقى الشيخ في طريقه فيستسمحه ويرجوه في العودة، فيأبى الشيخ إلا أن ينفذ البيع في الأمراء، فيقبل السلطان ويعود الشيخ. •••
علم نائب السلطنة أنه سيباع فيمن يباع؛ فهاج وغلى الدم في عروقه، واعتزم ألا يتم ذلك بأي وسيلة، فركب فرسه وجرد سيفه، وقصد إلى الشيخ يحتز رأسه وقرع الباب، وأبلغ الشيخ أن نائب السلطنة حضر وسيفه مسلول يريد قتله؛ فنزل الشيخ في هدوء واطمئنان وثبات، وهو يقول: «أنا أقل من أن أقتل في سبيل الله.» فما رآه نائب السلطنة حتى تمازجت في نفسه مشاعر مختلفة: هيبة الشيخ ووقاره، والخوف من نقمة الناس وهياجهم عليه حتى لقد يفقد نفسه، والرحمة على شيخ مسن لم يقل ما يقول شهوة لنفسه، ولكن إرضاء لدينه، فيبست يده على سيفه، وتخاذلت عزيمته وعاد كما أتى. •••
هذا هو مجلس البيع يعقد، وهؤلاء هم الأمراء ينادى عليهم، وهذا هو الشيخ يقبل ثمنا ويرفض ثمنا، حتى يبلغ ثمن المثل، وهذا هو يقبض المال، وهذا هو يودعه في بيت مال المسلمين، وهذا هو يبلغ ذروته في المجد والعظمة، ويحتل في نفوس الناس مكانا لا يحتله أحد من بعده.
لقد مات الشيخ فخرجت مصر تشيعه، وتشيع الصلابة في الحق، والعظمة في الدين والإخلاص للعقيدة.
ويطل الظاهر بيبرس، فيرى مصر وراء جنازة الشيخ وقلبها يتفجع لفقده، فيلتفت إلى بعض خواصه ويقول: «اليوم فقط طاب ملكي.».
الفصل السابع
نظرة في الكون
ما أجمل الطبيعة، وما أجلها، وما أحكمها، وما أغناها!
هذه حبة واحدة أنبتت سبع سنابل، في كل سنبلة مائة حبة،
وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين ، وهذه الأرض يصيبها الماء فتخرج من الأزهار ومن بدائع الألوان، في الجبال وفي الوديان وفي الغابات، ما يسحر العين ويأخذ باللب؛ وهذا المحار في البحار ينشق عن نصفين منسجمين متساويين في النقوش والألوان والتعاريج يعجز عن تقليدهما أمهر فنان؛ وهذا الفم الذي يأكل ويقضم يخرج الدر من الحكم، والطيب من الكلم؛ وهذه الشجرة العظيمة الضخمة خرجت من بذرة؛ وهذا الإنسان العجيب نشأ من ماء مهين!
هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون * ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون * وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون * وما ذرأ لكم في الأرض مختلفا ألوانه إن في ذلك لآية لقوم يذكرون * وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون .
وهكذا من ملايين وملايين من العجائب، قلل عجبنا منها إلفنا لها وأنسنا بها.
ومن أعجب هذا الباب ما يأتي من باب الغرائز! فهذا ضرب من الأسماك يسافر آلاف الأميال إلى حيث يجد المكان الملائم لنسله، فإذا ماتت الكبار عادت الصغار إلى مكان آبائها بهاد من غريزتها؛ وهذه الطيور تحشد في الربيع والخريف جماعات، وتقطع الجبال الشامخة والبحار الشاسعة لتصل إلى الأقاليم الملائمة؛ ما الذي دلها على الطريق في ذهابها وإيابها، ولا علامات ولا دلالات؟ إنها الغريزة العجيبة التي تدل حمام الزاجل على مأواه والقط على مسكنه، إنها الغريزة التي تحمل كل حي من نبات وحيوان وإنسان على أن يأتي بمختلف الوسائل والأعاجيب ليحفظ نفسه ويحفظ نوعه.
إن أعمال الطبيعة وأعاجيبها ونظامها ودقتها فوق أفهامنا، وفوق منطقنا وتفكيرنا وتعليلنا، كل صغير مما لا يرى إلا بالمكرسكوب، أو كبير يرى بالتليسكوب، يحيا حياة عجيبة يدق سرها عن الفهم، ويقصر عن إدراكها العقل، الحبة في الأرض، والذرة في الهواء، والسمكة في الماء، والنجم في السماء.
وصدق الجاحظ؛ إذ يقول: «ولو وقفت على جناح بعوضة وقوف معتبر، وتأملته تأمل متفكر، بعد أن تكون ثاقب النظر، سليم الآلة، غواصا على المعاني ... لملأت - مما توجد العبرة من غرائب - الطوامير
1
الطوال، والجلود الواسعة الكبار ... ولتبجست عليك كوامن المعاني ودفائنها، وخفيات الحكم وينابيع العلم ... وقد قال تعالى:
ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله ؛ والكلمات في هذا الموضع ليس يريد بها القول والكلام المؤلف من الحروف، وإنما يريد بها النعم والأعاجيب، وما أشبه ذلك، فإن كلا من هذه الفنون لو وقف عليها رجل رقيق اللسان صافي الذهن صحيح الفكر تام الأداة، لما برح أن تحسره المعاني، وتغمره الحكم.». •••
ولكن بجانب هذه المعاني اللطاف والعجائب التي لا تنتهي، نرى الطبيعة كذلك تقسو ولا ترحم، لا تعبأ بالألم يصيب الأحياء، كأنها آلة عمياء، سلحت القوي ومكنته من الضعيف والضعيف من الأضعف، «هذا الأسد يصيد الذئب فيأكله، والذئب يصيد الثعلب فيأكله، والثعلب يصيد القنفذ فيأكله، والقنفذ يصيد الأفعى فيأكلها، والأفعى تصيد العصفور فتأكله، والعصفور يصيد الجراد فيأكله، والجراد يصيد فراخ الزنابير فيأكلها، والزنابير تصيد النحل فتأكلها، والنحلة تصيد الذبابة فتأكلها، والذبابة تصيد البعوضة فتأكلها»، والإنسان سلط على الجميع، وسلط بعضه على بعض، إنها لا تندم على إيلام، ولا تحزن لموت، ولا تعبأ أن تكون كلها ساحة قتال، تسلح الغالب والمغلوب، والقوي والضعيف؛ ثم تقف متفرجة على القتال والالتهام، والتنكيل والآلام؛ كأن الأمر لا يعنيها في قليل ولا كثير، وضعت الشهوة في كل حي، وأخضعت لها القوة والمكر والحيلة، وأطلقت لكل أولئك العنان في المنافسة والمحاربة، واتخذت ذلك قانونها وديدنها في كل شيء، من أصغر حيوان إلى أعظم إنسان؛ ثم نفضت يدها من كل ذلك، ووقفت تسجل ولا تتدخل، بل تمد هؤلاء وهؤلاء، حتى لا يفتر النزاع ويبطل الخصام.
هذه أمة آمنة مطمئنة تلهو وتلعب، وتعمل وتسعد، تثور عليها الطبيعة ببركانها وتجعلها في لحظة حمما؛ وهذه مدينة جميلة بسكانها وما عليها زلزلت بها الأرض فخسفت وأصبحت كأن لم تغن بالأمس؛ وهذا مركب يعد خير إعداد، ويوسع أكبر سعة، ويجهز أحسن جهاز، فيبتلعه البحر بمن عليه في لمحة؛ وهذه الأمراض تنتاب الإنسان فلا ترحم طفلا صغيرا ولا شيخا هرما، ولا ترأف بالأم في وحيدها، ولا بالأسرة في عائلها؛ وهذا الموت سلط على كل حي، فذهب بلذته، وطاح بأمله، وهذا الإنسان لعبت به غرائزه، فأشعل نيران الحروب، وأقام كل حين مجزرة هائلة مفزعة، وهكذا حتى أصبحت لذائذ الكائن الحي - وسط هذه الأمواج من الآلام - لحظات خاطفة، ولمعات كوميض البرق. •••
نقرأ الصفحات الأولى من الطبيعة، فنرى الجمال والجلال، والحسن والانسجام، والعظمة ودقة الصنع، وعجائب الغريزة؛ ونقرأ الصفحات الثانية فنرى القسوة والفظاعة والتعذيب والإيلام.
من قديم حار العقل في تفسير هذه الظواهر المتناقضة كيف يكون من الطبيعة بجانب هذه الحكمة هذا السفه؟ وكيف يكون بجوار هذه الرحمة هذه القسوة، وكيف يكون مصدر هذه اللذائذ مصدر هذه الآلام.
لقد ذهب بعض علماء الدين إلى أن نقمة الطبيعة من غضب الله على الإنسان إذا خالف أمره وارتكب ما نهاه عنه؛ ولكن - مع الأسف - لم نر هذا مطردا، فقد ينعم في هذه الدنيا الماكر المخادع، والغادر المنافق، ويألم المؤمن الورع والتقي الصالح؛ وكما قال الأول:
قد يقتر الحول التق
ي ويكثر الحمق الأثيم
ومن أجل هذا جرى على ألسنة الناس المثل المعروف: «المؤمن مصاب».
وذهب بعض الطبيعيين المحدثين إلى أن الألم يصيب الإنسان إنما هو تحذير من الأخطار المستقبلة؛ فصداع الرأس علامة مرض تنبه الإنسان إلى وجوب ملافاته، والمغص كذلك، والرمد كذلك؛ وهذا التعليل أيضا ليس صادقا دائما، وإن صدق في آلام الإنسان فما تفسير إيلام الطبيعة بأحداثها؟
وأذكر أني قرأت مرة قولا طريفا لبعض المفكرين في هذا الموضوع، خلاصته أن موضع الخطأ في هذا السؤال هو أن الإنسان يريد أن يطبق أخلاقيته على أخلاقية العالم، فهو يسمي بعض الأعمال رحمة وبعضها قسوة، وبعضها نعمة وبعضها نقمة، وبعضها لذة وبعضها ألما؛ ولكن هذه التسمية صحيحة بالنسبة له فقط وبمقياسه هو فقط، ولكن وراء عالمه الإنساني عوالم أخرى في الأرض، ووراء عوالم الأرض عوالم لا عداد لها في غير الأرض، أليس من غرور الإنسان أنه يريد أن يطبق العدل والظلم في العالم حسبما يدرك بنظره القاصر وفكره المحدود، ويريد أن يخضع العوالم الواسعة لعالمه الضيق، ويريد أن يطبق قوانين العالم الكلية على قوانينه هو الجزئية؟
وهو جواب ماهر لم أستطع أن أقف أمامه موقف تأييد أو تفنيد، ومشايعة أو معارضة.
يظهر لي أن موضع الخطأ في فهم هذه المسألة أنهم يعرضون مشكلة الآلام وحدها ويريدون حلها، وهي لا يمكن أن تفهم إلا إذا عرضت الدنيا كلها على أنها وحدة، كيف نفهم الأبيض من غير أسود، والحرارة من غير برودة، والطول من غير قصر، والعمى من غير بصر ؟
كذلك الآلام لا يمكن أن تفهم إلا على أنها جزء لا يستغنى عنه من نظام هذا العالم، ولو انعدمت الآلام؛ لأنهار نظام هذا العالم من أساسه.
إن الفضيلة لا يمكن أن توجد في هذا العالم إلا إذا وجدت الرذيلة؛ فلا نفهم الإيثار حتى نفهم الأثرة، ولا توجد البطولة حتى توجد النذالة، ولا العدل حتى يوجد الظلم، ولا الشجاعة حتى يكون الجبن؛ كذلك لا يوجد الحب من غير عذاب، ولا اللذة من غير ألم، ولا التوبة من غير إثم.
ولو انعدمت الآلام، والرذائل والآثام ما كانت الفضائل العالية، ولا الأعمال النبيلة، ولا أعمال البطولة التي يتغنى بها الشعراء، ولو انعدم القبح؛ لانعدم الجمال، ولولا الأشقياء ما كان السعداء.
لا معنى لأني أحب من أحب إلا إذا اشتمل ذلك على الألم، فمعنى أني أحبه أني أشاركه أحزانه، وأخاف عليه الأذى يناله، وأخاف انقطاع الصلة بيني وبينه، وهل هذه كلها إلا آلام إذا ذهبت ذهب الحب.
إن احتمال الآلام في هذه الدنيا كان لنا منه أكبر الفضائل، من حزم وصبر وثقة بالنفس وتضحية للخير وعذاب للإصلاح، ولولاه ما كانت.
لولا عواطف الألم ما كان شعر ولا فن، ولا نحت ولا موسيقى ولا تصوير، ولا معان إنسانية، ولا وطنية ولا قومية.
فلو كان العالم كما يتطلبه العامة خاليا من الآلام لكان بالطبيعة أيضا خاليا من اللذائذ، ولو كان خاليا من الرذائل كما يبغون لخلا أيضا من الفضائل؛ إذ لا يمكن أن تتصور لذة بدون ألم، ولا فضيلة بدون رذيلة.
إن عالمنا هذا بني على الخير والشر، واللذة والألم، والفضيلة والرذيلة، والسعادة والشقاء، وكل منهما كأحد جانبي الوجه لا يكمل إلا بجانبه الآخر، ولا يفهم إلا بالآخر، فمن أراد عالما لا ألم فيه فليطلبه في غير هذا العالم، وعلى غير هذا النظام كله.
وتبارك الله رب العالمين.
الفصل الثامن
أول ثورة على التربية في مصر
قلت للكتبي الذي اعتدت أن أمر عليه حينا بعد حين: - هل عندك من جديد؟ - نعم، عندي تاريخ اليمن لعمارة اليمني طبع أوروبا، وثمنه مئة وخمسون قرشا. - وماذا غيره؟ - وعندي رحلة ابن جبير طبع أوروبا أيضا، وثمنها مئة وعشرون قرشا. - ثم ماذا؟ - وعندي كتاب قيم جدا لم يقع في يدي إلا مرة واحدة منذ احترفت بيع الكتب، وسيعجبك جدا. - هو مما طبع في أوروبا أيضا؟ - لا لا، هو أثمن من ذلك، قد طبع في مصر، ولكنه نادر جدا، وأثمن من كل ما طبع في أوروبا. - وما اسمه وما موضوعه؟ - لا أخبرك باسمه ولا بموضوعه حتى تراه، ولا أريكه حتى تنتهي في هذين الكتابين وتشرب القهوة.
وشربت القهوة, وشريت الكتابين، واستنجزته وعده، فأحضر الكتاب وهو يضحك، وفتح صفحة من الكتاب، فإذا فيها «ألف وباء» إلى آخر حروف الهجاء، بالثلث!
شاركته في الضحك، واستظرفت مزحته، وآليت أن أنقل مزحه جدا، فأجعل من الكتاب موضوعا.
فقلت: ما ثمنه؟
قال: هو أتفه من أن يكون له ثمن.
وأخذت الكتب وانصرفت.
لم يجذبني إلى القراءة تاريخ اليمن ولا رحلة ابن جبير كما استرعى نظري كتاب «ألف باء».
رأيت في الصفحة الأولى منه: «كتاب طريق الهجاء والتمرين على القراءة في اللغة العربية.» بالعناية الخديوية الإسماعيلية أعزها الله، وبهمة سعادة علي مبارك باشا مدير المدارس الملكية، والأشغال العمومية، وسكك الحديد المصرية والقناطر الخيرية، للتعليم على مقتضاه في المكاتب الأولية المصرية، ثم قريبا من الذيل حديث شريف: «أكرموا أولادكم وأحسنوا أدبهم» وفي آخر الصفحة «الطبعة الأولى بمطبعة وادي النيل في القاهرة سنة 1285.». •••
رأيت في أول الكتاب مقدمة بديعة حقا، مفيدة حقا، تعد ثورة على طرق التربية القديمة، ورسما لخطة جديدة، كتب في أولها أنها «مقدمة تشتمل على بعض تعريفات تتعلق بأصول طريقة التعليم التي يقتضى أن يجرى عليها العمل.» وإنها «خطاب من إدارة عموم المدارس المصرية الملكية إلى حضرات الخواجات (ولعله يريد الخوجات)، والمؤدبين بالمكاتب الأهلية وسائر المندوبين للتربية الأولية.» وكتب في آخرها «حررها علي مبارك باشا.».
هي ثورة تعليمية حدثت من نحو ثمانين عاما، فقد كتبت كما أسلفت سنة 1285ه/1868م.
كانت نظم التعليم قبل ذلك في المكاتب تجري على أنماط القرون الوسطى، فالطفل يذهب إلى الكتاب، فيسلم له «سيدنا» أو «العريف» لوحا من الصفيح كتب فيه بالحبر: ب ت ث ... إلخ، ويحفظه: «ا» لا شيء عليها، ب واحدة من تحتها، ت اثنان من فوقها، ث ثلاثة من فوقها ... إلخ، فيكررها الطفل كما يقول «سيدنا» أو «العريف» وهو كاره لذلك كل الكره، غير فاهم لما يقول، فإذا لم يحفظ فالعصا على ظهره، فإذا لم ينجح فرجلاه في «الفلقة»؛ فإذا انتهى من ذلك بعد عناء، انتقل به «سيدنا» إلى خطوة أخرى، فكتب له في اللوح: «ا ألف»، ونطقها ألف ألف لام فاء، «با» با ألف، «بو» با واو ... إلخ.
وهي ألغاز لم أفهمها إلا وأنا في سن العشرين، وتفسيرها أن كلمة ألف تتركب من ألف ولام وفاء، وكلمة «با» تتكون من باء وألف، و«بو» تتكون من باء وواو ... إلخ، وهو نمط عجيب في التعليم، فإذا انتهى من ذلك كتبت الحروف مشكولة، و«سيدنا» ينطق والطفل ينطق وراءه كالببغاء.
فإذا تم ذلك كله بعد مشقة وعناء تدوم أشهرا؛ كتب له سيدنا في اللوح سورة الفاتحة فسورة الناس ... إلخ، والطفل يقرأ اللوح ويحفظه ويسمعه؛ وهكذا يسير في حفظ القرآن إلى أن يتم حفظه أو ينقطع، ومن حين إلى حين يعلمه «سيدنا» أن يكتب اللوح بنفسه، ثم لا التفات إلى شيء من العلوم، ولا إلى شيء من السلوك، ولا مراعاة لعقلية الطفل.
جاء «علي مبارك» فأراد في هذه المقدمة أن يغير هذا كله ويقرر مبادئ في التربية جديدة يأخذ بها المعلمين أجملها في خمس عشرة فقرة.
فقرر أن خير مناهج التربية ما أوصل إلى الغاية من أقرب طريق، من غير أن يمل الطفل أو يتعبه مع مراعاة قواه العقلية.
وأن تكون التربية مؤسسة على استخدام الطفل جميع حواسه ما أمكن، ولذلك يجب أن تقترن كتابته بقراءته.
ويجب تأخير استعمال الحبر والورق في التعليم، والبدء باستعمال الطباشير والألواح السوداء، فذلك أوفر وأنظف.
وأن تكتب أولا الحروف المفردة بالخط الثالث الثخين في لوحات سوداء بالطباشير ويكررها المعلم على التلاميذ؛ فمن تقدم منهم في معرفة ذلك جعلوا عرفاء ثم يوزع المعلم التلاميذ الضعفاء على العرفاء ليعلموهم على اللوحات المختلفة نطق الحروف ثم كتابتها تحت إشراف المعلم، ولا ينتقل من درس إلى درس حتى يتصوروا الدرس القديم ويتقنوه ويعرفوا نطقه وكتابته.
وبعد ذلك يعلمهم الحروف متصلة بحروف العلة، فيكتب الباء مع الألف هكذا «با» وينطق بها «با» ممدودة وكفى من غير الفلسفة القديمة في التهجية، ثم يعلمهم الحروف بالعلامات كذلك.
فإذا عرفوا الحروف الهجائية انتقلوا إلى الكلمات الصغيرة من حرفين فثلاثة ... إلخ، ثم الجمل، ولا يعطي المعلم لهم جملة من غير أن يفهمها لهم.
وقد وضع منهجا لمدة الدراسة وهي ثلاث سنوات، ففي السنة الأولى يتعلم القراءة والكتابة باللغة العربية واللغة التركية (وهذا عجيب)، ويحفظ بعض نوادر ونصائح وأمثال وحكم وأعداد الحساب.
وفي الثانية والثالثة يتعلمون قواعد النحو والصرف مع الاستمرار على المطالعة في الكتب، وحفظ بعض نوادر تركية، ومواد تاريخية وجغرافية، وتكميل العمليات الحسابية، ورسم جميع الأشكال الهندسية، وفهم بعض خواصها وتعريفاتها.
هذا من حيث التعليم، أما من حيث التربية، فوضع لها خططا محكمة، وجه المعلمين إلى العناية بحسن سلوك التلاميذ، ومراعاة صحتهم، فالمعلمون يجب أن يلاحظوا سلوك التلاميذ ونظافتهم، ويضعوا لذلك «نمرا» كل يوم، تجمع مع «نمر» العلوم، ويرتب التلاميذ بحسبها جميعا، ويوضع على كل فصل لوحة كل ستة شهور بأسماء التلاميذ مرتبة حسب متوسط درجاتهم العلمية والخلقية والنظافة.
ويجب أن يكون المأمور (ناظر المدرسة) أبا رحيما مثالا لحسن السلوك والفضائل والشرف، للتلاميذ والمعلمين، وأن يفهم «أنه القائم في وظيفته مقام الحكومة في تأدية ما يلزم من الواجبات، والنائب من طرف الأهالي في الرأفة بأولادهم، ومزاولة أحكامهم ، والتحفظ على صحتهم، فهو مسئول عن هؤلاء الأطفال بين يدي الخالق والخلق».
ثم ذكر أن من أهم ما يجب على المعلمين، تربية حواس التلاميذ، فيجب أن يمرنوا حاسة البصر، بأن يؤتى بالطفل ويؤمر بالوقوف عند شباك مفتوح وينظر ما أمامه، ثم يؤمر بالتحول، ويكلف وصف ما رأى بالتفصيل ، ومقدار بعده وارتفاعه ... إلخ، وأن تمرن أذنه، فيعود الطفل - وعيناه مربوطتان - أن يعرف الناس بمجرد سماع أصواتهم ولو غيروها، وعلى معرفة الأشياء بما ينشأ عنها من رنين وحركات، وهكذا وضع خطة لتمرين كل حاسة.
ونصح بعدم التضييق على الأطفال، لميلهم الطبيعي إلى اللعب والحركة، فينبغي انتهاز فرصة ميلهم الطبيعي وتوجيهه إلى توسيع دائرة معلوماتهم وتحسين سلوكهم. •••
هذا مجمل الخطة التي اختطها في تقريره، وسميتها ثورة لبعد الفرق بين ما كان وما أراد «علي مبارك» أن يكون.
ثم أراد أن يخرج الفكرة إلى العمل، فوضع أول كتاب - فيما أعلم - لتعليم القراءة والكتابة والمطالعة على النمط الحديث؛ فالجزء الأول هو الحروف الهجائية في الخطوط المختلفة، ثلث وفارسي ونسخ وتوقيع ورقعة، ثم الحروف متصلة بحروف العلة، ثم الحروف مضبوطة بالحركات، ثم كلمات مركبة من حرفين فثلاثة ... إلخ، ثم كلمات في جسم الإنسان ومراحل عمره، ثم جمل صغيرة، ثم أمثال ومواعظ ونوادر تاريخية، ثم أشكال الحرف الكوفي، وبذلك تم هذا الجزء.
ولم يشأ أن يجعله حروف مطبعة لصعوبتها على التلاميذ، فعهد إلى أكبر خطاط في مصر، وهو «مؤنس أفندي» فكتب هذا كله ونوعه بخطه الجميل، وطبعه على مطبعة الحجر، وتدرج بذلك من كلمات مشكولة إلى كلمات مشكولة بعض الشكل إلى كلمات غير مشكولة؛ فإذا جئنا إلى الجزء الثاني رأيناه مجموعا من الحروف ومطبوعا كذلك، وقد قسمه إلى جملة مجموعات، سمى كل فصل مسامرة؛
فالمجموعة الأولى:
تاريخية اجتماعية.
والثانية:
في الكون وأجزائه من إنسان وحيوان ونبات ومعادن وهواء ونور ونار وزلازل وماء وبخار وندى وسحاب ومطر وشمس وقمر وكسوف وخسوف.
والثالثة:
في الدين وقواعده وأركانه.
والرابعة:
في قوانين الصحة.
والخامسة:
في النصائح والمواعظ والأخلاق الإسلامية.
وبذا يتم الكتاب.
ويذكر في أول الجزء الثاني أنه استعان في أداء هذه الخدمة بقلم السيد صالح مجدي أفندي، والكتاب بجزئيه يصور عقلية القائمين بأمر التعليم في هذا العصر، ويصور أسلوب الكتاب ومنهج تعبيرهم وتفكيرهم، والمثل الذي ينشدونه لأبنائهم، ومقدار ذوقهم في تخير ما يعرضونه على أطفالهم، وفيه موضع لدراسة دقيقة وافية لمدى تقدمنا الآن ومراحل سيرنا، وهل هي تساوي ثمانين عاما أو لا تساوي، وفيه موضع عبرة كيف يتوفر وزير المعارف بجلالة قدره - مع ما عهد إليه من إدارة الأشغال والسكك الحديدية والقناطر الخيرية، يعاونه أشهر الكتاب في ذلك العصر السيد صالح مجدي؛ لوضع كتاب في ألف باء للأطفال بعدا في النظر وشعورا بعظم الواجب.
فهل ترى يا صديقي «الكتبي» أن هذا كله لا يساوي شيئا غير الاستهزاء به والضحك منه.
الفصل التاسع
في الهواء الطلق (1)
كانت جلسة ظريفة على شاطئ النيل، والنسيم عليل، بعد نهار يخنقنا بحره ويلفحنا بسمومه.
في رفقة منسجمة تتسامر وتتحاور، وكل شيء حولها هادئ، نور هادئ، ونسيم هادئ، ونيل هادئ، وحوار هادئ.
وكانوا يختلفون في ثقافتهم ويتحدون في قوة عقلهم وسعة نظرهم ونبل عواطفهم: من مؤرخ صرف عمره في تحقيق الأحداث، والبحث في تعليلها وأسبابها ونتائجها، واقتصادي يرى كل شيء ورقة مالية، أو نقودا ذهبية وفضية، حتى ما نسميه نحن بواعث روحية، وأديب يتفلسف، أو فيلسوف يتأدب، له نزعة شعرية وطبيعة صوفية.
أخذ الحديث يجري على هواه من غير ضابط، فمرة يسير في اتجاه السلم والحرب، وتارة في الشرق والغرب، وأخيرا تركز في أسباب نهضة الأمم وكيف يجري الزمان في سهولة ويسر ونظام، وإذا بحادث فجائي أو أحداث فجائية تغير مجرى الأمة تغيرا خطيرا، حتى كأنها بعثت بعثا جديدا، وحتى يخيل للناظر أن ليس من صلة بين قديمها وحديثها، ونومها ويقظتها.
قال صاحبنا المؤرخ: تعليل ذلك عندي ما تلده الأمة من عظماء ونوابغ، والزمان شحيح في ولادتهم، فقد يمر العصر الطويل وهو عقيم، ثم يلد عظيما فيغير وجه التاريخ، وكأن يده عصا سحرية يحول بها الحديد ذهبا، والخمول نشاطا، والضعف قوة؛ والتاريخ نفسه أكبر شاهد على ذلك، فما الأمة العربية لولا «محمد»؟ وما الفتوح الإسلامية وتنظيمها لو «عمر»؟ وهكذا تقول في سائر الأمم أمثال الإسكندر ويوليوس قيصر ونابليون وغيرهم، إنهم يأتون فيفرضون قوتهم وروحهم على الأمم فيسيرونها حسبما رسموا، ويملون إرادتهم على أحداث الزمان ، فيتشكل التاريخ وفق أغراضهم، وتسير الفتوح أو الثقافة أو أشكال الحكومة تبعا لإرادتهم، ويتحدد مستقبل أممهم بما نفخوا من روحهم، ونشروا من تعاليمهم، وأوضحوا من غايتهم، وهؤلاء العظماء النوابغ - عادة - يخلفهم من يؤمن إيمانا تاما بمبادئهم، فيسيرون على طريقهم، ويكملون ما بدءوا به، وإن كانوا أقل منهم قوة وأضعف أثرا.
هذا هو قانون التاريخ قديما، وهو قانونه حديثا، فلو أتاح الله لأمم الشرق اليوم نوابغ أقوياء، لتغير مجرى حياتهم، وارتفع شأنهم، وتلفت العالم إليهم يسبح بحمدهم. •••
وفجأة كسر هذا الهدوء رجل ضخم الصوت ينادي «العظيمة يا منجه.» فالتفت الصحب إليه وأعجبتهم فاكهته، ونادوا فتى القهوة فغسلها وثلجها، وجرى ريق القوم، وأخذوا ينعمون بأكل شهي إلى الحديث الشهي. •••
قال صاحبنا الاقتصادي وهو يتلمظ: - أظن يا أستاذ أن هذا غير صحيح، أتظن أن هذا العظيم ينزل - على الأمة - بمظلة من السماء، أو يخرج فجأة من الأرض؟ إن لخروج العظماء والنابغين قانونا طبيعيا لا يتخلف، كقانون الحرارة والبرودة والجاذبية، وإن كان أكثر تركبا وتعقدا؛ فالنوابغ نتيجة لا سبب، هم تعبير الحياة الاجتماعية.
العوامل المختلفة تعمل، والأحداث تتفاعل، والنفوس تتهيأ؛ فإذا الأمة تتمخض عن نابغة؛ فالأحوال الاجتماعية أولا والنوابغ ثانيا، وليس العكس، إن الحالة الاجتماعية إذا تهيأت واستعدت بحثت عمن يقود الحركة وخلعت عليه الزعامة، فإذا اتجهت إلى «س» فعاقته عوائق عن النبوغ اتجهت إلى «ص»، وعلى كل حال فلا بد من نابغة، فإذا لم تتهيأ الظروف فلا نابغة؛ وهذا هو تعليل عدم الانتظام في ظهور النوابغ، فيظهر كثيرون في زمن، ولا يظهر أحد في أزمان.
لست أنكر التأثير الكبير للنابغة، ولكنه لا يكون إلا بعد أن تتهيأ الأمة أولا، ولو فرضنا أن النابغة خلق وجاء لأمة على غير استعداد لتعاليمه لم يفد أية فائدة، وذهب كما جاء، إنما يفيد النابغة يوم يجد عقولا خصبة كانت تنتظر الزعيم فتدخل في دينه وتتجمع حوله، وتكون جنده، يفتح بهم أمته، ثم أمما مع أمته.
وفرغوا من أكل «المانجو» و«لخمته» وتفرغوا للجو والحديث.
المؤرخ: إن نوابغ الأفراد لا المجتمعات هم الذين يأتون بالأفكار الجديدة الثورية؛ في الأخلاق، في السياسة، في الفنون، في العلوم؛ ووظيفة المجتمع أنه يعرقل سيرهم أولا، ويضع العقبات في سبيل تعاليمهم، ويتهمهم بالمروق والزندقة والإفساد، ويصب عليهم العذاب ألوانا؛ ومع ذلك تبقى آراؤهم، ويزيدها العذاب قوة، ثم تكتسح الأفكار القديمة وتحل محلها، ثم ما كان من الأفكار جديدا ثائرا يصبح قديما محافظا، حتى يأتي النابغة فيعيد السيرة، وهكذا دواليك إلى اليوم، وإلى غد، وبعد غد.
فترى - يا أخي - من هذا أن المجتمع ليس سبب النهوض والتغيير، إنما هو عامل القرار والثبات؛ فإذا كان لا بد للمجتمع من قوتين: قوة الدفع وقوة التعويق، فالنوابغ هم الدافعون والمجتمع هو المعوق، النابغة يحمل المشعل والمجتمع يحاول إطفاءه، وكلما كان النابغة أكثر رقيا وأشد إمعانا في النظر، كان أكثر بعدا عن قومه، وكانوا له أكثر اضطهادا، حتى ليرمى بالجنون؛ وبعد اضطراب وعنف وتخريب وضحايا يستقر رأي النابغة، وكثيرا ما يحدث أن يكون ذلك بعد موته أو قتله، ثم تسفر النتيجة عن أن النابغة هو المقترح، ومشخص المرض، وواصف العلاج، والمجتمع أخيرا جدا هو منفذ العلاج. •••
وهنا أدار أحدهم عينه في الأفق، فلمح نجما يلمع لمعانا براقا، فقال: انظروا هذا النجم الصافي اللامع المضيء القوي، ما اسمه؟ - والله لا أدري، فأنا أجهل الناس بشيئين: أسماء النجوم وأسماء النبات، فلست أعرف من النجوم إلا الشمس والقمر، ولا من النبات إلا النخل والذرة، حتى القطن لا أعرفه إلا إذا «لوز».
ضحك من الجميع. •••
الاقتصادي: إنك لم ترد على شيء مما قلت، غاية الفرق بيني وبينك أنك عمدت إلى النتائج فأوضحتها، وأنا أعمد إلى الأسباب فأشرحها؛ إنك تبين عمل النابغة، وأنا أبين الأسباب التي تحمل على خلق النابغة؛ وخير إذا شرحنا الأمور أن نتعمق إلى جذورها، فإذا نحن عمدنا إلى ذلك رأينا أسباب نهوض الأمم وتغيرها أسبابا اقتصادية بحتة.
كل شيء في هذه الحياة يرجع إلى المادة، فهي التي تعكس صورها وأثرها على العقل، فيجب أن تتغير المادة - أولا - ثم يتبعها العقل في التغير فيكون الرقي أو الانحطاط؛ ولو رجعنا إلى التاريخ - كما تقول - لوجدنا كل الآراء وكل النظم ترجع في أساسها إلى البيئة التي نشأت فيها والتغيرات التي وضعت لها، لقد كان الإنسان الأول يعيش على صيد الحيوان في البر والسمك في البحر، فكانت آراؤه وأفكاره ومعيشته مشتقة من بيئته، ثم تغيرت البيئة، فأصبح يعيش على رعي القطعان أو الزراعة، فتغيرت آراؤه وأنواع معيشته وحاجاته تبعا لذلك، ثم تغيرت إلى نظام إقطاعي، ثم إلى نظام رأسمالي، فتغيرت كل نظمه وكل آرائه حتى الأخلاقية والسياسية، ويمكن أن نرجع أدق التفاصيل وأعمق الأفكار إلى هذا النوع من البيئة كما درسنا في الاقتصاد، ولكن مما لا شك فيه كذلك أن أنواع الحياة وتفاصيلها وعواملها أصبحت الآن أكثر تعقدا؛ لأن كل النظم القديمة النابعة من البيئات القديمة لم تفقد أثرها وورثتنا كثيرا من تعاليمها ووحيها، لم يكن في المجموعة من الناس طبقات يوم كانوا يصيدون ويرعون، ثم لما أصبحت زراعية نمت الملكية الخاصة، فكان غني وفقير، وبدأت الطبقات، ونشأ عن ذلك مالك وأجير، أو مالك وعبد، فوجد نوعان من العلاقة: علاقة الملاك بالبيئة الطبيعية، وعلاقة الملاك بالعبيد، فنشأ عن هذا تغير في الأفكار لا عد لمظاهره، وثورات واضطراب، ومصلحون ونوابغ يحلون هذه المشاكل، وتعقدت هذه العلاقات في النظام الإقطاعي، ثم زادت تعقدا في النظام الرأسمالي، وما نشاهد من عادات ومن رقي ومن اختراع ومن أسواق، ومن نظريات في الاقتصاد، ومن نظم في التجارة، ومن مذاهب اشتراكية وفاشية وشيوعية، ومن نزاع طبقات، ومن حروب أمم؛ كله نتيجة هذه العوامل الاقتصادية، وإن شئت فقل البيئة الطبيعية.
ثم استمر يقول: وإني أومن بالجبر على هذا المعنى، معنى أن نوع الحالة الاقتصادية منتج لا محالة نوع المعيشة الاجتماعية التي يعيشها الشعب، واختيار الإنسان وبواعثه وحرية إرادته كلها تلعب في دائرة ضيقة ضمن الدائرة الواسعة وهي دائرة الجبر، كحرية الإنسان في بيت مغلق؛ والنوابغ الذين ينبغون في كل عصر مع الاعتراف بقوة أثرهم إنما هم نتيجة هذه الظروف الاقتصادية ؛ وحتى رقي الآداب والعلوم والفنون أو ضعفها ناتج أولا من الحالة الاقتصادية، فهي التي تخلق نوابغها، ثم هؤلاء النوابغ يسيرون حركتها.
وأحداث التاريخ التي أشرت إليها يمكن أن تفسر هذا التفسير الاقتصادي؛ فحالة العرب الاقتصادية قبيل البعثة كانت متهيئة لنبي، ولأمر ما كانت بعثة النبي في مكة، لا في غيرها من بقاع جزيرة العرب، لما كان فيها من الحركة التجارية العظيمة، فهي مورد التجارة من الخارج، وهي مصدر الإصدار لسكان الجزيرة في أيام الحج، بما كانوا يقيمون من أسواق، وما كان من أدب في سوق عكاظ فتابع للسوق التجاري؛ ولأمر ما كذلك كان أكثر من دخل في الإسلام أول الأمر من رقيقي الحال الذين سماهم صناديد قريش «الفقراء والمستضعفين والأذلة» وأكثر الذين عصوا وعاندوا هم الأثرياء الأغنياء، كأبي لهب، وأبي سفيان من الذين خشوا على مركزهم المالي وما يتبعه من جاه؛ وفي القرآن كثير من النصوص التي عني فيها بالشئون التجارية، كمن الله على قريش بتيسير أسباب التجارة
لإيلاف قريش * إيلافهم رحلة الشتاء والصيف ، وتأنيبه الذين
وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما ، وتحريم الربا وحل البيع، إلى كثير من ذلك، ثم المطالبة بنزول الأغنياء عن بعض مالهم للفقراء بالزكاة والصدقة ونحوهما؛ كل هذه أمور اقتصادية هيأت الظروف وأنتجت النتائج، ويمكنك على هذا الأساس - وبهذه النظرية الاقتصادية - أن تفسر أحداث التاريخ الإسلامي والثورات ورقي العصور وانحطاطها.
والآن يمكن تطبيق هذا على الشرق والغرب والمستعمر والمستعمر؛ فالاستعمار ليس إلا ظاهرة اقتصادية؛ إذ أدى الانقلاب الاقتصادي الذي حدث في أوروبا في القرن الثامن عشر إلى التوسع في الإنتاج الصناعي، فاحتاجت أوروبا إلى امتلاك مستعمرات تحصل منها على المواد الأولية للصناعة ثم لتصرف فيها سلعها؛ فكانت خيرات الشرق للغرب، وأصبح الأول ضعيفا غير ناهض لفقره ولسوء حالته الاقتصادية، والعكس.
فإن شئت للشرق رقيا فأعنه، وابحث عن الطرق التي تمكنه من استغلال بيئته الطبيعية لنفسه، فإذا هو غني وإذا هو عالم، وإذا هو أديب، وإذا هو مخترع، وإذا هو ما شئت. •••
ساد الجميع سكون لم أتبينه، أهو سكون رضى واقتناع، أم هو سكون تفكير واستعداد للدفاع!
والتفت أحدهم إلى الأديب المتفلسف أو الفيلسوف المتأدب، فقال: ما رأيك؟ لقد أطلت السكوت وسمعت وجهتي النظر، وكان طول الجلسة ساهما حالما يسمع بنصف نفسه، ونصفها الآخر في الجو والهواء والنيل والسماء.
فقال: أما أنا فإني أردد قول الله تعالى:
إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ، رأيي أن كليكما حكى بعض الحقيقة؛ فليس عامل التغير النابغة وحده، ولا الفرد وحده، ولا البيئة وحدها؛ وإنما هو «الإنسان في البيئة» والنابغة في الظروف؛ وكلاكما أهمل جدا جانب الروح، مع أن التاريخ كله ليس تاريخ النوابغ ولا تاريخ المال، وإنما هو تاريخ الروح أيضا، إن الروح الإنسانية تسعى دائما لغايتها المرسومة لها، وغايتها الحرية العاقلة، والظروف الخارجية تضغط عليها، وهي تحاول دائما دفع هذا الضغط وكسر الأغلال حتى تصل إلى غايتها.
وأحداث التاريخ سلسلة من الضغط على اختلاف الأشكال ومحاولة النفس تحررها من الضغط والأغلال غير العاقلة، وهي دائما في خطوات إلى الأمام نحو تحقيق هذه الغاية.
ومن الخطأ في نظري تفسير كل شيء بالمادة وإهمال الروح، والقول بأن الإنسان مسير بجيبه لا بروحه، إن النظر إلى المادة وحدها جعل الغرض المنشود هو القوة المادية بالمال وبالقوة الحربية، فماذا كانت نتيجة ذلك؟ نتيجته صراخ الأرض حتى ضجت من صراخها السماء، وتلوين الخرائط بمالك ومستعمر، واستعباد أكثر الإنسانية لأقلها، ولذة الأقلين بألم الأكثرين، إن الأمم ظلت تتسابق في القوة المادية حتى ضاعت حكمة حكيمها، وفلسفة فيلسوفها، وعميت عن الغاية من القوة، واتخذتها غاية لا وسيلة، حتى ذهب عن الأرض سلمها وجمالها؛ وفي التاريخ ما يرشدنا إلى أن القوة المادية كالقوة العسكرية تنتهي دائما بتحطم نفسها، كان كذلك اليونان والرومان، والقرطاجينيون، ومن أتى بعدهم إلى اليوم.
إن العالم قوى جسمه وقوى عقله وقوى يده، وبقي عليه أن يقوي قلبه؛ ولعل الكوارث الحاضرة تنتهي إلى الالتفات إلى القلب كما التفت إلى إخوته.
وقوة الروح هي التي تغير الأمة وتخلق المادة.
الاقتصادي :
ألست ترى أن دعوتك إلى الروحية كدعوة المتصوف إلى الصوفية؟ وما ظنك بصوفي ينازل جنديا مسلحا؟ إن شئت أن تدعو إلى الروح فعمم الدعوة، ولا تدع إلى وضع السلاح حتى يضعه خصمك، وإلا أكلت.
الأديب :
إن السلاح سيأكل نفسه.
الاقتصادي :
إني أشك.
ونظر أحدهم إلى الساعة فوثب قائلا: هذا آخر موعد لآخر ترام.
الفصل العاشر
في الهواء الطلق (2)
أما جلستنا هذه المرة فكانت في سفينة شراعية عند روض الفرج، وقد بلغ النيل أوجه في علوه وفخامته وشدة جريانه واحمرار لونه، وبلغ القمر أوجه في جماله ونوره، وامتزج جمال القمر بجمال النيل بجمال الجو بجمال الحديث، فكان لنا من ذلك متعة فنية، ومتعة عقلية، أحببت أن أشرك القراء فيها.
كان ثلاثتنا في الليلة السابقة هم بعينهم في هذه الجلسة، وزاد عليهم صديق رابع عاد من إنجلترا حديثا بعد أن درس الاجتماع والاقتصاد والسياسة، وعاد إلى مصر فتولاه نوع من الكآبة وانقباض الصدر وطول اللسان، والنقمة على كل شيء يراه، فلا يعجبه حياة الأسرة، ولا نظام المجتمعات، ولا نظام الاقتصاد، ولا منظر الناس في الشارع، ولا حجاب المرأة ولا سفورها، ولا شيء يقع تحت سمعه وبصره؛ وهو بجانب ذلك شديد اللوم لاذع النقد.
ذكرنا ونحن في الطريق المجلات العربية، فأخذ يشنع عليها، ويقذفها بكل نقيصة، ويتهمها بأن أمثلها يتكلم في السماء ولا يتكلم في الأرض، ولا ينير الشعب بما ينبغي أن يعلمه، ولا يفهمه موقفه، ولا يحل له مشاكله ولا يرسم له خطة سيره، وتمر الأحداث بجانبها وكأنها حدثت في المريخ، فإن اعتذرنا له بالحرب وملابساتها قال: وهل كانت مجلاتكم قبل الحرب خيرا منها الآن، وأحسن تقديرا للظروف، وأصدق معالجة للأمراض الواقعية؟ وهكذا كلما عرضنا لشيء أوسعه نقدا، حتى سارت بنا السفينة وحلت شراعها.
كان هذا المنظر يفتح الشهية للحديث كما فتحه للأكل، ولكن لا أدري السبب في أن جميع الأصدقاء القدماء تفتحت شهيتهم للصمت دون الكلام، إلا صاحبنا الجديد، فقد كان ثرثارا لا يسمح لغيره أن يبدي رأيا أو يتحدث حديثا؛ وبذلك انقلب الوضع من سمر نشترك فيه، إلى محاضرة يلقيها علينا صاحبنا، لا أدري من حسن الحظ أو من سوئه أن أحدنا سأله رأيه في مصير العالم بعد هذه الحرب، فقال: إن هذا سؤال لا تمكن الإجابة عنه بكلمة ولا بنوع من التنبؤ، ولا بالحدس والتخمين؛ إنه لا يمكن شرح الغاية إلا إذا عرفنا الاتجاه، فإذا شئتم حدثتكم بشرط ألا تقاطعوني، فأكره ما أكره في مصر أن المتحدث لا يستطيع أن يتم حديثه، ففي كل كلمة ينطق بها يقاطع، وقبل أن يتمم فكرته يعترض عليه، وقد يكون الآتي شرحا للماضي ولكن لا يمكن من ذلك؛ وقد يطول الجدل في القشور قبل أن يصل المتحدث إلى اللباب، والحق أن المصريين يحتاجون إلى من يعلمهم فن الصمت كما يعلمون فن الكلام؛ والحق أن الصمت فن له رسوم ومناهج يطول الحديث عنها؛ فهل أحدثكم في فن الصمت أو تلتزمون الإصغاء فأحدثكم فيما سألتم؟
وعدناه أن نلتزم الصمت؛ لأنه يوافق مزاجنا في هذه الآونة، ولأننا صائرون إلى هذه النتيجة شئنا أو أبينا، فإن تدفقه لا يسمح بالكلام لغيره.
قال: لست أريد أن أرجع بكم في الحديث إلى الماضي البعيد فإن شأنه يطول، ولكني أحدثكم في الحاضر مشوبا بشيء من الماضي، وأبني عليه المستقبل.
في عصر فكتوريا كان العالم المتمدن يتجه إلى السير على مبدأين هامين:
المبدأ الأول:
بأوسع معانيها، ولست أعني الحرية السياسية وحدها، بل أعني أن الحرية أصبحت مزاجا عقليا يحاول تطبيقها على كل شيء؛ حرية في الشئون السياسية، وأن ينال كل فرد نصيبه في سياسة أمته بطريق التصويت؛ وحرية اقتصادية بالسير على مذهب
Laissez faire - ولا أدري ماذا تسمونه باللغة العربية - وأعني به حرية الفرد أن يشتري من أرخص سوق ويبيع في أغلى سوق، وحرية الضمير، وحرية العقل في أن ينميه كما يشاء، ويغذيه بما شاء, ويفك قيوده من الخرافات
والمبدأ الثاني:
الروح العلمي وعدم تقيده بأي قيد، والبحث الحر الخالص، والإيمان التام بأن العلم هو الذي يجب أن يحكم الحياة ويسيرها.
وفي ظلال هذين المبدأين نمت الفردية، أعني احترام الفرد وحرية الفرد، وكان كل شيء ينبئ بأن السير في هذا الطريق سيوصل حتما إلى سعادة الأمم ورفاهيتها، وإلى السلام العام وحسن التفاهم بين الشعوب؛ ولكن - مع الأسف - خاب الأمل، وأنتجت الحرية الاقتصادية غنى مفرطا لقليل من الأفراد، وفقرا مدقعا للأغلبية، وحرية واسعة للأغنياء وأصحاب رءوس الأموال، وعطالة ورقا لكثير من العمال، كما أنتجت صراعا حادا على الأسواق؛ وذلك أنتج الحواجز الجمركية، وآل هذا كله حتما إلى الحروب الطاحنة التي شاهدناها في حرب سنة 1914، والتي امتدت عواملها وبواعثها إلى الحرب الحاضرة.
وانقسمت الأمم إلى معسكرين، معسكر ظل على مبدأ الحرية الفردية ومظهرها الديمقراطية، مع تعديل ذلك بما تستوجبه الظروف، وحامل علمه إنجلترا وأمريكا؛ ومعسكر كفر بالفردية وآمن بالجماعة ولم يسمح للفرد بالحرية إلا في حدود مصلحة الجماعة، وحامل هذا العلم روسيا الشيوعية وإيطاليا الفاشية وألمانيا النازية.
وهذا المعسكر الثاني قد وضع نظامه الاقتصادي والسياسي على هذا الأساس، أساس الجماعة لا الفرد، وإن اختلفت مناهج أممه ووسائلهم؛ ففي السياسة أعطيت الهيئة التنفيذية سلطة واسعة جدا، وحدت قوة السلطات الأخرى وضيقت المعارضة ... إلخ؛ ومن الناحية الاقتصادية حلت النقابات في النظام الفاشيستي محل حرية الأفراد، وتدخلت الحكومات في الأمورالاقتصادية، ورسمت المناهج، ووضعت يدها على كثير من موارد الدولة ... إلخ، وكانت الشيوعية أكثر إمعانا في اضطهاد الفردية ونصرة الجماعية، ووضعت التربية في هذا المعسكر جميعه على أساس استمالة الفرد ليعد نفسه جزءا من جسم المجموع لا شخصية مستقلة؛ وتبع هذا تضييق حرية الفكر وحرية النقد، بل وأحيانا حرية العلم إذا كانت النتائج العلمية لا تتفق ونظام الدولة.
ومن ناحية أخرى رأينا المعسكر الأول نفسه قد شعر قادته بأن النظام الديمقراطي أيضا في حاجة إلى تعديل، وخطب عظماؤه في وجوب إصلاحه لمواجهة العالم الجديد، فنظام رأس المال يسبب دائما أزمات حادة وعطالة محزنة؛ فنادوا بأنه يجب أن تتدخل الحكومات الديمقراطية ولو بعض الشيء لوضع حد لهذه المآسي، وتقييد الحرية نوعا ما لمصلحة المجموع؛ وقالوا: إن النظام البرلماني بطيء في تسيير الأمور بطئا يحتاج إلى علاج، والمطابع والتمثيل والسينما والراديو قد جاوزت حدودها في الحرية، ولا بد من تدخل في وضع حد لها مسترشدين بالمصلحة العامة. •••
وإلى هنا توسطنا النيل، وهبت ريح فضربت الشراع فمالت السفينة ميلا شديدا، ففزعنا، وكان أفزعنا صاحبنا المحاضر فصاح، وسكت عن الكلام المباح.
ثم جاوزنا الوسط، وهدأت الريح، فاعتدلت السفينة فعادت شهوته للكلام وشهوتنا للاستماع.
وسألناه: فماذا تنتظر بعد؟
لعلكم ترون من هذا كله الصراع العنيف بين الفردية والجماعية، واضطراب العالم بين النزعتين، وشكواه من كبت الحرية العقلية في ظل «الجماعية»، وقلقه من البطء والعطالة في ظل الفردية.
إن العالم - فيما أرى - سيتحرر من خضوعه المطلق للعوامل الاقتصادية، وستكون المسائل المالية عاملا من جملة عوامل، لا العامل الوحيد؛ وسيتعلم من هذه الكوارث إيمانه بنوع من الأخلاقية الأخوية؛ وسيتبين أن النظرة الاقتصادية وحدها أدت إلى حياة جافة بائسة، وسيعود إلى التعاليم التي أهملت من أن الإنسان أخو الإنسان، وسيتجلى له أن التضييق على الحرية العقلية وإخضاع العلم للسياسة تدهور العقل، وأن دعوى المصلحة العامة لا تغني ما لم يقصد إلى المصلحة العامة في صدق وإخلاص.
أما من ناحية الصراع بين الفردية والجماعية التي حدثتكم عنها، فإني أرجح أن العالم سيهتدي إلى نوع جديد هو «الفردية في الجماعية»، وأعني بذلك أن العقول ستبتكر نوعا من النظام يحفظ فيه للفرد شخصيته في حدود مصلحة الجماعة، وستؤسس التربية والتعاليم والنظم السياسية على تغذية العاطفتين من غير أن تتضاربا وتتعارضا، وسيكون هذا علاجا لكل مشاكل العصر الحاضر.
وهذا النظام المرجو لا يتحقق إلا إذا قبله العالم المتمدن كله، ونفذه في صدق وإخلاص وقوة عقيدة، وقامت على رعايته قادة الأمم ورجال السياسة ورجال العلم ورجال الدين، وتلاشت عصبية الأمم، وعصبية الأجناس، وعصبية الأحزاب، وعصبية أصحاب رءوس الأموال، وعصبية الطبقات، وتولى الزعامة رجال واسعو النظر شديدو الإخلاص، محبو الإنسانية، جمعوا بين قوة العقل وقوة الشعور، تسيرهم العقيدة الحقة المخلصة، لا الرأي العام المحلي المتحزب. •••
وتعب الصديق من الحديث الطويل ووفائنا بشرطه، وتركنا إياه يحاضر من غير مقاطعة؛ وطلب ماء فشرب ثم سكت.
فسأله أحدنا: وهل تظن - يا دكتور - أن العالم سيصل إلى هذه الغاية بعد هذه الحرب؟
فقال: إن هذا هو الأمل الوحيد لخلاص العالم، فإن لم يبلغها في هذه الحرب، فسيظل في كوارث تتبعها كوارث، وستزيد الويلات زيادة المتواليات الهندسية تبعا لتقدم العلم وازدياد الحزازات، حتى يمل الإنسان فيؤمن بالغاية التي شرحها، أما أنها الغاية فلا أشك في ذلك، وأما أنها الغاية من الحرب الحاضرة فلست أجزم به. •••
ومرت بجانبنا سفينة ملئت فرحا وسرورا، وبها «جوقة» موسيقية تعزف وتغني، ويأخذ أهلها الطرب فيتصايحون ويتنادرون ويضحكون.
فأخذ صديقنا يلقي محاضرة أخرى في الموسيقى الشرقية وعيوبها، وبدأ يقارن بين الموسيقى الشرقية والغربية، وكاد يتدفق في هذا تدفقه في ذاك.
قال أحدنا: على رسلك يا دكتور!! فإن لقدرتنا على الاستماع حدا، والمتحدث ينبغي أن يوائم بين أحاديثه، فأين ما كنت فيه من مصير العالم من الموسيقى العربية والغربية؟ فإن كنت خبيرا بالموسيقى فتجنب «النشاز».
وضحك الجميع، ورست السفينة، وإلى اللقاء.
الفصل الحادي عشر
قصتان طريفتان
قرأت في هذا الأسبوع كتابين بالإنجليزية، أحدهما في «التصوف» لمؤلف هندي، والثاني في «المنطق العملي»، أو كما يسميه صاحبه «فن التفكير» لمؤلف إنجليزي.
وتسألني: ما الذي جمع الشامي على المغربي، وألف بين التصوف والمنطق على بعد ما بينهما من منهج، فهذا يعتمد على مقدمات ونتائج وقياس وبراهين، وذلك يعتمد على ذوق وإلهام ورياضة وكشف، هذا لا يؤمن إلا بالعقل، وذلك لا يؤمن إلا بالنفس، وكلاهما يكفر بصاحبه؟
فأقول: إنه قد جمعت بينهما المصادفة البحتة، فقد كنت أبحث عن كتاب في مكتبتي، فعثرت على هذين الكتابين، فأغراني موضوعهما بقراءتهما ، ولم أكره هذا الجمع «فالضد يظهر حسنه الضد»، ولست تتبين في جلاء سواد الأسود إلا إذا نظرت بجانبه إلى بياض الأبيض، وخير ما تتذوق حلاوة الحلو إذا تذوقت ملوحة الملح، وكثيرا ما تعمد الغانية الجميلة إلى أن تظهر جمالها بجانب الوصيفة القبيحة.
على أن هذا الاختيار لم يكن عبثا، ولم يكن اعتباطا، وإن كان مظهره كذلك، فالإنسان إذا سئم الأرض طار إلى السماء، وإذا مج اللذائذ مال إلى الزهد، وإذا سئم من دنيا الناس عاش في عالم المثال؛ ثم إذا هو عجب من تفكير الناس هرع إلى البحث في أسباب خطئهم، وإذا لم تعجبه عقليتهم نشد المثل الأعلى للعقلية، وإذا رآهم يجنون في التفكير والتصرف لذه أن يبحث في نوع جنونهم، ونقطة الانحراف في تفكيرهم. •••
ما لي ولهذا، فقد كاد ينسيني القصتين.
كان من كل كتاب قصة لفتت نظري، واستخرجت إعجابي.
كلا الكتابين قص قصته من وجهة نظره، ومن زاوية نفسه، ولعلهما ترميان إلى غرض واحد، ونمط في التربية واحد، وإن اختلف العرض.
فأما القصة الصوفية فهي أن «بلاشاه»، أحد أولياء «بنجاب» أرسله أبوه - وهو طفل - إلى الكتاب، فكتب له المعلم «ا» و«ب»، وأمره أن يحفظهما ويكتبهما، فوقف «بلاشاه» عند الألف، لا يحسن تعلمها ولا كتابتها، والأطفال الذين دخلوا معه الكتاب ساروا شوطا بعيدا، فأتموا حروف الهجاء إلى «الياء»، وانتقلوا إلى ما بعدها، وصاحبنا واقف عند الألف لا يتعداها؛ ومرت أسابيع على هذه الحال، والموقف لم يتغير، وأخيرا ضاق به المعلم ذرعا، وأخذه وذهب به إلى أبيه وقال: «إن ابنك ناقص العقل، غير قابل للتعلم، ولست بمستطيع تعليمه.».
فحاول أبوه أن يعالج هذا النقص، وعرضه على معلمين آخرين ليتحرك من الألف إلى الباء فما أمكن، وحز هذا في نفس الطفل، وأحس أنه حمل ثقيل على والديه، وأنهما يئسا من نجاحه، ففر إلى غابة وأقام فيها وذهنه مشغول بمظهر الألف ونكبته بها؛ فأدرك أن الألف تظهر له في الحشيشة النابتة في الغابة، في جذع الشجرة، في كل فرع من فروعها ، في كل ورقة من أوراقها، في الجدول الذي يشق الأرض، في جسمه منتصبا، في الجبل الضخم يشرف على الوادي، في جسم الحيوان ممدودا، في كل شيء، فليس إلا الألف، والعالم كله وحدة، هو ألف أو جملة ألفات، هو متشابه التركيب، أو هو واحد التركيب، أليست الألف في أصلها نقطة ثم بنيت عليها نقط فكانت الألف؟ فالعالم كله نقط تكونت منها ألفات، وهو إذا كتبها فإنه عندما يلمس القلم الورقة ترسم نقطة، ثم بامتداد القلم يكرر النقطة فتكون ألفا، ثم تتعدد الأشكال، وتختلف الأوضاع والأصل واحد، والجوهر واحد، وقد يطغى الشكل على الأصل فلا تلتفت إليه النفس البلهاء؛ ولكن إذا دقق نظره وطهر فكره عرف وحدة الأصل ووحدة الخالق؛ ثم هذا العالم مكون من ألفات، والألف مجموعة نقط، والنقطة صفر، والصفر لا شيء، وليست الألفات إلا مظاهر تساوي أصفارا، وتخفي وراءها خالقها، كما يختفي وراء الألف كاتبها، فلا شيء إلا الخالق ولا شيء إلا الله.
فرح الطفل بفهم درس الألف، وتذكر فضل المعلم عليه؛ لأنه هو الذي علمه ولم يكن يفهم، فطرده من الكتاب لجهله، فنزل من الغابة إلى المدينة، وذهب إلى المعلم وقبل يده، وقال له: «لقد تعلمت درس الألف وفهمته، فهل تتفضل وتعلمني الدرس الذي يليه؟» ضحك المعلم من سخافته، وأراد أن يمتحنه فسأله أن يقرأ الألف ويكتبها، فقرأها وكتبها، وشرح للمعلم ما فهم منها، فدهش المعلم وحار عقله مما سمع، وقال للطفل: «يا بني أولى بك أن تكون أنت معلمي، وقد تعلمت من حرف الألف ما لم أتعلمه أنا من كل دروسي، وقد استفدت من الألف ما لم يستفده كل أطفال الكتاب ومعلميهم من الألف ولا من الباء ولا من كل الحروف متفرقة أو مجموعة.».
فأخذ «بلاشاه» يغني: «أيها المعلم! جنبني علمك فلست في حاجة إلا إلى الألف، لقد أثقلت عقلك بعلمك، وأثقلت بيتك بكتبك، وضاعت المعرفة الحقة بين كثرة العلم وكثرة الكتب فجنبني طريقتك.
أي معلمي، قد يكون الفرق بين الحق والباطل شعرة، وقد يخفي الحق عن الأنظار نسيج مهلهل، وربما كانت الألف مفتاح الكنز.
قالت لي روحي: إني راغبة في المعرفة الحقة فعلمنيها إن استطعت.
قلت: ألف.
قالت: ذاك يكفيني، فالإنسان إذا تفتحت نفسه، وصدق نظره كفاه حرف واحد.». •••
هذه هي القصة الصوفية، وأما القصة المنطقية فهي أن شابا قص على سيدة برنامجه في يومه، فقال: «إني إذا استيقظت صباحا أذاكر «أجرومية» اللغة البرتغالية في أثناء حلقي ذقني، ثم أقرأ ساعة في اللغة الإسبانية قبل إفطاري، فإذا أفطرت ترددت بين القراءة والكتابة إلى الغداء.».
واستمر يقص عليها كيف يقضي نهاره وجزءا من ليله بين قراءة وكتابة وأكل وحديث وألعاب رياضية إلى أن ينام؛ وهكذا دواليك.
أنصتت السيدة إلى حديث الشاب حتى أتمه، وصمتت برهة ثم قالت: هذا كله حسن يا صديقي، ولكن قل لي: متى تفكر؟
وكان صمت، وكانت حيرة في الجواب. •••
كلتا القصتين ترمي إلى غرض واحد، وهو التقليل من قيمة القراءة الكثيرة من غير تفكير، ورفع قيمة التفكير ولو في الدرس القليل.
ما أكثر ما نقرأ، وما أقل ما نفكر! وقد رأينا أن التفكير في الألف أنتج أكثر ألف مرة مما ينتج من حفظ حروف الهجاء كلها ومركباتها من غير تفكير.
لقد حدثونا عن «ديمقريطس» الفيلسوف اليوناني أنه قلع عينيه لئلا يشغله النظر عن التفكير، والقراءة عن التأمل، وحدثونا حديثا أخف فظاعة من هذا عن «فيثاغورس» أنه كان يقضي ليله في التفكير العميق في أحداث يومه، ولسنا نتطلب هذا ولا ذاك، ولكنا نتطلب تفكيرا يعادل القراءة، وتأملا يوازن النظر.
القراءة جمع أزهار، والتفكير تأليف طاقة.
القراءة جمع خرزات، والتفكير نظمها في عقد.
بل القراءة جمع أزهار وحشائش، وضم حجر كريم إلى حجر غير كريم، والتفكير اختيار الصالح واختيار المناسب، واستبعاد الفاسد واستبعاد غير المناسب.
القراء ضم عقيم إلى عقيم، والتفكير قدرة على الاستيلاد حتى من العقيم.
قراءة الكتاب وحفظه زيادة نسخة مطبوعة منه، والتفكير نفخ الروح في الصورة، ورد الحياة إلى الميت.
كثرة القارئين في الأمة زيادة مكتبة جامعة فيها، وعقل مفكر واحد باعث الروح، ونور الظلام، وحافز الهمم، وهادي الطريق.
كما أن في الكتاب كاتبا مقلدا وكاتبا خالقا، كاتبا ناقلا وكاتبا مبتكرا، كذلك في القراء قارئ ناقل وقارئ ناقد، قارئ مستقبل لاقط، وقارئ مبتكر خالق.
القارئ الخالق هو الذي يقرأ الصفحة أو الجملة فيولدها، ويشعر أنه تفتحت له منها آفاق للتفكير كأنه يطل منها على العالم، يدرك وجوه الشبه بين الأفكار ووجوه الخلاف، يدرك وجوه الفروق الدقيقة بين ما يظنه الناس متشابها، ووجوه الشبه الدقيقة فيما يظنه الناس متخالفا.
القارئ الصادق يأبى أن يجعل عقله مستودعا للأشياء المتناقضة، ثم يتركها كما هي متناقضة؛ إنما يعمل فكره ليكون مما في عقله وحدة متجانسة، بعد أن يطرد منه ما لا ينسجم مع هذه الوحدة، يصفف أفكاره في نظام كما يصفف التاجر اللبق سلعته، ويستبعد منها الزيف كما يستبعده التاجر الأمين.
القارئ الناقد هو الذي إذا قرأ فهم، فإذا فهم قوم، فإذا قوم احتفظ بالصحيح واستبعد الزائف، فإذا احتفظ بالصحيح فكر في العلاقة بينه وبين ما سبق له ادخاره في ذهنه، ثم كون من ذلك كله وحدة متجانسة ينظر من خلالها إلى العالم، ويصدر بها حكمه على الأشياء. •••
ما أشقه من عمل! ولذلك لم يستطعه في كل أمة إلا الأبطال.
أدرك هذا «بلاشاه»، وأدرك تبعة المعلومات يحصلها، وعظم الواجبات للفكرة تحل في عقله، فلم يرض أن يحمل عبثا غير عبء الألف.
وأدركت هذا السيدة فارتاعت من كثرة ما يلتهم صديقها من غير هضم، وأرشدته في لطف إلى أن خير ما أكل ما هضم.
ألست معي في أن القصتين طريفتان؟
الفصل الثاني عشر
الربيع
لعن الله السياسة وألاعيبها، فقد أفسدت علينا كل شيء، حتى الطبيعة وجمالها، كنا ننتظر القمر ننعم بجماله، وتمرح نفوسنا في ضيائه، فإذا الغارات تنتهزه كما كنا ننتهزه، وترقبه كما كنا نرقبه، فاقترنت هالته بالقتل والدمار، وتلون بياضه بحمرة الدماء، وأصبح ضياؤه وخير منه الظلام، وبياضه وخير منه السواد، وفقد شعريته وفضيته وجماله وبهاءه، إلى حين.
وعدت أيضا على الربيع الذي لم يمسس جماله أحد، ولم ينتقص جلاله أحد؛ فأخرجت لنا «لعبة» شيطانية سمتها «هجوم الربيع» أفقدته جماله وجلاله، وأحلت بها الخوف محل الأمن، وكراهة الاستقبال مكان بهجة الاحتفال.
ومع هذا فسنتناسى ألاعيبها وإفسادها، ولنخلص للربيع نستقبله ونحييه، فألاعيب السياسة موجات لا تعلو حتى تفنى، ولا تخلق حتى تنعدم، ولا تكون حتى تفسد؛ والزمان باق، والقمر باق، والربيع باق، وقلوب الناس لاستقبال الجمال والاحتفاء به باقية. •••
هذا أنت - أيها الربيع - أقبلت فأقبلت معك الحياة بجميع صنوفها وألوانها؛ فالنبات ينبت، والأشجار تورق وتزهر، والهرة تموء، والقمري يسجع، والحمام يهدر، والغنم تثغو، والبقر يخور، وكل أليف يدعو أليفه، و«يا حسنها حين تدعوه فينتسب»؛ حتى الأغصان في الأشجار تغار فتتمايل وتتعانق، ولا تهدأ حتى تمثل دور الأحباب، فكل شيء - بك - يشعر بالحياة، ويمتلئ بالحياة، ويستولد الحياة، ويستجمل الحياة، وينسي هموم الحياة، ولا يذكر إلا سعادة الحياة؛ فإن كان الزمان جسدا فأنت روحه، وإن كان مظهرا فأنت سره، وإن كان عمرا فأنت شبابه. •••
هذا أنت تغار على النهار المضيء، وقد اعتدى عليه الليل وظلمته، فسلبه قطعة منه، صبغها بأديمه، وأمده الشتاء القاسي فأعانه على ظلمه، حتى اعتدلت في منصبك، واستويت على عرشك، فرددت ظلامته في رفق وأناة، بالثانية والدقيقة، حتى اعتدل الليل والنهار؛ ثم أبيت إلا أن يظلم النهار كما ظلم الليل، فالجروح قصاص، فكنت في ظلمك عادلا، وفي محاباتك منصفا، وكان لك المجد؛ إذ وقفت بجانب النور والبياض، على حين وقف غيرك بجانب الظلمة والسواد. •••
وهذا أنت - بسحرك العجيب - استطعت أن تجعل من الشمس حائكا وشاء نساجا، يحوك أجمل الروض ويوشيه، ويبدع في النقش والألوان والتصوير، فإذا الدنيا كلها جمال ألوان وجمال تصوير، يقلده أكبر فنان فيفشل، ويحاكيه أكبر مصور فيعجز، فأين المادة من الروح؟ وأين التقليد من الإبداع؟ لقد حولت فعل الشمس في السماء إلى الأرض فجملت الثرى بنجوم الثريا، ونسقت فيه ألوانا تزري بقوس قزح، وألفت من أزهاره أشكالا وألوانا وهندسة أين منها نهر المجرة، حتى خلت أن أهل السماء يرحلون منها ليروا ما أبدعت الشمس في الأرض.
أبدى لنا فصل الربيع منظرا
بمثله تفنن ألباب البشر
وشيا ولكن حاكه صانعه
لا لابتذال اللبس لكن للنظر
عاينه طرف السماء فانثنت
عشقا له تبكي بأجفان المطر
فالأرض في زي عروس فوقها
من أدمع القطر نثار من درر
جعلت الدنيا ملء العيون بما أبدعت من ألوان، وما مايلت من أغصان، وما حكت من وشي، وما صنعت من جمال؛ فأبيض ناصع في أخضر ناضر، وتعاريج سوداء في زهرة صفراء أو بيضاء، وأشكال مهندسة تستخرج العجب وتأخذ باللب.
من زهرة جميلة المنظور
ضاحكة كالوافد المحبور
باكية كالعاشق المهجور
شذرها الغيث بلا شذور
شقائق كناظر المخمور
وأقحوان كثغور الحور
ونرجس كأنجم الديجور
والطل منثور على المنثور
يرصد الياقوت بالبلور
تذكرنا قدود الأشجار بقدود الحسان، وحمرة الورد بحمرة الخد، وبياض الزهر ببياض الثغر، وتعانق الأغصان بتعانق الخلان! فأنت تعرض الجمال وتوحي بمعاني الجمال.
أرتك يد الغيث آثارها
وأعلنت الأرض أسرارها
فما تقع العين إلا على
رياض تصنف أنوارها
يفتح فيها نسيم الصبا
خباها ويهتك أستارها
ويدني إلى بعضها بعضها
كضم الأحبة زوارها
كأن تفتحها بالضحى
عذارى تحلل أزرارها
تغض لنرجسها أعينا
وطورا تحدق أبصارها
إذا مزنة سكبت ماءها
على بقعة أشعلت نارها
وعلى الجملة فقد كانت الدنيا - كما قال أبو تمام - بغيره معاشا، فأصبحت به منظرا. •••
وكما جعلت الدنيا ملء العين جعلتها ملء السمع، فرأت الأطيار ما وشيته في أرضك، فحرك أشجانها، وأطلق أصواتها، وجعلت منها موسيقى مختلفة النغمات، متعددة الأصوات، هذا البلبل يغني ضاحكا، وهذا الحمام يغني باكيا.
كانت عجماء فأفصحت في أيامك، وكانت خرساء فأنطقها جمالك، وكانت بكماء فراعها منظرك؛ فوقفت على السرو والدوح من خطبائك، فلما غنت حركت أشجان الإنسان، وأوحت إليه بالمعاني الحسان؛ فأفاض الشعراء في وصفها، وبكوا لبكائها، وتغنوا من غنائها. •••
ثم هذا أنت ملأت الجو عطرا بأزهارك الطيبة، وثمارك العطرة، فأنعشت النفوس، وبعثت الأمل، فلما خاف الناس من غيبتك، وانقطاع شذاك، أمعنوا الفكر في الاحتفاظ برائحتك، فاستخرجوا الروائح من أزهارك، وتحايلوا للانتفاع بها في غيابك، فاخترعوا الغوالي والندود، وعنوا بالاستقطار والتصعيد، يتعطرون بها ذكرى لعطرك، ويتفننون فيها تقليدا لعبيرك. •••
لقد اعتدلت في حرارتك فلم تغل في بردك غلو الشتاء، ولا في حرك غلو الصيف، فكنت جميلا في جوك، كما كنت جميلا في كل شيء من آثارك. •••
ليت الزمان كان ربيعا كله، إذا لتذوق الناس الجمال كما ينبغي، فكان كل ما يصدر عنهم جميلا لا قبح فيه، خيرا لا شر فيه، فهل الرذيلة والشر إلا قبح كقبح الشتاء والصيف؟ وهل الفضيلة والحق إلا جمال كجمال الربيع؟
الفصل الثالث عشر
المتنبي وسيف الدولة (1)
كان لسيف الدولة ناحية فنية قوية، لا تقل شأنا عن ناحيته السياسية والحربية، فهو يحب الفن ويولع به، ويتذوقه ويساهم فيه.
وقد وردت في ذلك أخبار متفرقة تدل عليه.
فهو مولع بالتصوير، رغم النزعة الشائعة؛ إذ ذاك في كراهيته، فيروي صاحب اليتيمة أن سيف الدولة أمر بضرب دنانير للصلات في كل دينار منها عشرة مثاقيل وعليه اسمه وصورته، فأمر يوما لأبي الفرج الببغاء بعشرة منها، فقال:
نحن بجود الأمير في حرم
نرتع بين السعود والنعم
أبدع من هذه الدنانير لم
يجر قديما في خاطر الكرم
فقد غدت باسمه وصورته
في دهرنا عوذة من العدم
ولعله استوحى ذلك من صورة دنانير الروم.
وأدل على ذلك ما ذكره المتنبي في صفة خيمة لسيف الدولة، تدلنا على ذوقه وحبه للفن حقا، فقد ذكر المتنبي أن هذه الخيمة أو القبة التي كانت تضرب على سيف الدولة، كانت قطعة فنية رائعة.
ففيها صورة روضة بديعة لم يحكها السحاب وإنما حاكها النساج، وأغصان الأشجار ترفرف عليها طيور لا تنقص عن الطيور الطبيعية إلا بالغناء.
وفيها صور وحوش يحارب كل جنس عدوه، ولكنها سلبت الروح فتسالمت.
وإذا ضربتها الريح ماج بعضها في بعض فكأن صور الخيل تجول، وكأن صور الأسود تختل صور الظباء لتصيدها وتدركها.
وفي ناحية من الخيمة صورة ملك الروم، وصورة سيف الدولة، وملك الروم يسجد لسيف الدولة، ويخضع له ويتذلل، ويقبل بساطه؛ إذ لا يقدر على تقبيل كمه ويده لارتفاع مكانه.
وبين يدي سيف الدولة الملوك متكئين على مقابض سيوفهم من هيبته.
وفي حواشي الخيمة لآلئ من النسيج تكاد لا تختلف عن اللآلئ الحقة إلا أنها لم تنظم ولم تثقب، ففي ذلك يقول المتنبي:
عليها رياض لم تحكها سحابة
وأغصان دوح لم تغن حمائمه
وفوق حواشي كل ثوب موجه
من الدر سمط لم يثقبه ناظمه
ترى حيوان البر مصطلحا بها
يحارب ضد ضده ويسالمه
إذا ضربته الريح ماج كأنه
تجول مذاكيه وتدأى ضراغمه
وفي صورة الرومي ذي التاج ذلة
لأبلج لا تيجان إلا عمائمه
تقبل أفواه الملوك بساطه
ويكبر عنها كمه وبراجمه
قياما لمن يشفى من الداء كيه
ومن بين أذني كل قرم مواسمه
قبائعها تحت المرافق هيبة
وأنفذ مما في الجفون عزائمه
وهي صورة بديعة، تشهد بحب سيف الدولة للتصوير والفن.
ثم أولع بالموسيقى، فكان في قصوره الجواري المغنيات، ويروون أن الفارابي لما زاره عرض عليه سيف الدولة قيانه فأسمعنه، فأسمعه الفارابي من قانونه خيرا مما سمع.
وأنمى من هذا وأظهر ناحية سيف الدولة الأدبية، ولم يذكر المؤرخون لنا كيف ثقف وكيف علم، إلا أنهم ذكروا أنه كان من شيوخه أبو ذر الشاعر وابن خالويه اللغوي النحوي، وأنه درس دواوين الشعر القديم، وكانت تغذي عواطفه العربية، من تمدح بالشجاعة والكرم، كما كان يعرف أيام قبيلته (تغلب) ومفاخرها.
وتدل الدلائل كلها على دقة حسه الأدبي وذوقه الفني، يقول فيه المتنبي:
عليم بأسرار الديانات واللغى
له خطرات تفضح الناس
فهل نستدل بهذا على أنه كان يعرف غير اللغة العربية أيضا؟ أظن ذلك؛ فابن خلكان يروي في ترجمة الفارابي أنه كان لسيف الدولة مماليك، وله معهم لسان خاص يحدثهم به.
ومن مظاهر حبه للأدب وسعة اطلاعه وحسن ذوقه أنه كان كثيرا ما يتمثل بأبيات قديمة، وتعجبه أبيات يرددها، أو قافية يستملحها، أو معنى يستجيده؛ فيطلب من الشعراء أن يجيزوها أو يقولوا على قافيتها، فمرة - مثلا- ورد على خاطره بيتان للعباس بن الأحنف:
أمني تخاف انتشار الحديث
وحظي في ستره أوفر
ولو لم أصنه لبقيا علي
ك نظرت لنفسي كما تنظر
واستحسن المعنى، فأرسل رسولا مستعجلا لأبي الطيب ومعه رقعة فيها البيتان يسأله إجازتهما، فقال المتنبي أبياته المشهورة:
رضاك رضاي الذي أوثر
وسرك سري فما أظهر إلخ
وديوان المتنبي وغيره من الشعراء مملوء بهذه الأمثال.
ثم مجلسه الأدبي الحافل في حلب، والذي قل أن يكون له نظير؛ فالشعراء والأدباء في مجلسه يثيرون الموضوعات المتنوعة، ويساهم فيها سيف الدولة، ويحكم بينهم فيما اختلفوا فيه، ويجزل العطاء لمن أجاد؛ فأحيانا يستذكرون الشعر القديم، وأحيانا يسألهم إجازة الشعر، وأحيانا مسألة نحوية، وأخرى مسألة لغوية، حسبما اتفق؛ فمثلا مرة ينشئ سيف الدولة هذا البيت:
لك جسمي تعله
فدمي لم تحله
ويطلب من أبي فراس أن يجيزه، فيقول:
أنا إن كنت مالكا
فلي الأمر كله
ومرة يسأل المتنبي أن يعيد إنشاد قصيدته:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم
وتأتي على قدر الكرام المكارم
وكان سيف الدولة يحب هذه القصيدة ويستعيدها، فلما وصل إلى قوله:
وقفت وما في الموت شك لواقف
كأنك في جفن الردى وهو نائم
تمر بك الأبطال كلمى هزيمة
ووجهك وضاح وثغرك باسم
قال سيف الدولة: قد انتقدنا عليك هذين البيتين؛ لأن الشطرين لا يلتئمان، وكان خيرا أن تخالف بينهما فتقول:
وقفت وما في الموت شك لواقف
ووجهك وضاح وثغرك باسم
تمر بك الأبطال كلمى هزيمة
كأنك في جفن الردى وهو نائم
وهو نقد دقيق، وإن كان المتنبي قد رد عليه فقال: «إن الثوب لا يعرفه البزاز معرفة الحائك».
وسأل سيف الدولة مرة من في مجلسه: هل تعلمون اسما ممدودا وجمعه مقصور؟ فلم يحيروا جوابا إلا ابن خالويه فقال: عذراء وعذارى، وصحراء وصحارى، وهكذا كان مجلسه حافلا بالأدب والنقد.
وهو مع ذلك شاعر غير أنه مقل، فقد رويت له في كتب الأدب أشعار، وإن كان كثير منها قد نسب لغيره في بعض دواوين الشعراء، فلعله كان يتغنى بها فيظن بعض الناس أنها له، ولكن بعضها يكاد يجمع الرواة على أنه لسيف الدولة، كقوله في جارية رومية له كان يهواها ويخشى عليها من حظاياه، فأودعها قلعة وقال:
راقبتني العيون فيك فأشفق
ت ولم أخل قط من إشفاق
ورأيت العذول يحسدني في
ك مجدا يا أنفس الأعلاق
فتمنيت أن تكوني بعيدا
والذي بيننا من الود باق
رب هجر يكون من خوف هجر
وفراق يكون خوف فراق
وقال:
تجنى علي الذنب والذنب ذنبه
وعاتبني ظلما وفي شقه العتب
وأعرض لما صار قلبي بكفه
فهلا جفاني حين كان لي القلب
إذا برم المولى بخدمة عبده
تجنى له ذنبا وإن لم يكن ذنب
سيف الدولة هذا الفنان الناقد الشاعر الملك، هو الذي اتصل به المتنبي.
كان المتنبي بعد خروجه من سجنه لدعواه النبوة، أو لما قيل من دعواه النبوة بائسا فقيرا ناقما على الزمان وأهله، يشعر بعظمته وعلو نفسه؛ ثم لا يجد لهذه العظمة منفذا؛ فهو يتردد على من يسميهم الناس عظماء، فيمدحهم فلا يجد عندهم تقديرا لنفسه ولا لشاعريته، حتى رووا أنه مدح علي بن منصور الحاجب بقصيدته التي مطلعها:
بأبي الشموس الجانحات
اللابسات من الحرير جلاببا
فأعطاه عليها دينارا واحدا فسميت القصيدة الدينارية.
وقالوا: إن أكثر ما نال على شعره قبل اتصاله بسيف الدولة كان مائة دينار، منحها له الأمير أبو محمد الحسن بن عبيد الله بن طغج بالرملة.
فكان اتصاله بسيف الدولة صفحة جديدة في أدبه، وصفحة جديدة في رخاء عيشه.
كان أبو الطيب يتنقل في ربوع الشام مادحا من يخاله كريما محسنا، حتى نزل على أبي العشائر، عم سيف الدولة، وعامل أنطاكية، ومدحه بقصائد كثيرة، يقول فيها:
شاعر المجد خدنه شاعر اللف
ظ كلانا رب المعاني الدقاق
لم تزل تسمع المديح ولك
ن صهيل الجياد غير النهاق
وسار مع أبي العشائر سيرة مصغرة للسيرة التي سارها بعد مع سيف الدولة.
ففي شهر جمادى الآخرة من سنة 337ه زار سيف الدولة أنطاكية، وكان بها أبو الطيب، وكان قد سمع سيف الدولة به وبشعره، ورأى أن يزين به بلاطه، فقدمه إليه أبو العشائر، وعرض عليه أن يكون شاعره.
كان غير أبي الطيب من الشعراء لو عرض عليه مثل هذا العرض يطير فرحا، ويرى أن ذلك أمنية الأماني وسعادة الدهر، ولكن أبا الطيب تردد طويلا، وأداه تردده أن يشترط، لم يشترط مالا يعطاه، ولا جائزة ينالها، وهو لهذا ضامن، ولكنه اشترط ألا يعامل معاملة سائر الشعراء ؛ لأنه ليس شاعرا فحسب، بل شاعرا وعظيما، وقد سمع أن الشعراء يذلون لسيف الدولة ذلة لا يرضاها لنفسه؛ سمع أنهم يقبلون الأرض بين يديه، وأنهم ينشدون شعرهم وهم وقوف أمامه؛ فاشترط ألا يكون شيء من ذلك، إنما يكون «ملك الشعراء يمدح ملك الناس»؛ فإذا كان سيف الدولة راكبا مدحه المتنبي وهو راكب، وإذا كان جالسا مدحه وهو جالس، ثم لا يظهر بمظهر الخضوع من تقبيل الأرض ونحوه.
وعرف سيف الدولة منزلته وشهرته، وأنه سيكون صوتا مدويا في العالم العربي يشيد بذكره فقبل شروطه.
لبث المتنبي مع سيف الدولة نحو عشر سنين من سنة 337 إلى سنة 346 أغلبها في حلب، وقال فيها نحو ثلث شعره كما، وأجود شعره كيفا.
لم يجد شعر المتنبي في زمن جودته أيام سيف الدولة لأسباب: أهمها أن المتنبي لم يجد ما يغذي نفسه وعواطفه في نواحيها المختلفة كما وجدها في هذه الأيام، فالمتنبي عربي يعتز كل الاعتزاز بعربيته؛ فكان يحتقر كافورا لأعجميته، ويسب ابن خالويه لأعجميته، ويقول في أبياته:
تهاب سيوف الهند وهي حدائد
فكيف إذا كانت نزارية عربا
وجرى ذكر ما بين العرب والأكراد من الفضل، فسأل سيف الدولة المتنبي ما تقول؟ فقال:
إن كنت عن خير الأنام سائلا
فخيرهم أكثرهم فضائلا
من كنت منهم يا همام وائلا
الطاعنين في الوغى أوائلا
والعاذلين في الندى العواذلا
قد فضلوا بفضلك القبائلا
فكان - لهذا - إذا مدح كافورا وغيره لم يخلص ولم يواته طبعه، وإذا مدح سيف الدولة مدح عربيا لا يرى غضاضة في مدحه، وانثالت عليه المعاني العربية انثيالا.
وكان المتنبي وسيف الدولة لدين، شاء الله أن يولدا في سنة واحدة سنة 303، واصطحبا وسنهما أعز أيام الشباب، فقضيا معا من سن 34 إلى 44، والعواطف تتمازج وتتحاب؛ إذا تقاربت في السن واتفقت في الشباب.
وسيف الدولة فارس والمتنبي فارس، كلاهما يعشق الخيل والضرب والطعان، فإن خرج سيف الدولة فارسا خرج المتنبي فارسا، وقد صحبه في عدة غزوات إلى بلاد الروم، ومنها غزوة قالوا: إنه لم ينج منها إلا سيف الدولة وستة نفر من صحبه أحدهم المتنبي، فإذا شعر المتنبي في الغزوات والقتال والشجاعة والحرب فإنما يستمد ذلك من نفسه، ومن شعوره، لا من ألفاظ حشاها في رأسه ينظمها ولا تتصل بقلبه.
ثم ما أغدق عليه سيف الدولة من مال لم يحلم به ولم تره عينه من قبل؛ وكان المتنبي محبا للمال حبا لا يتناسب وطلبه للمجد وعلو همته، وقد علله هو بأن ذلك يرجع إلى أيام صباه يوم كان لا يجد قوت يومه، فعلمه ذلك قيمة المال والشهوة إليه والحرص عليه، ويعبر عما في نفسه من ذلك فيقول:
فلا ينحلل في المجد مالك كله
فينحل مجد كان بالمال عقده
ودبره تدبير الذي المجد كفه
إذا حارب الأعداء والمال زنده
فلا مجد في الدنيا لمن قل ماله
ولا مال في الدنيا لمن قل مجده
فغذاه سيف الدولة من هذه الناحية حتى أتخمه، وكان في سيف الدولة الأريحية العربية والكرم العربي فتقابلت هذه الصفة مع شره المتنبي وطمعه، فكان يعطيه في كل سنة نحو ثلاثة آلاف دينار، غير الهدايا من أفراس وجوار وسيوف، وأقطعة مرة إقطاعا بناحية معرة النعمان كان يخرج إليها المتنبي أحيانا، فزاد العطاء في فصاحة المتنبي وحمله على العمق في استخراج المعاني، واللهى تفتح اللها.
وفوق هذا وذاك فقد كان كل الوسط الذي حول المتنبي أيام سيف الدولة يتطلب منه الإجادة، فلقد كان حوله شعراء عديدون نابهون كأبي فراس والنامي والببغاء وابن نباتة وغيرهم، ونقاد ونحاة ولغويون، والملك على رأسهم يشعر وينقد ويقدر، ويأتي من أعمال الفروسية والبطولة ما ينطق العيي.
فكيف بعد ذلك كله لا يكون عصر المتنبي مع سيف الدولة خير عصوره وأحسنها إنتاجا، وقد سئل هو نفسه في ذلك: لم تراجع شعره بعد مفارقة آل حمدان، فقال: قد تجوزت في قولي وأعفيت طبعي، واغتنمت الراحة، منذ فارقت آل حمدان، وفيهم من يقول: (تسائلني من أنت وهي عليمة) يعني أبا فراس، وفيهم من يقول:
وقد علمت بما لاقته منا
قبائل يعرب وبني نزار
لقيناهم بأرماح طوال
نبشرهم بأعمار قصار
يعني أبا زهير بن مهلهل الحمداني.
وفيهم من يقول:
أأخا الفوارس لو رأيت مواقفي
والخيل من تحت الفوارس تنحط
لقرأت منها ما تخط يد الوغى
والبيض تشكل والأسنة تنقط
يعني أبا العشائر. ا.ه.
وهكذا اجتمعت كل هذه الأسباب على إحسان المتنبي في هذه الفترة كل الإحسان، وإن كان ذلك الخوف من الناقدين، والعمق في إعمال الفكر، أخرجه أحيانا إلى ما يسميه النقاد بالخيال الواهم، ويعنون به الإبعاد في الخيال إلى حد الوهم.
الفصل الرابع عشر
المتنبي وسيف الدولة (2)
اتصل المتنبي بسيف الدولة وأصبح شاعر بلاطه الأول، فأخذ يسجل أحداثه الحربية والمدنية تسجيلا أدبيا، فإن سجل المؤرخون الحقائق صرفة فالمتنبي يسجلها ممزوجة بعواطفه ومشاعره.
قد كانت هذه الفترة فترة غزوات متوالية من سيف الدولة للروم وللخارجين عليه من أقاربه وغيرهم، فأخذ المتنبي يقول قصيدة لكل موقعة، فقد ظفر بحصن بروزويه سنة 337 فقال المتنبي قصيدته:
وفاؤكما كالربع أشجاه طاسمه
بأن تسعدا والدمع أشفاه ساجمه
وحارب سيف الدولة القرامطة هذا العام، واستنقذ منهم عمه أبا وائل، فقال المتنبي قصيدته:
إلام طماعية العاذل
ولا رأي في الحب للعاقل
وخرج هذا العام أيضا لنصرة أخيه ناصر الدولة على معز الدولة الديلمي، فاضطر معز الدولة إلى الصلح، فقال المتنبي قصيدته:
أعلى الممالك ما يبنى على الأسل
والطعن عند محبيهن كالقبل
واستعد لغزو الروم سنة 339 وأعد جيشه، فقال المتنبي قصيدته:
لهذا اليوم بعد غد أريج
ونار في العدو لها أجيج
فلما انهزم سيف الدولة في هذه الوقعة قال قصيدته:
غيري بأكثر هذا الناس ينخدع
إن قاتلوا جبنوا أو حدثوا شجعوا
وقال: إن سبب الهزيمة ما لحق بسيف الدولة من الضعفاء والجبناء، وإن كل غزوة بعد هذه الغزوة فلسيف الدولة النصرة؛ لأن جنوده قد نقيت من الأنذال، ولم يبق فيهم إلا الأبطال.
وبنى سيف الدولة مرعش سنة 341، فقال المتنبي قصيدته:
فديناك من ربع وإن زدتنا كربا
فإنك كنت الشمس للشرق والغربا
وجاء رسول ملك الروم إلى سيف الدولة يلتمس الفداء سنة 341، فقال المتنبي:
لقيت العفاة بآمالها
وزرت العداة بآجالها
وبنى سيف الدولة ثغر الحدث سنة 343، فقال فيه المتنبي القصيدة المشهورة:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم
وتأتي على قدر الكرام المكارم
وهكذا كان كل عمل حربي يأتيه سيف الدولة يسجله المتنبي ويفلسفه ويؤدبه، ويخرجه قصيدة رائعة.
وكذلك كان يسجل أحداث سيف الدولة المدنية، فتموت أم سيف الدولة فيرثيها بقوله:
نعد المشرفية والعوالي
وتقتلنا المنون بلا قتال
ويموت ابن سيف الدولة فيرثيه بقصيدة:
بنا منك فوق الرمل ما بك في الرمل
وهذا الذي يضني كذاك الذي يبلي
ويموت غلام سيف الدولة «يماك» فيرثيه بقصيدته:
لا يحزن الله الأمير فإنني
لآخذ من حالاته بنصيب
وتموت أخت سيف الدولة فيرثيها بقصيدته:
إن يكن صبر ذي الرزيئة فضلا
تكن الأفضل الأعز الأجلا
ويمرض سيف الدولة فيقول المتنبي:
إذا اعتل سيف الدولة اعتلت الأرض
ومن فوقها والبأس والكرم المحض
ويخرج لسيف الدولة دمل فيقول المتنبي:
أيدري ما أرابك من يريب
وهل ترقى إلى الفلك الخطوب
ويشفى سيف الدولة فيقول المتنبي:
المجد عوفي؛ إذ عوفيت والكرم
وزال عنك إلى أعدائك الألم
ويأتي عيد الفطر فيهنئه، وعيد الأضحى فيهنئه.
وبذلك أصبح شعر المتنبي في هذه الفترة سجلا لكل أعمال سيف الدولة وأحداثه كبيرها وصغيرها، سلمها وحربها، أحزانها وأفراحها، جدها وهزلها.
والمتتبع للديوان يرى أن شعر المتنبي في وصف حروب سيف الدولة، وشعره في الحزن؛ أرقى من شعره في المديح وشعر السرور، وسبب ذلك - على ما يظهر - أن نوع الشعر الذي يشتد اتصاله بنفس المتنبي، يجود ويغزر، وقد كان المتنبي فارسا تعجبه الفروسية والبطولة، فإذا قال في ذلك يستخرجه من أعماق قلبه، وكانت نفسه حزينة؛ لأنه لم ينل المجد الذي يصبو إليه، فيحزن حزنا عميقا على الميت، وهو في حقيقة الأمر يحزن على ليلاه، أما السرور وأما المديح في غير البطولة فصياغته لا تلمس إلا السطح الظاهري من قلبه.
وكما سجل المتنبي أحداث سيف الدولة، سجل نفسه في مشاعرها المختلفة، وانقباضها وانبساطها، وأمنها واضطرابها، وكان المتنبي حاد الذكاء، حاد المزاج، صريحا، لا يستطيع أن يخفي ما في نفسه، وقد توالت عليه أوقات شدة ورخاء، وتتابعت عليه ساعات أمن وساعات قلق، وكان مضطربا بين الرضا والغضب، والبؤس والنعيم، ومما زاد الأمر صعوبة أن سيف الدولة من جنسه، سريع الرضا، سريع الغضب، سمح إلى آخر حدود السماحة، منتقم إلى آخر حدود الانتقام، ينفعل أحيانا لقصيدة واحدة للمتنبي انفعالات متعاكسة، فيعجبه البيت في مدحه فيطرب له أشد الطرب، ويفخر المتنبي عليه بنفسه فيهيج أشد الهياج؛ وطبعان على نمط واحد بهذا الشكل لا يمكن أن يسودهما الصفاء التام ولا الجفاء التام، فإذا ساد الصفاء فسرعان ما يعتكر، وإذا اعتكر فسرعان ما يصفو، وهكذا كان حالهما دائما، فنرى سيف الدولة يعطي المتنبي الألوف في لحظة، ويرضى عن قتله في لحظة، ونرى المتنبي له عينان، عين في المجد وعين في المال، يأخذ المال فيرضى، وينظر للمجد فيثور، والمجد في نظره أن يسود هو، ولا يكون مسودا لأحد، حتى ولو كان سيف الدولة.
وبجانب ذلك كان بلاط سيف الدولة مسرحا تمثل فيه دسائس كثيرة للمتنبي؛ فقد كان فيه شعراء كثيرون، كانوا شعراء سيف الدولة قبل المتنبي وأيامه، وكانوا ذوي حظوة كبرى عند سيف الدولة، فكسفهم المتنبي، وعلاهم بنفسه وبشعره؛ فكان من الطبيعي أن يحقدوا عليه ويدسوا له، وغير الشعراء من الأدباء والعلماء كذلك، يرون المتنبي يأخذ أكثر مما يأخذون، وينال القرب من سيف الدولة أكثر مما ينالون، فكيف لا يغضبون؟
وربما كان من أشد هؤلاء عداوة له أبو العباس النامي الشاعر وأبو فراس وابن خالويه النحوي اللغوي.
كان سيف الدولة يميل إلى النامي قبل المتنبي، فلما جاء المتنبي مال عنه، فغاظ ذلك النامي، وخلا يوما بسيف الدولة وعاتبه وقال له: لم تفضل علي ابن عبدان السقا؟ (يعني المتنبي) فأمسك سيف الدولة عن الجواب، فلما ألح قال سيف الدولة: لأنك لا تحسن أن تقول كقوله:
يعود من كل فتح غير مفتخر
وقد أغذ إليه غير محتفل
فنهض مغضبا، واعتزم ألا يمدحه أبدا!
وأبو فراس يقول لسيف الدولة: «إن هذا المتشدق كثير الإدلال عليك، وأنت تعطيه كل سنة ثلاثة آلاف دينار على ثلاث قصائد، ويمكن أن تفرق مائتي دينار على عشرين شاعرا يأتون بما هو خير من شعره.».
ويأخذ دائما المسالك على المتنبي، فإذا قال بيتا جميلا، قال أبو فراس: إنك سرقته من قول بشار، أو من قول دعبل.
ويتجادل المتنبي وابن خالويه في مسألة لغوية، فيغضب ابن خالويه (وهو أستاذ سيف الدولة) فيخرج من كمه مفتاحا حديدا ليلكم به المتنبي.
وهكذا كان بلاط سيف الدولة حربا علنية وخفية على المتنبي، ولم يخلص للمتنبي من حول سيف الدولة من الشعراء إلا أبو الفرج الببغاء، فقد كان المتنبي يأنس به ويبثه شكواه من سيف الدولة وممن حوله، ويأتمنه على سره؛ وقد ساعدت طباع أبي الطيب على نجاح هذه الدسائس، فهو يتعاظم فيغضب الشعراء، بل ويتعاظم فيغضب الأمير، وهو دائم الإعلان عن نفسه والفخر بها؛ ويجفو سيف الدولة فيجفو المتنبي، ويتكلم سيف الدولة فيجيبه المتنبي، وتأتي المناسبات ليقول الشعراء وينتظر سيف الدولة من المتنبي أن يقول فلا يقول، والمتنبي حائر النفس بين المجد والمال، يجفو مجدا، فلا يمعن في الجفاء مالا، ويصد لأنفته، ويخضع لطمعه، وهي حال تربك النفس وتعقد الحياة.
هذا كله قد سجله المتنبي أيضا في شعره في سيف الدولة، فمن السنة الثانية لاتصاله بسيف الدولة يذكر الحسد ويذم الناس ويقول:
فأبلغ حاسدي عليك أني
كبا برق يحاول بي لحاقا
وهل تغني الرسائل في عدو
إذا ما لم يكن ظبي رقاقا
إذا ما الناس جربهم لبيب
فإني قد أكلتهم وذاقا
فلم أر ودهم إلا خداعا
ولم أر دينهم إلا نفاقا
ويتمنى لو تعطي الملوك على أقدار الناس، فلم يكن ينال الخسيس شيئا:
ليت الملوك على الأقدار معطية
فلم يكن لدنيء عندها طمع
ولعل أوضح ما يدل على هذه الحال قصيدته التي مطلعها:
وا حر قلباه ممن قلبه شبم
ومن بجسمي وحالي عنده سقم
فهي تصور هياج نفسه أشد هياج، فهو لا يعبأ بسيف الدولة إلا مداراة، ولا يعبأ بمن حوله من الناس ومن الشعراء، ويمدح سيف الدولة ليمدح نفسه، ويعرض بأبي فراس وغيره من الشعراء:
يا أعدل الناس إلا في معاملتي
فيك الخصام وأنت الخصم والحكم
أعيذها نظرات منك صادقة
أن تحسب الشحم فيمن شحمه ورم
وما انتفاع أخي الدنيا بناظره
إذا استوت عنده الأنوار والظلم
سيعلم الجمع ممن ضم مجلسنا
بأنني خير من تسعى به قدم
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي
وأسمعت كلماتي من به صمم •••
الخيل والليل والبيداء تعرفني
والسيف والرمح والقرطاس والقلم •••
ما كان أخلقنا منكم بتكرمة
لو أن أمركم من أمرنا أمم •••
كم تطلبون لنا عيبا فيعجزكم
ويكره الله ما تأتون والكرم
ما أبعد العيب والنقصان من شرفي
أنا الثريا وذان الشيب والهرم
ثم يهدد بالرحيل:
إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا
ألا تفارقهم فالراحلون هم
شر البلاد مكان لا صديق به
وشر ما يكسب الإنسان ما يصم
ثم يطعن الشعراء حوله فيقول:
بأي لفظ تقول الشعر زعنفة
تجوز عندك لا عرب ولا عجم
هذا عتابك إلا أنه مقة
قد ضمن الدر إلا أنه كلم
قصيدة - من غير شك - من أقوى شعر المتنبي، سكب فيها نفسه، ولم يعبأ بمقام أحد، وكانت كافية؛ لأن يطرده سيف الدولة شر طردة، ولكن - كما قد قلت قبل - إن سيف الدولة من جنس المتنبي، فلئن كانت القصيدة أغضبته أشد الغضب فقد جاء فيها:
إن كان سركم ما قال حاسدنا
فما لجرح إذا أرضاكم ألم
وهذا أطرب سيف الدولة أيما طرب.
وانتهت المعركة بأن أعطى سيف الدولة المتنبي ألفا وألفا، فقال المتنبي:
جاءت دنانيرك مختومة
عاجلة ألفا على ألف
أشبهها فعلك في فيلق
قلبته صفا على صف
ولكن إن انتهت هذه الحادثة فلا بد أن يعقبها حوادث مثلها ما دام سيف الدولة والمتنبي على ما هما والبلاط على ما هو.
وظل المتنبي يتعاظم في شعره، ويعرض بغيره من الشعراء، ويقول لسيف الدولة:
إن هذا الشعر في الشعر ملك
سار فهو الشمس والدنيا فلك
عدل الرحمن فيه بيننا
فقضى باللفظ لي والحمد لك
فإذا صار بأذني حاسد
صار ممن كان حيا فهلك
وشاء القدر أن يكون آخر شعر في سيف الدولة من هذا القبيل وعلى هذه النغمة وهو:
لا تطلبن كريما بعد رؤيته
إن الكرام بأسخاهم يدا ختموا
ولا تبال بشعر بعد شاعره
قد أفسد القول حتى أحمد الصمم
وظلت السعايات تعمل، فابن خالويه وغيره يلح في الإيقاع بالمتنبي، والمتنبي يمعن في تعاليه حتى فاض الإناء، فمل سيف الدولة كثرة القول في المتنبي، ومل المتنبي كثرة الغضب والعتاب، فتلاقت رغبة المتنبي في الخروج من حلب برغبة سيف الدولة في الراحة مما ينظر ويسمع، فرحل المتنبي إلى مصر، وأسدل الستار عن فصل من رواية المتنبي، وإن كانت الرواية لم تتم فصولا.
وفي الحق أن الزمان أخطأ فوضع المتنبي في غير موضعه؛ أعطاه نفس ملك ولسان شاعر، ووقفه بدف على أبواب الأمراء يمدحهم، وهو إذ يمدحهم يرى منزلته - حقا أو باطلا - فوق منزلتهم؛ فكان شأنه شأن كثير من الناس لا تتلاءم نفسيتهم ومنصبهم، نفس رئيس ومنصب مرءوس، أو نفس حرب ونضال ومنصب ذلة وهوان؛ وهذان العنصران إذا اجتمعا سببا شقاء صاحبهما؛ لذلك كانت نفس المتنبي ثائرة دائما، ومن يدري؟ لعل ما منحنا من شعر جزل جميل كان نتيجة هذا العناء، ولو تلاءم منصبه ونفسه لأخلد إلى الراحة؛ فكم كان الشقاء والبؤس والفقر والاضطهاد والعذاب نعمة على الإنسانية بما أخرجت من شعور نبيل وفن جميل.
وبعد؛ فمع هذا كله لم يجد المتنبي عوضا عن سيف الدولة في علو شأنه وكرمه وعربيته وذوقه وفروسيته؛ وخرج ينشد الملك في مصر وغير مصر فلم ينل ملكا ولم يجد ممدوحا ينطقه بالمعاني كما أنطقه سيف الدولة، وعرض في أول أمره بمصر بسيف الدولة، ولكنه أدرك الحقيقة المرة بعد، فتاب وأناب وندم على ما كان، وحن إلى سيف الدولة وحن سيف الدولة إليه، فيقول من قصيدة في غير ديوانه:
عثرت بسيري نحو مصر فلالعا
بها ولعا بالسير عنها ولا عثرا
وفارقت خير الناس قاصد شرهم
وأكرمهم طرا لألأمهم طرا
فعاقبني المخصي بالغدر جازيا
لأن رحيلي كان عن حلب غدرا
وما كنت إلا قائل الرأي لم أعن
بحزم ولا استصحبت في وجهتي حجرا
لقد كان المتنبي حين فارق سيف الدولة يعتقد أنه غدر به فيقول:
حببتك قلبي قبل حبك من نأى
وقد كان غدارا فكن أنت وافيا
ولكن مرور الزمان، وتكشف الحوادث وخيبة الأمل في غيره جعلته يرى غير رأيه الأول، وأن المتنبي لا سيف الدول كان هو الغادر؛ إذ يقول: «لأن رحيلي كان عن حلب غدرا».
وحن سيف الدولة إلى المتنبي، فبعث إليه ابنه من حلب إلى الكوفة، بعد أن خرج من مصر، وبعث إليه مع ابنه هدية، فكتب إليه المتنبي قصيدته التي يقول فيها:
ليس إلاك يا علي همام
سيفه دون عرضه مسلول •••
أنت طول الحياة للروم غاز
فمتى الوعد أن يكون القفول •••
ما الذي عنده تدار المنايا
كالذي عنده تدار الشمول •••
من عبيدي إن عشت لي ألف كافو
ر ولي من نداك ريف ونيل
ما أبالي إذا اتقتك الليالي
من دهته حبولها والخبول
ثم بعث إليه سيف الدولة كتابا بخطه يسأله المسير إليه فاعتذر بالوشايات،
وما عاقني غير خوف الوشاة
وإن الوشايات طرق الكذب
كان ذلك في سنة 353، ولم تطل مدة المتنبي بعد، فقد قتل في السنة التي تليها، وهي سنة 354، كلاهما يحمل نفسا حبيبا إلى صاحبه.
الفصل الخامس عشر
فلسفة القوة في شعر المتنبي
يخطئ من يظن أن أبا الطيب عمد إلى ما أثر من الحكم عن أفلاطون وأرسطو وأبيقور وأمثالهم من فلاسفة اليونان فأخذها ونظمها، ولم يكن له في ذلك إلا أن حول النثر شعرا، كما رأى ذلك من تتبعوا سرقات المتنبي وأفرطوا في اتهامه، فأخذوا يبحثون في كل حكمة نطق بها ويردونها إلى قائلها من هؤلاء الفلاسفة، فلسنا نرى هذا الرأي، فإن كان قد وصل إلى أبي الطيب قليل من حكم اليونان فإن أكثر حكمه منبعها نفسه وتجاربه وإلهامه، لا الفلسفة اليونانية وحكمها؛ ذلك لأن الحكم ليست وقفا على الفلاسفة ولا على من تبحروا في العلوم والمعارف ، إنما هي قدر مشاع بين الناس يستطيعها العامة كما يستطيعها الخاصة، ونحن نرى فيما بيننا أن بعض العامة ومن لم يأخذوا بحظ من علم قد يستطيعون من ضرب الأمثال والنطق بالحكم الصائبة ما لا يستطيعه الفيلسوف والعالم المتبحر، وهذا الذي بين أيدينا من أمثال إنما هو من نتاج عامة الشعب أكثر مما هو من نتاج الفلاسفة، وكلنا رأى بعض عجائز النساء ممن لم تقرأ في كتاب أو تخط بيمينها حرفا تنطق بالحكمة تلو الحكمة، فيقف أمامها الفيلسوف حائرا دهشا يعجز عن مثلها ويحار في تفسيرها، ومرجع ذلك إلى ينبوعين وهما التجربة والإلهام، فإذا اجتمعا في امرئ تفجرت منه الحكمة ولو لم يتعلم ويتفلسف، فكيف إذا اجتمعا لامرئ كأبي الطيب ملئ قلبه شعورا وملئت حياته تجارب، وكان أمير البيان وملك الفصاحة؟ فنحن إذا التمسنا له مثالا في حكمه فلسنا نجده في أفلاطون وأرسطو وأبيقور، وإنما نجده في زهير بن أبي سلمى وقد نطق في الجاهلية بالحكم الرائعة مما دلته عليه تجاربه وأوحى إليها إلهامه، كما نجده في شعر أبي العتاهية وقد ملأ عالمه حكما وأمثالا خالدة على الدهر، وكل ما بين أبي الطيب وهؤلاء الحكماء من فروق يرجع إلى أشياء: المحيط الذي يحيط بكل شاعر، وقدرة نفس الشاعر على تشرب محيطه، والقدرة البيانية على أداء مشاعره، لقد ألم زهير من الحرب ورأى ويلاتها فشعر فيها ونطق بالحكم الرائعة يصف شرورها ومصائبها، وفشل أبو العتاهية في الحياة فزهد وملك الزهد عليه نفسه فملأ به ديوانه، وكان لأبى الطيب موقف غير هذين فاختلفت حكمه عنهما وإن نبعت من منبعهما.
ودليلنا على ذلك أن أبا الطيب - فيما نعلم - لم يثقف ثقافة فلسفية إنما تثقف ثقافة عربية خالصة، قرأ بعض دواوين الشعراء ولقي كثيرا من علماء الأدب واللغة كالزجاج وابن السراج والأخفش وابن دريد، وكل هؤلاء لا شأن لهم بالفلسفة ومناحيها.
وما لنا ولهذا كله، فإننا لو رجعنا إلى حكمه لوجدناها منطبقة تمام الانطباق على محيطه ونفسه، ليس فيها أثر من تقليد ولا شية من تصنع، فهو ينظم ما يجول في نفسه وما دلته عليه تجاربه لا ما نقل إليه من حكم غيره إلا في القليل النادر.
ونحن إذا أردنا أن نجمل نفسه ومحيطه قلنا: إنه بدأ حياته حياة فتوة وفروسية، تعرفه الخيل والليل والبيداء، ويحب الحرب والنزال، ويشتهي الطعن والقتال، قيل له وهو في المكتب: ما أحسن وفرتك؟ فقال:
لا تحسن الوفرة حتى ترى
منشورة الضفرين يوم القتال
على فتى معتقل صعدة
يعلها من كل وافي السبال
1
كما نشأ طموحا إلى أقصى حد في الطموح، يعتد بنفسه كل الاعتداد، ولا يرى له في الوجود ندا ولا مثيلا، قال في صباه:
أمط عنك تشبيهي بما وكأنه
فما أحد فوقي ولا أحد مثلي
يقول: إن قومه من خير العرب بيتا، ومع هذا يجب أن يعتز قومه به لا أن يعتز هو بقومه وبيته:
لا بقومي شرفت بل شرفوا بي
وبنفسي فخرت لا بجدودي
وبهم فخر كل من نطق الضا
د وعوذ الجاني وغوث الطريد
إلى جانب هذا الاعتزاز بالنفس استصغار للناس ونفوسهم وشئونهم:
ودهر ناسه ناس صغار
وإن كانت لهم جثث ضخام
وما أنا منهم بالعيش فيهم
ولكن معدن الذهب الرغام
امتلأت نفسه بهذه العقيدة حتى في صباه، فوضع لنفسه هذا المنطق الساذج البسيط: «إذا كنت خير الناس فلم لا أكون نبيهم أو على الأقل ملكهم» فبدأ ينفذ برنامجه في سهولة ويسر ظانا - وهو فتى غرير - أن الدنيا تحكم بمثل هذا المنطق البسيط، ولم يعلم بعد أن منطق الدنيا أعقد من منطقه، نعم إنه سيلاقي في هذا شدادا وصعابا، ولكن لا بأس فهو مسلح بكل ما يحتاج إليه ذلك من سلاح:
أي محل أرتقي؟
أي عظيم أتقي ؟
وكل ما خلق الله
وما لم يخلق
محتقر في همتي
كشعرة في مفرقي
ولكن حوادث الدهر علمته شيئا فشيئا أن الزمان أكبر من همته، وأنه لا يكفي أن يكون خير الناس في زعمه ليكون نبي الناس أو ملك الناس، ومن أجل هذا تدرجت مطامحه وأخذت في النقصان؛ فقد بدأ يطلب النبوة، فلما فشل فيها بدأ يطلب الملك، فلما فشل فيه بدأ يطلب ولاية أو إقليما في مصر ففشل في ذلك أيضا، فأخذ يعتب على الزمان ويذمه ويلعنه.
بدأ النبوة فقال:
ما مقامي بأرض نخلة إلا
كمقام «المسيح» بين اليهود
أنا ترب الندى ورب القوافي
وسمام العدى وغيظ الحسود
أنا في أمة تداركها الله
غريب «كصالح» في ثمود
ثم صدمه الزمان بالأسر والحبس فعدل عن النبوة إلى طلب الملك، فأخذ في شعره يحقر ملوك زمانه ويقيسهم بنفسه فلا يرى لهم فضلا عليه، وله عليهم كل الفضل، ويضع خطة أن العرب يجب أن يحكمها العرب لا العجم فيقول:
وإنما الناس بالملوك وما
تفلح عرب ملوكها عجم
ويقول:
سادات كل أناس من نفوسهم
وسادة المسلمين الأعبد القزم
إذن يجب أن يكون الملوك من العرب، وإذن فليكن هو ملكا، وقد طوف بالبلاد يتلمس السبيل لتحقيق مأربه ونيل مطلبه، ويقول في ذلك تلميحا لا تصريحا:
يقولون لي ما أنت في كل بلدة
وما تبتغي؟ ما أبتغى جل أن يسمى
إذا قل عزمي عن مدى خوف بعده
فأبعد شيء ممكن لم يجد عزما
وإني لمن قوم كأن نفوسهم
بها أنف أن تسكن اللحم والعظما
وقد حلم أن سيكون له جيش كبير يقوده بنفسه فيجوب البلاد ويفتح الأمصار ويخلع الملوك ويستولي على عروشهم فيقول:
سيصحب النصل مني مثل مضربه
وينجلي خبري من صمة الصمم
2
لقد تصبرت حتى لات مصطبر
فالآن أقحم حتى لات مقتحم
لأتركن وجوه الخيل ساهمة
والحرب أقوم من ساق على قدم
والطعن يحرقها والزجر يقلقه
حتى كأن بها ضربا من اللمم
3 •••
ردي حياض الردى يا نفس واتركي
حياض خوض الردى للشاء والنعم
إن لم أذرك على الأرماح سائلة
فلا دعيت ابن أم المجد والكرم
أيملك الملك - والأسياف ظامئة
والطير جائعة - لحم على وضم؟
من لو رآني ماء مات من ظمأ
ولو عرضت له في النوم لم ينم
ميعاد كل رقيق الشفرتين غدا
ومن عصى من ملوك العرب والعجم
4
فإن أجابوا فما قصدي بها لهم
وإن تولوا فما أرضى لها بهم
5
ثم رأى أن الزمان لا يسعفه إلى ما طلب ولا يعينه على ما أمل، فرحل إلى مصر وطلب من كافور أن ينيله ولاية فأغدق عليه ذهبا فقال:
وما رغبتي في عسجد أستفيده
ولكنها في مفخر أستجده
وقال:
فارم بي ما أردت مني فإني
أسد القلب آدمي الرواء
وفؤادي من الملوك وإن كا
ن لساني يرى من الشعراء
ثم صرح بعد الكناية فقال:
إذا لم تنط بي ضيعة أو ولاية
فجودك يكسوني وشغلك يسلب
حتى ولا هذه استطاع أن ينالها، وصدمته الحقيقة فاعترف بأنه «يود من الأيام ما لا توده»، وقد كان في صباه يقول:
ولو برز الزمان إلي شخصا
لخضب شعر مفرقه حسامي
وما بلغت مشيئتها الليالي
ولا سارت وفي يدها زمامي
إذا امتلأت عيون الخيل مني
فويل في التيقظ والمنام
عذبته الدنيا فجعلت نفسه نفس ملك، وهمته همة ملك، وشعره ملك الشعر أو على الأقل فيما يعتقد هو، ثم جعلته فقيرا لا يملك من الدنيا شيئا، ولا يرث من آبائه مالا ولا ملكا ولا جاها، وكان يأمل في صباه أن تتحقق نبوته، فالنبوة لا تحتاج إلى مال، فلما يئس طلب الملك، والملك يحتاج إلى مال، فطلبه بشعره ولكن لم تذل نفسه كما ذلت الشعراء، فكان يرى أنه يعطي لممدوحيه أكثر مما يأخذ منهم، فهو يمنحهم شعرا خالدا وهم يمنحونه عرضا زائلا، وكان يتجلى ذلك في عتابه أو هجائه يوم يعتب على ممدوحه أو يهجوه.
فتبا لهذا الزمان الذي وضعه هذا الوضع، منحه طموح الملوك ولم يجعله ملكا، وحرمه المال ولم يحرمه النفس، فلم يوائم بين نفسه وحاله يرى أن الناس لو عقلوا لثاروا ولم يرضوا على ما هم فيه من بؤس وشقاء ولملكوا عليهم خيارهم - ولعله يعني نفسه - ولكنهم خاضعون مستسلمون يقيمون على الذل ولا يأنفون من عار.
أما في هذه الدنيا كريم
تزول به عن القلب الهموم
أما في هذه الدنيا مكان
يسر بأهله الجار المقيم
تشابهت البهائم والعبدى
علينا، والموالي والصميم
وما أدرى أذا داء حديث
أصاب الناس، أم داء قديم؟
اعتداد بالنفس لا حد له، وطموح ليس بعده طوح، ونقمة على الزمان؛ لأنه لم يسعفه، ونقمة على الناس؛ لأنهم لم يحققوا أمله - هذا كله روح فلسفة المتنبي - وكل ما قاله من حكم وكل ما شرحه من حالة نفسية فهو صدى لهذا الوضع، وترجمة لهذه الأحداث، وتعبير عن شعوره بها.
أوضح ما تنتجه هذه الحال في نفس كنفس المتنبي «فلسفة القوة» وكذلك كان، فالمتنبي قوي في الحملة على الناس وعلى الزمان، تتجلى القوة في كل أقواله وفي جميع حالاته، وهذه القوة أكثر ما تكون في سنيه الأولى أيام كان يتنقل في البلاد ويدبر خطته ليحقق أمله، وقد ظل على هذه الحال إلى أن بلغ الرابعة والثلاثين؛ ثم ضعفت بعض الشيء يوم اتصل بسيف الدولة يتبعه حيثما كان ويمدحه في الحل والترحال، وأثر في نفسه فشله عنده فرحل إلى مصر وبها كافور، وشتان بين سيف الدولة في عربيته وفروسيته وكافور في عجمته وعبوديته، ولكنه الزمان الغادر رماه بأقسى ما لديه حتى جعله مادحا كافورا، فهو في مدحه يغالب نفسه ويلعب في كثير من المواقف بالألفاظ ليصوغ مدحا يشبه الذم، فإذا تحرر من ذلك وأخذ في هجائه عادت إليه قوته وكأنه استرد حريته، فهو قوي في نفسه لا يهاب الدهر ولا يكترث لأحداثه:
إن ترمني نكبات الدهر عن كثب
ترم امرءا غير رعديد ولا نكس
وهو قوي في احتقاره اللذات الوضيعة وطموحه إلى أعلى غايات المجد:
وإذا كانت النفوس كبارا
تعبت في مرادها الأجسام
يأبى أن يضعف نفسه بالغزل والخمر فإنهما يحولان دون المجد:
تمرست بالآفات حتى تركتها
تقول: أمات الموت أم ذعر الذعر؟
ذر النفس تأخذ وسعها قبل بينها
فمفترق جاران دارهما العمر
ولا تحسبن المجد زقا وقينة
فما المجد إلا السيف والفتكة البكر
وتركك في الدنيا دويا كأنما
تداول سمع المرء أنمله العشر
وهو قوي في هجائه، فهو إذا رمى أصمى، وإذا مس أدمى، يطوق من يناله الذم، ويقلده الخزي ويلزمه عارا لا تمحوه الأيام.
وهو قوي في دعوته للناس أن يثوروا ويؤسسوا مملكتهم على حد السيف:
أعلى الممالك ما يبنى على الأسل
والطعن عند محبيهن كالقبل
وما تقر سيوف في ممالكها
حتى تقلقل دهرا قبل في القلل
6
وهو قوي في احتقار الناس؛ إذ لم تعل همتهم كهمته، ولم يرتفعوا عن السفاسف رفعته:
إذا ما الناس جربهم لبيب
فإني قد أكلتهم وذاقا
فلم أر ودهم إلا خداعا
ولم أر دينهم إلا نفاقا
كل شيء في سبيل المجد لذيذ محبب إليه؛ فالقتل والموت والعذاب وقطع الفيافي عذب المذاق:
فموتي في الوغى عيش؛ لأني
رأيت العيش في أرب النفوس •••
سبحان خالق نفسي كيف لذتها
فيما النفوس تراه غاية الألم •••
وهان فما أبالي بالرزايا
لأني ما انتفعت بأن أبالي
وأخيرا ترى القوة تشيع في جوانب أساليبه وقوافيه، فإذا اشترك المتنبي وغيره من الشعراء في معنى من المعاني رأيت أبيات المتنبي غالبا أرصن أسلوبا وأجزل لفظا وأقوى قافية وأمتن تركيبا؛ لأنه يسبغ عليها من قوته ويزيد في شدتها من شدته وحدته؛ حتى لقد يقول المألوف والفكر الشائع الذي توارد عليه الشعراء في كل العصور فيخلع عليه بعض نفسه، ولونا من حسه، فكأنما هو جديد وكأنه لم يسبق إليه.
لعل موضع الضعف عنده أنه أنفق حياته في مدح الولاة والأمراء والملوك يصوغ الثناء لهم، وينظم عقود المدح فيهم، ويجهد عقله وخياله في اختراع معاني الكرم والبأس ونسبتها إليهم، ويرحل من بلد إلى بلد طلبا لعطاياهم، ويقف على أبوابهم انتظارا لمنحهم، ويتربص الفرص للقول فيهم، فإذا أقبل العيد هنأهم، وإذا مرضوا عوذهم، وإذا انتصروا في حرب شاد بفعالهم، وإذا انهزموا لطف من هزيمتهم، وإذا مات لهم ميت عزاهم، وإذا ولد لهم مولود بادر بتهنئتهم، وذلك ما لا يتفق كثيرا ونفسه الكبيرة وهمته العالية التي يتحدث عنها؛ لو أنه ترفع عن هذا كله وقنع بأن يتغنى بشعره في وصف شعوره لواءم بين نفسه وشعره، ولكنه - على ما يظهر - لم يشأ عيشة الزهد، وإنما شاء عيشة الرفعة والشهرة بالملك أو بالولاية فرأى أن أن يتصل بالملوك للاستفادة منهم، والاستعانة على تحقيق غرضه بهم وبمنحهم وبإيجاد الصلة بينه وبينهم، ولكنه من حين لآخر يشعر بلذعة في أعماق نفسه من هذا الموقف فيفلسف التهنئة ويقول:
إنما التهنئات للأكفاء
ولمن يدني من البعداء
وأنا منك، لا يهنئ عضو
بالمسرات سائر الأعضاء
ثم هو لا يتنزل إلى مدح غير العظماء، وإذا أنشد شعره أنشده في علو وكبرياء، فإذا لم يتحقق غرضه أو أحس بتيه ممدوحه عليه ثار ثورة من جرحت عزته ونيل من كبريائه، وكأنما تجلت له الحقيقة وهي صعوبة الجمع بين نفس تمتلئ عزة وشاعر يقف شعره على المديح؛ وهكذا كلما جذبته شئون الحياة إلى الضعة والضعف أبت عليه نفسه، وحولته من ضعف إلى قوة ومن ضعة إلى رفعة:
ما كنت أحسبني أحيا إلى زمن
يسيء بي فيه عبد وهو محمود •••
ويلمها خطة ويلم قابلها
لمثلها خلق المهرية القود
وعندها لذ طعم الموت شاربه
إن المنية عند الذل قنديد
7
وبذلك فلسف الحياة كلها فلسفة قوة كما فلسف أبو العتاهية الحياة فلسفة زهد، فويل للضعيف، وويل للجبان، وويل لمن يخاف الحوادث، وويل لمن يهاب الموت:
ولا قضى حاجته طالب
فؤاده يخفق من رعبه
الفصل السادس عشر
تحية العيد
إلى صديقي ...
وأحب إلي أن أناديك بصديقي من أن أناديك «بأخي» أو «حبيبي»، أو أي لفظ آخر في هذا الباب؛ فالأخ لا وزن له ما لم يكن أخا صديقا، والنفس بالصديق آنس منها بالعشيق، وقد أنصف العرب؛ إذ اشتقوه من الصدق، فأي شيء أجمل من الصدق في «الصداقة»؟
كنت أستكثر ما يروى من أن عبد الحميد الكاتب طلب ليقتل - في الثورة العباسية - وكان صديقا لابن المقفع، ففاجأهما الطلب وهما في بيت واحد، فسأل: أيكما عبد الحميد؟ فقال كل منهما: «أنا» خوفا من أن ينال صديقه مكروه؛ وخاف عبد الحميد أن يسرعوا إلى «ابن المقفع»، فقال: إن لي علامات أعرف بها ويعرفها من بعثكم في طلبي؛ وما زال يقيم الحجج ليدفع الأذى عن صديقه حتى أخذ وقتل. وكنت أستبعد ما يروى أن هذيلا أصابت دما في بعض العرب، فأسر أصحاب الدم رجلين من هذيل متصادقين، فقالوا لهما: أيكما أشرف فنقتله بصاحبنا؟ فقال كل واحد منهما: أنا ابن فلان الحسيب النسيب، فاقتلوني دون صاحبي؛ فكل بذل نفسه للقتل دون صاحبه، فلما عيوا بأمرهما صفحوا عنهما، وقالوا: «هذا التصافي لا تصافي المحلب.»
1 .
فلما صادفتك صدقت القصتين، وآمنت أن فقد النفس أهون من فقد الصديق.
إن الحياة فراغ لولا أن تملأها صداقتك، وهي ظلمة حالكة لولا أن تنيرها مودتك.
لسنا صديقين لمنفعة أرجوها منك أو ترجوها مني، وإنما أصادقك؛ لأنك أنت أنت، وما دمت أنت فأنا صديقك.
إن الصداقة ميزتك عن غيرك من كل ما في العالم، فكلما كنت نفسك كنت أقرب إليك وكنت أقرب إلى قلبي.
لقد بحثت نفسي في النفوس حولها، فلما وجدتك عرفتك وعرفت أنك مرآة لها، صورتك صورتها، ومزاجك مزاجها، وطبيعتك طبيعتها؛ فكأني وإياك روح في جسمين، أو حقيقة في شكلين.
صادقتك فاستصغرت متاعي، وهزئت بهمومي، وظهر خير ما في نفسي، ودبت القوة في إرادتي، وشعرت بالحرارة في همتي؛ فماذا كنت أكون لو لم تكن؟
إن حزب أمر فذكرك يحله، أو ضعف العزم فصورتك تقويه، أو أظلم الجو فصداقتك تنيره، أو خيم البؤس فاستحضارك يكشفه.
قد ساء ظني بالناس، وأنكرت المروءة والإخلاص والوفاء، وظننت أنها ألفاظ وضعت لأوهام، واللغة لم تتحرر من أن تضع أسماء للموجود والمعدوم، والجائز والمستحيل، والشيء واللا شيء؛ فلما عرفتك آمنت بك وبالناس وبالألفاظ ودلالتها على معانيها.
ثم كنت غريبا بين أهلي وولدي، فإذا أنا بك حاضر في غربتي، مؤتنس في وحشتي؛ لأنك في قلبي، وقلبي معي، ما أظن أنه يفارقني ولا بالموت.
لم أصادقك إلا بعد أن عرفتك كما عرفت نفسي؛ فمن عابك سقط من عيني، ومن انتقصك فإنما ينتقص نفسه؛ فأذني صماء إلا عن مديحك، وقلبي لا يتفتح إلا عند الثناء عليك، وصداقتنا كآنية الذهب ليس يمكن كسرها.
تصادق الناس للمنفعة، فلما زالت المنفعة زالت الصداقة، وتصادق الناس لعواطفهم، فكانت الصداقة تشب وتخمد، وتتعرض للهجر والعتاب، والقطيعة والوصال؛ ولكنا تصادقنا بعد أن رفعنا المنفعة فيما بيننا، وتصادقنا بقلبنا وعقلنا، فسمونا عن التقلب وعن العتاب، ولم أشعر بحاجتي في صداقتك إلى تكلف أو مراء أو تقاليد ومواضعات، فكلها إقرار بالضعف، ومحاذرة من الانفصام، وطعن في الوحدة.
قد كنت أنزل قبلك في مسبعة ضريت وحوشها واحتدت أنيابها، فاليوم نزلت بك في جنة نعيم، آمنتني صداقتك من خوف، وطمأنتني من روع، وفتحت لي أبوابا من اللذة والسعادة يعجز عنها اللفظ، ولا يحدها وصف، حسبي أن أذكرك فأشعر بشفاء للصدر، وبرد من حرقة، وطرد للهم، وأنس من وحشة، ومبعث للرجاء، وتفتح للأمل.
لقد كرهت الرق في كل شيء، كرهت رق الحيوان وحبسه، وكرهت رق الإنسان للإنسان، والرجل للمرأة، والمرأة للرجل؛ وكرهت رق الأمم للأمم، وكرهت استرقاق أصحاب رءوس الأموال للعمال، والملاك للمزارعين، واستعباد المال للإنسان، واستعباد الشهوات للناس؛ فلما وصلت إلى صداقتك رضيت برقي لك عن رضا واختيار؛ لأن في رقي لك رقك لي، وما أجزله من مغنم.
كم شهدت قبلك صداقات، وفي كل صداقة كنت أشعر بلذة ممزوجة بألم، وأمن مشوب بخوف؛ كنت أخاف تحولي أو تحول الصديق، وأخاف أن تتدخل المادة في الصداقة فتفسدها، وأخاف من الصديق يرى منفعته في العداوة فيفتح صدره لها، أو تحمله الغيرة على بيع الصداقة فيبيعها؛ ويزداد شعوري بالخوف والألم كلما رأيت صداقات ما كان يمكن أن تنهار فتنهار، وإخاء كنت أظنه يدوم فلا يدوم؛ ثم صادقتك فلم أشعر بهذا الألم وهذا الخوف، بل شعرت بلذة خالصة وأمن صاف؛ لأني وجدت فيك نفسي، فإن لم أشك في نفسي لم أشك فيك، وإن وثقت بقلبي وعقلي وثقت بقلبك وعقلك، ويوم يعرض لصداقتنا عارض بسيط أقضي عليه في لمحة بقلبي أو عقلي، أو تقضي عليه سريعا بقلبك أو عقلك؛ ثم كيف يعرض العارض ولم نتصادق لمنفعة، ولم نتحاب لشهوة؟ وإنما كنا روحين تعارفا فتآلفا فتوحدا، وصدق أرسطو؛ إذ سئل عن الصديق فقال: «هو أنت إلا أنه بالشخص غيرك».
لم أصادقك للأخذ والعطاء، فذاك الكرم لا الصداقة، ولم أصادقك لجلب خير أو دفع ضر، فتلك النجدة لا الألفة، إنما صادقتك لتسكن نفسي إلى نفسك وتأنس نفسي بنفسك؛ فتلك هي الصداقة لا أي شيء آخر، بل لم أصادقك لتسكن إليك نفسي، وإنما سكنت نفسي لصداقتك، وما دامت نفسك نفسك ونفسي نفسي فقد تمت كل عناصر الصداقة بيني وبينك، مهما اختلفت الأعراض والأغراض. لقد أعجبني ما قرأت مرة من أن رجلا سئل: من تحب أن يكون صديقك؟ قال: من يطعمني إذا جعت، ويكسوني إذا عريت، ويحملني إذا كللت، ويغفر لي إذا زللت. فقيل له: يرحمك الله؛ إنما تمنيت وكيلا لا صديقا! أذكرك فتحل روحك في روحي، وتدب الحياة في نفسي، فأروى من ظمأ، وأهتدي من ضلال، وأجد بك ما لا أجد في الغنى بعد الفقر، والعافية بعد المرض، والأمل بعد اليأس.
لقد أعجبني منك أنك لا تشيد بذكر الصداقة، فاسمح لي أن أشيد بذكرها، وأعجبني منك أن من رآنا لا يشعر بما بيننا، وأعجبني منك أنك على عكس الناس يقبلون مع النعمة ويدبرون مع النقمة؛ وأعجبني منك أنك لم تجعل الصداقة في ميزان تزنها كل يوم بما يزيدها أو ينقصها، ولكنك وزنتها مرة واحدة بميزان الذهب، فلما اطمأننت لميزانك وثقت كل الثقة، فلم تعرضها للوزن مرة أخرى؛ وأعجبني منك أن عينك لا لسانك دليل ما في قلبك؛ وأعجبني منك أنك ترى الواجب عليك ولا ترى الحق لك، وأنك تعتقد أنك غابن دائما ولا تعتقد أنك مغبون يوما، وأعجب ما أرى فيك أنك تنطق بما أتمنى أن أنطق به، وتريد ما اعتزمت أن أريده، ويجول في نفسك ما يجول في نفسي، حتى ليخيل إلي أنك تحلم بما أحلم.
ومن أطرف ما فيك كرهك الدعاية لنفسك ولغيرك، فلم يعرف فضلك في خلقك وعلمك إلا خاصتك، تعمل كثيرا ولا تتكلم عما تعمل أبدا، وتقدر الدعاية تقديرا عكسيا، فكلما دعي لشخص أو دعا لنفسه حسبت ذلك في ميزانه «بالناقص»؛ وكثيرا ما سمعتك تتمثل بقول الله تعالى:
فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ، وقلت لي مرة: «إن أرفع المتجادلين صوتا أضعفهم حجة، وأشد الناس تبجحا بالشجاعة أشدهم خوفا، وأكثر المدرسين تهديدا لطلبته أقلهم كفاية، وأقل الناس شعورا بكفايته ونزاهته أكثرهم دعاية؛ كل أولئك ليكملوا «مركب النقص» في نفوسهم، ويستروا ضعف باطنهم بقوة ظاهرهم».
أخي بل صديقي:
من أجل هذا ترددت كثيرا في أن أبعث إليك كتابي هذا؛ لأن أكره ما تكره المديح، ولكني أصدقك أني كتبته لنفسي لا لك، فقد كانت كتابته فرحة العيد عندي، وشعرت بعد كتابته بفرح الحريص لعقد شراء ضيعة كبيرة لم يكن سجل؛ فإن آلمك مديحي فلتسعدك غبطتي.
حفظك الله لي، فأنت غذاء روحي، وسراج حياتي، وأعاد عليك العيد باليمن والسعادة. (حاشية)
هل تسمح لي أن أنشر هذا الكتاب بعد حفظ اسمك؟
الفصل السابع عشر
رد الصديق
أرسل إلي صديقي ... ردا على «تحية العيد» فقال:
صديقي:
سرني خطابك، وكان فرحة العيد عندي كما كان فرحة العيد عندك، لم أسر لمدحي، فأنا أعلم من عيوب نفسي ما لم تعلم؛ ولكنها الصداقة ترى كل شيء من الصديق حسنا، إنما سرني أن كتابك يشع منه الحب، وأنت تعلم أني لا أقدر شيئا في الوجود تقديري للحب.
لشد ما يخطئ الناس فيقصرون الحب على حب الجنس، ويفوتهم أن وراء هذا أنواعا من الحب يخطئها العد.
هناك حب العامل عمله وفناؤه فيه، وهو سر نجاحه، وفقدانه سر فشله.
وهناك حب العالم علمه، وقد رأيت ورأيت علماء لا يلذهم شيء في الحياة إلا بحثهم وكتبهم، يفضلون ذلك على كل متعة من متع الحياة من ملك ومال وجاه، ويوم يظفر بنتيجة لبحثه فذلك يعدل عنده الدنيا وما فيها؛ وقد قرأت وقرأت أمثلة لذلك عديدة من علماء الشرق والغرب.
وهناك حب الفضيلة وكره الرذيلة، وكلما ازداد هذا عند إنسان كان أقرب إلى الخير وأبعد عن الشر.
وهناك حب المواطن لوطنه وأمته، فيبذل في ذلك ماله وحياته.
وهناك حب الصوفية لله فيفنون فيه، ويشع حبهم له على كل شيء من خلقه حتى يروا الله في الخلق والخلق في الله.
كل شيء في الحياة بارد ما لم يحره الحب، وكل شيء مظلم ما لم يضئه الحب، وكل شيء تافه لا لذة فيه ما لم يشع فيه الحب؛ وصدق من قال: «الحياة الحب، والحب الحياة».
ومقياس حياة الإنسان مقدار حبه، فيوم ينتهي حبه تنتهي حياته.
وما الفرق بين الإنسان والآلة إلا الحب.
كل الناس يحب، ولكن هناك حب أرستقراطي وحب شعبي؛ الأرستقراطية تسمو بالحب، فلا تحب إلا الرفيع من المعاني والسامي من المثل؛ إنها بطبعها تستصفي ما حولها وما يحدث لها وما تلد من أفكارها وما تعتنق من مبادئها فتتعشقه، ثم تحب من يشاكلها في حبها؛ وليست أرستقراطية الحب مولدا ولا مالا ولا جاها؛ ولكنها نزعة يهبها الله لمن يشاء من خلقه، تضيء فتتلقى الوحي من الطبيعة فتحبها، وتخاطبها الطهارة فتجيها، وتنظر إلى كل شيء ولو كان وضيعا، فتولد منه معاني سامية نبيلة تأنس بها، وتقرأ الحقيقة في كل شيء فتجلها.
إن أردت السمو بأحد فخذ بيده ليصل إلى الحب الأرستقراطي، وإن أردت الرقي بأمة فبث هذا الحب فيما بينها وأكثر منه ما استطعت، وهيئ له من الأسباب ما قدرت، حتى يشمه السائح في جوها، كما يرى خصائص الأمة في مناظرها.
أخشى أن أكون قد قاربت الصوفية في نزعتها وشطحها فمعذرة، وكل ما أريد أن أقول: إني أحببت كتابك لحبك في كتابك. •••
أراني هذه الأيام محبا للعزلة، بعد أن كنت - كما تعلم - محبا للاجتماع، ولا أدري السبب، فأنا غارق - في ريفي - في زرقة السماء وخضرة النبات، شاعر بسعادتي في مغازلة الطبيعة وإلاهها، وعداني بستاني فشعرت أن نفسي زهرة من زهرات الله، إنما تتفتح وتنفح إذا أطلقت لها الحرية التامة لتنال حظها من الشمس والهواء؛ وعداني الأفق اللا محدود فأحببت حبا غير محدود، رأيتني أكره الحزب وأحب الأمة، وأكره الوطنية وأحب الإنسانية، وأحب خلق الله لله؛ وعجبت لنفسي وهي في حدود الحضر كيف كانت تجسم الظل ثم تشقى به، وتخلق الهم من العدم وتألم له، فإن شئت السلامة فتحرر من الحدود والقيود؛ ورأيت سبب همي في الحضر التهاب الشعور وطغيان الحياة الشعورية، فأطيل التفكير في نفسي وفيما حولي؛ أما هنا - في الريف - فأنا أسعد حالا، لتبخر كمية كبيرة من شعوري وحلول الحياة اللا شعورية محلها، ولعل ذلك من عدوى ما حولي من بذور ونبات وحيوان وطبيعة، فكأن طفلا يسكن في مرحه وأمله وانسجامه مع جوه، وغروره بقدرته ولا شعوره، ولهذا لا صبر لي على قراءة إلا قراءة الطبيعة، ولا كلام في السياسة إلا سياسة الكون في سره، فإن كان ولا بد فشعر يمازج شعوري، أو آية من القرآن تغذي قلبي؛ ولست أقرأ كما يقرأ الناس، ولكن أكتفي ببيتين أو ثلاثة، وآية أو آيتين فيمتلئ جوي بها، وتتفتح نفسي لها، فلا أزال أرددها الفينة بعد الفينة طول اليوم، وفي كل مرة أشعر لها بطعم جديد ومعنى جديد، وبالأمس كانت آية: {الله نور السماوات والأرض} ملء نفسي وقلبي وترداد لساني؛ واليوم كانت آية: {إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار} محياي وغذائي، وأحيانا - ولا أدري - تدمع عيني من قراءة الآية أو الشعر فأذكر قول ذي الرمة:
لعل انحدار الدمع يعقب راحة
من الوجد أو يشفي شجي البلابل
وأخشى أن تعد هذا مني مظهر ضعف أو آية ألم، ولكني أصدقك أني أقوى بها ما لم أقو بغيرها، وأن الدمعة تغسل عيني فأنظر بها ما لم ينظر الناس، وأشعر أني حي بين موتى، وصاح بين سكارى.
لقد أحسست بعدها أن المدينة بحدودها وقيودها وضغطها كونت عقلي تكوينا فاسدا، وشغلتني بحساب درهم يأتي ودرهم يصرف، ونظرية تقرر ونظرية تهدم، وحكومة تتولى وحكومة تولي ، ونظام يوضع ونظام يلغى؛ حتى لقد هزلت نفسي من هذه السفاسف، ومات قلبي من هذه القيود؛ فالآن أريد أن أميت نفسي المقيدة وأخلق نفسي الحرة، وأحطم أبواب سجني وأطير إلى السماء، وأكنس أفكاري القديمة وأتحرر من موضوعاتها، وأضع أسسا جديدة للتفكير فيما يحقق نفسي، وأكسر أصنام الناس لأعبد ما ليس بصنم ولا وثن.
لقد كنت بغير جناح إذا لم يكن جو، فلما كان الجو كان الجناح.
ولا تحسبني بذلك أريد أن أحيا حياة شعرية لا عمل وراءها، أو أن أعيش في حلم خالي لذيذ؛ بل أراني على العكس من ذلك، أريد أن أعمل وفق حبي، لقد أحببت الفكرة لا الشخص، وأحببت المعنى لا المبنى، فشعرت أن كل أرض بلدي، وكل إنسان أخي، وكل باطل عدوي، وكل حق صديقي، وآمنت أن نفسي ليست لي، إنما هي قوة في العالم لها رسالة، ورسالتها إزهاق الباطل، ونصرة الحق، ومحاربة البؤس، والأخذ بيد المظلوم، وكسر الحدود التي تمنع أن يصل ذو الحق إلى حقه؛ فحبي الشائع دفعني إلى العمل الشائع، تجردي من الشخصية حملني على أن أؤيد المعنى أو أن أحارب المعنى، وشعرت بالكل فوهبت حياتي للكل؛ وإذ ذاك أحسست أن قلبي كمجرى الماء الغزير لا يقوى أمامه العود ولا يعوقه القذى، وأحسست أني لا أقوم الأشخاص بعلمهم أو مالهم، ولكني أقومهم بروحهم، فالمثل الأعلى عندي ليس أرسطو ولا قارون ولكنه النبي؛ وأحسست أني أرى في المعاني كالعدل والرحمة والصدق جمالا يجذبني أكثر من جمال الصورة والزهرة، وللظلم والقسوة والرياء قبحا ينفرني أكثر من القردة والمرأة الشوهاء.
قد كنت - وأنا في المدينة - مغيظا من مفاسد الأمة، محنقا من جنون العالم؛ واليوم - وأنا في الريف - قد تحول غيظي رحمة، وحنقي شفقة، فأشفق على الأمة لمصائبها، وعلى الإنسانية لرزاياها؛ وأكثر ما يحملني على الرحمة لها أنها في شقاء وتظنها في سعادة، وفي محنة وتحسبها في نعمة، ورحمتي لم تسلبني رغبتي في العمل كما لم يسلبني الغيظ، ولكن عملي مع الرحمة إنقاذ، ومع الغيظ تأديب.
ما أظلم علماء التربية، يهتمون بتربية العقل والجسم والخلق، ولا يعيرون التفاتا للروح، كأن الإنسان آلة صماء، والخلق الذي يهتمون به هو الخلق التجاري من صدق ونظام واقتصاد، وتربية الروح وراء ذلك؛ فالروح هي الوزن في الشعر، والتناغم في الغناء، والانسجام بين آلات الموسيقى، والعلاقة بين أصابع الفنان وأزرار البيان؛ وشقاء الإنسان في شخصه وفي أمته وفي عالمه من ضعف روحه، واختلال التوازن بين روحه ومادته، وعدم الانسجام بين أجزاء العالم، وعدم وحدتها، وليس يوحدها إلا توحد روحها.
إن ضعف الروح جعل من يحب نفسه يكره غيره، ومن يحب أمته يحارب غيرها، ومن يحب جنسه يحتقر غير جنسه، ولو قويت الروح لعممت حبها ولأحبت المبدأ والمثل، فكان ثم وفاق لا خلاف، وسلم لا حرب. •••
بعد غد عيد ميلادي الحادي والخمسون، وهو أول عيد أقضيه في الريف، ولكني أريد أن أعده عيدي الأول، فقد تشابهت نفسي في الأعوام الماضية، فليست متكررة إلا في حساب العدد، أما نفسي الجديدة فلم تتكرر بعد، شتان بين نفس مقيدة ونفس طليق، بين نفس مستعبدة ونفس مستقلة، بين نفس مقلدة ونفس مجتهدة، ليخيل إلي بعد الرياضة النفسية التي أرتضيها أن لا صلة بين نفسي القديمة ونفسي الجديدة؛ ولذلك سأصر على أن أعد عيدي الآتي هو العيد الأول.
قد كنت في الأعياد الماضية أستقبل الناس، وفي هذا العيد سأستقبل نفسي؛ وقد كنت أضاحك إخواني وأسامر صحبي وأتقبل هداياهم وتهانيهم، وفي هذا العيد سأتناغم مع الأزهار، وسأفتح نفسي ليمتزج بدمي ضوء الشمس، وأحتفل بافتتاح عقلي لتلقي الحقيقة مجردة من خيالات الناس وأوهامهم، وسأشرب نخب الطبيعة وجمالها والحرية ومتعتها، وسأغني للشمس وطلوعها، والشمس وغروبها، والنجوم ولمعانها، والمياه وصفائها، والفراشة وطيرانها، والزهرة وتفتحها، والثمرة ونضجها، حتى أملأ الجو مرحا وغناء، وسأدعو آخر الأمر للإنسانية أن يفك الله أغلالها، ويجنبها شقاءها، ويبعث الحب في قلوبها فيكون هذا أول عيد لي من نوعه.
أخي بل صديقي:
لعلك تعجب أني لم أرد على كلامك في الصداقة برأيي في الصداقة؛ ولكني أعتذر لك، فرأي غير رأيك .
رأيي أن الكلام المباشر في الصداقة لا يقويها، إنما يقويها العمل على مناهجها الحقة من غير حديث فيها.
ورأيي أن خير لذة يستمتع بها الإنسان من شيء أن يتناسى لذته منه ويفنى فيه؛ ألا ترى الشطرنج لو ذكرت دائما أنك تلعبه، وأنك تلذ لعبه لضاعت لذته، وإنما تصل من لذته إلى الغاية إذا أنت نسيت الشطرنج، ونسيت نفسك ونسيت لعبك، وفنيت فيه! وكذلك الأمر في الكتاب تقرؤه، والموضوع تبحثه، والسينما تشهده، والتمثيل تراه.
وعلى هذا القياس أنا أفنى في صداقتي ولا أذكرها، وأرتشفها ولا أتحدث عنها، ولهذا كتبت لك حول الصداقة، لا في الصداقة.
ومع هذا أشكرك على خطابك، فربما دعا إليه داع لم أتبينه، وهو - في رأيي - خطأ خير من صواب، والسلام. (حاشية)
أحلك من نشر كتابك ونشر كتابي إن شئت، مع حفظ اسمي كما وعدت.
الفصل الثامن عشر
فارس كنانة (1)
كنانة هذه قبيلة قحطانية كثيرة العدد، كانت تسكن عند مجيء الإسلام أرضا فسيحة حول مكة، تمتد من تهامة في الجنوب الغربي من مكة، حيث يجاورون قبيلة هذيل، إلى الشمال الشرقي منها حيث يجاورون قبيلة أسد.
وقد دخلوا الإسلام كما دخل غيرهم، ونبغ منهم نوابغ كثيرون في الحروب وفي الشعر وفي العلم وسائر مناحي الحياة، فمنهم الشداخ بن عوف الذي كان على مجنبة أبي عبيدة بن الجراح يوم «اليرموك»، ومنهم نصر بن سيار أمير خراسان في آخر العهد الأموي، ثم رافع بن الليث بن نصر بن سيار الخارج على الرشيد والقائد الكبير للمأمون، ومنهم أبو الأسود الدؤلي الذي ينسب إليه وضع النحو، ومنهم أبو ذر الغفاري الاشتراكي الصادق الثائر على معاوية وعلى الأغنياء، ومنهم ربيعة بن مكدم الملقب فارس العرب، ومنهم قيس بن ذريح أحد عشاق العرب المشهورين وصاحبته لبنى، ومنهم عزة صاحبة كثير التي قال فيها غزله الرائع المشهور، ومنهم ابن داب الراوية المؤرخ، ومنهم كثير من المحدثين يضيق المقام عن ذكرهم.
وعلى الجملة فقد خلفوا لأعقابهم مفاخر يتداولونها، ومناقب يروونها، من بطولة وفروسية وإمارة وعلم وأدب.
تفرقت كنانة في البلدان بعد الإسلام كما فعلت كل القبائل، فجاء قوم مصر في أواخر العهد الفاطمي، ونزل بعضهم أخميم وما حولها، ونزل بعضهم دمياط وما حولها، ورحل قوم إلى فلسطين، ونزل قوم الشام. •••
في شمالي «حماة» وعلى بعد خمسة عشر ميلا منها حصن يقال له: حصن «شيزر» دخله التحريف على توالي الأيام فصار يسمى الآن «سيجر»، يقع على نهر العاصي، وهو حصن كبير بني على أكمة مرتفعة تتحكم فيما حولها، حفروا حوله الخنادق ليزيدوا في مناعته وحمايته، وأنشئوا مدينة على النهر تتبع الحصن، وسمي كل ذلك «شيزرا»
1 .
كان هذا الحصن مشهورا بمناعته وبخطورة موقعه، كما كان من قديم مركزا لأعمال البطولة في الدفاع عنه والاستيلاء عليه، فالذين يسكنونه لا يعرفون الراحة إلا فترات قصيرة من الزمان، ينتبهون من نومهم على غارة أو صليل سيوف أو رمي بالمنجنيق، ألفوا ذلك كما يألفه الساكنون بجوار بركان ثائر، أو في منطقة زلزال متتابع. •••
في سنة 474ه كان قوم من كنانة يسكنون بجوار حصن «شيزر»، وكان الحصن بيد الروم «البيزنطية»، استولوا عليه فيما استولوا من بلاد المسلمين، وتحكموا به في المواقع التي حوله، وكان رأس هؤلاء القوم من كنانة رجلا شجاعا مقداما قوي النفس كريما، أحبه قومه وأمروه عليهم إمارة ملك محبوب مطاع، هو أبو الحسن علي بن مقلد بن نصير بن منقذ الكناني، فأعد عدته في هدوء، وسلح قومه، وأحكم خططه، وانتهز الفرصة، حتى إذا أمكنته أخذ الروم على غرة، وطوق القلعة؛ ورأى الروم أن لا طاقة لهم به وبقومه، فطلبوا الأمان وسلموه الحصن، وسكنه هو وقومه، وزادوا في تحصينه حتى صار أمنع من عقاب الجو أيام أن لم تكن طائرات.
تلقب أبو الحسن «بسديد الملك»، وعاش عيشة أشبه ما تكون بعيشة «سيف الدولة الحمداني»، شجاع يلذه القتال، وحوله قومه يربون تربية حربية، وفي كل حين قتال، وبين الوقعة والوقعة عيشة بدوية مترفة وحب للشعر وتلذذ لسماعه، يقصده الشعراء أمثال ابن الخياط وابن سنان الخفاجي فيغمرهم بما في يده من مال؛ وتحدث له الحوادث الخفيفة فيقول فيها الأشعار الطريفة على نحو ما كان يفعل سيف الدولة، كان يحب مملوكا له فغشب عليه مرة وضربه ثم قال:
أسطو عليه وقلبي لو تمكن من
كفى غلهما غيظا إلى عنقي
وأستعير إذا عاقبته حنقا
وأين ذل الهوى من عزة الحنق •••
كانت قلعة «شيزر» مطمح المحاربين وما أكثرهم؛ فالعرب من بني كلاب في حلب يريدون الاستيلاء عليها، والإسماعيلية يودون أن يتخذوها مركزا لهم ولدعايتهم، والروم يطمعون في استردادها، والصليبيون يرون أنها باب الشام يريدون أن يمروا منها إليه، كل ذلك والقلعة بحصونها وخنادقها وفيها بنو منقذ بقلوبهم وشجاعتهم وفنونهم الحربية، استطاعت أن نصد كل مهاجم وتخيب كل أمل. •••
كان لا بد للقلعة وحولها كل هؤلاء الأعداء أن يكون برنامج أهلها كله حربيا، وسكانها كلهم جنودا، فالطفل جندي صغير، والشيخ جندي كبير، والبيت مدرسة حربية، والأم إحدى المعلمات والزوجة محرضة الزوج، والفتاة خاطبة الشجاع، ومواقع السيوف في جسوم الرجال شارة المجد، وويل للجسم السليم، لا تقبله فتاة ولا تعتز به زوجة، والحياة رخيصة، يخرج الرجل من بيته وأغلب الظن ألا يعود، ويسير السائر في الطريق وفي أكثر الأحيان يخرج عليه صليبي يقاتله، أو إسماعيلي ينازله، أو كلابي يباغته، وفي ضواحي الحصن كانت أجمات مليئة بالأسود ما أشد ما تفترس، وما أكثر ما تنهش، وفي كل لحظة خبر بقتيل، ونبأ بغزو، وإنذار بغارة، وغارة بلا إنذار، وحديث القوم في سمرهم رواية أعمال الأبطال، كيف قتل رجل من الحصن عشرة، وكيف تغلب رجل على أسدين، وكيف استطاع فلان الصبي أن ينازل صليبيين ويغلبهما ويقتلهما ويأخذ سلبهما، وكيف أن فلانا الشيخ الهرم تقدمت به السن فنصحوه أن يلزم مسجده وينقطع لعبادته، فلبث في ذلك يومين ثم أنفت نفسه هذه الحياة الوادعة فأخذ سيفه وقوسه، ثم خرج يكمن للصليبيين، حتى إذا وقع في يده ثلة منهم خرج عليهم يقاتلهم فيقتل ويأسر، ويعود مباهيا بعمله، معتزا بقوته على كبر سنه، عاتبا على من نصحه بالتزام مسجده؛ وهذه فلانة كانت تخرج للقتال وتضرب بالسيف ، وفلانة الأخرى لما هاجم العدو الحصن ألبست فتاتها لباس العرس، وأجلستها على حافة الهضبة من تحتها الوادي العميق، وقالت: إن انتصر الأعداء رميت بابنتي فدق عنقها ولا تقع سبية في أيدي الأعداء؛ و«سبيكة» ألم تسمعوا عنه؟ كان مخنثا بشيزر يحضر الأعراس ويغني ويرقص، ولكن كان إذا وقع القتال يلبس درعا ويأخذ سيفه وترسه ويقول: «بطل التخنث.» ويخرج يضرب بسيفه كما يضرب الناس.
هذا برنامج الحصن وهذا سمره وهذه أحداثه، فلم يكن حصنا، بل مدرسة تمرين على الحروب، وتكوين نفوس على القتال الشديد، وحقلا لأنتاج جيل لا يخشى الموت ويعشق الشهادة، يألف الشجاعة بالممارسة، ويتعلم القتال بالأسوة، ويحذق فنون الحرب في ميادين القتال.
أستغفر الله، فقد نسيت في برنامج هذا الحصن مادة هامة وهي درس الأدب، ولكن كانوا يدرسونه على نمط غريب أيضا، كانوا يقولون لأبنائهم: إن جدكم ربيعة بن مكدم كان بطلا كبيرا، وكان شاعرا كبيرا، ثم يروون أحداثه وشعره، ويلزمونهم حفظه، ثم يذكرون لهم من اشتهر بالفتك في الجاهلية كثابت بن جابر، والبراض وتأبط شرا، ثم من اشتهر في الإسلام كمالك بن الريب، وعبد الله بن سبرة، وعبد الله بن حازم، ويروون لهم فعالهم ويحفظونهم أقوالهم، ويعمدون إلى أقوى الشعر وأبعثه على القتال فيلزمونهم حفظه كقول عامر بن الطفيل:
إني وإن كنت ابن سيد عامر
وفارسها المشهور في كل موكب
لما سودتني عامر عن كلالة
أبى الله أن أسمو بأم ولا أب
ولكنني أحمي حماها وأتقي
أذاها وأرمي من رماها بمنكبي
وقول خالد بن الوليد: «ما ليلة أقر لعيني من ليلة تزف إلي فيها عرس إلا ليلة أغدو فيها لقتال عدو.».
إلى كثير من أمثال هذا الأدب الحماسي القوي الذي ينسجم وحياتهم، ويخدم أغراضهم. •••
في هذا الحصن العجيب، وهذا الوسط الجني الغريب، ولد بطلنا «فارس كنانة» أسامة بن منقذ حفيد فاتح الحصن سديد الملك أبو الحسن.
رباه أبوه وأمه من صغره تربية الفروسية، يحبانه ولكن يحبانه شجاعا، ويرعيانه ولكن يشفقان عليه من الإشفاق، يدفعانه للمخاطر دفعا، ويحرضانه على مواجهة الصعاب واجتهاده في تذليلها، مهما تكن العاقبة.
أسمعه - أيها القارئ - يقص علينا قصة صباه فيقول: ما رأيت والدي - رحمه الله - نهاني عن قتال ولا ركوب خطر مع حبه لي، ولقد حضرت يوما وكان أبي وعمي قد خرجا لقتال الأعداء فلحقتهما، فلما رآني أبي قال: أتبعهم بمن معك وارموا أنفسكم عليهم، فخرجت ورميت نفسي واستخلصت ما استخلصت من عدوي.
ومرة كنت معه وهو واقف في قاعة داره وإذا بحية عظيمة قد أخرجت رأسها من الرواق فوقف يبصرها، فحملت سلما كان في جانب الدار وصعدت إليها وهو يراني فلا ينهاني، وأخرجت سكينا صغيرا من وسطي ووضعتها على رقبة الحية وهي نائمة، وجعلت أحزها، فخرجت الحية والتفت على يدي (فما جزع ولا فزع ولا تكلم) إلى أن قطعت رأسها وألقيتها في الدار.
ولم تكن أمه أقل من أبيه في تربيته وتدريبه، فلديها السلاح تعطيه للمقاتلة، ولا تبخل على ابنها باستعماله.
الفصل التاسع عشر
فارس كنانة (2)
هذا أسامة صبيا، قد وضع لتربيته منهجان: منهج للفروسية، ومنهج للعلم والدين.
فأما منهج الفروسية فيتلخص في تعليمه صيد الوحوش ليتعلم منه صيد الأعداء، وكان الصيد ملهى الأسر الأرستقراطية في ذلك العصر، في مصر والشام والعراق، وكان لأسرة أسامة احتفال عظيم له، وعناية كبرى به، وإنفاق للأموال الكثيرة في سبيله، وكان أبوه «مرشد بن علي» وعمه «سلطان» من أشد الناس ولعا بالصيد، وغراما به، وتفننا فيه.
وكان في ضواحي شيزر متصيدان: أحدهما في الجبل جنوبي الحصن يصيدون فيه الحجل والأرانب، والثاني أجمة في الغرب على النهر يصيدون فيها طير الماء والدراج والأرانب والغزلان، ودعاهم ذلك إلى اقتناء حيوانات الصيد وجوارحه من كلاب وبزاة وصقور وفهود، رتبت لها أماكنها وخدمها الذين يعنون بها، ويقومون بتغذيتها وتدريبها وإصلاحها، فكان أبوه يبعث - حتى إلى القسطنطينية - من يشتري له منها بزاة، وإذا سمع شهرة عن جارحة من الجوارح، جد في الحصول عليها أو على نسلها.
كان يخرج صباحا إلى الصيد من حين إلى حين مع أولاده الأربعة، ومنهم «أسامة»، ومعهم مماليكهم وسلاحهم، ومعهم أربعون فارسا من أخبر الناس بالصيد، فإذا وصلوا إلى المتصيد أمرهم والد أسامة بالتفرق كل مع جوارحه وحيوانه وغلمانه، ثم يرسلون الطيور أو الكلاب، ولا يزالون يومهم في جري وقفز وصيد يرتبون أمورهم كترتيب الحرب، ثم يعودون في المساء بصيدهم، وكان لذلك الصيد أثر حميد في أسامة، فقد عرفه طبائع الحيوان والطيور، وأكسبه علما واسعا بحيلها وقتالها وشجاعتها وجبنها وطرق معايشها.
حتى إذا مرن «أسامة» نازل الأسود والضباع، وكان بالشام؛ إذ ذاك أجمات كثيرة ترتع فيها الأسود، فكان هو وصحبه إذا سمعوا بأجمة منها طاروا إليها، ويقول في حديثه: إن رجلا جاءه يخبره عن أجمة في تل فيها ثلاث سباع، فخرج إليها هو وأخوه بهاء الدولة وقوم من صحبه، فوجدوا لبؤة خلفها أسدان، فخرجت اللبؤة، فحمل عليها أخوه فطعنها طعنة قتلها، وتكسر رمحه فيها، ثم خرج أحد الأسدين، فتكاثروا عليه بالرماح حتى قتل، ثم خرج الثاني، وكان أشد وأقسى، وأعظم خلقة، فحملوا عليه، وكلما أصابته طعنة هدر ولوح بذنبه حتى مات.
لقد عرف طبائع الأسود من كثرة منازلتها قال: «فوجدت منها الجبان ومنها الشجاع، وعرفت أنه إذا خرج من موضع فلا بد له من الرجوع إليه، ولقد رأيت رأس الأسد يحمل إلى بعض دورنا، فنرى السنانير تهرب من تلك الدار، وترمي نفسها من السطح، وكنا نسلخ الأسد ونرميه من الحصن فلا يقربه الكلاب ولا شيء من الطير، وما أشبه هيبة الأسد على الحيوان بهيبة العقاب على الطير! فإن العقاب يبصره الفروج الذي ما رأى العقاب قط فيصيح وينهزم، هيبة ألقاها الله في قلوب الحيوان لهذين الحيوانين.» ثم يقول: «وقد قاتلت السباع في عدة مواقف لا أحصيها، وقتلت عدة منها ما شاركني في قتلها أحد سوى ما شاركني فيه غيري، حتى خبرت منها وعرفت من قتالها ما لم يعرفه غيري؛ فمن ذلك أن الأسد مثل سواه من البهائم يخاف ابن آدم ويهرب منه وفيه غفلة وبله، ما لم يجرح فحينئذ هو الأسد وإذ ذاك يخاف منه.».
ثم خرج من هذا الصيد وقد جرح مرارا وكسرت أضلاعه مرارا، ولكنه خرج أيضا فارسا عظيما، وشجاعا نبيلا.
وكما تعلم أسامة القتال في الصيد تعلمه في الإنسان، كانت غلطة منه ولكن داعيها شريف نبيل، هذا أسامة الصبي واقفا على باب داره، فرأى غلاما لوالده يلطم صبيا من خدم الدار، فجرى الصبي وتعلق بثياب أسامة يحتمي به، وكان يكفي ذلك أن يكف الغلام احتراما للجوار على عادة العرب، ولكن الغلام الكبير ما أبه لهذه التقاليد، ولا احترم قوانين النجدة، فضرب الصبي وهو محتم بثياب أسامة، فأخرج أسامة من وسطه سكينا ضربه بها ضربة كانت القاضية. •••
وأما المنهج العلمي فوالده يحفظه القرآن، ويأمره بتلاوته حتى في الطريق وهم خارجون للصيد، وعلماء كبار يعلمونه الحديث والنحو والأدب، فأبو الحسن السنبسي يعلمه الحديث، وابن المنيرة يعلمه الأدب، وأبو عبد الله الطليطلي يعلمه النحو؛ فحفظ القرآن وسمع الحديث، وتعلم النحو، وحفظ آلاف الأبيات من الشعر الجاهلي، وأخذ هو يكمل نفسه بما يقرأ من كتب وبما يسمع من العلماء والشعراء رواد مجلس أسرته.
فكان فارسا أديبا وجنديا عالما، واستطاع أن ينتفع بخير المنهجين، كان منهج الفروسية قاسيا رققه العلم والأدب والشعر والدين، وكان بعض شيوخه العلماء فيهم جبن وخوف، فأخذ علمهم وترك جبنهم، هذا أستاذه ابن المنيرة يطلب منه أن يتقلد رمحا وترسا ويقف في موضع من طريق الإفرنج حتى يروه فلا يجتازوه، فيأبى ويقول: والله لو وقفت لاجتازوه كلهم، فيقال له: إنهم يهابونك؛ لأنهم لا يعرفونك، يقول: أنا أعرف نفسي، ثم يقرر مبدأ خطيرا؛ إذ يقول: «ما يقاتل عاقل.» فيغضب أسامة من سماعه هذا المبدأ الجبان ويقول: «إنه كان بالعلم أخبر منه بالحرب، فإن العقل هو الذي يحمل على الإقدام على السيوف والرماح أنفة من موقف الجبان.».
ولابن المنيرة فصول أخرى من الجبن قصها أسامة وسخر منها، فكان ينتفع بعلمه ويهزأ بجبنه.
ولعل برنامج العلماء من هذا التاريخ كان ينقصه أن يطعم بشيء من الفروسية. •••
اليوم يوم الجمعة خامس جمادى الأولى سنة 513ه، كان أسامة في الخامسة والعشرين من عمره، واليوم كان أول قتال قاتله، خرج فيه مع عمه ورجال من قومه، فخرج عليهم جماعة كبيرة من الصليبيين، وكان قتال تشيب منه الأطفال، وأخذ الموت يحصد رجال أسامة، وقد هان عليه الموت، فهو يقاتل وتحته فرس مثل الطير، يطعن هذا فيأتي عليه، ويدور على آخر فيطعنه من ورائه طعنة تنفذ من قدامه، ويحمى ما استطاع من أصحابه، فاذا أعيت فرسه ركب أخرى أعدها مملوكه، حتى انتهت الموقعة ورجع أسامة إلى شيزر مع من بقي سالما.
وفي سكون الليل بعث عم أسامة إليه يطلبه، فإذا عنده فارس من الصليبيين، فقال له عمه: «هذا فارس أعجبه اليوم قتالك فجاء يهنئك بموقفك، ويبدي إعجابه من طعناتك وشجاعتك.» وهذه عادة الفرسان، يعجب البطل بفعال البطولة ولو صدرت من خصومه، وكان هذا هو الوسام الأول لحياته الحريبة الطويلة، ومن ذلك اليوم شعر بثقته بنفسه واعتماده على ربه وأنشأ يقول:
سل بي كماة الوغى في كل معترك
يضيق بالنفس فيه صدر ذي الباس
ينبئوك بأني في مضايقها
ثبت إذا الخوف شق الشاهق الراسي
أخوضها كشهاب القذف يصحبني
عضب كضوء سرى أو ضوء مقباس
إذا ضربت به قرنا أنازله
أوجاه
1
عن عائد يغشاه أو آس
وهكذا كانت حياته بعد، كل يوم غارة منه يغيرها، وغارة عل قومه يردها، ويخرج يوما يقاتل العرب ويوما ينازل الفرنج، ويوما يقاتل فيقتل، ويوما ينهزم ويجرح، هذا يوم يخرج هو وصديقه «جمعة النميري» يهزمان ثمانية من فرسان الصليبيين، وهذا يوم يخرجان أيضا فيهزمهما - على حد تعبيره - رويجل صغير الجسم معه قوسه ونشابة، فيعجبان كيف هزما ثمانية وهزمهما رويجل! حياة كلها مغامرات وكلها فروسية، ثم يترجم ما يجيش في صدره ويدور بخاطره إلى شعر قوي جميل:
سأنفق مالي في اكتساب مكارم
أعيش بها بعد الممات مخلدا
وأسعى إلى الهيجاء، لا أرهب الردى
ولا أتخشى عاملا ومهندا
فإن نلت ما أرجو فللمجد ثم لي
وإن مت خلفت الثناء المؤبدا •••
تجهل في الإقدام رأيي معاشر
أراهم إذا فروا من الموت أجهلا
أيرجو الفتى عند انقضاء حياته - وإن فر - عن ورد النية مزحلا
إذا أنا هبت الموت في حومة الوغى
فلا وجدت نفسي من الموت موئلا
وإني إذا نازلت كبش كتيبة
فلست أبالي أينا مات أولا •••
لأرمين بنفسي كل مهلكة
مخوفة يتحاماها ذوو الباس
حتى أصادف حتفي فهو أجمل بي
من الخمول وأستغنى عن الناس
هذا أسامة عمره ثلاثون ... أربعون ... أربع وأربعون، ومعيشته في حصن «شيزر» على نمط واحد: غزو وقتال وصيد، وتحمل أعباء يتخللها لمحات من الراحة.
لقد أجاد في حياته حرب الخصوم، وشهد في شبابه أيضا حرب العواطف، فأحب وتيمه الحب، ونعم بالوصال، وألم للفراق، وغنى بشعره لحبه، كما غنى به لحربه:
شكا ألم الفراق الناس قبلي
وروع بالنوى حي وميت
وأما مثل ما ضمت ضلوعي
فإني ما سمعت ولا رأيت •••
أحبابنا! كيف اللقاء ودونكم
خوض المهامه والفيافي الفيح
أبكيتم عيني دما لفراقكم
فكأنما إنسانها مجروح
وكأن قلبي حين يخطر ذكركم
لهب الضرام تعاورته الريح
فلما بلغ الأربعين وعلا رأسه المشيب صبا عن الحب وفرغ للمجد وقال:
قالوا نهته الأربعون عن الصبا
وأخو المشيب يحور ثمت يهتدي
كم حار في ليل الشباب فدله
صبح المشيب على الطريق الأقصد
وإذا عددت سني ثم نقصتها
زمن الهموم فتلك ساعة مولدي
الفصل العشرون
فارس كنانة (3)
اشتهر الأمير أسامة ودوى اسمه في الشام ومصر والعراق، عرفه أهل الحصن بالنجدة والشجاعة والكرم، وعرفه الصليبيون فارسا نبيلا يسير على أدق تقاليد الفروسية، وعرفه العالم الإسلامي بطلا يدافع عن الإسلام ويفتك بالصليبيين، ولكن ...
كان أمير الحصن عمه «سلطان» أيضا بطلا فارسا، حنا على أسامة وعلمه البطولة والفروسية، وكانت تعجبه مخايله، وكلما أتى عملا أو فعلا نبيلا اهتز له فرحا، وفي نفسه أن أسامة ولي عهده، وحامي الحصن من بعده، وكل قومه يرشحونه لذلك؛ كان هذا كله يوم كان عمه عقيما لم يولد له، فأما وقد رزق ابنه محمد، وشب ولقب بناصر الدين، فقد تحول هذا الحب إلى غيرة، وأصبح كالمرأة تغار من ضرتها، فأعمال أسامة النبيلة تزعجه، وفعالة تقض مضجعه، ويأتي أسامة يوما برأس أسد قتله، ويظن أن هذا يبهج عمه، ويقول في سذاجة: «إني أخاطر نفسي لأتقرب إلى قلب عمي.» فتقول له جدته الخبيرة المجربة: «لا والله، ما يقربك هذا منه، ولكنه يزيده منك بعدا ووحشة.».
ويتقرب قرناء السوء فيعلون من شأن محمد، ويصغرون من شأن أسامة، ويختلقون ما لم يكن، ويشعلون نيران العداوة، فيوسوسون لأسامة بما يزيد غيظه، ويوسوسون «لسلطان» بما يحرج صدره، وتفسر الأقوال والأفعال تفسيرا مزعجا يزيد النار اشتعالا، ويتحزب قوم «لسلطان» جهرا، ويتحزب آخرون لأسامة سرا، وتصبح معيشة أسامة في الحصن لا تطاق، فيفكر في الرحيل، ويقول:
نافقت دهري فوجهي ضاحك جذل
طلق وقلبي منه مكمد باك
وراحة القلب في الشكوى، ولذتها - لو أمكنت - لا تساوي ذلة الشاكي •••
لئن غص دهري من جماحي أو ثنى
عناني أو زلت بأخمصي النعل
تظاهر قوم بالشمات جهالة
وكم إحنة في الصدر أبرزها الجهل
وهل أنا إلا السيف فلل حده
قراع الأعادي ثم أرهفه الصقل •••
وما أشكو تلون أهل ودي
ولو أجدت شكايتهم شكوت
مللت مقالهم ويئست منهم
فما أرجوهم فيمن رجوت
إذا أدمت قوارضهم فؤادي
كظمت على أذاهم وانطويت
ورحت عليهم طلق المحيا
كأني ما سمعت ولا رأيت
تجنوا لي ذنوبا ما جنتها
يداي ولا أمرت ولا نهيت
ولا والله ما أضمرت غدرا
كما قد أظهروه ولا نويت
ويوم الحشر موعدنا وتبدو
صحيفة ما جنوه، وما جنيت
إلى أين؟
إلى دمشق، فأميرها يطلبه ويلح عليه في المجيء. •••
كانت الشام والجزيرة في ذلك العهد مبعثرة، لا تؤلف وحدة، فكل بلد كبير عليه أمير مستقل يجبي أمواله، ويدافع عنه برجاله؛ ففي دمشق أمير، وفي حلب أمير، وفي حمص وحماة أمير، وهكذا، وكانت العلاقة بين هؤلاء الأمراء علاقة عداء غالبا، يتخاصمون ويتقاتلون، والصليبيون يجمعون أمرهم، وينسون الإحن بينهم، وتقوم الكنيسة بفض النزاع وتدعو إلى الوئام، وتطلب من أمم الغرب من فرنسيين وألمان وإنجليز أن يتحدوا ويتعاونوا لأنقاذ بيت المقدس من يد المسلمين، وتبذل الجهد للتوفيق بين روما والقسطنطينية، على شدة ما كان بينهما من نزاع وخصام؛ فتنجح الدعوة ويتصادق الخصمان، وتتجمع الجموع هاجمة على الشرق تنتزع من المسلمين بلدة بعد بلدة، والمسلمون يقاتلون بلدانا متفرقة لا كتلة واحدة؛ وقد يثور النزاع بين أمير مسلم وأمير مسلم، فيستنجد هذا بالصليبيين، ويستنجد هذا بهم أيضا، فينصرون هذا وذاك؛ لأن في إضعاف كل على أي حال تحقيقا لغرضهم، ونيلا لمقصدهم؛ فكانت البلاد الإسلامية تنتظر زعيما غيورا قويا يضم الإمارات تحت سلطانه، ويؤلف منها وحدة متماسكة، وقد وجدته أولا في عماد الدين زنكي، ثم في ابنه نور الدين محمود بن زنكي، ثم في تلميذ نور الدين؛ صلاح الدين الأيوبي. •••
كان أمير دمشق وقت أن دخلها أسامة شهاب الدين محمود بن بوري بن طغدكين ووزيره معين الدين أنر، وكلاهما يحب أسامة - وخاصة الوزير - ويفرح بإقامته بينهم لفروسيته ونجدته وغنائه في الحروب؛ فكان بطل دمشق كما كان بطل شيزر، يخرج للصيد مع الأمير، ويقاتل أعداءه؛ ويرى الناس فيه أنه خير محارب في جند دمشق، وألمع درة في تاج الأمير؛ وتتوثق الصلة بينه وبين الوزير معين الدين، ويعيش على هذه الحال سبع سنوات؛ ثم ينقلب الناس على معين الدين، وتسوء حاله، ويذهب عزه، ويتأثر مركز أسامة بمركز صديقه، فتنهب داره ويسرق سلاحه، ويقر الوزير بالعجز عن مساعدته، وينصحه بمغادرة دمشق.
فإذا إلى مصر، فهي تعرفه كما تعرفه دمشق. •••
هذه مصر في أواخر العهد الفاطمي، وقد تعفنت فيها أداة الحكم؛ فالخليفة مسلوب الأمر، له الاسم ولوزيره الحكم، والأمراء يتقاتلون على الوزارة، فمن غلب نالها وألبسه الخليفة خلعتها، فإذا غلب عزل وخلع الخليفة خلعته على الغالب؛ والجنود سودانيون منقسمون أحزابا، وعرب متفرقون شيعا، وأتراك ومغاربة تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى، والخلفاء - وقد سلبوا الحكم - فرغوا للذات وتدبير المؤامرات، فإذا كرهوا وزيرا دبروا المؤامرات لقتله أو خلعه، والأمراء إذا طمعوا في الوزارة وأعيتهم جنودهم انتصروا بغيرهم؟ فهذا يكاتب الفرنج يستنصرهم، وهذا يكاتب أمراء الشام يستصرخهم، والخليفة يقتل ابنه؛ لأنه استوزر فاستبد بأبيه، وابن الوزير يحرض على قتل أبيه ويمنى بالوزارة من بعده، والأمر فوضى والناس في كرب.
مالأسامة وهذه الفتن وهذه الدسائس وهذا الجو السام، وقد خلق لا يستنشق إلا الهواء النقي على ظهر فرسه في صيد أو غزو، وقد تخلق بأخلاق الفروسية من شهامة ونبل؟ ولكنها الأقدار تحكم على الوردة أن ترمى في مستودع الأقذار؛ على أنه لم يكن بعيدا عن الدسائس كل البعد؛ فقد شاهدها في بلاط عمه «سلطان»، وشاهدها في بلاط أمير دمشق ووزيره، ولكنها كلها صورة مصغرة لما سيلقاه في مصر، في البلاط الفاطمي. •••
دخل «أسامة» مصر سنة 549ه وقد نيف على الخمسين، في خلافة الحافظ لدين الله الفاطمي، ولم يكن أسامة بالمغمور ولا بالمجهول، فاستقبله الخليفة وأنزله منزلا كريما، وأغدق عليه من نعمه المتواصلة، وقد بهرت أسامة فخفخة القصور وزينتها، وذهبها وفنها وصورها وتماثيلها، وحراسها ورسومها، مما لم ير مثيله في دنياه، ولا حلم به في منامه؛ ولكن تبين له بعد أنها صورة جميلة ولا روح، ومظهر أنيق ولا حياة، ومتحف آثار يدل على مجد قديم ورثه نسل ذليل، ونضح على أسامة شيء من ذلك الزخرف، فعاش في دار من دور الأفضل ابن أمير الجيوش، وهي دار - كما يقول - في غاية الحسن، وفيها بسطها وفرشها وآلاتها من النحاس، ورفل في الحرير، وتبحبح في النعيم.
لقد أراد «الحافظ» أن يتخذ منه فارسا بطلا، يستعين به في أزماته، ويستخدمه في مهماته، ويغدق عليه من خيراته، ويشركه في لذاته، ولكن هل أخلدت نفس أسامة إلى النعيم، ووجدت راحتها في الراحة؟ لا، لا، ولقد مثل نفس الدور الذي مثلته من قبل ميسون بنت بحدل الكلبية البدوية لما تزوجها معاوية ونقلها من بادية كلب إلى قصور دمشق، وقد أفزعها النعيم فصرخت:
لبيت تخفق الأرواح فيه
أحب إلي من قصر منيف
ولبس عباءة وتقر عيني
أحب إلي من لبس الشفوف •••
وأصوات الرياح بكل فج
أحب إلي من نقر الدفوف •••
خشونة عيشتي في البدو أشهى
إلى نفسي من العيش الطريف
كذلك صرخ أسامة فقال:
انظر إلى صرف دهري كيف عودني
بعد المشيب سوى عاداتي الأول
قد كنت مسعر حرب كلما خمدت
أذكيتها باقتداح البيض في القلل
همي منازلة الأقران أحسبهم
فرائسي، فهم مني على وجل
أمضي على الهول من ليل، وأهجم من
سيل، وأقدم في الهيجاء من أجل
فصرت كالغادة المكال مضجعها
على الحشايا، وراء السجف والكلل
قد كدت أعفن من طول الثواء كما
يصدي المهند طول اللبث في الخلل
أروح بعد دروع الحرب في حلل
من الدبيقي، فبؤسا لي وللحلل
وما الرفاهة من رامي ولا أربي
ولا التنعم من شاني ولا شغلي
ولست أرضى بلوغ المجد في رفه
ولا العلى دون حطم البيض والأسل
ولكنه أقام على مضض، يشقى في النعيم؛ إذ كان من طبعه أن ينعم في الجحيم.
فها هو مقرب إلى الخليفة الحافظ، تفتح له أبواب القصر إذا حضر، ويتفقد إذا غاب، ويركب الفرس بسرج من ذهب، وما كان لأحد أن يركب أيام الحافظ بسرج من ذهب غيره.
ومع هذا فلا ينسى فروسيته، فقد كان للحافظ جوارح كثيرة من البزاة والصقور والشواهين البحرية، وكان عليها رجال يخرجون بها للصيد في كل أسبوع مرتين، فكان أسامة يخرج معهم، فيصيدون طيور الماء وطيور البر ونوعا من البقر وحشيا كان يسمى بقر بني إسرائيل - أصغر من البقر وأشد منه عدوا - وفرس البحر، وكان في النيل كثيرا (ويحدثنا أنها مثل البقرة الصغيرة، وعيناها صغيرتان، لها أنياب طوال في فكها الأسفل، صياحها مثل صياح الخنازير).
مات الحافظ وخلفه ابنه الظافر وعمره سبع عشرة سنة، فزاد الأمر سوءا، وتنازع الأمراء على الوزارة، وكثرت الدسائس، واضطر أسامة أن يدخل في المعترك ويغمس يده في المفاسد.
الفصل الحادي والعشرون
فارس كنانة (4)
هذا الخليفة الفاطمي «الحافظ» يموت وله ابنان كبيران، يعدل عنهما، ويعهد بالخلافة لأصغر أولاده سنا، وهو في السابعة عشرة من عمره، ويوصي بالوزارة لأمير مغربي اسمه ابن مصال، ويلقب الخليفة الجديد الصغير بالظافر.
وهذا الظافر فتى ربي تربية ناعمة، لا يعرف غير اللهو واللعب، والسكنى إلى الجواري وسماع الأغاني، فأما تدبير الأمور فللوزير ابن مصال.
والخليفة يحب ابن مصال، ويحب بقاءه، وولاة الأقاليم كلهم طامع في الوزارة، فيأبى ابن السلار الكردي الأصل ووالي الإسكندرية والبحيرة، فيجمع جنده وسلاحه، ويهجم على القاهرة، ويقتل ابن مصال، ويتربع في دست الوزارة، والخليفة مضطر إلى إقراره وهو له كاره.
وفي جند ابن السلار ابن زوجته عباس، رجل مغربي عربي الأصل من تميم، وله ولد جميل اسمه نصر، من خلان الخليفة الظافر وندمائه، فيوعز الخليفة إلى نصر وعباس بقتل ابن السلار ليكون عباس في الوزارة مكانه، ويتم ذلك ويقتل ابن السلار ويستوزر عباس، ثم بعد مدة يسأم الخليفة وزيره الجديد عباسا، فيوعز إلى ابنه نصر أن يقتل أباه ليحل محله، ويتردد نصر ثم يطلع أباه على ذلك، فيتآمران على قتل الخليفة فيقتله نصر، ويدخل عباس القصر، فيتهم أخوي الخليفة بقتله، ويقتلهما ويولي طفلا صغيرا هو ابن الظافر ويلقبه بالفائز، وسنه خمس سنين، وتهيج مصر على عباس وابنه، ويكاتب نساء القصر طلائع ابن رزيك الأرمني الأصل ووالي المنية، ليحضر فينتقم من قاتلي الخليفة، فيحضر وينتصر، ويهرب عباس وابنه إلى الشام، فيقتل عباس في الطريق، ويقبض عل ابنه نصر، فيرسل إلى القصر، فيمثل به ويعلق على باب زويلة. •••
هذه صورة سينمائية للأحداث التي حدثت في مصر أثناء إقامة «أسامة» بها، ما موقفه؟ كيف تصرف؟ كيف يستخدم فروسيته والفروسية لا تعرف العمل في الخفاء؟ الحق أنه موقف مربك للرجل الصريح.
لقد أصبح «أسامة» وله جنود ومماليك وأعوان، يجلس في مجلس الأمراء للتشاور فيما يعمل، ويقربه الولاة إليهم، ويتمناه كل في صفه لنجدته وغنائه.
لقد كان من أنصار القصر يوم كان الحافظ يتولى الخلافة؛ لأنه رب نعمته، ولأنه رجل؛ ولكنه انحرف عن القصر لما رأى من لهو الظافر ولعبه وتهتكه، وناصر ابن السلار، يحارب في صفه ويقاتل بجانبه، فكرهه القصر؛ لأنه يناصر عدوه؛ وكان ابن السلار رجلا مقداما شجاعا يحب رجال العلم، ولكنه قاس لا يرحم، يعاقب أكبر عقوبة على أصغر جريمة، فأحبه أسامة لشجاعته، وأغضى عن قسوته، وأمن ابن السلار إليه وأنس به، وبعثه بمهمة حربية إلى نور الدين محمود بن زنكي ليتفق معه على تكوين جيش لمحاربة الصليبيين في الشام ليخفف ضغطهم على مصر، وقام أسامة بمهمته وحارب الصليبيين في عسقلان وبيت جبريل، وظل يقاتل حتى أحس ابن السلار بحرج مركزه في مصر، فاستدعاه ليكون بجانبه ففعل.
فلما قتل ابن السلار واستوزر عباس وجدنا أسامة بجانبه وبجانب ابنه نصر يستشيرانه في أدق الأمور حتى فيما أوعز به الخليفة إلى نصر أن يقتل أباه، فينهاه عن ذلك، ويحذره غضب الله ووخز الضمير؛ ولا بد أن يكونا قد أطلعاه على قتل الخليفة، مقابلة للمؤامرة بمؤامرة، ومن هنا اتهمه كثير من المؤرخين باشتراكه في المؤامرة، وليس ذلك ببعيد عليه؛ وعذره أن الخليفة الغر هو البادئ بتحريض الابن على أبيه، فالجزاء من جنس العمل، ولكن عباسا أسرف فقتل الأبرياء من إخوة الظافر، وهو عمل لا يبرره شيء، فكان على أسامة أن ينفض يده منه ويقطع صداقته، ولكنه لم يفعل.
لقد دخل طلائع بن رزيك مصر وكان لأسامة صديقا أيضا، وكان أسامة يحبه، وعرض عليه طلائع أن يكون بجانبه وله المشاركة في عزه وجاهه، والدنيا مقبلة عليه؛ ولكن عباسا في أشد أوقاته حرجا يلجأ إليه ويطلب منه أن يصحبه في الخروج من مصر حتى لا يغتاله مغتال؛ ويحار أسامة بين صديق تقبل عليه الدنيا وصديق تدبر عنه، والذي تقبل عليه لم يلوث يده بالقتل، وإنما ينصر المظلوم، والذي تدبر عنه قد سفك الدماء البريئة، ولكنه في شدة وقد استنجد ليحفظ حياته؛ وأخيرا بعد تردد طويل وشقاء ضمير اعتذر لطلائع الفائز وخرج من مصر مع عباس البائس. •••
عشر سنين في مصر هي أسوأ حياته، لقد خلق لقتال الصليبيين فقضاها في مصر في قتال بعض المصريين لبعض المصريين، وخلق للعيشة القاسية، فعاش في مصر عيشة ناعمة، وخلق للصراحة فعاش في المؤامرات، وخلق لا يأبه للمال فأتاه المال في مصر من حيث لا يحتسب؛ ولكن الله عاقبه على أنه لم يعش كما خلق، فكان خروجه سلسلة كوارث؛ يصحب عباسا في الطريق، ويترك أسرته في حماية طلائع بن رزيك، فيكاتب القصر وبعض أهل مصر الفرنج والعربان أن يكمنوا لعباس ومن معه في الطريق، فيخرجون عليهم، ويقتل عباس ويؤسر نصر ويرد إلى مصر مخفورا، وينجو أسامة بأعجوبة بعد أن يصاب في رأسه بضربتين بالسيف يفقد بهما وعيه، وأخيرا جدا يصل إلى دمشق في أسوأ حال.
ثم يصاب في أسرته وماله.
لقد استراح قليلا واسترد قوته وقد نيف على الستين، ولا يزال جنديا محاربا له قوة الشباب، فالتحق بجيش نور الدين محمود بن زنكي، وبذلك عاد إلى موقفه الطبيعي، وكاتبه طلائع يطلب منه أن يعود إلى مصر، وإذ كان جنديا يحب القتال في الثغور فقد عرض عليه طلائع أن يوليه أسوان، ويفتح بجنده الحبشة، وبذلك لا يناله سوء من استيحاش القصر منه، فاستشار في ذلك نور الدين، فقال له: «أما كفاك ما لقيت من مصر وفتنها؟».
فاعتذر لطلائع وسأله أن يرسل إليه أسرته بحرا، ولكن طريق البحر أيضا في يد الصليبيين، فحل نور الدين الإشكال، بأن يكتب إلى «بلدوين الثالث» ملك أورشليم ليمنحه أمانا لأسرة أسامة، فمنحه الأمان كتابة. •••
هذه أسرة أسامة في خمسين نسمة بين رجال ونساء، ومعهم أموالهم وحليهم وجواهرهم وذهبهم وفضتهم، وسيوف أسامة وسلاحه، وقيمتها كلها ثلاثون ألف دينار، ومعهم أيضا مكتبة أسامة التي اقتناها من خير مخطوطات مصر، وفيها أربعة آلاف مجلد، كل ذلك ينزل في مركب في دمياط ومعهم أمان بلدوين، حتى إذا وصلوا إلى عكا أرسل «بلدوين» رجال بالفئوس يكسرون المركب ويأخذون ما فيها، ويحتج بعض رجال أسامة بالأمان، فلا يلتفت إليهم، ويأخذ كل ما معهم، ويترك لهم خمس مئة دينار توصلهم إلى بلدهم؛ ويحمد أسامة الله كثيرا على سلامة أهله وولده، ويحز في نفسه قليلا ضياع المال وكثيرا ضياع الكتب؛ وبذلك يختم فصل من الرواية عنوانه «أسامة في مصر». •••
ها هو في الرابعة والستين وقد عاد فارسا من فرسان المسلمين، يقاتل في جيش نور الدين؛ والأزمان التي عركته في مصر عركت أهله في حصن شيرز، فقد مات عمه سلطان، وولي الحصن ابن عمه الذي كان ينافس أسامة.
والسنة سنة 552 هجرية، وقد ازين الحصن لحفل ختان ابن الأمير، واجتمع في الدور الفسيحة آل ابن منقذ كلهم، والراقص يرقص والزامر يزمر والطبال يطبل، والقوم في هرج ومرج، والسرور بالغ بهم غايته، وإذا بالأرض تزلزل زلزالا عنيفا، فيتسابقون إلى باب الدار، فترمح فرس الأمير أولهم فيقع، وينسد الباب وتقع الدار على من فيها ويهلك كل أهل أسامة، ويأتيه الخبر فتنهد قواه ثم يستردها بإيمانه ويقول:
لم يترك الدهر لي من بعد فقدهم
قلبا أجشمه صبرا وسلوانا
فلو رأوني لقالوا مات أسعدنا
وعاش للهم والأحزان أشقانا
لم يترك الموت منهم من يخبرني
عنهم فيوضح ما قالوه تبيانا
بادوا جميعا وما شادوا، فواعجبا
للخطب أهلك عمارا وعمرانا
هذي قصورهم أمست قبورهم
كذاك كانوا لها من قبل سكانا
وكذلك خربت أكثر بلاد الشام، فحماة والمعرة وحمص وكفر طاب؛ وأخطر ما في الأمر أن الزلزال هدم أسوار البلاد والقلاع، وانكشفت البلاد للصليبيين، فقام نور الدين يعيد الأسوار ويقيم القلاع، ووضع يده على حصن شيزر وعمر أسوارها ودورها وأعادها جديدة. •••
سبعون ... خمس وسبعون ... ثمانون ... هو في حصن كيفا، وقد دب إليه الضعف، وارتعشت منه اليد:
مع الثمانين عاث الدهر في جلدي
وساءني ضعف رجلي واضطراب يدي
إذا كتبت فخطي جد مضطرب
كخط مرتعش الكفين مرتعد
فأعجب لضعف يدي عن حملها قلما
من بعد حطم القنا في لبة الأسد
وإن مشيت وفي كفي العصا ثقلت
رجلي كأني أخوض الوحل في الجلد
فقل لمن يتمنى طول مدته
هذي عواقب طول العمر والمدد •••
ألوم الردى، كم خضته متعرضا
له وهو عني معرض متجنب
وكم أخذت مني السيوف مآخذ ال
حمام، ولكن القضاء مغيب
إلى أن تجاوزت الثمانين وانقضت
بلهنية العيش الذي فيه يرغب
فمكروه ما تخشى النفوس من الردى
ألذ وأحلى من حياتي وأطيب
هذا صلاح الدين بطل المسلمين يأتي بالأعاجيب من فعال البطولة، ويستنزل من الإفرنج الحصن بعد الحصن ... آه ... لو كنت شابا. •••
علمت الأحداث «أسامة» أن يؤمن الإيمان كله بالقدر، وأي شيء يدعو إلى الإيمان بالقدر كالحرب والصيد؟ هذا حي تدل كل المظاهر على أنه سيحيا فيموت، وهذا حي تدل كل الدلائل على أنه يموت فيحيا؛ وهو نفسه يقف مواقف يرى فيها الموت محققا ثم ينجو، ويستهين بمواقف لا يرى فيها شيئا من الخطورة فيصاب.
وكان له حس دقيق بهذه الأمور، فهو يراها ويلتفت لها ويعجب منها، ويحمله ذلك كل على الإيمان بالقدر خيره وشره.
رمى مرة - وهو صبي - عصفورا بسهم فلم يصب المرمى، ثم ارتد السهم فأصاب عصفورا آخر كان يطل برأسه من عشه - ولم يكن أسامة رآه - فقتله.
وهو وصاحبه مرة يهزمان ثمانية فرسان، ثم يهزمهما «رويجل».
ورجل يقتل أسدا، ثم تقتله عقرب.
و«ندى القشيري» الفارس يطعنه فارس صليبي فيقطع شريانا في صدره، ويخرج الرمح من جانبه الآخر، وكل الظن ألا يصل إلى بيته حيا، فيسلم ويصح، وتلتئم جراحه، ويبقى سنة إذا نام على ظهره لا يقدر على الجلوس إلا إذا أسنده اثنان، ثم يزول ما يشكو منه، ويعود مقاتلا كما كان.
و«عتاب» البطل المغوار، الضخم الجسم، الفخم الصوت، الذي يفعل الأفاعيل بالأعداء ويدور اسمه على كل لسان لشجاعته وفروسيته، يدخل بيته فيجلس على أريكة عليها غطاء، ويعتمد في جلوسه على يده، فتدخل فيها إبرة، فوالله لقد كان يئن أنينا يسمعه من بالحصن لعظم خلقته وجهارة صوته، ثم يموت، و«ندى» لا يموت.
ومعلم مكتب في قرية يعرض له أمر يحمله على الخروج من المكتب، وبعد مفارقته بقليل تزلزل الأرض ويقع البناء على الأطفال، فيموتون كلهم وينجو المعلم.
وكان «أسامة» يقاتل الإسماعيلية مرة، حتى إذا انتهى القتال سمع رجلا يصيح: «الرجال، الرجال»، فبادر هو وصحبه وسألوه عن صياحه، فأشار إلى إصطبل قديم مظلم، وقال: أسمع هنا صوت رجال، فدخلوا فوجدوا رجلين من الإسماعيلية فقتلوهما، ووجدوا إسماعيليا ورجلا آخر من رجالهم يتقاتلان، فقتلوا، الإسماعيلي وحملوا صاحبهم إلى المسجد وبه جراحات عظيمة وهو لا يتحرك ولا يتنفس، ويظن كل من رآه أن قد مات، ثم أخذ نفسه يتردد، فخاطوا جراحه في رقبته وجسمه، ثم عاد إلى صحته كما كان.
وأصبح «أسامة» يوما وهو واقف قرب الحصن، فرأى ثلاثة شخوص مقبلة، أما اثنان فكالناس، وأما الثالث بينهما فلم يتبينه، حتى إذا قرب رأي رجلا قد ضربه إفرنجي بسيفه في وسط أنفه، فقطع وجهه إلى أذنيه وقد استرخى نصف وجهه حتى تدلى إلى صدره، وبين النصفين من وجهه قريب من شبر، فدخل البلد وخاط الجراح وجهه وداواه، والتحم الجرح وشفي، وسموه ابن غازي «المشطور» من أجل ذلك.
وهو بنفسه عبرة العبر في ذلك، فكم قاتل أسودا ثم كادت تقتله ضبع، وكم أخطأ التقدير فخرج عليه الكمين وهو يظنه في مأمن، وهو يقاتل على فرس يظهر بعد أنه من أردأ الأفراس، ولا يظن نفسه تنجو ثم ينجو، ويخرج عليه العرب والفرنج في وادي موسى فيقتلون عباسا ومن معه ويسلم هو، إلى كثير من أمثال ذلك.
كل هذه المناظر وأمثالها أسلمته إلى الإيمان بالقدر إيمانا كإيمان العجائز، والإيمان بالقدر سلاح ذو حدين، فأحيانا يدعو إلى التواكل والخمول وترك الأمور تجري كما تشاء، وعدم الإيمان بالربط بين الأسباب والمسببات، وهذا أقبح وجهيه، وأثلم حديه، وهو الذي تلجأ إليه النفوس إذا ضعفت والقلوب إذا ماتت، وأحيانا يدعو إلى الشجاعة وركوب الأخطار في غير خوف، والإقدام في غير فزع، فالأعمار مقدرة، والإقدام لا يقصرها، والإحجام لا يمدها؛ وهذا التفسير الأخير هو الذي كان يعتنقه المسلمون في الصدر الأول من حياتهم، والذي كان يعتنقه أبطال المسلمين في كل عصر.
اسمع «أسامة» يقول: «إن ركوب أخطار الحروب لا ينقص مدة الأجل المكتوب.» «ولا يظن ظان أن الموت يقدمه ركوب الخطر، ولا يؤخره شدة الحذر، ففي بقائي أوضح معتبر، فكم لقيت من الأهوال، وتقحمت المخاوف والأخطار، ولاقيت الفرسان، وقتلت الأسود، وضربت بالسيوف، وطعنت بالرماح، وجرحت بالسهام؛ وأنا من الأجل في حصن حصين.».
انظر إلى الأيام كيف تسوقنا
قسرا إلى الإقرار بالأقدار
ما أوقد ابن طليب قط بداره
نارا، وكان خرابها بالنار
1 •••
إن كان «أسامة» في الثمانين لا يصلح لحمل السيف، فيده تستطيع أن تحمل القلم، وإن كان درس الصيد في صباه علمه الفروسية، فدرس الأدب في صباه وفي فترات راحته طول عمره علمه التأليف في الأدب، فهو يعكف من قبيل الثمانين إلى ما بعد التسعين على المطالعة والدرس والتأليف.
يؤلف في الأدب «لباب الآداب» يقسمه إلى أبواب ، ويذكر في كل باب ما ورد فيه من القرآن، ثم الحديث ثم الآثار نثرا ونظما، منها ما ورد في كتب الأدب الأخرى ومنها ما لم يرد، ومنها أحداث حدثت له، وأمور حدثت في زمنه
2 ، ويؤلف في نقد الشعر، وفي الشيب والشباب، وفي تاريخ القلاع والحصون، وفي أخبار النساء، وفيمن شهد بدرا من الفريقين ... إلخ.
ويؤلف كتابا هاما أشبه بالمذكرات يكتبها العظماء في أحداثهم، وإن لم تكن مرتبة ولا مبوبة ويسميه «الاعتبار»
3 .
وهو - فيما وصلنا من تأليفه - واسع الاطلاع، حسن الالتفات، صحيح التقدير، ظريف الروح، ظريف الاستخدام لما يحيط به من ظروف. •••
قد صور لنا في كتابه الاعتبار، وقليل في لباب الآداب صورة دقيقة لنظرة المسلمين إلى الصليبيين في عصره، وأوضح لنا كثيرا من قوانين الفروسية عند المسلمين والإفرنج، وهو لا يستحل ذكرهم من غير أن يعقب عليه بخذلهم الله أو لعنهم الله، ومع هذا لا بأس من أن يتخذ من بعضهم أصدقاء، فهو يكره منهم فكرة الصليبية، ويصادق بعضهم لصفاتهم الشخصية.
يعجب لشجاعتهم ويقول: ليس لهم من فضائل الناس سوى الشجاعة، كما يعجب بنظرهم إلى الفروسية وتقدير أهلها «فليس عندهم منزلة عالية إلا للفرسان، ولا عندهم ناس إلا الفرسان، فهم أصحاب الرأي وهم أصحاب القضاء والحكم.» حكى أنه مرة تعدى قوم منهم على قطعان غنم للمسلمين، وكان بينهم وبينهم صلح، فشكا «أسامة» من ذلك لملكهم فلك الخامس
Fulk V
ملك أورشليم «فاختار الملك ستة من فرسانهم ليحكموا في هذه القضية، فخرجوا من مجلسه واعتزلوا وتشاوروا حتى اتفق رأيهم كلهم على شيء واحد، وعادوا إلى مجلسه الملك فقالوا: قد حكمنا بغرامة ما أتلف من غنمهم، وهذا الحكم بعد أن تعقده الفرسان ما يقدر أحد - ولو كان من مقدمي الفرنج - أن يغيره ولا ينقضه، فالفارس أمر عظيم عندهم.».
وينقد تنكرد
Tancred
نقدا مرا لإخلاله بأمان تعهد به، وبلدوين الثالث لمهاجمته أسرته وسلبها أموالها بعد أن أعطى أمانا كتابيا بألا يتعرض لهم.
ويقص قصصا كثيرة من أعمال فرسان من الفرنج وفرسان من المسلمين، كانوا يأتون بالعجائب في حروبهم وبطولتهم وفروسيتهم؛ ويحكي أن فارسا من الفرنج هزم أربعة من فرسان المسلمين فوبخهم أهل الحصن وعابوهم وفضحوهم وازدروهم، «فكأن تلك الهزيمة منحتهم قلوبا غير قلوبهم وشجاعة ما كانوا يطمعون فيها، فانتخوا وقاتلوا واشتهروا في الحرب، وصاروا من الفرسان المعدودين بعد تلك الهزيمة.» إلى كثير من قصص المغامرات التي تستخرج الإعجاب بالفرسان من الجانبين.
وينظر إلى الصليبيين نظرة بدوية عربية، فينقدهم في عدم الغيرة على نسائهم، فيقول: «وليس عندهم شيء من الغيرة، يكون الرجل يمشي هو وامرأته فيلقاه رجل آخر، فيأخذ المرأة ويعتزل بها ويتحدث معها، والزوج واقف ناحية ينتظر فراغهما من الحديث، فإذا طولت عليه خلاها مع المتحدث وتركها ومضى.» ويروي نوادر أخرى من هذا القبيل.
ويذكر أنهم شديدو العصبية لجنسهم ودينهم، فقد أسرت فتاة جميلة، وأدخلت إلى دار والد أسامة، فأهداها إلى الأمير شهاب الدين صاحب قلعة «جعبر» فأعجبته، وولدت له ولدا سماه «بدران» وجعله أبوه ولي عهده، ومات الوالد، وتولى بدران البلد، فغافلت أمه الناس وخرجت إلى «سروج» وهي في يد الفرنج، وتزوجت بأسكاف من بني جنسها؛ فكانت هي زوجة الأسكاف وابنها أمير قلعة «جعبر».
ومنهم من يظهر الإسلام ويصلي ويصوم، ويتزوج مسلمة، ثم إذا أمكنته الفرصة فر هو وأولاده وتنصروا بعد الإسلام والعبادة.
ويصف فرحهم بأعيادهم، ومرحهم في سباقهم.
ويقارن بين الطب عندهم والطب عند المسلمين، فيقول: إن طب الفرنج منه ما هو سخيف، فقد رأى فارسا من فرسانهم طلع له دمل في رجله، فأحضر له طبيب مسلم وطبيب منهم، فأما الطبيب المسلم فوصف له ما كاد يشفيه، وأما طبيبهم فقال له: أيهما أحب إليك، أن تعيش برجل واحدة، أو تموت برجلين؟ فقال : بل أحيا برجل، فأحضر فارسا وفأسا، وأمره أن يضرب رجله بالفأس ضربة واحدة يقطعها، فضربه فسال مخ الساق، ومات من ساعته، ومنه ما هو خرافي، كامرأة أصابها الصداع في رأسها فقال طبيبهم: «إنها امرأة في رأسها شيطان قد عشقها.» فأخذ موسى وحلق شعرها، وشق رأسها صليبا، وسلخ وسطه حتى ظهر عظم الرأس وحكه بالملح، فماتت في وقتها، ومع هذا فلهم أطباء مهرة حاذقون؛ فقد شاهد ملكا من ملوكهم رمحه حصان في ساقه فتلفت رجله، وفتحت في أربعة عشر موضعا وكلما ختم موضع فتح موضع، ولا تنفع فيه المراهم، فجاء طبيب إفرنجي فأزال تلك المراهم، وجعل يغسلها بالخل الحاذق حتى برئت؛ كما شاهد طبيبا آخر يعالج «عقد الخنازير» في مهارة، ولكن أطباء العرب كانوا أمهر؛ ومن أجل هذا كان كثيرا ما يبعث الفرنج في طلب أطباء من العرب.
وعلى الجملة فلم يعجبه الفرنج من الناحية الأخلاقية والاجتماعية إلا من ناحية شجاعتهم؛ وقد أجمل ملاحظاته في قوله: «وكل من هو قريب العهد بالبلاد الإفرنجية أجفى أخلاقا من الذين تبلدوا - يعني توطنوا - وعاشرو المسلمين.».
فيالله للمسلمين! أين كانوا من الفرنج وأين أصبحوا منهم؟ فشد ما يخطئ من يعد الأمر أمر طبيعة ودم وجنس! إنما الأمر أمر «تربية».
وناحية أخرى يستطيعها «أسامة» في مثل سنه، وهي أن يعين المسلمين برأيه ويفيدهم بتجاربه، وهذا لا يقل شأنا عن شجاعته وكفاحه.
فالرأي قبل شجاعة الشجعان
هو أول وهي المحل الثاني
ومع هذا فله ابن هو عضد الدولة أبو الفوارس يشترك في الحرب مع صلاح الدين ويحيا أسامة حياته الحربية فيه، فهو قطعة منه وقبس من ناره، وليمد هو بالرأي صلاح الدين، فيحدثنا بعض المؤرخين أن صلاح الدين استدعى أسامة من حصن كيفا «وأنزله أرحب منزل، وأورده أعذب منهل، وملكه ضيعة من أعمال المعرة، وذاكره في الأدب ودارسه، وكان ذا رأي وتجربة، وحنكة مهذبة، فهو يستشيره في نوائبه، ويستنير برأيه في غياهبه، وإذا غاب عنه في غزواته، كاتبه وأعلمه بواقعاته ووقعاته، واستخرج رأيه في كشف مهماته وحل مشكلاته». •••
خمس وثمانون ... تسعون «لما توقلت ذروة التسعين، وأبلاني مر الأيام والسنين، صرت كجواد العلاف، لا الجواد المتلاف، ولصقت من الضعف بالأرض، ودخل من الكبر بعضي في بعض، حتى أنكرت نفسي، وتحسرت على أمسي، وقلت في وصف حالي:
لما بلغت من الحياة إلى مدى
قد كنت أهواه تمنيت الردى
لم يبق طول العمر مني منة
ألقى بها صرف الزمان إذا اعتدى
ضعفت قواي، وخانني الثقتان، من
بصري وسمعي، حين شارفت المدى
فإذا نهضت حسبت أني حامل
جبلا وأمشي إن مشيت مقيدا
وأدب في كفي العصا وعهدتها
في الحرب تحمل أسمرا ومهندا
وأبيت في لين المهاد مسهدا
قلقا كأنني افترشت الجلمدا
والمرء ينكس في الحياة وبينما
بلغ الكمال وتم عاد كما بدا •••
في الحادية والتسعين يؤلف لباب الآداب، ويؤلف ويؤلف، ويقول: «ما للعلم غاية يدركها الراغب، ولا نهاية يقف عندها الطالب، هو أكثر من أن يحصر وأوسع، من أن يجمع، ولولا أن النفس إذا غولبت غلبت، وإذا زجرت لجت وأبت، لكان اشتغال من بلغ من السنين، إحدى وتسعين، بأعمال البر والثواب، أجدى عليه من الاشتغال بتأليف كتاب، بعدما بالغ الزمان في وعظه، بتأثيره في قواه وسمعه وبصره لا بلفظه، وأنذره تغير حاله، بدنو ارتحاله، فهو مقيم على وفاز، ميت في الحقيقة حي بالمجاز.». ... خمس وتسعون - ست وتسعون.
عجز عن حمل القلم، كما عجز قبل عن حمل السيف. •••
وفي ليلة من ليالي رمضان سنة 584ه في دمشق، والجو خريف والسكون رهيب، أسلم «أسامة» روحه لخالقه، وهو يدعو لصلاح الدين بتمام النصر، ويسأل الله لنفسه الغفران.
الفصل الثاني والعشرون
ألعصا أم القضا؟
رأيت وأنا أدرس حياة «أسامة بن منقذ»، أن الأستاذ «فيليب حتى» لما نشر كتاب «الاعتبار» عدد كتبه وقال: إن منها كتابا اسمه «العصا»، وإن الأستاذ أحمد شاكر عند نشره كتاب «لباب الآداب» عدد أيضا كتب أسامة، وقال: إن منها كتاب «القضا»، وقال: إن الأستاذ فيليب حتى سماه كتاب «العصا» خطأ، وصوابه «القضا».
وحرت إذ ذاك بين الرأيين، هل اسم الكتاب «العصا » أو «القضا»؟ ورجحت أن يكون «العصا»؛ لأنها أنسب لحياة الفارس، وهو بعيد عن حياة القضاء، فبعيد أن يؤلف فيه؟ وقلت: لعل الأستاذ شاكرا؛ إذ كان قاضيا وله اتصال وثيق بالقضاء وتعود نظره قراءة كلمة القضاء أكثر من تعوده العصا رجح الرأي الأخير، وخطأ الأول، أو لعل له حجة لم يدل بها.
ومرت الأيام ، ومررت على وراقي في الأسبوع الماضي أبحث فيما عنده من الكتب، وشريت منه ما شريت، وكان عنده كمية من الورق (الدشت) - ولا أدري ماذا يسمى ذلك في اللغة الفصحى - فطلبتها، فأعطانيها.
واليوم أخذت أقلب فيها فوجدت أوراقا شتى من كتب لم أدر ما هي، ورسائل صغيرة بعضها قيم جدا، لعلي أحدث القراء حديثا آخر عنها، ورأيت كراسة صغيرة كتب عليها «كتاب العصا لأسامة بن منقذ»؛ ومع الأسف استطعمها الفيران فأكلت أطراف بعض ورقها؛ وهي تقع في ثلاثين صفحة، لعل من الطريف أن أصفها للقراء.
لقد وضع الجاحظ في كتابه «البيان والتبين» بابا طويلا سماه «كتاب العصا»، وهو يدور على الشعوبية الذين عابوا على العرب اعتمادهم في خطاباتهم على القناة والعصا، وقالوا: «ليس بين الكلام والعصا سبب، ولا بينه وبين القوس نسب، وهما إلى أن يشغلا العقل ويصرفا الخواطر ويعترضا الذهن أشبه ... وحمل العصا بأخلاق الأكرة والرعاة أشبه، وهو بجفاة الأعراب وعنجهية أهل البدو أشكل.» ... إلخ، فرد عليهم الجاحظ في كلام كثير واستطراد طويل قولهم، مبينا مزايا العصا ومحاسنها، ومستشهدا بعصا موسى، وعصا سليمان، موضحا مزاياها، وفيم تستخدم، ومم تؤخذ خيارها؛ وأن العصا للخطيب تأهب للخطبة، وتهيؤ للإطناب، فكأنهم قد وصلوا بأيديهم أيديا أخرى، وهي أوقع في نفوس السامعين، وعون للخطيب على الإفاضة، كالرايات في الحروب والأعلام، والقلانس للقضاة، والقناع للرؤساء والعظماء، وآلات الموسيقى للمغني، وكإشارات المتكلم برأسه ويده، وتقطيعه ضروب الحركات على ضروب الألفاظ وضروب المعاني، إلى مثل هذا.
أما رسالة «العصا» لصاحبنا أسامة، فقد بدأها بسبب تسميتها عصا، قال: إنما سميت العصا عصا لصلابتها، مأخوذ من قولهم: عص الشيء صلب، وعصي الشيء وعسي إذا صلب؛ والعصا : الجماعة، يقال: شق فلان عصا المسلمين؛ أي جماعتهم؛ وفي الحديث: «إياك وقتل العصا»، يريد المفارق للجماعة فيقتل ... إلخ.
وأول من خطب على العصا وعلى الراحلة قس بن ساعدة الأيادي.
والعرب تقول: فلان ممن قرعت له العصا، إذا كان يرجع إلى الصواب، وينقاد إلى الحق، ويستقيم عن زيغه إذا نبه.
وتقول: فلان صلب العصا ، إذا كان ذا نجدة وحزامة.
وتقول إذا تفرقت الخلطاء، واختلفت آراء العشيرة ومرج الأمر: انشقت العصا.
وتقول للمسافر إذا آب واستقرت به داره: ألقى عصا التسيار.
ثم أخذ يروي مختارات من الشعر والنثر، مما جاء فيها العصا؛ فالحجاج قال: والله لأعصبنكم عصب السلمة، ولالحونكم لحو العصا، ولأضربنكم ضرب غرائب الإبل.
والمتلمس يقول:
لذي الحلم قبل اليوم ما تقرع العصا
وما علم الإنسان إلا ليعلما
وقيس بن ذريح يقول:
إلى الله أشكو نية شقت العصا
هي اليوم شتى وهي أمس جميع
مضى زمن والناس يستشفعون بي
فهل لي إلى لبنى الغداة شفيع
والعرب تقول: فلان شق العصا إذا كان لا يدخل تحت حكم ولا طاعة.
ومهيار يقول:
يا، قصرت يد الزمان شد ما
تطول في ثلمي وفي نقض المرر
عصا شظايا ومشيب عنت
ومنزل ناب وأصحاب غدر
وصاحب كالداء إن أبديته
عور وهو قاتل إذا أسر
ثم يذكر فصلا في أحداث حدثت تدور حول العصا، كالذي روي أن قتيبة بن مسلم (الفاتح العظيم) لما تسنم منبر خراسان سقط القضيب من يده، فتطير الصديق، وتفاءل العدو، فقال قتيبة: ليس الأمر كما سر العدو وساء الصديق، بل كما قال الشاعر:
فألقت عصاها واستقر بها النوى
كما قر عينا بالإياب المسافر
وقص قصصا نجته فيها العصا من الموت، وهو في قلعة شيزر، إلى نحو ذلك، ولعل أظرف فصل في الرسالة هو الفصل الأخير، وهو أطولها وموضوعه «عصا الكبر» وقد ظهرت على المؤلف عاطفة الحزن والأسف على ما اعتراه في كبر سنه من ضعف بعد قوة، وحمل العصا بعد حمل السيف، وقد ألف هذه الرسالة وهو كبير السن، فأكثر من إيراد الشعر في هذا المعنى إنشاء وإنشادا؛ فمن ذلك ما رواه قال: أنشدني العميد أبو الحسن بالموصل سنة 526:
ما زلت أركب شاكلات الربرب
حتى مشيت على العصى كالأحدب
أأزيد ثالثة وأنقص عن مدى
مشي اثنتين؟ لقد أتيت بمعجب
والليث لو بلغت سنوه مدتي
أو قاربت، أمسى فريسة ثعلب
وأنشدني القاضي الرشيد أحمد بن الزبير بمصر سنة 539:
تقوس - بعد طول العمر - ظهري
وداستني الليالي أي دوس
فأمشي والعصا تمشي أمامي
كأن قوامها وتر لقوسي
ويقول هو نفسه:
حناني الدهر وأف
نتني الليالي والغير
فصرت كالقوس ومن
عصاي للقوس وتر
أهدج في مشيي، وفي
خطوي فتور وقصر
كأنني مقيد
وإنما القيد الكبر
والعمر مثل الماء في
آخره يأتي الكدر
وقال:
أصبح كفي مالكا للعصا
من بعد حمل الأسمر الذابل
أمشي بضعف وانحناء على
عصاي مشي الصائد الخاتل
كأنني لم أمش يوم الوغى
إلى نزال البطل الباسل
ولم أشق الجيش لا أختشي
من الردى كالقدر النازل
فانظر إلى ما فعل العمر بي
من طوله لم أحظ بالطائل
يا حسرتا إني غدا ميت
على فراشي ميتة الخامل
هلا أتاني الموت يوم الوغى
بين القنا والأسل الناهل
وقال:
حملت ثقلي في السهل العصا
ونبت في حين حاولت الحزونا
وإذا رجلي خانتني فلا
لوم عندي للعصا في أن تخونا
قال: وأنشدني الأمير السيد شهاب الدين العلوي الحسيني بالموصل سنة 515 لبعض المغاربة:
ولي عصا في طريق السير أحمدها
بها أقدم في تأخيرها قدمي
كأنها وهي في كفي أهش بها
على ثمانين عاما لا على غنمي
كأنني قوس رام وهي لي وتر
أرمي عليها رماء الشيب والهرم
ولعل في هذا القدر كفاية في إثبات أن الكتاب في «العصا»، لا في «القضا»؛ ولعله يدعو إلى التفكير في إصلاح الكتابة التي تخلط بين العصا والقضا.
الفصل الثالث والعشرون
العلم والدين1
مما نلاحظ في تاريخ الإنسان أنه تسوده موجات متعاقبة في عصوره المختلفة وأممه المتعددة؛ فأحيانا تسوده موجة الشعر كالذي كان عند العرب في عصر الجاهلية، واليونان في عصر هوميروس، وأحيانا تسوده موجة الفلسفة كالذي كان عند اليونان في عصر سقراط وأرسطو وأفلاطون؛ وأحيانا موجة الدين كالذي كان في العالم الإسلامي والعالم الأوروبي في القرون الوسطى.
وكان من خصائص القرن التاسع عشر سيادة موجة العلم حتى طغت على كل ما عداها.
وقد كانت هذه الموجات في العصور الماضية موجات محلية لا موجات عالمية، فكنت ترى أمة يسودها الشعر، وأخرى تسودها الفلسفة؛ أما وقد ارتبط العالم الآن برباط محكم، وانكسرت الحدود، وكادت تنعدم المسافات فقد أصبحت الموجات عالمية، لذلك لما علت موجة العلم في القرن الماضي في أوروبا وضعفت فيها موجة الدين تأثر العالم كله بهذه الظاهرة، وطغت موجة العلم على الشرق والغرب، وضعف الدين في الشرق والغرب؛ وربما كان ضعفه في الغرب اجتهادا وضعفه في الشرق تقليدا؛ لأن المغلوب مولع أبدا بتقليد الغالب كما يقول ابن خلدون.
وقد ساد العلم وضعف الدين في أوروبا إثر حركات عنيفة قام بها العلماء من القرن السابع عشر، فوضعوا لأنفسهم منهجا علميا أساسه ملاحظة الظواهر وتحليلها تحليلا عقليا، وربط هذه الظواهر بعضها ببعض، ووضع الفروض في حلها وامتحانها وتجربتها، وإبعاد ما تدل التجربة على خطئه، وإثبات ما تدل التجربة على صحته، حتى إذا تم الاقتناع به أضيف إلى دائرة المعلومات واتخذ أساسا لبناء غيره عليه وهكذا؛ وتحرروا في منهجهم هذا من كل شيء إلا الملاحظة والتجربة والبرهان، فلم يعبئوا بأقوال القدماء كجالينوس وأرسطو، ولا بما ورد في الكتب الدينية، ولا بما قررته الكنيسة، ولم يسلموا بشيء إلا ما جرب في «المعمل»، فأداهم هذا المنهج إلى استكشاف آلاف من المسائل استخدموها في الحياة اليومية وبناء الحضارة الأوروبية، وعرفوا ما لا يحصى من قوانين الطبيعة، ولما كان كل مظاهر الحياة اليومية متأثرا بهذه المستكشفات العلمية زاد الناس احتراما للعلم وتقديرا له وإعجابا به، وكان من أثر ذلك شغف الناس بالأرض دون السماء، وبالعالم المادي لا الروحي، وبهذه الحياة لا بما بعدها.
وكان أن هاجم العلماء في بحثهم العلمي مسائل تتصل بالدين من قريب أو من بعيد؛ فآمن الناس بأقوالهم فيها كما آمنوا بأبحاثهم العلمية الأخرى، فكان لذلك أثره في ضعف موجة الدين في أوروبا، ولنقص عليك طرفا منها.
فمن أهم ما زلزل الناس تعاليم كوبرنيكس في النظام الشمسي، فقد قلب قيمة الأشياء رأسا على عقب، كان الناس يعتقدون أن الأرض مركز العالم، وأن الشمس والكواكب تدور حولها، وأن النجوم خلقت للأرض، والأرض خلقت للإنسان، فكل العالم وسيلة ومتعة للإنسان، فجاءت تعاليم كوبرنيكس فبرهنت على أن الأرض وما عليها ليست إلا هنة حقيرة في العالم، وأنها تدور حول الشمس لا أن الشمس تدور حولها؛ فحطم ذلك من أنانية الإنسان وحطم من عظمته، وقام رجال الدين ينكرون عليه تعاليمه لمعارضتها للنصوص الدينية.
وتلاه «دارون»، فأكمل القضاء على شعور الإنسان بعظمته، فدعا إلى تسلسل المخلوقات بعضها من بعض، وأن ليس الإنسان نوعا مخلوقا بذاته، وأن العالم من جماد ونبات وحيوان وإنسان وحدة مرتبط بعضها ببعض، ومترقية بعضها من بعض؛ فتغيرت بذلك النظرة إلى العالم، والنظرة إلى الإنسان، وخلعت على العالم نظرة ميكانيكية يرقى بها الحقير إلى ما فوقه بحكم البيئة وتنازع البقاء وبقاء الأصلح، حتى كأن العالم يصنع نفسه، وكان لهذه التعاليم أثرها في اصطدامها بظواهر آيات الكتب المقدسة.
وجاء علماء الجيولوجيا بعد علماء الفلك، وبعد نظرية دارون، فأخذوا يبحثون في بناء الأرض على قاعدة انفصالها من الشمس، وعلى قاعدة تسلسل الأنواع وما يستلزم ذلك من ملايين السنين في تكوينها وصلاحيتها للحياة، وتدرج الأنواع، وجاء بعدهم علماء الحياة، فجدوا في البحث عن الحياة وتطورها، وهكذا، فكان لهذا كله أثر في الدين، وعلى الأقل في ظواهر آياته. •••
وكما تقدم البحث في العلوم الطبيعية على هذا النحو تقدم البحث في التاريخ، فاستكشفت الآثار القديمة، وعرفت أهم لغاتها، وقرئت نصوصها، ووضع للتاريخ منهج على نمط منهج العلم؛ وتوجه بعد ذلك علماء التاريخ ينقدون الوثائق القديمة، فوصلوا مثلا إلى أن شعر هوميروس ليس شعرا لرجل واحد ولا لعصر واحد، وإنما هي أشعار لعصور متعاقبة لشعراء متعاقبة، وبحثوا تاريخ اليونان والرومان والأمم القديمة، فوصلوا إلى أن بعض ما دون عنها أساطير لم تصح، وبعضها حقائق تصح.
وبنفس هذه الوسائل، وبنفس هذا المنهج توجهوا إلى «الكتاب المقدس» من توراة وإنجيل يبحثونه وينقدونه، فبحثوا سفر التكوين وبقية الأسفار، كيف كتبت؟ ومتى كتبت؛ ونشروا على الناس نتائج أبحاثهم، ينكرون بعضا ويؤمنون ببعض، وينقدون الأسلوب والأحداث، ويستنتجون عصورها إلى آخر ما قاموا به؛ فكان لذلك رجة عنيفة أيضا في نفوس الناس، وخاصة المثقفين.
وزاد الأمر إشكالا والناس انحيازا إلى العلم موقف رجال الكنيسة، فقد تمسكوا بنصوص الكتب والشروح والآثار في باطنها وظاهرها، وجملتها وتفصيلها، وأنكروا على العلماء نظرياتهم، واضطهدوهم أيام كانت السلطة في أيديهم، وحكم الناس العقل في موقف رجال العلم ورجال الكنيسة، فرجحوا جانب العلم، فطغت موجة العلم على موجة الدين، ووقف الكثيرون من الدين موقف الإنكار أو عدم الاكتراث أو أداء بعض شعائره كما تؤدى المواضعات الاجتماعية من غير روح ومن غير اعتقاد، فكان هذا طابع القرن التاسع عشر في أوروبا، ومنها سارت الموجة إلى الشرق وأنحاء العالم، ظنا منهم أن أوروبا تقدمت في الحضارة بتقديس العلم مكان تقديس الدين، فجاروهم في ذلك. •••
ولكن: كان لرجال العلم خطؤهم كما كان لرجال الدين خطؤهم.
فهم قد أفرطوا في الإيمان بقوانين العلم مع أن هذه القوانين في تغير مستمر وإن كان بطيئا؛ إن القوانين العلمية مبنية على جملة من القضايا تعد حقائق، ولكن بعض هذه القضايا عرضة لظهور خطئها، فيخطئ بخطئها القانون المبني عليها، فاستكشاف قضايا جديدة أو حقائق جديدة قد يلغي قانونا كان مسلما به أو يعدله أو يرقيه، فالعلم في حركة مستمرة وتغير مستمر، ويجب أن يكون العالم واسع النظر، واسع الصدر لكل ما يستكشف من جديد، مستعدا لقبول ما تثبت صحته، مستعدا لتغيير وجهة نظره وتعديل إيمانه بالحقائق، وأحيانا يستكشف ما هو أساسي في العلم، فيكون ثورة على كثير من النظريات والقضايا، وأحيانا تستكشف حقائق جزئية يترتب عليها تغييرات جزئية؛ هذا هو تاريخ العلم، فالإفراط في الإيمان بقضاياه على أنها حقائق أبدية، غلطة كغلطة رجال الدين في تحجير النصوص.
وأمعن من ذلك في الخطأ أن كثيرا من العلماء اعتقدوا أن المنهج العلمي من ملاحظة وتجربة وبرهان هو المنهج الوحيد لكل شيء، ولا شيء غيره، وأن كل شيء في العالم يحل بالعلم وبمنهج العلم، وفاتهم أنهم بمنهجهم العلمي قد اتجهوا اتجاها صحيحا نحو عجلة العالم، يفحصونها ويجربونها ويمتحنونها، ولكنهم لم يتجهوا نحو محرك العجلة، وقد لا يستطيع العلم بمنهجه أن يبحث المحرك؛ والدقيق النظر الواسع الفكر لا يقف في بحثه عند العجلة ودورانها، بل يبحث ما وراءها، لا يقف عند المادة، ولكن يبحث ما وراء المادة.
إن العلم منهج صحيح للمادة، ولكن ليس الصحيح لغير المادة، هو منهج صحيح من جملة مناهج، ولكنه ليس المنهج الوحيد الصحيح، إن جمع المشاهدات وإجراء التجارب عليها والاستقراء والحكم به أحد طرق العقل للوصول إلى الحقيقة، ولكن وراءه طرق أخرى للوصول إلى الحقيقة أيضا.
إن شئت فانظر إلى الفنانين من شعراء وموسيقيين ومصورين، كيف يدركون من العالم ما لا يدرك العقليون، ثم ينقلون إلينا ذلك الشعور بشعرهم وموسيقاهم وتصويرهم فتهتز عقولنا هزة عميقة لا يبلغها قول علمي، ولا بحث فلسفي، بل أدرك هؤلاء الفنانون من حقائق العالم ما لم يدركه الفلاسفة والعلماء إلا بعد ذلك بأزمان، وقديما قالوا: «إن الفن إرهاص للفلسفة.».
هذه حقائق واقعة في العالم لا يمكن إنكارها، وليس منهجها هو المنهج العلمي المعروف، فمن الخطأ الإيمان بالمنهج العلمي وحده، إن منهج هذه الفنون الاعتماد على الإلهام وصفاء النفس وتفتح القلب، وهو منهج صحيح أيضا كالمنهج العلمي، له دائرته وله سبحاته التي لا تنكر، والاقتصار على المنهج العلمي في فهم العالم كذي رجلين يتعارج.
على هذا المنهج أيضا جرى الذين ملأ قلوبهم الشعور الديني من أنبياء ومتصوفة صادقين؛ فهؤلاء قد أدركوا - بما لهم من إلهام - من حقائق العالم وخالقه ومحركه ما لا يقل شأنا عما أدركه العلماء بمنهجهم، وأثروا في تاريخ الإنسان ما لا يقل عما أثره العلم، وإن هذا الإلهام وسيلة صحيحة من وسائل الوصول إلى الحق كما أن التجربة والملاحظة وسيلتان كذلك، ولكل دائرته ولكل اختصاصه، نعم قد يكون الإلهام في بعض النفوس خداعا وكذبا، وقد تصعب التفرقة بين ما هو إلهام وما هو مجرد خيال؛ ولكن كل وسيلة من الوسائل حتى الوسائل الحسية قد تفسد فلا توصل إلى الغرض، وهذا لم يقدح في الوسائل السليمة، فكما أن هناك شاعرا مزيفا، وموسيقيا ملهما وموسيقيا مصطنعا، كذلك هناك نبي ومتنبئ، ومتصوف ومجنون.
إنا إذا أردنا أن نصل إلى حقائق العالم، إلى أقصى ما يمكن الوصول إليه من حقائق العالم، وجب أن نستخدم كل ما نستطيع من ملكاتنا، وليست ملكات الإنسان مقصورة على القوة العقلية، فلديه الشعور ولديه الإرادة، فلم يستخدم القوة العقلية وحدها وهي آلة العلم ولا يستخدم الشعور أيضا وهو وسيلة أخرى من وسائل المعرفة؟ وقد أنصف المتصوفة فسموا نتيجة استخدام المنطق «علما» وسموا نتيجة استخدام الشعور والذوق والكشف «معرفة»، وسموا الأول عالما والثاني عارفا، وقد دلت التجارب على أن الإنسان في هذه الحياة - مهما قوي عقله، ومهما آمن بعلمه - لا يسيره عقله أو علمه فقط، وإنما يسيره كذلك شعوره، وهو يحكم على كل مظاهر الحياة وعلى الأعمال، ويرسم خطته في الحياة ويحكم على غيره في تصرفاتهم بمقتضى عقله وشعوره لا بعقله وحده، وهو في ذلك ليس مخطئا، وإنما هو مسير في ذلك بحكم طبيعته وفطرته، ومعنى هذا أن الإنسان يدرك حقائق العالم بعقله وشعوره معا، ويستعمل لهذا منهجه وذلك منهجه ولا محيد له عن ذلك، وأدرك هذا المعنى قوم من صفوة العلماء فسمحوا لعقلهم أن يجول في دائرة العلم إلى أقصى حد ممكن، وسمحوا لمشاعرهم ودينهم كذلك أن تجول في دائرتهما، واستفادوا من قوة عقلهم وعلمهم، فكبحوا من مشاعرهم الجامحة، ولم يسمحوا لدينهم أن يقيد مجال علمهم، كما استفادوا من قوة مشاعرهم فوسعوا ضيق نظر العلم، وكسروا من حدة غروره.
ومهما قال علماء النفس في وحدة القوة النفسية في الشخص، فهناك من شئون الحياة ما يتطلب إعمال الإرادة، ومنها ما يتطلب الشعور، ومنها ما يتطلب العقل، ثم هذه الملكات موزعة على الناس توزيعا عجيبا، فمنهم قوي الإرادة ضعيف العقل، ومنهم قوي العقل ضعيف الشعور، ومنهم ضعيف العقل قوي الشعور؛ وقديما رمزوا للعقل بالرأس وللشعور بالقلب، فمن قوى رأسه كان أقرب في الحياة للمنهج العلمي، ومن قوى قلبه كان أقرب للمنهج الشعوري والديني، والفني؛ وإذ كان في العالم ما يواجه كل ملكة من هذه الملكات الثلاث فليس من العقل أن نتطلب حقائق العالم بقوة العقل وحده ونشل سائر الملكات، وإنما العقل أن نستعمل كل ملكاتنا في إدراك حقائقه، كل في اختصاصه، كما تدرك مظاهره بحواسنا، كل حاسة في اختصاصها.
فرجال العلم لهم أن يستكشفوا ما شاءوا من عجلة العالم، ويلاحظوا ويجربوا ويبرهنوا ما شاءوا؛ ولهم تمام الحرية فيما يبحثون، والفنانون لهم أن يستكشفوا من جمال العالم، ويستلهموه ما شاءوا، وينقلوا من صفاته وجماله وإلهامه ما لا يقل شأنا عن مستكشفات العلماء، والأنبياء والمرسلون والمتصوفة، يبلغون من إدراك محرك العالم وقيم معنوياته ما يفوق مستكشفات العلم وإلهامات الفن. •••
ولست أرى سببا جوهريا يحمل على هذا العراك العنيف بين العلم والدين إلا تعصب رجال العلم في دعواهم أن علمهم يختص بكل شيء، يقدر على حل كل عقدة، وأن ليس وراء العلم مطلب، ولا غير دائرته دائرة، وإلا تعصب رجال الدين في عدم إيمان بعضهم بالعلم في دائرته، وعدم تفرقة بعضهم بين ما هو أساس في الدين وما هو على هامشه، وجمود بعضهم على أقوال الأقدمين كأنها وحي منزل.
فإن زال كل هذا من الطريق لم يكن صراع، وإنما كان تعاون، فالعلم يكمل الدين والدين يكمل العلم، وكلاهما يكشف عن قسم من حقائق هذا العالم، وكلاهما غذاء صالح لملكات الإنسان المختلفة المتنوعة، حتى تتعادل ملكاته كلها وتتوازن وتسير إلى غايتها؛ فالعلم الحق والدين الحق كلاهما غايته حب الحقيقة، وإن اختلف منهجاهما ووسائلهما، وكلاهما يصل بالإنسان إلى كماله، وإلى فهم ما يحيط به، هذا في ماديته، وهذا في روحانيته.
الفصل الرابع والعشرون
الإيمان بالله
يحكى أن رجلا ما زال يمعن في الشك حتى وصل به إلى الإلحاد، فحدث يوما صديقه بما ساوره من شكوك وما كان من نتيجتها من إلحاد.
فقال له صديقه: ما أظنك ملحدا؛ لأني أرى فيك ملامح إيمان:
فأكد له الرجل إلحاده.
وما زال الصديق ينكر، والرجل يؤكد حتى استفز الملحد الغضب، فصرخ قائلا: «والله العظيم إني ملحد».
هذه القصة تمثل ما ركز في طبيعة الإنسان من إيمان بإله، مهما انحرف العقل وطغى المنطق، ولهذا نرى كثيرا من العلماء قد كفرت عقولهم وآمنت قلوبهم، قد تختلف صور الإله باختلاف عقلية الأمم واختلافها في البداوة والحضارة، والعلم والجهل؛ ولكنها كلها تشترك في النزوع الفطري إلى إله له القوة والسلطان، وبيده الأمر.
لقد جاءت الثورة الفرنسية فرأت ما فعله رجال الكنيسة من اضطهاد العقل، وغلول الفكر، والتدخل فيما ليس من شأنهم، وإظلام الحياة حولهم، فثار رجال الثورة عليهم وعلى دينهم، وأعلنوا أنهم يريدون إلغاء الله، ولكن ماذا كان؟ هدأت الثورة، وخمدت النار، ورجع الناس إلى ربهم، ولم يلغ الله؛ ولكن ألغيت تعاليم الثورة في هذا الشأن؛ لأنها ضد طبيعة الإنسان.
وحاول بعض رجال الثورة في تركيا إلغاء الدين وإلغاء عبادة الله، ثم ذهبت دعوتهم مع الريح، وذهبوا هم وبقي الدين، وبقي الناس مع الدين.
وجاءت الثورة الروسية أول أمرها داعية إلى إلغاء الله، وإلغاء الحرية، وإلغاء فكرة الخلود؛ ثم ما لبث الدين أن عاد، تغير شكله وبقي جوهره، وذهب تركبه وبقيت بساطته، وعلى كل حال فهو الدين، وهو الله. •••
ولكن ما الذي لفت الإنسان إلى الله؟
لفته أولا شعوره، والشعور جزء هام من تكوينه، ومصدر صحيح من مصادر معارفه، وعليه يعتمد في كثير من شئون حياته، فما الصداقة، وما الأبوة والأمومة، وما الحب والكره، وما الإحسان والإنسانية لولا الشعور، ولو انعدم الشعور لكانت حياتنا جافة لا طعم لها، بل لم تكن حياة أصلا؛ فالشعور بالله جزء مكون لحياتنا كسائر ما ندرك بالشعور.
ثم اهتدى إليه العقل بعد ما اهتدى إليه الشعور.
لقد كان من أهم ما استكشفه الإنسان إدراكه أن العالم وحدة ، وأنه يتبع نظاما في منتهى الدقة يدركه الإنسان لأول وهلة في تعاقب الليل والنهار، والصيف والشتاء، وحركات الشمس والقمر، ثم كلما زاد تعمقه في دراسة الطبيعة ازداد إيمانا بهذا النظام ودقته؛ فإذا تبين في شيء ما فوضى أدرك فيما بعد أن ذلك يعود إلى جهله بقوانينه لا حاجته إلى النظام؛ وأكثر الناس إيمانا بالنظام في فرع من فروع العلم علماء ذلك الفرع، فالفلكيون أشد الناس إيمانا بنظام الكواكب، وعلماء الحيوان في الحيوان، وعلماء النبات في النبات، وعلماء وظائف الأعضاء في وظائف الأعضاء، وأطباء العيون في العيون، وهكذا، كل يدرك أتم نظام وأدقه في فرعه؛ والفيلسوف يدرك ذلك في العالم كوحدة، بل يدرك أنه لولا نظام ناحية من نواحي العالم ما كان لها علم، فالعلم معناه جملة من القوانين المنظمة بجانب من جوانب الحياة، كالنبات والحيوان والفلك، حتى الجسم في مقاومته المرض يفعل الأعاجيب في نظامه، ولولا ذلك ما كان طب؛ ثم كل جزء من أجزاء العالم مرتبط بأجزائه الأخرى، يخضع هو وهي لنظام عام كعلاقة الخلية في الجسم بالجسم كله؛ فالعالم حروف هجاء ترتبط ألفه ببائه ارتباطا قريبا، وألفه بيائه ارتباطا بعيدا، وكلها تكون نظاما واحدا، وتخضع لقوانين واحدة، حتى إن العالم الدقيق النظر لو تعمق في دراسة جزء من أجزاء العالم أعانه ذلك على فهم سائر أجزائه لشبه القوانين ووحدة النظام، وبلغ من دقة نظامه أنه لولا نظامه ما وجد.
وبعد فإذا رأينا آلة تسير جزمنا أن وراءها محركا حركها، وعقلا دبرها؛ وإذا رأينا إنسانا يعمل ويتحرك ويتصرف جزمنا أن فيه عقلا يدبره ويصرفه، فإذا فارقه العقل فارقه العمل والتحرك والتصرف، فكيف يسير هذا العالم وفق هذا النظام الذي رأينا ولا يكون له عقل يصرفه وروح ينظمه.
إن الله عقل العالم وروحه، وهو للعالم كعقلنا فينا، وقد صدق الأثر: «إن الله خلق آدم على صورته». •••
أعجب ما في العالم عقل الإنسان، ولعل أعجب ما فيه أنه استطاع أن يدرك عجائب العالم، واستطاع أن يتجاوب مع عقل العالم الذي هو وليده وظله.
نحن بين اثنتين: إما أن نكون - كجزء من العالم - خلوا من العقل والروح والغرض، والعالم كذلك مادة جامدة لا روح لها ولا مدبر لها، ولا غرض لها، أو أن تكون لنا روح وعقل وغرض، وللعالم روح وعقل وغرض، تتجاوب روحنا مع روحه، وتتحدد أغراضنا بأغراضه، والأول الكفر، والثاني الإيمان؛ فإن حكمت بعقلك فقد آمنت بعقلك، وآمنت تبعا لذلك بعقل العالم؛ وهو الإيمان.
وكما أحكم «عقل العالم» تدبير العالم ونظامه، كذلك أشع عليه من جماله، فالعالم مغمور بالجمال في صغيره وكبيره ودقيقه وجليله، في السماء والأرض، في النجوم بضيائها ولمعانها، في السحاب المسخر بين السماء والأرض، في عظمة البحار، في جلال الجبال، في شروق الشمس وغروبها، في الطير يطير في السماء، في السمك يغوص في الماء، في الحركة والسكون، في الأشكال والألوان.
الطبيعة جميلة في كل جزء من أجزائها، وأجمل من أجزائها جمال كلها، فليس الكل يساوي الأجزاء، فجمال أجزاء الطائرة مفرقة ليس كجمال الطائرة كلها طائرة، ولا جمال أجزاء الإنسان كجمال الإنسان كلا، إن الطبيعة في جمالها ككل تسحر العين، وتأخذ باللب، وتملأ القلب روعة، حتى ليشعر في وقت صفائه أن هذا فوق أن يوصف، والألفاظ أعجز من أن تعبر عنه.
وكما كان أكبر قيمة للإنسان عقله الذي استطاع به أن يدرك عقل العالم وتدبيره ونظامه، كذلك من أكبر قيمته شعوره الجميل الذي استطاع به أن يدرك جمال العالم، ويتجاوب معه، ويأنس به؛ قد يكون في بعض اجزاء العالم قبح، ولكنه قبح لطيف لولاه ما استطعنا أن ندرك جمال الجميل.
إن كان تدبير العالم وإحكام نظامه لا بد أن يصدر عن عقل للعالم منظم، فجماله الذي يشع فيه في دقة لا بد كذلك أن يصدر عن خالق منسق.
لقد زعم بعض أصحاب مذهب النشوء والارتقاء أن الجمال نشأ عن قانون الانتخاب الطبيعي وبقاء الأصلح، وأن الجمال في الجنس منحة الطبيعة لإغراء الجنس، كالأنثى تتبرج للرجل حفظا للنوع، فإن كان هذا صحيحا فما تفسير جمال الجماد وجمال المناظر الطبيعية ؟ •••
هذا هو الجانب الإيجابي في الاعتراف بالله، وهناك الجانب السلبي، وهو لا يقل عنه قوة وإقناعا.
لقد تقدم العلم وتقدم، واعتز بنفسه وملأه الغرور، ومع هذا كله لم يستطع أن يفسر إلا السطح وإلا المظاهر، ما العلة الأولى للخلق؟ من الذي بعث الحياة في الخلية الأولى للعالم؟ كيف تفسر ملايين الحقائق في عجائب الطبيعة وفي عجائب أنفسنا؟
إن أقصى ما يصبو إليه العلم أن يعرف نصف الحقائق، وهو الظاهر والإجابة عن «كيف»، أما النصف الآخر - وهو أقوم النصفين - وهو باطن الحقائق، والإجابة عن «ما هي» لا كيف هي، فعاجز كل العجز عنه لا يستطيع أن ينبس فيه بحرف.
إن من يؤمن بالعلم وحده وينكر ما وراءه، ومن يؤمن بالقوانين العلمية وينكر ما عداها لا يؤبه بقوله حتى يقول: إني أستطيع أن أفسر العالم من ألفه إلى يائه، فأما أن يفسر الآلة ولا يفسر محركها، ويفسر تطور الحياة وتدرجها ولا يفسر كيف وجدت لأول عهدها بالوجود فضرب من السخف، أو هو على أحسن تفسير كقول الطفل لا أعلم؛ لأنه يريد أن يتعلم.
إنكار العلة الأولى للعالم وعقل العالم الذي يدبره يلقي على عاتقنا عبئا لا نستطيع حمله.
إن العلم في حقيقة أمره يزيد عجائبنا ولا يحلها، هذا الفلكي بعلمه ودقته وحسابه ورصده وآلاته ماذا صنع؟ أبان بأن ملايين النجوم في السماء بالقوة المركزية بقيت في أماكنها أو أتمت دورتها، كما أن قوة الجاذبية في العالم حفظت توازنها ومنعت تصادمها؛ ثم استطاعوا أن يزنوا الشمس والنجوم ويبينوا حجمها وسرعتها وبعدها عن الأرض، فزادوا عجبا، ولكن ما الجاذبية وكيف وجدت وما القوة المركزية وكيف نشأت؟ وهذا النظام الدقيق العجيب كيف وجد؟ أسئلة تخلى عنها الفلكي لما عجز عن حلها؛ وأبان الجيولوجي لنا من قراءة الصخور كم من ملايين السنين قضتها الأرض حتى بردت، وكم آلاف من السنين مرت عليها في عصرها الجليدي، وكيف غمرت بالماء، وكيف ظهر السطح، وأسباب البراكين والزلازل، وكذلك فعل علماء الحياة في حياة الحيوان، وعلماء النفس في نفس الإنسان ؛ ولكن هل شرحوا إلا الظاهر، وهل زادونا إلا عجبا؟ سلهم كلهم بعد السؤال العميق الذي يتطلبه العقل دائما وهو: من مؤلف هذا الكتاب المملوء بالعجائب التي شرحتم بعضها وعجزتم عن أكثرها؟ أتأليف ولا مؤلف، ونظام ولا منظم، وإبداع ولا مبدع؟ من أنشأ في هذا العالم الحياة وجعلها تدب فيه؟ من عقله الذي يدبره.
إن النشوء والارتقاء لا يصلح تفسيرا للمبدع، وإنما يصلح تفسيرا لوحدة العالم ووحدة المصدر، وكلما تكشفت أسرار العالم وتكشفت وحدته ووحدة تدرجه ووحدة نظامه وتدبيره كان الإنسان أشد عجبا، وأشد إمعانا في السؤال، وليس يقنعه بعد كشف العالم عن أسرار العالم، وعجزه عن شرحها وتعليلها، إلا أن يهتف من أعماق نفسه: «إنه الله رب العالمين».
الفصل الخامس والعشرون
الحياة الأخرى
في الناس قديما وحديثا، فيما قبل التاريخ وما بعد التاريخ، في البدو والحضر، في الأصقاع المختلفة حيث لم تكن هناك صلة بين الناس، ولا تبادل في الأفكار والمشاعر، في الإنسان الساذج الجاهل، وفي الإنسان المعقد العالم؛ في كل أولئك شعور خفي يشبه الإلهام بأن وراء هذه الحياة الدنيا حياة أخرى تتحقق فيها العدالة وقد فقدت في الدنيا، وينال فيها الإنسان جزاء أعماله ونياته، من غير أن تفسد الحكم رشوة قاض، أو بلاغة محام، أو تحيز لطبقات، أو لشتى الاعتبارات؛ هو نوع من الإلهام يشبه إلهام النبات في امتصاصه ما ينفعه وتجنب ما يضره، وإلهام الطير في رحلاته في الوقت المناسب، وعودته إلى وطنه في الزمن الملائم، وإلهام الطفل حين خروجه إلى هذا العالم أن يلتقم ثدي أمه، وأن يبكي إذا عراه ألم، وأن يبتسم بعد إذا سر، وأن ينفعل بالرضا والغضب، ونحو ذلك من شتى العواطف والغرائز.
حتى أكثر الذين ينكرونه بألسنتهم وبمنطقهم يشعرون أن الإلهام باليوم الآخر متغلغل في أعماق نفوسهم، كامن في خفايا غرائزهم، لا يلبث أن يظهر إذا اشتدت الشدائد وتحرجت الأمور ووقعت الكوارث، فتراهم ينكرون عقولهم ويؤمنون بغرائزهم، ويحسنون أعمالهم، ويكفرون عن كفرهم، ويألمون لأنكارهم غرائزهم.
بهذه العقيدة في الحياة الآخرة أصبح عمر الإنسان طويلا لا حد لطوله، وبهذه العقيدة أضاف إلى حياته المادية المحدودة حياة روحانية غير محدودة، وبهذه العقيدة شعر أنه أرقى من كل الكائنات المادية، ومن كل النباتات والحيوانات القصيرة المدى، وبهذه العقيدة شعر أن نفسه الخالدة أرقى من جسمه الفاني، وبهذه العقيدة تشكل سلوك الإنسان وعليها أسس حضاراته؛ فحضارة قدماء المصريين والآشوريين والبابليين ما كانت تكون لولا العقيدة في الآخرة، وعلى هذه الحضارات بنيت الحضارات المتتابعة على اختلاف أشكالها وألوانها.
أفمع هذا كله يمكن أن يكون هذا الإلهام كاذبا أو خادعا؟
لقد جاهر بهذا قوم من كل صنف وكل ملة، فقديما قال الشاعر:
حياة ثم موت ثم نشر
حديث خرافة يا أم عمرو
وحكى الله في القرآن عن قوم قالوا:
ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر .
وجاء بعض العلماء في العصر الحديث فشايعوهم في أفكارهم، ونادوا بأن لا شيء إلا المادة، ولا حياة إلا هذه الحياة، وأن الفكر والشعور والعواطف نتيجة المادة وحدها وإفرازها، كما تفرز الكبد الصفراء، وكما تفرز الكلية البول؛ والأفكار والإرادة والعواطف من إفراز المخ، ويتوقف مقدارها ونوعها على مقدار المخ وعمله وتركيبه؛ وكل شيء في الحياة مادة أو مظهر من مظاهرها، ولا شيء يسمى النفس، فلا معنى لخلودها، وإنما هو من نسج الخيال، وجاراهم في ذلك بعض علماء النفس، فأخذوا يحللون الشعور بالحياة الأخرى، ويرجعونه إلى عناصره الأولية؛ ورأوا - على طريقتهم - أن هذا يرجع في الإنسان إلى «مركب النقص»، فلما رأى ضعفه بالنسبة لقوة الطبيعة حوله اخترع ما يكمل نقصه، فادعى بأنه الخالد وهي فانية، الحي أبدا وهي مائتة، وأوحي إليه بهذا الخيال - على رأي بعضهم - ما رأى من طير يطير بأجنحته إلى السماء ويغيب عن الأنظار ثم يعود إلى عشه كما بدا، قالوا: وإن هذا العالم مملوء بالشرور والكوارث والظلم، ناقص من كل وجه، والإنسان طموح بطبعه، حاول أن يصلح العالم حسب آماله وطموحه، فأدرك القليل وعجز عن الكثير؛ فلما أعياه إصلاح الواقع لجأ إلى الخيال، فتخيل الفلاسفة مدنا مثالية كالمدينة الفاضلة وما سموه «يوتوبيا»، وتخيل الجمهور عالما آخر مثاليا هو الجنة، وهكذا استمروا في قولهم وتعليلهم. •••
أما أن العالم مادة فقط فقول لا يستسيغه العقل؛ فكيف تكون الأفكار والإرادة والعواطف نتيجة للمادة الكثيفة الجامدة! وكيف يكون الفكر الذي يشعر بشخصيته نتيجة لمادة لا تشعر بشخصيتها؟ وكيف تكون المادة التي ينصب عليها الفكر والشعور هي بعينها المفكرة الشاعرة؟ وكيف تكون المادة والعقل والفكر شيئا واحدا وصفاتها مختلفة تمام الاختلاف؟ بل كيف تكون المادة المادية علة للفكر والعقل غير الماديين؟ إن القول بأن المادة كل شيء يعجز عجزا تاما عن تفسير ظواهر العالم، فكيف تنشأ الحركة عن المادة؟ وكيف ينشأ الحس عن الحركة؟ وإن وجود علاقة بين شيء وشيء كالعلاقة بين المخ والتفكير لا يستلزم العلية، وإن المخ هو مكان الفكر لا علته.
إن كان ذلك كذلك فلا بد أن يكون هناك شيء وراء المادة، ووراء الجسم، وهو الروح. •••
ثم إن العلم الحديث أثبت أن المادة لا تنعدم، فكل ذرة في هذا العالم لا تفنى، ولكن تتحول من حبة الرمل وقطرة الماء إلى أعظم مخلوق؛ فالشمعة تحترق وتبدد الظلام وتتبدد هي أيضا، ولكن الكيمياوي يستطيع أن يثبت أن عناصرها لم تفن وإنما تفرقت في الجو، وهي موجودة في الهواء، ولكن في وضع آخر، تغير شكلها ولكن لم يتغير جوهرها، وليست مادة الشمع وحدها لا تفنى، بل طاقتها وقدرتها على الاحتراق والإضاءة لم تفن كذلك، بل تغير وضعها وشكلها.
هكذا قرر العلم الحديث، وهكذا أثبتت التجارب؛ وعلى ذلك فموت الأجسام ليس إلا تغيرا لحالات الجسم، وسيبقى الجسم في هذا العالم في أشكال أخرى؛ فقد تكون ذرات جسم قيصر - كما قال شكسبير - طينا تسد به ثلمة، أو كما قال عمر الخيام: وعاء تعتق فيه الخمر أو نحو ذلك، ولكن لا فناء. •••
إن كان العالم ليس مادة فقط، وإن كان العالم مادة وروحا، وإن كان العلماء يقررون أن المادة لا تفنى، وأن الطاقة لا تفنى، فكيف تفنى الروح وهي أصلح من المادة للبقاء ، وتكوينها وصفاتها أنسب للدوام، وهي أرقى ما تمخض عنه العالم؟
إن الروح هي التي تمس المادة فتدب فيها الحياة، إنها تحل في الجسم فيعقل ويفكر ويتذكر ويشعر وتلعب عواطفه، وتفارقه فيكون مادة جامدة كسائر المواد؛ فإذا جاء الموت تحلل الجسم وذهب يلعب في العالم دوره، فيكون بعضه غذاء لشجرة، وسمادا لزرع، وهواء يستنشق، وطينا تسد به ثلمة، وجرة لخمر، وركنا في بناء، وترابا يوطأ بالأقدام، ومزهرا يعجب الناظرين، وزهرة يتغزل فيها الأديب، وطعاما لدود أو حوت، وفسفورا تشعل به اللفافة، وما شئت من صنوف الخلق مما يجمل ويقبح، ويبعث الإعجاب والاشمئزاز، والحب والكره، ويدور مع العالم دورته ويكون جزءا في ساقيه «جحا» التي تملأ من البحر وتصب في البحر؛ وتبقى الروح حية خالدة، تبقى فيما قدمت من عمل، وتحيا فيما خلفت من أثر، وتلقى ربها حامدة لخيرها، نادمة على شرها.
ما أتفه الحياة إن لم يكن خلود! وما أضيق الأمل إن لم يكن غير هذه الحياة! وما أضيع العدالة إن فقدت في الدنيا ولم تكن آخرة.
لا، لا، ليس إلهام الإنسان بالحياة الأخرى أكذوبة، ولا شعوره بها خدعة، إنما هو وحي صادق من طبيعته، وشعور حق يتغلغل في غريزته.
الفصل السادس والعشرون
مستقبل الدين
ما أثر هذه الحرب العالمية في الدين؟ ما نوع الموجة التي ستسود العالم بعد الحرب؟ أموجة دين أم موجة إلحاد؟ وهذه المصائب العظمى - التي لم يمر على عالمنا مثلها - ما أثرها في الشعور الإنساني، أتقربه من الله أم تبعده عنه؟
هذه الأسئلة وأمثالها شغلت بعض كبار العقول في أوروبا، من رجال دين ورجال اجتماع وعلماء نفس، وأجابوا عنها إجابات مختلفة، وتنبئوا بالمستقبل تنبؤات متناقضة، فذهب فريق إلى أن العالم ستدينه أهوال الحرب؛ لأن أوروبا - قائدة العالم - عبدت العلم فأضلها، وقدسته فكانت الويلات نهايتها، قد لا تكون هذه الكوارث آفة العلم؛ لأن العلم آلة ذات حدين تستعمل في الخير والشر على السواء، ولكن كان ينفع العلم لو أن الإنسان نمى شعوره كما نمى علمه؛ وأحيا قلبه كما أحيا رأسه، أما أن يعنى الإنسان بعلمه ويترك قلبه، ويستكشف مجاهل العلم ولا يستكشف مجاهل القلب، ويبني حياته اليومية ويؤسس سياسته العامة على العلم وحده دون القلب، ويتقدم في العلم خطوات واسعة حتى ليكون الفرق بين علم اليوم وعلم الأمس شاسعا، ثم لا يتقدم في قلبه قيد شعرة بل قد يتأخر، فاختلال في التوازن نشأت عنه هذه الكوارث؛ كمن يمرن إحدى عينيه ويهمل الأخرى فتعمى، فقد خلق الإنسان ولا ينتظم حاله إلا بالتوازن، فإذا اختل توازنه شقي.
قالوا: سيدرك الإنسان هذه النتائج كلها وأكثر منها بمحنته في هذه الحروب، وستتكشف له عللها وأسبابها، وسيرى أن الدواء في التوازن، فينمي قلبه وشعوره كما نمى رأسه وعلمه، وإذ ذاك يلجأ إلى الدين، فهو غذاء القلب، وسيرى أن عبادة العلم والمادة تكشف عن مآس مرعبة، وأن عبادة اللذة أفقدت اللذة، فلا ملجأ إلا إلى الدين، إلى الله، إلى رحمته، إلى عفوه، إلى أن يسكب الدمع ليغفر له غفلته، ثم يفتح صفحة جديدة لحياة جديدة.
قال بعضهم: ولكن سوف لا تعود أوروبا إلى الدين القديم بكل جملته وتفصيله، فستدخل الحرب التعديل على تفاصيل الدين، كما ستدخله على كل النظم الاجتماعية، مسترشدة بأخطاء الماضي، سيكون الدين منبعا لعواطف الوطنية، سينزع الغرائز الوحشية الظامئة إلى الدم من قلب الإنسان ليحل محلها السلام العام، والأخوة العامة: سوف ينكر الدين الجديد الشهوة في ملك الجار الضعيف، واغتصاب الأمم غير المسلحة والشعوب الراغبة في السلام، إن الدين في شكله الحاضر قد فشل؛ لأنه قوى روح الشر، وأعان الظالمين على ظلمهم، وعلى أقل تقدير أفقد رجال الدين قدرتهم على قمع أتباعهم، حتى أصبحت أوروبا كلها مجزرة بشرية، ثم سرت منها العدوى إلى العالم كله بباعث الكره والبغض وحب الدم وحب الانتقام، ثم تقام الصلوات من كل جانب لنصرة جانبه لا لنصرة الإنسانية وفكاكها من أسر الوحشية، إن العالم كله أصبح الآن بركانا هائجا، والإنسان يحصد حصدا بالملايين، وكل يشعل النار، وكل يحول ما وصلت إليه رمادا، وكل يقلب الجمال قبحا ، وتعاليم الدين الحاضرة عاجزة عن أن تقف عبثهم، وتصد كيدهم.
إن مستقبل الدين لا لهذا التعاليم، ولكن لتعاليم أخرى تتفق وروح الدين الأساسية، تعاليم مؤسسة على الحق، على أخوة الإنسان للإنسان، وإن اختلف في الجنس والدم واللغة والوطن والدين، على انسجام الناس بعضهم وبعض، وتبادل المنافع ودفع المضار، على عدم التحزب لأي جانب مادي ، على عدم إضاعة الزمن في بذر الحقود بين الشعوب لما بينهم من خلاف في الأقاليم، أو في العقيدة، أو في اللغة.
هذا هو الدين سيسود الناس، وهو الدين الذي ينسجم مع إرادة الله وفعله، فهو خالق الناس جميعا، وهو واهبهم نعمه على اختلاف جنسهم ومللهم وألسنتهم وألوانهم، مجري الهواء يستنشق منه الناس جميعا، ومخرج النبات في كل أرض يأكل منه الناس جميعا، ومحرك الشمس والقمر والنجوم تبعث ضياءها وحرارتها على الناس جميعا، وواهب العقول والشعور والإرادة للناس جميعا، فما بال دين الله لا يتبع سنة الله، فينشر بين الناس جميعا الأخوة والمحبة والعدل والتعاون والتواصي بالحق والتواصي بالصبر؟ •••
وتوقع متنبئون آخرون من الكتاب عكس ذلك تماما.
قالوا: إن هذا التخريب في العالم الذي لا حد له، والضحايا بالملايين، والويلات تصب على المحاربين وغير المحاربين، والأيتام الذين فرق الموت بينهم وبين آبائهم، والمصائب التي لا يحصيها عد، ولا تقف عند شكل دون شكل، كل هذه ستثير الشكوك في نفوس الناس فيصرخون من أعماق نفوسهم: «أين رحمة الله؟» وأين حبه لخلقه؟ وأين الحكم العادل الذي يحكم به عباده؟
ستهز هذه الأمثلة وأمثالها نفوس الناس فينكرون عقلا مدبرا، وتقدما مستمرا، وحاكما يوجه العالم لغاية، وستبعث في النفوس الشك الذي يسلم إلى الإلحاد، وسيزيدون إمعانا في المادية، وسينصرف الجيل الجديد من الشبان - وقد رأوا هذه المناظر وسمعوا هذه الأقوال - عن أن يلتفتوا إلى بيوت العبادة أو إلى شعائر الدين، وسيكون شعارهم: «دعنا نأكل ونشرب، ونلهو ونلعب، فغدا يطوينا الموت، ويلفنا الفناء» وفي مثل ذلك يقول طرفة:
ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى
وأن أشهدت اللذات، هل أنت مخلدي؟
فإن كنت لا تستطيع دفع منيتي
فدعني أبادرها بما ملكت يدي
سيقولون: إن كان الله يحب خلقه فأين الحب والوالدان الشيخان العاجزان يفقدان أولادهم في هذه الحرب؛ والفتاة الناضرة التي تستقبل الحياة تفقد زوجها، والأم تفقد عائلها وحولها طفلها الرضيع وأولادها البائسون، والأسرات لم تشترك في القتال تنزل عليها المدمرات فتأتي عليها، فأين الرحمة؟
وإن كان الله قادرا فلم لم يحبس الأرواح الشريرة في قماقم؟ ولم لا يحصد أرواح باذري الشر والفساد، ومثيري الفتن والحروب؛ ويترك من عداهم فتستريح الدنيا ويسعد الناس؟
من أجل هذا يتنبئون بكفر صارخ، وإلحاد شامل. •••
ولكن ما أظن هذه النبوءة صحيحة، فالإنسان من قديم يرى هذه الكوارث، وتثور فيه هذه الشكوك، وهو بعد لم يفقد إيمانه.
كل ما في الأمر أن الإنسان مع ما ناله من رقي في العقل والتفكير والشعور، سيعدل نظره إلى الله، وبدل أن يفقد إيمانه لهذه الاعتراضات يصحح تصوره لله، ويتجلى له خطؤه في تصوره القديم.
إن منشأ الغلط في تصورالله على هذا النحو هو تشخيصه، وإسباغ صفات عليه تشبه صفاتنا، ونسبة عواطف إليه تشبه عواطفنا: من حب وكره وفرح وحزن ورحمة وانتقام، نعم قد وردت هذه الألفاظ في كتب الأديان، ولكن ألجأها إلى ذلك قصور لغة الإنسان وعجزها عجزا تاما عن أن تصف ما لا يشبه الإنسان ومن ليس كمثله شيء، فالله ليس مشخصا ولا هو إنسان، ولا له عواطف الإنسان، ولا يحب ويكره بالمعاني التي يشعر بها الإنسان، فإذا قلنا: إنه يسمع ويرى فلسنا نعني أن له حواس كحواسنا؛ وإذا قلنا: يحب ويكره، ويرحم وينقم، فلسنا نريد أنه يعتريه انفعال كانفعالنا، ولكن هي اللغة العاجزة، واللغة المحدودة بحدود الإنسان.
إن الله يحكم العالم ويدبره بقوانين عامة واسعة، لا بأحكام جزئية ضيقة؛ خلق الخلق وسيره على قوانين عامة، فمن اعترضها اكتسحته؛ وضع هذه القوانين وهو عالم بماضينا وحاضرنا ومستقبلنا، وعالم بدنيانا ودنيا غيرنا، وعالم بكوكبنا والكواكب الأخرى حولنا، فمن ضيق النظر أن نطالب الله أن ينظر إلى جزئيتنا في بيتنا، وإن تعارضت مع القانون الكلي، إن البستاني يقلم أشجاره ويقص حشائشه؛ لأنه ينظر إلى البستان كلا، ولا اعتراض عليه؛ إذ يضحي بالجزئي للكلي؛ والأرض مرتبطة بالشمس، ونمو الشاة متوقف على نمو النبات، وحياة الإنسان مرتبطة بحياة النبات والحيوان، وكل هذه مرتبطة بقوانين عامة، وهذا ما أدركناه اليوم، وما لم ندرك أكثر مما أدركنا؛ أفليس يعد من السخف أن نعترض على حادثة جزئية؛ إذ كانت خاضعة لقانون عام يقرر المصلحة العامة؟ أفليس من السخف أن نعترض على امتداد حديدة معينة بالحرارة، وهذا قانون عام يقضي بتمدد الأجسام كلها بالحرارة، وهذا القانون العام مرتبط بقوانين أخرى عامة مثله أو أعم منه؟ فمن ينظر إلى موت ابنه وحده أو قتل أسرة بعينها أو موت ملايين من الناس في حرب من الحروب كمن يعترض على تمدد حديدة بالحرارة، نظر جزئي ضيق يعترض على نظر كلي شامل، فما جيل بالنسبة لملايين الناس؟ وما الأرض كلها لسائر العوالم؟ إن الناظر من سطح الأرض غير الناظر من قمة جبل، غير الناظر من طيارة، إن النبتة تشكو الدودة وهي تمتصها، والدودة تشكو العصفور وهو يلتقمها، والعصفور يشكو الصقر وهو يبتلعه، والصقر يشكو الإنسان وهو يصيده، والإنسان يشكو الموت يصيبه، والله من ورائهم محيط؛ لأنه أعلم بقوانينه الواسعة الشاملة.
إن الله ليس من صفاته الرحمة فقط، بل هو أيضا عادل حكيم منتقم، له كل هذه الصفات وأكثر منها، ولكل صفة مظهرها وتصرفاتها، فمن الخطأ أن تقاس كل المظاهر بالحب وحده، أو الرحمة وحدها.
إن للعالم غاية دبرها عقله: فلا بأس بالضحايا مهما كثرت للوصول إلى غايته نزولا على القوانين العامة التي تحكم العالم.
ولعل من قوانينه العامة منح الإنسان حريته في الإرادة، والجزاء الطبيعي الذي تنتجه أعماله، ومسئولية الإنسان عن أخيه الإنسان، كما تسأل خلية الجسم عن سائر الخلايا - إذن فلا حق من الشكوى ما دام هذا هو القانون العام الذي يتعادل مع قوانين العالم العامة. •••
وبعد؛ فلماذا لا تكون النبوءة أن هذه الحرب بويلاتها تعمم في الإنسان هذه الآراء، فيعدل من نفسه حسب القوانين العامة التي بثها الله في العالم حتى يلائم بينه وبينها، وينسجم معها، ويشعر بالعقوبة الطبيعية فيتجنب إحداث الجرائم، ويغير ما بنفسه من غرور بالقوة، واعتماد على المادة بعد أن تبين الفشل في الاعتماد عليها؛ ويصحح تصوره لله حسبما أشرنا، فيرى أن الموت إن كان يبعث الحياة فهو خير، وأن العقوبة إذا أصلحت الجاني فهي رحمة وهي حب.
نحن إلى هذا أميل، والله بالمستقبل عليم. •••
وإلى هنا تنتهي أحاديثنا في رمضان، وكل عام والقراء بخير.
الفصل السابع والعشرون
ابن الشبل البغدادي وأبو العلاء المعري
الشهرة حظ كحظ المال، غني جاهل، وفقير عاقل، وما ينهال انهيالا على من لا يستحق، وقد لا نعرف السبب، ومحروم بائس ولديه كل أسباب الغنى؛ كذلك الشهرة، مشهور لا نعرف لشهرته علة، ومغمور يستحق كل شهرة.
وهذا ينطبق على ابن الشبل البغدادي: أديب كبير، وفيلسوف حكيم، ضن عليه المترجمون فلم يرووا لنا أخباره، وضاع بين الأدب والفلسفة، فلم يشتهر شهرة الأدباء ولا شهرة الفلاسفة، لم أعثر له على ترجمة تشرح حياته إلا نحو خمسة أسطر في «معجم الأدباء» لياقوت الحموي، ومثلها في «طبقات الأطباء» لابن أبي أصيبعة؛ فهما يقصان علينا أنه كان حكيما فيلسوفا، وأديبا بارعا، وشاعرا مجيدا، وأنه ولد ونشأ ببغداد، وتوفي بها سنة 474، ثم رويا شيئا من شعره، وهذا كل ما قالاه وكل ما عثرت عليه بعد البحث، حتى لم يكف الناس أن يظلموه بتعفية آثاره فعمدوا إلى خير قصائده وأشهرها، التي مطلعها «بربك أيها الفلك المدار» فسلبوها منه ونسبوها إلى ابن سينا؛ وكذلك الدنيا «إذا أقبلت على أحد أعارته محاسن غيره، وإذا أدبرت سلبته محاسن نفسه».
كل ما عثرت عليه من شعره نحو مئة وخمسين بيتا؛ ولكن ليس الشعر بالعدد، ولا التقويم بالكمية، فقد يروى لشاعر بيت واحد يساوي دواوين، ولو أنصف الناس لعدوه شاعرا كبيرا، وقد يكون لشاعر ديوان في أجزاء وهي كلها لا تساوي بيتا، ولو أنصف الناس لأهملوه وأهملوا ديوانه.
ابن الشبل البغدادي - كما تدل عليه هذه الأبيات - شاعر ممتاز من جنس الشعراء القليلين الذين جمعوا بين الشعر والفلسفة، أمثال دانتي وملتن في الشعر الغربي، وأبى العلاء وعمر الخيام في الشعر العربي؛ ولكن الأخيرين رزقا الحظوة في شعرهما فسار ذكرهما في الناس، وعرفهما الشرق والغرب، وخمل ابن الشبل فجهل في الشرق والغرب.
كان ابن الشبل شاعرا حائرا حيرة أبي العلاء، كلاهما يبحث عن الحق بعقله فتضطرب الدلائل وتختلف الأعلام، فيصرخ بالشعر من حيرته، وكانا متعاصرين تقريبا، تأخرت وفاة ابن الشبل عن وفاة أبي العلاء بخمسة وعشرين عاما، فهذا شاعر حائر في بغداد، وهذا شاعر حائر في معرة النعمان: هل العالم خير أو شر؟ إن في العالم لذائذ ومسرات، فهل نستمتع بها أو نرفضها؛ ما الدين وما تعاليمه؟ ما القدر وكيف يتفق والثواب والعقاب؟ هذه الأسئلة ونحوها أثارها كل منهما، لا إثارة فيلسوف فحسب ولا شاعر فحسب، بل إثارة شاعر فيلسوف معا، ينظر كلاهما النظرة الفلسفية العميقة، ثم لا يخضع لنظم الفلسفة وعباراتها وترتيب مقدماتها ونتائجها وفصولها وأبوابها، ويوقع كلاهما أفكاره على النغمة الموسيقية الشعرية، مازجا عاطفته بفكرته وخياله بمنطقه، بل عندي أن ابن الشبل أصح شاعرية وأرق موسيقية، وأجزل أسلوبا من صاحبه أبي العلاء في اللزوميات، لقد أتعب أبو العلاء نفسه بالتزام ما لا يلزم، وبتظاهره بمعرفته الواسعة بمادة اللغة، أما ابن الشبل فسهل جار مع الطبع، لا يتكلف ولا يلتزم ما لا يلزم ولا يحب الغريب. •••
حار كلاهما في السماء ونجومها، والأفلاك ودورانها، هل تعقل أو لا تعقل؟
وهل هي مخيرة أم مسيرة؟ وهل تسير لغاية أو تخبط خبط عشواء؟ فأما ابن الشبل فقال:
بربك أيها الفلك المدار
أقصد ذا المسير أم اضطرار؟
مدارك قل لنا في أي شيء
ففي أفهامنا منك انبهار؟
وفيك نرى الفضاء وهل فضاء
سوى هذا الفضاء به تدار؟
وعندك ترفع الأرواح أم هل
مع الأجساد يدركها البوار؟
وأما أبو العلاء فقال:
استحي من شمس النهار ومن
قمر الدجى ونجومه الزهر
يجرين في الفلك المدار بإذ
ن الله لا يخشين من بهر
1
ولهن بالتعظيم في خلدي
أولى وأجدر من بني فهر
سبحان خالقهن لست أقو
ل الشهب كابية مع الدهر
لا بل أفكر هل رزقن حجى
نجسا يمزن به من الطهر
وقال:
العالم العالي برأي معاشر
كالعالم الهاوي يحس ويعلم
زعمت رجال أن سياراته
تسق العقول وأنها تتكلم
فهل الكواكب مثلنا في دينها
لا يتفقن فهائد أو مسلم؟
وكلاهما ناقم على العالم لم وجد؟ وما الغرض منه وما فائدته وقد امتلأ بالشرور وأفعم بالرزايا؟ فأما ابن الشبل فيقول:
ودهر ينثر الأعمار نثرا
كما للغصن بالورد انتثار
ودنيا كلما وضعت جنينا
غذاه من نوائبها ظؤار
2
هي العشواء ما خبطت هشيم
هي العجماء ما جرحت جبار
3
ويقول:
إنما نحن بين ظفر وناب
من خطوب أسودهن ضراء
4
نتمنى وفي المنى قصر العم
ر فنغدو بما نسر نساء
صحة المرء للسقام طريق
وطريق الفناء هذا البقاء
بالذي نغتذى نموت ونحيا
أقتل الداء للنفوس الدواء
ما لقينا من غدر دنيا؟ فلا كا
نت ولا كان أخذها والعطاء
راجع جودها عليها فمهما
يهب الصبح يسترد المساء
ليت شعري حلما تمر بنا الأي
ام أم ليس تعقل الأشياء
ويقول أبو العلاء:
وكأنما دنياك رؤيا نائم
بالعكس في عقبى الزمان تعبر
سر الفتى من جهله بزمانه
وهو الأسير ليوم قتل يصبر
ويقول:
أصاح هي الدنيا تشابه ميتة
ونحن حواليها الكلاب النوابح
فمن ظل منها آكلا فهو خاسر
ومن عاد منها ساغبا فهو رابح
ومن لم تبيته الخطوب فإنه
سيصحبه من حادث الدهر صابح
وكلاهما يعتب على آدم فعلته، ويحمله تبعة شقائنا في هذا الكون، فأما ابن الشبل فيقول:
فإن يك آدم أشقى بنيه
بذنب ما له منه اعتذار
ولم ينفعه بالأسماء علم
وما نفع السجود ولا الجوار
لقد بلغ العدو بنا مناه
وحل بآدم وبنا الصغار
فيالك أكلة ما زال منها
علينا نقمة وعليه عار
ويقول أبو العلاء:
خير لآدم والخلق الذي خرجوا
من ظهره أن يكونوا قبل ما خلقوا
فهل أحس وبالي جسمه رمم
بما رآه بنوه من أذى ولقوا ؟
وكلاهما يحار في علة الوجود وفي التكليف مع الجبر، فيقول ابن الشبل:
فماذا الامتنان على وجود
لغير الموجدين به الخيار
وكانت أنعما لو أن كونا
نخير قبله أو نستشار
ويقول:
قبح الله لذة لأذانا
نالها الأمهات والآباء
نحن لولا الوجود لم نألم الفق
د فإيجادنا علينا بلاء
ويقول أبو العلاء:
جئنا على كره ونرحل رغما
ولعلنا ما بين ذلك نجبر
ويقول:
ما باختياري ميلادي ولا هرمي
ولا حياتي فهل لي بعد تخيير
وكلاهما يحار في «البعث والنشور» فيقول ابن الشبل:
وقليلا ما تصحب المهجة الجس
م ففيم الأسى وفيم العناء؟
ولقد أيد الإله عقولا
حجة العود عندها الإبداء
غير دعوى قوم على الميت شيئا
أنكرته الجلود والأعضاء
وإذا كان في العيان خلاف
كيف بالغيب يستبين الخفاء؟
ويقول أبو العلاء:
أرواحنا معنا وليس لنا بها
علم فكيف إذا حوتها الأقبر؟
ويقول:
دفناهم في الأرض دفن تيقن
ولا علم بالأرواح غير ظنون
ويقول:
وقد زعموا هذي النفوس بواقيا
تشكل في أجسامها وتهذب
وتنقل منها فالسعيد مكرم
بما هو لاق والشقي مشذب
ولو كان يبقى الحس في شخص ميت
لآليت أن الموت في الفم أعذب
هذا إلى كثير من وجوه الشبه بينهما في الحيرة والنظرة الفلسفية للحياة، وتصوير ذلك كله تصويرا شعريا؛ ولكن شيئا واحدا جوهريا يخالف بينهما تمام المخالفة، ويجعل نظرتهما للحياة متغايرة؛ فأبو العلاء بطبيعة مزاجه وعاهته وفشله قال: إن الحياة باطلة فلأزهد فيها، وابن الشبل بحكم ظروفه التي لم ترو لنا قال: إن الحياة باطلة فلأنعم ما استطعت بها، مقدمتان متساويتان لنتيجتين متضادتين، كالكهرباء الواحدة تستعمل في التبريد وفي التدفئة، تارة تكون مروحة وثلاجة، وتارة تكون مدفأة ونارا.
فأما أبو العلاء فغنى على أوتار حزينة، يلعن الدنيا ويلعن الناس ويلعن نفسه، ويفر من الدنيا فراره من الجرب، ويزهد في كل ملذاتها من نساء وخمر وأكل شهي، ويفرض على نفسه فروضا قاسية من عزلة ورهبانية وصيام حتى عن الطيبات من الرزق، فلا يأكل السمك؛ لأنه أخرج من البحر ظلما، ولا اللحم ؛ لأنه عذب حيوانه ذبحا، ولا يفجع الطير في نفسها وأولادها، ولا عسل النحل الذي جمعه بجده من الأزهار فيقول:
فلا تأخذن ما أخرج الماء ظالما
ولا تبغ قوتا من عريض الذبائح
ولا تفجعن الطير وهي غوافل
بما وضعت فالظلم شر القبائح
ودع ضرب النحل الذي بكرت له
كواسب من أزهار نبت فوائح
فما أحرزته كي يكون لغيرها
ولا جمعته للندى والمنائح
مسحت يدي من كل هذا فليتني
أبهت لشأني قبل شيب المسائح
ويقول:
وأرحت أولادي فهم في نعمة ال
عدم التي فضلت نعيم العاجل
ولو أنهم ظهروا لعانوا شدة
ترميهم في متلفات هواجل
5
ويقول:
وزهدني في هضبة المجد خبرتي
بأن قرارات الرجال وهود
كأن كهول القوم أطفال أشهر
تناغت وأكوار القلاص مهود
إذا حدثوا لم يفهموا، وإذا دعوا
أجابوا وفيهم رقدة وسهود
ويقول:
أأخرج من تحت هذا السماء
فكيف الإباق وأين المفر
وما جعلت لأسود العرين
أظافير إلا ابتغاء الظفر
لحا الله قوما إذا جئتهم
بصدق الأحاديث قالوا: كفر
وأما ابن الشبل، فيرى بطلان الحياة فيضحك منها ولها، ويتغزل غزلا ظريفا، ويدعو إلى انتهاب اللذات قبل فوات الأوان، فيقول في غزله:
إن تكن تجزع من دم
عي إذا فاض فصنه
أو تكن أبصرت يوما
سيدا يعفو فكنه
أنا لا أصبر عمن
لا يحل الصبر عنه
كل ذنب في الهوى يغ
فر لي ما لم أخنه
ويقول:
قالوا وقد مات محبوب فجعت به
وبالصبا وأرادوا عنه سلواني
ثانيه في الحسن موجود، فقلت له
من أين لي في الهوا الثاني صبا ثاني؟
وله اللفتات النفسية اللطيفة كقوله:
لا تظهرن لعاذل أو عاذر
حاليك في السراء والضراء
فلرحمة المتوجعين مرارة
في القلب مثل شماتة الأعداء
والتشبيهات المبتكرة كقوله:
يفنى البخيل بجمع المال مدته
وللحوادث والوراث ما يدع
كدودة القز ما تبنيه يخنقها
وغيرها بالذي تبنيه ينتفع
ويقول في انتهاب اللذات:
ما أمكنت دولة الأفراح مقبلة
فانعم ولذ فإن العيش تارات
قبل ارتجاع الليالي وهي عارية
وإنما لذة الدنيا إعارات
لعله إن دعا داعي الحمام بنا
نقضي وأنفسنا منا رويات •••
قد وقع الدهر سطرا في صحيفته «لا فارقت شارب الخمر المسرات»
خذ ما تعجل واترك ما وعدت به
فعل اللبيب فللتأخير آفات
وللسعادة أوقات ميسرة
تعطي السرور وللأحزان أوقات
وهكذا كانا لطيفين في موافقاتهما، لطيفين في مفارقاتهما - رحمهما الله.
الفصل الثامن والعشرون
نزعة صوفية ومزاج رمزي (1)
كان لي صديق - رحمة الله عليه - له نزعة صوفية ومزاج رمزي، كان لا يرى الأشياء كا نرى، بل يرى كل شيء رمزا لمعنى، وكان لا يسمع كما نسمع، بل كانت كل كلمة يسمعها توحي إليه بمعان تنسجم مع نزعته ومزاجه.
كنت أسايره مرة في شارع من شوارع الإسكندرية، فطلع علينا فجأة بائع جرائد يقول: «البصير، البصير»، فقال صاحبي: «سبحانه وتعالى».
وأسمعته يوما أبياتا لأبي تمام، حتى إذا وصلت إلى قوله:
وأنجدتم من بعد إتهام داركم
فيا دمع أنجدني على ساكني نجد
استعادني البيت، ثم رأيته يكرره حتى دمعت عيناه، وقص علي في اليوم التالي أن البيت ظل عالقا بذهنه حتى شطره وخمسه وسبعه، ولم يذكر لي أي المعاني رمز إليها هذا البيت حتى بعثته على ذلك كله.
وله في ذلك طرف كثيرة لا أطيل بذكرها.
وسميت ذلك مزاجا؛ لأن هذا النموذج من الناس أقرب إلى أن يكون خلقة من أن يكون اكتسابا، وإلى أن يكون استعدادا فطريا من أن يكون تعليما ومرانا، هذا المزاج لا بد من قدر منه للشاعر والموسيقي والفنان والصوفي، وإن اختلف حظهم منه واختلفت نواحي تلقيهم وأدائهم.
هؤلاء كلهم يرون أن الدنيا كلها جمال مقنع، فلا بد أن نكشف القناع لنرى الجمال، وأن حقائق العالم مستورة، وأن مظاهره ليست إلا أعلاما يستدل بها على خفاياه، وأن قيمة العالم في باطنه، وليس ظاهره إلا رمزا له، وأن الجمال المكشوف ليس جمالا، والحقيقة العارية لا تلذ النفوس الكبيرة، وأن البحث عن الحقيقة ألذ من الحقيقة نفسها، وأن جمال الجميل في بعده، تنظر إليه وكأنك لا تنظر، وتقرب منه كأنك لا تقرب، ومعالجته ينبغي أن تكون من جنس طبيعته، تدل عليه وكأنك لا تدل، بالرمز وبالإيماء، وباللمحة تجعلك تسبح في خيالك، وبالإشارة تستدل بها على الطريق بجهدك؛ ومن أجل هذا كان الفرق بين تعبير العلم وتعبير الشعر والموسيقى والتصوف؛ فتعبير العلم واضح محدود، يفهمه الناس بوضوح، ويفهمونه عل السواء متى تحقق شرط الذكاء، أما الشعر والموسيقى والتصوف فتعبير في غير استقصاء ، ورمز في غير جلاء، كل يرمز بما يهوى، وكل يفهم كما يشاء، حسب مزاجه وظروفه ونفسيته، ومن أجل هذا أيضا كانت اللغة أداة طيعة للعلم وأداة مسكينة للفن والتصوف.
يقول في ذلك ابن الفارض في تاثيته الكبرى:
وثم أمور تم لي كشف سرها
بصحو مفيق عن سواي تغطت
وعني بالتلويح يفهم ذائق
غني عن التصريح للمتعنت
بها لم يبح من لم يبح دمه وفي ال
إشارة معنى ما العبارة حدت
وهو معنى جميل في أسلوب غير جميل.
لقد مالت بعض الأديان القديمة إلى هذه النزعة الرمزية، كما ترى في ديانة قدماء المصريين بصورهم ورموزهم، وفي ديانة قدماء اليونان بأساطيرهم، وعند قدماء الهنود في قصصهم وعبادتهم.
ولكن يظهر أن الإسلام لم يمل إلى هذه النزعة، وخاصة في أيامه الأولى، كما لم يمل إليها دعاة الإصلاح الديني في النهضة الأوروبية؛ ومع هذا لم يخل أهل دين من الأديان منها حسب مزاج معتنقيه؛ فكان في النصرانية رمزيون ومتصوفون؛ وكان في الإسلام هذا النزاع الحاد بين الفقهاء والصوفية، وبين أهل الشريعة وأهل الحقيقة، وأهل الظاهر وأهل الباطن، وأهل العقل وأهل الذوق؛ وكلها ألفاظ تعبر عن شيء واحد، وهو أن مزاجا يميل إلى العقل والاقتصار على التصريح، وأن لا شيء وراء ظاهر القرآن وظاهر الدين، وأن هناك مزاجا رمزيا لا يرى الاقتصار على الظاهر، وأن وراء كل ظاهر باطنا، وأهم من العقل الذوق، ووراء المشهورات خفيات، ووراء التفسير التأويل.
هؤلاء الرمزيون يعتمدون على قلوبهم أكثر مما يعتمدون على عقولهم، وعلى أذواقهم أكثر من منطقهم، وعلى خيالهم وإلهامهم أكثر من تفكيرهم، وعلى عواطفهم أكثر من مقدماتهم ونتائجهم، وعلى حبهم أكثر من بحوثهم .
قلت لصاحبي هذا يوما: إن الحب يفسد الحكم ويعمي ويصم.
قال: إنك لا تدرك الحق إلا بالحب، ألا ترى أن الأم أعرف الناس بأبنائها؛ لأنها تعرفهم بعاطفتها وذوقها وحبها، على حين أن غيرها يعرفهم بعقله وإن شئت فقل يجهلهم بعقله؟ أولا ترى أن الشاعر يتخير بذوقه بحوره وكلماته وقافيته وصوره، فإذا حكم فيها العقل وحده، يدرك جمالها ولم يتذوق حسنها؟ إن ذوقنا الذي نعتمد عليه في إدراك موسيقى الشعر ونغماته وجماله هو الذي يجب أن نعتمد عليه في إدراك موسيقى العالم ونبضاته وجماله، ألا ترى الأحلام اللذيذة كيف تنبعث في ظلام الليل الحالك فتلعب ألعابا سارة وتتقدم بصور جميلة ترمز بها إلى حقيقة تاريخ الإنسان وما جرى له من أحداث وما تعلق به قلبه من أماني ومخاوف؟ كذلك الإنسان الصاحي إذا وهب المقدرة على فهم الرمز يرى الحياة صورا رمزية جميلة متعاقبة متلونة ترمز إلى حقيقة العالم ومراميه.
قلت له: إن الفهم عن طريق الرمز مسألة شخصية ذوقية لا يمكن ضبطها ولا الاشتراك فيها؛ فكل يفهم من الشيء رمزا لمعنى قد لا يوافقه فيه الآخر، فقد يفهم أحدهم البحر رمزا للعظمة والسلطان، وقد يفهمه آخر على أنه رمز للغيظ وثوران الغضب، وقد يفهمه ثالث على أنه رمز للخطر المحدق، ذلك أن للشيء صفات متعددة، وكل صفة ترمز لمعنى، فأي المعاني يراد؟ ثم هذا أمر وليد الخيال والخيال لا حد له، فقد يمعن حتى يأتي بالأوهام ويكون شأنه شأن المتشائم الموسوس، كالذي يحكي عن ابن الرومي أنه خرج من داره فرأى حانوت خياط قد صنعت درفتاها كهيئة لام ألف ورأى تحتها نوى تمر، فقال: إن هذا يرمز إلى أن «لا تمر»، وكان بعض العابثين به يقرع عليه الباب فيقول من؟ فيقول: «مرة بن حنظلة» فيتشاءم من ذلك يومه ولا يخرج من بيته؛ وكالخيالات التي تبعثها الخمر أو الحشيش أو الأفيون، فيخلقون دنيا غير دنيا الناس، ويتخيلون فيها ما يضحك وما يبكي، ويعتمدون في كل ذلك على خيالهم الخادع ووهمهم الكاذب؛ فلو أقررنا هذه الرمزية أفسدنا التفاهم، ألا ترى أن من يعتمدون على اللغة وعلى منطق العقل يسهل تفاهمهم؛ لأن لألفاظ اللغة معاني محدودة لا يتسرب إليها الخطأ إلا من طريق الجهل؛ والعقل له منطق محدود وشروط معينة يعرف بها وجه الخطأ والصواب؛ أما طريقتكم الرمزية والذوقية فلا ضابط لها، ومن أجل هذا صعب فهم كلام الصوفية؛ لأن صاحبه يعبر عن ذوقه هو ومواجيده هو، فلا يفهمه إلا من منح ذوقا كذوقه ومواجيد كمواجيده، ولا يشاركه في فهم رموزه إلا من كان في حالة مزاجية تشبه حالته، فالمعقول - إذا أنتم أردتم التفاهم - أن تستعملوا القدر المشترك بين الناس من اللغة والمنطق، وإلا فلا تستعملوا اللغة، إنكم باستعمالكم اللغة أفسدتموها برموزكم، فأخذتم كلمات الخمر والحب والغزل المعروفة المتفاهمة، ووضعتموها لأشياء صوفية رمزية لا ضابط لها فكانت غامضة الدلالة، ومن تصدى لشرحها وقع في نفس الغموض الذي وقع فيه أصلها؛ ذلك لأنكم استعملتم اللغة في غير ما وضعت له، وأطلقتم لخيالكم العنان فحملتم الألفاظ والأساليب ما لا تطيق، فلا أنتم عبرتم عن أنفسكم تعبيرا صحيحا، ولا أنتم تركتم اللغة من غير إفساد.
تبسم ضاحكا من هذا القول وصمت قليلا ثم قال: إن كلا من الذوق والعاطفة والخيال له حالة يكون فيها صحيحا سليما، وحالة يكون فيها مريضا؛ فالعقل قد يمرض فيكون جنونا، والذوق قد يمرض فيجد الحلو مرا، والعاطفة قد تمرض فتغلي أو تبرد، والخيال قد يمرض فيكون وهما، فاعتمادنا على الذوق كاعتمادكم على العقل، كلانا يعتمد على صاحبه في حال صحته، والذوق إذا صح أرشد إلى خير مما يرشد إليه العقل، وأين التفاهم والاتفاق في عقولكم؟ ها أنتم تخضعون للعقل فانظروا مصيركم، هل يتفاهم عقلاؤكم؟ وهل تتفقون في مجالسكم وأحاديثكم وتصرفاتكم؟ إن لكل إنسان عقله كما أن لكل إنسان ذوقه، وهل تظن أن العقل أداة صالحة لفهم الحقيقة؟ وما هذا العقل الذي تمجده؟ إنه خادم الغرائز والشهوات، إنه ليس منظما لحياتنا اليومية، إنه ليس قائدا لسلوكنا، إنما هو تابع لأغراضنا، إنه يخدم الحق والباطل؛ والمحاميان في قضية واحدة يجدان منطقا يخدم مطالبهما المتناقضة، لولا الذوق والعاطفة يلطفان من حدة العقل في هذه الحياة ما صلحت، ما الوطنية وما القومية وما حب الآباء لأبنائهم؟ إنها سخافات في نظر العقل المجرد، ولكنها تحكم الدنيا وتسير العالم، الفرق بيننا - نحن الصوفية - وبينكم أنتم العلماء أننا نعتمد على نفوسنا وتعتمدون على حواسكم، نطهر أنفسنا ونصفيها فيلمع فيها نور الحق، وتدورون أنتم حول العالم الخارجي تودون معرفة الحق عن طريق حواسكم، وهيهات أن تصل الحواس وما يتبعها من عقل ومنطق إلا إلى الظواهر الخارجية، إذا أردت أن تعرف شيئا فإما أن تلف حواليه وإما أن تتغلغل في باطنه، فالأولى هي طريقتكم والمعرفة بها معتمدة على حواسكم، وتقويمها راجع إلى مشتهياتكم، ومحدود بزمانكم ومكانكم وظروفكم، أما طريقتنا نحن فتجلية مرآة نفوسنا حتى تنطبع فيها الحقيقة مجردة عن الزمان والمكان والظروف والتشهي، إنا نعتمد على البصيرة وتعتمدون على البصر، إنكم بحواسكم عددتم الأشياء حسب مظاهرها، ونحن وحدنا الأشياء حسب حقيقتها، فالخلاف بينها في العرض لا في الجوهر، فالحقيقة واحدة والأشكال متعددة، وربما صدكم التعدد عن رؤية الواحد؛ وليست الشرور والرذائل إلا مظاهر عارضة للحقيقة الواحدة، وليس هناك في الحقيقة تقسيم لخير وشر ...
وإلى هنا اندفع في قوله، وشطح في تفكيره، فكاد يغيب عن وعيه، ولم أفهم ما يقول، وأبعد في رمزه فلم أتابعه في سيره، وانتهزت أول فرصة أرده فيها عما لم أفهم إلى ما أفهم.
الفصل التاسع والعشرون
نزعة صوفية ومزاج رمزي (2)
أهم ما امتاز به هذا الصديق - رحمة الله عليه - شيوع الحب في نفسه، والسعة العظيمة في قلبه، كان يحب الصديق ويفهم العدو فيحبه، ويحب المؤمن ويرحم الكافر فيحبه، ويحب الحيوان والأطفال، ويحب الأمة غير أمته والعبادة غير عبادته، وكثيرا ما ينشد قول ابن العربي:
لقد صار قلبي قابلا كل صورة
فمرعى لغزلان ودير لرهبان
وبيت لأوثان وكعبة طائف
وألواح توراة ومصحف قرآن
أدين بدين الحب أنى توجهت
ركائبه فالحب ديني وإيماني
وقول ابن المعتز:
قلبي وثاب إلى ذا وذا
ليس يرى شيئا فيأباه
يهيم بالحسن كما ينبغي
ويرحم القبح فيهواه
واسع الصدر لكل رأي، واسع النفس لكل عاطفة، راحم حتى لمن أساء إليه، كان يرى الناس إذا غاض حبهم وضاق قلبهم عاشوا في كوخ مظلم، وهو بسعة نفسه وسعة قلبه يعيش في قصر منير، إنهم يلتصقون بالأرض وهو يحلق في السماء ، إنهم يشقون بالكراهة وهو يسعد بالحب، إنهم يضجرون لضيق الأفق وهو يرتاح للا نهاية. •••
يرى كل شيء من الله، فهو يحب الله ويحب ما صدر عنه، ويرى كل كراهية منشؤها الجهل، فمن عرف عفا، ومن عرف أحب.
له عين ترى محاسن الأشياء ولا ترى عيوبها، كالمسيح مر هو وأصحابه على جيفة، فقالوا: ما أنتن رائحتها! فقال: ما أجمل بياض أسنانها! •••
انعدمت في نظره الفروق، فاجتمعت المتفرقات، وأتلفت المتباينات، فالدنيا كلها صفات الله تختلف بالاسم وتتحد في المسمى، وكان يقول: «إذا رأيته لم تر غيره، وإذا رأيت غيره لم تره.». •••
كان يحب أن يكون من عامة الناس لا من خاصتهم، فهو لا يحب أن يتميز أمام الناس بعلم أو بجهل، ولا بغنى ولا فقر، ولا بفصاحة ولا عي، ولا اجتماع ولا عزلة، لذلك كان يختار من اللباس ما لا يمتاز بشيء، ولا يحب أن ينتمي إلى هيئة ولا جمعية، ولو كانت جمعية صوفية، ولا أن يظهر منه ما يدل على تصوفه، يعرفه الناس تاجرا كسائر التجار، لا يمتاز عنهم إلا بتحري الصدق في القول والسماحة في المعاملة، أما جانبه الصوفي فلا يعرفه إلا اثنان أو ثلاثة من خاصة أصدقائه.
كان يرى الطبيعة كتاب الله المفتوح، فأشجاره صفحة، وإنسانه صفحة، وبحاره صفحة، وكل شيء فيه صفحة؛ ولكن إذا كانت الكتب لا تفهم إلا بواسطة اللغة، فكتاب الطبيعة المفتوح لا يفهم إلا بالقلب المفتوح، فإذا انبهم القلب انبهمت الطبيعة؛ فكان إذا رأى القمر يشع من خلال أوراق الشجر قال: هنا موضع سجدة، وإذا جلس على شاطئ البحر فرأى تلاعب الرياح بالأمواج فزع إلى الصلاة، وكان يقول: إن قلبه يخفق في الريف أكثر مما يخفق في المدن، وينبض عند الطبيعة العارية أكثر مما ينبض في المدن الكاسية، وكان يعجبه من الكتب المقدسة أنها كتب تدل على كتاب الطبيعة. •••
كنت ألاحظ دائما أن تقويمه للناس والأشياء يخالف تقويمنا، وميزانه يخالف موازيننا، أرى الناس يقومون الناس بقوتهم وبجاههم وبمالهم وبمقدار النفع الذي يتلقونه من أيديهم، والضرر الذي يتقونه منهم؛ ثم أراه شاذا في ذلك شذوذا غريبا، فيصطفي من لا يصطفى، ولا يحتفل بكثير ممن يحتفل به، وله في ذلك فراسة نادرة، فهو يستفتي قلبه ولا يستفتي عقله، ويحكم روحانيته ولا يحكم ماديته، حدثته في ذلك فقال: إني لم أصل إلى ذلك إلا برياضة نفسية شاقة علمتني اليقين بأن النفع والضر بيد الله وحده، والإيمان بأن خير الناس أنفعهم للناس، وألا أدخل في موازيني المظاهر من حسب أو نسب، وغنى أو جاه، وقوة بالمنصب وعظمة بما يفنى، اقرأ إن شئت:
أما من استغنى * فأنت له تصدى * وما عليك ألا يزكى * وأما من جاءك يسعى * وهو يخشى * فأنت عنه تلهى ، وهو مع اختلافه عن الناس في التقدير، لا يمعن في التحقير، فهو يعجب بالأعلى ويرحم الأدنى، ويكبر العظيم ويحنو على الوضيع، فالله يتجلى على كل شيء بما ينسجم وطبيعته، فهو الرافع الخافض، وهو المعز المذل. •••
أحب حتى غمره الحب، ولم يتركز حبه في إنسان ولا في أسرة ولا في مال، بل شع على كل شيء، وشع من كل شيء على قلبه؛ فكنت تقرأ الحب في عينيه وفي بسمته وفي نظرته للبائس والمجرم، وفي دمعته تنحدر للكارثة تحدث لمن يعرف ومن لا يعرف، وفي المال يخرج من جيبه للسائل والمحروم.
وكان يحب السماع حبا عجبا حتى كأنه غذاؤه الذي يعيش عليه، وأكثر ما يعجبه من النعمات الحزين الباكي، وهو يحب السماع على اختلاف أنواعه من قرآن يتلى بصوت جميل، أو غناء لمذكر أو مؤنث أو موسيقى أو نشيد ذكر وله في ذلك طرف، فقد سمع مرة بائعا جوالا ينادي على سلعة بصوت أعجبه، فتبعه، إذا وقف وقف وإذا سار سار، حتى نسي غرضه وفوت مقصده، وكان السماع يوحي إليه بالمعاني الغزيرة، فنراه وهو يسمع وقد كاد يغيب عن وعيه لكثرة ما يفكر فيما أوحى إليه سماعه.
أعجب ما كان يعجبني منه موقفه أمام الكوارث والمصائب، فقد يصاب في ماله وقد يصاب في ولده؛ فإذا هو مطمئن ثابت كأنه فيلسوف يرى فقدان الولد كما يرى القانون الطبيعي في ذبول الوردة وسقوط أوراق الشجر، قد يحزن ولكن لا يلتاع، وقد تدمع عينه ولكن لا ينماع، بل كان أكبر من الفيلسوف، فقد رأى الدنيا على حقيقتها فلم تخدعه، وتمثلت له كما تتمثل الرواية عل الشاشة البيضاء، ففهم ما سيكون، واطمأن إلى ما يحدث، فلم يفجأه الحادث فيفزع، ولا الموت فيجزع، فهو مطمئن عند الأخذ والعطاء، والصحة والمرض، والموت والحياة.
كان يرى أن الدين روح، وإذا كان روحا فهو خالد خلود الروح، وأن خير أيام الأديان أيامها الأولى؛ لأنها تكون حية حياة الروح، ثم تفقد روحانيتها شيئا فشيئا، وتتجسد بأشكالها، فتكون تافهة تفاهة الجسد، ميتة ميتة الجسد، ومن حين إلى حين يبعث الله من يفهم روح الدين ويحيا بها ويدعو لها، وقليل ما هم.
كان يسمع القرآن فيولد منه معاني بعيدة، حسب مزاجه الرمزي، لا يزعم أنها تفسير، ولكن يقول: إنها إلهام الآية كما تلهم المناظر الجميلة قلب الفنان والشاعر.
الفصل الثلاثون
نزعة صوفية ومزاج رمزي (3)
لست أنسى رمضانا من الرمضانات منذ عشرين عاما كنا نجتمع فيه في بيت صديق لنا تخرج من مدرسة الطب حديثا، وكان من بيت كبير أنعم الله على أبيه بالثراء وبنعمة الإيمان وبمحافظته على تقاليد البيوت القديمة، فكان رمضان في بيته منظرا جميلا من مناظر المسلمين قبل أن تغزوهم المدنية الحديثة، ترى على باب البيت عند الإفطار طائفة كبيرة من الفقراء يوزع عليهم الطعام قبيل الغروب، وتسمع أذان المغرب والعشاء من داخل البيت، ويفطر على المائدة كل يوم أشكال وألوان من أصدقاء رب البيت ومعارفه، وتقام صلاة المغرب والعشاء والتراويح في حجرة هيئت على شكل مسجد، ويتعاقب ثلاثة من أحسن القراء صوتا بتلاوة قراءة القرآن إلى السحور.
فكنا نجلس كل ليلة نثير الموضوعات المختلفة حيثما اتفق، دينية أحيانا وسياسية أحيانا وأدبية أحيانا؛ ويشترك في الجدل كل الحاضرين على اختلاف نزعاتهم.
لست أنسى ليلة لا أدري لماذا علقت أحاديثها بذهني أكثر من غيرها كان سمارها هذا الطبيب وصديقنا الصوفي وشيخا أزهريا ومدرسا في دار العلوم وكاتب هذه السطور.
كان بدء الحديث أن سمعنا المقرئ يقرأ قصة آدم وخلقته من طين ثم أكله من الشجرة وخروجه من الجنة.
فقال الطبيب:
هذا ما يحيرني؛ لقد علموني في المدارس أن الأرض التي نعيش عليها كانت كرة ملتهبة يلفها دخان كثيف ثم أخذت تبرد شيئا فشيئا على ملايين السنين، واستقرت قشترتها طبقة صخرية ليس عليها حي ولا تصلح لحي؛ ثم أخذ المطر الغزير يتساقط عليها من هذا الدخان الذي يلفها حتى أثر في هذا الصخر الجرانيتي وفتت قشرته، وجرفه الماء طميا للوديان المنخفضة، وجرى الماء فكون هذه البحار.
ثم استطاعت الشمس أن تنفذ أشعتها من هذا الضباب وهذا الدخان فطلعت على بر لم يجف وبحر يتدفق.
وبعد هذا كله حصلت معجزة لم يستطع العلم حلها وتفسيرها إلى الآن، وهي وجود الخلية الأولى تدب فيها الحياة طافية على وجه الماء، وتناسلت هذه الخلية وتكاثرت وحملها التيار إلى أمكنة مختلفة وفي بيئات مختلفة فتأقلم كل حسب بيئته، وكان مما حمله التيار بعض خلايا دفعها إلى البر فتكونت حسب بيئتها فكانت نباتا، وبعضها ظل في البحر فتأقلم فكان زواحف، ثم تنوع النبات وتنوعت الزواحف ومرت ملايين السنين على هذه المخلوقات تجاهد في الحياة وتعدل نفسها وفق محيطها، ويعمل فيها قانون الانتخاب وبقاء الأصلح حتى ارتقت الخلية النباتية فكانت شجرة، وتطورت بعض الحيوانات المائية إلى حيوانات برية بحرية، ثم إلى حيوانات برية صرفة، وتكونت أعضاء تنفسها وفقا لتطورها حتى وصلت في رقيها إلى الحيوانات الثديية.
وكان بعض هذه الحيوانات الثديية أرقى من غيره فاستطاع بمحاولات كثيرة ومران طويل على الصيد ونحوه أن يتركز على رجليه بعد أن كان يتركز على أربع، وأن يحفظ توازنه، وأن يخلص يديه للعمل فنجح أخيرا في ذلك ووقف على قدميه وخلصت له اليدان وما زال يرقى حتى كان إنسانا بدائيا ثم إنسانا بدويا ثم إنسانا حضريا.
وما الإنسان الأول إلا آدم تدرج في خلقته من سلم منظم الدرجات تبتدئ من الخلية الساذجة وتنتهي بالإنسان، فكيف يتفق هذا الذي تعلمناه وأقاموا لنا البراهين على صحته مع ما أسمعه الآن من قصة آدم، وأنه خلق من طين، وأنه خرج من الجنة إلى الأرض ... إلخ.
الحق أننا تهيبنا لهذا القول ومرت برهة من الزمن نتذوق كلامه ونفكر في الرد عليه.
فانبرى له صديقنا الأزهري وقال: إن هذا القول يشبه ما سمعته عن مذهب «دارون» وقد قرأت كتابا قيما في الرد عليه للسيد جمال الدين الأفغاني اسمه «الرد على الدهريين»، وقد فند فيه هذا القول، وبين فساد من زعم تسلسل الأنواع وتدرجها في الخلقة تبعا لظروفها وأقاليمها، وأذكر من وجوه الرد عليه ما قاله من أن هناك في غابات الهند أشجارا مختلفة، ونباتات متعددة، كلها تنبت في بيئة واحدة وتسقى من ماء واحد، ومع ذلك تختلف اختلافا كبيرا في أنواعها وأشكالها وزهرها وطعمها ورائحتها، فما الذي أوجب هذا الاختلاف إن كان الأمر أمر البيئة، وأذكر أنه حكى عن دارون أن قوما كانوا يقطعون أذناب كلابهم، فلما استمروا على عملهم قرونا ولدت كلابهم من غير أذناب، فرد عليه السيد جمال الدين بعادة الختان عند اليهود والمسلمين قرونا طويلة ومع ذلك لا يولد الآن مولود مختتن إلا قليلا، وأيضا لو صح هذا المذهب لكان بين أيدينا الآن صور لا تحصى من اختلاط الأنواع، مع أنا نرى الأنواع مستقلة تماما غير مختلط بعضها ببعض، وحتى لنرى أنه إذا ازدوج نوعان مختلفان أصيبا بالعقم؛ ومع هذا إذا كانت هذه الأقوال والآراء فروضا كلها وجب أن نرفضها إذا تعارضت مع النص الذي يذكر أن الإنسان خلق وهو جنس وحده، وقد خلق من طين وسكن الجنة قبل أن ينزل إلى هذه الأرض.
وتحدث صاحبنا من «دار العلوم» فقال: إني لا أرى تضاربا بين ما حكاه الدكتور وبين آيات القرآن الكريم؛ فقد سمعت الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده يحكي أن ابن عباس وأناسا معه كانوا يرون أن الأرض كانت عامرة قبل آدم، وأن الأرض كانت مسكونة بخلق قبله، ثم خلفهم آدم وقال: إن الأرض كانت معمورة بأقوام ثم انقرضوا وخلفهم آدم، كما تنقرض أمة وتخلفها أمة، يهلك الله صنفا وينشيء آخر، والنوع واحد، ولا يزال الهالك يترك أثرا للباقي يحدث فيه فكرة ويثير في نفسه عبرة، ويكون ذلك سلما له إلى رقي مستمر.
وقد قال أبو العلاء المعري:
وما آدم في مذهب العقل واحد
ولكنه عند القياس أوادم
فلا مانع أن تكون الأوادم التي قبل آدمنا هي سلسلة التطور التي حدثت حتى كان آخرها في الرقي آدمنا زوج حواء.
أما الجنة فإن كان جمهور المفسرين على أنها في السماء فقد قرأت في تفسير النيسابوري أن أبا القاسم البلخي وأبا مسلم الأصفهاني ذكرا أنها كانت في الأرض، وفسرا الهبوط منها بالانتقال من بقعة إلى بقعة، كما في قوله تعالى:
اهبطوا مصرا ؛ لأن الجنة التي هي دار الثواب لا يدخلها إبليس ولا هي محل معصية، وهي جنة الخلد، لا يخرج منها من دخل فيها، وخلقته من الطين مفهومة؛ لأن الطين مادة الحياة وعليه اعتماده فيما يأكل من نبات وحيوان؛ فهذا كله يتفق وما حكى لنا الدكتور، ولا أرى تنافيا بين الدين والعلم.
قال صاحبنا - ذو النزعة الصوفية والمزاج الرمزي - أما أنا فكما تعهدون، لا أرى في هذه القصص إلا رمزا، إن خلق آدم وجعله في الأرض خليفة وقول الملائكة: إنه سيفسد فيها ويسفك الدماء ليس إلا رمزا إلى أن عالم الحياة في الأرض قد سار سيرته كما شاء له الله، ثم حان الزمن لخلق نوع من المخلوقات جديد هو الإنسان الذي من طبيعته الإفساد والإصلاح وسفك الدماء وصيانتها وتقلبه في شئون الحياة حسب عواطفه وعقله وقلبه، وإذ كان أرقى أنواع المخلوقات في الأرض فهو المسيطر عليها وخليفة الله فيها «وعلمه الأسماء كلها» جعل من طبيعته الاستعداد لمعرفة الأشياء خيرها وشرها، ومنافعها ومضارها.
وحواء رمز للنصف الثاني من الجنس البشري وهو الأنوثة، كما أن آدم رمز الذكورة في طبيعته الإنسانية، وقد خلقت من ضلع من أضلاعه؛ أي: أنها جزء منه تحمل طبيعته.
والأكل من الشجرة وانقلاب عيشهما الرغد إلى عيش الشقاء ملازم لطبيعة الإنسان، لقد كانت المخلوقات قبلهما لا تعرف خيرا ولا شرا، وليس لها ضمير يحثها على الخير ويؤنبها على الشر، فلما ارتقت حتى وصلت إلى الطبيعة البشرية أدركت خيرا وشرا، وتحرك فيها الضمير يحاسب ويثيب ويعاقب، واستلزم هذا الشقاء والخروج من جنة النعيم كما قال المتنبي - ما أسعد العيش لو أن الفتى حجر - لم يكن قبل الإنسان ذنب ولا خطيئة، ثم كانا لما كان العقل وكان الضمير وكان آدم وكان الإنسان، فلما استعدا لارتكاب الذنوب وعرفا الخير والشر خرجا من جنة عدن؛ حيث السعادة الفطرية والحياة من غير تكليف؛ إلى الأرض التي فيها الفساد وسفك الدماء وإعمال العقل وانتباه الشعور.
رحب صديقنا الدكتور بهذا التأويل؛ لأنه يتفق وعلمه ودراسته، ولكنا أمطرناه وابلا من الأسئلة عن إبليس والملائكة والجنة وشجرة التين وما إلى ذلك، فكان يجيب عنها في لباقة تدل على خصب الخيال ومهارة ملكة الرمز عنده وغرابة أطواره ونفسيته، إلى أن قال: إن هذا القصص في الكتب الدينية من توراة وإنجيل وقرآن مملوء بضروب من البيان، من استعارة وكناية ومجاز لم يفهمها إلا الراسخون في العلم، أما من عداهم فوقفوا عند ظواهرها ولم يفطنوا إلى إشاراتها. - ثم قال: لعلي أستطيع أن أقرب إلى أذهانكم هذه الصور بحديث الإسراء والمعراج، وما ورد فيه من براق وما إليه، فإني أفهمها على أنها سياحة روحانية، والبراق ونحوه مما ورد في القصة ليست إلا رموزا لحالات نفسية وحركات روحية، وأفاض في ذلك بما لم أذكره الآن.
سألوني رأيي فحرت في أمري، وتولاني الإعجاب بهم جميعا، من منهج علمي عند الطبيب، وإيمان صادق عند الأزهري ، ونزعة لطيفة للتوفيق بين العلم والدين عند المدرس، وخيال بديع عند الصوفي، ووعدتهم أن أفكر فيما قالوا إلى الغد ثم أدلي برأيي.
وختم المقئون قراءتهم وانصرفنا بعد حديث ممتع وسمر لذيذ وجدل هادئ.
الفصل الحادي والثلاثون
ست النساء1
كان على قطر من أقطار الهند ملك عظيم الشأن، له الجنود والبنود، والقوة والسلطان، والعز والجاه.
وكان عادلا في رعيته، يحسن سياستهم، وتدبير أمورهم؛ ويحب العدل، ويمقت الظلم، ويعرف مداخل الأمور ومخارجها، ولكنه مظلم الروح، مادي النزعة، فاسد العقيدة، يعبد الأصنام، ويقدم لها القربان، ولا يؤمن بثواب ولا عقاب، ولا بخلود روح، ولا بمملكة نفس، وإنما الدنيا الحاضر، واللذة المال والجاه، والنعيم صنوف الترف.
وكان له وزير روحي، يهزأ بالأصنام ويحتقرها، ويؤمن بالروح ومبادئها، ويقر بالجزاء الأوفى، ويعتقد أن السعادة في رضا الضمير، والعمل الصالح، وسمو النفس عن السفاسف، وأن للروح مملكة فيها النعيم والشقاء، وأن نعيمها خير أنواع النعيم، وشقاءها شر أنواع الشقاء.
ولكنه لا يجرؤ على مكاشفة الملك بذلك لشدته وجبروته، ولأن قلبه مغلق لا ينفتح لمثل هذه المعاني؛ وكان يرثى لحاله كلما رآه يسجد للصنم، ويسرف في الترف، ويظن أن المجد في النفوذ والجاه، والتغلب على ما جاوره من أقطار؛ ويتحين الفرصة لنصحه وتفتيح قلبه، ودعوته إلى روحانيته، ولكن هذه الفرصة لا تسنح، والملك يتمادى في تفاخره، وخيلائه وزهوه، وعزته وأنفته، ورياسته واستطالته؛ ويمعن في الخطة التي رسمها له آباؤه، ويخضع لعرف زمانه وإلفه.
وأخيرا حدثت المعجزة: طلب الملك من الوزير في ليلة أن يخرجا متنكرين لتفقد أمور الرعية، كيف يعيشون، ويشقون أو يسعدون؛ فطافا ما طافا، ورأيا ما سرهما أحيانا وساءهما أحيانا، حتى وصلا إلى ظاهر المدينة، فرأيا - على بعد - بصيصا من نور، فقصداه فرأيا عجبا.
لقد تخفيا فلم يشعر بهما أحد، وتخيرا مكانا يريان منه كل شيء، ولا يراهما أحد.
رأيا دمنة قذرة الرائحة، بجانبها مأوى كأنه مغارة، فرشت فيه ثياب مهلهلة، تنبعث منه أبخرة متعفنة، يضيئه سراج من خرقة بالية غمست في زيت كأنه دردي، وفيه جرة لا يعرف لونها من قذرها، وسلة من خوص فيها كسر جافة، وعيدان من فحل وكراث؛ وفي داخله رجل وامرأة، أما الرجل فمشوه الخلقة، يلبس ثوبا مرقعا ويجلس على ثوب مثله، وعلى رأسه شملة ممزقة، وعلى فخذه قصبة شد عليها عود، وهو ينقر عليها نقرا غير متزن ولا منسجم، ويغني بشيء يشبه الشعر وليس بشعر ، يتغزل فيه بصاحبته وجمالها، وفتنتها وسحر عيونها، وورد خدودها، ولطف قوامها، وأنها أجمل من رأت عينه، وأنها فتنة الدنيا ونعيم الحياة.
وأما المرأة فشوهاء مقوسة، لا ترى عينها من قذاها، ولا تعرف لون ثيابها من ألوان رقعها، قد أمسكت بيدها غربالا باليا، وشدت عليه جلدا غير مدبوغ، واتخذت من ذلك دفا تتابع به نغمات صاحبها، وتناغم عليه نقرات عوده، فإذا انتشيا قاما ورقصا، فإذا أتما دورهما حياها بطاقة من فجل، وردت تحيته بطاقة من كراث، وهي في كل ذلك تدعوه بسيد الرجال، وهو يدعوها بست النساء:
هو :
والله ما رأيت مثل جمالك.
هي :
ولا والله ما رأيت مثل حسنك.
هما :
ما أجزلها نعمة، أدامها الله علينا!
وقف الملك والوزير مبهوتين من هذا المنظر، متعجبين مما فيه هذان الصعلوكان من فرح وسرور، ولذة وحبور.
الملك :
في حياتي ما رأيت مثل هذا، وما أظنني في عز سلطاني - ونعيم ملكي، وأيام شبابي، ومجالس لهوي مع وفرة أسبابي، وتمكني من الوصول إلى كل ما أشتهي - قد بلغ مني السرور مبلغ هذين الحقيرين، وأظن أنهما على تلك الحال كل ليلة، فما الذي يمنعهما؟ هل يمنعهما ثائر في أطراف المملكة، أو شغب الجند وطلبهم الأرزاق وضيق الدخل، أو النظر في المظالم، أو مشاكل الخاصة ومشاكل العامة، أو النظر في شكاوى الناس وتدبيرها، أو ما يجد كل يوم من مسائل معقدة، داخلية وخارجية، أو بريد يرد أو بريد يصدر؟ لا شيء من ذلك، فقد قطعا عنهما أسباب الهم، فانقطع عنهما الهم.
لقد غاظني - أيها الوزير - منهما غرورهما، كيف يعدان بؤسهما نعيما وشقاءهما سعادة، ونقمتهما نعمة، وقبحهما جمالا، وغربالهما دفا، وخشبتهما عودا، وفجلهما وكراثهما زهرا، ثم يسألان من الله أن يديم عليهما نعمته!
لأنتقمن منهما انتقاما يسلبهما نعمتهما، وينغص عليهما عيشهما.
الوزير :
وماذا تنوي أن تعمل يا مولاي العظيم؟
الملك :
أريد أن أشقيهما بالنعيم، وأعاقبهما بالترف، وأبعث فيهما السخط بالرضا، أذيقهما ألم الفقدان بلذة الوجدان؛ إنهما لم يريا الجمال فسعدا بالقبح، ولم يسمعا الموسيقى فطربا من الغربال، ولم يأكلا المرقق فاستطعما الكسرة.
سأعذبهما عذابا لم يعذبه أحد، وسأستخرج منهما غرورهما بالخيال فأشهدهما الحقيقة، وسأنزع منهما الأوهام فأريهما الواقع، وسأقص جناحها الذي يطيران به إلى السماء ليلتصقا بالأرض.
سآخذ هذين المغرورين فأدخلهما قصري، وألبسهما من ثيابي، وأطعمهما من أكلي، وأشهدهما مجالسي، وأبسط لهما من سطوتي، وأسبغ عليهما جاها من جاهي؛ وسأشعرهما بلذة حياة كحياتي، وسأري المرأة كيف يكون جمال الرجال، وأري الرجل كيف يكون جمال النساء؛ وسأقيمهما في ذلك كله أياما حتى يتعوداه ويألفاه ويتطبعاه، ثم أردهما إلى حالهما، فما يهنآن بعيش، ولا يشعران بنعيم.
الوزير :
أخشى -- يا ملكي العظيم - أن نكون في لذاتنا وسرورنا واغتباطنا بجاهنا، واستمتاعنا بصنوف شهواتنا، وفرحنا بما حولنا، مغرورين غرور هذين المسكينين! وأن يكون فيمن حولنا من رأوا لذتنا فاحتقروها، وضحكوا من غرورنا كما ضحكنا من غرورهما، واستصغروا الموائد الفخمة تمد والجواري الجميلات تخطر، والملابس المترفة تعرض، والموسيقى الراقية تصدح، والجنود والبنود والأعلام تحمل شارتنا، وتأتمر بأمرنا، والذهب والجواهر تسيل سيلا، والتحف والخيرات تنهال انهيالا؛ وتنظر إلى ذلك كله نظرنا لمأوى الصعلوكين ونعيم المسكينين.
الملك
شامخا غاضبا مستكبرا :
وهل تعلم على وجه الأرض مملكة أعز من مملكتنا، أو سلطانا أوسع من سلطاننا، أو بلدا أكثر نعما من بلادنا، أو نعيما وترفا أبهى من نعيمنا وترفنا؟
الوزير :
لا يا ملكي العظيم، ولكن هناك قوم ليس لهم مملكة في الأرض، إنما لهم مملكة في السماء، ليسوا في مكان واحد، ولكنهم أفذاذ متفرقون في العالم كله؛ عشقوا الحق فاحتقروا الباطل، واعتقدوا وراء هذا العالم الظاهر كمالا مطلقا تتشوق الروح إليه وتسعى للاتحاد به، ودلهم النظر على أن كل إنسان يطلب بطبعه سعادته ، ولكنهم رأوا اللذائذ الحسية عرضة للزوال، وهي تفقد قيمتها بتكرارها، وتحمل في طياتها منغصاتها، والإفراط فيها يضعفها، وهي - مهما عظمت - تصعد وتهبط، وتجيء وتذهب؛ وهي تعتمد على الإحساس والإحساس قلب، وما دامت تعتمد على الحس فهي تعتمد على الخارج، والخارج مهما كان في يدنا فليس ملكنا، وإنما هو كالريش في مهب الريح؛ من أجل هذا بحث هؤلاء الحكماء عن سعادتهم في داخل أنفسهم، ورأوا أن الجاه والعز والسلطان لا تساوي شيئا في جانب أن يجد الإنسان نفسه؛ وأن الأكل الشهي، والملبس الأنيق، وصنوف اللهو والترف، تسقط قيمتها إذا وزنت برضا النفس، وراحة الضمير، وسمو الفكر، ومعرفة الحق؛ تلك فانية وهذه خالدة، وتلك تجري عليها أحكام السلع من بيع وشراء، وسرقة واغتصاب؛ أما هذه فجلت عن أن تمتهن في مبادلة، أو أن تنالها يد بسوء، أو يعتريها الفناء ولا بالموت.
تعشقوا الفضيلة وهاموا بها، وكانت لذتهم الأولى، اغتنوا أو افتقروا، نعموا أو عذبوا؛ فهم في فقرهم يسعدون وفي عذابهم ينعمون!
أهم ما يشغلهم أن يعرفوا نفوسهم، وقد تطلبت منهم تلك المعرفة أن يعرفوا أبدانهم وعقولهم وروحهم، وعلاقة نفسهم ببدنهم، وعلاقة العالم بنفسهم، وفي ضوء هذا حددوا مطالبهم في الحياة، ووسائل طلبهم، وما يأتون وما يذرون، ووقفهم ذلك المنظر على عالم من المعارف لا تنتهي، ولذائذ روحية لا تحد.
وكان نهاية بحثهم وتفكيرهم الإيمان بإله فوق المادة هو خالق هذا العالم، وقد استدلوا بوحدة العالم - مهما اختلفت مظاهره السطحية - على وحدة خالقه، واتصلت نفوسهم به، فاتخذهم أمناء وحيه، وسفراء بينه وبين خلقه.
فلما وصلوا إلى ذلك احتقروا الأصنام، ورأوا أن عبادتها - يا ملكي العظيم - لا تليق إلا بالسذج ومن لا عقل لهم، فأعرضوا عنها، وعبدوا إلههم الذي دلتهم عليه نفوسهم، ووجدوا لذتهم الحقة في تفكيرهم في إلههم وفي أنفسهم، وفي العمل وفق ما اعتقدوا من حق، وما آمنوا من مبادئ.
وهؤلاء القوم إزاء اللذات الحسية وأعراض الحياة الدنيا - من عز وجاه وسلطان - صنفان مختلفان تبعا لاختلاف مزاجهم؛ فأما قوم فأعرضوا عن هذه اللذائذ جملة، فلا الأكل يستغويهم، ولا النساء تستهويهم، ولا أي شيء من متع الحياة يغريهم، ولا يهمهم إلا أن يعيشوا في أنفسهم لأنفسهم، وليس هؤلاء خير الطائفتين؛ وأما الآخرون فرأوا أن لا بأس من لذائذ الحياة بقدر، ولا بأس من عز وجاه وسلطان يستخدم في تحقيق العدل وحمل الناس على الخير، وهؤلاء نظرهم أصح، والخير على أيديهم أتم, وهو أصلح للحياة, وأصلح للقيادة, وهو أسعد من الأولين؛ إذ يستمتعون بجمال العالم, وبالخير يجري على يدهم, وبشعورهم أنهم قوة في توجيه العالم وإسعاده.
أولئك - يا ملكى العظيم - ينظرون إلى اقتصارنا على اللذائذ الحسية نظرنا إلى لذائذ هذين المسكينين، ويرثون لحالنا رثاءنا لحالهما، ويجدون الفرق بيننا وبينهم أبعد من الفرق بيننا وبينهما، ولا يودون يوما أن ينزلوا إلى درجتنا، وأن يكون حظهم حظنا، ويحمدون الله على ما أوتوا، ويسألونه السمو إلى الدرجات العلا.
الملك :
متى عرفت هذا المذهب واعتقدت هذا الرأي؟
الوزير :
من زمن طويل.
الملك :
فما الذي منعك أن تذاكرني به في حينه مع طول صحبتك، ومظاهر إخلاصك؟
الوزير :
والله ما تركت الحديث عنه ضنا بك، ولا سوء ظن بمقدرتك وقوة ذهنك، ولكني علمت أن الحديث في هذا الشأن لا يتأتى إلا عند مواتاة الفرصة وانشراح الصدر، وأيقنت أن الأمر خطير، فالنفس مولعة بما ألفت، حريصة على ما ورثت، ولا تعدل عنه إلا بعزم قوي، ونية خالصة، وجهاد طويل، وهمة عالية في تعرف الحق واعتناقه؛ فلما سنحت الفرصة، ورأيت كل شيء حولنا صالحا لمحادثتك، ونفسك مستعدة لمذاكرتك، أفضيت بالأمر إليك راجيا الله توفيقك.
الملك :
ما أعجب كلامك، ولست أذكر أن قد ورد على سمعي مثله، إنه ليفتح آفاقا للفكر، ومجالا للنظر، لقد آمنت بمبادئك في جملتها، وكفرت بعبادة الأصنام فلا صنم منذ اليوم، ولكن تفاصيل ذلك تحتاج إلى منهج يرسم وخطط تعد، ندرسها من غير أن نتأثر بإلف، ونبحثها من غير تقيد بتقليد، حتى نصل إلى النهاية، ونبلغ الغاية.
الفصل الثاني والثلاثون
الخوف
الخوف من الأمراض التي تنغص الحياة وتذهب بالسعادة .
هو مرض خطير قل أن يسلم منه إنسان، وهو أشكال وألوان، يشكل أعمال الإنسان ويوجهها طوع إشاراته، وحسب إيحائه، وفي كثير من الأحيان يصده عن العمل، ويسبب له اليأس، ويفقده الأمل.
فمن أول أنواعه الخوف من الفقر؛ وهو من أخطر أنواعه؛ لأنه يشل قوة التفكير، ويقتل الثقة بالنفس، ويولد الشك، ويضعف اليقين، ويفقد الأمل والطموح .
وقد زاد هذا الخوف في عصرنا عن كل العصور السابقة، للتزاحم المالي الشديد والتقاتل عليه، مما لم يعرف له من قبل مثيل، فقد أعلت المدينة الحديثة شأن المال جدا، وتسابق الناس في مقاتلة بعضهم بعضا لكسبه، نعم إنه داء قديم في الإنسان ولكنه لم يبلغ الخطر الذي بلغه الآن، فالفقير ليست له قيمة سياسية ولا اجتماعية ولا قانونية، ومالك المال - مهما كانت الوسائل التي اتخذها في جمعه - هو الذي يسيطر وهو الذي ينتخب فيشارك في السياسة، وهو الذي تخضع له الرقاب.
من أجل هذا كان تصور الفقر مرعبا وكان الخوف منه شديدا، ومما زاده سوءا أن حاجتنا في الحياة أصبحت معقدة مركبة، وما كان يكفي الرجل وأسرته قديما لا تكفي أضعافه الآن، وكان رب الأسرة يحتمل العيشة الخشنة والرضا بالكفاف؛ ولكنه الآن يرى أن ضرورات العيش لا عداد لها؛ فهو يخشى الفقر؛ لأنه هو وأسرته لا يستطيعون أن يصبروا على القليل، وهو إن افتقر كان أتعس ممن قبله عندما افتقروا.
ومما يزيد الإنسان خوفا من الفقر شعوره الشديد أنه يوم يفقد ماله، ويوم لا يستطيع أن يسد حاجاته وحاجات أسرته يفقد عزته، ويشعر بالمذلة ويرى نفسه أحقر من إخوانه الذين يملكون المال ولو كان أشرف منهم نفسا وأحسن منهم خلقا، كل ذلك يملأ قلبه رعبا من تصور الفقر وتوقعه.
ونوع آخر من الخوف، الخوف من النقد ومن كلام الناس، وهذا الخوف يسيطر على أعمالنا لدرجة كبيرة.
وهو يتخذ أشكالا لا عداد لها، فالناس يلبسون «الطربوش» في الصيف لا للحاجة إليه ولكن خوفا من كلام الناس، ويعملون كثيرا مما يعملون ويتجنبون كثيرا مما يتجنبون خوفا من كلامهم.
واختراع «البدع» (الموضة) كل عام وإقبال الناس عليه مبني على هذه النظرية، فالمصانع تخرج كل سنة بدع الملابس فتلبسه طائفة ممن عرف بالأناقة؛ فتهرع السيدات والآنسات للبسه خشية من كلام الناس؛ وهكذا مصانع السيارات ونحوها.
وكثير من العقلاء والمفكرين يجارون الناس في آرائهم وأعمالهم وإن اعتقدوا سخافتها خوفا من كلام الناس.
ولو لاحظ الإنسان كل تصرفاته اليومية من أيام صغره إلى أيام كبره لرأى أن أكثرها صادر عن الخوف من نقد الناس.
وما مرض الفخفخة وحب الظهور، ولا مرض الخجل والمبالغة في الحياء، ولا مرض حب التقليد وعدم الابتكار إلا أعراض من أعراض الخوف من كلام الناس.
ثم الخوف من المرض: وهذا النوع من الخوف متصل بنوعين آخرين هما الخوف من الهرم والخوف من الموت، والإنسان يخاف من المرض؛ لأنه يستحضر في ذهنه احتمال الموت منه، كما قد يستحضر صورة العجز عن كسب العيش.
وقد استغل هذا الخوف من المرض تجار الأدوية فصنعوا منها ما أغرق الأسواق، وكثير منها ليس علاجا حقيقيا، وإنما هو علاج وهمي لأمراض وهمية ناشئة من مرض الخوف من المرض.
وهذا الخوف قد ينتهي عند بعض الناس إلى مرض حقيقي؛ لأن الإيعاز المستمر بالمرض قد يسبب المرض، وكثيرا ما تحدث صاحبك بسوء صحته أو تغير لونه، فيشعر عقب ذلك مباشرة بالضعف والتخاذل والمرض.
ويكاد هذا المرض يكون عاما عند الناس، وكثيرا ما يبعث عليه الفشل في الحياة، أو الفشل في الحب، أو اليأس من شيء مرجو، أو التعب الجسمي، فسرعان ما تظهر؛ إذ ذاك أعراضه.
ومن أعراضه كثرة الكلام في المرض، واستفسار الأطباء عن المرض، وقراءة الإعلان عن الأدوية، وكثرة وزن الجسم في الموازين العامة في الطرق، وتوهم المريض عندما يسمع وصف مرض أنه مصاب به، وكثرة استعمال المسكنات، وهكذا.
وهناك الخوف من فقد حب من يحب، وهو خوف يلازم الحب غالبا، فيخاف المحب أن ينصرف عنه محبوبه إلى غيره، وهذا - غالبا - هو علة الألم من الصد والهجران.
وهذا الخوف كان مظهره في الزمن القديم الاستيلاء على المرأة بالقوة وحبسها ومراقبتها مراقبة شديدة ونحو ذلك، ثم حولته المدنية إلى محاولة كسب قلبها من طريق الإغراء بالتحبب إليها والتظاهر بمظاهر العظمة والجاه ونحو ذلك.
وهذا النوع من الخوف يحدث للمرأة كما يحدث للرجل، بل هو عند المرأة أشد؛ لأن المرأة أقل ثقة بالرجل من الرجل بالمرأة، وخاصة عندما تسمح شرائع البلاد بالطلاق أو تعدد الزوجات:
ومن أعراضه شدة الغيرة؛ غيرة الرجل على المرأة والمرأة على الرجل حتى يصل بالإنسان إلى درجة الهوس، فيكون الاتهام من غير أن تكون له أسباب معقولة.
كما أن من أعراضه كثرة مؤاخذة المحب حبيبه حتى على الأمور التافهة والأمور الوهمية، وكثرة العتاب، وما إلى ذلك.
ثم الخوف من الهرم أو الشيخوخة، ويرجع سبب هذا الخوف إلى عاملين:
الأول:
الخوف من أن الشيخوخة قد تعجز المرء عن الكسب فيكون عالة على غيره، وأكثر ما يكون هذا عند العمال والصناع ومن يعيشون على كسبهم اليومي فهم يعيشون على حساب صحتهم؛ فإذا عجزوا عن العمل حرموا وسائل العيش.
والسبب الثاني:
هو أن الشيخوخة نذير الموت، والموت بغيض مخيف.
وقد يكون من أسبابه أيضا شعور المرء أنه إذا شاخ وهرم فقد جانبا كبيرا من استمتاعه بنعيم الحياة؛ إذ لا يعود يستطيع أن يجذب المرأة إليه، ولا المرأة أن تؤثر في الرجل، وربما كان هذا السبب الأخير عند المرأة أقوى منه عند الرجل؛ لأن جمال المرأة رأس مالها في الحياة، فهي تخشى الشيخوخة التي تضيع لها رأس مالها.
وأعراض هذا المرض تختلف اختلافا متناقضا، فأحيانا يظهر في شكل كثرة حديث المسنين عن الشيخوخة، وانتهاز كل مناسبة للتحدث عن شيخوختهم، وأنهم انتهوا من دور الشباب، واعتذارهم من حين لآخر عن كسلهم أو يأسهم أو فشلهم بشيخوختهم، وأحيانا يكون من أعراضه التظاهر بمظهر الشباب كصبغ الشعر، والتأنق في الملبس، ومحاربة تجاعيد الوجه، وتكلف اعتدال القامة، والكذب في السن الحقيقة.
وقل أن يعزيه عن شيخوخته كبر عقله، ونضوج تفكيره، وهو في أغلب الأحيان يألم عند الاحتفال بعيد ميلاده أكثر مما يحمد الله على بلوغه هذه السن.
وأخيرا - ويجب أن يكون أخيرا - الخوف من الموت، وهو عند أكثر الناس أشد أنواع الخوف، وسببه - في الأغلب - يرجع إلى أمرين: الخوف مما بعد الموت؛ لأنهم يرون أنهم في حياتهم لم يرضوا الله بكثير من أعمالهم، والله حاكم عادل يثيب المحسن، ويعاقب المسيء، فهم يستحضرون في أذهانهم إساءتهم ، ويستحضرون ما للإساءة من عقوبة، فهم لذلك يخشون الموت كما يخشى المجرم المحكمة؛ والسبب الثاني ما يشعرون به من لذعة إذا تصوروا فراق الأهل والخلان.
وهذا النوع من الخوف عند الشيوخ أكثر منه عند الشباب، وعند الفارغين من العمل أكثر منه عند العاملين، وعند ضعاف الأعصاب أكثر منه عند أقوياء الأعصاب.
وقد يبالغ فيه بعض الناس، فيظهر ذلك بمظاهر مختلفة؛ فمنهم من يزهد في الحياة وينقطع للعبادة، ومنهم من ينغص عليه الحياة فيصبح مهوش الفكر مضطرب العقل، لا يصلح لعمل دنيا، ولا عمل آخرة، إلى غير ذلك.
هذه الأنواع من الخوف تملأ الحياة، وتلونها وتصبغها أصباغا مختلفة؛ حتى لو قلنا: إن أكثر أعمال الإنسان هي نتيجة الخوف؛ لم نبعد، بل هو كذلك أهم سبب للاتجاهات التي يتجهها الإنسان في حياته من فعل وترك، وفعل هذا دون فعل ذاك، والسير في هذه السبيل دون تلك.
والآن وقد فرغنا من وصف المرض وأعراضه ومضاعفاته يحق لنا أن نتساءل: إذا كان هذا هو المرض فما علاجه؟
لقد أبنا أن الخوف حالة نفسية تستولي على الفكر فتشله، فإذا نحن آمنا بأن للإنسان قوة على تفكيره كما أراد، كان هذا مفتاح العلاج.
احم نفسك من مؤثرات الخوف سواء في ذلك ما تثيره نفسك، وما يثيره من حولك، وكن شديد الإيمان بأن لإرادتك قوة تستطيع بها أن تزيل هذه المخاوف، وأن تبني حاجزا يحول بين نفسك وبين مؤثرات الخوف.
اقرأ ما يبعث فيك القوة والشجاعة، ويملؤك أملا وطموحا، ويقوي إرادتك على نفسك.
آمن بأن توقع الشر شر من الشر نفسه، فلا معنى أن يجمع الإنسان على نفسه شر الشر وشر توقعه .
حلل نفسك وتبين سبب مخاوفها: هل أنت تكره عملك الذي تعمله، ولماذا؟ هل أنت خاضع لمؤثرات تستوجب خوفك، فكيف الخلاص منها؟ هل فقدت الثقة بنفسك؛ ولماذا؟ هل أنت فارغ من العمل فتستسلم من أجل ذلك للمخاوف؛ إذن فكيف تملأ وقتك بالعمل؟ هل أنت تضعف أعصابك بالمسكرات أو كثرة التدخين، فتقع تحت تأثير الخوف من أجل ذلك؛ إذن فكيف تتغلب على ذلك؟ أي أنواع الخوف الستة أكثر تأثيرا فيك؛ ولماذا؟ هل لديك الوسائل الروحية والعقلية التي تستطيع أن تتغلب بها على الخوف، فإذا لم تكن؛ فكيف تحصل عليها؟ هل أنت واقع تحت تأثير أصحاب يسببون لك الخوف، فكيف تتخلص منهم؟ هل تصادق من هم أضعف منك عقلا وروحا؟ إذن فكيف تغيرهم بمن هم خير منهم!
ما أهم سبب لمتاعبك؟ كيف تعالجه؟ كيف تقسم زمنك، كم منه للنوم؟ وكم للعمل العقلي أو القراءة؟ وكم لعملك المعتاد؟ وكم للعبك وراحتك؟
فهذه الأسئلة ونحوها إذا أنت أجبت عنها في أمانة وإخلاص تعرفت نفسك وتعرفت مخاوفك، وتعرفت كيف تسلط إرادتك على أسباب الخوف فتمحوها.
وأخيرا ردد على نفسك «لا تخف» وردد قوله تعالى:
قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا .
الفصل الثالث والثلاثون
الأدب الاجتماعي
أعني به الأدب الذي يجب أن يتأدب به الفرد من حيث هو عضو في مجتمع، وعضو في أمة، فكل إنسان له شخصيتان: شخصية فردية، وعليه إزاءها واجبات فردية، وشخصية اجتماعية، وعليه إزاءها واجبات اجتماعية.
والإنسان تتوزعه عاطفتان: عاطفة حب ذاته، وعاطفة حب أمته، والشخص البدائي هو الذي ينظر إلى كل الأمور مراعيا شخصه فقط، والشخص الراقي هو الذي ينظر إلى ذاته وإلى أمته، ويعطي هذه حقوقها وهذه حقوقها؛ بل هو إذا ارتقى جدا رأى خيره في خير أمته، وخير أمته في خيره، وتوحد الأمران.
هذا الشعور بالواجبات الاجتماعية لا يخلق مع الإنسان يوم أن يولد، ولكن المجتمع الذي يعيش فيه هو الذي يكونه ويربي عنده شعوره بالأمة بجانب شعوره بذاته، وذلك بواسطة التربية في الأسرة وفي المدرسة وفي الحياة الخارجية في المجتمعات، هنالك روح للمجتمع هي التي تسيطر على الفرد فتعلمه أن يحد من أنانيته وألا يقيس الأمور كلها بشخصه، وهي التي تعلمه النظام والترتيب، وهي التي تمده بالقوة ليكبح جماح حبه الشديد لنفسه، وهي التي تمده بالمعاني السامية ليشعر بأمته ويغار عليها ويعمل لخيرها.
فإذا كانت روح الأمة قوية استطاعت أن تطبع الأفراد بطابع قوي لخدمتها والتفكير فيها والعمل لخيرها، وإذا كانت روح الأمة ضعيفة قويت روح الأنانية في الأفراد ولم يفكروا إلا في أشخاصهم.
والحق أننا ينقصنا كثير من قوة الروح الاجتماعية من حيث أننا إمة، وهذا من أهم الفروق بين أمم الشرق وأمم الغرب، فلكل من الشرق والغرب مزاياه وعيوبه، ومن أظهر عيوبنا ضعف الشعور الاجتماعي، ضعف الشعور «بنحن» وقوة الشعور «بأنا».
من مظاهر ذلك عدم نجاحنا في الأعمال الاجتماعية - غالبا - كاللجان والنوادي والجمعيات والأحزاب والنقابات ونحو ذلك؛ وسببه أن هذه مجتمعات لا يمكن أن تنجح إلا إذا توارى إلى حد كبير الشعور بأنا، وظهر إلى حد كبير الشعور بنحن.
وأساس فشل هذه الجمعيات عدم تربيتنا تربية اجتماعية يتناسى فيها الفرد ذاته وأنانيته، ولهذا إذا نجح عمل اجتماعي عندنا فلأنه تحول من عمل اجتماعي وعمل مجتمع إلى عمل فرد قوي الشخصية قوي الإرادة تجمعت فيه كل الشخصيات، أو فرد نشيط كفء يعمل كل العمل والأفراد الآخرون يتكلون عليه، وبذلك يخرج عن كونه عمل جمعية في الحقيقة إلى عمل فرد مظهره مظهر جمعية.
فنحن إلى الآن لم نتعلم عمل الجمعيات، حيث توزع الواجبات على أفراد الجمعية وتنظم الأعمال، ويعرف كل عضو ما له وما عليه ويقوم به، وتلتقي هذه الأعمال كلها في شكل متضامن منظم.
لا علاج لهذا إلا التربية التي تشعر الفرد بمسئوليته نحو مجتمعه.
يدل على هذا المعنى قصة سمعتها عن المرحوم الشيخ محمد عبده، فقد سافر مرة إلى أوروبا، ومع صديق له، صعد هذا الصديق مرة إلى ظهر السفينة فوجد الشيخ محمد عبده يبكي فعجب من ذلك وسأله عما يبكيه؟ فأخفى عنه السبب أولا ، فلما ألح عليه قال: وجدت بنتا صغيرة تجري وتلعب، ثم وقفت عند شجرة من الأشجار الصغيرة الموضوعة في الأصص فقطفت منها زهرة، فجاءت مربيتها الإفرنجية وأنبتها على عملها، وأبانت لها أن هذه الشجرة وزهرتها ليست ملكها، بل هي لإمتاع من في السفينة جميعا، وأن كل إنسان في السفينة له الحق في المتعة بها، وأنت بقطفك هذه الزهرة قد تعديت على حقوق كل من في السفينة ومن يركبها بعد، وحرمتهم لذتهم، ثم أخذت تلقي عليها درسا في الملكية الخاصة والملكية العامة، قال الشيخ محمد عبده: تذكرت؛ إذ ذاك علماءنا ورجالنا ونساءنا في مصر، وعجزهم عن فهم هذه المعاني وتفهيمها لأبنائهم وبناتهم فدمعت عيني.
هذا ضرب من أهم ضروب الأدب الاجتماعي وهو الشعور بحق الغير، ومنفعة الغير، ومراعاة شعور الغير، وهو معنى نحن في أشد الحاجة إليه اليوم.
لو نما هذا الشعور لوجدت لدينا آلاف الجمعيات الناجحة للخدمة العامة، هذه تمد البائس الفقير، وهذه تربي الأطفال المشردين، وهذه تساعد المرضى، وهذه تثقف عقول الجاهلين، وهذه تعين الطلبة العاجزين عن المصروفات الدراسية، وهذه لإسعاف المنكوبين، ولو نما هذا الشعور لرأيت كل فرد قادر يزكي عن قدرته العلمية أو المالية أو الخلقية بشيء من مقدرته لخدمة الهيئة الاجتماعية، إجابة لشعوره بواجبه لأمته.
ومن مظاهر ضعف هذا الأدب الاجتماعي فوضى المجتمعات عندنا، سواء كان الاجتماع لمحاضرة علمية أو أدبية، أو حفلة غنائية أو موسيقية، أو مشاهدة سينما أو رواية تمثيلية؛ يفهم كل فرد أن المحاضرة له وحده، أو السينما أو التمثيل له وحده، ولا يفهم مطلقا أن هذه المحاضرة أو هذه الحفلة له وللناس، فتراه يتكلم مع جاره بصوت عال ولو تأذى الجمهور، ويضحك ويهوش ولو تضايق من حوله، ولو كان عنده شعور اجتماعي بأن له ما للآخرين وعليه ما عليهم ما أتى بشيء من هذا، ولراعى شعورهم كما يحب أن يراعى شعوره، ولفهم أن الحرية التي يتشدق بها ليست أن يفعل ما يشاء بغير قيد ولا شرط، بل الحرية الممنوحة له مقيدة بقيود أولها ألا يؤذي غيره، وأن يكون له منها مثل ما لغيره.
مظاهر هذه الفوضى نراها في كل شيء: في هذه المجتمعات التي ذكرناها، وفي الشوارع، فكل سائر يعتقد أن الشارع ملكه وحده، يرمي فيه بالأوراق التي يستغني عنها كما يشاء، ويسير في أي جانب كما شاء، وتراه عند شباك «التذاكر»، فكل يعتقد أن له الحق وحده أن يأخذ أول تذكرة ولو جاء آخر رجل، وأن الأمر أمر مزاحمة وقوة جسم، ولباقة حركة، ولا عبرة بالسبق، ولا بأي اعتبار آخر.
إن الحرب الحاضرة كشفت لنا عن نقص شنيع في هذا النوع من الأدب الاجتماعي، فمشكلة الدقيق، ومشكلة السكر، ومشكلة الأرز، وغيرها من مشاكل التموين ناتجة عن نقص الأدب الاجتماعي أكثر منها نتيجة لنقص المواد الغذائية، فكم من الناس لا ينظرون إلا إلى أنفسهم فيخزنون ما قدروا عليه من غير مراعاة لغيرهم من المحتاجين، وكم من التجار الجشعين الذين ينتهزون الفرصة ليربحوا ربحا غير معقول ولو هلك الجمهور؛ ولو كان في الأمة أدب اجتماعي راق لخفف كل هذه المصائب، ولا يمكن لأية حكومة ولا أية سلطة أن تنجح في حل هذه المشاكل نجاحا تاما ما لم يسعفها الأدب الاجتماعي، وما لم يشعر الفرد بنحن بجانب شعوره بأنا، وما لم يفهم أن له حظا من الخير بجانب حظوظ الناس، وأنه يجب أن يتحمل شيئا من المتاعب كما يتحمل الناس.
حتى الأمور التافهة الصغيرة التي تصل بالأدب الاجتماعي لا تؤدى كما ينبغي فهذا يرسل إليك خطابا فلا ترد عليه، وهذا يهدي إليك كتابا فتتهاون في شكره، وهذا يسدي إليك معروفا فلا ينال منك كلمة ثناء عليه وتقدير لعمله كأن كل الناس مسخرون لخدمتك وحدك، كما يسخر العبيد للسيد من غير حاجة إلى كلمة شكر.
وقد مرت الأمم الأخرى بمثل حالتنا التي نحن عليها الآن، ولكن عالجتها بأمور كثيرة - فأولا - عالجتها بنظام الجندية، فكل فرد لا بد أن يمر بالجندية زمنا ما، وفي هذا الزمن يتعود الرجولة والنظام، ويتعلم درسا هاما في الأدب الاجتماعي، وهو أنه لا يعيش وحده، وأنه جزء صغير من جيش كبير، وأن عليه عبئا يجب أن يحمله هو ولا يحمله سواه، وأن شخصه جزء من فرقته، خيرها خيره وشرها شره، وأنه يتحرك بحركتها ويسكن بسكونها، وأن عليه واجبات وله حقوقا؛ وهكذا يتعلم الروح الاجتماعية التي تلازمه إذا خرج من الجندية، وقد شاهدت هذا المعنى في طلبة من الجامعة جندوا فتغيرت روحهم وأصبحوا أطوع للنظام وأكثر تقديرا للحقوق والواجبات، وأشد شعورا بمسئوليتهم نحو أمتهم.
ثم إلى جانب الجندية وجهوا التربية في الأسر وفي المدارس نحو تفهيم هذا الأدب الاجتماعي، حتى أشعروا كل فرد أنه جزء من كل، ففي الأسرة علموا الأبناء أن يعيشوا في البيت عيشة اجتماعية، كل فرد يشعر أن خير الأسرة كلها خيره وشرها شره، وأن ميزانية البيت ليست لأحد وإنما هي لكل أحد، لا يتمتع بها واحد أكثر من غيره، وأن الفرد الناجح في الأسرة يصيب نجاحه الأسرة كلها، وفشل فرد منها يصيب الأسرة كلها؛ وفي المدرسة رسموا الخطط المتعددة لتعويد الأطفال أن يعملوا في شكل جمعيات، هذه جمعية للعب، وهذه للأشغال، وهذه للكشافة، وهذه للفنون، وهذه للعلوم، وهكذا، ونظموا هذه الجمعيات تنظيما دقيقا، وقووا الروح التي تسيطر على كل فرد حتى يندمج في جمعية يشعر بشعورها، ويعتز بعزتها، ويهون بهوانها.
فلما خرجوا من البيت على هذا النظام، ومن المدرسة على هذا النظام، ومن الجندية على هذا النظام، خرجوا إلى الحياة العامة وهم متشبعون بهذا الروح؛ فنجحت نقاباتهم، وأنديته، وأحزابهم، وجمعياتهم؛ لأنهم نشئوا عليها من صغرهم، وربوا تربية اجتماعية من طفولتهم، وأصبحت «نحن» بجانب «أنا» تماما لا تفارقها ولا تتخلف عنها.
ثم إن معيشتهم في وسط الآلات والمصانع علمتهم أن كل فرد كجزء من الآلة إذا تعطل ترس تعطلت الآلة كلها، ولا يمكن لآلة أن تنجح إلا إذا أدى كل جزء ما عليه، متعاونا مع باقي الأجزاء، فأوحى هذا كله إلى نفوسهم العمل الإجماعي والأدب الاجتماعي.
أما بعد؛ فإن أخلاقنا الفردية لها مزاياها وعيوبها ككل أمة أخرى، إنما الآداب الاجتماعية هي أهم ما ينقصنا، وهي وحدها - مع الأسف - عنوان الأمة ومظهرها أمام من يحكم لها أو عليها؛ فهم لا يحكمون علينا بأخلاقنا الشخصية، بمقدار ما يحكمون علينا بمظهرنا في الشارع وفي المجتمعات، إنهم يرون البائس الفقير جدا بجانب الغني جدا، فيعلمون أن الغني قد فقد الخلق الاجتماعي، وهم يرون نوادينا وجمعياتنا فيحكمون منها على مقدار رقينا، إن الأمر في نظري لا يحتاج إلا إلى تكوين جيل واحد يبذل فيه الزعماء والقادرون كل قوتهم لتكوين هذا الأدب الاجتماعي والخلق الاجتماعي في نفوس الناشئين، وأخذهم بالحزم والقوة حتى يتعودوه، وأنا ضامن أن الأجيال المقبلة تسير بعد على هذا النظام من نفسها.
الفصل الرابع والثلاثون
جمال الدين الأفغاني
يعجبني أحيانا طريقة القدماء في ترجمة العظماء، فيختفي المترجم ويظهر المترجم، ويكتفي بذكر الأحداث التي حدثت للعظيم وتصرفه فيها، والكلمات التي فاه بها، ونحو ذلك؛ ويترك القارئ يفهم منها ما شاء، ويستنتج منها ما شاء، ويقوم ما شاء؛ لا يملي شرحه وتفسيره، ولا يفرض على القارئ فهمه ولا يتحكم هو في رسم الصورة التي يراها؛ وذلك ما فعل الأصفهاني في الأغاني، وياقوت في معجم الأدباء، وابن خلكان في وفيات الأعيان، وغيرهم من مؤرخي العرب.
وقد قرأت في هذه الأيام ترجمة للسيد جمال الدين من هذا القبيل، اكتفى فيها المترجم - غالبا - بنقل آراء الأستاذ وأقواله وأحداثه؛ وجعل ذلك كله يصوره كما يشاء القارئ
1 ؛ وقد استوقف نظري بعض أحداث وأقوال أرويها كذلك من غير تعليق: (1)
قال له «المخزومي» يوما: إن بعض الأصدقاء يرغبون في الحصول على ترجمة الأستاذ، فقال له: «قل لهم: إن العيان لا يحتاج إلى ترجمان، قل لهم ما قال فلان عني (وفلان هذا عدو من أعدائه) إنه متشرد أو أفاق، وأي نفع لمن يذكر أنني ولدت سنة 1254 وعمرت أكثر من نصف قرن، واضطررت لترك بلادي، وأكرهت على مبارحة الهند، وأجبرت على الابتعاد عن مصر؟». (2)
ولما جمع المخزومي هذه الوقائع استشار الأستاذ في اسمها، فقال: سمها «خاطرات»؛ فقال المخزومي: إن بعض الأصدقاء نبهني إلى أن هذه اللفظة غير صحيحة في اللغة، والأقرب للصواب أن نسميها «خطرات» أو «خواطر»، فقال: قل «خاطرات» ولا تبال بمن فسد لسانهم ولا يصلحون إلا للأجوف والمهموز، ولا يحسنون جملة تنقر حبة القلب أو تطرب السمع.
وكتب يوما كلمة بعنوان «سياسة بقروتية في مملكة فرعونية»، فاعترض عليه في كلمة بقروتية، فقال: كيف صح لهم أن يقولوا «ملكوت» و«جبروت» ولا يصح لي أن أقول «بقروت»؟ ونظير هذا قوله: لا يصح للسماعي والقياسي أن يمنع أحدهما الآخر، فإذا جاز بالسماعي «أن ينحرف» جاز بالقياسي «أن ينعوج». (3)
ولما جاء مصر أعجبه برنامج الماسونية من دعوة إلى «الحرية والإخاء والمساواة» فانضم إليها، وعرض عليهم في المحفل يوما إعانة لأحد الإخوان، فسأل «الأستاذ»: هل الأخ مريض؟ قالوا: لا، قال: هل هو صحيح البنية؟ قالوا: نعم، فقال: «صحة البدن وذل السؤال لا يصح أن يجتمعا لإنسان.».
وحضر مرة اجتماعا فيها، فقال أحد الخطباء: «إن الماسونية لا دخل لها في السياسة.»؛ فعجب جمال الدين كل العجب من أن الجمعية التي برنامجها «الحرية والإخاء والمساواة» لا ترفع صوتها لرد الحرية إلى مسلوبها، وانفصل من الجمعية وكون محفلا وحده. (4)
ولما أخرج من مصر ذهب بعض محبيه إلى السويس يحملون له مقدارا من المال، عرضوه عليه وسألوه أن يقبله قرضا، فقال لهم: «أنتم إلى هذا المال أحوج، والليث لا يعدم فريسته حيثما ذهب.». (5)
ولما استدعاه السلطان عبد الحميد إلى الآستانة سنة 1892 ووصل إليها، كان في انتظاره الياور السلطاني، فسأله: أين صناديقك يا حضرة السيد؟ فقال: ليس معي غير صناديق الثياب وصناديق الكتب، قال الياور: حسنا! دلني عليها، فقال السيد: صناديق الكتب هنا (وأشار إلى صدره)، وصناديق الثياب هنا (وأشار إلى جبته).
وقد قال: «كنت أول عهدي أستصحب جبة ثانية وسراويل، ولكن لما توالى النفي صرت أستثقل الجبة الثانية، فأترك التي علي إلى أن تخلق فأستبدلها بغيرها.». (6)
وكان يجالس السلطان عبد الحميد كثيرا، فسئل عن رأيه فيه، فقال: «إن السلطان عبد الحميد لو وزن مع أربعة من نوابغ رجال العصر لرجحهم : ذكاء ودهاء وسياسة، خصوصا في تسخير جليسه ... ولا عجب إذا رأيناه يذلل ما يقام لملكه من الصعاب من دول الغرب، ويخرج المناوئ له من حضرته راضيا عنه وعن سيره وسيرته، مقتنعا بحجته، سواء في ذلك الملك والأمير والوزير والسفير؛ ولكن يا للأسف عيب الكبير كبير، والجبن من أكبر عيوبه.». (7)
وعرض عليه السلطان عبد الحميد منصب مشيخة الإسلام، فأبى إلا أن يعمل عمل أساسي يتغير به النظام الحاضر، وقال: «إن وظيفة العالم ليست بمنصب ذي راتب، بل بصحيح الإرشاد والتعليم، ورتبته ما يحسن من العلوم مع حسن العمل بالعلم.». (8)
وعاش جمال الدين عزبا لم يقترن في حياته بامرأة، وكان كلما شكا له أحد كثرة العيال وقلة ذات اليد يعينه على قدر استطاعته، فعرض عليه السلطان يوما أن يزوجه جارية حسناء من قصر يلدز، فامتنع السيد من ذلك، فسئل: هل تؤيد رأي أبي العلاء:
هذا جناه أبي عل
ي وما جنيت على أحد
قال: «كلا، كيف يصح لعاقل أن يعتبر الزواج جناية وبه بقاء النوع واستكمال حكمة العمران؟ أما أنا فمعرفتي بما تتطلبه الحكمة الزوجية من معاني العدل، وعجزي عن القيام بأمره دفعني أن أتقي عدم العدل ببقائي عزبا.».
فقال له طبيب يهودي كان من خاصته: فهل تفاديا من الخوف من عدم العدل يجوز أن يخالف الإنسان طبيعته؟ فتبسم السيد وقال له: «إن الطبيعة أحكم منك، فهي تدبر نفسها، ومن ترك شيئا عاش بدونه.».
قيل له: إنك تقبل من السلطان عطاءه من المال، فلم لا تقبل عطاءه من الجواري الحسان؟
قال: أما المال الذي يعطينيه فإني أجد له - على قدر اجتهادي - أكفاء يقومون بأداء الواجب نحوه، وأما الزواج بالجارية الحسناء فما أنا بالكفء لها، ولست بوليها لأتحرى لها كفؤها. (9)
وكان السيد جمال الدين كثير الإعجاب بذكاء الشيخ محمد عبده وفضله، وكان كلما ذكره يقول: «صديقي الشيخ»، وكان السيد عبد الله نديم في آخر أيامه يكثر من التردد على منزل جمال الدين، فقال له يوما قد أكثرت من الثناء على الشيخ محمد عبده كأنه لم يكن لك صديق غيره، وتنعت غيره بقولك: صاحبنا، أو «فلان من معارفنا»، فتبسم السيد جمال الدين وقال: «وأنت يا عبد الله صديقي؛ ولكن الفرق بينك وبين الشيخ أنه كان صديقي على الضراء، وأنت صديقي على السراء.» فسكت النديم. (10)
وكان جمال الدين يهزأ بمبدأ «دارون» الذي يعنون «بتنازع البقاء»، ويقول: إن المبدأ هو «تنازع الفناء»، ويقول: إن البقاء الذي ينبغي أن يطلب ولا يعتريه فناء ليس فيه تنازع ولا نزاع، والتنازع القائم الآن إنما هو على أشياء تفنى، والمنتزع والمنازع والمنزوع منه سواء في المصير إلى الفناء، فكان الأولى أن يقال: «تنازع الفناء».
قيل له: وهل يجمع العالم المتمدن كله على مثل هذا الخطأ؟
فقال: وما العالم المتمدن؟ هل رأينا غير مدن كبيرة وأبنية شامخة وقصور مزخرفة ينسج فيها القطن والحرير بأصباغ كيمياوية مختلفة ألوانها، ومعادن ومناجم، واحتكار تجارات أتت لهم بثروات، ثم هل غير التفنن في اختراع المدافع المريعة والمدمرات والقذائف وباقي المخربات القاتلات للإنسان، تتبارى فيها تلك الأمم الراقية المتمدنة اليوم؟
لو جمعنا كل تلك المكتسبات العلمية، وما في مدنيات تلك الأمم من خير، وضاعفناه أضعافا مضاعفة ووضعناه في كفة ميزان، ووضعنا في الأخرى الحروب وويلاتها، لكانت كفة العلوم والمدنية والتمدن هي التي تنحط وتغور، فالرقي والعلم والتمدن على ذلك النحو إن هو إلا جهل محض، وهمجية صرفة، وغاية التوحش، فالإنسان في ذلك أحط من الحيوان.
هل سمعت أن ثلاث مئة ألف أفعى وقفت تجاهها مثلها وتقلبت بينها الأنياب وقاتل بعضها بعضا؟ أو هل وقفت الأسود صفوفا وتناهشت لحوم بعضها وسالت دماؤها؟ فليس ثمة مدنية ولا علم، ولكن جهل وتوحش. •••
ثم روى للسيد جمال الدين كلمات كان يقولها في مناسباتها.
كان إذا أقسم قال: «وعزة الحق وسر العدل» - الحقائق لا تزول بالأوهام - من سفه الرأي أن يعتقد الرجل أفضليته على الغير بالعمر والمشيب فقط - الفخر بالقول المجرد يبطله المجد بالفعل - لا يؤمن بربوبية القوة إلا شبح الضعف - الأكفاء في العصر لا يكونون على الغالب أصدقاء - تطويل المقدمات دليل على سقم النتائج - من رهب الملوك لغير جريرة فهو الصعلوك - صاحب الحاجة إذا لم ينطق بحاجته أولى بالخرس - ألف قول لا يساوي في الميزان عملا واحدا - إسراف الإنسان بصحته أضر من إسرافه بثروته - بالضغط والتضييق تلتحم الأجزاء المبعثرة - القبة الجوفاء لا ترجع إلا الصدى - شر الأزمنة أن يتبجح الجاهل ويسكت العاقل - الأديب في الشرق يموت حيا ويحيا ميتا - قيد الأغلال أهون من قيد العقول بالأوهام - القوي من الشجر لا يعجل بالثمر - (اللغة) العربية وسعها البدو في البراري والقفار، وضيقها الحضر في المدن والأمصار - العلم قد يكون في الأحداث ولكن التجارب لا تكون إلا في الشيوخ.
الفصل الخامس والثلاثون
حب الهجرة
من أخلاق الأمم القوية «حب الهجرة» فالأمة التي تعتز بقوتها وتشعر بعظمتها، يحب أفرادها أن يسيحوا في الأرض، إما لنشر دينهم وعقيدتهم، وإما لإعلاء شأن وطنهم، وإما لطلب الرزق إذا ضاق في بلدهم، وإما ليزدادوا علما بأحوال البلاد الأخرى، فيفيدوا العالم ببحوثهم واستكشافهم، وإما ليستزيدوا من مناظر الطبيعة وجمالها فيغذوا بذلك ملكاتهم الفنية من شعر وقصص وتصوير وما إلى ذلك من أغراض.
أما الأمم الضعيفة المغلوبة على أمرها فتألف مكانها، ولا تحب أن تفارق عشها مهما برح بها الفقر، ومهما ساءت معيشتها، فأهلها يفضلون أن يموتوا في بلادهم أذلة فقراء، على أن يموتوا خارجها أعزة أغنياء.
أمامي الآن صفحة رائعة من صفحات المسلمين أيام نهضتهم كيف رحلوا وكيف تنقلوا في البلاد المختلفة ينشرون دينا أو يطلبون علما أو يكافحون في التجارة، ويلقون في ذلك الصعاب من غير ملل ولا ضجر.
وكانت الحكومات الإسلامية تتعاون على تنظيم هذه الرحلات فتنشئ الرباطات في كثير من المراحل، وفي مختلف الطرق، وفيها يجد المسافر ما يحتاج إليه، والرباط في أصل وضعه نقطة «عسكرية» كبيرة لحفظ الحدود أن يتسرب إليها جند الأعداء أو جواسيسهم، فأضافوا له غرضا آخر، وهو معونة المسافرين والراحلين، وتزويدهم بما يحتاجون إليه، ولما اشتدت الرغبة في الرحيل قام قوم من علماء الرحالين يؤلفون كتب الدليل، وفيها كل ما يحتاج إليه المسافر من تبيين المسافات بين البلاد وأخلاق أهلها وعاداتهم واعتقاداتهم وخير ما عندهم من أنواع السلع، والمتاجر والمصنوعات، والحاصلات الزراعية، والمكاييل والمقاييس والأوزان، وما فيها من ثغور بحرية ونهرية، وأسماء المشهورين من الناس في كل قطر، وبين أيدينا الآن كتب كثيرة من هذا القبيل ككتاب «أحسن التقاسيم في معرفة أحوال الأقاليم» للبشاري الشهير بالمقدسي؛ ويقول : إنه سافر كثيرا في البحار فقطع ألفي فرسخ، وإنه سافر إلى الصين وسرنديب وركب بحر الأندلس، غير ما جابه من البلدان الإسلامية برا، وكذلك «كتاب المسالك والممالك» للإصطخري، و«المسالك والممالك» للبكري، و«المسالك والممالك» لابن خرداذبه، و«كتاب البلدان» لابن الفقيه، وغيرها وغيرها، وكلها أدلة للمسافرين.
وقد أسس المسلمون في أيام عزهم مراكز تجارية هامة يحضر إليها التجار بسلعهم وأموالهم من مختلف الأقطار، وبها المخازن والفنادق والسماسرة والوكلاء يبيعون ويشترون ويصدرون إلى مختلف الأقطار، وكان هناك صيارفة المال ولهم وكلاء يصرفون الصكوك ويحررون الحوالات لوكلائهم في الأقطار الأخرى، وكان من أهم تلك المراكز «جاوه» وكانت مركزا هاما للبضائع الصينية، و«عدن» و«كازرون» و«العريش».
وقد ذهبوا إلى بلاد روسيا فبلغوا «كوتابه»، وذهبوا إلى أقصى السودان فوصلوا «كوكوا»، وذهبوا إلى التتر لجلب السمور، ووصلوا إلى «خانقوا» وهي التي تسمى الآن «كانتون».
وفي كل هذه البلاد كانوا حيثما نزلوا يتعلمون لغة أهلها وعاداتهم وينشرون فيها لغتهم ودينهم، ويمتزجون بأهلها بالمزاوجة، فلا يمر جيل أو جيلان إلا ويندمجون في الشعوب التي يرحلون إليها.
وقد حكى لنا المسعودي في تاريخه قصصا كثيرة عن هؤلاء الرحالة كابن وهبان الذي كان غنيا كبيرا وتاجرا عظيما، وكان من أهل البصرة، فرحل إلى سيراف، ثم رحل منها إلى الهند بتجارته، إلى أن انتهى إلى بلاد الصين، ورحل إلى بلد الملك وأعمل الحيلة حتى قابله، وأعظمه ملك الصين، وأمر أن تعد له دار من دياره ينزل فيها، وأن تقضى له حوائجه، ثم عاد بعد إلى البصرة بعد أن نجح في تجارته وحدث أهلها بما رأى وما عرف، وحث قومه على الرحلات وتنظيم التجارات.
وكانت رحلاتهم البحرية لا تقل روعة عن رحلاتهم البرية، فأنشئوا المراكب الكبيرة للملاحة في البحر الأبيض والأحمر والمحيط الهندي، حتى وصف بعضهم سفينة كانت تحمل بضعة آلاف راكب وفيها حوانيت للبيع، مع أنها كانت مراكب شراعية، وكانوا أحيانا يستحضرون خشب السفن من البندقية وفيها غواصون لسد الثقوب إن حدثت، وبعض السفن كان يحمل حمام الزاجل ترسل معه الأخبار إلى البلاد، وكانت مراكب المسلمين تقطع البحر الأبيض عرضا في ستة وثلاثين يوما.
وقال المسعودي: «وقد ركبت عدة من البحار كبحر الصين والروم والقلزم واليمن، وأصابني فيها من الأهوال ما لا أحصيه كثرة، فلم أجد أهول من بحر الزنج.»، وكانت أقصى ما تصل إليه المراكب في هذا البحر موزنبيق.
أقام المسلمون بهذه الرحلات والمراكب شراعية تعتمد على الريح، وليس لهم آلات دقيقة لتحديد الجهات، وكانوا يقطعون المسافة من البصرة إلى الصين في شهور طويلة مع احتمال العطب، ومع ذلك لا ينقطعون عن السفر، ولا تعوقهم الشدائد طلبا للرزق أو المجد.
وهناك أمثلة أخرى للهجرة للعلم كالذي ذكره الإدريسي «أنه في القرن الرابع الهجري خرج جماعة من مدينة لشبونة كلهم أبناء عم، وأنشئوا مركبا وتزودوا فيه، ثم ركبوا بحر الظلمات واقتحموه ليعرفوا ما فيه من الأخبار والعجائب، وليعرفوا إلى أين انتهاؤه، وهم يسمون المغررين.».
ومثل العالم الكبير أبي الريحان البيروني، أصله من خوارزم، ولكن أهل بلده كانوا يسمونه الغريب لطول غربته وكثرة أسفاره، كان ذا عقل علمي جبار في الرياضيات والفلك، رحل إلى الهند بعد أن مهر فيما خلفه اليونان من رياضة وهندسة وهيئة، فأكب على ما عند الهند من ذلك ووعاه ونقده، وقارن بين ما للهند وما لليونان، وأبان عيوب هؤلاء وهؤلاء، كما درس حالة الهند الاجتماعية وألف في ذلك الكتب الكثيرة، فألف في الجواهر كتابا اسمه «الجماهر في الجواهر»، وألف كتاب «تاريخ الهند»، وكتاب «ما للهند من مقولة، مقبولة في العقل أو مرذولة»، وألف في الفلك كتاب «التفهيم في صناعة التنجيم».
وهؤلاء المحدثون، طافوا الممالك الإسلامية من أقصاها إلى أقصاها يتقصون ما ورد من الأحاديث، ويجمعون ما تفرق في البلاد، ويأخذون عن شيوخ الأقاليم، ويتفهمون معاني الأحاديث وفقهها، ويفخر المفتخر منهم بأنه رحل من مصر إلى الشام إلى الحجاز إلى العراق إلى خراسان في طلب العلم.
هذه أمثلة قليلة جدا من رحلات المسلمين في أيامهم الأولى، أيام عزهم ومجدهم وقوتهم، سافروا للدين، وسافروا للدنيا، وسافروا للعلم.
وفي عصورنا الحديثة من الأمثلة الرائعة حقا ما فعله السوريون؛ إذ هاجروا إلى الولايات المتحدة فنجحوا في الأعمال الاقتصادية؛ بل وكونوا لهم أدبا عربيا ممتازا.
أفبعد هذا يصح أن نرى هذه الظاهرة العجيبة في كثير من الأمم الشرقية، ظاهرة الخمول والالتصاق بالأرض، وعدم الرغبة في الرحلات والأسفار بعد أن سهلت وسائلها، ومهدت طرقها، وبعد أن ضاق العيش على كثير من أممها في أرضها؟ أليس من العجيب حقا أن يكون كل «موظف» خارج القاهرة يملأ الجو بكاء وعويلا لينقل إلى القاهرة، ويحتال بكل الوسائل، ويسعى كل السعي، ويستعمل كل أنواع الرجاء ليسكن في القاهرة، كأن الأقاليم الأخرى ليس لها حظ من الموظفين، وليس لها حق في أن تدار شئونها؟ وهؤلاء الفلاحون مكدسون في بقعة من الأرض راضون بإقامتهم مع البؤس والفقر، فإذا عرضت عليهم أن يرحلوا إلى غيرها - حيث الأرض واسعة، وميدان العمل متسع، والأمل منفتح - وجدت إعراضا وتفضيلا للإقامة مع الفقر على الرحيل مع احتمال الغنى، وترى الشباب المتعلم يتخرج اليوم من مدرسة أو جامعة، وهو يتطلب وظيفة ويتطلب معها أن يكون في القاهرة وإلا رفض الوظيفة، وتجد الأم تبكي، والأب يبكي، إذا أرسل ابنه إلى بعثة أو عين في وظيفة بعيدا عنهما بساعات، وتسوء حالة الآباء والأبناء من لوعة الفراق، وتعرض وظيفة في الشام أو العراق بضعف المرتب فيرفضها الكثيرون ويرضاها الأقلون؟ إن الأمم التي تطلب عزها، وتسعى لرفعة شأنها لا بد أن يتحمل أفرادها الجلد والصبر والشجاعة وركوب الأخطار في الأسفار، ولا أخطار اليوم ولا صعاب كأمس يوم كان آباؤنا ينتقلون على الحمير والبغال والجمال، ويقطعون المسافة القصيرة في الأزمنة الطويلة والطرق غير مأمونة والسبل غير ممهدة.
الفصل السادس والثلاثون
بساطة العيش
تعجبني الحياة البسيطة لا تعقيد فيها ولا تركيب، وأكره ما أكره التكلف والتصنع وتعقيد الحياة وتركيبها.
ويظهر أن المدنية والحضارة تميل دائما إلى تعقيد الحياة وتركيبها، وكلما قرأت في الحضارات المخلتفة - رومانية أو إسلامية أو أوروبية حديثة - وجدتها جميعا تتشابه في الميل إلى التعقيد والتركيب ، والإسراف في البذخ والترف والرفاهية، ففي الحضارة الإسلامية - مثلا - قرأت أن الوزير ابن الفرات تناهى في الترف حتى ما كان يأكل إلا بملاعق البلور، وما كان يأكل بالملعقة إلا لقمة واحدة، فكان يوضع له على المائدة أكثر من ثلاثين ملعقة، وذكروا عن المأمون أن مائدته كانت تبلغ في بعض الأحيان ثلاث مئة لون، وكان راتب أبي طاهر وزير عز الدولة من الثلج في كل يوم ألف رطل، ومن الشمع في كل شهر ألف من، وغضب المأمون على جارية له، فأرسلت إليه تفاحة من العنبر مكتوبا عليها بالذهب «يا سيدي تبت»، وكانت أم الخليفة المقتدر تعمل نعالها من ثياب تسمى الثياب الديبقية، تقطع على قدر النعال، وتطلى بالمسك والعنبر المذاب، ويجعل بين كل طبقتين من الثياب مسك وعنبر مجمدان، وكان لا يمكث النعل في رجلها إلا أياما ثم ترميه للخدم، وكان النساء المترفات يشترين جلود الثعالب تحضره التجار من سيبريا، يبطن به ثيابهن في الشتاء، وقد ذكر المسعودي أن إبراهيم بن المهدي استزار الرشيد يوما، فقدم له على المائدة - فيما قدمه له - طبقا فيه قطع من سمك، فقال له الرشيد: لم صغر طباخك قطع السمك، قال له: يا أمير المؤمنين هذه ألسنة سمك، فاستحلفه الرشيد أن يخبره عن ثمن هذه الألسنة، فقال له أكثر من ألف درهم، فرفع الرشيد يده، وأبى أن يأكل منها.
ويشبه هذا ما قرأته مرة أن أحد اللوردات من كبار الأغنياء عمل وليمة لبعض الكبراء، فقدم فيها طبقا فيه ألسنة بعض الطيور النادرة.
وقرأت مرة أن أمريكا في سنة 1899، كانت اعتزمت أن تقيم في معرض باريس عمودا من الذهب يساوي ما فيه مائتي ألف جنيه إشارة إلى أنها مملكة الذهب.
ومثل ذلك ما جاء في تاريخ الوزراء للصابي أن المعتضد اجتمع في خزائنه تسعة ملايين من الدنانير فأمل أن يتمها عشرة، ويسبكها سبيكة واحدة، ويضعها في مكان بمرأى من الناس ليسير في الآفاق أن للمعتضد عشرة ملايين دينارا ذهبا هو في غنى عنها، فاخترمته المنية قبل أن يحقق غرضه.
وأمثلة ذلك في الحضارات القديمة والحديثة، وهي في الحديثة آنق وأترف وأعقد، وقد شمل التعقيد والتصنع والتكلف كل مناحي الحياة، وشمل كثيرا من الأوساط بعد أن كان في الحضارات القديمة مقصورا على بعض الملوك والأمراء.
هذا حفل عرس يقام في بيت الأغنياء حتى والأوساط، فتقوم دنياهم وتقعد وترتبك حياتهم وترتبك، ويمر الشهر والشهران والأسرة لا تعرف الراحة، من خطوبة وجهاز، وإعداد حفلة وتنظيمها ونحو ذلك من مشاكل لا عداد لها، ولا ينتهي الزواج حتى تكون الأسرة كلها قد تهدمت أعصابها وماليتها من كثرة ما لاقت من العناء، وما تحملت من أعباء، وما سبب ذلك إلا ما اندفع فيه الناس من تعقيد وتكلف وتصنع.
وهذه مظاهر الحياة كلها معقدة، فالمرأة تقضي نصف عمرها أمام المرآة متصنعة متجملة، وهذه مائدة الأكل يقضى الوقت الطويل في إعدادها وتصفيفها، وهذا الأكل يقضى فيه كل مرة ساعة أو أكثر في وضع صنف، ورفع صنف، وما إلى ذلك.
وهذه الملذات ووسائلها كلها تعقدت وتركبت، فالذهاب إلى التمثيل يكلف كثيرا من العناء في المظهر والملبس والمركب، ويحب كل ذاهب إليه أن يكون هو في نفسه رواية ينظر إليه الناظرون، في ملبسه، ومشيته، ونظراته وما إلى ذلك، وكل ملذة من ملذات الحياة - مشروعة أو غير مشروعة - لا تنال على بساطته وسذاجتها، وإنما تنال على ضروب من التعقيد والتكلف لا نهاية لها.
ومن الغريب أن المتلذذ بهذه الضروب من التكلف لا يلبث أن يعتادها ويألفها على أنها بسيطة ساذجة، فيبحث عن وسائل أخرى لزيادة تعقيدها.
ولو كان تعقيد الملذات يزيد السرور بها لهان الأمر، ولكن الواقع أن تعقيدها يضيع بهجتها، ويقلل الاستمتاع بها، فالعامل البسيط يتلذذ من منظر رواية بسيطة أكثر مما يتلذذ الغني المترف من رواية معقدة، والمرأة الفقيرة تفرح بجلبابها الجديد البسيط أكثر مما تفرح امرأة غنية بفستانها الأنيق الموشى.
هذا فضلا عما يستوجبه هذا التكلف والتعقد من أسباب التعاسة، فكم بيت شقي بسبب امرأة في البيت تتكلف أكثر مما تحتمل ميزانيتها في الملابس وأدوات الزينة، وكم أسرة شقيت؛ لأن رجلا يحتفل بسكره أو قماره أكثر مما يحتفل بضرورات بيته، وكثير من البيوت بائسة؛ لأن حاجة المعيشة تعقدت وتركبت فأصبحت ميزانياتها لا تكفي لضروراتها، وكثيرا ما تضطر تكاليف الحياة وتعقدها أن يسلك الناس سبلا غير شريفة في الحصول على المال الذي تتطلبه تعقدات الحياة، ومن استطاع أن يحتفظ بشرفه عاش في قلق وهم من المطالب الكثيرة التي تحيط به، والتي يستطيع أن يحتملها في نفسه ولكنه لا يحتملها في أهله وولده.
وضروب المعاملة والسلوك يسودها التصنع والتكلف ومظاهر الرياء، في الوظيفة، وفي المصالح الحكومية، وفي المحال التجارية، وفي الحفلات والولائم والأفراح والمآتم، ولا شيء من البساطة ولا شيء من الرجوع للفطرة.
وحتى الآداب والفنون دخلتها الحضارة فعقدتها، وملأتها زينة وصناعة ومحسنات لفظية ومحسنات معنوية، واستعارة ومجازا، وتكلفا في التعبير لا يجري مع الطبيعة، والروائي لا يكون روائيا حقا حتى يغرب، والممثل لا يكون ممثلا حقا حتى يتصنع ويتكلف البكاء والضحك، والصياح وإلواء اللسان والتشدق في الأداء.
والناس في مخاطبتهم لا يسلكون أقرب طريق للفهم والأفهام ولا أصدق عبارة وأبسطها للتعبير عما في النفس، حتى ليصعب علينا في كثير من الأحيان معرفة الحق في الموضوع، لما تمتزج به الحقيقة من شكوك وغموض وإيهام وتصنع وتزويق، مع أن البساطة في التعبير هي خير وسيلة للإقناع والإفهام، ورب كلمة صريحة صادقة بسيطة فعلت ما لا تفعل الخطب المزوقة، والأحاديث المنمقة، وخير الأدب ما مال إلى البساطة، وخير التمثيل ما جرى على الطبع، وخير الفن ما عبر عن النفس في بساطة ويسر.
من كل هذا نرى أن الحضارة صحبها في كل نواحيها تعقيد وتكلف ورياء وتصنع وبعد عن البساطة؛ وأن هذا التكلف والتصنع قد جر من الشرور على العالم ما لا يحصى، ولكن هل هذا عرض ملازم للحضارة لا يمكن أن تنفك عنه، أو هو - كما يقول المناطقة - عرض مفارق يمكن أن يكون، ويمكن ألا يكون.
إن الحضارة درجة في الرقي طبيعية فلا يمكن ولا من الخير أن يتبدى الناس بعد أن تحضروا، ولكن ألا يمكن أن نتحضر وأن نتبسط معا؟
لست أرى أن الحضارة من لوازمها التعقيد، بل إني أتصور حضارة سامية تعنى ببساطة العيش مع انتفاعها بما وصل إليه العلم.
وقد قرأنا أخبارا عن قوم نبلاء عاشوا عيشة البساطة وسط الحضارة كما فعل تولوستوي في حياته الأخيرة، وقد قرأت قصة لطيفة في كتاب «أدب النديم»؛ إذ حكى أن عبد الله بن طاهر دعاه غني إلى وليمة، ثم أخر الأكل لإعداده إعدادا يتناسب ومقام ابن طاهر، فطال غيابه ثم أحضر من الألوان والتصنع والتكلف ما لا حد له، فلما هم ابن طاهر بالانصراف سأله الداعي: أيأمر الأمير بشيء؟ قال: أن تذهب إلى فلان وتتعلم منه الفتوة؛ فذهب إليه وكان الوقت وقت غداء، فأمر الخادم أن يحضر ما عنده من غير أن يزيد شيئا، فحضر طعام نظيف بسيط لساعته، ثم قال له: هذه هي الفتوة التي أراد طاهر أن أعلمكها.
على أنا نجد اليوم نزعة ظاهرة في المدنية الحديثة، وهي كراهية التكلف والسآمة من التعقيد في المعيشة، والإمعان في الملذات، والتصنع في الفن والأدب والتشدق في الكلام، وهي نزعة ظهرت في نواح كثيرة نرجو أن تعم وتتسع.
أريد من البساطة الصراحة في القول، والطهارة في التفكير، وعدم الإمعان في المظهر، والتصرف في بساطة ويسر، ونظافة الفكر من كراهية الناس، والتعالي عليهم، والسير في الحياة كما هي من غير كلفة ولا رياء ولا تظاهر ولا تعقيد، فقد تكون مائدة نظيفة بسيطة أشهى عند العاقل من مائدة معقدة مركبة، وقد يكون جمال الفتاة في بساطة حليها، وبساطة ملبسها خيرا من حلي مكدسة وثياب مزركشة.
في بساطة العيش راحة النفس، وحفظ الصحة، وحسن التفاهم، والتخفف من الأعباء المالية، وشعور بأن الحياة المادية ليست كل شيء في الحياة حتى يضيع كل الزمن في تعقيداتها وتركيباتها، فهناك حياة روحية سامية جميلة تستحق أن يوفر لها جزء من الزمان، ويخصص لها وقت من التفكير.
الفصل السابع والثلاثون
في المدرسة
كل شيء في العالم يتقدم ويتغير حسب تطور الأمم ونظمها الاجتماعية وحاجاتها وأغراضها في الحياة، فكما تغيرت مصانع النسيج من مغازل يدوية إلى مصانع ميكانيكية تبعا لتقدم الأمة في الصناعة، كذلك يجب أن تتغير مصانع الأجسام والعقول والأخلاق تبعا لتقدم الزمن وحاجات الأمم، وكذلك كان، فالمدرسة القديمة تطورت تطورات مختلفة، وخدمت أغراضا متنوعة حسب آمال الأمة وظروفها، فالأمة يجب أن تحدد أغراضها التي ترمي إليها، ثم تصوغ مدارسها على وفقها.
لقد كانت التربية في عهد اليونان الأقدمين ترمي إلى خلق جسم قوي معد للحروب وللدفاع عن البلاد وللفتوح، فكانت مدارسهم مصنعا لتأدية هذا الغرض، وتحول غرض التربية في أثينا إلى إيجاد طبقة عقلية تعنى بالفلسفة وفهم الطبيعة وما وراء الطبيعة، فأنشئت المدارس يعلم فيها أفلاطون وأرسطو على هذا النمط لتحقيق هذا الغرض، وجاء عهد الرومان فكان أهم غرض رئيسي لهم التعليم الحربي في فنونه ونظمه وترتيباته، والتعليم البلاغي في تحرير الخطب وفصاحة اللسان، فكانت مدارسهم تعد لهذين الغرضين، وفي العصور الوسطى غمرت الناس الموجة الدينية فصبغت المدرسة هذه الصبغة، وكان كل شيء يعلم لغرض الدين، حتى العلوم اللسانية والعلوم العقلية.
ومن نحو أربعة قرون غمر الناس - وخاصة أوروبا - موجة عقلية، فانطلق العقل يبحث ويفكر، واصطبغت المدرسة هذه الصبغة العقلية تبحث وتفكر وتجرب التجارب في المعامل، وتأبى أن تأخذ شيئا من العلم قضية مسلمة حتى يقوم البرهان على صحتها.
وفي هذا القرن وأواخر القرن السابق أخذ علماء التربية يفكرون في أن يضموا إلى تربية العقل تربية اليد، فأخذت المدارس تعنى بهذه الناحية من رسم وتصوير وأشغال يدوية وما إلى ذلك، وأخيرا جدا تنبهوا إلى وجوب إضافة تربية القلب إلى تربية العقل واليد ، بوضع برامج يكون الغرض منها تحسين العلاقة بين أفراد الأمة الواحدة وبين الأمة والأمم الأخرى، لما رأوا من أن شرور العالم ومصائبه ناشئة من سوء العلاقات، إما بين أفراد الأمة الواحدة بعضهم وبعض، وإما من سوء علاقات الأمم بعضها ببعض، وأن الكوارث الطبيعية من فيضان وزلزال وبركان لا تساوي شيئا بجانب ما يحدث من الإنسان للإنسان من ظلم وإجرام وإفقار، فلما شعروا بذلك بدءوا يدخلون في المدرسة مبدأ تربية القلب، ولكن - مع الأسف - عنوا بتربية حسن العلاقة بين أفراد الأمة الواحدة بما أدخلوا من دراسة التربية الوطنية، ولما يعنوا العناية الكافية بتربية القلب من ناحية الإنسانية، وربما كان من أكبر أسباب ما يصيب العالم الآن من ويلات عدم توازن عناصر التربية، فقد تقدم جدا العنصر العقلي وما تبعه من مخترعات، فالقوات المحركة والكهرباء والراديو والطائرات وآلاف المخترعات هي كلها نتيجة العلم، أو بعبارة أخرى نتيجة عنصر العقل، وكذلك هي كلها نتيجة لعنصر اليد، ولكن تخلف جدا عنصر القلب؛ إذ لم يدخل في برامج التربية إلا حديثا، وما دخل منه دخل ضيفا محدودا بحدود الوطنية.
قصة قرأتها اليوم، وهي أن عالما كان يفخر أمام فيلسوف هندي بما تقدمه العالم وما اخترعه من مخترعات؛ فقال ذلك الحكيم: نعم أيها العالم، إنكم استطعتم أن تجولوا في السماء كالطير، وأن تسبحوا تحت الماء كالسمك، ولكنكم لم تستطيعوا أن تسيروا على وجه الأرض في أمن وطمأنينة كالحيوان.
فلو قلل من شوط العقل في برامج المدرسة وأخذ شيء من نشاطه الكثير في تربية القلب لكان العالم أسعد، وهذا ما نشاهده كل يوم، فمتعلم لا قلب له شر على الأمة ألف مرة من جاهل له قلب.
ما وظيفة المدرسة؟ لقد كثرت الإجابات على هذا السؤال، وخيرها في نظري هو إعداد الأطفال والشباب لينسجموا مع المدنية التي ولدوا فيها.
إن الطفل يولد عاجزا كل العجز عن أداء أي واجب من واجبات الحياة، ضعيف الجسم، ضعيف العقل، غير مسلح بأي سلاح، مملوءا بالغرائز الضارة غير المهذبة، ليس فيه من مزية إلا أنه يتكون من مادة خامة صالحة للتربية، فتأتي التريبة وتصوغ هذه المادة وتجعل منها - إن صلحت - إنسانا عاقلا نافعا صحيحا مهذبا منسجما مع مدنيته، لهذا كان لا بد لكل أمة من غرض محدود ومثل أعلى تنشده، مشتقا هذا الغرض وهذا المثل من ظروفها وأحوالها ومدنيتها، ثم تصوغ الأطفال في المدارس صياغة تحقق هذه الغرض، وتجعل منهم أعضاء نافعين لجمعيتهم، وتحيطهم بجو من العلم ومن النظام ومن الشعائر والتقاليد يساعد على بلوغ الغاية المنشودة، لهذا يجب على المدرسة إعداد الناشئين من نواحيهم المختلفة وقواهم المتعددة.
ثم من وظائف المدرسة الإعداد للحياة، فكل أمة لها مركزها الخاص، ولها مرافق متعددة تختلف كثرة وقلة حسب موقفها الاجتماعي من مرافق صناعية وزراعية وتجارية وما إلى ذلك.
فكل أمة عليها أن تدرس حاجاتها ومرافقها المختلفة وتحدد ما يتطلبه كل مرفق من النسبة العددية، وما يتطلبه كل مرفق من الثقافة والإعداد، ثم تعد الناشئين في مدارسها لمواجهة الحياة العملية في مرافقها المختلفة.
يجب أن يكون التعليم في المدارس نافعا، ومعنى نفعه إعداد الشاب للحياة المستقبلة التي سيواجهها في حياته العملية، ويجب أن يوجه التعليم النظري إلى هذا الغرض النفعي العملي.
قد كان تعليم المهنة قديما في المدرسة العملية، فكان ابن النجار يتعلم النجارة من دكان أبيه، وابن الحداد والفلاح والتاجر كذلك، فكان التعليم متجها إلى غرض مرسوم، ولكن ضاع هذا، وما كان يمكن أن يستمر في مدنيتنا، وكان ينقصه الثقافة العقلية والخلقية من حيث إن المتعلم إنسان، وحلت محل ذلك كله المدارس، ولكنها تغالت في الناحية النظرية، وأهملت الشيء الأساسي، وهو الإعداد للمهنة وللحياة العملية.
إن المدرسة الحقة والتربية الصحيحة هي التي تنظر إلى شيئين لا بد منهما؛ أولهما: حاجات الأمة إلى أنواع المهن والحرف ونسبها العددية، وما تحتاجه كل مهنة وحرفة من ثقافة خاصة؛ وثانيهما: نوع استعداد الناشيئن، هذا نبوغه في يده، وهذا نبوغه في إدارته، وهذا نبوغه في الأعمال المالية، وهذا نبوغه في عقله؛ ثم يتجه التعليم على هذين الأساسين: أساس الغرض وأساس الاستعداد، ويتجه التوزيع كذلك، ويوجه الناشئون كذلك، فإذا كل يعمل حسب ما خلق له، وإذا كل يعمل حسب حاجات الأمة، وإذا الناشئ يتضح له مستقبله ويعلم إلى أي طريق هو مسوق.
وهي مهمة عسيرة جدا شعر بصعوبتها أكثر رجال التربية، وبذلوا الجهد في حلها، وأدركت الأمم الحية هذه الغاية السامية فبدأت توجه المدرسة وجهتها الصحيحة.
إن كان هذا النظر صحيحا فما أغرب ما نسير عليه الآن وقبل الآن، إننا نعلم التعليم الأولي ورياض الأطفال ليسلم كل ذلك إلى التعليم الابتدائي، والتعليم الابتدائي كله بألوفه المؤلفه يسلم للتعليم الثانوي إلا القليل النادر، والتعليم الثانوي بألوفه المؤلفة كذلك يسلم إلى التعليم الجامعي، إلا في القليل النادر، كأن التعليم كله يقصد به الجامعة، فأين الزراعة العملية، والصناعة العملية، والتجارة العملية، ومرافق الحياة كلها العملية؟
إن التعليم الجامعي في الأمم ليس إلا للخلاصة من الأمة، للقادة، للباحثين، للنظريين، فكيف يتجه التعليم كله إليه ويحضر له، ويصبغ الناشئون كلهم أو أغلبهم بصبغته؟
هذا قلب للوضع وخطأ في التفكير، إن الذين يتعلمون في الجامعة لا يصلون إلا إلى نحو 10٪ من مجموع المتعلمين، فكيف نضحي تسعين لأجل عشرة؟
لا بد - إذن - أن يقصر الإعداد للتعليم الجامعي على عدد خاص يقاس بحاجة الأمة، ويقاس باستعداد الناشئ، وفيما عدا ذلك يجب أن ينظر إلى كل نوع من أنواع التعليم على أنه غرض لا وسيلة، ومعد للحياة لا معد للجامعة، ونتيجة هذا تنويع التعليم وتنويع البرامج وتنويع الغرض وتنويع الإعداد حسب مطالب الحياة المصرية.
لقد وضعتنا الظروف وضعا شاذا فكان التعليم كله للوظائف الحكومية، ثم تحول تحولا آخر بعض الشيء فأصبح التعليم للجامعة، وكلاهما خطأ، فيجب أن يكون لا للوظيفة الحكومية ولا للجامعة، ولكن لمرافق الحياة ومطالب الأمة واستعداد الناشئ.
كل ناشئ يجب أن يسلح لنوع مما تحتاجه الأمة على اختلاف حاجاتها لا أن يكون غرض الجميع «شهادة»، يجب أن يكون غرض كثير من الطوائف أن يكونوا صناعا مهرة أو تجارا مهرة أو زراعا مهرة، أو ما شئت من مختلف المهن والحرف، ثم يجب أن تتعدد المدارس وتتنوع حسب هذه الأغراض.
من توابع هذا الخطأ تقاليدنا في توزيع الشرف، وشعورنا أن أكبر شرف يمنحه الجمهور لموظف الحكومة أو لخريج الجامعة، فيجب أن تهدم هذه القيم ويوزع الشرف توزيعا جديدا، ويوجد شعور عام بأن شرف المهنة الحرة كشرف الوظيفة الحكومية أو أكبر منه.
يجب أن نفعل في التعليم ما نفعل في المستشفى، كل مريض له علاجه الخاص ودواؤه الخاص، وليس هناك مجنون يعالج المرضى المختلفين علاجا واحدا، فما بالنا نصب الناشئين في قالب واحد مع التباين في استعدادهم وملكاتهم ومع حاجات الأمة المختلفة ومطالبها المتعددة؟
إن التعليم في المدارس يجب أن يكون تفتيحا للحياة وإعدادا للعمل، لا تضحية للناشئين لشرف موهوم وغرض مجهول، ويجب أن توزع الجداول في المزرعة حسب حاجة الأرض إلى الماء لا حسبما اتفق.
الفصل الثامن والثلاثون
في الهواء الطلق (3)
كانت رحلتنا هذه المرة رحلة شتاء، في الصحراء، وللصحراء، جمالها الساحر، سكون عميق يهدئ الأعصاب، وصفاء جو ينعش النفس، وأنس بالطبيعة كما خلقت، فليس يقع النظر فيها على عمل من أعمال الإنسان، فلا زرع ولا بناء، ولا جند ولا حكومة، كل شيء فيها من عمل الله وحده من غير تدخل أحد؛ جو فسيح طليق تتجاوب فيه الرياح، فلا يحبسها بناء، وشمس تسطع فلا يقيدها قيد، وللهواء والشمس طعم ولون ورائحة غير ما لهما في الحاضر، يشعر الإنسان فيها بقربه من الطبيعة وقربه من ربه، ويشعر بلذعة من عيشته الحضرية في جو مصطنع كل ما فيه وليد التكلف والرياء والنفاق.
وأمعنا في طريق السويس حتى وصلنا إلى منتصف الطريق، فعرجنا يسرة، وبعدنا عن مسير الناس في غدوهم ورواحهم، ثم تخيرنا مكانا نستطيع فيه أن نستدفئ بالشمس إذا شئنا، وننعم بالظل إن أردنا.
وكنت في رفقة من العقليين المتفلسفين، يحلو لهم التفلسف في كل شيء، فهم قادرون على أن يخلقوا من الحبة قبة، ويؤلفوا من الهنة كتابا؛ وهم بطبيعتهم وثقافتهم يفلسفون كل ما يقع تحت سمعهم وبصرهم، ويستخرجون منه ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولذلك أعددت نفسي لرؤية منظر «جامعة في الصحراء»، أو إعادة ذكرى مذهب المشائين؛ ولكني ما استطعت أن أحزر وجهة الحديث ولا موضوعه، وإن كنت توقعت أن يكون بطلا الحديث رجلين، أحدهما تفلسف في مصر، ثم أتم فلسفته في فرنسا، وقرأ كثيرا حتى كاد يلتهم الكتب، ولا يأتي حديث عن كتاب إلا وصفه لك في إفاضة، وشرح نوع فلسفته وقول نقدته، وهو - كما يقول العرب فيه - علمه أكبر من عقله، ولنسمه على عادة النحويين بزيد؛ والآخر متفلسف في مصر فقط، لم يقرأ كما قرأ الأول، ولكنه فكر طويلا في قراءته القليلة، فكان عقله أكبر من علمه، ولنسمه بعمرو، وهما في حديثهما دائما كالضرتين، لا يقول أحدهما رأيا إلا نقضه الآخر، ولا يذهب أحدهما ناحية إلا يذهب الآخر الأخرى؛ يدل زيد بعلمه الواسع، ويدل عمرو بنقده اللاذع، ويفخر الأول بغذائه الشامل، ويفخر الآخر بهضمه الكامل، ولكن رجوت أن صحو الجو والقصد إلى الراحة يجعلان من خلافهما وفاقا، ومن فلسفتهما شعرا، ولكن خاب ظني، فما بالطبع لا يتخلف، ويموت الزامر وإصبعه تلعب. •••
بدأت الحديث بالتغزل في الصحراء وجمالها، والجو وصفائه، ونسيت فعمقت، فقارنت بين جمال الريف وجمال الصحراء، وجمال الزرع وجمال الرمل وجمال البساطة وجمال التركب، وجمال الخلقة وجمال الصنعة، ففتحت من حيث لا أدري بابا من الجدل لا ينتهي، وكان هذا كل نصيبي من الحديث، ثم استطار الشر بينهما.
زيد: أتظن - يا أستاذ - أن هناك في الخارج شيئا اسمه جمال؟ إننا نحن بأنفسنا نخلق الجمال، إن الأمر في الجمال ليس كالأمر في «الترمومتر» الحائطي يريك درجة حرارة الحجرة من غير أن يكون لنا دخل فيها، بل هو «كالترمومتر» نقيس به حرارتنا، فهو لا يبين شيئا ما لم نضعه تحت لساننا، إنه ليس كحاصل الجمع وحاصل الضرب، هما كذلك في الخارج أخطأنا أم أصبنا، بل هو كالشيء تذوقه فتستحليه، ويذوقه الآخر فيستمره، والأكل تستطعمه أنت ويستقبحه غيرك، وكلا الحكمين صحيح، إن الصورة الفنية المعروضة لا قيمة لها في ذاتها، وإنما ذوقنا هو الذي ينشئ جمالها، ولذلك إذا لم يكن ذوق يستجملها لم تكن جميلة، والجمال مقصور على من له ذوق يذوق جمال الصورة، وإن شعر امرئ القيس وأبي نواس والمتنبي وشوقي ليس له قيمة ذاتية، إنما جماله لمن مرن ذوقه على نحو خاص حتى صار يتذوق جماله، فإذا لم يكن الذوق لم يكن الجمال؛ فليس جمال الشيء صفة خارجية كوزنه مثلا، وإنما هو ذوق فينا، ولذلك لا يختلف الناس في زنة الشيء، ولكنهم يختلفون جد الاختلاف في جماله.
إن العلم الآن لا يؤمن إلا بالمنظور والمسموع، لا كما كان العهد في القرون الوسطى يؤمن بالمتخيل والموهوم، وعلم النفس الحديث أبان أن الحكم على الأشياء - ومنها الحكم بالجمال والقبح - ناتج من عوامل كثيرة لا شعورية؛ فالذوق قد يستهجن قطعة موسيقية ويكره - دائما - أن يسمعها، فإذا حللت ذلك تحليلا دقيقا رأيت أنها لا ترجع إلى القطعة نفسها، ولكنها سمعت لأول مرة في ظروف سيئة للشخص أوحت إلى عقله الباطن كراهيتها، فظل يكرهها دائما، والقطعة الموسيقية نفسها لا دخل لها في ذلك، وكذلك ترى من الناس من يكره اللون الأصفر أو الأزرق لأسباب خاصة حدثت له، وقد ينساها ويبقى أثرها في نفسه؛ أما اللون نفسه فلا شأن له بالكراهية أو الاستحسان.
كل هذا وأكثر منه كشفه العلم، فأصبح من يقول بالقيمة الذاتية للجمال طرازا قديما. •••
هنا احمر وجه صاحبنا «عمرو» من لفحة الهواء والشمس أولا، ومن كلام زيد ثانيا؛ وقال: هذا قول هراء يحملكم عليه إيمانكم دائما بما في الكتب، وهيامكم دائما بالجديد وإن لم يبن على أساس صحيح.
لو صح قولكم لم يكن لصورة فضل على صورة، ولا لشعر فضل على شعر، ولا لجمال امرأة فضل على أخرى، وكان كل ذلك يرجع إلى الذوق الشخصي فقط، ولكان شعر أبي نواس والمتنبي وشوقي كشعر أحقر شاعر، كل ما هنالك من فرق أن هذا يستحسنه ذوق، وذاك يستحسنه آخر؛ ولما كان هناك معنى لقولنا: شعر عظيم وشعر حقير، وصورة رائعة وصورة قبيحة، إلا أن يكون تعبيرا فقط عن شعور القائل؛ ولو كان هذا كافيا لحكمنا على الصورة الجميلة أو الشعر الجميل بعدد الأصوات، بقطع النظر عن ذوق راق وذوق غير راق، وذوق الفنيين وغير الفنيين، وهذا ما لا يسلم به عاقل، أما على رأيي فالأمر واضح، وهو أن هناك ذوقا راقيا وذوقا غير راق، ومعنى الذوق الراقي أن صاحبه يدرك في الشيء المرئي أو المسموع صفات ذاتية فيه لا يدركها الذوق غير الراقي على أننا لم نقل إن جمال الشيء وقبحه - كوزن الشيء - محل وفاق، ولكنه محل خلاف، وسبب الخلاف بين الناس الاختلاف في الذوق، ومعنى الاختلاف في الذوق أن بعض الأذواق قادر على إدراك صفات الجمال والقبح في الشيء وبعضها غير قادر، وإني أومن بأن الذوق يختلف باختلاف زمان الشخص ومكانه، وبمقدار المدنية التي يعيش فيها وبمقدار ثقافته، وبمقدار مزاجه وسنه، وبنوع وراثته، ولكن ليس معنى هذا أن حكمي بالجمال والقبح يقتصر على حالتي النفسية والعقلية، وأن ليس هناك صفات خارجية في الشيء المحكوم عليه.
ما الذي دعاك - يا أخي - إلى أن تخرج معنا إلى الصحراء تتحسس جمالها إن لم يكن هناك إلا الذوق؟ لقد كان يكفيك ذوقك في بيتك، وفي أي منظر يقع عليه حسك، ولماذا قصر ذوقنا على إدراك الجمال في أشياء خاصة كالموسيقى والشعر والتصوير والطبيعة، ولم يتعدها إلى غيرها؟ أليس ذلك؛ لأن فيها صفات خاصة إذا توفرت في الشيء كان جميلا، وإن لم تتوفر كان قبيحا؟ •••
ومدت مائدة الصحراء ففرشت صحف الجرائد، وأثقلت بالصحاف، من دجاج ولحم وبطاطس، ثم موز وبرتقال.
وأخذ صاحبنا «عمرو» يلذع صاحبنا «زيدا» بنوادره، فيقول: «ما أشهى اللحم»، ولكنه يا أخي ليس شهيا في ذاته، فإذا حورت ذوقك وجدت الفول النابت أشهى، والجبن بالفجل ألذ، وليس في حمرة البرتقالة واستدارتها جمال، إنما هو ذوقك، ولو أن ذوقك استجمل حجرا مدورا وفضله على البرتقالة في جمالها لم يكن ثمة محل للجدل؛ ويتبع كل لذعة منه بضحكة تستخرج ضحكنا.
وانتهينا من الأكل، ورجوت أن ينتهي الحديث، وحاولت ذلك فعلا، ولكني فشلت؛ فصاحبنا عمرو عنيد، يلج في الخصومة حتى يريد أن يدخل مناظره في جحر، فأثار مسألة أعقد وأدق؛ إذ سأل: هل رأيك في الأخلاق والحق كرأيك في الجمال، شيء نسبي ليس إلا، أو لهما وجود ذاتي خارجي؟ وهل العلم الذي لا يؤمن إلا بالمنظور والمسموع يؤمن بشيء خارجي اسمه العدل والظلم، أو الحق والباطل؟ وما رأيك في أقوال القرون الوسطى في ذلك؟
زيد :
اهزأ بي ما شئت، وهرج ما أردت، فليس يزيدني ذلك إلا تمسكا برأيي، والشأن في الفضيلة والرذيلة والحق والباطل عندي كالشأن في الجمال والقبح، إن الإنسان أول ما واجه الأعمال الصادرة من أمثاله، رأى أن بعض الأعمال - التي تصدر عن الناس - تسره وتدخل عليه اللذة فرضيها وسماها فضيلة أو ما يرادف ذلك، ورأى بعض الأعمال تؤلمه فسماها رذيلة أو ما يرادفها، ثم أتت الأجيال بعد ذلك فنظرت إليها كأنها أشياء خارجية لها قيم ذاتية، فقدستها أو احتقرتها.
فكل فضيلة أو رذيلة ترجع إلى إحساسنا باللذة والألم، فالصدق والكذب والعدل والظلم، والشجاعة والجبن، كل هذه رضيناها؛ لأنها سببت لنا لذة أو ألما، ثم نظرنا إليها كأنها أشياء مجردة تطلب لذاتها، أو تتجنب لذاتها، كشأن البخيل طلب المال أولا؛ لأنه وجده محققا لأغراضه، موفيا للذاته، ثم بمرور الزمن والاعتياد والإلف طلب المال لذاته، ولما ارتقى الإنسان واتسع أفقه أصبح يقيس اللذة والألم بمقياس الأمة والمجموع، لا بمقياس شخصه، إنما هي على كل حال ترجع إلى شعورنا وشعور الناس باللذة والألم، وهذا الشعور فينا وليس خارجا عنا، وعواطفنا ومنافعنا هي التي تملي علينا الحكم بالخير والشر، فالسعادة هي الغاية الأخيرة لا الفضيلة، وإنما الفضيلة وسيلة للسعادة، وحكمنا على الناس كذلك، فنحن نحكم على الإنسان أنه طيب؛ لأنه يسعدنا ويسعد مجتمعنا، والعكس، وهذا أيضا هو ما تتجه إليه النظريات الحديثة في الأخلاق وعلم النفس والاجتماع، وهذا هو العلة في تغير تقويم الأخلاق باختلاف العصور والأوضاع وتغير ترتيبها في الأهمية، وذلك باختلاف الناس لا باختلاف الأشياء؛ والعمل الواحد قد يكون خيرا في موقف، وهو نفسه قد يكون شرا في موقف آخر، تبعا لأثره في نفوس الناس ومشاعرهم باللذة والألم، ولو كان هناك شيء خارجي اسمه الحق أو الفضيلة لم يتغير الحكم عليه!
عمرو :
كلامي معك في الحق والخلق ككلامي معك في الجمال، وردي عليك ردي عليك، إن الحق والباطل والخير والشر معان مجردة لها وجود ذاتي، بقطع النظر عن نتائجها، ويجب أن يطلب الحق لذاته بقطع النظر عما ينتج من لذة، ويتجنب الباطل لذاته لا لألمه؛ شأن الخير شأن الحق، شأن الصدق، شأن حكاية الواقع، فإذا قلت: إن قنبلة سقطت في مكان كذا ولم تنفجر، فهذه حقيقة حدثت في الوجود بقطع النظر عن نتائجها، علم الناس بها أو لم يعلموا، شعروا بها أو لم يشعروا؛ وشعرونا وعدم شعورنا لا دخل له في الموضوع، وهذا إن وافق الواقع فهو صدق، وإذا أخبرت به ففضيلة كائنا ما كان أثر الخبر في نفوسنا، قد يؤلم بعض الناس الصدق وقد يلذ بعض الناس، ولكن هذه أعراض لا شأن لها بالموضوع في حد ذاته؛ ومثلك إذا تلذذت أو ألمت كمثل «الترمومتر» الحائطي الذي ذكرته، قد يدل على درجة حرارة عشرين، ولكن قد تكون قد شربت معرقا أو جريت شوطا فتشعر أن درجة الحرارة في الحجرة لا تقل عن أربعين، وقد تأخذك رعدة فترى أن درجة الحرارة يجب أن تكون صفرا، وشعورك هذا أو ذاك لا يغير الواقع وهو أن درجة الحرارة عشرون.
ولو كان الأمر يرجع إلى الشعور بأثر العمل فقط، ولم يكن هناك حق في ذاته ما احتقر الباطل ولا فضل الفاضل، ولكان الأمر في الحق والخير أمر الذي يذوق الشيء فيستطعمه أو يستهجنه، وفي ذلك خراب العالم، وضياع الإنسانية، بل على رأيك لم يكن فرق بين محق ومبطل، وفاضل وسافل، فكل يحكم على الشيء حسب شعوره ومقياسه، وهل هذا هو ما يقوله علم نفسكم؟
الحق - يا أخي - أن هذا ضرب من السفسطة في أسلوب حديث، ويجب أن يحارب هذا الاتجاه كما حرب سقراط وأفلاطون وأرسطو السوفسطائية القديمة.
إن نظركم هذا جعل الحق والفضيلة سلعة تجارية يحسب ثمنها باللذة والألم فتشرى أو تباع حسب السوق، ولعل هذا أكبر نقطة سوداء في مدنيتكم الحديثة، ولإصلاحها يجب أن تكون هناك مثل عليا من حقائق وفضائل لها قيم ذاتية.
إن مثل رأيي ورأيك كمثل العالم في معمله ، والتاجر في تجارته، إن العالم الحق يبحث عن الحقيقة في ذاتها كائنة ما كانت، وسواء عنده الشيء الصغير والشيء الكبير، وسواء عنده في بحثه الذهب والرصاص، فيأتي التاجر بعد فيستغل نتيجة بحث العالم لاستعمال الآلات والسلع وفق ما وصل إليه العلم، ويقلبه إلى تجارة فيها كل الأخلاق التجارية.
فكذلك نحن وأنتم، نحن نبحث عن الحق حيث كان، وفي أي حال كان، ثم تفسدون علينا حقنا باتخاذه متجرا بالبهلوانات السياسية، والشعوذة الأخلاقية، وحساب الخلق باللذة والألم كما يحسب التاجر بضاعته بالدينار والدرهم، إن الحق لا يتعدد ولا يتغير بالاعتبارات الشخصية كالمادة أمام العالم، إنما تتغير السلع في الأسواق في نظر التاجر.
في نظري أن الصحراء هذه لها قيمة ذاتية، وجمالها له قيمة ذاتية، سواء كان مزاجك مما يلذه هذا الجمال أو لا يلذه، ويقومه أو لا يقومه، فإن قومه فمزاجك صحيح وجمال الصحراء حق، وإن لم يقومه فمزاجك غير صحيح وجمال الصحراء حق، أليس هذا هو الحق يا أيها السيد «زيد»؟! •••
وآذنت الشمس بالغروب، وبدأ الجو يبرد، وحرارة الشمس تضعف، وأخذنا نستعد للعودة، ورأسي يكاد يتصدع، وأضاع علي الصديقان لذة الصحراء وجمالها، فآليت من يومئذ ألا أخرج إلى الصحراء، مع فلاسفة بل شعراء، وإلى اللقاء.
الفصل التاسع والثلاثون
أدب الابتهال
هذا نوع من الأدب راق جدا في الأدب العربي، ولكن لم يلتفت إليه مؤرخو الأدب، أحببت عرض نماذج منه لنتبين قوته وروحانيته وبلاغته.
والابتهال في اللغة التضرع، والاجتهاد في الدعاء، والإخلاص لله فيه؛ ومن ثم استمد روحانيته وقوته من موقف المبتهل حيث يتحرر من شئون الحياة الدنيا وأعراضها ومشاكلها ومشاغلها، ويتفرغ إلى ربه، ويناجيه، ويسمو عن المادة وحقارتها؛ فكان بذلك أدب روح لا أدب مادة.
وقد صدر هذا الأدب في العصور المختلفة من عصر النبي (
صلى الله عليه وسلم ) إلى اليوم، كلما شعر الإنسان بعجزه لجأ إلى ربه؛ وهو موضع دراسات طريفة في تطوره ونواحيه.
فمن ابتهالات النبي (
صلى الله عليه وسلم ):
اللهم أنت ربي، لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، وأبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت.
ومنها:
اللهم اهدني لأحسن الأعمال وأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، وقني سيئ الأعمال وسيئ الأخلاق، لا يقي سيئها إلا أنت.
ومنها:
اللهم إني أسألك رحمة من عندك تهدي بها قلبي، وتجمع بها أمري، وتلم بها شعثي
1
وتزكي بها عملي، وتلهمني بها رشدي، وترد بها ألفتي، وتعصمني بها من كل سوء.
ومنها:
اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا.
ومنها:
اللهم إني أعوذ بك من قلب لا يخشع، ومن دعاء لا يسمع، ومن نفس لا تشبع، ومن علم لا ينفع.
ومن ابتهالات علي بن طالب:
اللهم إنك آنس الآنسين لأوليائك، وأحضرهم بالكفاية للمتوكلين عليك
2 ، تشاهدهم في سرائرهم، وتطلع عليهم في ضمائرهم، وتعلم مبلغ بصائرهم، فأسرارهم لك مكشوفة، وقلوبهم إليك ملهوفة، إن أوحشتهم الغربة آنسهم ذكرك، وإن صبت عليهم المصائب لجئوا إلى الاستجارة بك، علما بأن أزمة الأمور بيدك، ومصادرها عن قضائك، اللهم إن فههت عن مسألتي أو عمهت عن طلبتي فدلني على مصالحي وخذ بقلبي إلى مراشدي، فليس ذلك بنكر من هداياتك، ولا بدع من كفاياتك، اللهم احملني على عفوك، ولا تحملني على عدلك.
ووقفت لأبي حيان التوحيدي على جملة ابتهالات في الغاية من الجودة والحسن والقوة أقتطف منها ما يمثلها.
فمنها:
اللهم إني أبرأ من الثقة إلا بك، ومن الأمل إلا فيك، ومن التسليم إلا لك، ومن التفويض إلا إليك، ومن التوكل إلا عليك، ومن الطلب إلا منك، ومن الرضا إلا عنك، ومن الذل إلا في طاعتك، ومن الصبر إلا على بلائك، وأسألك أن تجعل الإخلاص قرين عقيدتي، والشكر على نعمتك شعاري ودثاري، والنظر إلى ملكوتك دأبي وديدني؛ والانقياد لك شأني، وشغلي، والخوف منك أمني وإيماني، واللياذ بذكرك بهجتي وسروري.
ومنها:
اللهم إليك أرفع عجري وبجري
3 ، وبك أستعين في عسري ويسري، وإياك أدعو رغبا ورهبا، فإنك العالم بتسويل النفس، وفتنة الشيطان، وزينة الهوى، وصرف الدهر، وتلون الصديق، وبائقة الثقة، وقنوط القلب، وضعف المنة، وسوء الجزع، فقني اللهم ذلك كله، واجمع من أمري شمله، وانظم من شأني شتيته، واحرسني عند الغنى من البطر، وعند الفقر من الضجر، وعند الكفاية من الغفلة، وعند الحاجة من الحسرة، وعند الراحة من الفسولة
4 ، وعند الطلب من الخيبة، وعند المنازلة من الطغيان، وأسألك أن تجعل صدري خزانة توحيدك، ولساني مفتاح تمجيدك، وجوارحي خدم طاعتك، فإنه لا عز إلا في الذل لك، ولا غنى إلا في الفقر إليك، ولا راحة إلا في الرضا بقسمك، ولا عيش إلا في جوار المقربين عندك.
ومنها:
اللهم إليك نشكو قسوة قلوبنا، وغل صدورنا، وفتنة أنفسنا، وطموح أبصارنا، ورفث ألسنتنا، وسخف أحلامنا، وسوء أعمالنا، وفحش لجاجنا، وقبح دعوانا، وتلزق ظاهرنا، وتمزق باطننا؛ اللهم فارحمنا وارأف بنا، واقبل الميسور منا، فإننا أهل عقوبة وأنت أهل مغفرة، وأنت بما وصفت به نفسك أحق منا بما وسمنا به أنفسنا، ومن قبل ذلك وبعده؛ فأطب عيشنا بنعمتك، وأرح أرواحنا من كد الأمل في خلقك، وخذ بازمتنا إلى بابك، وأذقنا حلاوة قربك، واكشف عن سرائرنا سواتر حجبك، ووكل بنا الحفظة، وارزقنا اليقظة، حتى لا نقترف سيئة، ولا نفارق حسنة، إنك قائم على كل نفس بما كسبت، وأنت بما نخفي وما نعلن خبير بصير.
ومنها:
اللهم أنت الظاهر الذي لا يجحدك جاحد إلا زايلته الطمأنينة، وأسلمه اليأس، وأوحشه القنوط، وتردد بين رجاء قد نأى عنه التوفيق، وأمل قد حفت به الخيبة، وسر قد أطاف به الشقاء ، وعلانية قد أناف عليها البلاء؛ عقله عقل طائر، ولبه لب حائر، وحكمه حكم جائر، لا يروم قرارا إلا أزعج عنه، ولا يستفتح بابا إلا أرتج دونه، ولا يقتبس ضرما إلا أجج عليه؛ عثرته موصولة بالعثرة، وحسرته مقرونة إلى حسرة؛ إن سمع زيف، وإن قال حرف، وإن قضى جزف، وإن احتج زخرف، ولو فاء إلى الحق لوجده ظلا ظليلا، وأصاب تحته مثوى ومقيلا ... وأنت الذي فعلك يدل عليك الأسماع والأبصار، وحكمتك تعجب منك الألباب والأسرار، لك السلطان والمملكة، وبيدك النجاة والهلكة، فإليك المفر ومعك المقر، ومنك صنوف الإحسان والبر؛ أسألك بأصح سر، وأكرم لفظ، وأفصح لغة، وأتم إخلاص، وأشرف همة، وأفضل نية، وأطهر عقيدة، وأثبت يقين، أن تصد عني كل ما يصد عنك، وتصلني بكل ما يصل بك، وتحبب إلي كل ما يحبب إليك، فإنك الأول والثاني، والمشار إليه في جميع المعاني، لا إله إلا أنت.
ومنها:
اللهم إني أسألك جدا مقرونا بالتوفيق، وعلما بريئا من الجهل، وعملا عريا من الرياء، وقولا موشحا بالصواب، وحالا دائرة مع الحق، وفطنة عقل مضروبة في سلامة صدر، وراحة جسم راجعة إلى روح بال، وسكون نفس موصولا بثبات يقين، وصحة حجة بعيدة من مرض شبهة؛ حتى تكون غايتي في هذه الدنيا موصلة بالأمثل فالأمثل، وعاقبتي عندك محمودة بالأفضل فالأفضل، حياة طيبة أنت الواعد بها، ونعيم دائم أنت المبلغ إليه، اللهم لا تخيب رجاء هو منوط بك، ولا تصفر كفا هي ممدودة إليك، ولا تعذب عينا فتحتها بنعمتك، ولا تذل نفسا هي عزيزة بمعرفتك، ولا تسلب عقلا هو مستضيء بنور هدايتك، ولا تخرس لسانا عودته الثناء عليك؛ فكما كنت أولا بالتفضل فكن آخرا بالإحسان، الناصية بيدك، والوجه عان لك، والخير متوقع منك، والمصير على كل حال إليك، ألبسني في هذه الحياة البائدة ثوب العصمة وحلني في تلك الدار الباقية بزينة الأمن، إنك على ذلك قدير.
ومنها:
اللهم أعذنا من جشع الفقر، وريبة المنافق، وتجليح
5
المعاند، وطيشة التحول، وفترة الكسلان، وحيلة المستبد، وفتور العقل، وحيرة المخرج، وحسرة المحوج، وفلتة الذهول، وحرقة الثكول، ورقبة الخائف وطمأنينة المغرور، وغفلة الغرور، واكفنا مؤنة أخ يرصد مسكونا إليه، ويمكر موثوقا به ويخيس
6
معتمدا عليه؛ وغلب إيماننا بالغيب على يقيننا بالعيان، واحرسنا من أنفسنا فإنها ينابيع الشهوة ومفاتيح البلوى، وأرنا من قدرتك ما يحفظ علينا هيبتك، وأوضح لنا من حكمتك ما يقبلنا في ملكوتك، وأشع في صدورنا من نورك ما يتجلى به حقائق توحيدك، وألف بيننا وبين الحق، وقربنا من معادن الصدق، واعصمنا من بواثق الخلق، اللهم إنك بدأت الصنع وأنت أهله، فعد بالتوفيق فإنك أهله.
ومنها:
اللهم إياك أسأل لسانا سمحا بالصدق، وصدرا قد ملئ من الحق، اللهم أشكو إليك تلهفي على ما يفوتني من الدنيا وأنني في طاعة الهوى جاهلا بحقك، ساهيا عن واجبك، اللهم إليك المفر من دار منهومها لا يشبع، وحائمها لا ينقع
7
وطالبها لا يربع
8 ، وواجدها لا يقنع؛ اللهم انقلنا عن مواطن العجز، مرتقيا بنا إلى شرفات العز، فقد استحوذ الشيطان، وخبثت النفس وساءت العادة، وكثر الصادفون عنك، وقل الداعون إليك، وكل المراعون لأمرك، وفقد الواقفون عند حدودك، وخلت ديار الحق من سكانها، وبيع دينك بيع الخلق
9
واستهزئ بناشر مجدك، وأقصى المتوسل بك؛ اللهم فأعد نضارة دينك، واقض بين خلقلك بركات إحسانك، واقمع ذوي الاعتراض عليك، واهتك أستار الهاتكين لستر دينك؛ اللهم إني أسألك أن تخصني بإلهام أقتبس الحق منه، وتوفيق يصحبني وأصحبه، ولطف لا يغيب عني ولا أغيب عنه، حتى أقول لوجهك، وأسكت - إذا سكت - بإذنك، وأبين إذا أبنت بحجتك، وأعبد إذا عبدت مخلصا لك، وإذا مت أموت منتقلا إليك؛ اللهم فلا تكلني إلى غيرك، ولا تؤيسني من فضلك.
ومنها:
اللهم قيض لنا فرجا من عندك، وأتح لنا مخلصا إليك، فإنا قد تعبنا بخلقك، وعجزنا عن تقويمهم لك، ونحن إلى مقاربتهم في مخالفتك أقرب منا إلى منابذتهم في موافقتك؛ لأنه لا طاقة لنا بدهمائهم، ولا حيلة لنا في شفائهم.
اللهم تولنا فيما وليتنا حتى لا نتولى عنك، وآمنا مما خوفتنا حتى نقر معك، وأوسعنا رحمتك حتى نطمئن إلى ما وعدتنا، وفرق بيننا وبين الغل حتى لا نعامل به خلقك، وأغثنا بك حتى لا نفتقر إلى عبادك، فإنك إذا يسرت أمرا، تيسر، ومهما بلوتنا فلا تبلنا بهجرك، ولا تجر عنا مرارة سخطك، قد اعترفنا بربوبيتك عبودية لك فعرفنا حقيقتها بالعفو عنا؛ والإقبال علينا، والرفق بنا يا رحيم.
هذا قليل من كثير مما في الأدب العربي من هذا الباب، وهي كما ترى تتدفق قوة وتفيض روحانية وتسمو معنى، إلى رصانة بلاغية، وموسيقى دينية، فلو عني بها مؤرخو الأدب كما عنوا بالأدب المادي من الغزل، والمديح، والفخر، والهجاء، لظهر الأدب العربي بصورته الكاملة من مادة وعقل، وشهوة وروح! ولعلي أعود بعد إلى هذا الموضوع.
الفصل الأربعون
محمد رب بيت
فكرة باطلة سادت أفكار بعض الناس في معنى «الرسالة»، فخلع بعضهم عليها أحيانا بعض أوصاف الألوهية، وأحيانا بعض أوصاف الرهبانية، من مبدأ البعثة إلى اليوم، وكان النبي (
صلى الله عليه وسلم ) يحارب هذه الفكرة كما يحارب الألحاد ويعلن ويكرر في كل مناسبة أنه «بشر رسول» لا «ملك رسول».
من مبدأ البعثة اجتمعت صناديد قريش بمكة فقالوا لمحمد: «لقد علمت أنه ليس أحد من الناس أضيق بلادا ولا أقل مالا ولا أشد عيشا منا، فسل ربك الذي بعثك بما بعثك به فليسير عنا هذه الجبال التي قد ضيقت علينا، ويبسط لنا بلادنا، وليفجر فيها أنهارا كأنهار الشام والعراق، وليبعث لنا من مضى من آبائنا، فنسألهم عما تقول أحق هو أم باطل، فإن لم تفعل فسل ربك أن يبعث ملكا يصدقك بما تقول ويراجعنا عنك، ولتسأله فيجعل لك جنانا وكنوزا وقصورا من ذهب وفضة، ويغنيك عما نراك تبتغي، فإنك تقوم بالأسواق، وتلتمس المعاش كما نلتمسه، حتى نعرف فضل منزلتك من ربك إن كنت رسولا، فإن لم تفعل فاتخذ إلى السماء سلما ترقي فيه وتأتي معك بنسخة منشورة ومعك أربعة من الملائكة يشهدون لك أنك كما تقول.».
فقال محمد: «سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا.».
لقد أخطئوا؛ إذ نسوا أنه بشر لا يقدر على الإتيان بهذه الأشياء ولا يستطيع اقتراحها لما فيها من التعنت والتحكم، وليس للرسول أن يتحكم على الله فيطلب منه خرق قوانينه التي أدار عليها ملكه.
وخطأ آخر مثله وقع فيه بعض المسلمين؛ إذ خلعوا عليه بعض أوصاف الرهبانية، فقد روي في الحديث أن بعضهم كان يسأل عائشة ماذا كان يفعل رسول الله في بيته ظانين تبتله، فكانت تجيبهم أنه يفعل في بيته ما يفعله الرجل الكريم بأهله «وسألها رجل ما كان رسول الله يصنع في أهله، قالت كان في مهنة أهله، فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة».
وجاء ثلاثة نفر إلى بيوت أزواج النبي فقال أحدهم إني أصلي الليل أبدا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال ثالث: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا، فقال عليه الصلاة والسلام: «أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني».
لقد كان محمد إنسانا يأكل ويشرب ويمشي في الأسواق ويتاجر ويتزوج، وكان رسولا عرف الله ودعا إليه، اختارته العناية الإلهية ليكون سفيرا بين الله وخلقه، فله جانبه الإنساني فهو يضرب في الأرض يسعى ويكد، وتتوارد عليه العواطف الإنسانية، وله جانب روحاني يتصل فيه بربه، ويتلقى رسالته ويبلغها خلقه، يحيا كما يحيا الناس ويجري عليه حكم الموت كما يجري على الناس، ويتصل بالله كما يتصل الرسل، ويؤدي رسالته كما يؤدي الرسل، فمن زعم أنه فوق قوانين البشر فقد أخطأ، ومن جحد رسالته فقد أخطأ.
وهو في أداء رسالته أمين معصوم، وهو في إنسانيته يفعل ما يفعل الرجل الكامل، يتطلب معالي الأمور ويترفع عن سفاسفها، وينشد المثل الأعلى، ويتجمل بالمروءة، ويشعر بعظم التبعة، وتطهر نفسه فلا يتصنع، ويفعل في السر ما يفعله في العلانية، ويملؤه الشعور بأن الله خالقه وأن الله يراه، وأن الله يأمره وينهاه، فيأتي ما يأتي من الخير، ويذر ما يذر من الشر لا رغبة ولا رهبة، ولكن حبا في الله، ومن أحب أطاع؛ فكان المثل الأعلى للناس في جانبه الإنساني، وجانبه الروحاني، في معاملته وفي بيته وفي دعوته، وفي عبادته، وفي تضحيته، وفي إخلاصه. •••
لقد كان لمحمد (
صلى الله عليه وسلم ) بيت في مكة قبل الهجرة، وبيت في المدينة بعد الهجرة، والبيتان مختلفان في مظاهرهما.
ففي مكة ظل من غير زواج إلى الخامسة والعشرين، وهي سن متأخرة بالنسبة لحالة العرب الاجتماعية إذ ذاك، ولكن دعا إلى هذا التأخير فقره، وما الفقر بعيب، فلما أتيح له الزواج تزوج، وكان الزواج مؤسسا على أساس صحيح، من معرفة الزوج للزوجة في خلقها وخلقها ونسبها، وكانت الزوجة تعرف زوجها كذلك، فأحر أن يكون هذا الزواج موفقا، لقد عرفت خديجة محمدا في تجارتها، وكانت تبعث بالرجال يتاجرون لها بالمال في الشام كما يفعل أغنياء قريش، فبعثت محمدا في ذلك فعرفها وعرفته بعد أن سمعت به وسمع بها، وخبر كل حال الآخر عن قرب، ثم كان أن عرضت عليه أن يتزوجها بعد أن خطبها كثير من رجال قريش فأبت عليهم، ولعلها قرأت فيهم الطمع في مالها ورأت فيه التعفف عن مالها، كما كانت من أولئك النساء القلائل اللائي يقرأن المعاني في الرجل أكثر مما يقرأن المادة والمظاهر، «فأرسلت إليه نفيسة بنت أمية» دسيسا إليه، فقالت له: ما يمنعك أن تتزوج؟ قال: ما في يدي شيء، قالت: فإن كفيت ودعيت إلى المال والجمال والكفاءة؟ قال: فمن؟ قالت: خديجة، فأجاب.
كانت خديجة امرأة مكتملة، في الأربعين من عمرها من قريش أما وأبا، تزوجت في شبابها رجلا من خيار بني تميم اسمه أبو هالة فولدت منه ابنين هما هند وهالة، ثم مات عنها فتزوجها قرشي اسمه عتيق بن عابد فولدت له بنتا اسمها هند ثم مات عنها كذلك، وقد عاش الثلاثة، ولعل مالها جاءها من قبل زوجيها، فكانت ذات مال وذات تجارة في حياة أبيها.
ثم تزوجت محمدا في الخامسة والعشرين من عمره. •••
في بيت، في حي التجار بمكة، كانت تسكن هذه الأسرة خديجة وأولادها الثلاثة ومحمد، وصبي صغير كانت اشتدت الأزمة بأبيه، فرجاه أهله أن يأخذوا عنه بعض أولاده يعينونه في تربيتهم فأخذ محمد أحدهم، وكان هذا الصبي علي بن أبي طالب، كما كان يسكنه مولى لهم هو زيد بن حارثة، فتعادل البيت بصبيانها وصبيه، وتعادل الكسب بمالها وعمله، وظل هذا البيت سعيدا خمسة وعشرين عاما، يتبادل فيه الزوجان الحب والألفة والتعاون، فلم نسمع مرة بخلاف ولا مشادة ولا غضب ، رزقت منه بأولاد لم يعش منهم إلا بنات أربع، ربين في هذا الوسط الوادع السعيد، وقد اعتاد العرب في هذا الزمن أن يعددوا زوجاتهم، وخاصة في سني شبابهم، ولم يعدوه عيبا، ولا تعده النساء كذلك، ولكن محمدا لم يفعل هذا حبا في خديجة وحرصا على رضاها، ولأنه يشعر أنه مهيأ لأمر عظيم يتطلب التقلل من مشاغل الدنيا.
كان يشغله التفكير في أمر قومه، وضلالهم في عبادتهم، وفساد نظامهم، وكان مقتنعا كل الاقتناع بأن ما عليه قومه ضلال لا شك فيه، وما يعبدونه باطل لا محالة، ولكن ما هو الحق؟
وكانت تبدو عليه نزعة دينية حائرة تتلمس الحق وتصبو إليه، وكان يبث خديجة كل ذلك فتفهمه وتشجعه وتعينه، ولقد شوهدا ومعهما علي في الكعبة يعبدون الله على نحو خاص غير ما تفعله قريش، كان هذا يملك عليه نفسه، فكانت خديجة له أكبر عون، فلما حببت إليه العزلة، ورأى أن يمضي في عزلته الليالي في غار حراء كانت هي التي تعد له زاده، وتفهم نفسه وتعينه على غرضه، ولما جاءه الوحي لأول مرة ورجع إلى خديجة يرجف فؤاده، كانت هي التي دثرته وأذهبت روعه وأخذته على ابن عمها ورقة بن نوفل، وكان رجلا متنصرا عالما بالأديان فطمأنه أنه الوحي، فكانت أول إنسان آمن برسالته وصدقه في قوله؛ لأنها رأت منه ما لم يره أحد، رأته في بيته على فطرته وسجيته فلم تقع منه على كذبة، ولم تقف منه على رياء، ولا يعرف أحد أحدا كما يعرفه أهل بيته، فهناك المظهر الحقيقي والإنسان على سجيته، ورأت مقدمات الوحي خطوة خطوة فسهل إيمانها بالنتيجة؛ ولا تسل عن عظمة هذا الموقف يوم يتجلى للعظيم الحق فيجد في الوجود إنسانا بجانبه يؤيده ويثبته.
ثم لما أعلن الدعوة لقومه ولقي منهم شر أنواع العنت كانت هي التي تخفف بحديثها وأسلوبها كربه وتؤنس وحشته، قال ابن إسحاق: «كان (
صلى الله عليه وسلم ) لا يسمع شيئا يكرهه من رد عليه وتكذيب له فيحزنه ذلك إلا فرج الله عنه بخديجة ، إذا رجع تثبته وتخفف عنه وتصدقه وتهون عليه أمر الناس.»، وكان من فضل الله أن كانت بجانبه العشر السنين الأولى من الدعوة وهي أشق السنوات عناء وجهادا وكفاحا.
لذلك لم يكن محمد (
صلى الله عليه وسلم ) من الحب والوفاء والتقدير والإعظام لأحد ما أكنه لزوجته خديجة، فلما قالت له عائشة قد رزقك الله خيرا منها، قال: لا والله ما رزقني الله خيرا منها، آمنت بي حين كفر بي الناس، وصدقتني حين كذبني الناس، وأعطتني مالها حين حرمني الناس.
ولما توفيت في الخامسة والستين من عمرها في العام الذي توفي فيه عمه أبو طالب سمي العام «عام الحزن»، وكان شديد الحنين إليها والذكرى لها فكان من حين إلى حين يبعث بعض الهدايا إلى صديقاتها، إحياء لذكرها، ودخلت عليه مرة - وهو بالمدينة - أختها هالة، وكان رسول الله نائما فلما سمع صوتها انتبه من نومه لفوره وقال: هالة هالة هالة! ترحيبا بها، وهياما بذكر أختها، وإعظاما لأحب الناس إليه. •••
أما في المدينة فقد كان لبيت محمد (
صلى الله عليه وسلم ) شأن آخر، لقد دعاه موقفه في الدعوة، وتأييدها بالمصاهرة والنسب، وطبيعة الحالة الاجتماعية في عصره، وظروف كثيرة - ليس هذا موضع ذكرها - إلى أن يعدد زوجاته، هذه عائشة بنت صاحبه أبي بكر، وهذه حفصة بنت صاحبه عمر، وهذه أم حبيبة بنت أبي سفيان زعيم قريش، وهذه صفية بنت حيي بن أخطب سيدة قومها من يهود بني النضير، وهذه زينب بنت جحش مطلقة مولاه ومتبناه زيد بن حارثة؛ وعلى الجملة فكن خمس قرشيات وأربع عربيات من غير قريش، بين هلالية وخزامية وأسدية وواحدة من بني إسرائيل، فكان سبب الزواج أحيانا تأليف قوم، أو توثيق رابطة، أو تشريعا جديدا يخالف ما كان عليه العرب، أو عطفا على أيم مات عنها زوجها في جهاد في الإسلام.
وكان النساء في المدينة غير النساء في مكة، فهن في مكة مضغوط عليهن، مستسلمات لأزواجهن، من العار أن يرددن لهم قولا، بحكم بأس رجال قريش وشدتهم وسطوتهم، وعلى العكس من ذلك نساء المدينة، فلهن قسط وافر من الحرية، يراجعن أزواجهن، ولهن رأي يسمع، ومطالب تجاب، واستتبع هذا شيئا آخر وهو غلبة الجد الدائم على رجال قريش ونسائهم، وحب الفرح والمرح في نساء المدينة ورجالها، ففي الحديث أن عمر بن الخطاب قال: «كنا معشر قريش قوما نغلب النساء، فلما قدمنا المدينة وجدنا قوما تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم.» وفيه: أن عائشة زفت امرأة إلى رجل من الأنصار فقال النبي: أما كان معكم لهو؟ فإن الأنصار يعجبهم اللهو، وتعليل ذلك من الوجهة الاجتماعية يطول.
أفرد رسول الله لكل زوجة بيتا، ومع هذا فالعواطف الطبيعية للنساء لا يمكن محوها، ولا من الخير زوالها، والإنسان إنسان مهما كان، كل منهن كان يحرص أن يكون له من رسول الله أكبر نصيب في حبه، كل تغار إن شعرت بعطف أكبر على ضراتها، وكل يحاسب على النظرة والابتسامة، ولكل نوع من المزايا تدل بها، وأخيرا انقسمن إلى حزبين: حزب فيه عائشة بنت أبي بكر وحفصة بنت عمر وصفية وسودة، وحزب فيه أم سلمة وزينب وميمونة وأم حبيبة بنت أبي سفيان وجويرية.
ثم مشكلة أخرى طبيعية، فعائشة أحب زوجة إلى رسول الله لمزاياها، وفاطمة بنته من خديجة، وطبيعي ما يكون بين البنت ماتت أمها وتزوج أبوها غيرها وبين زوجة أبيها، ويزيد ذلك في نفس الزوجة الجديدة أنها لم تلد، والبنت تزوجت وولدت، والرسول يحب زوجه ويحب بنته ويحب أولاد بنته.
هذه كلها مشاكل مستعصية، ما كان يمكن التغلب عليها والمعيشة الهانئة معها لولا حكمة من الرسول فوق كل حكمة، وكان من نعم الله حدوث هذه المشاكل وظهورها، فقد استوجبت من التشريع الإسلامي قدرا كبيرا، وكان هؤلاء الزوجات - وخاصة عائشة - مدارس يتلقى فيها الصحابة والتابعون علمهم عنهن
واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة
فيروون الأحاديث في مختلف الموضوعات من علمهن، ويحكين لهم ما شاهدن وما سمعن، وما تصرف فيه الرسول من مشاكل وأحداث أمام أعينهن، وأدبه فيما بينهن، حتى قيل: إن ربع الأحكام الشرعية مأخوذ عن عائشة، وروي لها في كتب الصحاح ألفان ومئتا حديث، قال لها عروة يوما: يا أماه! لا أعجب من فقهك أقول زوج رسول الله، ولا أعجب من علمك بالشعر وأيام الناس أقول ابنة أبي بكر، وكان من أعلم الناس بذلك، ولكن أعجب من علمك بالطب كيف هو وأين هو؟ قالت: أي عرية! إن رسول الله كثرت أسقامه عند آخر عمره، فكانت تقدم عليه وفود العرب من كل وجه فتنعت له الأنعات فكنت أعالجها، فمن ثم.
عدل بينهن في المعاملة على أدق وجه، واعتذر من عدم العدل بينهن في الحب فإنه لا يملكه وقال: «اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك»، وكان إذا صلى العصر زار نساءه جميعا وتحدث لكل منهن ثم بات في بيت من لها الليلة، وأحيانا يجتمعن في بيتها، وإذا خرج إلى سفر أقرع بينهن فأيتهن خرج سهمها خرج بها.
إلى أسلوب في المعاملة ظريف ونمط في المعاشرة لطيف، يلعب الأحابيش فتحب عائشة أن ترى لعبهم فتستند على منكب النبي فلا يسأم حتى تسأم، ويسابقها فتسبقه حتى إذا سمنت سابقها فسبقها فقال: هذه بتلك، ويقول: «إن أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا وألطفهم بأهله» وكان اليوم يوم عيد فدخل أبو بكر على عائشة فوجد عندها جاريتين تضربان بالدف، فانتهرهما أبو بكر فقال رسول الله: دعهن يا أبا بكر فإنها أيام عيد.
ويحب الأطفال ويقبلهم ويلاعبهم ويجلسهم في حجره، ويأتي أعرابي بدوي فيقول: يا رسول الله أتقبل الصبيان؟ والله ما نقبلهم، فيقول رسول الله: ما أملك أن الله نزع من قلبك الرحمة. •••
أزمة كانت تستيقظ من حين لآخر فوضع لها حدا حاسما، كان رسولا وكان مثلا للناس، وفهم رسالته حق الفهم، أتى ليبلغ عن الله رسالته ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويدعو إلى الخير ويحذر من الشر، وليست رسالته أن يجمع ثورة أو يؤسس لنفسه ملكا، ولا يتأتى أن يؤدي رسالته على أكمل وجه حتى يزهد في المال وعرض الحياة، ولو التفت إلى المال لم يطع هذه الطاعة، ولا أجيب هذه الإجابة، ولالتفت الأتباع إلى المال، ولم يأبهوا للدعوة، ولفات على الناس درس التضحية، ولذلت نفوس الفقراء واضطغنوها في أنفسهم، وما أكثرهم، ولعز الأغنياء في الدين بغناهم لا بتقواهم، إذن فليتخل عن كل مظاهر الدنيا والترف في العيش، وليعش عيشة أبسط رجل، وكذلك كان، فلم يمتلئ جوفه شبعا، ويبيت بعض الليالي طاويا، ويمر الشهر ما يستوقد أهله نارا، يعيشون على التمر والماء، ولا يرون الرغيف المرقق ولا الشاة السميط، ويموت ودرعه مرهونة عند يهودي في ثلاثين صاعا من شعير، ويأتيه مال مرة من الغزو فيقسمه ألف بعير على أربعة أنفس، ويسوق مئة بدنة فينحرها ويطعمها المساكين ولم يدخر لأهله شيئا، فكان فقره إيثارا لا عوزا.
لو كان الشأن شأن نفسه فقط لهان الأمر، عظيم يضحي لربه ولدعوته فيجد من سعادة التضحية أضعاف ما يجد الشحيح بماله وترفه، ولكن ما شأن زوجاته ولم يبلغن في السمو سموه، ولا يفهمن المثل فهمه، ولا يشعرن بالتبعة شعوره؛ ها هن أولاء يطلبن شيئا من السعة في العيش، وشيئا من النعيم الذي ينعم به حتى صغار المسلمين، وهو يردهن ردا جميلا، فلما كثر الطلب واشتد اللحاح كان الموقف الحاسم
يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن
1
وأسرحكن سراحا جميلا * وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما ، فبدأ يخير النساء بين الطلاق والعيشة التي تتفق ودعوته، وبدأ بعائشة فاختارت ربها ورسوله وكذلك فعل سائر نسائه، وحسم الأمر ووطن أنفسهن على الصبر، وكان لهن في رسول الله أسوة.
وتوفي رسول الله وظل نساؤه أمهات المؤمنين يرجعون إليهم في المشاكل، ويستفتونهن فيما دق من مسائل، يأخذ عنهن مؤرخو السيرة تاريخهم، والمحدثون حديثهم، والفقهاء فقههم، هذه عائشة يروي عنها عمر بن الخطاب وابنه عبد الله وأبو هريرة وأبو موسى وابن عباس، ومن التابعين سعيد بن المسيب، وعلقمة بن قيس، وآخرون كثيرون، وقد عمرت حتى بلغت السادسة والستين، وتوفيت في عهد معاوية بعد أن كانت مرجع الناس في الفتيا، وخاصة في أدق المسائل الزوجية بما استفادت من رسول الله، وكذلك كانت حفصة بنت عمر رويت عنها الأحاديث الكثيرة، وإن لم تبلغ مبلغ عائشة، وكان يروي عنها أهل بيتها كأخيها عبد الله وابنه حمزة وزوجته صفية، وعمرت إلى أن بلغت الستين، وماتت كذلك في خلافة معاوية، وعمرت أم سلمة إلى أن بلغت الرابعة والثمانين، وكانت آخر أمهات المؤمنين موتا، وهكذا، فكان حول كل منهن تلاميذ من أهلها وأقاربها وغيرهم يروون عنهن، ويأخذون عنهن آراءهن فيما حدث من الفتن العظام بعد مقتل عثمان، ولم ينسين أبدا درس الزهد وبساطة العيش وبذل المال كما علمهن رسول الله، فقد فرض لهن الفرض العظيم بعد الفتوح فكن يتصدقن به ولا يدخرن منه، هذه عائشة أتاها مئة ألف درهم ففرقتها في يومها، وكانت صائمة ولم تتذكر أن تشتري لحما بدراهم تفطر عليه، وهذه زينب بنت جحش كانت مع ما يأتيها من عطائها صناع اليدين تصنع بيدها وتخيط، وتتصدق بكل ذلك في سبيل الله، ووصفتها عائشة ضرتها فقالت: «لم تكن امرأة خيرا منها في الدين، وأتقى لله، وأصدق حديثا، وأوصل للرحم، وأعظم صدقة، وأشد ابتذالا لنفسها في العمل الذي تتصدق به ويقربها إلى الله.».
صلوات الله عليه وعليهن أجمعين.
الفصل الحادي والأربعون
ثلاث رسائل للمؤلف
(1)
عكاظ والمربد. (2)
ثقافة الجاحظ. (3)
الفتوة في الإسلام. (1) عكاظ والمربد
من أبعد الأماكن أثرا في الحياة العربية عكاظ والمربد، وقد كان أثرهما كبيرا من نواح متعددة؛ من الناحية الاقتصادية ومن الناحية الاجتماعية ومن الناحية الأدبية، ودراستهما تضيء لنا أشياء كثيرة في تاريخ العرب.
ولكن يظهر لي أنه لم يعن بهما العناية اللائقة، فلا نرى فيما بين أيدينا إلا كلمات قليلة منثورة في الكتب يصعب على الباحث أن يصور منها صورة تامة أو شبهها، ومع هذا فسنبدأ في هذه الكلمة بشيء من المحاولة في توضيح أثرهما وخاصة من الناحية الأدبية. (1-1) عكاظ
في الجنوب الشرقي من مكة، وعلى بعد نحو عشرة أميال من الطائف، ونحو ثلاثين ميلا من مكة؛ مكان منبسط في واد فسيح به نخل وبه ماء وبه صخور، يسمى هذا المكان«عكاظ»، وكانت تقام به سوق سنوية تسمى «سوق عكاظ»، وقد اختلف اللغويون في اشتقاق الكلمة، فقال بعضهم: اشتقت من «تعكظ القوم» إذا تحبسوا لينظروا في أمورهم، وقال غيرهم: سميت عكاظا؛ لأن العرب كانت تجتمع فيها فيعكظ بعضهم بعضا بالمفاخرة؛ أي: يعركه ويقهره، كما اختلفت القبائل في صرفها وعدم صرفها؛ فالحجازيون يصرفونها وتميم لا تصرفها، وعلى اللغتين ورد الشعر:
قال دريد بن الصمة: «تغيبت عن يومي عكاظ كليهما».
وقال أبو ذؤيب:
إذا بني القباب على عكاظ
وقام البيع واجتمع الألوف •••
وكان للعرب أسواق كثيرة محلية كسوق صنعاء، وسوق حضرموت، وسوق صحار، وسوق الشحر، لا يجتمع فيها - غالبا - إلا أهلها وأقرب الناس إليها.
وبجانب هذه الأسواق الخاصة أسواق عامة لقبائل العرب جميعا، أهمها: سوق عكاظ، وسبب عمومها وأهميتها على ما يظهر: (1)
أن موعد انعقادها كان قبيل الحج، وهي قريبة من مكة وبها الكعبة، فمن أراد الحج من جميع قبائل العرب سهل عليه أن يجمع بين الغرض التجاري والاجتماعي بغشيانه عكاظ قبل الحج، وبين الغرض الديني بالحج. (2)
أن موسم السوق كان في شهر من الأشهر الحرم؛ على قول أكثر المؤرخين
1 «والعرب كانت (في الشهر الحرام) لا تقرع الأسنة، فيلقى الرجل قاتل أبيه أو أخيه فيه فلا يهيجه تعظيما له، وتسمي مضر الشهر الحرام الأصم لسكون أصوات السلاح وقعقعته فيه
2 » وفي انعقاد السوق في الشهر الحرام مزية واضحة، وهي أن يأمن التجار فيه على أرواحهم، وإن كانوا أحيانا قد انتهكوا حرمة الشهر الحرام فاقتتلوا، كالذي روي في الأخبار عن حروب الفجار كما سيجيء، ولكن - على العموم - كان القتل في هذا الشهر مستهجنا، قال ابن هشام: «أتى آت قريشا فقال: إن البراض قد قتل عروة وهم في الشهر الحرام بعكاظ ... إلخ.»
3
وقد قال ذلك استعظاما لقتله. «فكان يأتي عكاظ قريش وهوازن وغطفان والأحابيش وطوائف من أفناء العرب.»
4
وكانت كل قبيلة تنزل في مكان خاص من السوق، ففي الخبر أن رسول الله ذهب مع عمه العباس إلى عكاظ ليريه العباس منازل الأحياء فيها
5 ، ويروى كذلك أن رسول الله جاء كندة في منازلهم بعكاظ
6 .
بل كان يشترك في سوق عكاظ اليمنيون والحيريون، يقول المرزوقي «كان في عكاظ أشياء ليست في أسواق العرب؛ كان الملك من ملوك اليمن يبعث بالسيف الجيد والحلة الحسنة والمركوب الفاره فيقف بها وينادي عليه ليأخذه أعز العرب، يراد بذلك معرفة الشريف والسيد فيأمره بالوفادة عليه ويحسن صلته وجائزته.
7 » ويروي ابن الأثير عن أبي عبيدة «أن النعمان بن المنذر لما ملكه كسرى أبرويز على الحيرة كان النعمان يجهز كل عام لطيمة - وهي التجارة - لتباع بعكاظ.».
فترى من هذا أن بلاد العرب من أقصاها إلى أقصاها كانت تشترك في سوق عكاظ.
واختلفت الأقوال في موعد انعقادها، وأكثرها على أنه في ذي القعدة من أوله عشرين منه، أو من نصفه إلى آخره، قال الأزرقي في تاريخ مكة: «فإذا كان الحج ... خرج الناس على مواسمهم فيصبحون بعكاظ يوم هلال ذي القعدة، فيقيمون به عشرين ليلة، تقوم فيها أسواقهم بعكاظ والناس على مداعيهم وراياتهم، منحازين في المنازل، تضبط كل قبيلة أشرافها وقادتها، ويدخل بعضهم في بعض للبيع والشراء، ويجتمعون في بطن السوق فإذا مضت العشرون انصرفوا إلى مجنة فأقاموا بها عشرا، أسواقهم قائمة، فإذا رأوا هلال ذي الحجة انصرفوا إلى ذي المجاز، ثم إلى عرفة وكانت قريش وغيرها من العرب تقول: «لا تحضروا سوق عكاظ والمجنة وذي المجاز إلا محرمين بالحج.»، وكانوا يعظمون أن يأتوا شيئا من المحارم أو يعدوا بعضهم على بعض في الأشهر الحرم وفي الحرم.»
8 . •••
وظيفته:
كان سوق عكاظ يقوم بوظائف شتى فهو - أول كل شيء - متجر تعرض فيه السلع على اختلاف أنواعها، يعرض فيه الأدم والحرير والوكاء والحذاء والبرود من العصب والوشي والمسير والعدني
9
ويباع به الرقيق
10 ، ويعرض فيه كل سلعة عزيزة وغير عزيزة، فما يهديه الملوك يباع بسوق عكاظ
11 ، ويتقاتل ابن الخمس مع الحارث بن ظالم فيقتله ابن الخمس ويأخذ سيف الحارث يعرضه للبيع في عكاظ
12 ، وعبلة بنت عبيد بن خالد يبعثها زوجها بأنحاء سمن تبيعها له بعكاظ
13 .
ونسبوا إلى عكاظ فقالوا: أديم عكاظي؛ أي: مما يباع في عكاظ
14 .
ولم تكن العروض التي تعرض في سوق عكاظ قاصرة على منتجات جزيرة العرب، فالنعمان يبعث إلى سوق عكاظ بمتجر من حاصلات الحيرة وفارس لتباع به ويشترى بثمنها حاصلات أخرى
15 ، بل كان يباع في عكاظ سلع من مصر والشام والعراق، فيروي المرزوقي أنه قبل المبعث بخمس سنين حضر السوق من نزار واليمن ما لم يروا أنه حضر مثله في سائر السنين، فباع الناس ما كان معهم من إبل وبقر ونقد وابتاعوا أمتعة مصر والشام والعراق
16 .
وكان السوق يقوم بأعمال مختلفة اجتماعية إلى جانب أعماله التجارية، فمن كانت له خصومة عظيمة انتظر موسم عكاظ؛ كانوا إذا غدر الرجل أو جنى جناية عظيمة انطلق أحدهم حتى يرفع له راية غدر بعكاظ، فيقوم رجل فيخطب بذلك الغدر فيقول: ألا إن فلان بن فلان غدر، فاعرفوا وجهه ولا تصاهروه ولا تجالسوه ولا تسمعوا منه قولا، فإن أعتب وإلا جعل له مثل مثاله في رمح فنصب بعكاظ فلعن ورجم، وهو قول الشماخ:
ذعرت به القطا ونفيت عنه
مقام الذئب كالرجل اللعين
ومن كان له دين على آخر أنظره إلى عكاظ
17 .
ومن كان له حاجة استصرخ القبائل بعكاظ كالذي حكى الأصفهاني أن رجلا من هوازن أسر فاستغاث أخوه بقوم فلم يغيثوه، فركب إلى موسم عكاظ وأتى منازل مذحج يستصرخهم
18 .
وكثيرا ما يتخذ السوق وسيلة للخطبة والزواج، فيروي الأغاني أنه اجتمع يزيد بن عبد المدان وعامر بن الطفيل بموسم عكاظ، وقدم أمية بن الأسكر الكناني وتبعته ابنة له من أجمل أهل زمانها ، فخطبها يزيد وعامر، فتردد أبوها بينهما، ففخر كل منهما بقومه، وعدد فعالهم في قصائد ذكرها
19 ، فزوجها أبوها ليزيد.
ومن كان صعلوكا فاجرا خلعته قبيلته - إن شاءت - بسوق عكاظ وتبرأت منه ومن فعاله، كالذي فعلت خزاعة، خلعت قيس بن منقذ بسوق عكاظ، وأشهدت على نفسها بخلعها إياه، وأنها لا تحتمل له جريرة، ولا تطالب بجريرة يجرها أحد عليه
20 .
وقد يتفاخر الرجلان من قبيلتين فيفخر كل بقبيلته ومكارمها، فيتحاكمان إلى حكم عكاظ، كما فعل رجل من قضاعة نافر رجلا من اليمن فتحاكما إلى حكم عكاظ
21 .
ومن كان داعيا إلى إصلاح اجتماعي أو ديني كان يرى أن خير فرصة له سوق عكاظ، والقبائل من أنحاء الجزيرة مجتمعة، فمن قبل الدعوة كان من السهل أن يكون داعيا في قومه إذا عاد إليهم، فنرى قس بن ساعدة يقف بسوق عكاظ يدعو دعوته، ويخطب فيها خطبته المشهورة على جمل له أورق فيرغب ويرهب، ويحذر وينذر.
ولما بعث رسول الله
صلى الله عليه وسلم
اتجه إلى دعوة الناس بعكاظ؛ لأنها مجمع القبائل، روى الواقدي أن رسول الله أقام ثلاث سنين من نبوته مستخفيا، ثم أعلن في الرابعة، فدعا عشر سنين، يوافي الموسم، يتبع الحاج في منازلهم بعكاظ والمجنة وذي المجاز، يدعوهم إلى أن يمنعوه حتى يبلغ رسالة ربه ولهم الجنة، فلا يجد أحدا ينصره، حتى إنه يسأل عن القبائل ومنازلهم قبيلة قبيلة، حتى انتهى إلى بني عامر بن صعصعة فلم يلق من أحد من الأذى ما لقي منهم
22
وفي خبر آخر أنه أتى كندة في منازلهم بعكاظ فلم يأت حيا من العرب كان ألين منهم
23 ، وعن علي بن أبي طالب أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
كان يخرج من الموسم فيدعو القبائل فما أحد من الناس يستجيب له ويقبل منه دعاءه، فقد كان يأتي القبائل بمجنة وعكاظ ومنى حتى يستقبل القبائل، يعود إليهم سنة بعد سنة، حتى إن القبائل منهم من قال: «ما آن لك أن تيأس منا.»، من طول ما يعرض نفسه عليهم، حتى استجاب هذا الحي من الأنصار
24 .
وروى اليعقوبي أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قام بسوق عكاظ عليه جبة حمراء فقال: يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا وتنجحوا، ويتبعه رجل يكذبه وهو أبو لهب بن عبد المطلب
25 .
كذلك كان لعكاظ أثر كبير لغوي وأدبي فقد رأينا قبائل العرب على اختلافها من قحطانيين وعدنانيين تنزل بها، وملك الحيرة يبعث تجارته إليها ويأتي التجار من مصر والشام والعراق
26
فكان ذلك وسيلة من وسائل تفاهم القبائل وتقارب اللهجات، واختيار القبائل بعضها من بعض ما ترى أنه أليق بها وأنسب لها، كما أن التجار من البلدان المتمدنة كالشام ومصر والعراق كانوا يطلعون العرب على شيء مما رأوا من أحوال تلك الأمم الاجتماعية، وفوق هذا كانت عكاظا معرضا للبلاغة ومدرسة بدوية يلقى فيها الشعر والخطب وينقد ذلك كله ويهذب، قال أبو المنذر: كانت بعكاظ منابر في الجاهلية يقوم عليها الخطيب بخطبته وفعاله وعد مآثره وأيام قومه، من عام إلى عام، فيما أخذت العرب أيامها وفخرها، وكانت المنابر قديمة، يقول فيها حسان:
أولاء بنو ماء السماء توارثوا
دمشق بملك كابرا بعد كابر
يؤمون ملك الشام حتى تمكنوا
ملوكا بأرض الشام فوق النابر
27
فيقف أشراف العرب يفخرون بمناقبهم ومناقب قومهم ... فبدر بن معشر الغفاري ... كان رجلا منيعا مستطيلا بمنعته على من ورد عكاظ، فاتخذ مجلسا بسوق عكاظ وقعد فيه وجعل يبرح على الناس ويقول:
نحن بنو مدركة بن خندف
من يطعنوا في عينه لا يطرف
ومن يكونوا قومه يغطرف
كأنهم لجة بحر مسدف
فيقوم رجل من هوزان فيقول:
أنا ابن همدان ذو التغطرف
بحر بحور زاخر لم ينزف
نحن ضربنا ركبة المخندف
إذ مدها في أشهر المعرف
28
وعمرو بن كلثوم يقوم خطيبا بسوق عكاظ وينشد قصيدته المشهورة:
ألا هبي بصحنك فاصبحينا
29 .
والأعشى يوافي سوق عكاظ كل سنة، ويأتي مرة فإذا هو بسرحة قد اجتمع الناس عليها فينشدهم الأعشى في مدح المحلق
30 ، والنابغة الذبياني تضرب له قبة أدم بسوق عكاظ يجتمع إليه فيها الشعراء فيدخل إليه حسان بن ثابت وعنده الأعشى والخنساء فينشدونه جميعا ويفاضل بينهم وينقد قول حسان:
لنا الجفنات الغر يلمعن في الضحى
فيقول لحسان قللت العدد ولو قلت: الجفان؛ لكان أكثر، وقلت: يلمعن بالضحى؛ ولو قلت: يبرقن بالدجى لكان أبلغ في المديح؛ لأن الضيف بالليل أكثر طروقا
31 .
ودريد بن الصمة يمدح عبد الله بن جدعان بعد أن لاحاه فيقول:
إليك ابن جدعان أعملتها
محففة للسرى والنصب
32
إلخ
وقس بن ساعدة يخطب الناس فيذكرهم بالله والموت - خطبته المشهورة - ورسول الله يسمع له
33 ، والخنساء تسوم هودجها براية، وتشهد الموسم بعكاظ وتعاظم العرب بمصيبتها في أبيها عمرو بن الشريد وأخويها صخر ومعاوية، وتنشد في ذلك القصائد، فلما وقعت وقعة بدر وقتل فيها عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة أقبلت هند بنت عتبة إلى عكاظ، وفعلت كما فعلت الخنساء، وقالت: اقرنوا جملي بجمل الخنساء ففعلوا، فعاظمت هند الخنساء في مصيبتها وتناشدتا الأشعار، تقول إحداهما قصيدة في عظم مصيبتها وترد الأخرى عليها
34 ، وعلى الجملة فكانوا في عكاظ يتبايعون ويتعاكظون ويتفاخرون ويتحاجون وتنشد الشعراء ما تجدد لهم وفي ذلك يقول حسان:
سأنشر - ما حييت - لهم كلاما
ينشر في المجامع من عكاظ
فمن هذا كله نرى كيف كانت عكاظ مركزا لحركة أدبية ولغوية واسعة النطاق، كما كانت مركزا لحركة اجتماعية واقتصادية.
نظام سوق عكاظ
كانت القبائل - كما أسلفنا - تنزل كل قبيلة منها في مكان خاص بها، ثم تتلاقى أفراد القبائل عند البيع والشراء أو في الحلقات المختلفة، كالذي حكينا أن الأعشى رأى الناس يجتمعون على سرحة، أو حول الخطيب يخطب على منبر، أو في قباب من أدم تقام هنا وهناك، ويختلط الرجال بالنساء في المجامع، وقد يكون ذلك سببا في خطبة أو زواج أو تنادر
35 ، وكانت تحضر الأسواق - وخاصة سوق عكاظ - أشراف القبائل «وكان أشراف القبائل يتوافون بتلك الأسواق مع التجار، من أجل أن الملوك كانت ترضخ للأشراف، لكل شريف بسهم من الأرباح، فكان شريف كل بلد يحضر سوق بلده، إلا عكاظ فإنهم كانوا يتوافون بها من كل أوب.»
36 .
والظاهر أن المراد بالملوك هم الأمراء ورؤساء القبائل الذين يرسلون بضائعهم لبيعها في أسواق العرب، كملك الحيرة والغساسنة وأمراء اليمن ونحوهم - وكانت القبائل تؤتي لرؤسائها إتاوة في نظير إقامتهم بالسوق، فقد ذكر اليعقوبي في تاريخه أخبار أسواق كثيرة كان يعشرها أشرافها - أي: يأخذون العشر
37 ، وفي عكاظ كانت القبائل تدفع لأشرافها هذه الأتاوة «فهوازن كانت تؤتي زهير بن جذيمة الإتاوة كل سنة بعكاظ، وهو يسومها الخسف وفي أنفسها منه غيظ وحقد.
38 » وكانت الإتاوة سمنا وأقطا وغنما
39 ، «وكان عبد الله بن جعدة سيدا مطاعا وكانت له إتاوة بعكاظ يؤتى بها، ويأتي بها هذا الحي من الأزد وغيرهم، ومن هذه الإتاوة ثياب.»
40 .
وكانت الأشراف تمشي في هذه الأسواق ملثمة، ولا يوافيها (عكاظ) شريف إلا وعلى وجهه برقع، مخافة أن يؤسر يوما فيكبر فداؤه، فكان أول من كشف طريف العنبري، لما رآهم يطلعون في وجهه ويتفرسون في شمائله، قال: قبح من وطن نفسه إلا على شرفه، وحسر عن وجهه وقال:
أوكلما وردت عكاظ قبيلة
بعثوا إلي عريفهم يتوسم
فتوسموني، إنني أنا ذلكم
شاكي السلاح وفي الحوادث معلم
41
وكان على سوق عكاظ كلها رئيس: إليه أمر الموسم وإليه القضاء بين المتخاصمين، قال أبو المنذر: «وتزعم مضر أن أمر الموسم وقضاء عكاظ كان في بني تميم.» وكان من اجتمع له ذلك منهم بعد عامر بن الظرب العداوني سعد بن زيد مناة من تميم، وقد فخر المخبل بذلك في شعره:
ليالي سعد في عكاظ يسوقها
له كل شرق من عكاظ ومغرب
حتى جاء الإسلام فكان يقضي بعكاظ محمد بن سفيان بن مجاشع
42 .
تاريخ عكاظ
من العسير جدا أن نحدد بدء عكاظ، فلم نجد في ذلك خبرا يصح التعويل عليه، يقول الألوسي في بلوغ الأرب «إنها اتخذت سوقا بعد الفيل بخمس عشرة سنة.» ولكن إذا بحثنا في الأحداث التي رويت في عكاظ وجدنا ذلك غير صحيح، فهم يروون - كما قدمنا - أن عمرو بن كلثوم أنشد قصيدته في عكاظ، وعمرو بن كلثوم كان على وجه التقريب حول سنة 500م.
كذلك إذا عدنا إلى ما رواه المرزوقي في الأزمنة والأمكنة عن رؤساء عكاظ وجدنا أنه عدهم قبل الإسلام عشرة أولهم عامر بن الظرب العدواني، وهذا - من غير شك - يجعل تاريخ عكاظ أبعد مما يحكي الألوسي بزمان طويل، كذلك يروي الأغاني أن عبلة زوجة عبد شمس بن عبد مناف باعت أنحاء سمن بعكاظ
43 .
وظل سوق عكاظ يقوم كل سنة، وكانت فيه قبيل الإسلام حروب الفجار، وهي حروب أربع، وكان سبب الأولى على ما يروى؛ المفاخرة في سوق عكاظ، وسبب الثانية تعرض فتية من قريش لامرأة من بني عامر بن صعصعة بسوق عكاظ، وسبب الثالثة مقاضاة دائن لمدينه مع إذلاله في سوق عكاظ، وسبب الأخيرة أن عروة الرحال ضمن أن تصل تجارة النعمان بن المنذر إلى سوق عكاظ آمنة، فقتله البراض في الطريق
44 .
فكلها تدور حول سوق عكاظ؛ وهذه الحروب كانت قبل مبعث النبي
صلى الله عليه وسلم
بست وعشرين سنة، وشهدها النبي وهو ابن أربع عشرة سنة مع أعمامه، وقال: كنت يوم الفجار أنبل على عمومتي
45 .
واستمرت هذه الحروب نحو أربع سنوات، وقد كانت هناك نزعتان عند أشراف العرب، نزعة قوم يقصدون إلى السلب والنهب وسفك الدماء لا يصدهم صاد، ولا يرعون حتى ولا الأشهر الحرم، ويتحرشون بالناس، فيمد أحدهم رجله في سوق عكاظ ويتحدى الأشراف مثله أن يضربوها فتثور من ذلك الثائرة
46 ، وفريق يميل إلى السلم ودرء أسباب الحروب ونجاح التجارة والأسواق، بتأمين السالكين وعدم التعرض لهم بأذى، جاء في تاريخ اليعقوبي «أنه كان في العرب قوم يستحلون المظالم إذا حضروا هذه الأسواق فسموا «المحلين»، وكان فيهم من ينكر ذلك وينصب نفسه لنصرة المظلوم والمنع من سفك الدماء وارتكاب المنكر فيسمون الذادة «المحرمين»؛ فأما المحلون فكانوا قبائل من أسد وطيئ وبني بكر بن عبد مناة وقوم من بني عامر بن صعصعة؛ وأما الذادة المحرمون فكانوا من بني عمرو بن تميم وبني حنظلة بن زيد مناة وقوم من هذيل وقوم من بني شيبان ... فكان هؤلاء يلبسون السلاح لدفعهم عن الناس.»
47 .
وكان من أشهر الداعين للسلم عبد الله بن جدعان، فقد كان إذا اجتمعت العرب في سوق عكاظ دفعت أسلحتها إلى ابن جدعان، ثم يردها عليهم إذا ظعنوا وكان سيدا حكيما مثريا
48 .
ويظهر أن أصحاب هذه النزعة الثانية وهم الذادة هم الذين سموا هذه الحروب حرب الفجار؛ لما ارتكب فيها من الفجور وسفك الدماء، وهم الذين تغلبوا فيما بعد ونجحوا في وقف هذه الحروب «ودعوا الناس أن يعدوا القتلى فيدوا من فضل، وأن يتعاقدوا على الصلح فلا يعرض بعضهم لبعض» وربما كان من أثر ذلك حلف الفضول، وقد عقد في بيت عبد الله بن جدعان هذا.
واستمرت عكاظ في الإسلام، وكان يعين فيها من يقضي بين الناس، فعين محمد بن سفيان بن مجاشع قاضيا لعكاظ، وكان أبوه يقضي بينهم في الجاهلية وصار ذلك ميراثا لهم
49 .
ولكن يظهر أن هذه الأسواق ضعف شأنها بعد الفتوح، فأصبحت البلاد المفتوحة أسواقا للعرب خيرا من سوق عكاظ، وصار العرب يغشون المدن الكبيرة لقضاء أغراضهم فضعفت أسواق العرب ومنها عكاظ، ومع ذلك ظلت قائمة وكان آخر العهد بها قبيل سقوط الدولة الأموية قال الكلبي: «وكانت هذه الأسواق بعكاظ ومجنة وذي المجاز قائمة في الإسلام حتى كان حديثا من الدهر، فأما عكاظ فإنما تركت عام خرجت الحرورية بمكة مع أبي حمزة المختار بن عوف الأزدي الأباضي في سنة تسع وعشرين ومائة، خاف الناس أن ينهبوا وخافوا الفتنة فتركت حتى الآن، ثم تركت مجنة وذو المجاز بعد ذلك، واستغنوا بالأسواق بمكة وبمنى وبعرفة ... وآخر سوق خربت سوق حباشة خربت سنة 197ه، أشار فقهاء أهل مكة على داود بن عيسى بتخريبها فخربها وتركت إلى اليوم
50 .
فعكاظ عاصرت العصر الجاهلي الذي كان فيه ما وصل إلينا من شعر وأدب، وجرت فيها أحداث تتصل بحياة النبي
صلى الله عليه وسلم
قبيل مبعثه، ومهدت السبيل قبيل الإسلام لتوحيد اللغة والأدب، وعملت على إزالة الفوارق بين عقليات القبائل، وقصدها النبي
صلى الله عليه وسلم
يبث فيها دعوته، وعاصرت الإسلام في عهد الخلفاء الراشدين والعهد الأموي، ولكن كانت حياتها في الإسلام أضعف من حياتها قبله، وبدأ ضعفها من وقت الهجرة لما كان من غزوات وحروب بين مكة والمدينة أو بين المؤمنين والمشركين، فلما فتحت الفتوح رأى العرب في أسواق المدن المتحضرة في فارس والشام والعراق ومصر عوضا عنها، ثم كانت ثورة أبي حمزة الخارجي بمكة، فلم يأمن الناس على أموالهم فخربت السوق، وختمت صحيفة لحياة حافلة ذات أثر سياسي واجتماعي وأدبي كبير. (1-2) المربد
أما المربد فضاحية من ضواحي البصرة، في الجهة الغربية منها مما يلي البادية، بينه وبين البصرة نحو ثلاثة أميال، كان سوقا للإبل قال الأصمعي: «المربد كل شيء حبست به الإبل والغنم ... وبه سميت مربد البصرة، وإنما كان موضع سوق الإبل.
51 » وهو واقع على طريق من ورد البصرة من البادية ومن خرج من البصرة إليها، ويظهر أنه نشأ سوقا للأبل، أنشأه العرب على طرف البادية، يقضون فيه شئونهم قبل أن يدخلوا الحضر أو يخرجوا منه.
وقد كان العرب في بادية العراق قبل الفتح الإسلامي، ونزلت فيه قبائل من بكر وربيعة، وكونوا فيه إمارة المناذرة في الحيرة، فكان هذا الأقليم معروفا لهم قبل الإسلام، وكانت الرحلات من البادية إلى العراق ومن العراق إلى البادية في حركة مستمرة - ومعلوم أن البصرة إنما خططت في الإسلام في عهد عمر بن الخطاب ونزل بها العرب على منازلهم من يمنية ومضرية - ولكن يظهر أن المربد كان قبل أن تخطط البصرة، وكان قبل الإسلام، وربما فهم ذلك من قول الطبري «بعث عمر بن الخطاب عتبة بن غزوان فقال له: انطلق أنت ومن معك حتى إذا كنتم في أقصى أرض العرب وأدنى أرض العجم فأقيموا، فأقبلوا حتى إذا كان بالمربد وجدوا هذا الكذان
52
قالوا: ما هذه البصرة.»
53 .
وقال في اللسان - في مادة ب ص ر - وقال ابن شميل: «البصرة أرض كأنها جبل من جص وهي التي بنيت بالمربد، وإنما سميت البصرة بصرة بها.».
ولكن أخباره في الجاهلية منقطعة أو معدومة مما يدل على قلة أهميته؛ إذ ذاك، إنما كانت له الأهمية بعد أن فتح العرب العراق وسكنوه وخططوا البصرة، فقد أنشئت فيه المساكن بعد أن كان مربدا للإبل فقط، واتصلت العمارة بينه وبين البصرة
54
حتى قالوا فيه «العراق عين الدنيا، والبصرة عين العراق، والمربد عين البصرة، ودارين عين المربد.»
55 .
وقد كان المربد في الإسلام صورة معدلة لعكاظ، كان سوقا للتجارة، وكان سوقا للدعوات السياسية، وكان سوقا للأدب - جاء في كتاب «ما يعول عليه» المربد كل موضع حبست فيه الإبل ... ومنه سمي مربد البصرة لاجتماع الناس وحبسهم النعم فيه، كان مجتمع العرب من الأقطار، يتناشدون فيه الأشعار، ويبيعون ويشترون وهو «كسوق عكاظ» وقال العيني: «مربد البصرة ... محلة عظيمة فيها (في البصرة) عن جهة البرية كان يجتمع فيها العرب من الأقطار، ويتناشدون الأشعار، ويبيعون ويشترون»
56 .
وليس يهمنا هنا أثره التجاري، وإنما يهمنا شئونه السياسية والأدبية وهما مرتبطان بعضهما ببعض أشد الإرتباط، فلا داعي للتفريق بينهما، فقد كانت الأحزاب السياسية تنتج أدبا من خطب وشعر، وكانت الخطب والشعر تقوي الأحزاب السياسية وتساعد في تكوينها والحروب بينها.
المربد في عصر الخلفاء الراشدين
كانت أهم أخبار المربد في ذلك العصر ما كان بعد قتل عثمان بن عفان من سير عائشة أم المؤمنين إلى البصرة، فإنها نزلت بفناء البصرة ورأت أن تبقى خارجها حتى ترسل إلى أهلها تدعوهم بدعوتها، وهي المطالبة بدم عثمان، وبعبارة أخرى الخروج على علي، وكان معها طلحة والزبير ثم سارت إلى المربد معهما وخرج إليها من قبل دعوتها، وخرج إلى المربد كذلك عامل علي على البصرة، وهو عثمان بن حنيف ومن يؤيده، وأصبح المربد وهو يموج بمن أتى من الحجاز ومن خرج من البصرة حتى ضاق المربد بمن فيه، ورأينا المربد مجالا للخطباء ممن يؤيد عائشة ومن معها، ومن يؤيد عليا وعامله، أصحاب عائشة في ميمنة المربد وأصحاب علي في ميسرته، ويخطب في المربد طلحة ويمدح عثمان بن عفان، ويعظم الجناية عليه ويدعو إلى الطلب بدمه، ويخطب الزبير كذلك، وتخطب عائشة أم المؤمنين بصوتها الجهوري ويؤيدهم من في ميمنة المربد ، ويقولون: صدقوا وبروا وقالوا الحق وأمروا بالحق، ويؤثر قول عائشة في أهل الميسرة فينحاز بعضهم إليها ويبقى الآخرون على رأيهم وعلى رأسهم عثمان بن حنيف، ويخطبون كذلك يبينون خطأ هذه الدعوة، وأن طلحة والزبير بايعا عليا فلا حق لهما في الخروج عليه ويؤيدهم أبو الأسود الدؤلي وأمثاله
57 .
وهكذا ينتقل المربد إلى مجمع حافل فيه الدعوات السياسية مؤيدة بالحجج والبراهين وفيه معرض البلاغة من خطب طويلة وجمل قصيرة متينة، وفيه الجدل والمناظرة وبحث أهم الأحداث في ذلك العصر، وهو مقتل عثمان بن عفان وتحديد المسئولية في قتله، ولم تفد هذه الحرب اللسانية فانتقلت إلى حرب بالسلاح وأصبح المربد ساحة للقتال.
المربد في عهد بني أمية
كان العصر الأموي أزهى عصور المربد؛ ذلك لأن العرب كانوا قد هدءوا من الفتح واستقرت الممالك في أيديهم، وأصبح العراق مقصد العرب يؤمه من أراد الغنى وخاصة البصرة جاء في الطبري «أن عمر بن الخطاب سأل أنس بن حجية وكان رسولا إلى عمر من العراق، فقال له عمر: كيف رأيت المسلمين؟ فقال: انثالت عليهم الدنيا فهم يهيلون الذهب والفضة، فرغب الناس في البصرة فأتوها.» وكان المربد باب البصرة يمر به من أرادها من البادية، ويمر به من خرج من البصرة إلى البادية، ويقطنه قوم من العرب كرهوا معيشة المدن، ويقصده سكان البصرة يستنشقون منه هواء البادية، فكان ملتقى العرب، وكانوا يحيون فيه حياة تشبه حياة الجاهلية من مفاخرة بالأنساب وتعاظم بالكرم والشجاعة، وذكر لما كان بين القبائل من إحن، فالفرزدق يقف في المربد ينهب أمواله فعل كرماء الجاهلية، حكى في النقائض أن زياد بن أبي سفيان كان ينهى أن ينهب أحد مال نفسه، وأن الفرزدق أنهب أمواله بالمربد، وذلك أن أباه بعث معه إبلا ليبيعها فباعها وأخذ ثمنها فعقد عليه مطرف خز كان عليه، فقال قائل: لشد ما عقدت على دراهمك هذه، أما والله لو كان غالب ما فعل هذا الفعل، فحلها ثم أنهبها، وقال: من أخذ شيئا فهو له وبلغ ذلك زيادا فبالغ في طلبه فهرب ... فلم يزل في هربه يطوف في القبائل والبلاد حتى مات زياد
58 .
وكان الأمويون على وجه العموم يعيشون عيشة عربية ويحتفظون بعربيتهم، إن أخذوا شيئا من الحضارة صبغوه بصبغتهم وحولوه إلى ذوقهم وكذلك فعل عرب البصرة؛ أرادوا أن يكون لهم من مربد البصرة ما كان لهم من سوق عكاظ في الحجاز فبلغوا غايتهم، وأحيوا العصبية الجاهلية، وساعد الخلفاء الأمويون أنفسهم على إحيائها لما كانوا يستفيدون منها سياسيا، فرأينا ظل ذلك في الأدب والشعر، ورأينا المربد في العصر الأموي يزخر بالشعراء يتهاجون ويتفاخرون، ويعلي كل شاعر من شأن قبيلته ومذهبه السياسي، ويضع من شأن غيره من الشعراء ومذاهبهم السياسية.
ومن أجل هذا خلف لنا المربد أجل شعر أموي من هذا النوع، فكثير من نقائض جرير والفرزدق والأخطل كانت أثرا من أثار المربد قيلت فيه وصدرت عما كان بينهم من منافرة وخصومة، يروي الأغاني أن جريرا والفرزدق اجتمعا في المربد فتنافرا وتهاجيا وحضرهما العجاج والأخطل وكعب بن جعيل في خبر طويل
59 .
كان كل من جرير والفرزدق يلبس لباسا خاصا ويخرج إلى المربد ويقول قصائده في الفخر والهجاء، والرواة يحملون إلى كليهما ما قاله الآخر فيرد عليه، قال أبو عبيدة: وقف جرير بالمربد وقد لبس درعا وسلاحا تاما وركب فرسا أعاره إياه أبو جهضم عباد بن حصين، فبلغ ذلك الفرزدق فلبس ثياب وشي وسوار وقام في مقبرة بني حصن ينشد بجرير، والناس يسعون فيما بينهما بأشعارهما فلما بلغ الفرزدق لباس جرير السلاح والدرع قال:
عجبت لراعي الضأن في حطمية
وفي الدرع عبد قد أصيبت مقاتله
ولما بلغ جريرا أن الفرزدق في ثياب وشي قال:
ليست سلاحي والفرزدق لعبة
عليه وشاحا كرج وجلاجله
60
وما زالا كذلك يتهاجيان ويقولان القصائد الطويلة الكثيرة حتى ضج والي البصرة فهدم منازلهما بالمربد فقال جرير:
فما في كتاب الله تهديم دارنا
بتهديم ماخور خبيث مداخله
61
وكان لكل شاعر من شعراء المربد حلقة ينشد فيها شعره وحوله الناس يسمعون منه، جاء في الأغاني «وكان لراعي الإبل والفرزدق وجلسائهما حلقة بأعلى المربد بالبصرة.»
62 .
وكان الناس يخرجون كل يوم إلى المربد، يعرف كل فريق مكانه فيجلس فيه فينتظر شاعره، فقد روى الأغاني أيضا أن جريرا بات يشرب باطية من نبيذ ويهمهم بالشعر في هجاء الفرزدق والراعي، فما زال كذلك حتى كان السحر وقد قالها ثمانين بيتا في بني نمير فلما ختمها بقوله:
فغض الطرف إنك من نمير
فلا كعبا بلغت ولا كلابا
كبر، ثم أصبح حتى إذا عرف أن الناس قد جلسوا في مجالسهم بالمربد، وكان يعرف مجلسه ومجلس الفرزدق دعا فادهن ولف رأسه، ودعا غلامه فأسرج له حصانا وقصد مجلسهم وأنشدها، فنكس الفرزدق وراعي الإبل
63 .
ونرى بجانب هؤلاء الفحول أعني جريرا والفرزدق والأخطل طائفة أخرى من كبار الرجاز يقصدون المربد وينشدون رجزهم، فالعجاج الراجز يخرج إلى المربد عليه جبة خز وعمامة خز على ناقة له قد أجاد رحلها، ويقف بالمربد على الناس مجتمعين، ويقول رجزه المشهور:
قد جبر الدين الإله فجبر
ويهجو ربيعة فيأتي رجل من بكر بن وائل إلى أبي النجم ويستحثه على الرد عليه، فيخرج أبو النجم إلى المربد ويقول رحزه.
تذكر القلب وجهلا ما ذكر
ورؤية الرجاز ينشد رجزه:
وقاتم الأعماق خاوي المخترق
ويجتمع حوله فتيان من تميم فيرد عليه أبو النجم في رجزه.
إذا اصطبحت أربعا عرفتني
64
كذلك نرى ذا الرمة يقف بالمربد وعليه جماعة مجتمعة وهو قائم وعليه برد قيمته مئتا دينار، وينشد ودموعه تجري على لحيته:
ما بال عينك منها الماء ينسكب
65
وينشد كذلك بعض قصائده فيقف خياط فينقد شعره نقدا شديدا ويسخف بعض تشبيهاته، فيمتنع ذو الرمة عن الذهاب إلى المربد حتى يموت الخياط
66 .
والأمراء والولاة قد يتدخلون فيسكتون بعض الشعراء، وقد يهيجون بعضهم على بعض خدمة لأغراض حزبية أو سياسية، فعبد الملك بن مروان يأمر أبا النجم بالمفاخرة مع الفرزدق، وعباد بن حصين - وكان على أحداث البصرة - يعين جريرا على الفرزدق ويعير جريرا الدرع والفرس والسلاح
67 .
وهكذا كان المربد في العهد الأموي معهدا كبيرا أنتج أدبا غزيرا من جنس خاص، وكاد هذا الشعر يكون امتدادا للشعر الجاهلي، لاتحاد الأسباب والبواعث، فأما الشعر الغزلي كشعر عمر بن أبي ربيعة وأمثاله فليس له كبير أثر في المربد؛ لأنه فوق النزال والمهاجاة والمفاخرة، فليس مجاله حياة المربد التي وصفناها.
المربد في العصر العباسي
بقي المربد في العصر العباسي، ولكنه كان يؤدي غرضا آخر غير الذي كان يؤديه في العهد الأموي، ذلك أن العصبية القبلية ضعفت في العصر العباسي بمهاجمة الفرس للعرب، وأحس العرب ما هم فيه جميعا من خطر من حيث هم أمة لا فرق بين عدنانيهم وقحطانيهم، فقوي نفوذ الفرس وغلبوا العرب على أمرهم، وبدأ الناس في المدن كالبصرة يحيون حياة اجتماعية هي أقرب إلى حياة الفرس من حياة العرب، وانصرف الخلفاء والأمراء عن مثل النزاع الذي كان يتنازعه جرير والفرزدق والأخطل، وظهرت العلوم تزاحم الأدب والشعر، وفشا اللحن بين الموالي الذين دخلوا في الإسلام، وأفسدوا حتى على العرب الخالصة لغتهم، فتحول المربد يؤدي غرضا يتفق وهذه الحياة الجديدة.
أصبح المربد غرضا يقصده الشعراء لا ليتهاجوا، ولكن ليأخذوا عن أعراب المربد الملكة الشعرية، يحتذونهم ويسيرون على منوالهم، فيخرج إلى المربد بشار وأبو نواس وأمثالهما، ويخرج إلى المربد اللغويون يأخذون اللغة عن أهله ويدونون ما يسمعون، روى القالي في الأمالي عن الأصمعي قال: «جئت إلى أبي عمرو بن العلاء فقال لي: من أين أقبلت يا أصمعي؟ قال: جئت من المربد، قال: هات ما معك، فقرأت عليه ما كتبت في ألواحي، فمرت به ستة أحرف لم يعرفها، فخرج يعدو في الدرجة وقال: «شمرت في الغريب» أي غلبتني.»
68 .
والنحويون يخرجون إلى المربد يسمعون من أهله ما يصحح قواعدهم ويؤيد مذاهبهم، فقد اشتد الخلف بين مدرسة البصرة ومدرسة الكوفة في النحو وتعصب كل لمذهبه، وكان أهم مدد لمدرسة البصرة هو المربد، وفي تراجم النحاة نجد كثيرا منهم من كان يذهب إلى المربد يأخذ عن أهله، ويخرج الأدباء إلى المربد يأخذون الأدب، من جمل بليغة وشعر بليغ وأمثال وحكم، مما خلفه عرب البادية وتوارثوه عن آبائهم، كما فعل الجاحظ، يقول ياقوت: إن الجاحظ أخذ النحو عن الأخفش وأخذ الكلام عن النظام وتلقف الفصاحة من العرب شفاها بالمربد
69 .
وبذلك كان المربد مدرسة من نوع آخر تغير برنامجها في العصر العباسي عن برنامجها في العهد الأموي، وأدت رسالة في هذا العصر تخالف رسالتها في العصر السابق.
آخر الأخبار عن المربد
في ثورة الزنج التي ظهرت في فرات البصرة والتي بدأت سنة 255ه حدث قتال بالمربد بين الزنج وجيش الخليفة، فاحترق المربد، روى الطبري قال: يقول ابن سمعان: فإني يومئذ لفي المسجد الجامع؛ إذ ارتفعت نيران ثلاث من ثلاثة أوجه: زهران والمربد وبني حمان في وقت واحد، كأن موقديها كانوا على ميعاد، وجل الخطب وأيقن أهل البصرة بالهلاك
70 .
وتوالت فيه الحرائق وعوتب شاعر البصرة أبو الحصين بن المثنى على أنه لم يقل شيئا في حريق المربد، مع أن المربد من أجل شوارعها، وسوقه من أجل أسواقها، فقال ارتجالا في آخر حريق لها:
أتتكم شهود الهوى تشهد
فما تستطيعون أن تجحدوا
فيا مربديون ناشدتكم
على أنني منكم مجهد
جرى نفسي صاعدا نحوكم
فمن أجله احترق المربد
وهاجت رياح حنيني لكم
وظلت به ناركم توقد
ولولا دموعي جرت لم يكن
حريقكم أبدا يخمد
71
ويذكر ابن الأثير في حوادث سنة 499 أن سيف الدولة صدقة بن مزيد تقاتل مع إسماعيل، فنهبت البصرة وغنم من معه من عرب البر ... ولم يسلم منهم إلا المحلة المجاورة لقبر طلحة والمربد، فإن العباسيين دخلوا المدرسة النظامية وامتنعوا بها وحموا المربد وعمت المصيبة بأهل البلد سوى من ذكرنا
72 .
ويقول ياقوت «إن المربد كان سوقا للإبل، ثم صار محلة عظيمة سكنها الناس، وهو الآن - (عاش ياقوت حتى سنة 626ه) - بائن عن البصرة، بينهما نحو ثلاثة أميال، وكان ما بين ذلك كله عامرا، وهو الآن خراب، فصار المربد كالبلدة المفردة في وسط البرية.».
ثم عفا أثر المربد، ولم نعد نجد له ذكرا ذا قيمة، وأخنى عليه الذي أخنى على عكاظ، ومات بموته معهدان أدبيان اتصلت حياة الثاني منهما بحياة الأول فقاما نحو سبعة قرون ، يخرجان شعرا وأدبا ونقدا كان من خير تراث العرب. (2) ثقافة الجاحظ
لست أعلم أحدا في عصر الجاحظ بلغ مبلغه في سعة ثقافته وعمقها، فلقد شملت كل معارف زمانه تقريبا على اختلاف ألوانها وتعدد منابعها؛ حتى ليخيل إلي أننا لو جمعنا كل كتبه ورسائله، ووزعنا ما فيها، ورتبناها على الحروف الأبجدية، لخرج لنا من ذلك دائرة معارف تمثل أصدق التمثيل معارف العصر العباسي الأول.
دائرة معارف تشمل الرجال، والأدب، والبلاغة، وعلوم الدين، والتاريخ، والطبيعة، والكيميا، والفلسفة، واللاهوت، والاجتماع، والاقتصاد، والصناعة، والتجارة، والحيوان، والنبات، والفن، والفكاهة، ولعله لا ينقصها إلا الرياضة: «الحساب، والجبر، والهندسة»؛ فيظهر لي أنه قصر فيها تقصير المعلم الأول (أرسطو).
وظل يحصل هذه المعلومات المتنوعة المختلفة وينشرها قرنا كاملا تقريبا، وقد منحه الله ذكاء نافذا وصبرا غريبا، وذهنا لاقطا، وحافظة أمينة، وزمنا مباركا، فتيسر له من ذلك كله ما لم يتيسر لأحد غيره في عصره.
ولكن كيف حصل هذه المعارف وما هي الوسائل التي انتهجها في تحصيلها؟
لقد بدأ يأخذ العلم عن شيوخ عصره: (1)
فكان في فجر عهده بالتعليم ثلاثة نجوم لامعة في اللغة والأدب: الأصمعي، وأبو عبيدة، وأبو زيد الأنصاري، وكان لكل منهم ظاهرة.
فأما الأصمعي فكان عالما واسع العلم باللغة، وواسع العلم بالشعر العربي، يحفظ الكثير من قصائده وأراجيزه، له نغمة لطيفة في إنشاده، وكان فوق ذلك يعرف ملح العرب ونوادرهم وفكاهاتهم، ينادم الخلفاء والأمراء بها فيضحكهم وينال من عطائهم.
وكان أبو عبيدة لا يصل إلى درجة الأصمعي في اللغة والشعر والنوادر، ولا كان خفيف الروح خفته، ولكن كان واسع العلم بأنساب العرب، يعرف القبائل وتسلسلها ومثالبها ومفاخرها؛ وكان واسع العلم بأيام العرب، وما كان بين قبائلها من حروب، ومن انتصر ومن انهزم؛ وكان يعرف أخبار الأمم وأحداثها التاريخية؛ وكان فوق ذلك رجلا داهية ماكرا أميل إلى النزعة الشعوبية.
وأما أبو زيد الأنصاري فكان رجلا طيب القلب أولع بغريب اللغة، وكان ثقة صادقا، يتحرى في روايته وعلمه أكثر مما يتحرى الأصمعي وأبو عبيدة، ويسميه سيبويه الثقة، فإذا قال: حدثني الثقة فإياه يعني، ويصفه الجاحظ في كتاب الحيوان بما يفهم منه أنه ثقة وليس بناقد، فما يحكيه فهو صادق في حكايته، ولكنه حاطب ليل، يروي ما يسمع ولا يعرضه للامتحان. •••
هؤلاء الثلاثة هم مثقفو الجاحظ في ناحية من ثقافته، أعني ثقافته اللغوية والإخبارية، والأدبية، وقد تشرب منهم جميعا، وأخذ ما عندهم وتأثر بأرواحهم، فلعل روح الأصمعي الفكهة المضحكة المسامرة شعت على تلميذه الجاحظ فكاهة ودعابة، وقد توسع فيها بما تمده طبيعته وطبيعة عصره، وأخذ من أبي عبيدة مكره ودهاءه مع سعة علمه؛ فكان واسع الحيلة واسع العلم يستطيع أن يكتسب رضاء الوزيرين المتعاديين على التعاقب، ابن الزيات وابن أبي دؤاد، ثم يظهر أنه لم يأخذ من أبي زيد إلا علمه بغريب اللغة، وقد أهمل غفلته فلم يتأثر بها ولم توائم نفسه. (2)
وأخذ الجاحظ النحو على أبي الحسن الأخفش، وكان الجاحظ تلميذه وصديقه، والأخفش - هذا - كان المرجع الأوحد في كتاب سيبويه، فعنه روى ومنه أخذ، وكل الطرق التي روي فيها كتاب سيبويه ترجع آخرا إلى الأخفش، وكان الأخفش من أعلم الناس بطرق الكلام والجدل، يناظر الكسائي فيفحمه، فيتقيه الكسائي بالمال يبذله له، فأفاد الجاحظ منه نحوه وطرقا من جدله وأساليبه في الإفحام. (3)
وأتم الجاحظ ثقافته اللغوية والأدبية في «المربد»، وهو - كما رأينا - مجمع الشعراء ومصدر اللغة والأدب.
فكان الجاحظ يرحل إليه و«يتلقف منه الفصاحة» كما يقول «ياقوت»، فتم له بذلك اللغة والأدب بالمشافهة وبالأخذ عن العلماء. (4)
وله ناحية أخرى دينية، من ذلك أنه تثقف في الحديث فأخذ عن بعض رجاله، وقد حكى في كتاب الحيوان أنه كان يخرج سحرا في طلب الحديث، وحكى أنه وقعت له موقعة مع عدة كلاب ضخام نبحته في السحر.
وكان من أهم شيوخ الجاحظ في الحديث «حجاج بن محمد المصيصي» وهو محدث كبير من أكبر تلاميذ ابن جريج ومن أكبر شيوخ أحمد بن حنبل، وكان حجاج شيخا ثقة صدوقا، مات سنة 206ه ثم اختلط عقله في آخر عمره فكان يقول: حدثنا شعبة عن عمرو بن مرة عن عيسى بن مريم عن خيثمة، فنهي المحدثون عن الأخذ عنه، وقد روى الجاحظ عنه بعض الأحاديث، وقصد الجاحظ بعض المحدثين لأخذ الحديث عنه مثل ما روى: «حدثنا عبد الله بن سليمان بن الأشعث قال: دخلت على عمرو بن بحر الجاحظ، فقلت له حدثني بحديث فقال: «حدثنا حجاج بن محمد حدثنا حماد بن سلمة عن عمرو بن دينار عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة»، كما كان من شيوخ الجاحظ أبو يوسف صاحب أبي حنيفة وقاضي الرشيد، فقد روى عنه الجاحظ بعض الحديث. (5)
ثم تثقف ثقافة الاعتزال، وكان أهم أستاذ له في ذلك «النظام»، وثقافة الاعتزال أوسع الثقافات برنامجا، فقد كان الاعتزال يتطلب من رجاله مطالب عسيرة، يتطلب: (أ)
علما واسعا بالديانات الأخرى من يهودية ونصرانية ومجوسية ومانوية وغيرها؛ لأن المعتزلة نصبوا أنفسهم للدعوة إلى الإسلام، ورأوا أنه لا يتيسر لهم ذلك على الوجه الأكمل إلا بمعرفة دقيقة بدينهم وبدين غيرهم، والاستعداد التام للدخول في الجدل والمناظرة دفاعا وهجوما، فعرفوا الأديان الشائعة في عصرهم وعرفوا مواضع المهاجمة فيها، وتسلحوا بأسلحة خصومهم. (ب)
واضطرهم ذلك إلى معرفة الفلسفة اليونانية؛ لأن خصومهم من اليهود والنصارى، كانوا قد اتخذوها أداة للدعوة إلى دينهم، والنصرة على خصومهم فتسلحوا بالمنطق والميتافيزيقا الأرسططاليسية.
وكانت فلسفة أرسطو فيها دراسة للحيوان فدرسوه، وفيها طبيعة فدرسوها، وفيها سياسة فنظروا فيها؛ ولكنهم صبغوا ذلك كله بروحهم الديني، فإذا بحث أرسطو في الحيوان بحثا مجردا بحثها المعتزلة للدلالة على قدرة الله وعلى إبداعه، واتخذوا منها دليلا على بطلان الإلحاد وفساد الشرك، فقائلهم بشر بن المعتمر يقول القصائد الطوال في الحيوان وعجائبه ويختم ذلك بقوله:
سبحان رب الخلق والأمر
ومنشر الميت من القبر
فاصبر على التفكير فيما ترى
ما أقرب الأجر من الوزر
وأرسطو نظر في الطبيعة نظرا علميا بحتا، ونظر فيها المعتزلة نظرا علميا ودينيا معا:
لو فكر العاقل في نفسه
مدة هذا الخلق في العمر
لم ير إلا عجبا شاملا
أو حجة تنقش في الصخر (ج)
بل نظروا إلى الفرق الإسلامية الأخرى كما نظروا إلى غير المذاهب الإسلامية فجادلوهم وخاصموهم واحتجوا عليهم بالقرآن كما احتجوا على أرباب الأديان بالعقل.
كل هذا دعاهم إلى أن يتثقفوا ثقافة في منتهى السعة، ثقافة في الإسلام نفسه، وثقافة في الأديان الأخرى، وثقافة فلسفية في المنطق واللاهوت والطبيعة والكيميا والحيوان والنبات وغير ذلك.
قالوا بسلطة العقل وقال قائلهم:
لله در العقل من رائد
وصاحب في العسر واليسر
وحاكم يقضي على غائب
قضية الشاهد للأمر
فنازلهم رجال النقل فاستعدوا لهم:
وقالوا بالإيمان والتوحيد، فنازلهم رجال الإلحاد والشرك فاستعدوا لهم، وهكذا كثرت خصومهم فكثر استعدادهم وكثرت أسلحتهم، فاتسعت ثقافتهم إلى أقصى حد.
وكان الجاحظ من رجالات المعتزلة البارزين، فكان رأسا في المعتزلة فكان لا بد أن يكون رأسا في الثقافة. (6)
هذا كله نمط واحد من نمط ثقافة الجاحظ، وهو الأخذ عن المشايخ كل في فنه، فاللغة على رجالها، والحديث على رجاله، والاعتزال على أئمته، وكان له منبع آخر من الثقافة وهو اعتماده على الكتب يقرؤها بنفسه لنفسه، وكان العلماء؛ إذ ذاك يكرهون من يأخذ العلم عن الكتب ولا يثقون به ويسمونه الصحفي؛ أي: أنه يأخذ العلم عن الصحيفة لا عن الأستاذ، ولكنه لا عيب في ذلك بعد النضوج وأخذ الأصول عن المشايخ.
وقد عكف الجاحظ على قراءة الكتب وصبر عليها واستفاد منها فوائد لا تحصى، قال أبو هفان: «لم أر قط ولا سمعت من أحب الكتب والعلوم أكثر من الجاحظ، فإنه لم يقع بيده كتاب قط إلا استوفى قراءته كائنا ما كان؛ حتى إنه كان يكتري دكاكين الوراقين ويبيت فيها للنظر.».
غرام بالعلم غريب يحمله على أن يستأجر المكتبة من صاحبها ثم يسهر عليها لياليه ليستوعب ما فيها. (7)
ومنبع ثالث من منابع ثقافته يستخدمه الجاحظ أحسن استخدام وأدقه وأوسعه، ولا أعلم له في ذلك نظيرا ممن قبله أو عاصره؛ ذلك أنه أنغمس في الحياة الواقعية واستفاد منها ما أمكنه ، وجعل منها موضوعات لأدبه؛ فإن كان سقراط قد استنزل الفلسفة من السماء إلى الأرض، فالجاحظ قد استنزل الأدب من السماء إلى الأرض.
كل شيء يقع تحت حسه موضع لدرسه وموضع لأدبه؛ فالحيوانات والنباتات، والصناع والصنائع والمجتمعات والفكاهات، والرحلات والكرماء والبخلاء والأغبياء والأذكياء؛ وعلى الجملة كل شيء وقعت عليه ملاحظته، فكأنه منح من الحواس، ما لم يمنحه الناس.
دقت ملاحظته في طبائع الأشياء وفي نفوس الناس وفي طبيعة المجتمعات فاستخرج من كل ذلك أدبا، على حين أننا نقرأ أدباء عصره كابن قتيبة وغيره فلا نكاد نجدهم يمسون حياتهم الواقعية في شيء.
يجرب بنفسه في كل حقير وجليل، ويمعن في التجربة، ويصوغ ذلك كله أدبا جميلا. •••
ففي الأمور الطبيعية - مثلا -
يراقب الديك هل إذا كان وحده في قرية يصيح أو لا يصيح، ليعلم هل يصيح الديك بالتجاوب أو بطبيعته، ويراقب الدجاج هل تكثر أفراخها إذا كثر عددها أو تقل أفراخها، ويبحث في الخيرى (وهو النبات المعروف عندنا بالمنثور) لماذا ينضم ورقه بالليل وينتشر بالنهار.
ويلاحظ قتالا بين قط وفأر كان عنده في بيت الحطب، وانجلت المعركة عن هرب الفأر بعدما فقأ عين القط.
ويراقب برنية زجاج فيها عشرون عقربا وعشرون فأرا، وما نتيجة لسع العقرب للفأر وكيف ورم، ويريد أن يغرس الأراك في بيته على النمط الذي حكوه في زراعته ليجرب قوله بنفسه.
ويذهب إلى أهل الحرف المختلفة يسألهم عن معلوماتهم في اختصاصاتهم فيقول: «سألت بعض العطارين من أصحاب المعتزلة عن فأرة المسك فقال: ليس بالفأرة وهو بالخشف أشبه، ثم قص علي شأن المسك وكيف يصنع.» ويذهب إلى الحوائين ويسألهم عن معلوماتهم في الحيات، ويقرأ في كتاب الحيوان لأرسطو أن ريح السذاب يشتد على الحيات فيذهب الجاحظ ويحضر أفعى ويلقي عليها السذاب ثم يقول: «فما كان السذاب عندها إلا كسائر البقل.» إلى كثير من أمثال ذلك.
ومن الناحية النفسية - مثلا -
يبحث في مناغاة الطفل للنار ويقول: «إن الطفل لا يناغي شيئا كما يناغي المصباح، وتلك المناغاة نافعة له في تحريك النفس فتهيج الهمة وتبعث على الخواطر في فتق اللهاة وتشديد اللسان والسرور الذي له في النفس أكرم أثر.» ويصف شعوره الدقيق بالجمال فيقول: «إنه إذا رأى الديك والدجاجة أو الذئب أو الكلب تشرب الماء وكان عطشان يذهب عطشه من قبح شرب هذه الحيوانات، وإذا رأى شرب الحمام وكان ريان يشتهي أن يكون في ذلك الماء معه لجمال حسنه.» إلى كثير من أمثال ذلك أيضا.
ويبحث في الغيرة عند الرجل هل هي طبيعية فيه أو هي شيء تصطنعه المدنية، وما الفرق بينها وبين الأنفة والحمية.
وأما الناحية الاجتماعية
فقد أبدع فيها كل إبداع؛ يصف نوادي القمار، والخاطبات بين النساء والرجال، وحياة الفتيان، وطمع النجار، وطائفة المعلمين والمغنين، والشرب والشراب، إلى ما لا يمكن أن يستقصى.
وقد منحه الله عمرا طويلا ولسانا كذلك طويلا، فما أكثر ما جرب، وما أجود وصفه لتجاربه. (8)
وقد ساعده على هذه التجارب تنقله في أوساط اجتماعية مختلفة؛ فهو ناشئ فقير يبيع الخبز والسمك في الأسواق ليكسب قوته، ويكسب بجانب ذلك دراسته العملية للأسواق، وهو في حلقة الدروس بين رجال علم وأدب ورجال دين؛ ثم هو كاتب في ديوان الرسائل مختلط بأهل الديوان، يعرف أخبارهم ومناحيهم في الحياة، ثم هو نديم للوزير ابن الزيات يسامره ويؤاكله ويقع تحت نظره كل صنوف الحياة الأرستقراطية، ويتصل بالفتح بن خاقان أقرب المقربين إلى المتوكل: ويشهد العداء الحار بين الوزيرين ابن الزيات وابن أبي دؤاد ويكتوي بنار الخصومة بينهما، ويقبض عليه ويوضع في القيد، ثم يطلق سراحه بدهائه، كل هذا أطلعه على جوانب الحياة من ألفها إلى يائها.
ثم يرحل من البصرة إلى بغداد، ومن بغداد إلى دمشق وحمص، ويدرس البلد الذي يرحل إليه في عمق، حتى براغيث حمص والفرق بينها وبين براغيث العراق، وحتى لا يجد في حمص عقارب فيتساءل عن سبب ذلك، فيقولون له: إن بها طلسما يمنع من وجود العقارب بها، فلا يرضيه هذا التعليل، ويعلله باحتمال وجود حيوانات بها تهرب منها العقارب، أو عدم صلاحية الجو لها أو نحو ذلك .
كل هذا إذا كان أمام عقل جبار كعقل الجاحظ، وقلم متدفق كقلم الجاحظ أخرج لنا ثروة ضخمة هائلة كثروة الجاحظ. (9)
تثقف الثقافة العربية أدبية ودينية فشرب منها حتى الثمالة، وتثقف الثقافة الفارسية الأدبية منها والدينية؛ وعرف لغتها فنقل منها الكلمات والجمل بنصها في كتبه، وأخذ يفسر معانيها، وتثقف اليوناينة ونقل منها فيما كتب في حيوان وفلسفة وطب وفراسة، وحتى حكى عنهم حكاية الممرورين منهم، ومزج ذلك كله مزجا غريبا لا كمزج الماء بالزيت ولكن كذوب السكر في الماء، وأخرج من ذلك شرابا حلوا سائغا للشاربين.
يعرض للموضوع فيحكي فيه قول العربي الجاهلي، ويتبعه بقول أرسطو الفيلسوف اليوناني، ثم قد يتبعه بقول المجوس الفارسي، وقد يقف بعد ذلك يقص تجاربه الشخصية، ويحكم الواقع والتجارب في كل ما قالوا، وينتهي من ذلك كله إلى نتيجة يحسن السكوت عليها.
في العلماء من استطاع أن يختزن ويملأ مخازنه بالسلع ثم لم يستطع بعد ذلك أن يعرض سلعه على جمهور الناس، فهو وخالي المخازن سواء، كلاهما لا يستفيد منه الجمهور شيئا، أما الجاحظ فقد وفق في الحالين جميعا، وفق في التحصيل حتى امتلأت مخازنه، ووفق في العرض حتى اجتذب الجماهير، فكان كالتاجر الماهر في الإعلان عن سلعه، الماهر في كيفية عرضها على الأنظار، ووفق في القانون الذي وضعه هو؛ إذ قال: «وينبغي للكاتب أن يكون رقيق حواشي اللسان عذب ينابيع البيان، إذا حاور سدد سهم الصواب إلى غرض المعنى، لا يكلم العامة بكلام الخاصة، ولا الخاصة بكلام العامة.» ولذلك رزق الحظوة عند القراء وبلغت شهرته الآفاق، قال رجل لأبى هفان: لم لا تهجوا الجاحظ وقد ندد بك وأخذ بمخنقك؟ فقال: أمثلي يخدع عن عقله؟ والله لو وضع رسالة في أرنبة أنفي لما أمست إلا بالصين شهرة، ولو قلت فيه ألف بيت لما طن منها بيت في ألف سنة.
فثقافته التي ثقفها قد هضمها وأخرجها للناس خيرا مما أخذها، أخذها متفرقة وأخرجها مجتمعه، أخذها من منابع مختلفة وعرضها في جدول واحد، أخذها مادة لا حياة فيها ، وأخرجها مادة حية بنفسه، حية بآرائه وفكاهته، حية باختياره الموضوعات المناسبة للقول؛ فيثير عواطف السامعين ويزيد انتباههم.
لقد اتجهت تآليفه اتجاهات متعددة، ووسعت مواضيع شتى سعة من جنس سعة ثقافته.
فقد عد له ياقوت في معجم الأدباء نحوا من 127 كتابا لا أمل القارئ بتعداد أسمائها، ولكن أعرض في سرعة بعض موضوعاتها:
فهو يؤلف في التاريخ ككتابه في الإمامة، وكتاب تصويب علي في تحكيم الحكمين ... إلخ، بل يؤلف في فلسفة التاريخ، فله كتاب اسمه «كتاب الأخبار وكيف تجمع».
ويؤلف في الرد على المخالفين وفي الفرق، ككتابه في الرد على النصارى والرد على اليهود، وكتابه في الزيدية والرافضة.
ويؤلف في الأخلاق، كرسالته في الحاسد والمحسود، ورسالته في كتمان السر، ورسالته في الكرم.
ويؤلف في الحيوان، ككتابه المشهور، وفي النبات ككتابه المسمى كتاب الزرع والنخل.
ويؤلف في نظرية المعرفة ككتابه المسمى «كتاب المعرفة»، وكتابه في الرد على أصحاب الإلهام.
ويؤلف في البلاغة والأدب، كالبيان والتبيين، وكتاب صناعة الكلام.
ويؤلف في الاجتماع بأوسع معانيه، ككتابه في المعلمين، وفي الفتيان، وفي اللصوص، وفي الجواري، والمحامين (الوكلاء والموكلين)، والصناعات، وغش الصناعات، وذوي العاهات، والنساء، والسود والبيض، والصرحاء، والهجناء، والعرجان والبرصان.
ويؤلف في الاقتصاد، مثل كتابه تحصيل الأمول؛ وكتابه في الخراج.
ويؤلف في الجغرافيا كتاب البلدان؛ ولا يفوته الطب، فيؤلف كتابه في نقض الطب. •••
هذه بعض نواحيه، وهي في منتهى السعة والتعدد.
نعم إنه غلب عليه في معالجة هذه الموضوعات الناحية الأدبية لا الناحية الفنية أو العلمية الصرفة، فهو يؤدب كل شيء تكلم فيه حتى الزرع والنخل، والأسد والثعلب، ولكن شأنه في ذلك شأن علماء العصر الحاضر أرادوا أن يقطروا العلم للجمهور فأدبوه وجعلوه في شكل قصة، وفي أسلوب أدبي مشوق، فقد فعل الجاحظ قبل أحد عشر قرنا ما نحاول عمله اليوم من مزج العلم بالأدب، وقد كان الأدب قبله في كثير من أنواعه ليس إلا شقشقة لفظية.
ثم نقل حدود الأدب إلى أبعد مدى، فبعد أن كان الأدب مقصورا على الأقوال اللبقة الجميلة جعله شاملا لكل موضوعات الحياة.
رحم الله الجاحظ، فقد تثقف فأجاد في ثقافته، وعرض معارف الناس لوقته فأجاد في عرضه. (3) الفتوة في الإسلام
لكل كلمة تاريخ يشبه تاريخ الرجال وتاريخ النظم السياسية، وتاريخ الكلمات قد يكون معقدا ملتويا غامضا، كما يحدث في غيره من أنواع التاريخ، فيجتهد الباحث في استعراض النصوص الكثيرة في العصور المختلفة، ليستخلص مها تقلبات الكلمة في أوضاعها المختلفة؛ وهذا ما أحاوله في كلمة الفتى والفتوة.
الفتوة؛ معناها في الأصل الشباب، قالوا: فتي يفتى؛ أي: صار شابا، وقالوا: هو فتي السن بين الفتاء، وقد ولد له في فتاء سنه أولاد؛ أي: في شبابه، وأصل كلمة فتى مصدر فتى فتى كمرح مرحا، ثم جعلت وصفا فقيل: هو فتى؛ أي: شاب، وجمعوا الفتى على فتيان وفتو وفتية، والاسم من ذلك كله الفتوة
73 ، ووصفوا بالفتوة الحيوان والإنسان فقالوا: إن الأفتاء من الدواب خلاف المسان، وقالوا للشاب فتى، وللشابة فتاة.
ثم نراهم نقلوا الكلمة نقلة أخرى، فاستعملوها لا للدلالة على القوة، فقد يكون الشاب ضعيفا فاتر القوى ويسمى بالوضع الأصلي شابا وفتى، فاستعملوها للدلالة على القوة؛ لأن الشباب عنوان القوة، قال ابن قتيبة: ليس الفتى بمعنى الشباب والحدث، إنما هو بمعنى الكامل الجزل من الرجال، يدل على ذلك قول الشاعر:
إن الفتى حمال كل ملمة
ليس الفتى بمنعم الشبان
ويقول آخر:
يا عز هل لك في شيخ فتى أبدا
وقد يكون شباب غير فتيان
فالفتوة - على هذا - معناها القوة؛ لأن الشباب مصدرها عادة، ومن هذا المعنى - على ما يظهر - تسميتهم الليل والنهار باسم الفتيان، ومن أقوى من الليل والنهار في إذلال كل عزيز وإضعاف كل قوي؟ ومنه قول الشاعر:
ما لبث الفتيان أن عصفا بهم
ولكل قفل يسرا مفتاحا
ثم من أحق منهما بأن يسميا فتيين، وقد سميا قبل بالجديدين؟ ففتوة الناس مرحلة قصيرة المدى، وفتوة الليل والنهار متجددة أبدا.
ثم رأيناهم نقلوا معنى الفتى نقلة ثالثة، من ذلك ما قال الجوهري: الفتى السخي الكريم، وقال الزمخشري في الأساس: الفتوة هي الحرية والكرم.
قال عبد الرحمن بن حسان:
إن الفتى لفتى المكارم والعلا
ليس الفتى بمغملج الصبيان
فكأنهم في هذا لاحظوا المعنى أكثر مما لاحظوا المادة، لاحظوا المعاني التي تكسب صاحبها القوة المعنوية من حرية وكرم أكثر مما لاحظوا القوة الجسمية، وهذا - عادة - هو ما يحدث في الأوصاف، كالشجاعة، كانت لا تطلق إلا على القوة البدنية، ثم لما أمعن الناس في الحضارة اخترعوا ما سموه الشجاعة الأدبية، يعنون بها الجهر بالحق مع التعرض للأخطار.
وفي هذه النقلة يظهر أن الكلمة أصبحت خاضعة للبيئات المختلفة، تلبسها كل بيئة ما تنشده المثل الأعلى للفتى، فطرفة يرسم لنا صورة للفتى كما يتصورها هو وبيئته فيقول:
إذا القوم قالوا من «فتى» خلت أنني
عنيت فلم أكسل ولم أتبلد
أحلت عليها بالقطيع فأجذمت
وقد خب آل الأمعز المتوقد
فذالت كما ذالت وليدة مجلس
ترى ربها أذيال سحل ممدد
ولست بحلال التلاع مخافة
ولكن متى يسترفد القوم أرفد
فإن تبغني في حلقة القوم تلقني
وإن تلتمسني في الحوانيت تصطد
وإن يلتق الحي الجميع تلاقني
إلى ذروة البيت الشريف المصمد
فهو يقول: إذا ما سأل القوم عن «فتى» ينجدهم في الملمات لم يجدوا الفتوة متوافرة في أحد توافرها في، ثم علل استيفاءه للفتوة بأنه سرعان ما يهوي إلى ناقته يضربها بالسياط، لتسرع في السير للإنجاد، فتتبختر في مشيتها كما تتبختر سيدة ترقص بين يدى سيدها، هذه أولى الصفات.
وثانية، وهي أنه لا يلجأ إلى التلاع مخافة حلول الأضياف، فهو واسع الرحب في قرى الضيوف؛ كما هو سريع النجدة في قتال الأعداء، وهو - إلى ذلك - في حياته جاد هازل يدلي برأيه بين عظماء القوم عندما يجد الجد؛ لأنه شريف النسب عالي الحسب، فإذا فرغ الجد ودعا داعي اللهو فهو في الحانات يشرب، وندماؤه أحرار كرام تتلألأ ألوانهم وتشرق وجوههم وتغنيهم مغنية لابسة بردا أو ثوبا صبغ بالزعفران، فالفتوة في نظره ونظر أمثاله شجاعة وكرم وإتلاف للمال في الجد والهزل وعدم الاعتداد بالحياة في سلم أو حرب، وقد شرح هذه الخصال بعد في قوله:
ولولا ثلاث هن من عيشة
وجدك لم أحفل متى قام عودي ... إلخ.
أما زهير الحكيم الرزين الوقور فيرى رأيا غير رأي طرفة الشاب الغر اللاهي، فهو يرى أن الفتى إنما هو من استكمل الفصاحة في لسانه، والقوة في حنانه، وأن الشيخ لا أمل فيه للإصلاح، وأن الفتى هو موضع الأمل في الصلاح:
لسان الفتى نصف ونصف فؤاده
فلم يبق إلا صورة اللحم والدم
وأن سفاه الشيخ لا حلم بعده
وأن الفتى بعد السفاهة يحلم
وعلى كل حال فطرفة وزهير يتفقان في أن من صفات الفتى الشجاعة وقوة القلب، وأن الفتوة وصف من أوصاف الشباب، ويختلفان في أن طرفة يرى من الفتوة اللهو والاستمتاع بالحياة، وزهيرا يرى الفتوة في الجد والعقل والفصاحة، ومصدر الخلاف أن طرفة كان فتى تتملكه العاطفة، وزهيرا كان شيخا رزينا حكيما مجربا، وربما ظل النظران في الإسلام كما كانا أيام طرفة وزهير كما سنرى.
وعلى كل حال فقد استعملت كلمة الفتى في الجاهلية مطلقة ومضافة، فإذا أضيفت تعين مدلولها مدحا وذما، فقد يقولون: فتى صدق، وفتى سوء، قال مسكين الدارمي:
وفتيان صدق لست مطلع
على سر بعض غير أني جماعها
وقال المرار بن منقذ:
وكائن من فتى سوء تراه
يعلك هجمة حمرا وجونا
74
وإذا أطلق استعمل في المدح، وأكثر ما يدل على الشباب والشجاعة والكرم.
ولم يكن للفتوة نظام كالذي عرف بعد في الإسلام، وكل ما نراه أنهم يستعملون - مثلا - «فتيان القبيلة» يعنون بها شبانهم الأبطال، فيقولون: فتيان قريش، وفتيان تميم، قال المرار بن منقذ:
وأنا المذكور من فتيانها
بفعال الخير إن فعل ذكر
أعرف الحق فلا أنكره
وكلابي أنس غير عقر
لا ترى كلبي إلا آنسا
إن أتى خابط ليل لم يهر
وقال المزرد:
وقد علمت فتيان ذبيان أنني
أنا الفارس الحامي الذمار
كذلك لا نعلم لباسا خاصا للفتيان، ولكن روي لنا أن أبطال العرب في الحروب كانوا يتخذون لهم شعارا، قال الحصين بن الحمام:
بآية أني قد فجعت بفارس
إذا مرد الأقوام أقدم معلما
وفسروا «المعلم» بأنه الذي يجعل لنفسه علما في الحروب يعرف به، يفعل ذلك ليعرف فيثبت ولا ينهزم مع من انهزم، لخوف العار إذا انهزم بعد أن علم، وقد رووا أن حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه يوم بدر أعلم نفسه بريش نعامة، فقال بعض المشركين: من المعلم بريش نعامة، فقيل: حمزة، فقال: «ذلك الذي فعل بنا الأفاعيل.».
واستعمل القرآن «فتى» وصفا لإبراهيم (
صلى الله عليه وسلم ):
قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم ، واستعمله وصفا لأهل الكهف:
إنهم فتية آمنوا بربهم ،
إذ أوى الفتية إلى الكهف ؛ وقد فسر في الموضعين بالشباب، وقد جاء الإسلام باستعمال خاص لكلمة فتى، ذلك أنه لم يرض أن يسمى الرقيق المملوك عبد فلان وأمة فلان، وكره العبودية تضاف لغير الله، فاختار لهما اسما محبوبا وهو الفتى والفتاة، جاء في الحديث: «لا يقولن أحدكم عبدي وأمتي، ولكن ليقل فتاي وفتاتي»، وعلى هذا المعنى ورد قوله تعالى:
وإذ قال موسى لفتاه ، وقوله:
ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء ،
وقال لفتيانه .
وأطلقت الكلمة على الرقيق حتى سئل أبو يوسف عمن قال: «أنا فتى فلان»، فقال: هو إقرار منه بالرق، وكأنه اختير خير الألفاظ الدالة على الحرية للدلالة على الرق طلبا لحسن معاملة الرقيق، حتى فيما يطلق عليهم من لفظ.
ولكن ظلت كلمة الفتى تستعمل في المعنى الأول، وهو الشجاعة والفروسية في الشباب، فقالوا: «لا سيف إلا ذو الفقار، ولا فتى إلا علي»، وكان علي كما جاء في الإصابة «قد اشتهر بالفروسية والشجاعة والإقدام».
ولما مات مخلد بن يزيد بن المهلب، وهو ابن سبع وعشرين سنة، وكان شهما نبيلا، صلى عليه عمر بن عبد العزيز، ثم قال: اليوم مات فتى العرب، وقال يزيد بن مفرغ:
فالهول يركبه الفتى
حذر المخازي والسآمه
والعبد يقرع بالعصا
والحر تكفيه الملامه
ونجد في العهد الأموي أمرا يستوقف النظر، فقد ذكر الأغاني في ترجمة حنين الحيرى كلمات في الفتوة تستحق الإمعان، وكان حنين هذا مغنيا نصرانيا من الحيرة، وكان في أيام هشام بن عبد الملك، ومن شعره الذي كان يغني به:
أنا حنين ومنزلي النجف
وما نديمي إلا الفتى القصف
أقرع بالكاس ثغر باطية
مترعة تارة وأغترف
من قهوة باكر التجار بها
بيت يهود قرارها الخزف
والعيش غض ومنزلي خصب
لم تغذني شقوة ولا عنف
فقال فيه صاحب الأغاني: «كان حنين غلاما يحمل الفاكهة بالحيرة، وكان لطيفا في عمل التحيات
75 ، فكان إذا حمل الرياحين إلى بيوت «الفتيان» ومياسير أهل الكوفة وأصحاب القيان والمتطربين إلى الحيرة، ورأوا رشاقته وحسن قده وحلاوته وخفة روحه، استحلوه وأقام عندهم، وخف لهم، فكان يسمع الغناء ويشتهيه ويصغي إليه، ويستمعه ويطيل الإصغاء إليه.».
وقال في موضع آخر عن حنين فيما حكى عن نفسه: «خرجت إلى حمص ألتمس الكسب بها، وأرتاد من أستفيد منه شيئا، فسألت عن «الفتيان» بها وأين يجتمعون، فقيل لي: عليك بالحمامات، فجئت إلى أحدها فدخلته فإذا فيه جماعة منهم، فأنست وانبسطت وأخبرتهم أني غريب، ثم خرجوا وخرجت معهم، فذهبوا بي إلى منزل أحدهم؛ فلما قعدنا أتينا بالطعام فأكلنا، وأتينا بالشراب فشربنا، فقلت لهم: هل لكم في مغن يغنيكم؟ قالوا: ومن لنا بذلك.» ... إلخ.
هذان النصان يستفاد منهما: (1)
أن هناك فئة تسمى الفتيان كانوا في الحيرة وكانوا في حمص، ولا بد أنهم كانوا في غيرهما، ولكن لم تأت مناسبة تستدعي ذكر غيرهما. (2)
وأن هؤلاء الفتيان ليسوا كل شباب، وإنما نوع خاص منهم يظهر من عبارته أنهم من المياسير، وممن لهم حظ في السماع والشراب وما إليهما. (3)
وأنهم كان لهم مجتمعات خاصة يعرفون فيها بالبلدة، يسأل عنها الغرباء أمثال حنين الفتى المغني فيقصدهم لقضاء أيام بينهم؛ فهؤلاء الفتيان يضيفون حنينا وأمثاله، ويقدمون إليهم ما يحتاجون له من مأكل ومشرب ومبيت، ويقضون أوقاتهم في حديث وسماع.
يضاف إلى ذلك أن أنواعا من الفروسية عني بها الشباب في العهد الأموي كعنايتهم بالصيد وتربية الحيوانات المعلمة يطلقونها على الصيد، فقد روى الفخري: «أن يزيد بن معاوية كان أشد الناس كلفا بالصيد لا يزال لاهيا به، وكان يلبس كلاب الصيد الأساور من الذهب والجلال المنسوجة منه، ويهب لكل كلب عبدا يخدمه.»
76
كما أخذوا عن الفرس اللعب بالبندق، وهو كرات صغيرة من طين أو حجر أو رصاص يرمى بها عن قوس لصيد الطير أو نحوه، وسموه أيضا الاسم الفارسي وهو الجلاهق، وليس ببعيد أن تتصل ألعاب الفروسية هذه بالفتوة، ولكن على كل حال لا تزال النصوص التي بين أيدينا عن مدلول الفتوة في هذا العصر قاصرة.
إذا انتقلنا بعد ذلك إلى العصر العباسي وجدنا كلمة «الفتوة» استعملت في أربعة معان:
فأولا:
كانت تستعمل للدلالة على المروءة من نبل وكرم وما إليهما، من ذلك ما جاء في كتاب أدب النديم لكشاجم: «أن رجلا من أصحاب محمد بن عبد الله بن طاهر دعاه للطعام عنده، دعوة احتفل لها، فلما حضر محمد طالبه بالطعام فمطله، ليتكامل ويتلاحق على ما أحبه من الكثرة والحفلة، حتى تصرم أكثر النهار؛ ومس محمدا الجوع، فتنغص عليه يومه، وأراد محمد السفر فشيعه هذا الرجل حتى إذا دنا منه ليودعه قال له: «أيأمر الأمير بشيء؟»؛ قال: «نعم! تجعل طريقك في عودتك على محمد بن الحارث، فاسأله أن يعلمك الفتوة» فمضى حتى دخل إلى محمد فقال له: «بعثني إليك الأمير لتعلمني الفتوة»؛ فضحك وقال: «يا غلام! هات ما حضر»، فأتى بطبق كبير عليه ثلاثة أرغفة من أنظف الخبز وأنقاه، وسكرجات وخل وملح من أجود ما يتخذ من هذه الأصناف، وابتدأ يأكل، فجاءته فضيلة باردة من مطبخه وتداركها الطباخ بطباهجة وأحدث له بعض فنجان جام حلوا، فانتظم له أكل خفيف ظريف في زمان يسير وبغير احتشام وانتظار.».
فهو يستعمل الفتوة في الكرم في سماحة من غير تكلف، ومن هذا القبيل ما قاله أبو البلهاء في يزيد بن مزيد الشيباني يرثيه:
نعم الفتى فجعت به إخوانه
يوم البقيع حوادث الأيام
سهل الفناء إذا حللت ببابه
طلق اليدين مؤدب الخدام
وإذا رأيت صديقه وشقيقه
لم تدر أيهما ذوو الأرحام
وثانيا:
نرى الصوفية استحسنت كلمة «الفتوة» وما تدل عليه من معاني النبل والسماحة، فأدخلته في معجم كلماتها وعدته من فضائلها، وأول ما نجد ذلك في الرسالة القشيرية، فقد عقد القشيري بابا سماه «باب الفتوة» بجانب باب الحياء والصدق والحرية، وقال في تعريفها: «أصل الفتوة أن يكون العبد ساعيا أبدا في أمر غيره.» ونقل عن الفضيل أنه قال: «الفتوة الصفح عن عثرات الإخوان.» وقال بعضهم: «الفتوة ألا ترى لنفسك فضلا على غيرك.» وجروا على عادتهم في الأدب الرمزي فقالوا : «إن إبراهيم سمي في القرآن فتى؛ لأنه كسر الصنم، وصنم كل إنسان نفسه، فالفتى في الحقيقة من خالف هواه ونفسه.»، وهكذا أحيا الصوفية كلمة «الفتوة» ونقلوا عن كبارهم كلمات فيها، فالحارث المحاسبي يقول: «الفتوة أن تنصف ولا تنصف.»، وقال غيره: «الفتوة إظهار النعمة وإسرار المحنة.»، وسئل أحمد بن حنبل: ما الفتوة؟ قال: «ترك ما تهوي لما تخشى ... إلخ.»، ولهم في ذلك الحكايات الظريفة في الفتوة كعادتهم، من ذلك أن صوفيا تزوج امرأة ثم ظهر عليها الجدري قبل الدخول بها، فتعامى الصوفي حتى لا يجرح شعورها، فلما ماتت فتح عينيه، فقيل له في ذلك؛ فقال: «لم أعم، ولكن تعاميت حذرا من أن تحزن»؛ فقيل له: «سبقت الفتيان»، ومن ذلك ما حكوه أن إنسانا يدعي «الفتوة» خرج من نيسابور إلى بلدة نسا بخراسان، فاستضافه رجل ومعه جماعة من الفتيان، فلما فرغوا من أكل الطعام خرجت جارية تصب الماء على أيديهم، فأبى الفتى النيسابوري وقال: «ليس من الفتوة أن تصب النساء الماء على أيدي الرجال».
وحكوا أن جماعة من الفتيان زاروا فتى، فدعا غلامه ليقدم الأكل لهم، فأبطأ الغلام، فسأله الرجل: «لم أبطأت؟» فقال الغلام: «كان عليها نمل، فلم يكن من الأدب تقديم السفرة إلى الفتيان مع النمل فيها، ولم يكن من الفتوة طرد النمل عن السفرة، فلبثت حتى دب النمل»؛ فقال له صاحب البيت: «قد دققت يا غلام في الفتوة».
ولبث الصوفية بعد ذلك يتجادلون جدالا ظريفا في تفسير كلمة الشيخ، هل عاب على الغلام أو مدحه؟ وهل هذا العمل من الفتوة أو لا؟ وهل الخوف من إيذاء النمل بالطرد يجب أن يراعى ولا يراعى الخوف من إيذاء الضيوف بالانتظار؟ إلى غير ذلك.
وعقد الشيخ محيي الدين بن العربي فصلا طويلا في كتابه الفتوحات الملكية عنوانه: «معرفة مقام الفتوة وأسراره»، قدمه كعادته بأبيات من الشعر فيها:
إن الفتوة ما ينفك صاحبها
مقدما عند رب الناس والناس
إن الفتى من له الإيثار تحلية
فحيث كان فمحمول على الراس
ما إن تزلزله الأهوا بقوتها
لكونه ثابتا كالراسخ الراسي
لا حزن يحكمه لا خوف يشغله
عن المكارم حال الحرب والباس
انظر إلى كسره الأصنام منفردا
بلا معين فذاك اللين القاسي
وقد بناه على قصة إبراهيم، وأنه جاد بنفسه للنار إيثارا للحق.
وعلى الجملة فقد أدخل الصوفية «الفتوة» في مذهبهم وصبغوها بصبغتهم، وجعلوها مقاما من مقاماتهم، وملئت بها كتبهم، ونقلوها من المعنى الدنيوي إلى المعنى الديني، كالزهد والإيثار وضبط النفس وحملها على الحق، مهما استتبع ذلك من المكاره.
ثم وجدناهم - ثالثا - يستعملون الكلمة في نوع من الناس هم الشبان الأشداء الذين يتباهون بقوتهم ثم يهددون الناس في أموالهم وأنفسهم، ومن هذا القبيل ما جاء في الرسالة القشيرية من أن شقيق بن إبراهيم البلخي كان «يتفتى ويعاشر الفتيان»، وكان علي بن عيسى بن ماهان أمير بلخ، وكان يحب كلاب الصيد، ففقد كلبا من كلابه، فسعي برجل أنه عنده - وكان الرجل في جوار «شقيق» - فطلب الرجل فهرب، فدخل دار شقيق مستجيرا، فمضى شقيق إلى الأمير، وقال: «خلوا سبيلي! فإن الكلب عندي أرده إليكم إلى ثلاثة أيام»؛ فخلوا سبيله، وانصرف شقيق مهتما لما صنع، فلما كان اليوم الثالث كان رجل من أصدقائه غائبا من بلخ رجع إليها، فوجد في الطريق كلبا عليه قلادة، وقال: أهديه إلى شقيق فإنه يشتغل بالتفتي؛ فحمله إليه، فنظر شقيق فإذا هو كلب الأمير، فسر به، وحمله إلى الأمير وتخلص من الضمان، فرزقه الله الانتباه وتاب مما كان فيه، وسلك طريق الزهد
77 ، ومن ذلك ما جاء من أن أحمد بن خضرويه قال لامرأته: «أريد أن أتخذ دعوة أدعو فيها عيارا شاطرا كان في بلدهم رأس الفتيان»؛ والعيارون الشطار هم فئة ينطبق عليهم ما ذكرنا من اعتزازهم بالقوة، واستخدامها في التهديد والسلب والنهب.
ثم هناك نوع رابع تستعمل فيه الكلمة، هو نوع من الفروسية المنظمة، فقد اشتهرت ألعاب الفروسية في العصر العباسي ونظمت، وكثر اللعب بالبندق والخروج به لرمي الصيد، فقد ذكر الأغاني في سبب موت الشاعر «أبى العبر» أنه خرج إلى الكوفة ليرمي بالبندق مع الرماة من أهلها في آجامهم، فسمعه بعضهم يقول قولا سيئا في علي فقتله
78 ، كما عنوا بلعب الكرة والصولجان وبالصيد والقنص، وقال الفخري: «إن المعتصم كان ألهج الناس بالصيد، بنى في أرض دجيل حائطا طوله فراسخ كثيرة، وكان إذا ضرب حلقة يضايقونها، ولا يزالون يحدون الصيد حتى يدخلونه وراء ذلك الحائط، فيصير بين الحائط وبين دجلة، فلا يكون للصيد مجال، فإذا انحضر في ذلك الموضع دخل هو وولده وأقاربه وخواص حاشيته، وتأنقوا في القتل وتفرجوا، فقتلوا ما قتلوا وأطلقوا الباقي، وكانوا يعدون هذه الأنواع من صيد ورمي ونحوهما من قبيل الفتوة.». •••
على كل حال في العصر العباسي وبعده تمت الفتوة في مناحيها المختلفة، وأهمها نوعان:
فتوة يصح أن نسميها فتوة مدنية أو دنيوية
وفتوة دينية أو صوفية
ويظهر أن النوعين كانا متميزين بعضهما عن بعض في نظمهما وتقاليدهما، وهذا ما سنحاول أن نوضحه.
الفتوة المدنية:
وهي - على ما يظهر - وليدة الفروسية والشجاعة، ومن قديم عرف العرب بالشجاعة والفروسية، وقالوا في ذلك الأشعار الكثيرة من أمثال معلقة عمرو بن كلثوم وعنترة بن شداد، وخلفوا لنا أدبا وافرا في كل ما ينطق بالفروسية والشجاعة، وعني المؤلفون بعد في جمعها وتصنيفها ككتاب «حلبة الفرسان وشعار الشجعان» لابن هذيل الأندلسي (وقد طبعه مارسيه سنة 1922 بباريس) وقد ذكر فيه الخيل وصفاتها والمسابقة بها، والسيوف والرماح والقسي والنبل والدروع والترس وما إلى ذلك، وما قيل فيها من أشعار وآثار وغير هذا من الكتب كثير.
ولما جاءت الدولة العباسية تسلط العنصر الفارسي أولا والتركي ثانيا، وكان لهم نظم في الفروسية غير النظم العربية البسيطة البدوية، فتسربت منهم إلى المسلمين، ورأينا المؤرخين يذكرون أن «الرشيد أول خليفة لعب بالصولجان ورمى بالنشاب في البرجاس»؛ والكرة والصولجان من ألعاب الفرس كما يدل عليهما اسمهما، ورأيناهم يقولون في المعتصم: إنه «غلب عليه حب الفروسية والتشبه بملوك الأعاجم»
79 ، وأنه «قسم أصحابه للعب الكرة»
80 ، ومعلوم أن المعتصم أول من استعان بالأتراك في أعماله وقربهم إليه وجعلهم جنده، واشتهر في عصره بالتفنن في الصيد والقنص ، وعدوه مما يدرب على الفروسية ويمرن على احتمال الجوع والعطش، ويقوي على شدة التعب
81 ، واقتبسوا في ذلك من الفرس والأتراك، فعلموا الجوارح من الطير والكواسر من الفهود والكلاب، ووضعوا الكتب في جودتها وصفاتها وطرق تعليمها وأمراضها وما يصلح كل واحد منها، وسايرهم الشعراء والأدباء في ذلك، فأصبحنا نرى في كثير من دواوين الشعراء بابا خاصا يسمى «باب الطرد» وهو الصيد، وقالوا الأشعار الكثيرة في وصف الفهود والكلاب والباز والصقر ونحوها، ووضعت الكتب في ذلك وسمي الفن «فن البيزرة»، ورويت القصص الكثيرة في أحاديث الفروسية، وقارن الكتاب بين فروسية العرب والفرس والترك وغيرهم مما ليس هنا مجاله، ووضعوا القواعد لتعليم الفروسية فقالوا - مثلا - إنه يجب أن يبتدئ الفارس بالخفة في الوثوب والنزول، ثم يتدرب على ركوب الفرس العربي العريان بلا عدة سوى الرسن، قال المتنبي في وصف أمثالهم:
فكأنها خلقت قياما تحتهم
وكأنهم ولدوا على صهواتها
ثم يتعود ركوبها على اختلاف أنواع سيرها؛ ثم الصيد عليها وهكذا، وكذلك وضعوا التعاليم للقسي والنشاب والتروس وما إليها.
وكانت الوقائع بين المسلمين والروم في الثغور منشأ لظهور ضروب من الفروسية تستدعي الإعجاب، كما كانت الحروب الصليبية مصدرا كبيرا كذلك، وفي كتاب «الاعتبار» لأسامة بن منقذ الشيزري، و«الروضتين» لأبي شامة، و«سيرة صلاح الدين» لابن شداد أمثلة كثيرة من هذا الضرب تأخذ باللب.
كما اشتهر في هذه العصور قوم من الإسماعيلية بهذه الفروسية، جاء في كتاب «آثار الأول»، بعد أن ذكر قصة من فروسية بهرام: «ومثل هذا في المعنى رجال ببلاد الإسماعيلية، ويسمون برجال الدعوة معدون لمثل هذا، فإن الرجل منهم أو الرجلين يغني عن حركات الجيوش الكثيرة؛ ويقال لهم في بلاد الإسماعيلية وفي بلاد الفرنج «الحشيشية»، وعند أهل الأقاليم «الفداوية»، وهم قوم على دين الإسلام، وقد كانت للملوك الإسلامية بهم عناية كبيرة، وفي زماننا عني بهم الملك الظاهر وسيرهم في الأشغال الكبار فقضوها مع الفرنج والتتار ... وفي قلاع الإسماعيلية في زماننا هذا ألف بهرام.»
82 .
ويظهر أن هذه الفروسية بشعائرها كانت سببا في نشأة «الفتوة» بهذا المعنى، وقد وضعت لها نظم وتقاليد؛ يدل على ذلك عبارة قيمة وردت في تاريخ ابن الأثير في خلافة الناصر لدين الله العباسي الذي تولى من سنة 575 إلى سنة 622ه، وهي: «وجعل (الناصر) جل همه في رمي البندق والطيور المناسيب وسراويلات الفتوة، فأبطل الفتوة في البلاد جميعها إلا من يلبس منه سراويل يدعى إليه، ولبس كثير من الملوك منه سراويلات الفتوة، وكذلك أيضا منع الطيور المناسيب لغيره إلا ما يؤخذ من طيوره، ومنع الرمي بالبندق إلا من ينتمي إليه، فأجابه الناس بالعراق وغيره إلى ذلك، إلا إنسانا واحدا يقال له: ابن السقت من بغداد، فإنه هرب من العراق ولحق بالشام، فأرسل إليه (الناصر) يرغبه في المال الجزيل ليرمي عنه وينسب في الرمي إليه فلم يفعل، فبلغني أن بعض أصدقائه أنكر عليه الامتناع من أخذ المال؛ فقال: يكفيني فخرا أن ليس في الدنيا أحد إلا يرمي للخليفة إلا أنا، فكان غرام الخليفة بهذه الأشياء من أعجب الأمور.»
83 .
ما سراويل الفتوة؟ وما شكلها؟ وما نظام الفتوة الذي وضعه؟ لا أعرف تفصيل ذلك.
وقد ذكر المقريزي في كتابه السلوك عبارة تشبه هذه في خلافة الناصر، وزاد عليها بأنه كان من ضمن هذه الشعائر شرب كأس الفتوة.
وقد ذكروا أن كأس الفتوة هذه ليست نبيذا ولا خمرا، وإنما هي ماء وملح.
ومن هذا القبيل أعني الفتوة المدنية ما يروى أن ابن حيوس الشاعر المشهور المتوفي سنة 473ه - وكان متصلا ببني مرداس بحلب وكان أميرا - كان يلقب بأمير الفتيان وإن لم أعثر على سبب لتلقيبه بهذا اللقب
84 .
أما الفتوة الصوفية فقد تمت كذلك على توالي العصور، وخير المصادر التي بين أيدينا تشرح حالها ومظاهرها رحلة ابن بطوطة، الذي ولد في طنجة سنة 703ه وساح في مصر وفارس والشام وجزيرة العرب والصين والتتر والهند وأواسط إفريقيا وإسبانيا.
وقد أكثر ابن بطوطة من ذكر نظام الفتيان في سياحته في الأناضول، وشرح هذا النظام في أول كلامه عليه، فقد جاء في الرحلة عنوان «ذكر الأخية الفتيان» فقال: «واحد الأخية أخي على لفظ الأخ إذا أضافه المتكلم إلى نفسه، وهم بجميع البلاد التركمانية الرومية (الأناضول) في كل بلد ومدينة وقرية، ولا يوجد في الدنيا مثلهم أشد احتفالا بالغرباء من الناس، وأسرع إلى الطعام وقضاء الحوائج والأخذ على أيدي الظلمة، وقتل الشرط ومن لحق بهم من أهل الشر، والأخي عندهم رجل يجتمع عليه أهل صناعته وغيرهم من الشبان الأغراب والمتجردين ويقدمونه على أنفسهم، وتلك هي الفتوة أيضا، ويبني زاوية ويجعل فيها الفرش والسرج وما يحتاج إليه من الآلات، ويخدم أصحابه بالنهار في طلب معايشهم، ويأتون إليه بعد العصر بما يجتمع لهم فيشترون به الفواكه والطعام، إلى غير ذلك مما ينفق في الزاوية، فإن ورد في ذلك اليوم مسافر على البلد أنزلوه عندهم، وكان ذلك ضيافته لديهم، ولا يزال عندهم حتى ينصرف، وإن لم يرد وارد اجتمعوا هم على طعامهم فأكلوا وغنوا ورقصوا وانصرفوا إلى صناعاتهم بالغدو، وأتوا بعد العصر إلى مقدمهم بما اجتمع لهم ويسمون بالفتيان، ولم أر في الدنيا أجمل أفعالا منهم، ويشبههم في أفعالهم أهل شيراز وأصفهان، إلا أن هؤلاء أحب في الوارد والصادر، وأعظم إكراما له وشفقة عليه.»
85 .
وقد ذكر ابن بطوطة أيضا أن أحد شيوخ الفتيان الأخية - وهو من الخزازين - دعاه فاستضعفه، ثم تبين أنه «أخي» وأصحابه نحو مئتين من أهل الصناعات، وقدموه على أنفسهم وبنوا زاوية للضيافة، وقد ذهب معه ابن بطوطة هو وأصحابه، وقال في وصف ما شاهده: «فوجدنا الزاوية حسنة، مفروشة بالبسط الرومية الحسان، وبها الكثير من ثريات الزجاج العراقي ... وقد اصطف في المجلس جماعة من الشبان، ولباسهم الأقبية وفي أرجلهم الخفاف وكل واحد متحزم على وسطه بسكين في طول ذراعين، وعلى رءوسهم قلانس بيض من الصوف، بأعلى كل قلنسوة قطعة موصولة بها في طول ذراع وعرض إصبعين، فإذا استقر بهم المجلس نزع كل واحد منهم قلنسوته ووضعها بين يديه، وتبقى على رأسه قلنسوة أخرى من الزردخاني وسواه حسنة المنظر، وفي وسط مجلسهم شبه مرتبة موضوعة للواردين، ولما استقر بنا المجلس عندهم أتوا بالطعام الكثير والفاكهة والحلوى، ثم أخذوا في الغناء والرقص، فراقنا حالهم، وطال عجبنا من سماحهم وكرم أنفسهم؛ وانصرفنا عنهم آخر الليل وتركناهم بزاويتهم.» وهكذا ظل ابن بطوطة يذكر في سياحته في الأناضول أنه كان يسأل حين ينزل كل بلد عن الأخية والفتيان، وأن الفتيان كانوا يتنازعون على ضيافته، وأنهم يحتكمون أحيانا إلى القرعة، وأنهم إذا أضافهم جماعة من الفتيان أدخلوهم الحمام، فإذا خرجوا منه أتوهم بطعام وحلوى وفاكهة، وبعد الفراغ من الأكل يقرءون القرآن، ثم يأخذون في السماع والرقص، وقد ذكر ذلك عدة مرات في رحلته
86 .
وذكر ابن بطوطة الأخية في موضع آخر فقال: «لما دخلنا الزاوية وجدنا النار موقدة، فنزعت ثيابي ولبست ثيابا سواها، وأتى الأخي بالطعام والفاكهة وأكثر من ذلك، فلله درهم من طائفة ما أكرم نفوسهم وأشد إيثارهم، وأعظم شفقتهم على الغريب، وألطفهم بالوارد وأحبهم فيه، وأجملهم احتفالا بأمره؛ فليس قدوم الإنسان الغريب عليهم إلا كقدومه على أحب أهله إليه.»
87 .
يؤخذ من هذا كله أنه في بلاد الأناضول وما حولها كان في كل بلد جماعة من الفتيان، يعيشون عيشة اشتراكية، فكل ما جمعه أحدهم من عمله أو صناعته دفعه لرئيسهم وهو «الأخي»، وهو ينفق عليهم، وهم يعيشون في زاوية عيشة دينية مرحة، فيها ذكر وفيها تلاوة قرآن وفيها غناء وفيها رقص، وأن هذا إنما يكون لمن ليس لهم أسرة، فهم عزاب أو نحوهم، وليسوا يعيشون فقط لأنفسهم، وإنما يعيشون كذلك للضيوف وللبائس والفقير.
وكانوا يلبسون كذلك لبسة خاصة شأن الصوفية، فشيوخهم يلبسون لبسة ينسبونها شيخا عن شيخ حتى تصل إلى الإمام علي بن أبي طالب
88 .
وكان من انتشارها أن كثر استعمالها وتحدث الناس بها، وتجادل العلماء في شأنها.
يدل على ذلك استفتاء رفع إلى «ابن تيمية» المتوفى سنة 738ه - يلقي هذا السؤال ضوءا على الفتوة ونظامها - فقد سئل عن «جماعة يجتمعون في مجلس، ويلبسون الشخص منهم (لباس الفتوة)، ويديرون بينهم في مجلسهم شربة فيها ملح وماء، ويشربونها ويزعمون أنها من الدين ... ويقولون: إن رسول الله ألبس علي بن أبي طالب لباس الفتوة، ثم أمره أن يلبسه من شاء، ويقولون: إن هذا اللباس أنزل على النبي (
صلى الله عليه وسلم ) في صندوق ويستدلون عليه بقوله تعالى:
يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم ، فهل هو كما زعموا، أو هو كذب واختلاق؟ ... ومنهم من ينسب ذلك إلى الخليفة الناصر لدين الله عن عبد الجبار، ويزعم أن ذلك من الدين، فهل لذلك أصل أم لا؟ وهل الأسماء التي يسمي بها بعضهم بعضا من اسم الفتوة ورءوس الأحزاب والزعماء لها أصل أم لا؟ ... ويقوم رئيس القوم إلى الشخص الذي يلبسونه، فينزع عنه اللباس الذي يلبسه ويلبسه الذي يزعمون أنه لباس الفتوة، فهل هذا جائز أم لا؟ ... وهل للفتوة أصل في الشريعة أم لا؟ ... وهل أحل أحد من الصحابة أو من التابعين أو من بعدهم من أهل العلم هذه الفتوة المذكورة؟».
وقد أجاب «ابن تيمية» عن هذه الأسئلة فقال: إن لباس الفتوة وإسقاء الملح والماء باطل لا أصل له، ولم يفعل هذا رسول الله ولا أحد من أصحابه، ولا علي بن أبي طالب ولا غيره ولا من التابعين، والإسناد الذي يذكرونه من طريق الخليفة الناصر إلى عبد الجبار إلى ثمامة فهو إسناد لا تقوم به حجة وفيه من لا يعرف ... وما ذكر من نزول هذا اللباس في صندوق هو من أظهر الكذب باتفاق العارفين بسنته، واللباس الذي يواري السوءة هو كل ما ستر العورة من جميع أصناف اللباس المباح، أنزل الله هذه الآية لما كان المشركون يطوفون بالبيت عراة ويقولون: ثياب عصينا الله فيها لا نطوف فيها، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وأنزل قوله:
خذوا زينتكم عند كل مسجد ، والكذب في هذا أظهر من الكذب فيما ذكر من لباس الخرقة، وأن النبي (
صلى الله عليه وسلم ) تواجد حتى سقطت البردة عن ردائه، وأنه فرق الخرق على أصحابه ... إلخ.
وأما الشروط التي يشترطها شيوخ الفتوة، فما كان مما أمر الله به: كصدق الحديث وأداء الأمانة وأداء الفرائض واجتناب المحارم ونصر المظلوم وصلة الأرحام والوفاء بالعهد، أو كانت مستحبة: كالعفو عن الظالم واحتمال الأذى وبذل المعروف، وأن يجتمعوا على السنة، ويفارق أحدهما الآخر إذا كان على بدعة ونحو ذلك، فهذه يؤمن بها كل مسلم، سواء شرطها شيوخ الفتوة أو لم يشترطوها، وما كان منها مما نهى الله عنه ورسوله؛ مثل التحالف الذي يكون من أهل الجاهلية أن يصادق كل صديق الآخر في الحق والباطل، ويعادي عدوه في الحق والباطل، وينصره على كل من يعاديه، سواء كان الحق معه أو مع خصمه، فهذه شروط تحلل الحرام وتحرم الحلال، وهي شروط ليست في كتاب الله، فهو باطل.
ثم قال ابن تيمية: وأما لفظ «الفتى» فمعناه في اللغة «الحدث»، كقوله تعالى:
إنهم فتية آمنوا بربهم ، وقوله تعالى:
قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم ، لكن لما كانت أخلاق الأحداث اللين، صار كثير من الشيوخ يعبرون بلفظ الفتوة عن مكارم الأخلاق، كقول بعضهم: «الفتوة أن تقرب من يقصيك، وتكرم من يؤذيك، وتحسن إلى من يسيء إليك، سماحة لا كظما، وموادة لا مسايرة.»، وقول بعضهم: الفتوة ترك ما تهوى لما تخشى؛ وأمثال ذلك، فهذه أمور حسنة مطلوبة محبوبة سميت فتوة أم لم تسم.
وأما لفظ الزعيم فإنه مثل لفظ الكفيل والقبيل والضمين، قال تعالى:
ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم ؛ فمن تكفل بأمر طائفة فإنه يقال: هو زعيمهم فإن كان قد تكفل بخير كان محمودا على ذلك، وإن كان شرا كان مذموما على ذلك، وأما رأس الحزب فإنه رأس الطائفة التي تتحزب؛ أي: تصير حزبا، فإن كانوا مجتمعين على ما أمر الله به ورسوله من غير زيادة ولا نقصان، فهم مؤمنون، لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، وإن كانوا قد زادوا في ذلك ونقصوا: مثل التعصب لمن دخل في حزبهم بالحق والباطل، والإعراض عمن لم يدخل في حزبهم سواء أكان على الحق أو الباطل؛ فهذا من التصرف الذي ذمه الله تعالى ورسوله؛ فإن الله روسوله أمرا بالجماعة والائتلاف، ونهيا عن الفرقة والاختلاف، وأمرا بالتعاون على البر والتقوى، ونهيا عن التعاون على الإثم والعدوان.
هذه خلاصة الفتوى، وهي ترينا صورة من جماعة الفتوة وتقاليدهم وتعاليمهم وحركة رجال الدين المعارضين لهم
89 . •••
وهذان النوعان من الفتوة - أعني الفتوة الصوفية والفتوة المدنية - ظلا يعملان ويتطوران إلى عصرنا هذا: فالفتوة الصوفية تحولت في تركيا إلى قوة دينية، كالولاية النقشبندية تساير قوة السلاطين السياسية أحيانا وتناهضها أحيانا، حتى أبطلتها تركيا في ثورتها الحديثة، وتحولت في الشرق إلى خانقاه وتكايا، أصبحت فيما بعد مأوى للعجزة ومن يريد أن يعيش عيشة عزلة عن العالم، ففقدت بذلك معناها الأول، وتحولت من قوة إلى ضعف ومن نجدة إلى خمول.
والفتوة المدنية، وأعني بها الفروسية وما إليها، ظلت في العصور المختلفة - ولا سيما في مصر - طوال هذه العصور حتى عصر «الجبرتي» فيحدثنا أن الأمراء والعساكر في مصر كانوا ينقسمون بعد الفتح العثماني إلى فريقين: قوم ينتسبون إلى ذي الفقار ويسمون الفقارية، وآخرون إلى قاسم ويسمون القاسمية، وكان أكثر العثمانيين فقارية، وأكثر الشجعان المصريين قاسمية، كما انقسموا من قبل إلى سعد وحرام، واتخذوا لذلك شارات: فالفقارية اتخذت البياض شعارا في الثياب والركاب حتى أواني المأكولات والمشروبات، والقاسمية اتخذت شعارها الحمرة في كل شيء من ذلك، وكان بين الفريقين من الفروسية والألعاب والقتال ما كثر ذكره في الجبرتي وغيره، ويقول الجبرتي أيضا: إن القرن الثاني عشر استهل وأمراء مصر فقارية وقاسمية
90 ، وإن كنت لم أعثر على تسمية هذه الأعمال بالفتوة.
ولقد أدركنا لعهدنا في صبانا في كل خط وناحية من أخطاط القاهرة ونواحيها جماعة من الشباب يسمون «الفتوات»، وهم من أرباب الصنائع والمهن الحقيرة عادة، وممن يلبسون الجلاليب الزرقاء ويتعممون على «الطاقية»، قد عرفوا بالقوة الجسمية والشجاعة والفتوة، وعلى رأسهم زعيمهم، وبينهم وبين «فتوات» الخط الآخر نزاع غالبا، وقد يخرج «فتوات المنشية» لمحاربة «فتوات الحسينية» في جبل المقطم بالطوب والحجارة والعصى، وقد يقع بينهم جرحى وقتلى ويعد ذلك يوما له ما بعده، ويكون بين فتوات الحيين «ثأر»، وقد ينتج من ذلك أن «فتوات» الحسينية - مثلا - يعلمون «بزفة» لأحد فتوات المنشية، فيتربصون لهم حتى إذا خرجت «الزفة» تعرض لها الأعداء، وأعملوا فيها الضرب والتخريب.
وقد قضت الحكومات النظامية على هذه الأعمال.
وحبذا لو سمي نظام الكشافة باسم «نظام الفتوة»، فكنا بذلك قد أعدنا ذكريات العهد القديم وأحيينا اسما تاريخيا حيا في الإسلام قرونا طوالا.
الحياة الروحية (1)1
الحياة الروحية (2)
الحياة الروحية (3)
الحياة الروحية (4)
في الأدب العربي: عروة بن الورد
في الطريق
خطرات في اللغة
في الهواء الطلق(4)1
في الهواء غير الطلق
لماذا نعيش؟
التعاون الثقافي العربي
الشيخ رفاعة الطهطاوي (1)
الشيخ رفاعة الطهطاوي (2)
الشيخ رفاعة الطهطاوي (3)
الشيخ رفاعة الطهطاوي (4)
الشيخ رفاعة الطهطاوي (5)
الشيخ رفاعة الطهطاوي (6)
تقدير الجمال
في الهواء الطلق (5)
في الهواء الطلق (6)
السوبرمان أو الإنسان الكامل (1)
السوبرمان أو الإنسان الكامل (2)
عبرة الموت
الابتكار
سياحة في العالم
أخلاق الطفولة وأخلاق الرجولة
نظرة في إصلاح متن اللغة العربية
زعماء الإصلاح الإسلامي في العصر الحديث
محمد بن عبد الوهاب (1)
محمد بن عبد الوهاب (2)
مدحت باشا (1)
مدحت باشا (2)
مدحت باشا (3)
مدحت باشا (4)
السيد جمال الدين الأفغاني (1)
السيد جمال الدين الأفغاني (2)
السيد جمال الدين الأفغاني (3)
السيد جمال الدين الأفغاني (4)
السيد جمال الدين الأفغاني (5)
السيد جمال الدين الأفغاني (6)
السيد أحمد خان (1)
السيد أحمد خان (2)
الحياة الروحية (1)1
الحياة الروحية (2)
الحياة الروحية (3)
الحياة الروحية (4)
في الأدب العربي: عروة بن الورد
في الطريق
خطرات في اللغة
في الهواء الطلق(4)1
في الهواء غير الطلق
لماذا نعيش؟
التعاون الثقافي العربي
الشيخ رفاعة الطهطاوي (1)
الشيخ رفاعة الطهطاوي (2)
الشيخ رفاعة الطهطاوي (3)
الشيخ رفاعة الطهطاوي (4)
الشيخ رفاعة الطهطاوي (5)
الشيخ رفاعة الطهطاوي (6)
تقدير الجمال
في الهواء الطلق (5)
في الهواء الطلق (6)
السوبرمان أو الإنسان الكامل (1)
السوبرمان أو الإنسان الكامل (2)
عبرة الموت
الابتكار
سياحة في العالم
أخلاق الطفولة وأخلاق الرجولة
نظرة في إصلاح متن اللغة العربية
زعماء الإصلاح الإسلامي في العصر الحديث
محمد بن عبد الوهاب (1)
محمد بن عبد الوهاب (2)
مدحت باشا (1)
مدحت باشا (2)
مدحت باشا (3)
مدحت باشا (4)
السيد جمال الدين الأفغاني (1)
السيد جمال الدين الأفغاني (2)
السيد جمال الدين الأفغاني (3)
السيد جمال الدين الأفغاني (4)
السيد جمال الدين الأفغاني (5)
السيد جمال الدين الأفغاني (6)
السيد أحمد خان (1)
السيد أحمد خان (2)
فيض الخاطر (الجزء الخامس)
فيض الخاطر (الجزء الخامس)
مقالات أدبية واجتماعية
تأليف
أحمد أمين
الحياة الروحية (1)1
أعجب ما في الإنسان أنه يحيا حياة واحدة هي مزيج من جملة ألوان، فلا تزال فينا طبائع النبات ومظاهره، نبحث عن غذائنا في الأرض كما يبحث، ونعيش تحت رحمة الرياح والفصول كما يعيش، وفينا أيضا طبائع الحيوان من شهوات وغرائز؛ وفينا العقل الذي يسيطر على هذه الطبائع الحيوانية، ولكنه يعجز عن السيطرة عليها سيطرة تامة.
وكما يكون نورا إلهيا يهدي الطبائع والغرائز، قد يكون نارا شيطانية تثيرها؛ فتجعله أفرس من أسد وأمكر من ذئب. ورقي الإنسان إنما هو في استطاعته أن يوازن الموازنة الدقيقة بين ما في باطنه من عناصر نبات، وعناصر حيوان، وعناصر إنسان، وما أشقه من عمل!
وهو - لما في طبيعته من عناصر مختلفة نباتية وحيوانية وإنسانية - قد واجه مشاكل لا تحصى لا يزال طوال الزمان يحاول حلها وترقيتها.
هو من ناحيته النباتية يواجه مشكلة البيئة التي تناسبه والتي لا تناسبه؛ وغلة الأرض وحاجته منها بعد أن وزعت في البقاع والأصقاع حسب طبيعتها، والأخطار التي يتعرض لها من حشرات وديدان، وجو وعطش وغرق.
وهو من ناحيته الحيوانية قد ورث دينا ثقيلا، من غرائز جامحة، وميل إلى افتراس بعضه بعضا، فكان لا بد له من تحصين للدفاع والهجوم؛ ودعاه ذلك أحيانا إلى التعاون لصد العدو، وأحيانا إلى التفرق لقتال بعضه بعضا، فألف القبيلة، ثم الأمة، وتحارب كما يتحارب جنس من الحيوان مع جنس آخر، وتنازع على الطعام وعلى الشراب وعلى الحب الجنسي كما يتنازع الحيوان؛ وساعده ما منح من عقل على تنظيم هذا الاجتماع والافتراق، والتعاون والتحارب؛ وعلى العموم استخدم العقل لتنظيم الغرائز الحيوانية.
ثم كان من عنصره الإنساني شوقه الشديد للعلم والمعرفة، فأخذ من مبدئه يتعلم ويعلم، ويورث ما وصل إليه من يأتي بعده من الأجيال، ويخترع اللغة لإيصال معلوماته. ثم أخذ ينشئ المعاهد؛ يبث فيها ما وصل إليه العلم من الأجيال السابقة، ويزيد في توسيع دائرة المعلوم، وتقليل دائرة المجهول، ثم يستخدم العلم في حياته النباتية والحيوانية، وينشئ الصناعات، وهو كلما تقدم تعقدت مشاكله، وتركبت نظمه، فأوجد الوظائف المختلفة في المجتمعات تنظم شئونها، ويقوم كل بقسطه في ترقيتها. فالأسرة تربي الطفل؛ ومعاهد التربية تكمل تربيته؛ ومعاهد الصناعة تخرج ما يحتاجه العالم؛ والدولة تشرف على هذه الأنواع المختلفة من النظم، وتوحد بينها وتوجهها.
ثم في الإنسان عنصر روحي بجانب عنصره النباتي والحيواني والعقلي، أحسه الإنسان منذ وجد، وكما أن عنصر العقل فيه مظهره العلم، فعنصر الروح فيه مظهره الدين.
من طبيعة الإنسان الطموح إلى كل ما هو حق وخير وجميل، وقد وجد مصداق ذلك كله في الدين فاعتنقه، ومن طبيعته الشعور بقوة تسيطر على نفسه وعلى العالم؛ ومن طبيعته الشعور بأن هناك روحا عليا ليست روحه إلا شرارة منها وقبسا من نورها، وأنها تتجاوب معها، فكان ذلك هو الدين على اختلاف مناحيه ومذاهبه وأنواعه وأسمائه وشعائره، لقد شعر - منذ نشأته في بداوته إلى منتهى ما وصل إليه من حضارة - أن في باطنه شيئا ليس ماديا وليس من جنس الأرض. ولما تقدم العلم كل هذا التقدم لم يهتد إلى حل العلاقة بين العقل والحياة، وبين المادة ومظاهرها، ولما فرغ العلماء لعلمهم، وبحثوا واكتشفوا القوانين، وآمنوا بالعلم كل الإيمان، ظل كثير منهم يشعرون بفراغ في أنفسهم، وهذا الفراغ لا يملؤه إلا إيمان بقوة فوق المادة، وروح تسيطر عليها وتبعث فيها الحياة والروح، وأنهم بهذا الإيمان يشعرون بقوة عظيمة، لاتساع نفسهم واندماجها في العالم أجمع، وأنهم والعالم مشمولون بروح عليا تسيرهم.
وكما يختلف الناس في مقدار العناصر التي يتكونون منها، فبعض الناس أكبر عناصره العنصر الحيواني، فهو أقرب شيء إلى أن يعيش بغرائزه كالحيوان، لا هم له إلا مأكله ومشربه وملبسه؛ وبعضهم العنصر العقلي، كما يتجلى ذلك في العلماء المتخصصين للبحث والمعرفة؛ كذلك بعض الناس يغلب عليهم العنصر الروحي، وهؤلاء يشعرون بنقص في أنفسهم، ويشعرون أن روحا عليا تشرف عليهم، فيجهدون أن يتحرروا من نقص نفوسهم، ويوسعوا ترقيها بالاتصال بالروح العليا، فتنشرح صدورهم، ويشعرون أن قبسا من نور أضاء قلوبهم. ويحدث هذا عند نضوج الروح، فيدركون العالم على نحو غير الذي يدركه العالم. ثم يرون التشابه في الموجودات والوحدة فيها رغم اختلاف الأسماء والأشكال؛ وهم لا يقفون عند الظواهر، فيرون الإنسانية في المذكر والمؤنث، ويرون وحدة الإنسان مع اختلاف الألوان والأجناس؛ وهكذا تتسع روحهم حتى يروا الوحدة في الوجود، والله في كل شيء، فيتجاوب العالم معهم ويتجاوبون مع العالم، وتتسع نفوسهم لا إلى حد، ويرون في ذلك سعادة دونها أي سعادة؛ ويشعرون أن الظلام الذي كان يحيط بنفوسهم أخذ ينجذب شيئا فشيئا حتى صار نورا ساطعا، كالذي ينظر إلى خريطة العالم فلا يدرك منها شيئا حتى يقع نظره على بلدته فيتعرفها ويتعرف البلدان الأخرى بالنسبة إليها، فإذا الخريطة كلها مفهومة وإذا هي ذات معنى. يرون أن المادة خيال، والشهوات والرغبات أعراض زائلة، ولكن امتزاج روحهم بروح العالم هو الحق الذي لا يزول ولا يفنى. ويبلغ من شعورهم بوحدة الأشياء أن يشيع الحب في نفوسهم لكل شيء، فألم إنسان ألمهم، وسعادة إنسان سعادتهم، ونجاح الإنسان نجاههم، وفشله فشلهم، حتى ليبغ الأمر ببعضهم أن يأملوا أن تبلغ الإنسانية من الصحة والنضوج مدى تتمازج فيه أرواحها، حتى يشعروا بالوحدة وبالسعادة ينالها بعضهم، وبالألم يصيب بعضهم، ويعملوا ليبلغوا السعادة جميعا.
قد كان علماء النفس في حداثة عهدهم يهزءون بهذه الحالات النفسية ويرونها ضربا من الخيال، وسبحا في الوهم، فلما نضجوا آمن بها بعضهم، واعترفوا بها في كتبهم، وسجلوها في تجاربهم.
لقد جنى على الحياة الروحية كثرة ما أحاط بها من تخريف وتمويه، فكان بجانب الأنبياء المتنبشون الكاذبون، وبجانب الصوفية الحقة الدجالون الخداعون، وبجانب الملهمين الحشاشون. وكان ما أصيب به الجانب الروحي أكثر ما أصيب به الجانب العقلي، لأن معيار العلم يمكنه في سهولة أن يعرف زيفه، وليس بهذه السهولة الجانب الروحي.
والإنسان بتنميته جانبه الروحي يستطيع أن يدرك من الحق ما لا يدركه العلم، وأن يقوي نفسه بما لا يقويها العلم . ومن الخطأ الاستناد على العلم وحده دون الروح.
قد يكون مصلحو الشرق معذورين في دعوتهم القوية إلى البحث العلمي، ونشر المنهج العلمي ووجوب الاعتماد عليه، لأننا في الشرق نعيش على التقليد والتخريف، حيث يجب أن نعيش على العلم في الزراعة والصناعة والتجارة ووسائل التربية وما إلى ذلك؛ ولكن مع التسليم بهذا كله يجب ألا نهمل الروح في دائرتها. ولعل الشرق إذا اتجه إلى هذا الجانب الروحي بجانب اهتمامه بالجانب العلمي فاق الغرب في ذلك؛ لأن له تاريخا قديما في الروحانيات، وهو ملهمها الغرب.
إن العلم له دائرته التي يجب أن نعترف له بها، ونؤسس حياتنا عليه في حدوده، ولكن بجانب العلم الروح، وبجانب العقل القلب، وبجانب المنطق الإيمان، ولكل وجهة هو موليها، وما أحسنهما إذا اجتمعا، وما أشقاهما إذا افترقا.
تعجبني قصة طريفة للأديب الكبير «ه. ج. ولز» سماها «مملكة العميان»، خلاصتها - فيما أذكر - أن جماعة من العميان طوح بهم القدر حتى أنزلهم واديا بعيدا منعزلا، تحيط به من كل الجوانب الجبال الشاهقة الوعرة، فعاشوا فيه، ونسلوا عميانا مثلهم؛ وقد عوضتهم الطبيعة عن فقدان أعينهم قوة في حدة آذانهم، وبذلك استطاعوا أن يكونوا لأنفسهم مدينة توافق حالتهم وطبيعتهم، ووثقوا كل الثقة بمعارفهم ومداركهم، وآمنوا كل الإيمان أن العالم كله محدود بحدود أربعة هي سلسلة جبالهم، وشاء القدر أيضا أن ينزل بواديهم رجل بصير، فحدثهم يوما عن السماء الزرقاء فوقهم وجمالها، والنجوم الساطعة وضيائها، والثلوج المعممة للجبال وبياضها ولمعانها، فلم يشكوا أنه مجنون، وجزموا أن ما يحدثهم به عن قوة عينيه ورؤيتها لهذه الأشياء ليست إلا ضربا من الخداع والوهم. وحاول بكل ما يستطيع من قوة وبيان أن يفهمهم أنهم عميان فاقدوا البصر، وأنه بصير، فلم يزدهم ذلك إلا عتوا وضلالا، وإمعانا في الضحك منه والسخرية به؛ وقالوا لو كان في رأس هذا الرجل عقل لتخلى عن هذه الأحلام والأوهام، ووجه همته إلى الحياة الواقعية، والأشياء العملية، وقوي سمعه حتى يبلغ مبلغنا، واتبع الطريقة التي سلكنا، وسار على المنهج الذي عليه أجمعنا. فلما أعياهم أمره قرروا أن سبب مصائبه وفساد عقله يرجع إلى هاتين النافذتين في وجهه التي يزعم الإبصار بهما، وأن لا شفاء له إلا بفقئهما؛ ولكن كان من حسن حظه أن يجد منفذا للهرب من هذا الوادي.
لقد رمز «ويلز» بهذا إلى ضيق نظر القادة السياسيين والاقتصاديين والاجتماعيين وجمودهم على الآراء العتيقة البالية، ووقوفهم على ما ورثوه من تقاليد من قبلهم، وعدم إصغائهم إلى صوت كبار المصلحين الذين يدعون إلى بناء عالم جديد أساسه التفكير الحر وسعة النظر. ولكن قصته كذلك تصلح مثلا لمن يريد أن يخضع كل شيء في هذا العالم للمادة وقوانينها وعلومها، وينكر الروح والله والدين والإيمان، فهو لا يريد أن يعتقد في شيء إلا ما يعتقده سكان هذا الوادي، ولا يؤمن بما يرى هذا الشعب بعينيه - هو يسمع ويرى، ولكن قلبه لا يرى، وروحه لا ترى، ثم هو يزعم أن ما يشعر به المؤمنون ليس إلا ضربا من الخيال والوهم.
إن الناس يتفاوتون في المعرفة تفاوتا بينا، فمن الناس من إذا أراد أن يعلم حجرة وما فيها نظر من ثقب الباب فرأى بساطا هنا وكرسيا هناك، ثم زعم أنه عرفها؛ ومنهم من علا درجة عن هذا ففتح الباب ووقف في زاوية من زوايا الحجرة في ضوء قليل وزعم أنه رآها، وهذان موقفهما موقف العامة وأشباههما؛ ومنهم من تعمد أن يدخلها في وضح النهار، ويقف في جميع الزوايا، ويفحص ويمتحن كل ما فيها، وهذا هو العالم؛ ومنهم من يفعل ذلك ثم لا يكتفي به، بل يحاول أن يعرف شأن الغرفة من المنزل ، وموضع المنزل من الشارع، ومكان الشارع من المدينة، ومنزلة المدينة من القطر، ومكان القطر من العالم، وذلك هو الفيلسوف من جانب، والروحي الحق من جانب.
إن في الإنسان ملكات عدة ليس العقل وطريقه العلمي إلا إحداها؛ وخطأ العالم الغربي في القرن الماضي كان تقوية الناحية العلمية على حساب الملكات الأخرى. ويعجبي تعبير طريف قرأته لأحد كتاب الغرب إذ يقول: «لقد أسرع العلم في السير حتى جاوز القلب بمراحل، فواجبنا أن نمنح العلم إجازة حتى يدركه القلب» - لقد نجح العلم نجاحا عظيما حتى استطاع أن ينفذ إلى أدق أعماق المادة، وحتى كاد يجعل العالم المادي شفافا واضحا، وحتى أخضع كثيرا من قوانينه لإرادته وهذا حسن وجميل. ولكن بجانب ذلك جعل حياة الإنسان مصطنعة سطحية، إلاهها السرعة والعجلة والآلات والأدوات، فكسب أذنه وخسر عينه؛ وما ضره لو كسبهما جميعا، إذن لوجد روحه التي فقدها في هذه الضوضاء والسرعة، وأحس الراحة والهدوء في نفسه ساعة ينعم فيها بالطبيعة والعالم وربهما.
وكما أن كل إنسان له نوع من الاستعداد والملكات للفن والموسيقى والشعر والعلم، كذلك عنده استعداد ما للإجابة الروحية، وهي أرقى من سائر كل الملكات. وكما أن كل إنسان له قدر من الفن ولكن ليس كل إنسان فنانا، وكل إنسان يغني ولكن ليس كل إنسان يجيد الغناء، كذلك كل إنسان روحي إلى حد ما، ولكن الروحيين حقا قليل. ويعجبي شاعر هندي في قوله: «الجواهر أحجار، ولكن لا توجد في كل مكان؛ والصندل أشجار، ولكن لا توجد في كل غاية - والفيلة كثيرة، ولكن فيلا واحدا هو فيل الملك؛ كذلك ما أكثر الناس ولكن قل بينهم الإنسان الحق». والنبوغ في كل ملكة موضع إعجاب، ولكن أعجب العجب هو النبوغ الروحي. وكما قال القائل: «إن المصلح وليد المدنية، ولكن النبي أبوها».
الحياة الروحية (2)
عماد الأديان كلها أن وراء هذه المملكة الظاهرة في الحياة مملكة أخرى باطنة، وهاتان المملكتان يختلف بعضهما عن بعض تمام الاختلاف؛ فالمملكة الظاهرة فيها المادة بجميع أشكالها وتطورها، من حبة الرمل إلى خلية المخ، وفيها كل مظاهر الحياة مما نرى من جماد ونبات وحيوان، وفيها كل شؤون الإنسان الظاهرة، من زرع وتجارة وصناعة، وتنظيم للحياة الاجتماعية، واستغلال وجمع وإنفاق، وتدبير ميزانيات، وإنشاء دواوين وحكومات تشرف على الأعمال، وملوك أو برلمانات تشرف على الحكومات، وهكذا - وكل ما نقرأ من أحداث التاريخ فإنما هو تاريخ هذه المملكة الظاهرة - أما المملكة الباطنة ففيها أنبياء وأولياء وقديسون وملائكة وشياطين، ويوم آخر ، وبعث ونشور، وحساب وثواب وعقاب، وجنة ونار، وروح ووحي، وإلهام وإله.
وهذه المملكة الباطنة سميت أسماء مختلفة، فبعضهم يسميها «دائرة المجهول»، و«ما لا يمكن علمه»، وسماها القرآن «الغيب»، كما سمى المملكة الظاهرة «الشهادة»، فقال:
الذين يؤمنون بالغيب ،
عالم الغيب والشهادة ،
لك من أنباء الغيب . الخ. وترى الأديان أن هذين العالمين إذا قوما فالمملكة الظاهرة قليلة القيمة جدا إذا قيست بمملكة الباطن؛ لأن الأولى ذاهبة فانية، والأخرى باقية خالدة؛ ولأن الأولى دخلها عنصر الزمان فأضعف قيمتها وأقصر مدتها، وأما الأخرى فلم يدخلها عنصر الزمان فخلدت. وكما كان في مملكة الظاهر خداعون وكذابون يكذبون في العلم والخلق والتجارة والصناعة، كان كذلك خداع وتمويه في عالم الغيب، كقصص العفاريت، وأعمال السحرة، والأساطير المتوارثة في كل أمة، والتنجيم والطلاسم، وهكذا.
وليس الإيمان بعالم الغيب - كما يظن بعضهم - ضربا من الأوهام ورثناه من آبائنا الأولين أيام كانوا ضعاف العقول، أقوياء الخيال، بل هو جزء من طبيعة النفس الإنسانية ملازم لها في جميع أدوار عقليتها ومدنيتها وثقافتها، والذين أنكروه أنكروه بمنطقهم، ولم يستطيعوا التجرد منه في نفوسهم ومشاعرهم.
يشعر الناس أن هناك دائرة للمعلوم تحيط بها أسوار، وأن وراء هذه الأسوار دائرة المجهول أو عالم الغيب، وأنهم يريدون أن ينفذوا من هذه الأسوار للوصول إليها، فمنهم من يصل ومنهم من ينقطع.
ووسائل إدراك مملكة الظاهر غير وسائل إدراك مملكة الباطن، فوسائل الأولى هو ما نسميه «العلم»، وهذا العلم يعتمد - فقط - على الحواس الخمس، وهي: السمع، والبصر، والشم، واللمس، والذوق؛ فكل المناهج العلمية، وكل الآلات والمخترعات، وكل البحوث في الطبيعة والكمياء، والفلك ، والنبات والحيوان، إنما عمادها هذه الحواس الخمس، مرهفة أو مكبرة؛ حتى أدق العمليات الرياضية والهندسية، إنما هي أعمال الحواس الخمس تستخدم فيها المقارنة، ثم إعمال العقل في هذه المقارنات بالاستنتاج؛ وكل النتائج العجيبة التي وصل إليها العلم ليست إلا وليدة الملاحظات الحسية مع الاستنتاج المنطقي، وهذه هي خطة العلم دائما.
أما وسائل عالم الغيب، فليست الحواس ولا المنطق، وإنما هي الرياضة النفسية، واختطاط خطة غير الحواس الخمس، ومحاولة تخطي هذه الأسوار بها، والنفوذ من خلالها لإدراك عالم المجهول؛ وهذا ما سلكه دائما الروحانيون من الأنبياء والمتصلين بهم، فمحمد، وعيسى، وموسى، وغيرهم. لم يسلكوا سبيل العلماء في بحثهم واعتمادهم على الحواس وتجريبهم ومقارنتهم بين المواد والاستنتاج منها، إنما راضوا نفوسهم على نحو ما لينفذوا إلى عالم المجهول. وغار حراء بالنسبة لمحمد
صلى الله عليه وسلم
في جهده للوصول إلى المجهول من عالم الغيب، كالعالم في معمله وتجاربه في عالم الشهادة؛ هذا منهج وهذا منهج، وشتان ما بينهما. بالمنهج العلمي من ملاحظة وتجربة واستنتاج ومنطق تكتشف قضايا العلم، وبالمنهج الروحي الذي أشرنا إليه، يحدث نوع من المعرفة أساسه ما نسميه بالوحي أو الإلهام.
وفي القرآن قصة ترمز إلى الفرق بين نوعي العلمين: العلم المبني على المنطق، والعلم المبني على مكاشفة الروح، وهي قصة موسى مع العبد الصالح الذي علمه الله من لدنه علما؛ فموسى سلك سبيل المنطق، وبناء المسببات على الأسباب الظاهرة؛ وهذا العبد الصالح لم يسلك هذا المسلك، فخرق سفينة ليس لخرقها من سبب ظاهر، وقتل نفسا ذكية بغير نفس، وأقام جدارا لأهل قرية أبوا أن يضيفوهما، وكل هذا منتقد من جانب المنطق، ولكن له ما يبرره من جانب الإلهام الروحي كما شرح في القصة
1 .
لقد ذهب كثير من علماء النفس إلى أن وسائل العلم والمعرفة تنحصر في الوسائل المعروفة من ملاحظة وتجربة، وعدوا ما يظهر غير ذلك نوعا من المرض النفسي، أو شرودا في الخيال؛ ولكن ظهور حالات كثيرة من المعرفة، وانكشاف أمور ليس انكشافا أساسه المنطق، عدل أذهان كثير من علماء النفس، فأقروا بأن هناك إدراكا أساسه المنطق من ملاحظة وتجربة واستنتاج، وهذا هو العادة والأغلب؛ ولكن بجانب ذلك أحوال نادرة، يستطيع فيها الإنسان أن يدرك ويعلم، ويعرف عن طريق غير المنطق، وإن كانت نادرة؛ وأقروا بأن طريقة علمنا ومعارفنا وبحثنا واستنتاجنا هي الطريقة المألوفة العادية، ولكن ليست هي كل وسائل المعرفة، فهناك من الوسائل ومن أنواع الإدراك ما لا يخضع للمنطق. ومن ذلك الحين أخذ علماء النفس ينوعون اتجاههم، ويوسعون بحثهم؛ فبحثوا في التصوف ونفسيته، وكيفية إدراكه ومعرفته، ولا يزالون في بدء هذا الاتجاه، وهذا البدء كان بدءا نقط من الناحية العلمية، أما الحقائق نفسها فمقررة في كل دين، معترف بها في كل عصر.
على هذا الأساس تكون الإنسانية تسبح في دائرتين: دائرة خارجية أو ظاهرية، ودائرة داخلية أو باطنية؛ مثل الأولى كجسم الشجرة، وجذعها وساقها، ومثل الأخرى كالحياة تدب فيها فتكون وظائفها المختلفة، وتهيئها للازدهار والإثمار، ومثلها جميعا كجسم الشمعة وقوتها على الإضاءة.
وكل ما نعني به الآن من علوم على اختلاف ألوانها، وما نعني به من تاريخ أحداث وحروب واجتماع، وما نعني به من دعوة إلى الصدق والأمانة، والجد والعدل، كل ذلك متعلق بالحياة الخارجية؛ أما الحياة الروحية فحياة داخل حياة، وحكومة داخل حكومة؛ وهذه غذاؤها الدين، وهو غذاء فاسد إن فسد، وصالح إن صلح.
ونرى في عضون التاريخ إشارات إلى هذا الحياة الروحية في معابد اليونان، وهيا كل المصريين ورموزهم: فالخاصة كانوا يفهمونها على حقيقتها ويرمزون إلى المعاني التي في صدورهم برموز مجسمة وقصص رمزية يفهمها الخاصة على أنها رمز، ويفهمها العامة على أنها حقائق. وهكذا الشأن في تاريخ سائر الأمم والديانات.
وقد حاول كشف المجهول من الحياة الخارجية والباطنية أربعة أصول؛ كل سلك طريقه الذي يناسب طبيعته ومزاجه: العلم، والفلسفة، والدين، والفن؛ وكثيرا ما تنازعت في الطريق، وقامت بينها المشاحنات والخصومات، ومنازعاتها دليل على أنها لم تدرك وظائفها حق الإدراك؛ وأن كلا حاول أن يوسع طريقه على حساب غيره، وأن يتعدى في اختصاصه على اختصاص غيره، ولو نظرت كلها إلى طريقها من طيارة لأدركت أن الطريق المرسوم لكل منها طريق مستقل بنفسه، واضح بأعلامه، وأنها كلها تصب في دائرة وسطها، هي دائرة الحقيقة. ولو سار كل في طريقه الخاص به، ولم يتعد على غيره لتوصل إلى الحقيقة من جانبه، وهذه الحقيقة كفيلة بأن تنكشف في نهاية كل طريق عما يخصه، وفيها كلها كشف الحياتين الظاهرة والباطنة، والعالمين عالم الغيب والشهادة؛ ولكن مع الأسف نرى علما يغير على دين، ودينا يغير على علم، وفلسفة تغير عليهما، جهلا بالطريق، وعمى عن الحقيقة.
إن العلم - كما قلت - أساسه الملاحظة والتجربة، ولا يكون ذلك إلا فيما يلحظ ويجرب، فإن أراد أن يتخطى أسواره إلى عالم الغيب، فقد أدواته، وتكلم كلاما سخيفا، وكذلك إذا أصابه الغرور، فأنكر ما وراء السور.
والدين عماده الوحي والوصول عن طريق الروح إلى عالم الغيب بالرياضة وما إليها، والاتصال بالشعور الأنبل إلى القوة العليا، فإذا هو تخطى الدائرة الروحية إلى الدائرة العلمية، فتعرض لقضايا العلم بشرحها ويدلل عليها، أو ينكر على العلماء بحثهم ونتائجهم، فقد تعدى طوره؛ وكذلك إذا أخذ يدلل على الدين بقضايا المنطق كما فعل علماء اللاهوت وعلماء الكلام في الإسلام، فقد أتوا بفلسفة تافهة ليس فيها طعم الفلسفة ولا طعم الدين؛ وكل هؤلاء وهؤلاء مثلهم مثل من أراد أن يشم بعينه، ويرى بأذنه، ويتذوق بأنفه.
والفن من أدب وموسيقى وتصوير أساسه الفهم العاطفي، والشعور باما خفي وراء المظاهر، والوصول إلى قلب الأشياء ومزجها بعواطف الفنان ومشاعره ومزاجه، وإبرازها في شكل متناغم، والاستمداد من قوة الخالق ليخلق صورا وألوانا يلهم بها العواطف النبل والسمو؛ فإن هو لم يمس الباطن واكتفى بالسطح، أو اقتصر على استخراج السخرية والهزؤ، لم يؤد رسالته، وعد من توافه الأشياء؛ وإن هو اكتفى باستدرار المال من الأمراء والأغنياء، أو كان وسيلة لإثارة المشاعر الجنسية، كان سلعة تجارية وضيعة لا سموا روحانيا رفيعا.
والفلسفة أساسها التأمل والتفكير المنطقي، وشرح ما نعلم وتمييزه عما لا نعلم، والوصول إلى جذور شجرة العلم والفن والدين لإدراك أصولها؛ فإن هي كانت لعبا بالألفاظ، وعرضا لآراء الفيلسوف ومشاعره، وتضاربها مع آراء الفلاسفة الآخرين ومشاعرهم، لم تؤد رسالتها، وكانت فلسفة لفظية أو شكلية أو حوارية، أو ضربا من التعمية، أو سخافة مغلفة بالألفاظ الغريبة الضخمة.
وما المدنية الحقة إلى هذه الأصول الأربعة راسمة لكل أصل حدوده وطرقه، موازنة بينها حتى لا يطغى منها أصل على أصل، مهذبة كل أصل حتى لا يدخله الاستبداد والغرور، منقحة كل واحد منها حتى لا يدخله زيف أو تحوير أو تضليل.
ونفس كل إنسان فيها هذه العناصر الأربعة، مع تفاوت بين الناس في المقدرة والكفاية والفعالية والقابلية؛ والنفس الكلية للعالم كذلك فيها هذه العناصر واضحة جلية، وهي بجملتها وتفصيلها مظهر المدنية.
وفساد مدنيتنا التي نعيش فيها اليوم أتى من اختلال التوازن بين هذه العناصر، وما دخل على كل عنصر من الفساد.
فالعلم تقدم وتقدم، ولكن أين له القلب؟ لقد ملأ الدنيا آلات وأدوات، ونظريات في السياسة والاجتماع والاقتصاد، ولكن أصيب بعيبين: أولهما أن دائرته الطبيعية هي المادة، فأداة غروره أن يبحث فيما وراء المادة بأدوات المادة، فلما لم يجده أنكره؛ وثانيهما أن الروح لم تتقدم تقدمه وتخلفت وتخلفت، فاستخدم التقدم العلمي لخدمة الغرائز الوحشية على شكل ممدن، فإذا كان الوحشي يقتل بالحجر أو الهراوة، فالعلم يقتل بالكهرباء والغواصات والطائرات والغازات الخانقات؛ والوحشي يأسر خصمه ويستعبده لخدمته، والمدني يغزو ويفتح ويستغل ويستعبد بأسلوب منظم، وفي الأمة الواحدة أنواع وأنواع من الاستعباد؛ وكذلك الشأن في بواعث اللهو والسرور، فقد ترقت في الرقص والموسيقى واللعب. فالغرائز بين المتوحش والمتمدن واحدة، والبواعث واحدة، والعلم نظم الشكل وهذب الأسلوب فقط، وقامت عظمة المدينة على ما كان عند المتوحش من غريزة حماية الأسرة أو القبيلة بشكل أضخم، من استعداد حربي عظيم، وتقوية الروح العسكري ونحو ذلك؛ فالعلم - بتقدمه من غير أن يتقدم الباعث القلبي - أبقى القديم ورقى الشكل؛ فأصبحت المدنية على هذا الوضع وحشية مغلفة، أو همجية مفضضة.
والدين في المدنية الحديثة مظهر لا مخبر، وعمل بلا قلب، وشعائر بلا شعور، وحركات بلا روح، ورجاله أتباع السلطة المدنية، لا قادة الحياة الروحية، ينظرون بأعينهم إلى الأرض، ولا ينظرون بقلوبهم إلى السماء.
والفن تحريك للشهوة. واستجلاب للثروة، وجد في بقاء الشعور في مستواها الهزلي.
فهل هذا الذي نرى - من تدمير بلغ أقصى مداه، وقلق واضطراب وصل إلى نهايته، وزلزلة وبلبلة قلبت العالم رأسه على عقبه - إعلان للثورة على المدنية التي لا روح لها، ليبنى على أنقاضها مدنية لها روح؟
نرجو أن يكون!!
الحياة الروحية (3)
قصتان هنديتان رمزيتان، قرأتهما هذا الأسبوع، فأعجبت بهما لطرافتهما ودقتهما، وإيحائهما إيحاء واسعا شاملا.
فأما الأولى: فخلاصتها أن الإنسان الأول لما شعر بضعفه، وبدأ يتعرف بربه، سمع صرخة استغاثة ملأت الآفاق، فحار في تفسيرها، ولما أعياه الأمر في البحث عن سرها أظلمت نفسه، وقلق باله، حتى جن عليه الليل، فرأى في منامه أن الروح الأعلى تجلت له وخاطبته: إن تقبل هديتي يزل قلقك، وينجل لك ما أبهم عليهك، ويضيء ما أظلم من نفسك. إني خلقت لك ثلاث حمامات بيضاء ناصعا لونها تسر الناظرين، تسمى إحداها الإيمان، والثانية الرجاء، والثالثة الحب؛ فإن أنت أسكنتها معك في أرضك، واستألفتها إليك، وحافظت على سكناها معك، ضمنت لك قوة في قلبك، ونورا في نفسك يكشف لك الحق، ويهديك إلى الخير، ويحقق لك السعادة.
وانتبه من نومه، فرأى الحمامات الثلاث في أرضه تساكنه، وتتحبب إلى الناس وتتألف لهم وتصادقهم؛ ولكن ما لبثت أن رأت قليلا من الناس يألفها ويصادقها، وكثيرا منهم يهزأ بها، وكثيرا آخر لا يعبأ بها، وكثيرا ثالثا يطاردها ويرجمها بالحجارة، حتى سئمت الحمامات من سوء ما لقيت، وعادت إلى بارئها وقالت: «سبحانك ربنا، لقد مللنا من خلقك في الأرض، فليس منهم إلا قليل أحسن استقبالنا، وأكثرهم عبسوا في وجوهنا، أو هزئوا بنا، أو طاردونا - لبئس المكان مكاننا في الأرض؛ إنا نضرع إليك أن تعفينا من سكننا هذا، وتقربنا إليك، وتسكننا في مملكتك السماوية، حتى لا نألم ولا نشقى» قال خالقها للأولى التي اسمها الأيمان: «ذلك ما ليس في الإمكان، فليس في ملكوت السماوات مكان لك، إن أهله قد ذاب إيمانهم في تمام معرفتهم، وانكشاف الحق لهم، وتحول غيبهم إلى شهادة، فعودي إلى الأرض حيث أهلها في حاجة إليك، وقد منحتك ندرة أن من تقبلك قبولا حسنا سعدت نفسه، ومن آذاك أو طاردك لم يعرفني، فأظلم قلبه وشقي في حياته». «وأما أنت أيها الرجاء، فكذلك لا مكان لك عند أهل السماء، فما محل الرجاء عند من بلغوا كل رجائهم، ونالوا منتهى أملهم - ارجعي إلى الإنسان وقد منحتك قوة أن تكوني باسما لهمومه، وعونا له في محنته، وألا يخاف من الموت إذا كنت بجانبه». «وأما أنت يا حمامة الحب فلك موقف آخر، حقا إن لك مكانا في ملكوت السماوات، وأنت نعيم الجنة؛ ولكن ألا تعودين إلى الأرض مع حمامتي الإيمان والرجاء، فليس لها حياة بدونك! وإذا كانت الجنة لا تستغني عنك فسأمنحك القدرة على أن تجولي في لحظة بين السماء والأرض، وأن تخطري في لمحة بين أهل الفناء وأهل البقاء؛ وسأجعل جزاء من يتعشقك ويتذوقك في الأرض أن يطمح إلى لقياك في السماء».
فأطاعت ما أمرت به، ونزلت ثلاثهن إلى الأرض يحتملن الأذى من أهلها، وظلت الثالثة تذهب وتجيء. وكان ما وعدها ربها حقا من طمأنينة من تألف الإيمان، وشقاء من طارده، والتئام جراح من احتضن الرجاء، وعذاب من أطاره، وسعادة من عانق الحب، وشقاء من أغلق دونه بابه. •••
وفي الحق ما الدين وراء هذه الثلاثة؟ إيمان بما وراء المحسوس لشعورنا به، فمهما غالبنا هذا الشعور بتقويمنا للمحسوس أكبر من قيمته، ومهما غالينا في تقويم العلم والمنطق، فتوازعنا الباطنية الطبيعية تنادينا من أعماقنا بالله، وتحن شوقا إلى رؤية الحمامة البيضاء، حمامة الإيمان. ومن فقدوا الإيمان بالله لجئوا إلى تسمة أخرى لما أعجزهم فهمه، من طبيعة، أو حظ، أو قدر، أو مجهول، أو مثل أعلى للعالم أو نحو ذلك! فقد تعددت الأسماء والمسمى واحد سبحانه وتعالى.
والرجاء - عنصر قوي في الدين، مبناه الاعتقاد في سعة رحمة الله - لقد وجد في كل دين لون من الرجاء ولون من الخوف، ووجد في كل عصر من رجاله من قووا جانب الرجاء ومن قووا جانب الخوف، وأنا أشد حبا لمن كانوا في جانب الرجاء، فهو أبعث للعمل، وأصلح للحياة، وأدعى إلى الطمأنينة وأفتح للرغبة في بذل الجهد لصالح الأعمال. ولست أحب طريقة الحسن البصري وأمثاله، ممن ملأوا القلوب رعبا وتخويفا وتهديدا، حتى شلوا القلوب، وطيروا الحب من النفوس، وجعلوا الحياة بائسة جزينة بغيضة. والقرآن في كل سورة يكرر: بسم الله الرحمن الرحيم، والرحمة مبعث الرجاء والحب، لا الخوف والرعب.
ما الحياة وما الدين بلا رجاء؟ قرأت مرة أن أحد كبار العلماء الملحدين حضرته الوفاة وعنده بعض أصدقائه من أمثاله، فقال له أحدهم يشجعه على البقاء على إلحاده: «لا تخف، لقد قربت من النهاية، فتماسك وتقو واحتمل». فقال المحتضر: «آه! ولكن لا أجد ما أتقوى به وأعتمد عليه، ليس لدي رجاء ولا أمل في حياة أخرى سعيدة، كل ما حولي ظلام».
وأما الحب فعماد الدين الحق، إنه في الدين يصحب الرجاء ولا يصحب الخوف، قد يبعث الخوف اجتناب الشرور والإتيان بالشعائر، ولكنه كالشرير يجتنب الجريمة اتقاء السلطان؛ بل الحب في الدين قد يستغني عن الرجاء والخوف.
وكانت حمامة الحب أجمل الحمامات شكلا، وأرشقها حركة، ففتن الناس بجمالها أكثر مما فتنوا بحقيقتها، فصنعوا لها تماثيل كثيرة وسموها الحب ولا روح لها. وكل يوم يسيء الناس استعمال اسمها ألوف المرات في أتفه الأشياء، أو في لا شيء، ويحدث ذلك حين تطير إلى السماء، أو تكون في مألف القليل ممن يفهم حقيقتها. •••
هذه قصة؛ وأما القصة الثانية فهي أن جنية ظريفة ممنك يسكن الأمكان السحيقة، أحبت المرح يوما، فنزلت أرض الناس ونسلت فيها؛ وشاء صغارها أن يلعبن، فصنعن «عروسا»، وبنين لها دارا على قدرها، وأرادت الأم الكبيرة أن تدخل المنزل وترى «العروس»، فصغر باب المنزل عن حجمها؛ ففكرت فكرة شيطانية: أن تفرق أجزاءها وترسلها جزءا جزءا، ففكت أصابعها وأدخلتها، ثم رأسها، ثم قلبها، ثم سائر أجزائها : فلما كانت جميع الأجزاء في المنزل ضاق بها، واحتك بعضها ببعض، فتخاصمت الأعضاء وتحاربت، وتنازعت على الأماكن، كل يدعي ملكية مكانة، وأنه أولى به، ولا تقبل من أي عضو احتلال مكانه أو القرب منه أو التحكك به. ثم أراد بعض الأعضاء الخروج فوجد الآخر في طريقه. وأبي أن يفتح له الطريق خشية أن يحتك ببعض الأعضاء الأخرى، واحتبس الأعضاء جميعا في بيت «العروس» الصغير المظلم، وتدافعوا من غير جدوى، واضطرب أمرهم، وأدركتهم الحيرة، وعمى على الأعضاء أمرهم وعلاقتهم بالجسم كله؛ وحينئذ نبض القلب، ووقف بين سائر الأعضاء خطيبا قائلا: «أيها الأعضاء! إنكم كلكم مني، وقد ساءت حالكم، واضطرب أمركم، وسأقدم لك النصح لأزيل اضطرابكم، وسأقدم لك المعونة لتخرجوا من مأزقكم، إني شاعر بحرجكم وضيقكم، وسأعمل لرفع الحرج عنكم».
قال بعض الأعضاء: «إنا راضون عن مكاننا، غير قلقين في موقفنا».
قال القلب: «لا بأس، إنكم اعتدتم الظلام فحمدتموه، وألفتم الضيق فاطمأننتم إليه، وستحمدون معي الخروج إلى النور، والسعة بعد الضيق».
وما زال بهم حتى ألف بينهم وقادهم عضوا عضوا إلى الخارج، ثم جمع أشتاتهم على أحسن ما كانوا.
قال القلب هذا لأنه وحده الذي شعر أن كل عضو جزء منه، وأن كل الأعضاء متفرقة منه متجمعة حوله: وهكذا رجعها كلها إليه. وأعادها متماسكة جسما واحدا كما كانت.
ودعا القلب هذه الدعوة؛ لأنه سكن الحب؛ لأنه وحده الذي يستضيء بنوره، وينصهر بناره؛ وهو وحده الذي لما مسه الحب كان منه الصبر واحتمال المكاره والتسامح والتضحية، والعمل لخير الجميع. •••
أليست دنيانا منزل «العروس»؟! كنا جسما واحدا أبناء آدم وحواء، فتفرقنا في أنحائها، وتخاصمنا في ملكيتها، واحتبسنا فيها، وفقدنا الشعور بوحدتنا، وسددنا الطرق على أنفسنا، وظن كل عضو أنه مستقل بنفسه، مستغن عن غيره.
إن العالم في كل أزمة كهذه ينتظر الداعي الذي يجمعه بعد تفرقة، ويأسوه بعد جراحه، ويدعوه إلى جمع شتاته؛ وما هذا الداعي إلا نفوسه الكبيرة التي يجود بها الزمان من آن لآن، على ندرة كندرة الجوهر في الأحجار، والصندل في الأشجار. إن هذه النفوس تشعر شعور الناس، وتحمل أعباء الناس، وتحيا للناس؛ إنها بعملها تنسج المستقبل، وتلد الأفكار للجيل الجديد؛ إنها تسمع شكوى الشعوب من ثقل أغلالهم، واستغاثتهم من سوء قيودهم، فتقدم أغلى شيء لديها لفك قيودهم، وتحرير عقولهم؛ إنها تعثر في أثناء جهادها على حجر الفلاسفة الذي تقلب به معادن الناس إلى ذهب خالص؛ إنها بأقوالها وأفعالها تحرك العالم وتحوله من جزر إلى مد؛ إنها ترى الغرض الأسمى على ضوء نار الحب فلا تهاب شيئا، وتسير إلى غرضها لا تلتفت يمنة ولا يسرة، محطمة في طريقها الأصنام التي تعوق الناس عن سيرها، منشدة أناشيد الإنسانية التي تملأ الناس حماسة وأملا.
الحياة الروحية (4)
سعة النفس
تختلف النفوس سعة وضيقا كما تختلف الحجر والمنازل والأماكن؛ فمن الناس من تضيق نفسه حتى تكون كسم الخياط، ومنهم من تتسع نفسه حتى تشمل العالم وما فيه.
تولد النفس ضيقة شديدة الضيق، ثم كل تجربة من الحواس الخمس توسع دائرتها، وكلما زادت تجاربها زاد اتساعها.
وفائدة التربية توسيع النفس؛ فكل موضوع نتعلمه يزيد في اتساع نفسنا كما يزيد في اهتمامنا. فإذا قرأنا التاريخ - مثلا - قديمه ووسطه وحديثه زاد شعورنا بالأجيال المختلفة على تعاقبها، واتصلت نفوسنا بالعالم على توالي العصور، وارتبطت بعظماء الرجال على نحو ما، فكان ذلك كله عنصرا هاما لسعة النفس؛ وكذلك درس النبات، يزيد اتصالنا بعالم النبات ويخلق فينا عينا جديدة نقرأ بها في النبات وأنواعه وتطوره وحياته ما لم نكن نقرأ، فتتسع نفوسنا من هذه الناحية اتساعا يجعل علم النبات جزءا منا؛ وكذلك الشأن في كل علم من جيولوجيا وفلك وطبيعة وكيمياء. كل علم بشيء يبعث موجات لا سلكية من الأشياء المعلومة ويجعل من نفسنا جهازا مستقبلا لها، وعلى قدر علمنا بالعالم حولنا تكون سعة نفسنا، وتكون مقدرة استقبالنا للموجات، ويكون تجاوب نفسنا مع العالم.
وكما تتسع نفس الإنسان بعلمه بالشيء تتسع قدرته ونفوذه؛ فالمهندس يرى في الأبنية ما لم نر، ويقرأ فيها من أحجارها وأخشابها وأوضاعها ما لم نقرأ، ويستطيع أن يتخيل من الصور والأبنية والأشكال ما لم نتخيل، ويخرج إلى الوجود من المشروعات والتصميمات ما لم نستطع؛ وشتان بين موسيقى يدرك أدق شيء فيما يسمع، ويصغى إلى نفسه فيستخرج من الألحان ما نعجب به، وبين من ليس له أذن موسيقية فلا يميز بين صوت وصوت، فضلا عن خلق ألحان جديدة!
هناك وسائل كثيرة لتوسيع النفس، أكثرها شيوعا مزاولة الأعمال المادية مهما اختلفت هذه المادة ، فالنجار في نجارته، والحداد في حدادته، والتاجر في سلعه، والزارع في زرعه، كل يوسع نفسه ونفوذه في ناحيته. فممارسته العمل تنمي خياله في موضوعه، فيحلم بأشياء في ذهنه استخرجها إلى حيز الوجود بعمله، وكل التحسينات في الصناعات ناشئة عن هذه السعة في النفس التي تتبعها قوة الخيال وإصلاح الإنتاج.
وكل ما يباشره الإنسان ويتصل به يكون جزءا من نفسه؛ فبيتك الذي تسكنه، وأثاث منزلك ومالك وثروتك، كل هذا يتحد مع نفسك ويكون جزءا منها، من تعدى عليه فقد تعدى على نفسك، ومن عاب بيتك أو أثاثك أو صناعتك فقد عاب نفسك، ومن مدحها فقد مدح نفسك، وهكذا.
وهكذا الشأن في المعنويات، فمن ضروب توسيع النفس وسعادتها اتصالها بنفس مثلها، فقد تشعر النفس بضيق وظلام حتى تجد نفسا تألفها، فتشعر بالسعة بسد الضيق، والنور بعد الظلمة، وتشعر بلذة التجاوب بين النفسين، والتناغم بين الروحين، وهذا هو سر السعادة في الصداقة، والسعادة في الحب؛ فالنفس تشعر بسعتها، وأن نفسا أخرى انضمت إلى نفسها وتكونت منهما وحدة، تسعد كل بسعادة الأخرى، وتكمل كل نفس الأخرى، وتستمد كل نفس قوة من النفس الأخرى، وربما استطاعا بامتزاجهما أن ينتجا شيئا لا تستطيع أن تنتجه كلتاهما ولا هما معا غير ممتزجين، كالعنصرين يمتزجان فيكونان عنصرا جديدا ليس أحدهما وليس هما معا متفرقين منفصلين. وعمل الأنبياء والمصلحين أن يوحدوا الغرض بين النفوس، ويعملوا بتعاليمهم على توحيدها، فإذا الجمعية الأولى المتلفة حول النبي أو المصلح متحدة كأنها نفس واحدة، واسعة لأن كل نفس تشربت سائر النفوس، وإذا ما يصدر عنها مجتمعة يستدعي العجب. ومما ينشده كبار المصلحين المتفائلين في العالم تحقيق نظم اجتماعية وسياسية إنسانية تدرك هذه الحقيقة، فتوسع النفوس بالتوحيد بين أغراضها، والتأليف بين قواها، والقضاء على عناصر التفريق من وطنية وعصبية ودينية وقومية وجنسية ولغوية، حتى تتسع النفوس إلى أقصى حد ممكن، وتتجه كلها لخير الإنسانية على السواء، وإذ ذاك يقفز المجتمع الإنساني والمدنية قفزة لم يرها التاريخ؛ لأن التاريخ في جميع عصوره كان معوقا بالعصبيات القبلية والقومية، والحدود الجغرافية، والنزعات الوطنية والجنسية، والخلافات الدينية، وكلها مظاهر لضيق النفس.
ومن مزايا الدين توسيع النفس، وهو ما عبر عنه الإسلام بانشراح الصدر؛ ولعلك صادفت في حياتك أناسا ضاق صدرهم، وتغلب عليهم الشعور بأن القدر يعاكسهم، والحظ يعبس في وجوههم، وأنه كلما سلكوا طريقا سد أمامهم. إن الدين كفيل بإزالة هذا الشعور، وشرح الصدر وتوسيع النفس؛ فالمؤمن يشعر شعورا عميقا بأن قوة تؤيده وتكتسح الصعاب أمامه، وهو يشعر بانهدام السدود والحدود في طريقه، وهو يشعر بانعدام الزمان والمكان بضمه عالم الغيب إلى عالم الشهادة، واتصال الحياة الأخرى بالحياة الأولى، فهو واسع الرجاء، لا يعوق نظره عائق، ينجذب إلى عالم علوي فيه السعادة وفيه الرضا وفيه الطمأنينة. الدين الحق يغير النفسية فينقلها من عالم ضيق محدود إلى عالم فسيح غير محدود، كالذي حدث في عباد الأصنام في الجاهلية لما انتقلوا إلى الإسلام؛ فشتان بين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وأبي عبيدة وخالد بن الوليد الجاهليين، وبينهم أنفسهم وهم إسلاميون! ما أضيق نفسهم في حياتهم الأولى وما أوسعها في الثانية! وكما أفادهم الدين سعة نفس أفادهم قوة نفس؛ فمحال أن كان الجاهليون من العرب يفتحون ما فتحوا وينتصرون ما انتصروا إذا بقوا على دينهم الأول، ولو تجمعوا حول قائد حربي كبير؛ فإن انتصارهم يرجع إلى سببين كبيرين: التوفيق في اختيار قوادهم، وأهم من ذلك العقيدة بأنهم مؤيدون بقوة من عند ربهم. الدين هو الذي فتح أمامهم الأفق، وملأهم روحا للعمل؛ بل هو الذي غير موقفهم نحو الحياة، فجعل من الجبان شجاعا، ومن البخيل سمحا، ومن الشاك مؤمنا، ومن الجزوع مطمئنا - قد كانت النفوس قبله مكبلة ببعض أوهام من غضب الصم ورضاه، ومن عادات وتقاليد تشل العقل وتقيد الروح، فلما آمنت بإله واحد فوق كل شيء يرضيه الخير ويغضبه الشر، سمت سموا كبيرا. وفساد الدين يأتي من التعاليم التي تضيق النفس، وتحجبها عن عالمها العلوي الفسيح - فالنفس إذا اعتقدت في الخرافات ضاق حيزها، وإذا امتلأت رعبا وفزعا من النار وعذابها ارتبك حالها.
ومن أكبر ما أفسد الدين - في نظري - تزمت رجال الدين ومبالغتهم في وصف الله - تعالى - وصفا مخيفا مرعبا، بدل أن يصفوه - كما وصف نفسه - رحمانا رحيما يعفو عن كثير. وقادهم هذا النظر إلى التخويف من كل نعيم الحياة، حتى قالوا إن الضحكة يؤاخذ عليها، والأكلة الطيبة. وضع الحساب، ونادوا أن لا غناء ولا فرح، ولا سرور بالحياة - ما هذا كله؟ وكل ذلك يفسد النفس ويخلق منها مزاجا شيئا لا يصلح للحياة! إن الدين الحق يتفتح للحياة الدنيا كما يتفتح للحياة الأخرى، ويكون أساسه حب الله الذي يحب الناس، وأن في الدنيا جنة وفي الأخرى جنة. إن التزمات في الدين مغالاة في الحكمة حتى تعود سخفا، وحتى تحطم الحياة. الدين الحق يدخل السرور على القلب والنشاط على النفس؛ أما الحزن والخوف فيضيق الصدر، ويشل النفس ويبعث السأم. أصبحت الصورة التي يرسمها رجال الدين للمتدين - مع الأسف - صورة رجل منكس الرأس تواضعا، مملوء القلب رعبا، زاهد في النجاح في الحياة الدنيا طمعا في الحياة الأخرى، مغمور بالكرب خوفا من الموت وما بعد الموت، راغب عن متع الحياة، شديد المحاسبة لنفسه في كل ما يأتي وما يذر، عابس في وجه الحياة خوف أن تضله، منهمك في العبادة غير عابئ بحقوق الناس، يفر من الصوت الجميل، ومن الملبس الجميل، والنظافة الجميلة، والفكاهة الحلوة، إلى نحو ذلك.
وهذه الصورة التي رسمها بعض رجال الدين وزادوا فيها على اختلاف العصور تنتهي إلى رجل ضيق الأفق حرج الصدر لا يصلح للحياة، يستغل ولا يستغل ويحكم ولا يحكم، ويذل ولا يعتز، وفي ظني أنه يشقى في الدنيا ولا يسعد في الآخرة؛ فلو أراد الله منا العمل للآخرة وحدها، لاستغنى عن وجود الدنيا واختصرها - إنما الصورة الصحيحة للرجل الصالح رجل أحب الله أكثر مما خافه، وأحب الناس من حبه لله، وتفتحت نفسه للدنيا كما تفتحت للآخرة، ربط دينه بإسعاد الناس والتخفيف من متاعبهم، يضحك ويواسي، ويصلي ويتقن عمله، ويحسن علاقته بالله وبالناس، ويبسم للحياة ولا بأس بالموت إذا الموت نزل، ويرى الخير في أن يكون في الصدر في الدنيا وفي أعلى عليين في الآخرة، ويرفع رأسه في الدنيا لأن ذلك مقرون برفع الرأس في الآخرة، يوسع نفسه حتى تحتضن الإنسانية بأجمعها والكون وما فيه، يعتقد أن الدين في القلب لا في المظهر، والدين المعاملة لا العبادة وحدها، وأن خير الناس عند الله أنفعهم للناس - وقد كان هذا هو الدين الأول قبل أن يفسده المخرفون، وكانت هذه هي صورة المتدين قبل أن يشوها المتأخرون. لو كان الدين أتى أوله بمثل ما أتى به آخره ما تحرر أهله، ولا انتصروا ولا غروا، وكانوا طعمة لجيرانهم، أذلة في أنفسهم. إن الصورة الأولى التعيسة تملأ النفس شعورا بالضعة، وكما يعبر علماء النفس الآن تزيده شعورا «بمركب النقص»؛ بينما الصورة الثانية تبعث على التسامي. ومركب النقص يفقد الثقة بالنفس وبالرب، والتسامي يبعثها. إن للنفوس قوانين طبيعية لا تتخلف: احرم النفس طمأنينتها واملأها رعبا وجدردها من متع الحياة تفقد احترامها وقوتها، وأمدها بالمال الذي يلزمها وأصلح الظروف التي تحيط بها تتفتح وتحس القوة والعظمة. واعتماد النفس على إله مخيف ليس كاعتمادها على إله محب رحيم، وشتان بين شعور ابن نحو أب يحب ويرحم، ونحو أب يخيف ويرعب.
إن الدين الصحيح يغذي الشعور بالتسامي والتفوق، ويعالج الشعور بالنقص، والدين إذا فسد كان على العكس. الدين الصحيح ينقل النفس من «السوداء» والرعب إلى الطمأنينة والسعادة. إنه يوسع النفس حتى ترى بينها وبين الناس كلها، وبينها وبين المخلوقات كلها نسبا كنسب الأسرة الواحدة، ربها الله.
ويحدث في النفوس العظيمة أن تتصل بعالم غير منظور فيتسع أفقها اتساعا مضاعفا - وهي ظاهرة من الصعب إنكارها، وإن عز على العلم شرحها. وما نسميهم بنوابغ العالم وعظمائه هم من هذا القبيل؛ خلقت نفوسهم ولها الاستعداد والقدرة على هذا الإتصال، حتى لنرى هذا النوع - من كبار الأدباء والفنانين - يتعرضون لكتابة كتاب أو تصوير فكرة فيرتج عليهم ويصابون بالعقم، فما هو إلا أن يشعروا أن بابا كان مغلقا ثم انفتح فجأة، فاتصلت نفوسهم بعالم غير عالمهم، ورأوا ما لم يكونوا يرون. وتدفقت عليهم الإلهامات والمعاني والأفكار، حتى كأن الرواية أو الكتاب أو القصيدة أو الصورة الفنية أو القطعة الموسيقية تكتب نفسها؛ وهؤلاء يعالجون التعرض لهذا الوحي بأشكال شتى، ومعالجات نفسية، يستطيعون معها أن يستقبلوه، إما بنوع من العزلة والاستغراق، وإما بالتفكير في فكرة نبيلة، أو بقراءة كاتب ملهم مثلهم وتركيز النفس فيما كتب أو نحو ذلك. وليس أحد منا إلا من قرأ أو جالس عظيما فعجب كيف اتسعت نفسه هذه السعة، وكيف تتدفق منه الأفكار والآراء كأنها وحي منزل، وتفيض منه القوة حتى يعدي بها من قرأه أو سمعه. وعظماء رجال الدين من هذا القبيل تتسع نفوسهم لاتصالها بعالم روحي لا يقاس به عالم المادة. ويكاد يكون عند كل إنسان نوع من الاستعداد لهذا الوحي، ولكن الفرق بين النفوس كالفرق بين حبة ظلت حبة، وحبة وجدت جوها وغذاءها فأخرجت جذورا وجذعا وأغصانا وأزهارا وأثمارا. والتربية الصحيحة وتعاليم الدين الصحيحة هي التي تربي النفوس وتغذيها وتجعلها أقدر على أن تكمل نفسها وتوسع أفقها.
في الأدب العربي: عروة بن الورد
في عصر يوم زرت أستاذنا الجليل «أحمد لطفي السيد باشا» في مصيفه في «رأس البر»، وأخذنا نتحدث فنونا من الحديث، حتى وصل بنا إلى الأدب، فقال:
لفت نظري وأنا أقرأ في «الأغاني» اليوم ما حكاه من أن معاوية قال: «لو كان لعروة ولد لأحببت أن أتزوج إليهم» وأن عبد الملك بن مروان قال: «ما يسرني أن أحدا من العرب ممن لم يلدني قد ولدني إلا عروة بن الورد.
كيف يكون هذا ومعاوية هو ما هو في نفسه، وفي ملكه، وفي عظمته، وفي قومه، ثم يتمنى أن لو نال شرف الإصهار إلى عروة؟ وعبد الملك بن مروان، وهو ما هو في كل ذلك، يتمنى أن يستعيض عن نسبته إلى معاوية وأبي سفيان وبني أمية - هذه النسبة التي جلبت له الملك الضخم - بنسبته إلى عروة بن الورد؟
ومن هو عروة؟ صعلوك من صعاليك العرب. وكتب اللغة تعرف الصعلوك بأنه الفقير الذي لا يملك شيئا، ولا اعتماد له إلا على الغارة والتلصص.
كيف يستقيم ذلك في الأذهان؟ أحد أمرين: إما أن تكون هذه الأقوال المنسوبة إلى معاوية وعبد الملك غير صحيحة، وإما أن يكون فهمنا للصعاليك غير صحيح!
وجدت السؤال صعبا، والاعتراض وجيها، فلم أحر جوابا.
واليوم عدت إلى مكتب وذكرت السؤال فرجعت إلى ديوان عروة أتلمس الحل. وجدت أن عروة - كما يصفونه - كان عبسيا، من قبيلة عنترة، «وكان فارسا من فرسانها، وصعلوكا من صعاليكها المقدمين الأجواد، وكان يلقب بعروة الصعاليك، لجمعه إياهم، وقيامه بأمرهم إذا أخفقوا في غزواتهم، ولم يكن لهم معاش ولا مغزى».
ووجدت أن كلمة الصعلوك تطلق على معنيين متقابلين أتم التقابل، أحدهما في منتهى الخسة والضعة والذلة، والآخر في منتهى العزة والسمو والنبل؛ كلا المعنيين أساسه الفقر، ولذلك سمي كلا الرجلين صعلوكا، ولكن شتان ما بينهما؛ فأما أولهما ففقير كسول خامل، دنيء النفس، ساقط الهمة، يتلمس رزقه من السؤال، ويدور على الموسرين يتحننهم، ويستدر قوته الحقير من أيديهم، هذا صعلوك حقير. وأما الآخر فشهم شجاع، يتلألأ وجهه عند الشدائد، ويطلب رزقه من سن رمحه، فإن نال ما طلب طعم منه وأطعم، وأكل وآكل، وتزود وزود، حتى يأتي على آخره فإذا هو فقير، فهذا صعلوك نبيل.
ولم آت بشيء من عندي في هذا التفريق بين الصعلوكين، فقد عبر عروة عنه تعبيرا خيرا مما عبرت، وجلاه خيرا مما جلوت، فقال:
لحا الله صعلوكا إذا جن ليله
مصافي المشاش آلفا كل مجرر
1
يعد الغني من دهره كل ليلة
أصاب قراها من صديق ميسر
2
ينام عشاء ثم يصبح طاويا
يحت الحصى عن جنبه المتعفر
3
قليل التماس الزاد إلا لنفسه
إذا هو أمسى كالعريش المجور
4
يعين نساء الحي ما يستعنه
فيضحي طليحا كالبعير المحسر
5
ولك صعلوك صحيفة وجهه
كضوء شهاب القابس المتنور
6
مطلا على أعدائه يزجرونه
بساحتهم زجر المنيح المشهر
7
فإن بعدوا لا يأمنون اقترابه
تشوف أهل الغائب المتنظر
8
فذلك إن يلق المنية يلقها
حميدا وإن يستغن يوما فأجدر
9
وفي هذا المعنى وتقسيم الصعلوك إلى هذين القسمين أيضا قال حاتم الطائي:
لحا الله صعلوكا مناه وهمه
من العيش أن يلقى لبوسا ومطعما
ينام الضحى حتى إذا الليل جنه
تنبه مثلوج الفؤاد مورما
10
مقيما مع المثرين ليس ببارح
إذا نال جدوى من طعام ومجثما
11
ولكن صعلوكا يساور همه
ويمضي على الهيجاء ليثا مصمما
12
إذا ما رأى يوما مكارم أعرضت
تيمم كبراهن ثمت صمما
13
فذلك إن يلق الكريهة يلقها
حميدا وإن يستغن يوما فربما
14 •••
كان عروة صعلوكا بالمعنى الثاني، يلمع في وجهه ضياء الأمل والنشاط، ويترفع عن المعيشة الدنيئة، ويهابه أعداؤه، ويغير عليهم فيستغني منهم، ويفرق ماله على من حوله، ويعيش فقيرا نبيلا.
وحول هذه المعاني كلها كان شعره كله، فهو يسمى للمجد وحسن الذكر فإما مات في سبيله وإما ناله:
ذريني ونفسي أم حسان إنني
بها قبل ألا أملك البيع مشتري
أحاديث تبقى والفتى غير خالد
إذا هو أمسى هامة فوق صير
15
ذريني أطوف في البلاد لعلني
أخليك أو أغنيك عن سوء محضر
فإن فاز سهم للمنية لم أكن
جزوعا وهل عن ذاك من متأخر؟
وإن فاز سهم كفكم عن مقاعد
لكم خلف أدبار البيوت ومنظر
كان عروة اشتراكيا عمليا، لا اشتراكيا نظريا فحسب، يذكرنا بتولستوي على بعد ما بينهما في البداوة والحضارة، والأمية والثقافة، والزمن بين القرن السادس والتاسع عشر؛ ولكن الروح النبيلة فيهما واحدة فقد حمل «عروة» عبء الفقراء في قبيلته، وآلى ألا يستريح حياته أو يجدوا كفايتهم، وألف منهم فرقة تعمل معه وتسعى سعيه، وما نالوا فهو للجميع، ونفسه لا تهدأ من الشعور بهذا العبء:
ومن يك مثلي ذا عيال ومقترا
من المال يطرح نفسه كل مطرح
ليبلغ عذرا أو يصيب رغيبة
ومبلغ نفس عذرها مثل منجح
وليس عياله هم أولاده كما نفهم نحن اليوم، ولكن من يعولهم من أهله وفقراء قومه، كما تدل عليه سيرته.
وقد جمع «عروة» فقراء قومه حوله، وبنى لهم حظيرة يقيمون فيها، وهو يغزو بأشدائهم أعداءه وأعداءهم، فما جمع وجمعوا فرقة عليهم ، وساوى بين نفسه وبينهم، وسماهم اسما إن كان قبيحا اليوم فلم يكن قبيحا في عهده، سماهم «أصحاب الكنيف»، «الكنيف» الحظيرة تقام من الشجر فتقي من فيها الريح والتراب والبرد.
وكان له في الهجمات والغزوات رأي لطيف، وهو تقصي حال من ينوي غزوهم، فإن كانوا كرما، سمحا، تركهم ولم يغر عليهم، وإن كانوا أشحاء بخلاء أدنياء، تعمد غزوهم، وسلبهم ما في أيديهم، وأعطاه لأصحاب الحظيرة.
يحدثنا الرواة عن حادثة طريفة حدثت له، فقد كان «عروة» حياته في جهد متواصل من الغزو والقتال، وهذه هي أهم وسيلة من وسائل العيش في ذلك العهد، وكان إذا أصاب إبلا أطعم أصحاب الحظيرة منها، وقسمها عليهم قسمة عادلة، وأخذ لنفسه نصيبا مثل نصيب أحدهم؛ فأغار يوما ونال إبلا كثيرة، وسبى امرأة، فقسم الإبل بينهم، وأراد أن يستخلص المرأة لنفسه، فأتوا عليه حتى يطبق الاشتراكية تطبيقا دقيقا، وطلبوا إليه أن يقوم المرأة بالإبل ويجعلها سهما، فمن شاء أخذها ومن شاء تركها، أما أن يستصفيها لنفسه فلا. فغضب «عروة» أشد الغضب، وفكر أن يهد الحظيرة على من فيها، وينزع منهم ما أسدى إليهم، ويقتل من أبى عليه منهم، ولكن رجعت إليه نفسه الخيرة فقال: «إن فعلت أفسدت ما صنعت»؛ ثم نزل على حكمهم وترك المرأة لهم، وشكا في شعره الناس ونفسيتهم، يقول فيه إنهم كسائر الناس، ضعاف إذا جاعوا، لئام إذا شبعوا؛ وإني وإياهم كالأم والرءوم على ولدها الصغير ترضعه وتحمله، وتغذيه وتلببه، وترهن له ماء عينيها، حتى إذا تم شبابه، وأدرك خيره تزوج، فقلبت الزوجة الأم على ابنها، وسلبته قلبه بما تطيب له وتزين فحارت الأم في أمرها، إما أن تخسر ابنها إذا تنكرت له، أو تصبر على الألم من أن تكون زوجته آثر عنده منها، فدفعتها الشفقة أن تختار الثانية، وهذا ما كان منه مع أصحاب الحظيرة، فذلك قوله:
ألا إن أصحاب الكنيف وجدتهم
كما الناس لما أخصبوا وتمولوا
وإني لمدفوع إلى ولاؤهم
بماوان إذ نمشي وإذ نتملل
16 •••
فإني وإياكم كذي الأم أرهنت
له ماء عينيها تفدى ونحمل
فلما ترجت نفعه وشبابه
أتت دونها أخرى جديد تكحل
فباتت لحد المرفقين كليهما
توحوح مما نابها وتولول
17
تخير من أمرين ليسا بغبطة
هو الثكل إلا أنها قد تجمل
18 •••
أكبر ميزة لعروة أنه كان رجلا، وكان يشعر بالناس أكثر مما يشعر بنفسه، واخترع لذلك المعنى التعبير الفني الجميل «أقسم جسمي في جسوم كثيرة»، أي أقسم ما يلزم لجسمي من طعام في أجسام الناس، ثم هو لا يعبأ بهزاله إذا سمن قومه، ولا يعبأ بالأعباء يحملها لتخفيفها عن عشيرته، وقد لخص هذه النظرات في وصف نفسه بقوله:
إني امرؤ عافى أنائى شركة
وأنت امرؤ عافى أناثك واحد
19
أتهزأ مني أن سمنت وقد ترى
بجسمي مس الحق والحق جاهد
20
أقسم جسمي في جسوم كثيرة
وأحسو قراح الماء والماء بارد
21
لعل هذه المعاني النبيلة وأكثر منها هي التي جعلت معاوية يتمنى أن يصاهره، وعبد الملك يتمنى عروة أن يكون أباه؛ وهذا سمو في تفكير معاوية وعبد الملك عظيم، وتقدير لمعاني النبل كبير.
في الطريق
مررت أمس في الشارع فرأيت «عسكري المرور» يرفع يده أو يصفر، فيقف كل من في جانب، ويتحرك كل من في جانب، ولا من يجرؤ على مخالفته، كأن في يده عصا سحرية ترغم على الطاعة.
الحوذيون يطيعون، وسائقو السيارات بما يحملون من بكوات وباشاوات وآنسات وسيدات يطيعون، والمارة على أرجلهم يطيعون، فما كل هذه العظمة؟
ليت هذا السحر في لسان المعلم، يأمر وينهي تلاميذه فيطيعون، فإني أرني لجالهم يأمرون فيعصون، وينهون فيعصون، وهم وتلاميذهم في نزاع دائم، وحرب مستمرة، ويذهب المعلم آخر النهار كأنه ضرب مائة سوط من كثرة المحاكمة والمخاصمة.
وليت هذا السحر كان للمصلحين، فقد بح صوتهم ولم يسمع نداؤهم، فطالما قالوا للأغنياء تبرعوا للفقراء فلم يتبرعوا، وللكسالى جدوا فلم يجدوا، وللحكام اعدلوا فلم يعدلوا، وذهبت أقوالهم في الصحف والمجلات والكتب والخطب أدراج الرياح، ولو منحت أقلامهم وألسنتهم قوة «عسكري المرور» لصلحت الأمور في لحظة، وتقدمت الأمة ألف خطوة في لمحة.
وليت هذا السحر كان للآباء والأمهات في البيوت، فإنا نجد الأسرة نارا متقدة، ونزاعا حاميا، يأمر الأب فيعصي الابن، وتنهى الأم فتخالف البنت، فلو كانت لهم سلطة في البيت كسلطة «عسكري المرور» لشملت البيت السعادة ولفته الطمأنينة والهدوء.
وليت للحكومة هذا السحر تصدر أوامرها فلا يتلاعب فيها، وتصدر التعليمات في التموين وغير التموين فلا يتحايل في العبث بها، كما لا يستطيع أن يتلاعب المارة بأوامر «عسكري المرور».
الحق أن هذا السحر حيرني في تعليله!
الشخصية (عسكري المرور؟) كلا! فمنهم ضعاف الشخصية ويسمع لقولهم كأقوياء الشخصية سواء بسواء، حتى لو استعضت عن هذا العسكري بقطعة زجاج ملونة حمراء وخضراء وراءها مصباح عادي لكان لها هذا السحر.
أم لأن وراء العسكري قوة القانون؟ وهذا أيضا غير صحيح، فقوة القانون وراء كل الأوامر التي تصدرها الحكومة، ومع ذلك تخالف سرا وجهرا، ويتحايل على الهرب من أوامرها ونواهيها حيلا لا تحصى.
قلت ربما كان السبب أن تنفيذه تحت سمع الجمهور وبصره، فمخالفته مخالفة صريحة وراءها العقوبة الحتمية السريعة وهي ازدراء الجمهور للمخالف؛ ثم وجدت أيضا أن هذا لا يكفي، فالجمهور بحمد الله ليس له من القوة ما يخيف، وليس له من الغيرة على تنفيذ القوانين ما يخجل من مخالفتها.
وقلت: لعل السبب تعرض المخالف للخطر! ولكن رأيت هذا الأمر يطاع حتى في ساعة قلة الازدحام وعدم احتمال الخطر.
وأخيرا حرت في بيان السبب فتركته للقراء.
انتقل ذهني بعد ذلك - بحكم تداعي المعاني - إلى مسألة متصلة بها، وهي هل الأوامر والنواهي تختلف قوة وضعفا؟ ولماذا واللغة واحدة والفعل فعل أمر، ولا لا الناهية، والنحويون لم يفرقوا بين أمر وأمر، ونهي ونهي، ففعل الأمر مبني دائما، وفعل النهي مجزوم أبدا؟ ومع هذا نرى دنيا الواقع تخالف دنيا النحو.
فهناك أمر عسكري المرور، وهو في القمة من الحتم والجزم وقوة التنفيذ.
وهناك أمر الطبيب ونهيه للمريض بأن يأكل كذا ويمتنع عن كذا، وهي أوامر ونواه قوية، ولكنها لا تبلغ قوة الأول، فكثيرا ما يهزأ بها المريض ولا يعيرها اهتماما، ومع ذلك فلها قوتها على قدر رغبة المريض في الصحة وإيمانه بالطبيب.
وهناك أوامر الواعظين في المساجد والمجتمعات العامة، وما أضيعها!
وهناك أوامر المعلمين لتلاميذهم بأن يلتفتوا إلى الدرس، ويؤدوا الواجبات في منازلهم في حينها، وهي أوامر حالها كحال أوامر الوعاظ.
وهناك أوامر «العسكري» حين يجاوز المرور إلى الباعئين والبائعات، وحينئذ يفقد سلطانه، وتصبح أوامره أضيع من أوامر المعلمين.
وهناك أوامر التسعيرة في تحديد أثمان السكر والورق، وما إلى السكر والورق، ولا أستطيع أن أقول فيها شيئا.
وإذا كانت الأوامر تختلف هذا الاختلاف، فواجب علم النحو الحديث أن يقسم فعل الأمر إلى أقسام متعددة، ففعل أمر بوليسي، وفعل أمر تعليمي وفعل أمر تمويني الخ، لأن لكل عصر نحوه وتصريفه. •••
وانتقلت بعد ذلك من فعل الأمر في علم النحو إلى فعل الأمر في علم النفس، فمعلم يأمر فيطاع، ومعلم يأمر فيعصى، والأمران متشابهان، والتلاميذ واحدة حتى قد يكونون في فصل واحد؛ وواعظ يأمر فيبكى، وآخر يأمر فيستهزأ به، وقد يكون كلمهما دائرا على معنى واحد؛ وأب يأمر فيطاع، وأب يأمر فيعصى.
وخرجت من ذلك إلى أن فعل الأمر وحده لا يكفي في التنفيذ، وإنما يحمل على التنفيذ أمران ممتزجان أتم الامتزاج، فعل الأمر ونفسية الآمر، فإذا كانت نفسية الآخر نفسية قوية وجدت السامع تتخاذل نفسه أمام الأمر، وأحس أنه أمام قوة كهربائية هائلة، فاضطر إلى تنفيذ فعل الأمر رغم أنفه؛ وإذا كان فعل الأمر صادرا من نفسية ضعيفة، أوعز هذا الضعف إلى السامع العصيان أو الاستخفاف - ذلك أن النفس الإنسانية مولعة بحب الأمر، لأنه مظهر السلطة؛ حتى الأطفال في ألعابهم يسرهم أن يمثلوا في بيوتهم مع الخدم أو نحوهم موقف المعلم أو الأب في أمره ونهيه؛ والنفس الإنسانية أيضا مولعة بالعصيان، لأنه إذا كان الأمر والنهي مظهر السلطة والشخصية، فالطاعة والامتثال مظهر ضياع الشخصية؛ لذلك كانت النفس أميل إلى العصيان ما لم تشعر بقوة الآخر وسلطان الناهي. وفعل الأمر والنهي في ذاته لا قيمة له، فهو لفظ سيال، ينتهي بمجرد النطق، وإنما الأثر الحقيقي أثر النفس، فهي التي تضيق على المأمور الخناق حتى تلزمه التنفيذ.
وشيء آخر، وهو أن المأمورين والمنهيين عندهم حاسة عجيبة يدركون بها تمام الإدراك حال الآمر والناهي من صدق أو تهريج، ومن حرارة قلب أو برودة نفس، ومن إخلاص أو نفاق، فإن شعروا بالصدق والحرارة والإخلاص خضعوا، لأن ذلك كله قوة ملزمة، وإن شعروا بالتهريج والنفاق تنمروا، لأن ذلك ضعف يتستر بالقوة، فإذا نفذوا وراء الستار أدركوا حقيقة الضعف. •••
ثم انتبهت من تفكيري، فإذا أنا قد جاوزت عسكري المرور بمراحل، وضللت قصدي من غير وعي، فقلت: كم يجني فعل الأمر!
خطرات في اللغة
(1)
لاحظت أن اللغة تؤدي معانيها في دقة وإحكام في مواد العلوم كالرياضة، والطبيعة، والكيمياء، ومصطلحاتها مضبوطة قل أن يعتريها غموض أو إبهام، وقريب من ذلك التاريخ، فاللغة قادرة على أداء معانيه وحمل رسالته أداء حسنا، وإن لم تبلغ في ذلك مبلغ العلم؛ فإذا نحن جاوزنا ذلك إلى الفلسفة والأدب، رأينا اللغة مسكينة عاجزة عن أداء المعاني في وضوح وضبط وإحكام، حتى المصطلحات، من الصعب تعريفها وضبطها، فما أصعب أن تعرف «الوجود»، و«الحقيقة»، و«ما وراء الطبيعة»، وما إلى ذلك، وما أصعب ما تعرف «الشعر» «والأدب» و«الخيال» ونحوها؛ وكذلك في فروع الفلسفة والأدب، فمن الصعب تعريف «الجمال والجميل»، و«الفضيلة والرذيلة»، و«الزمان والمكان» و«العدل والحرية»؛ ومن العسير تعريف «القصة والرواية والمثل»؛ وما أكثر ما يقع الناس في الجدل والحجاج؛ لأن كلا يتكلم وفي ذهنه معنى للشيء غير ما عند الآخر، ولو اتفقوا على التحديد لاتفقوا على النتائج! ولا أنسى حادثة رويت لي، وهو أنه - منذ سنين - أرادت حكومة العراق التعاقد مع الحكومة المصرية بالمراسلة والخطابات، فكان الاتفاق مستحيلا؛ لأن كلتا الحكومتين كان لها معنى خاص في مصطلحاتها لا تفهمه الأخرى، ولم يتم الاتفاق حتى تمت المشافهة والاتفاق على معاني المصطلحات. وسمعت محاضرة لفاضل عراقي في التربية، فثار جدل حول الموضوع تبين أن سببه الاختلاف في المصطلحات، فهم يطلقون اسم «المدارس الداخلية» على غير ما نطلق، ويسمون «الفصل» ما نسميه نحن بالسنة، ويسمون الترفيعات ما نسميه نحن بالترقيات، ويسمون «مدارس الحضانة» ما نسميه نحن برياض الأطفال؛ وهكذا. (2)
من أسباب وقوع الناس في الخطأ اللغوي عدم دقتهم في الاستنتاج؛ فهناك عقول تستنتج من الجملة أكثر مما يلزم، وهناك عقول تستنتج منها أقل مما يلزم، وكلاهما خطأ - إذا قلت: إن «الغول مرعب» فاستنتجت منه أني أقول: إن الغول موجود، فقد اخطأت، واستنتجت أكثر مما يلزم؛ لأن الخيال قد يرعب، والوهم قد يرعب، ولو لم يكن الشيء موجودا. وإذا حدثتك عن فرس بأنه أشهب، فاستنتجت أني أقول إنه موجود، كان استنتاجك صحيحا. ومن الناس من لا يفرق بين القضيتين - وليس الأمر مقصورا على الجمل، بل دلالة الألفاظ على المعاني تختلف جد الاختلاف بين الأشخاص بحسب مدنيتهم وثقافتهم وعقليتهم، فإذا قلت: «كرسي» لم يكن معناه عند الفلاح القروي كمعناه عند المدني المتحضر، وكذلك الشأن في كلمة «بيت»، و«دولاب»، و«سرير»؛ وإذا قلت: «علم الحساب» فمفهومها عند الصانع المتعلم تعلما بسيطا ليس كالمعنى الذي يفهمه العالم بالرياضيات، وهكذا، وهذا ما يجعل الناس إذا اختلفت مدنياتهم وعقلياتهم وثقافتهم لا يتفاهمون تفاهما صحيحا. ومن أسباب ذلك عدم دلالة الألفاظ على معان واحدة في الرءوس المختلفة، ولا تصدق أن معاجم اللغة تستطيع أن تشرح دلالة الألفاظ شرحا تاما صحيحا، فلكل كلمة هالة غير معناها الأصلي يعجز المعجم عن شرحها، فدنيا الأطفال التي تعين على شرح الألفاظ غير دنيا الرجال، ودنيا الفلاح غير دنيا المتمدن، ودنيا الجاهل غير دنيا العالم، وكل يفسر الألفاظ حسب دنياه. (3)
يتصل بهذا أن كل لفظ من ألفاظ اللغة يوحي بأشياء تختلف باختلاف الأشخاص حسب بيئتهم وتجاربهم في الحياة وغير ذلك، فكلمة أبيض توحي إلى الفلاح باللبن، وقد توحي إلى الطفل بالسكر، وقد توحي إلى سكان البلاد الباردة بالثلج، وكلمة «وزير» توحي إلى الشرقيين بمعان غير ما توحي بها عند الغربيين؛ وكلمة «العيد» توحي إلى الأطفال بمعنى الثياب الجديدة والأراجيح، وعند أطفال آخرين بالهدايا تهدى إليهم، وعند الرجال بالزيارات والتهنئات الخ؛ ولكمة «البرلمان» و«نظام الحكم» توحي بمعان مختلفة في الأفراد المختلفة والأمم المختلفة. وهذا سبب آخر من أسباب الاختلاف بين الناس في الإفهام والفهم، فوحي الألفاظ عند الناس يختلف اختلافا كبيرا.
بل قد يكون اللفظ يوحي بمعنى عند الناس في عصر لارتباطه بحادثة أو نادرة، فإذا نسيت الحادثة انقطع وحي اللفظ، فمنذ حين كانت كلمة «تعديل الأساس»، و«ردم البرك»، و«الحكم الصالح» تستثير منا الضحك لإيحائها بمعان خاصة في ظروف خاصة، فلما زال الإيحاء زال التأثير - أعتقد أنا فقدنا كثيرا من كتب الجاحظ وقطع الأدب الاجتماعي؛ لأن بعض ألفاظها وجملها كانت توحي بمعان معروفة، فلما تقادم الزمن جهلت فبطل سحرها - إن شئت فاقرأ رسالة التربيع والتدوير للجاحظ، وهي تدور حول السخرية من «أحمد ابن عبد الوهاب» تشعر بغموض في بعض الجمل والإشارات، وسبب وغموضها أنها كانت إشارات إلى أشياء مفهومة في زمنها، ثم انقطع وحيها فغمض معناها. (4)
ما وظيفة اللغة؟ يخطئ من يظن أن اللغة تؤدي غرضا واحدا، وهو نقل المعنى من ذهن، فلها أغراض أخرى كثيرة قد يصعب حصرها، وقد يبعد إدراكها؛ فمن أعجب أغراضها أنها أحيانا تستعمل لتخدير الأعصاب، كتعزيمات السحرة مثل ألفاظ «شمهورش»، و«جلجلوت»، ونحو ذلك، فهي لا تؤدي معنى، ولكن تخدر الأعصاب بغرابتها وتأليف حروفها، ولذلك لا يصح أن نحاول كثيرا فهم سجع الكهان فهما تاما، فهي لم يقصد منها الإفهام التام بقدر ما قصد منها التخدير، والمعاني المحلولة؛ وأحيانا يقصد بالألفاظ مجرد ما توحيه من نغمات موسيقية لها أثرها النفسي كأثر الموسيقى - ولذلك لم تكن تخلو الأدعية الدينية - إذا تليت في المعابد بلغة أجنبية - من أثر قد يكون بالغا، لأن الألفاظ توحي بمعان سحرية موسيقية، وإن لم تفهم معانيها الأصلية، وهذه لغة الإنسان الأول كانت صيحات متشابهة اللفظ، ولكنها أحيانا تدل على الخوف، وأحيانا على الغضب، وأحيانا على طلب النجدة، وأحيانا على التحذير من خطر، وإنما تختلف دلالتها باختلاف موسيقاها، وكذلك كان الشعر في أول أمره، غامض المعنى، دالا بالموسيقى - فليس نقل المعنى من ذهن إلى ذهن هو الغرض الوحيد، إلا في الكتب التعليمية في العلوم، والحوادث المحية في الجرائد، وجدول الضرب، وقانون اللوغاريتم، ونحو ذلك، مما ليس فيه اتصال ما بين المؤلف وعواطف القارئ. (5)
للغة أساليب مختلفة في أداء المعنى الواحد؛ فهناك دلالة تصريحية، وهناك دلالة تضمينية، فإذا أراد أحد أن يقترض منك، فقلت له: «لا أقرضك» فهذه دلالة تصريحية، وإذا قلت له: «ليس عندي نقود» أو «إني مدين» أو «قد كنت فكرت أن أطلب منك ما تطلب مني»، فهذه كلها تدل على عدم الإقراض بطريق التضمين - واللغة ترتقي من طريق الدلالة التضمينية أكثر مما ترتقي من طريق الدلالة التصريحية، وكلما ارتقى ذوق الفرد أو الأمة شعر أن ما يناسبه هو التلميح لا التصريح. والدلالة التضمينية لا الدلالة التصريحية - وهذا من أهم الفروق بين لغة العلم ولغة الأدب، فلغة العلم أقرب ما تكون إلى الدلالة التصريحية، ولغة الأدب تسودها الدلالة التضمينية - لغة المعادلات الجبرية وشرح النظريات الهندسية، وقوانين الطبيعة والكيميا لغة تصريحية، ولغة الشعر لغة تضمينية؛ والمجازات والاستعارات والتشبيهات والكنايات كلها دلالات تضمينية.
وقد دل البحث النفسي، على أن استمالة النفس من طريق الدلالات التضمينية أقوى وأفعل من الدلالة التصريحية، ولذلك كانت الدلالة التضمينية لغة الخطباء والأدباء والشعراء والوعاظ ورجال السياسة ورجال الدين؛ فالقصص ذات المغزى، والعبرة بأخبار الأولين، والأساطير الرمزية كأساطير اليونان، وتحريك الوطنية بالشواهد والأمثال، وتحميس الأمة للمشروعات الاقتصادية والاجتماعية، ونداء المصلحين، كل هذه تعتمد على الدلالة التضمينية أكثر مما نعتمد على الدلالة التصريحية لهذا السبب النفسي، وهو أن النفس أكثر استمالة من هذا الطريق. والسبب في هذا على ما يظهر أن الأوامر والنواهي العريانة تشعر المأمور والمنهي بالضعة، ولذلك كان أقصى أنواع الزجر الأمر الصريح، «كامش، واخرج، واذهب»، مصحوبة بالنغمة التي تدل على تعالي الآمر؛ أما في الدلالة التضمينية فقد سمح المتكلم للمخاطب باستعمال عقله في الاستنتاج وفهم الأمر من طريق خفي، فإذا هو استنتج الأمر فكأنما هو الآمر لنفسه، وهو إذا أمر نفسه لم تكن هناك غضاضة عليه، وهذا يوضح لنا ما للعلاقة القوية بين اللغة والتفكير والخيال والإرادة.
ونكتفي اليوم بهذا القدر من الخطرات اللغوية، وسنتبعها بمثلها إن شاء الله.
في الهواء الطلق(4)1
كانت الرحلة هذه المرة إلى رجل كبير قد طوى مراحل الشباب، وصحب الأيام الخالية، تقوس ظهره وأعوجت قناته من طول ما حمل من أعباء العيش؛ خبر الحياة حلوها ومرها، وعرف حياة الفلاح في حقله. والموظف في مناصبه المختلفة، ومكنته ظروفه أن يخالط الأعيان ويدرس أحوالهم، والطبقة الأرستقراطية ويعرف تقاليدهم، وقوانينهم وتزمتهم، ورجال السياسة واتجاهاتهم وأساليب تفكيرهم وتهريجهم، وشاهد معامع خلافاتهم، وانغمس في تيارهم، ثم نفض يده من كل شؤونهم؛ وفي طول حياته يجاري الحركة الفكرية والأدبية والفلسفية في الشرق والغرب، ويتذوقها وينقدها، ويدلي بآرائه فيها.
زرته في ضاحية من ضواحي القاهرة ضحى، والجو بارد، والشمس جميلة تبعث بدفئها فتنعش النفس، وترد الحياة.
تبادلنا التحية، وتكلمنا في الجو والبرد، والسياسة والحرب؛ ثم قال: هل لك في مشية خفيفة في هذه الشمس اللطيفة؟ فقلت: أنعم بها وأكرم، وسحب عصاه.
وبعد قليل كنا في الهواء الطلق، والجو النقي، والسماء الصافية، والشمس الساطعة؛ وتنقلنا في الحديث إلى أن وصلنا إلى العجب من اختلاف الناس في آرائهم، وتعدد اتجاهاتهم في تفكيرهم، وكيف يلعب بالحق ويخفى وجه الصواب؛ فحركت من الشيخ كامن شجنه، وعميق فكره، فقال: إن الخلاف في الرأي يرجع - في نظري - إلى أسباب كثيرة؛ وهو موضوع لطيف، قرأت فيه بعض كتب إفرنجية، وجربت فيه تجارب شخصية، ولا يزال يعلق شيء منها بذهني الذي أدركته الشيخوخة، ولعلها قوسته كلما قوست ظهري، وشيبته كما شيبت رأسي، فأصبح يرى الأمور كما يراها الناظر خلال منظاره، ومع ذلك فمن الذي يستطيع أن ينظر إلى العالم مجردا من منظار؟ إن كل إنسان ينظر إليه من خلال منظاره الأحمر أو الأصفر أو الأسود أو الأبيض؛ وللشباب منظاره، وللشيخ مناظره؛ وكل إنسان ينظر إلى العالم من خلاله، وتحول بينه وبين إدراك الحقيقة شهواته أحيانا، وكل يسمي ما يراه الحق.
وقد استفدت من مطالعاتي في المنطق أن أحدد موضوعي وأحصر كلامي في نقطة حتى أستوفيها طاقتي، سواء في ذلك إذا أردت أن أفهم أو أردت أن أتحدث، ورأيت ذلك أجدى وأنفع؛ وأكره ما أكره تشتت الذهن في الفهم، وتشقق الحديث في القول - ففي موضوع كهذا نرى أن أسباب الخلاف بين الناس كثيرة بعضها يرجع إلى اللغة، وبعضها يرجع إلى درجة الثقافة، وبعضها يرجع إلى اختلاف الأغراض والشهوات، وبعضها يرجع إلى اختلاف الأمزجة، ونحو ذلك. فأحب إذا تحدثت أن أتحدث في نقطة حتى أستوفيها، ثم أعطف على غيرها، ولا أحب أن أتكلم كلمة من هنا وكلمة من هناك؛ فاختر ما تحب أن نبدأ به.
قلت: فلنبدأ من آخرها، فذلك أشهى إلي.
قال: وهو أيضا أحب إلي.
وكنت ألاحظ أنه يرقب السماء والشمس، وأخيرا أدركت أنه يخشى أن تحول بينه وبين الشمس سحابة تذهب بدفئها وتعرضه للبرد والزكام، فإذا رأى سحابة قدر البعد بينها وبين الشمس، وحسب حساب الزمن الذي تقطعها فيه، فقلت في نفسي: يالله من الكبر؛ وما أقسى الوقوف على ساحل الحياة!
ثم اطمأن إذ ودع آخر سحابة تسير من الغرب إلى الشرق، واستمر في حديثه فقال: هب أن عقل الناس كلهم وتفكيرهم المنطقي واحد، فإنهم في أمزجتهم مختلفون، والفكر الإنساني لا يتكون ولا يظهر في الخارج - بالحديث أو الكتابة - إلا ممزوجا بالمزاج، ويكاد كل إنسان يكون له مزاجه الخاص به. ويتبع ذلك أن يكون لكل إنسان تفكيره الذي يظهر في قوله أو فعله أو كتابته، ولكن - لأجل التقريب فقط - قسم الأستاذ «وليم جيمس» المزاج الإنساني إلى قسمين هامين، ويكاد كل إنسان يكون من أحد هذين القسمين: «غليظ العقل» و«رقيق العقل»، كما نقول: غليظ القلب، ورقيق القلب؛ ولكل منهما مظاهر، فغليظ العقل - عادة - واقعي يؤمن بما يعتمد على التجربة والاختبار والحواس فقط، مادي، متشائم، ملحد، متعصب شره، شكاك.
وعلى العكس من ذلك أخوه «رقيق العقل» مثالي، متفائل، متدين، حر الفكر، قانع، مطمئن إلى عقائده.
وقد يتلون الناس ألوانا مختلفة، ولكن إذا حللت ألوانهم رأيتها ترجع في النهاية إلى هذين اللونين.
ولهذا ترى أن الناس - فيما يختارون من المذاهب الدينية والفلسفية، بل والسياسية، وما ينظرون إليه فيما يعرض عليهم من المسائل اليومية، ونظراتهم إلى الله وإلى الحياة، وعواطفهم وميولهم وأخلاقهم - متأثرون بما فطروا عليه من أحد هذين المزاجين أكثر من تأثرهم بفكرهم المنطقي المجرد.
من أجل هذا كان الوجود كله معروضا أمام الناس كلهم على السواء، ولكن كل يقرؤه بعينه الخاصة، ويشعر به بشعوره الخاص، وكل ينجذب إلى أشياء لا ينجذب إليها الآخر، ولا سبب لهذا إلا عقله الغليظ أو الرقيق، ومزاجه الطبيعي المفطور عليه.
هذا الشاعر الذي لا يرى في الحقل إلا جماله، لا يرى فيه المالي إلا غلته؛ وهذه جماعة تنظر كلها إلى امرأة واحدة، ينظر أحدهم إلى جمالها الظاهر من جسمها فيهيم بها، وينظر الآخر إلى سوء حديثها وقبح معانيها فينفر منها، ويقومها الثالث حسب ثروتها وما ينتظر أن تناله من ميراث أبويها فيحبها أو يكرهها، حسب علمه بمالها، ولا يقومها الرابع إلا بمقدار صلاحيتها لأن تكون ربة بيت، ومربية نسل، والمرأة المرأة، وإنما اختلف النظر، وإنما اختلف النظر باختلاف المزاج؛ وقديما قالوا: «كل يغني على ليلاه».
أرأيت الأكل أصنافا وألوانا، يستورد كل يوم لحديقة الحيوان من حشائش وبقول ولحوم، ثم يأكل كل صنف من الطيور والحيوان ما يتفق وطبيعته؟!
أو رأيت الأسواق العامة للمأكل والملبس والمشرب؟ يأتي إليها الناس فيتخيرون ما يشترون، كل حسب مزاجه، ويعجب كل كيف اختار غيره غير ما اختاره؛ كذلك الشأن في الآراء السياسية والدينية والاجتماعية والأخلاقية، إنما يقع عليها الشخص منجذبا بمزاجه لا بمنطقه، ثم من غفلته يظن أنه حر الإرادة حر الاختيار.
وهنا تعب الشيخ، فاقترح العودة، ثم قال: هذا سياسي من الصنف الغليظ العقل، قد اتخذ السياسة مغنما، يختار المذهب الذي يرى أنه يدر الربح عليه أكثر، ويتخذ السياسة مصعدا يصعد عليه في ماله وجاهه ونفوذه، وليست السياسة عنده إلا كسب المال أو انتهاز كسبه؛ وهذا سياسي آخر من الصنف الرقيق العقل، مثالي ، يرى السياسة مغرما، وهي ليست إلا وسيلة إلى إصلاح قومه قدر جهده، فهو يضحي لذلك من ماله وزمنه خدمة لمبدئه. وليس الفرق بين الاثنين إلا الفرق بين المزاجين.
ونجد هذين النوعين في الأمم المختلفة راقيها ومنحطها قد يختلفون في العرض، ولكنهم يتحدون في الجوهر.
وكذلك الشأن في الدين.
وكنا قد وصلنا في عودتنا إلى حديقة جميلة في أطراف الضاحية، فوجدنا مقعدا خشبيا فقعدنا، فإذا نظرنا عن قرب فالحشائش الخضراء الجميلة، والنخيل التي تبهر بقوامها اللطيف وغصونها المتهدلة، فإذا مددنا الطرف فالصحراء وما لا نهاية - وبدأ الشيخ يشكو التعب وكبر السن فحركته ليتم حديثه، فسأل: إلى أين وصلنا؟ فقلت: الدين.
قال: نعم، إن الدين كذلك تابع للمزاج، فمهما حارب العلم الدين، ومهما دعا الملاحدة إلى الإلحاد، ومهما قاوموا العقيدة، فالناس في كل عصر قسمان: قسم لا يريد أن يؤمن إلا بالحواس وقواعد المنطق الجافة؛ وقسم يدعوه قلبه إلى الإيمان. ولهؤلاء حجج ولهؤلاء حجج، ولا نظن أن العقل هو الذي يعمل وحده في تأليف الحجج، بل إن المزاج هو الذي يوحي إلى العقل بها وتكوينها وتشكيلها. والتصوف والزهد ليس إلا مزاجا؛ ومهما حاولت أن تجعل من الملحد صوفيا فلن تستطيع، لأن تغيير المزاج في حكم المستحيل. فذو المزاج الذي سميناه «رقيقا» ينظر إلى العالم فيرى فيه أشياء لا تفهم ولا تشرح، فيهيم بها، ولايستطيع أن ينكرها، فيوليها احترامه وتقديسه، على حين أن الغليظ المزاج يتخذ من غموضها وعدم فهمها وسيلة لجحدها. ويحترم كل الاحترام حواسه ومنطقه، فينكر ما وراءها، ويصيح: إن الله، والخلود، والحياة الأخرى، والوحي، وما إلى ذلك لا أحسها ولا أهتدي إليها بالمنطق الصرف، فأنا أنكرها احتراما لحواسي ومنطقي. ويجادله الأول: ما حواسك وما منطقك؟ إنك كلما وثقت بها زدت عمى، وهي ليست إلا وسائل لإدراك التافه من الأمور، وخدمة الشهوات، ومن الحمق والمنطق الرخيص أن تغمض العين عما لم تدركه حواسك وقواعد منطقك، وتحل مشاكله بإنكارك السهل، فيكون مثلك مثل من عجز عن حل مسألة حسابية أو تمارين هندسية ، فأنكر وجودها بدل أن يحاول حلها بأساليب جديدة غير التي جربها - وهكذا، وهكذا، يطول النزاع والجدل، والمسألة في الواقع مسألة مزاج.
وسعل الشيخ سعلة شديدة، احمر منها وجهه ودمعت عينه، فرثيت لحاله؛ ولكن عز علي انقطاع حديثه، فتكلمت كلاما خفيفا في غير الموضوع، حتى عادت إليه نفسه، واستراح نفسه، ثم حركته من جديد، فقلت: ولكن إذا كانت مسألة الدين مسألة مزاج، فكيف تفسر من كفر بعد إيمان، أو آمن بعد كفر؟ أتغير مزاجه، وقد فهمت من قولك استحالة تغييره؟
فسكت قليلا ثم قال: إن أخذت بالظواهر فاعتراضك صحيح، ولكن إن دققت النظر فغير صحيح. إني أعتقد - مثلا - أن الذين لبوا دعوة النبي في أول الأمر كانوا من ذوي المزاج الرقيق الذي ينزع إلى الدين، وكانوا يتدينون في جاهليتهم، فلما جاء الإسلام سهل عليهم التحول من دين غير صحيح إلى دين صحيح، والنزعة الدينية واحدة؛ وهناك بعد قوم أسلموا رغبة في مغنم، أو خوفا من سيف،أو نحو ذلك؛ وأنا لا أنظر في قولي إلى الأشكال، وإنما أنظر إلى القلوب، ويعجبني الحديث: «الناس معادن، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام»، والحديث: «إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم». إن الذين يؤمنون إيمانا تجاريا خارجون من حسابي، وكذلك الذين يكفرون كفرا تجاريا.
وقد قرأت عن بعض العلماء المحدثين أنهم شغلوا بالعلم وتعمقوا فيه واستسلموا له، وغمرهم تياره فكفروا بالدين، ولكن مع هذا كله ظل أمر الدين ساكنا في أعماق قلوبهم؛ ووصف بعضهم أحدهم - ولا أذكر اسمه الآن - فقال: «إنه كفر عقله وآمن قلبه»، وذلك لأن مزاجه من النوع الرقيق الذي يؤمن رغم أنفه.
والآن أظنك توافقني على أن كل إنسان يخرج من عقله وقلبه وعواطفه ومزاجه خيوطا خاصة به، يؤلف منها مقدماته ونتائجه، ثم يعتقد أنها الحق، وأنها وحدها الحق، وأنها منطق صرف، وأنها عقل بحت؛ وكذلك يفعل الآخر حسب عقله ومزاجه، فيكون الخلاف؛ وكلما كانت هذه الخيوط أكثر اختلافا في النوع، كان المتجادلان أشد خلافا في الرأي .
وإن ما ترى - الآن - حتى من الاختلاف في النزعات السياسية من نازية وشيوعية وديمقراطية يمكن إرجاعه إلى ما ذكرت من اختلاف في المزاج، وأعني اختلاف القادة والمؤسسين لهذه المذاهب، لا العامة والأتباع.
لقد هممت أن أمطره وابل من الأسئلة: ما قيمة التربية الأخلاقية والدينية والسياسية - إذن - على مذهبك؟ كيف يؤسس الإصلاح إذا صحت نظريتك؟ كيف تقرب التفاهم بين المفكرين إذا اختلفت خيوط نسيجهم؟ ونحو ذلك من الأسئلة، ولكنه بدأ يمل ثانية، فأشفقت عليه وسايرته إلى منزله، وتحدثنا ولكن في الصحة والمرض، والأدوية ومنافعها، لا في العقل والمزاج.
وودعته بعد أن رجوت له الصحة وتواعدنا أن يتمم لي رأيه في باقي أسباب الخلاف.
في الهواء غير الطلق
دق جرس «التليفون» صباحا: - ألو ... - صباح الخير ... - أمدعو أنت لحفلة عرس فلان؟ - نعم. - وستذهب؟ - نعم. - إذن مر على في الساعة الثامنة مساء لنذهب معا. - مع السرور.
ووضعت السماعة، وكان الذي يتكلم أستاذنا الفيلسوف الذي حدثتك عنه، فأحسست شعورا مزدوجا، سرورا بألم، ورضا بغضب.
لقد كنت أؤمل ليلة خفيفة فيها أكل شهي، ومنظر بهي، وغناء مطرب وتنادر فكه، وراحة من كتب، وفرار من درس؛ فإذا كل هذا الأمل يخيب من هذا الحديث القصير، فقد توقعت درسا في الفلسفة، ومحاضرة في الحكمة، وإن كنت أجهل موضوع الدرس ومدار البحث. فصاحبنا مهما تحدث لا يتحدث إلا فلسفة، وإذا تلقف موضوعا - مهما كان - فهو يعمق فيه إلى ما تحت الطبيعة، أو يعلو فيه إلى ما فوق المادة، وهو قادر على أن يفلسف كل شيء، حتى أبعد المسائل عن الفلسفة، ولكنه في حديثه خفيف الروح ، حلو النفس، جيد المحاضرة، حسن التفنن؛ وهذا ما خفف علي بلواي، ثم له علي حق الأستاذية، والأبوة العقلية والروحية، فوطنت نفسي أن أضحي بلذة عيني وسمعي للذة عقلي، وقدرت أني سأنتقل من مكتبة إلى مكتبة، وسأكون في فصل من مدرسة، وإن كان المظهر حفلة عرس ومجال أنس، وذهبت معه وأمري إلى الله. •••
حضارة أمم في دار، ليلها نهار، معرض فنان، وجمال ألوان، وعيد حسان ، وروائح الجنان، وموسيقى تصدح بأعذب الألحان، ووجوه فرحة، ونفوس مرحة، وفي كل ركن وكل حجرة منظر خلاب، من مرح للشباب.
وإذا أنا وشيخي في هذا الحقل اللجب كأننا نشاز في نغم، أو تعويذة في سلك درر.
قال شيخي: ما أنصفنا إذ أتينا، ولو علمت ما جئت، فأنا إذا وجدت هذه المناظر فقدت نفسي. ومع هذا فهمنا في رواية تمثل على مسرح نلهو بمنظرها ولا نشترك في تمثيلها.
وانتحينا ناحية، واسترحت واستراح الشيخ من المقابلات والتحيات والحفاوات، وعادت إليه شهوته للكلام ورغبته في التفلسف، فقال: انظر: كل هذا بعض ما تفعله الغريزة الجنسية. إليها يرجع الفضل في إعجابنا بالألوان البراقة، والأشكال الجذابة، والأصوات الجميلة، بل إليها يرجع في نظري كل فن جميل. فالحفر والتصوير والموسيقى والشعر والنثر الفني وأوزان الشعر وأنواع البديع ما كانت تكون لولا الغريزة الجنسية. وكل ما في اللغة والأدب من وصف الجمال والقبح. والغزل والنصيب. والهجر والوصال، ولذة الحب وألمه مرده إليها، بل وإليها يرجع عالم البيت وعلاقاته وشؤونه من زوجية وأبوة وبنوة. وكل ما يتصل بذلك من ملاذ وآلام، وما تلعب فيه العواطف من حب وبغض، ورضا وغضب، ورحمة وقسوة، وما شئت من أشكال وألوان. - راقب الألاعيب المختلفة أمامك من مرح وضحك، وحركة وسكون، وهرج ومرج، وأناقة في ملبس، وتأنق في حديث، وموسيقى جميلة، سارة وحزينة، وحلل كل ذلك إلى عوامله الأولية، تره الغريزة الجنسية. - بل أخرج من عالمنا هذا الضيق إلى العالم الفسيح، ومن هوائنا غير الطلق إلى الهواء الطلق، تر غناء الطير: من هديل الحمام، إلى سجع القمرى، إلى عندلة العندليب، إلى قطقطة القطا، إلى زقزقة العصفور، إلى نقنقة الدجاجة، إلى نحو ذلك، إنما تبعث عليه الغريزة الجنسية؛ وقل مثل هذا في صهيل الفرس، وحنين الناقة، وخوار البقر.
بل خطا أستاذنا «دارون» ومدرسته أكثر من ذلك، فزعموا أن جمال الطيور والحيوان إنما منشؤه الغريزة الجنسية والانتخاب الطبيعي، فتحجيل الفرس وبياض غرته، وزركشة الطاووس، ونقش الفراشة، والنكت البيض والصفر والسود والحمر في الطائر والحيوان إنما هي تبرج للغريزة الجنسية.
قلت: لم يبق إلا أن يقولوا كذلك في الأزهار وألوانها، وجمال الورد، وزرقة البنفسج، وبياض الياسمين، وزركشة «البنسيه»!
قال: نعم، كذلك قالوا، حتى لو عدمت الغريزة الجنسية لم يبق من الجمال في العالم شيء.
قلت: وجمال الطبيعة؟
قال: لم نكن ندرك لها جمالا لو فقدنا هذه الغريزة - ولم يصنع الإنسان أكثر من أنه أخذ ما يفعل النبات والحيوان، فرقاه في شعوره بالجمال، وفي شعوره بالواجب، وفي الحب الزوجي والأبوي، وفي الغناء، وفي الرقص، وفي الزينة والتزين؛ وقد فعل في ترقية كل ذلك ما فعله في المأكل والمشرب والملبس مع تعقيد وتجميل، والأساس في كل ذلك ما عنده وعند كل حي من الغريزة الجنسية.
قلت في نفسي: سبحان ربي، أفي مثل هذا الجو تثار مثل هذه المشاكل؟ وأنحى من هذه الملاحة والوضاءة، وأحرم من قراءة نسخة الحسن في الوجوه، لأقرأ نسخة من أرسطو، وأنقل من سمع الألحان إلى سمع الكيان
1 .
ودعينا إلى سماط فخم، فيه كل ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين.
قلت لشيخي: ما هذا؟
قال: كأنه كتاب أنيق، حسن الديباجة، محكم الوضع، متناسق، التبويب، متنوع الأساليب، قد استوعب الأصول وأحاط بالفروع.
قلت: أرسطو ورب الكعبة.
وصمت الشيخ فلم يتابع حديثه، وكأنه ضن بالفلسفة أن يسمعها غير أهلها، أو تقال في غير محلها، فحمدت الله إذا استعضت عن الأكلة في فكرة بأكلة في نظرة. وحدث ما شئت عن جمال وظرف، وأناقة ولباقة، وفكاهة حلوة على لقمة حلوة، وهمسة خافتة تتبعها ضحكة عالية، حتى انتهينا من أكلنا هنيئا مريئا، وعدنا إلى مجلسنا في ركننا ، وبالمتكلم رغبة في أن يتكلم أكثر مما للسامع أن يسمع، ثم قال. إلى أين وصلنا؟
قلت: إلى أن كل فن في الإنسان، وكل غناء للطيور والحيوان، وكل برقشة للنبات، سببها الغريزة الجنسية.
قال: نعم، وقد فكرت طويلا في هذه الغريزة، وما القصد منها، فتبين لي أن الطبيعة منحتها بقصد «استمرار الحياة»، وقد كانت الطبيعة سخية، فمنحت منها أكثر من الحاجة إليها، فرصدت «للاحتياطي» منها أكثر مما يلزم، ومنحت الإنسان أكثر مما يقتضيه بقاء النوع واستمرار الحياة، فصرف جانبا منه في هذا الغرض الأساسي، وفاض ما عنده فصرفه في اللعب بالعواطف وممارسة الفن، وأنفق جزءا منه في تربية البنين والبنات ليكمل غرضه في «استمرار الحياة»، ويجعله استمرار حياة تأخذ في الرقي والتقدم؛ ولما كان حبه أكثر من الحيوان كانت تربيته لنوعه أرقى وأنفع، فاستطاع أن يرقى ملكاته، ويربي مواهبه على مدى الزمان، حتى لتشعر بالفرق الكبير بين الإنسان الحاضر والإنسان الماضي، ولا تشعر بفرق كبير بين القط الحاضر والقط الماضي، وبذلك امتاز الإنسان بأن ليس الغاية من غريزته الجنسية حفظ نوعه واستمرار حياته فقط، بل غايته أيضا ترقية النوع إلى أن يصل إلى درجة الإنسان الكامل - وكل القوانين التي شرعت للزواج والطلاق وحقوق الأسرة، وعقوبة الزنا وما إليه، إنما كان الغرض منها حماية هذه الغريزة حتى تؤدي غرضها على الوجه الأكمل، واختلاف هذه الشرائع رقيا وانحطاطا اختلاف في التوفيق في فهم الغرض الأساسي ووسائله، أو عدم التوفيق - وقد وجد في الطبيعة من فسدت منه هذه الغريزة الجنسية كما يوجد من فسدت غرائزه الأخرى، فهناك المعتدل في شهوة الأكل، ولكن بجانبه النهم ومن لا يشتهي الطعام، كذلك هذا؛ فمن الناس أبو العلاء، وأبو نواس، وصريع الغواني. والإغراء في هذا الباب أقوى، والحيل فيه أوسع، لهذا التفت التجار إلى أن يستغلوا هذه الغريزة ويستهووها بشتى الوسائل حتى السينما والتمثيل والصحف والمجلات، والتفت المشرعون لصد هذا التيار، ووقف الغريزة عند حدها المشروع، فكان صراع أين منه الصراع على المأكل والمشرب والملبس.
وبينما هذه الناحية من الغريزة الجنسية تشغل رجال الدين والأخلاق والاجتماع، إذا بناحية أخرى منها تشغل بعض علماء النفس، فقد لفت نظرهم تعدد أنواع النساء والرجال، ولعب الغريزة الجنسية بهم ألعابا مختلفة، لماذا يحب هذا الرجل هذه المرأة دون تلك؟ إن في مجال هذه الألعاب مناظر نفسية مختلفة: هذه امرأة تثير في الرجل خياله ومشاعره، وأحلامه، تجذبه وتضطره أن يتحمل في سبيلها الآلام، ويتخطى العقبات، ولها سر مجهول يجعل حبه لا يفنى ولا ينقص مهما تغيرت الظروف.
وهناك امرأة أقل منها شأنا تثير هذا الحب والجاذبية ولكن في إمكان الرجل أن يتغلب عليه بسلطان عقله، لأن ما تثيره من حب هادئ غير عنيف.
وهناك امرأة تثير في الرجل إعجابه لا من طريق شخصيتها، بل من طريق ملابساتها، كذكائها وذوقها، فالرجل ينظر إليها نظرته إلى الصديق الموائم، والأخ المنسجم.
وهناك امرأة تلهب شعلة كشعلة القش ما تشتعل حتى تخمد، وإذا خمدت فالكراهية والاستثقال والنفور، إلى غير ذلك من أشكال وألوان.
وشأن الرجال في نظر النساء شأن النساء في نظر الرجال؛ بل قد تكون امرأة في نظر رجل من الصنف الأول، وفي نظر آخر من الصنف الرابع وهكذا، ولذلك يخرج من عشرة رجال وعشر نساء أشكال عدة وعلاقات مختلفة - هل درست التوافيق والتباديل في الحساب؟
قلت: نعم.
قال: هو هذا. ولبعض علماء النفس في ذلك بحوث تستخرج العجب، سأقص عليك طرفا منها في فرصة أخرى، وأزيد الآن على ما قلته أن كثيرا من أسباب السعادة الزوجية أو الشقاء يرجع إلى هذا السر الخفي. وبدأ الناس في الانصراف فانصرفنا، وركبنا عربتنا، وفي الطريق ظل يتدفق:
أرأيت كيف أن الطبيعة وضعت فينا هذه الغريزة، وسخت في منحها، فلعبت بنا هذه الألاعيب في الفن والغزل، وفي الحياة ومتاعبها؟! لقد أخفت عن الأنسان سرها، وحجبت عنه فهمها، وسخرته في خدمتها، وهو يظن أنه حر طليق يلعب ألاعيبه باختياره وإرادته، مع أنه هو عبد لغريزته! لقد ضحكت منه الطبيعة وهو - من غفلته - يعتقد أنه هو الذي يضحك منها! قلت: أما وقد كشفت لعبتها، فهل ترى رأي أبي العلاء.
تواصل حبل النسل ما بين آدم
وبيني ولم يوصل بلامي باء
تثاءب عمرو إذ تثاءب خالد
بعدوى فما أعدتني الثؤباء
قال: لا، فرأى أبي العلاء قلب للوضع، وتحريف للجنس، والإنسان الكامل ليس من يحارب طبيعته، بل من يرقى طبيعته. وأرقى أنواع الحب - كحب الوجود، وحب الله - لم ينشأ إلا مما أفاضته علينا الطبيعة من حب الجنس .
لقد كان أبو العلاء وأمثاله يرون أن الغريزة الجنسية عائق عن تحرر النفس، وأنها مانع من موانع رقيها وسموها، وأن كمال الإنسان في التخلص منها وإمانتها بكبتها، وأنها في الإنسان ضرورة محزنة، وعلى هذا الأساس تأسست نزعة الرهبانية، ونظم الأديرة، وخلوات الصوفية، ولكني أرى غير هذا الرأي. نعم إن الغريزة الجنسية كم حطمت من أفراد، بل كم حطمت من أمم، وجعلت حياتهم ليست إلا حياة بهيمية مزوفة، وجعلتهم يسخرون كل ملكاتهم الأخرى - من ذكاء وعاطفة وقدرة - لخدمة هذه الغريزة، ولكني أرى أن من الممكن أن يتسامى الإنسان من طريق وجودها لا من طريق إعدامها، ومن الممكن تحويلها من مصدر شر للإنسان إلى مصدر خير، وخير للإنسان أن يمنح نعمة الحب فيعدلها ويلطفها، ويستخدم ما ينبعث عنها من عواطف لخير نفسه وخير إنسانيته، من أن يحرم الحب، ولو عاش بعقله.
ومسألة أخرى عظيمة الأهمية في هذا الموضوع وهي أن الإنسان ...
وهنا وقفت العربة أمام بيت الأستاذ، فودعته وانصرفت، ونظرت، فإذا أنا قد عدت من حفلة العرس بخفي حنين، ومن الفلسفة بملء اليدين، فخاسر أنا أم رابح؟
لماذا نعيش؟
في ركن من أركان «كازينو» رأس البر، جلست وحدي ومعي كتابي لعلي أسأم فأقرأ. ورأس البر لم تزدحم بعد بالمصيفين، فينعم فيها مثلي بعيش هادئ واستجمام مريح. جلست أحملق في البحر بعد غيبة عنه طويلة، فإني لم أره منذ شهور، مع حبي له وشوقي إليه. وكرهت أن أفتح الكتاب فالبحر نفسه كتاب مفتوح، وهو كتاب حي وما في يدي كتاب ميت؛ وهو يوحي بأفكار مبتكرة وكتابي يوحي بأفكار تقليدية .
هذا هو البحر الذي لا تفنى عجائبه ولا العجب منه؛ لم تنل الأيام من جماله ولا جلاله، كأنما خرج من حكم الزمان وعز على أفاعيله؛ وقفت على شواطئه الأجيال، ثم طواهم الدهر جيلا بعد جيل ولم يستطع أن يمسه هو بسوء؛ في شباب دائم ونشاط دائب، لم يلحقه يوما عجز المشيب ولا وهن الكبر؛ راحة المكدود، ومتعة النفس، وسلوة العاشق، وحيرة العالم، وأنس الفيلسوف ، وبسمة الغواني، ودمعة المتصوف.
شيئان أشعر معهما - دائما - بضعة الإنسان وحقارته، ويملؤني العجب من قلة عقله في نزاعه وحيله ومراوغته، وذله واستعلائه، وشغله الدائم بما لا طائل تحته: مطالعة السماء ونجومها بالليل، ومطالعة البحر وأمواجه وعظمته بالنهار.
ما الإنسان الوضيع أمام هذا البحر الجليل، وما دنياه كلها بما يعتورها من هم وقلق، وغم ونكد، ونزاع وخصام، وما شئت من أشكال وألوان، إلا كموجة واحدة من أمواج هذا البحر تجري لمستقر لها، فإذا وصلت إلى الشاطئ تلاشت كأن لم تكن، وظل البحر في جماله وجلاله كأن لم ينقصه شيء. •••
قطع علي غزلي في البحر صوت جدل يقرب مني شيئا فشيئا حتى يكون بجانبي.
رجلان كهلان مثقفان كما يظهر من حديثهما، سلما وإن لم أعرفهما، لأن المصيفين إذا قلوا عدوا أنفسهم جميعا أسرة واحدة. وجلسا على مائدة بجواري على البحر يتممان حوارهما.
لم أفهم بادئ الأمر كلامهما، لأني لم أعرف «عالم الحديث» كما يعبر الإفرنج، ثم بدأت أفهم، فقد انتقلا إلى موضوع جديد، إذ سأل أحدهما الآخر: (أ) :
أتستطيع أن تخبرني بحق لماذا أنت عائش؟
سؤال بهرني، ولو سئلته ما عرفت له جوابا. (ب) :
أصدقك أني عائش لأسرتي، فلهم أسعى وأكد، ومن أجلهم أتحمل عناء الوظيفة وملق الرؤساء ومخالفة الضمير، وأمل «الدرجة»، أصيف تبعا لهم، وأشتي تبعا لهم، وأحب ما يحبون وأكره ما يكرهون؛ وأجتهد أن أرقيهم إلى أقصى ما أستطيع جسما وعقلا وخلقا، وبذلك كانت أسرتي محور أغراضي وأساس اتجاهاتي، وشاغلة ذهني، ومالئة فكري. (أ) :
إنك بهذا لم تخرج عن أن تكون «أنانيا» من شكل آخر، كالذي يعيش لنفسه ويجعل غرضه شخصه، فأنت تجعل غرضك أسرتك لنفسك، تعنى بها لأنها ملك لك، كما تعني ببيتك الذي تملكه ومزرعتك التي تستغلها؛ فأنت تربي أطفالك لأنك في أعماق نفسك ترى أن تربيتك لهم دين عليهم في مستقبل حياتهم، يوم يأخذ الكبر منك مأخذه، فتحتاج إلى معونتهم ماديا أو معنويا، ويحملون عبئك بعد ما حملت عبئهم. (ب) :
ما أظن هذا صحيحا، فليست هذه أنانية مطلقا، فأنا أرقى الأمة عن طريق ترقيتي أسرتي؛ أليست الأمة مجموعة من الأسر، فإذا عني كل رب أسرة عنايتي كان لنا من ذلك أمة واقية في أبنائها وبناتها وحياتها الاجتماعية والاقتصادية؟! وأملي في تربيتي أن أجمل أبنائي خيرا مني، وبناتي خيرا من أمهن، بل آمل أكثر من هذا أن أجعل من أبنائي قادة في بعض نواحي الحياة الاجتماعية؛ وماذا تفعل الأمة الراقية أكثر مما أفعل، فهي ترقي أسرتها لترقى أمتها، فإن عددت هذا أنانية فهي أنانية راقية جدا تتحد بالغيرية. (أ) :
إن كان كذلك فلم تعني بأولادك ولا تعني بأولاد غيرك، وقد يكون فيهم من هم أنجب من أولادك، وأحسن استعدادا وأقوى خلقا وأكثر قابلية لأن يكونوا قادة؟ أليس هذا برهان الأنانية؟! (ب) :
غريب هذا أتريد أن تجردني من أنانيتي، ولو جردت منها ما كنت «أنا» «أنا»، وليس هناك مذهب من مذاهب الأخلاق يريد أن يمحو الأنانية بتاتا، وكل ما يدعو إليه أرقاها أن يؤلف بينها وبين الغيرة؛ فلو عنيت بأبناء غيري وأهملت أبنائي لما كانت هناك حرارة البواعث الغريزية التي تدعونا بطبعها للعناية بأبنائنا، فلو ربى غيري أبنائي وربيت أبناء غيري لفسد الجميع. (أ) :
ولكن هب كل هذا صحيحا، أيصح أن تكون عنايتك بأسرتك كل غرضك في الحياة؟ إن تركيز مخك كله في أسرتك يحرمك من الاستمتاع بأفق أوسع ومثل أعلى، إن هذا التركيز ضار بأسرتك نفسها، فكثرة العناية بها والإفراط في الشعور بالمسئولية عنها يعود الأسرة كلها رمي حملها عليك: فلا الأم تشاركك في حمل العبء، ولا الأبناء يتعودون الشعور بالمسئولية؛ لأنهم يجدون كل شيء محمولا عليك، فينشئون مدللين غير صالحين لأنفسهم ولا للحياة - ألا تعرف فلانا وأسرته؟ كان يوقظ أولاده في الصباح ويشرف على إفطارهم، ويرعاهم إذا لبسوا، ويرسلهم مع الخدم إلى المدارس، وإذا تأخر في عمله تحدث في «التليفون» عن عودتهم وصحتهم، وإذا ارتفعت حرارة أحدهم ربع درجة دعا له أمهر الأطباء، ودعته الشفقة أن يجيب لهم كل مطلب، وإذا وجد أحد أبنائه ضعيفا في مادة أتى له بالمدرسين الخصوصيين، وحمل كل عبء عن كل ولد. وحرم نفسه من كل لذة ليمتعهم بكل لذة، فماذا كانت النتيجة؟ خرجوا مائعين لا يصلحون للحياة، ناعمين لا يتحملون خشونة الحياة، ففقد بذلك نفسه، وفقد أولاده، وفقدتهم الأمة جميعا - إن تركيز كل هم الإنسان في الأسرة ضاربها كضرر التخلي عنها وعدم الشعور بمسئوليتها. إن الأسرة تصلح أن تكون غرضا من أغراض الحياة لا كل غرض، وليست - فيما أرى - تصلح لأن تكون إجابة عن سؤالي: لماذا أنت عائش؟ (ب) :
جاءنا مرة في امتحان الشهادة الابتدائية في اللغة العربية بيت ظريف وهو:
إن على سائلنا أن نسأله
والعبء لا تعرفه أو تحمله
فقل لي أنت - بدورك - لماذا أنت عائش؟ (أ) :
لقد شغل هذا السؤال تفكيري طويلا، وقلبت الأمر على وجوهه، وأجبت كل إجابة وناقشتها؛ فقلت أولا - أعيش لنفسي، فوجدتني إذ ذاك كأخس حيوان، ووجدتني أعيش في أضيق أفق؛ ثم قلت: أعيش لأسرتي، فكان من الاعتراض عليه ما رأيت، ثم بحثت أن أعيش لوطني ولديني؛ وأخيرا وطنت نفسي أن أجعل أملي أن أكون مصدرا للخير العام حيث كان، فأكون كالشمس تلقي أشعتها على كل كائن، فقيرا وغني، مؤمن أو كافر، مواطن أو غير مواطن. رأيت الباعث على العمل إن كان شخصيا - في أي شكل من أشكاله - يبعث على التفرق والخصومة، ورأيت الباعث إن كان عالميا علما التهم الخصومة وبعث على السلام - لقد حاولت أن أبعث هذا الباعث في نفسي، فنجحت أحيانا وفشلت أحيانا، ولكني دائما أحلل أسباب الفشل وأحاول أن أتقيها، وقد رأيتني بذلك أتحرر شيئا فشيئا من الحقد والبغض، والحسد والطمع، ونحو ذلك، مما يتعب الناس بلا فائدة؛ بل رأيتني عندما كنت أحيا للباعث الشخصي كنت أخاف الموت خوفا شديدا، وأتألم أشد الألم للكوارث المالية أو النفسية، فلما سموت بباعثي خف خوفي من الموت ومن الكوارث، وأحسست التحرر من هذه الآلام إلى حد بعيد، وشعرت بجمود العاطفة نحو المسائل الشخصية، وحرارة العاطفة نحو المسائل العامة - لقد أصبح يهمني أولاد جاري، ويهمني فلاحي في مزرعتي، لا لأنهم في مزرعتي، ولكن لأنهم هم الذين أستطيع نفعهم؛ بل إني لآلم من بؤس الفلاحين عامة، وأود أن أستطيع نفعهم، ولو كان بيدي ميزانية الدولة لجعلت ثلاثة أرباعها للفلاحين وربعها للمدن؛ ويسرني نجاة مصر من كوارث الحرب بقدر ما يؤلمني كوارث الحرب لأي صنف؛ وأحب أن يكون لي مال لأنفع به الناس، وجاه لأستغله في خيرهم، وشهرة لأستخدامها في منافعهم؛ فإذا لم يكن من ذلك شيء فعلت ما أستطيع على قدر ما في يدي. (ب) :
ولكن ألا ترى معي أن سعة الباعث يضعف من قوته؟ فمثلك - إذا - مثل من رمى زنبيل سكر في النيل، فلا هو احتفظ بسكره ولا هو أحلى النيل! إنك إذا ركزت همتك في أسرتك، وجارك فعل مثل فعلك، كان لنا من ذلك أسر راقية؛ ولكن لو كلف عشرة آباء العناية بعشر أسر من غير تخصيص ما وصلت هذه الأسر العشر من الرقي إلى الحالة التي يعني فيها كل عاقل بأسرته وحده. (أ) :
مثلك صحيح، ولكن علته غير صحيحة، فحال الأسر هو كما ذكرت، ولكن لا لسبب كمية الحب، وضيق الباعث؛ إن السبب في صحة مثلك هو أن حياة الأسر أساسها الخصوصية، ولهذا كان لا بد أن تختص ببيت. وتعيش عيشة فيها معنى الستر، ومعنى الملكية، ومعنى الاستقلال، فإذا انساحت عشر أسر تحت إشراف عشرة أرباب زالت كل هذه المعاني، ولم تعد الأسرة أسرة. أما الحب وقدرة الإنسان عليه فليس كمية محدودة بحدود الأشياء المادية - هو ليس ككمية من السكر، ولا كمية من المال، لا تتسع إلا لشيء محدود - قارن بين أم لها ولدان وأم لها عشرة أولاد، أتظن أن الأم ذات العشرة تحب ابنها خمس حب ذات الاثنين فقط؟ هذا ليس بصحيح. إن قلب الإنسان مصدر العجائب، فهو إذا ربي على الحب الواسع وسع كل شيء؛ إنه إذا روح عليه اشتعل وأضاء ضوءا قويا تزول معه كل ظلمة، وينكسف له كل ضوء خافت. إنها التربية الضيقة هي التي تحد حبنا في شخصنا أو أسرتنا أو بيئتنا، فإذا هدمت هذه وحل محلها تربية واسعة الأفق أحببنا حبا لا حدود له. وإنك لتعجب إذ ترى الإنسان مع هذا الحب الواسع لم يفقد شيئا من حبه الجزئي، فهو يحب شخصه، ويحب أسرته، ويحب أمته، ويحب دينه؛ ولكن حبه الواسع يلون كل حب جزئي بلون خاص لطيف يتفق وسعة أفقه، وامتداد نظره، وفيضان حبه. •••
ونظر «ب» في ساعته، وشكا الجو، ولم أدر أكان هذا فرارا من أن يغلب الحوار، أم صدقا في الشعور بالبرودة.
وسلما وودعا، وقد استمتعت منهما - على الجوار - بحديث طريف.
وودعت البحر حامدا له وحيه وضيفه.
التعاون الثقافي العربي
أمام الأمم العربية الآن مشاكل ثقافية معقدة، قد لا يواجه مثلها غيرهم من الأمم، فالأمم الغربية تواجه مشاكل ولكن ليست من جنس مشاكلنا، وإن كانت تتصل بها. لقد حددت مسلكها في التعليم وأوضحت غايتها إلى حد ما، ولكنها في طريقها المرسوم تجد بعض المشاكل: كالرغبة في تعميم التعليم غير الأولي، ونشر الثقافة، وتعديل المناهج وإصلاح بعض الخطط.
أما الأمم العربية فمشاكلها أعقد من ذلك؛ لأنها إلى الآن لم ترسم خططها واضحة، ولم تضع للتربية تعريفا يتفق وأغراضها وآمالها، ولذلك مزقت أساليب التربية المختلفة وحدتها، هذا تعليم ديني بحت، وهذا تعليم مدني بحت، وهذا تعليم لخدمة فرنسا، وهذا تعليم لخدمة انجلترا، وهذا تعليم لخدمة أمريكا، وهذا تعليم لخدمة التبشير ونحو ذلك. وكل هذا لا يقيد بقيود قومية مما ليس له نظير في أية أمة حية ترعى مصالحها ولا تسمح بتمزيق وحدتها، ونشأ عن ذلك اختلاف النزعات الأساسية بين الأمة العربية الواحدة، فكيف بالأمم العربية مجتمعة؛ ونشأ عن هذا أيضا اختلاف المنطق واختلاف التفكير، هذا في منتهى الرجعية، وهذا في منتهى الحرية، وهذا في منتهى العصبية الدينية، وهذا في منتهى العصبية اللادينية، وهذا في منتهى العصبية لأمة أوربية، وهذا في منتهى العصبية ضد كل نزعة أوربية، حتى لكأننا في برج بابل.
قد تجد شيئا من هذه النزعات المختلفة في الأمم الأوربية، ولكنك لا تجدها بهذه الحدة وبهذا التناقض كما تجدها في الأمم العربية بل في الأمة الواحدة العربية؛ ويشبه الخلاف بيننا وبينهم الخلاف بيننا في الملابس والخلاف بينهم، فكلهم يلبسون على نمط أساسي واحد، وإن اختلفوا ففي قيمة ما يلبسون لا في شكل ما يلبسون، أما نحن فنختلف في الأساس وفي الأشكال اختلافا لا حد له.
إذن، نحن في أشد الحاجة إلى الإجابة عن هذين السؤالين: (1)
كيف نوحد أسس التعليم ولا نسمح بهذه النزعات المتباينة الضارة ولا نجيز الاختلاف إلا في العرض لا في الجوهر؟ (2)
ما تعريف التربية الذي يجب أن ينشده العرب، ما الجملة التي تركز فيها كل أغراض الأمم العربية في التربية والتي يجعلها رجال التربية نصب أعينهم لا ينحرفون عنها يمنة، لا يسرة؟
هذه إحدى المشاكل التي تواجه العرب.
والمشكلة الثانية:
أن العرب يختلفون عن الغرب في شيء جوهري، وهو أن الأمم الأوربية والأمريكية حددت نوع مدنيتها وثقافتها: عمدت إلى الثقافة اليونانية والرومانية وغيرها فغربلتها، واتخذت خيرها، وامتصت عصارتها، وبنت عليها حضارتها وثقافتها، وخلصت من ذلك كله، ورسمت لمدنيتها منهجا تسير عليه في كل شأن من شؤون الحياة ومنها الثقافة.
أما العرب فلهم موقف آخر، هم بين ثروة قديمة من الثقافة العربية، فيها الخير والشر، والغث والسمين، وحبات الدر وحبات الحصا، وثقافة غربية فيها الضار والنافع كذلك ولا غنى لنا عنها، تحكمنا بطبيعتها وكيمياها وما تنتج من آلات وصناعات، فإن كان على الأوربيين عبء واحد، فعلى الأمم العربية عبئان.
ماذا نأخذ من تراثنا القديم وماذا ندع؟ ماذا نأخذ من الغرب وماذا ندع؟ إن لنا دينا ولنا لغة ولنا أدبا لا بد أن نستمده من وحي آبائنا، وإن للغرب علوما وفنونا وصناعات لا بد أن نستمد منها لنجاري الزمن.
كيف نوفق بين المدنيتين ونمزج بين الحضارتين، ونكون لنا شخصية ممتازة لا هي كل الشرق القديم ولا هي كل الغرب الحديث؟ كيف ننقي قديمنا ونأخذ زبدته ونفرغ منه، وكيف نحدد ما ينفعنا من الجديد ونرسم خريطته، وننتهي من ذلك ولا يكون علينا إلا ملء الخانات الفارغة منه؟
ثم مشكلة ثالثة:
قد خلقت لنا المدنية الحديثة علوما لا عهد لنا بها، وفي هذه العلوم مصطلحات فرعية لا تحصى، في الطبيعة والكيمياء والفلك والاجتماع والنفس والعمارة والصيدلة، وخلقت لنا ألوفا وألوف الألوف من الأدوات والصناعات والعقاقير ومركباتها ونحو ذلك، ولا غنى للعرب عن استعمالها، فكيف نتفق على تعريبها وتوحيد مصطلحاتها والاتفاق على الألفاظ الصالحة لها، فليس يليق أن تنفرد كل أمة عربية بوضع مصطلحاتها ما دامت اللغة العربية ملكا لجميع الأمم العربية وقدرا مشتركا للتفاهم بينهم؟ ما وسائل التعريب؟ ما قواعد التعريب؟ كيف ينظم التعريب؟ كيف يبدل الجهد للفراغ من كل المصطلحات الأوربية حتى نقف مع الأوربيين على قدم المساواة، وننتهي من الماضي، ولا نواجه في الحاضر إلا ما اخترع حديثا واكتشف حديثا.
ثم مشكلة رابعة:
لكل أمة من الأمم الحية دائرة معارفها، بل دوائر معارفها، تكتب بلغتها وتساير العلم في مراحله، ويعاد طبعها بين حين وآخر، ويزاد في الطبعة الجديدة ما وصل إليه العلم الحديث بين الطبعتين؛ وكل أمة تعني في دائرة معارفها بنوعين: القدر المشترك بين جميع الأمم، والعناية الخاصة بموضوعاتها الخاصة من جغرافيتها وتاريخها وأعلامها؛ هذا ما علمته انجلترا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وغيرها.
فماذا فعلت الأمم العربية في هذا السبيل؟ دائرة معارف للبستاني لم تكمل وأكل عليها الدهر وشرب، وتقدم العلم عليها حتى أصبحت في عداد التاريخ. ثم لم تجد من يكملها ويقدمها مع الزمن، ويطبعها طبعة جديدة تتفق والنهضة العربية يكون فيها خير التراث العربي وخير التراث الغربي؟
ومشكلة خامسة:
إذا وحدت الأمم العربية تعريف تربيتها ورسمت خطتها في التعليم ، فلا بد من الفصل بين مسألتين: قدر أساسي مشترك تتساوى فيه الأمم العربية من حيث المناهج والخطط والغرض؛ وقدر خاص غير مشترك تحافظ فيه كل أمة عربية على شخصيتها، فتتوسع في جغرافية بلادها وتاريخ رجالها، وتسير كل أمة في المستوى الذي يناسب استعدادها ومقدرتها المالية.
فما هو هذا القدر المشترك، وما هو هذا القدر الخاص وكيف يحدد وكيف يرسم؟ •••
هذه في نظري أهم المشاكل التي تواجه العرب من الناحية الثقافية، وهذه هي الأسئلة التي يجب أن تطرح ويجاب عنها.
فكيف يكون ذلك؟
لهذا جملة وسائل:
أن يكون هناك مكتب للتعاون الثقافي تختار كل حكومة عربية من يمثلها فيه، وهؤلاء يتبادلون الرأي في هذه المشاكل وأمثالها، ويضعون الأسس اللازمة للسير عليها، وهذا هو ما بدئ به فعلا حسبما أعلم، ولا ينقصه إلا التعميم واشتراك الأمم العربية كلها فيه، والنشاط في عمله.
ولكن هذا وحده - في نظري - لا يكفي؛ فالممثلون الرسميون عادة يضطرون إلى تقدير اعتبارات سياسية قد تحد من نشاطهم وتلون بحوثهم وتفكيرهم.
ومن أجل هذا ينبغي أن تكون بجانب هذه الهيئة الرسمية هيئة أخرى غير رسمية، فيؤلفون جمعية تعاونية تبحث الموضوعات بحثا حرا طليقا مجردا عن الاعتبارات السياسية، وهذه - فضلا - عن خدمتها للفكرة تفيد فائدة كبرى الهيئة الرسمية، وهذه الجمعية يختار أعضاؤها ممن عرفوا بالإخلاص والجد وعدم الاستهواء السياسي والغيرة على مصلحة الأمم العربية الثقافية، وتتعاون هذه الجمعية في غرضها، وتعمل في وضح النهار، ولا يكون لها غرض إلا خدمة الثقافة ومعالجة المشاكل التي أسلفنا الإشارة إليها.
وهذه الجمعية تعقد مؤتمرا كل سنة على مثال المؤتمر الطبي، كل سنة في قطر من الأقطار العربية، سنة في القاهرة، وسنة في دمشق، وسنة في بغداد، وسنة في مكة وهكذا.
ويكون للجمعية سكرتيريتها تحدد أغراض الاجتماع وموضوعات البحث، ويتعاون أولو الخير والبر على إمدادها بالمال اللازم لها: ويكون لهذه الجمعية مجلة بلا مجلات؛ فمجلة لنشر أعمال المؤتمر وأخباره، واختيار لجانه الفرعية ومبلغ نشاط الأعضاء واللجان في نواحيها الثقافية المختلفة؛ ومجلة تكون على نمط «المختار من ريدرز ديجست» تعني بخلاصة خير المقالات التي تنشر في الصحف والمجلات العربية بل والإسلامية من غير العربية، فمثل هذه المجلة تقرب من أفكار الشرق، وتؤلف بين ثقافته، وترقي تفكيره، وفي هذا خدمة للوحدة العربية الثقافية وهكذا.
ثم بجانب هذا وذاك ضروب أخرى من التعاون الثقافي لا بد منها، مثال ذلك تبادل كبار الأساتذة والعلماء والأدباء في الأقطار العربية المختلفة، فأساتذة الشام في مصر والعراق، وأساتذة العراق في مصر والشام، وأساتذة مصر في الشام والعراق، وهكذا في الإجازات المدرسية، وفي المسامحات الصيفية، فهذا يخلق جوا علميا بديعيا وتعاونا ثقافيا جليلا.
ثم انتهاز الفرص العلمية والأدبية لذلك، فمهرجان لذكرى أبي العلاء في الشام تلقى فيه البحوث الأدبية من أساتذة الأقطار العربية، ومهرجان للإمام الشافعي في مصر تلقى فيه البحوث التشريعية والقانونية، ومهرجان للخليل بن أحمد في العراق تبحث فيه البحوث اللغوية، ولعمر بن الخطاب في المدينة، ولأبي الطيب المتنبي في حلب، وللإمام الأوزاعي في بيروت، وهكذا لا ينفض مهرجان حتى يعد مهرجان آخر، وفي هذه المهرجانات تتلاقى الأفكار وتتوالد الآراء، وسيكون من نتيجة ذلك حتما التفكير في الإصلاح من جميع نواحيه اللغوي والأدبي والنحوي والتشريعي ونحو ذلك.
إذا تم ذلك كله - وهو ما أرجو أن يكون بعد الحرب مباشرة - فنحن أمام نهضة عربية وثابة، وإصلاح عربي شامل، ووضع أسس لبناء العرب في هيكل الثقافة، وبذلك يساهمون في بناء صرح الثقافة العالمية مع البانين، ويشيدون مع المشيدين.
والله ولي التوفيق.
الشيخ رفاعة الطهطاوي (1)
مؤسس النهضة العلمية الحديثة
حقا إن «الله أعلم حيث يجعل رسالته»، هذه ألوف الطلبة في المدارس، وهذه ألوف المجاورين في الأزهر، من منهم سيكون النابغة العظيم، والزعيم الكبير، والمصلح الخطير؟ لا ندري، كلهم يتعلمون وأكثرهم يجدون، ولكن الحكم بالنبوغ والقيادة والزعامة عسير على المتنبئين. تقيس بمقاييس الامتحان ثم يظهر خلل حكمك، فقد يكون أول ناجح في الامتحان أول خائب في الحياة؛ وتقيس بمقاييس الذكاء، فتحكم بأن هذا أذكى من امتحنت، ثم يخبو هذا الذكاء شيئا فشيئا، حتى ينعدم أو يكاد، أو يظل الذكاء حادا ومع ذلك فلا نبوغ؛ وتحكم بالخمول على طالب، ثم يتطور فيكون قائدا أو زعيما. إنما عملنا أن نؤرخ النابغ بعد أن ينبغ، ونعلل نبوغه بأسرته أو أساتذته أو بيئته أو نحو ذلك من أسباب، ولكن كم من أسرة خير من أسرته لم تنجب؛ وكم من أساتذة خير من أساتذته لم يخرجوا مثله؛ وكم بيئة أصلح من بيئته لم تنجح في إعداد شبيه له، وكم كلها مجموعة لم تعد للحياة نابغة. في بيتي شجرتا مانجو، أما إحداهما فقالوا احفر لها فحفرت، وأت لها بتربة صالحة فأتيت، طعمها فطعمت، واختر لها الجهة المناسبة فاخترت؛ وأخرى رميت بذرتها رميا، وتركتها للمصادفة تركا، ولم أعن بها أي عناية، ثم خابت الأولى حيث نجحت الثانية - إنما تنجح القواعد العامة - في التربية والاقتصاد والزراعة ونحو ذلك - في جمهرة الأشياء وعاديها، أما النوابغ فشواذ خرجوا من القواعد وندوا عن التعليل.
هذا «رفاعة» من أسرة مثلها كثير، وهو مجاور في الأزهر مثله كثير، وتهيأت له من الظروف ما تهيأ لكثير، ولكن لم يجر على يد أحد من الخير لأمته في ناحيته ما جرى على يده، ما السر في ذلك؟ علمه عند الله.
من أسرة في «طهطا» تعتز بشرف نسبها للرسول، ويعزها الناس لذلك، عرف كثير من أفرادها بالعلم وتولى القضاء والإفتاء، وديارهم منازل الحكام ومورد القصاد، والحكومة على نظام ذلك العهد تمدهم بالأراضي يستغلونها ولا يملكونها، وبالأرادب الكثيرة من القمح كل عام في نظير فتحهم بيوتهم للضيوف وذوي الحاجة؛ ولكن هذا العطاء لم يكن - كما نقول اليوم - حقا مكتسبا، ولكن منحة عارضة، تتبع رغبة الوالي وشهوته، فهو إذا شاء أطلقها، وإذا شاء منعها - وكان من سوء حظ «رفاعة» أو من حسن حظه، لا أدري - أن قبض الوالي يده عما كان يعطي أهله، فوقعوا في الفقر واضطر أبوه أن ينزح من البلد، ومعه رفاعة صبي صغير. ولكن ما لبث والده أن مات فقيرا، فعاد الصبي إلى طهطا، ونزل في أخواله، وشاء الله أن يكون في هؤلاء الأخوال من يعلمه ويعده للأزهر، فحفظ بعض المتون بعد أن حفظ القرآن ودرس شيئا من الفقه والنحو، ثم أرسل إلى الأزهر.
درس في الأزهر كما يدرس كل مجاور، وعاش فيه كما يعيش المجاور الفقير، يقنع بالجراية ويأتدم أكثر الأوقات بالفول على اختلاف أنواعه ومشتقاته، ولكنه مع هذا يعتز ببيته ونسبه.
شيء واحد ميزه عن كثير من المجاورين هو اتصاله اتصالا وثيقا بالشيخ حسن العطار، وكان هذا رجلا ممتازا واسع النظر، خبيرا بالدنيا على قلة الخبيرين بها من علماء الأزهر في ذلك العصر، ولم يعجبه طريقة الأزهريين في الاقتصار على كتب النحو والفقه والتفسير والحديث، فضم إلى ذلك نظرته في كتب التاريخ والأدب، وعني عناية كبرى بالأدب الأندلس يدرسه ويحاكيه، ويأسف على انحطاط الأدب في عصره، ويصف شعراء زمنه بأنهم «اتخذوا الشعر حرفة محترف، وسلكوا فيه طريق معتسف، فصرفوا أكثر أشعارهم في المدح لاستجلاب المنح، حتى مدحوا أرباب الحرف لجمع الدراهم في الأسفاط، وكان منهم من يصنع القطعة من الشعر في مدح شخص ثم يغيرها في آخر، وهكذا، حتى يمتدح بها كثيرا من الناس، وهو لا يزيد على أن يغير الاسم والقافية، وما أشبهه في ذلك إلا بمن يفرق أوراق الكدية، بين يدي صفوف المصلين يوم الجمعة في المساجد، وهكذا كان حال الشاعر، فلا يكاد أحد يتخذ وليمة، أو ختانا، أو عرسا، أو يبنى بناء أو يرزأ بموت محب إلا وبادره بشيء من الشعر، قائما بالشيء النزر».
أما الشيخ العطار فجريا على رأيه لم يحتفظ بشعره في المديح والهجاء مما قاله اضطرارا، ورجا ألا يحفظ عنه إلا «ما لطف من النسيب، وعذب من التشبيب، مما قد ولعت به أيام الشباب، حيث غصن الشبيبة غض، والزمن من الشوائب محض، ولأعين الملاح سهام بالفؤاد راشقة، وتثني قدود تظل لها أعين الأحبة رامقة.
ذاك وقت قضيت فيه غرامي
من شبابي في ستره بالظلام
ثم لما بدا الصباح لعيني
من مشيبي ودعته بسلام»
وكان الشيخ حسن العطار قد أداه ظرفه ومعرفته بالدنيا أن اتصل بالفرنسيين حين دخولهم مصر، ودرس لبعضهم اللغة العربية، وأداه اختلاطه بهم أن يقف على كثير من معارفهم الواسعة فيبهره ذلك منهم، ويتعجب مما «وصلت إليه تلك الأمة من المعارف والعلوم وكثرة كتبهم وتحريرها وتقريبها لطرق الاستفادة» ويقارن بين ذلك وحالة العلم في الأزهر. ويرثي لحال مصر ويتوقع حصول ثورة علمية فيقول: «لا بد أن تتغير حال بلادنا ويتجدد لها من المعارف ما ليس فيها» ويزيد «العطار» سعة في عقله رحلته إلى الشام وإلى الآستانة، وقد أقام بها مدة طويلة وسكن في «اسكودره» وتزوج بها ثم عاد إلى مصر.
هذا هو الشيخ العطار الذي صار فيما بعد شيخ الأزهر، وهذا هو أستاذ الشيخ رفاعة الذي أثر فيه أثرا غير شائع عند الأزهر بين إذ ذاك، من ميل إلى الأدب واطلاع على الكتب غير المتداولة، وكان التلميذ المحبوب عند شيخه العطار في بيته وفي قراءته الخاصة وفي دروسه العامة.
وفي الحق أن الأزهر كان فيه نبع صغير متسلسل يعني بالتاريخ والأدب، بجانب ذلك النبع الكبير الذي يعني بعلوم اللغة والدين فقط، وكان من هذا النبع الصغير الشيخ الجبرتي المؤرخ الكبير، وتلميذه العطار، وتلميذه رفاعة.
ظل رفاعة يتلقى دروسه في الأزهر حتى أتمها وتصدى للتدريس فيه، ثم عين في منصب صغير هو واعظ للعسكر، ثم حدثت الحادثة الكبرى التي غيرت مجرى حياته ورسمت طريق نبوغه، ومكنته من أن يتولى زعامة النهضة، وهي بعثته إلى باريس.
تولى مصر محمد علي باشا وأراد أن ينهض بمصر في جيشها حتى يساوي جيش تركيا ويفوقه، ونهوض الجيش يحتاج إلى تعلم الفنون الحربية وإلى الهندسة وإلى الطب وإلى الصناعة؛ وأراد أن ينهض بالإدارة في تنظيم مالية الدولة وإدارتها وضبط دخلها وخرجها، ونهوض الإدارة يحتاج إلى رؤوس تضع النظام وأيد متعلمة تنفذه؛ ونظر فرأى أن كل ناحية من نواحي الإصلاح تصطدم بالحاجة إلى العلم والعلماء والمتعلمين، وأن ليس في البلاد من ذلك إلى الأزهر وملحقاته، فلم يكن إلا الكتاتيب في القرى والبلدان تحفظ القرآن وتعلم القراءة والكتابة على نمط عتيق، وهذه الكتاتيب تسلم إلى الأزهر، وقد يكون في بعض المدن كالإسكندرية وطنطا معاهد هي صورة مصغرة من الأزهر، والأزهر لا يعلم إلا الدين واللغة العربية على نمط القرون الوسطى، وليس في البلاد كلها مدرسة تعلم الجغرافيا والتاريخ والرياضة والطب والهندسة والزراعة والطبيعة والكيميا. المهندس هو المعمار الذي يتخرج من ممارسته للبناء؛ والطبيب هو الذي قرأ شيئا من تذكرة داود، ومنهاج الدكان ، ومارس الصناعة مع المجربين؛ والرياضي هو من حفظ «سورة الفدان»، وتعلم على الصراف أو نحو ذلك؛ وكل هذه أدوات لا تكفي لبناء نهضة، فما الحل؟
هناك حلول ثلاثة: (1)
إصلاح الأزهر وهو مركز التعليم والتعلم في البلاد، وتوسيع اختصاصه، فتجعل الدراسة الدينية شعبة، وبجانبها شعبة للرياضيات والطبيعيات، وشعبة للطب، وشعبة للهندسة الخ، وقد يبدو أن هذا الحل هو الحل الطبيعي، وفيه بقاء على مركز التعليم وإصلاحه وتوسيعه، ولكن دون ذلك أهوال، فالرأي العام الأزهري لا يرضى عن هذا التغيير، ويعده إفسادا للأزهر، وإفسادا للدين، والرأي العام الشعبي يتبعه ويؤيده، فيحدث ذلك ثورة في البلاد لا حاجة إليها، ثم إن هذا الطريق طويل، فإذا أعدت العدة لهذا التغيير، وانتظرت النتيجة، كان لا بد من مرور سنين، والإصلاح يتطلب السرعة - آه - ما كان أنفع هذا الوجه لو اتسع صدر الأزهر؛ وعقل الناس! (2)
والطريقة الثانية أن نترك الأزهر وشأنه، وننشئ مدارس مدنية من كتاتيب نظامية ومدارس ابتدائية وتجهيزية وخصوصية كالطب والهندسة، ونقلد فيها المدارس الأوربية ولا يكون لهذه المدارس أية صلة بالأزهر إلا بالمدرسين الذين يؤخذون منه لتعليم الدين واللغة العربية، ونستعين بالأوربيين من فرنسيين وإيطاليين وإنجليز نأتي بهم ونضع في يدهم قيادة الحركة العلمية والصناعية، ونجعلهم يمرنون المصريين حتى ينهضوا بالعبء. ولكن عيب هذه الطريقة أن كثيرا ممن نستوردهم من هؤلاء الأوربيين قد لا يخلصون في عملهم، وقد ينظرون إلى مصلحة أممهم لا مصلحة من يعلمونهم، وقد يضيفون إلى تعليمهم قيامهم بوظيفة التجسس لأممهم؛ ثم المصريون المتعلمون على يدهم محال أن يبلغوا مبلغهم، فكلما طالت السلسلة بعدت عن الأصل . (3)
وثالث الوجوه أن ننشئ المدارس التي ذكرنا ونأتي بأروبيين يعلمون، ولكن نجعل هذا ضرورة نتخلص منها في أقرب وقت، فنبعث البعوث لأوربا في مختلف العلوم والفنون، فيتلقونها من مصادرها؛ فإذا عادوا حلوا بالتدريج محل الأوربيين، وبذلك نكسب السرعة ونكسب الإصلاح ونتقي خطر تغلغل الأجانب.
وعلى هذا الرأي الأخير استقر الرأي، فأرسلت أول بعثة هامة سنة 1826 إلى فرنسا؛ وهم أربعون طالبا، بعضهم لدراسة الإدارة المدنية ، وبعضهم لدراسة الإدارة الحربية، ومنهم لدراسة العلوم السياسية، ومنهم لقوة المياه، والعلوم الميكانيكية، والهندسة والمدفعية، وصب المعادن، وصنع الأسلحة والكيميا والطب، والتاريخ الطبيعي، والمعادن.
واختير معهم عضو محافظ، يذكرهم دائما بالتقاليد القديمة ويصدهم عن الاندفاع في تيار المدنية، فيكون إماما لهم في الصلاة، ومظهرا من مظاهر التقاليد القديمة فكان ذلك هو «الشيخ رفاعة» رشحه لهذا أستاذه العطار.
وهل فكروا حين عينوه أن يكون عضوا أصيلا يعد لشيء، أو مجرد إمام تابع للرحلة يسد خانة من خاناتها؟ الظاهر أنهم أرادوه أولا إماما للبعثة، وهذا عمله الأساسي، فإن تعلم وجاء بشيء فلا بأس وليكن الترجمة، ولكن أراد الله أن يكون الإمام في الصلاة للبعثة إماما للحركة العلمية في مصر.
في عصر يوم الجمعة 8 من شعبان سنة 18/1241 من مارس سنة 1826، كان شاب ملتح معمم سنة خمس وعشرون، ويقدره من رآه بأربعين، لأن حياته وحياة أمثاله لم تعرف الشباب، يظهر عليه الخشوع الديني، والتواضع وطيبة القلب وخفة الروح، يسافر مع أعضاء البعثة من مصر إلى الإسكندرية، ولا تظن أنهم اتخذوا قطار الاكسبريس، فوصلوها بعد ثلاث ساعات، ولكنهم أخذوا زوارق صغيرة كل جماعة منهم في زورق، وسارت بهم في النيل أربعة أيام بلياليها حتى وصلوا إلى الإسكندرية، إذ لم تكن مصر عرفت «الوابور» بعد.
الشيخ رفاعة الطهطاوي (2)
ركب (الشيخ) البحر من الإسكندرية، وقد خاف من البحر خوفين: خوفا من ركوبه وقد سمع كثيرا عن البحر وأهواله، وحفظ في الأزهر:
لا أركب البحر أخشى
علي منه المعاطب
طين أنا، وهو ماء
والطين في الماء ذائب
وقرأ في بعض الكتب قول الشاعر:
فيشتت الأفكار ما قاسى الورى
من هول هذا البحر عند ركوبه
وسمع قول العامة في البحر: «داخله مفقود وخارجه مولود»، ولكنه استبشر خيرا بأن بدء الرحلة كان عصر يوم الجمعة، وهو يوم مبارك، وظل يقرأ.
وقال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها ، وقرأ بعد ذلك حزب البحر واعتمد على الله واطمأن، وذكر قول الشاعر:
لما ركبنا ببحر
وكاد من خاف يتلف
على الكريم اعتمدنا
حاشاه أن يتخلف
والخوف الثاني من دوار البحر، وقد سمع عنه كثيرا، ولكن شيخه العطار - وقد ركب البحر مرارا - كان قد أوصاه بفائدة مجربة، وهي أن يتجرع عند نزوله البحر جرعات كبيرة من مائه الملح، ففعل. •••
أول ما لفت نظر «الشيخ» هذا المركب الفرنساوي، وطار خياله، مقارن بين السفينة التي ركبها من القاهرة إلى الإسكندرية، وهذه السفينة الفرنساوية؛ أما الأولى فسفينة قذرة، ولكنه لم يدرك قذارتها إلا لما ركب الثانية، كان يجلس فيها على الألواح، وكان يأكل حيث يجلس، وينام حيث يأكل، ومن حين لآخر يشعل «النوتى» حطبا فيملأ الجو دخانا، ويوقد ناره يطبخ فيها عدسه، في ماعون قد اسود خارجه وداخله، وإذا تم تحلق هو وصحبه حوله وغاصوا بأيديهم فيه، ثم لعقوا أصابعهم بألسنتهم وحمدوا الله؛ وكانت موسيقى المركب لا تنقطع، فصياح لجمع شراع، وصياح لنشر شراع، وصياح لتحويل الدفة، وصياح للمرور من «هويس»، وأوامر ونواه لا تنتهي، وشتائم وسباب كذلك لا ينتهي؛ والمركب غني غنى مفرطا بالحشرات والزواحف من كل لون وشكل، تعين العابد على إمعانه في سهره، وطول تهجده، وكثرة استغاثته بالله.
هذا مركب النيل في مصر، وأما مركب البحر في الإسكندرية فأمره عجب، يقول «الشيخ»: «إن أهل المركب - من الفرنساوية - كانوا يحافظون على تنظيفها وإذهاب الوسخ ما أمكن، حتى إنهم يغسلون مقعدها كل يوم من الأيام، ويكنسونها في صف النوم كل نحو يومين، وينفضون الفراش وغيره، ويشممونها رائحة الهواء، ويزيلون أوخامها». و«الشيخ» يعجب من هذا كل العجب، ويثير مشكلة من أصعب المشاكل، وهي «أن النظافة من الإيمان»، والفرنساوية نصارى، «ليس عندهم من الإيمان مثقال ذرة»، وإخوانهم النصارى من قبط مصر أهل وخم ووسخ، فما بال هؤلاء الفرنساوية النصارى نظفاء، وما بال المؤمنين المسلمين غير نظفاء؟ هذه أولى المشاكل.
وقد ظل «الشيخ» متأثرا بهذه النظرة طول رحلته، يعجب من نظافة الفرنساوية في مراكبهم وفي بيوتهم وفي ملابسهم وفي شوارعهم، ويزداد عبجا إذا بلغه أن أهل فرنسا - مع هذا - ليسوا أنظف أهل أوربا، وأن «أهل الفلمنك (هولنده) أنظف من الفرنساوية إذ تجد غالب حاراتهم مبلطة بالحجر الأبيض المتعهد بالتنظيف، وبيوتهم مجملة من خارجها أيضا، وشبابيكهم القزاز تغسل دائما، بل وحيطانهم الخارجية».
ويحز في نفسه أن المصريين ليسوا بذاك في النظافة، ويزعم «أن أهل مصر في قديم الزمان كانوا أعظم أهل الدنيا نظافة، ولكن لم يقلدهم ذراريهم».
وما أظن ذلك، فالوساخة في مصر داء قديم، وهم - مع الأسف - من أقل الأمم عناية بالنظافة، في مآكلهم وملابسهم ومساكنهم وشوارعهم، ولم تبذل الحكومات المتعاقبة أي مجهود جدي في حملهم على النظافة حتى تصبح عادة، ومحل المقارنة لا يزال الآن كما كان منذ مائة عام في عهد «الشيخ رفاعة» ولا يغرناكم مائة بيت من الطبقة الأرستقراطية في المدن يعيشون في جو نظيف، فالحكم إنما يجب أن ينظر فيه لسائر الشعب؛ وحتى هؤلاء الأرستقراطيون لا يستطيعون أن يعيشوا نظفاء إذا كان من حولهم غير نظيف، فهم مضطرون لمعاملة خدم يخدمونهم، وباعة يبيعون لهم، وركوب ترام أو قطارات يسافرون فيها وهكذا. وكما لا يستطيع بيت أن يعيش نظيفا في حارة قذرة، كذلك لا تستطيع طبقة مهما احتاطت أن تعيش عيشة نظيفة نظافة تامة في جو قذر. إن الفقر المنتشر والبؤس الشائع يدفعان الأمة إلى إهمال النظافة، ولكن أهم من ذلك عدم تدخل أولي الأمر في نظافة الشعب، وتعويده أن يقوم النظافة قيمتها الحقة؛ فمن نعم الله أن تكاليف النظافة رخيصة إذا وجدت نفوسا تأنف القذر.
مما يعجب حقا حساسية «الشيخ رفاعة» بالنظافة، وتقويمه قيمتها الحقة، والتفاته الشديد الدائم إلى هذه الناحية - ولو خصصت الأمة نصف ميزانيتها أو أكثر لتأسيس الحياة الاجتماعية في مصر على أساس النظافة لعقلت. •••
هذا «الشيخ رفاعة» في السفينة الفرنسية «بعمته وجبته وقفطانه»، يتوضأ ويصلي إماما ببعض الطلبة المصريين، ويستظرف الشبان الفرنسيون هذا المنظر، فيجتمعون لمشاهدته؛ ويرون «الشيخ رفاعة» قسيسا يصلي بالمسلمين ويؤمهم، فيحترمونه احترام قسيسهم، ويمنحونه قدرا من إجلالهم، ويخصونه بمزيد عنايتهم.
ويزيدهم استظرافا له أنهم يرونه عاكفا على دراسة اللغة الفرنسية، بيده أجرومية فرنسية يقرؤها كما يقرأ كتاب الأجرومية في النحو العربي، ويحفظ ويمعن في الحفظ، وينطق ببعض كلمات تستخرج ضحك الفرنسيين من أعماق صدورهم، وأصعب شيء على «الشيخ» حرف U الفرنسية فهي ثقيلة النطق على لسانه، فلا هي بالواو التي يعرفها، ولا هي بالياء التي يألفها، ولكنها وسط عجيب بين الواو والياء، يستصعبها فيتجمع لها قبل النطق بها، وإذا وقع نظره عليها من بعيد وهو يقرأ أدرك علامة الخطر. ولقد أذكرني ذلك حكاية ظريفة، فقد كنت أتبادل مع سيدة إنجليزية جميلة تعلم الإنجليزية والعربية، وكان لها عينان تشعان الثقة والإخلاص والأمانة، وكان يصعب عليها النطق بالعين، فكانت تقول: «إن عينكم هذه تقتلني»، فأقول في نفسي: «وعينكم أيضا تقتلني». •••
سارت السفينة بالشيخ أربعة أيام، والبحر هادئ والجو جميل، وطمع الشيخ أن تكون رحلته كلها من هذا القبيل، ولكن ما هو إلا أن عصفت الرياح، واضطربت السفينة، وأخذتها أمواج كالجبال تعلو إلى أعلى القمة وتهبط في لمحة إلى أسفل القاع، ولعبت نفوس الراكبين لعب الأمواج، فثارت ثورتها وهاجت هياجها. قال الشيخ: «فلازم أكثرنا الأرض، وتوسل جميعنا بالشفيع يوم العرض».
بعد مرور خمسة عشر يوما، والبحر يهدأ ويهيج، والسفينة تسير وتلعب، والشيخ يصلي ويقرأ الأجرومية الفرنسية، وقفت السفينة على جزيرة صقلية (سيسليا)، ففرحوا بمنظر الأرض الباسم بعد منظر البحر العابس، وتذكر الشيخ قول الشاعر:
أنل قدمي ظهر الأرض إني
رأيت الأرض أثبت منك ظهرا
ولكن أهل صقلية لم ينيلوه ظهر الأرض، ولم يمكنوه من النزول، إذ كانوا لا يسمحون بدخول البلد إلا بعد الحجر الصحي خوف الوباء، وإنما كانوا يسمحون بالتعامل بالبيع والشراء، على شرط أن النقود التي يأخذها البائعون تغمس في إناء مملوء بالخل، حتى لا تنتقل العدوى.
وظلت السفينة خمسة أيام تتزود حاجتها من ماء وفاكهة وخضر.
لقد كان «الشيخ رفاعة» ظريفا حقا، أتدري ماذا أعجبه من كل ما حوله؟ صوت النواقيس ورناتها الموسيقية، وكانت الأيام أيام عيد، والنواقيس تدق فيدق لها قلب الشيخ. لو غيره سمعها من رجال الدين المتزمتين لاستعاذ بالله من صوتها وحوقل، وسمع منها صوتا من أصوات الكفر يقبض صدره ويعتم نفسه، ولكن شيخنا رحب الصدر، يتعشق الجمال حيث كان في عفة ودين.
ففي إحدى هذه الليالي الخمس دعا صديقا من أصدقائه من أعضاء البعثة، ممن يعرف فيه الظرف والأدب، واقترح عليه أن يشتركا في إنشاء مقامة كمقامة البديع والحريري، ولكن ليس موضوعها التكدي ونصب الحيلة لاقتناص مال، وإما موضوعها ثلاثة أشياء، الأول حوار حول أن «الطبيعة السليمة تميل إلى استحسان الذات الجميلة مع العفاف»، والثاني «سكر المحب من عيني محبوبة»، والثالث «تأثر النفوس، بضرب الناقوس» إذا كان من يضربه ظريفا. هكذا صبا الشيخ وظرف، وأخذ ينشئ الشعر في مقامته في هذه المعاني، فقال في المعنى الأول:
أصبو إلى كل ذي جمال
ولست من صبوتي أخاف
وليس بي في الهوى ارتياب
وإنما شيمتي العفاف
وقال في المعنى الثاني:
قد قلت لما بدا والكاس في يده
وجوهر الخمر فيها شبه خديه
حسبي نزاهة طرفي في محاسنه
ونشوتي من معاني سحر عينيه
وفي المعنى الثالث يقول:
مذجاه يضرب بالناقوس قلت له:
من علم الظبي ضربا بالنواقيس
وقلت للنفس أي الضرب يؤلمكي
ضرب النواقيس أم ضرب النوى - قيسي
ثلاثة وثلاثون يوما قضاها «الشيخ رفاعة» في البحر بين الإسكندرية ومرسيليا، منها خمسة أيام وقوفا في صقلية، ويوم في نابلي، فكم نجح الإنسان أثناء قرن واحد في السرعة ولما يقنع.
الشيخ رفاعة الطهطاوي (3)
رؤيتك أمة جديدة فتح عين لك جديدة، فالحكم على المسائل الاجتماعية يعتمد أكثر ما يعتمد على المقارنة، ولا مقارنة إذا اقتصر الإنسان على النظر إلى أمته وشؤونها، فنشأته فيها واعتياده من صغره رؤية مظاهرها يضعف قوة النقد عنده، ويعوقه عن إدراك مزاياها وعيوبها، فإذا هو رأى أمة أو أمما غير أمته ازداد علما، وازداد قوة على النقد، وكان أقرب إلى صحة الحكم.
ومن أنفع هذا الباب النظرات الأولى للراحل، فهي تحصر وجوه الخلاف قبل أن يألفها ويعتادها، تكون مادة صالحة له إذا هو قيدها وتعمق دراستها. فكم من الطريف أن نصغى إلى الأوروبي الذي يزور مصر لأول مرة ويحدثنا عن أثرها في نفسه، كذلك من الطريف أن نسمع مصريا قحضا رأى أوروبا للمرة الأولى وتحدث عما لفت نظره وأثار عواطفه.
فإذا رأينا الشيخ رفاعة الذي نشأ في صميم الصعيد وشب في صميم القاهرة، وتعلم في صميم الأزهر يتحدث عن الباريسيين والباريسيات كان بلا شك حديثا عجبا.
ما الذي أعجبه في فرنسا وما الذي كرهه، وما الذي ود أن ينقل من ذلك إلى مصر، وما الذي حمد الله أن لا ينقل، ما الذي أحسه عند المقارنة بين مصر وفرنسا ووجوه ضعف مصر وقوتها؟ أصبح ذهنه مشغولا دائما بكلمات خمس: مصر، الغرب، الإسلام، فرنسا، النصرانية، استخدمها في كل نظراته وأحكامه.
أعجبه من الباريسيين ذكؤاهم ودقة فهمهم، وسعة اطلاعهم وميلهم الشديد لمعرفة ما جهلوا، وقلة الأميين بينهم، ورغبتهم في الابتكار «فكل صاحب فن يحب أن يبتدع في فنه شيئا لم يسبق إليه، أو يكمل ما ابتدعه غيره» ثم حب الاستطلاع، «فهم يحبون الرحلة يستطلعون فيها الناس والبلاد، ويحبون الغرباء ليستمعوا منهم أحوال بلادهم وعوائد أهلهم»؛ ثم حب التجديد، «فهم يكرهون الاستمرار على حال واحد في الملبس، وفي الملاهي، وفي التفكير، وفي السياسة». وأعجب ما أعجبه منهم حريتهم في تفكيرهم والتصريح بآرائهم في حكومتهم، والجهر بما يعتقدون في الدين والعلم والسياسة، كما أعجبه جدا المنشآت العامة لنفع الفقراء والمرضى من مستشفيات وملاجئ.
وهذه صفات رآها فتمناها لبلاده، ولكن أين له الحرية التي يتمتع بها أهل باريس لينقد قومه وحكومته ويقول في صراحة ما يتمنى؟ إنما هو يلوح ويلمح.
وعجب جدا من خفتهم وطيشهم، وشدة انفعالهم، فسرعان ما ينتقلون من فرح إلى حزن، ومن حزن إلى فرح، وقد تربى هو تربية وقار وحشمة، ورأى شيوخه في الأزهر جادين دائما، يمشون متئدين وعليهم سيما الرزانة، ويجلسون كأن على رءوسهم الطير، ويتحركون بحساب، ويخطون الخطوة بحساب، فما هذه الخفة في الحركة عند الباريسيين، وكيف يجري هذا الرجل صاحب المقام الرفيع والمركز الاجتماعي الخطير في الشارع كالأطفال، ليدرك موعدا أو يلحق عربة؟ وكيف يفرطون - حتى رجالهم وعجائزهم - في اللهو واللعب، ويصرفون أموالهم في حظوظ نفوسهم، ويسرفون في ذلك على أنفسهم غاية السرف؟ إنهم لخلق عجيب، ولكنهم مع ذلك أهل جد لا يملون العمل، وسواء في ذلك غنيهم وفقيرهم.
لم تعجب الشيخ ماديتهم، فهم بخلاء يحبون المال حبا جما، فأين هذا من كرم العرب! وأين هذا من كرم «الصعايدة»؟ ومن مادية الفرنسيين مواساتهم بأقوالهم وأفعالهم لا بأموالهم، وهم لا يهبون ولا يعيرون إلا إذا وثقوا بالمكافأة، ثم هم يحكمون العقل حيث يحكم الدين، فهم أسوأ حالا من المعتزلة في قولهم بالتحسين والتقبيح العقليين، وهو لا يؤمنون بالمعجزات ولا خوارق العادات، ويؤمنون بالسببية والمسببية إلى أقصى حد؛ فالأمة ترقى بالعدل وتضعف بالظلم، وللعمارة أسباب تنتجها لا محالة، وللخراب أسباب تنتجه لا محالة، ويعتقدون - والعياذ بالله - أن عقول حكمائهم أعظم من عقول أنبيائهم، وأكثرهم لا يؤمن بقضاء ولا قدر - لا. لا. هذا كله لا يعجبي.
وشيء آخر لم يعجبه أبدا، وهو أحوال النساء الباريسيات ... والرجال عندهم عبيد النساء، فأين هذا من الشرق الجميل حيث النساء عبيد الرجال (على أيامه)، وهؤلاء النساء هفواتهن كثيرة، وقلة عفافهن واضحة، وغيرة الرجال عندهم ضعيفة، وخاصة في الطبقات العليا والسفلى، «وقد جرب في بلاد فرنسا أن العفة تستولي على قلوب النساء المنسبوبات إلى الرتبة الوسطى من النساء، دون نساء الأعيان والرعاع، فنساء هاتين المرتبتين تقع عليهن الشبهة» الخ، فأين هذا مما عندنا في الصعيد، حيث الغيرة عند الرجل تبلغ حد الجنون، وويل لمن سمع عنها قالة سوء أو حامت حولها شبهة.
ولكن - والحق يقال - في الباريسيين فضيلة، وهي عدم تغزلهم في المذكر، «فمن محاسن لسانهم وأشعارهم أنها تأبي تغزل الجنس في الجنس، فلا يحسن في اللغة الفرنسية قول الرجل عشقت غلاما، فإن هذا يكون من الكلام المنبوذ، ولذلك إذا ترجم أحدهم كتابا من كتبنا يقلب الكلام إلى وجه آخر، فيقول في ترجمة تلك الجملة عشقت غلامة أو ذاتا ليتخلص من ذلك، فإنهم يرون هذا من فساد الأخلاق، والحق معهم، وذلك أن أحد الجنسين له في غير جنسه خاصة من الخواص يميل بها إليه، كخاصة المغناطيس في جذب الحديد - مثلا - وكخاصة الكهرباء في جذب الأشياء، ونحو ذلك، فإذا اتحد الجنس انعدمت الخاصة، وخرج عن الحالة الطبيعية».
هذه بعض نظرات «الشيخ» إلى باريس أول ما نظر، وظلت هذه النظرات ثابتة عنده، لم تتغير إلا قليلا، بل كانت الأيام تزيدها قوة؛ ولقد أراد يوما أن يستوثق من آرائه هذه فيعرضها ويسمع نقدها، فعرضها على اثنين من أصدقائه الفرنسيين، فأما أحدهما فنقدها بأن الشيخ نظر إلى بعض المسائل متأثرا بأوهام المسلمين، ولعله يشير إلى نقد الشيخ رفاعة لعقيدة الفرنسيين في القضاء والقدر، وإنكار المعجزات، كما نقد نظرته إلى النساء الفرنسيات، وتعميمه الحكم على نساء فرنسا كلها بما شاهده من بعض نساء باريس، وأما الثاني فكان ظريفا رقيقا، وقال: لا يهمني ما حكمت ولكن يهمني ما عتقدت، فما دمت تكتب ما تعتقد فلا ضرر، وإنما الضرر أن تشايع غيرك، ويحملك الحياء والخجل على أن تكتب أو تقول ما لا تعتقد. •••
فكرتان تعارضتا في ذهن محمد علي باشا ورجاله، وكل فكرة مزاياها وعيوبها، أمن الخير أن يسكن هؤلاء الطلبة المبعوثون في بيت واحد وعليهم مشرفون، أو يفرقوا في «البانسيونات» الفرنسية؟ مزية الفكرة الأولى أنها أحفظ للطلبة من العبث، وأنها أحرى أن تجعل الطلبة محافظين على عوائدهم المصرية، فإذا رجعوا إلى بلادهم لم يكونوا قد بعدوا عنها كثيرا فيفيدونها بعلمهم، ويندمجون فيها بسلوكهم، وعيبها أن الطلبة المصريين متى اجتمعوا تكلموا بالعربية، فلم يتقدموا في الفرنسية، وضعف علمهم بأحوال الفرنسيين وشؤونهم، مما قد يكون فيه فائدة لأمتهم؛ ومزية الفكرة الثانية طلاقة ألسنتهم وكثرة استفادتهم وتجاربهم، وعيبها تعرضهم لخطر التهتك، والانغماس في الشهوات، وتطبعهم بطابع الفرنسيين، وبعدهم بذلك عن أهلهم، وتقليد الفرنسيين في أحاديث السياسة والطعن في الحكومات، مما يسبب مشاكل لمصر في المستقبل.
حار بين الفكرتين، فاختار الأولى أولا، فنزل المبعوثون أول الأمر بيتا سمي «بيت الأفندية»، لا يخرجون منه ليلا ولا نهارا إلا يوم الأحد. وإذا خرجوا فبإذن من الضابط للبواب ، ويأتي المعلمون الفرنسيون إلى البيت ليعلموا الطللبة، كل طائفة متماثلة تدرس معا، وتنفق عليهم الأموال عن سعة حتى كان يعدهم الفرنسيون من الأغنياء.
ثم لما تجلت عيوب هذه الطريقة وأحسوا عدم تقدم الطلبة في اللغة والعلم لجئوا إلى الطريقة الثانية، فوزع الطلبة على «البانسيونات» وفرقوا على المدارس كل وما يناسبه، وأطلق لهم شيء من الحرية ولكن في نظام دقيق؛ فيخرجون يوم الأحد، ويوم الخميس بعد الدروس، وبعض الأيام بعد العشاء، ولكن لا بد أن يعودوا إلى مساكنهم قبل الساعة التاسعة في الصيف، والثامنة في الشتاء؛ وفي كل شهر يمتحنون ويكتب تقرير عن كل طالب، ومقدار ما حصله ومدى تقدمه، ويكافأ من ظهرت نجابته بهدية من الكتب أو بعض الأدوات المدرسية؛ وهم ممنوعون منعا باتا أن يدوروا في الأزقة - وإذا عصى أحد هذه الأوامر حبس وعذب، وإذا أتى بأفعال غير لائقة أو شهد المعلمون أنه لا يرجى تقدمه أعيد - حالا - إلى مصر، والكل في ذلك سواء لا يستثنى أحد. ومحمد علي باشا بنفسه يطلع على التقارير الواردة، ويتصرف فيها بما يرى، ويرسل دائما إلى الطلبة يشجع المجد وينذر الكسول، ويراقب كل صغير وكبير. وفي آخر كل عام تأتي التقارير الوافية عن كل طالب، ويمرن كل طالب أثناء تعلمه على التأليف أو الترجمة، ويرسل ذلك لمصر للاطلاع عليه. •••
وضعت برامج مختلفة لتعليم كل طالب حسب دراسته الأولى، والغرض الذي من أجله أرسل. وكان البرنامج الذي وضع للشيخ رفاعة شاقا غريبا، لأنه أعد للترجمة من الفرنسية إلى العربية، وعليه أن يعد لترجمة الكتب في العلوم المختلفة، في الجغرافيا والتاريخ والطب والهندسة والتعاليم العسكرية، وهو لا يستطيع الترجمة في علم من العلوم إلا إذا ثقف فيه، فيجب أن يثقف هذه الثقافات المختلفة ليستطيع التعريب فيها، لذلك كان برنامجه الذي ألزم به ما يأتي:
يجب أن يتعلم الفرنسية، نحوها وصرفها وإملاءها قراءة وكتابة، وقد استمر في ذلك ثلاث سنين، وفي أثناء تلك السنوات يقرأ كتبا معينة في فلسفة اليونان والتاريخ العام.
وعين له كتاب في الحساب يقرؤه ويعرف مصطلحاته وكذلك في الهندسة.
واختير له كتاب واسع في الجغرافيا التاريخية والطبيعية والرياضية والسياسية، قرأه على أستاذ فرنسي.
ويتمرن في كل ذلك على الترجمة من الفرنسية إلى العربية.
ويقرأ كتابا في المنطق الفرنسي، وكتابا في المعادن، وكتبا مختلفة في الأدب الفرنسي، فيقرأ لفولتير، وراسين، وروسو.
ويقرأ في السياسة، والحقوق الطبيعية، وروح الشرائع لمنتسكيو.
ويقرأ على الأستاذ كتابا في علم الطبيعة وكتابا في فن العسكرية.
ويقرأ المجلات العلمية والجرائد السياسية اليومية.
وهكذا كلف كثيرا، وقرأ هو لنفسه كثيرا، وشغف بالكتب السياسية والاجتماعية يقرأ منها كثيرا، إذ رآها تفتح أمامه أبوابا واسعة.
وكان مسيو جومار مدير البعثة يحبه ويعطف عليه، لما رأى من جده ونبوغه، فأعانه وشجعه وسهل له مصاعبه.
ثم استفاد فائدة أخرى كان لها أثر كبير في حياته، ذلك أنه صادف في باريس أيام وجوده بها علمين من أعلام الاستشراق، الأستاذ سلفستر ده سلس والأستاذ كوزين ده برسيفال؛ فأما الأول فمدير مدرسة اللغات الشرقية، واسع الاطلاع في اللغة العربية والفارسية، نشر كتبا عربية كثيرة؛ وألف شرح مقامات الحريري المتداول بين أيدينا، والمطبوع في مصر مرارا، وألف في النحو العربي على طريقة جديدة، وألف كتاب «الأنيس المفيد، للطالب المستفيد» المطبوع في مصر من غير ذكر لمؤلفه الخ؛ وكذلك الأستاذ كوزين نشر كثيرا، وترجم من العربية «صقلية تحت حكم المسلمين» الخ. وكلاهما كان بحاثة، صادقهما الشيخ رفاعة واستفاد منهما منهج المستشرقين في البحث، واستفادا منه بعض معارفه في اللغة العربية، فلما عاد إلى مصر قلدهما في بعض شؤونهما كما سيأتي.
كان عليه أن يتم هذا البرنامج كله في خمس سنوات، وما كان يستطيع ذلك لولا همته وصدق عزمه واتكاؤه على نفسه، فقد أفرط في المطالعة بالليل حتى ضعفت عينه اليسرى، واحتاج إلى تطبيبها، ونصحه الطبيب ألا يطالع فأبى؛ وصرف أكثر مرتبه الخاص في شراء الكتب التي أغرم بها، وفي الاستعانة بمعلمين فرنسيين غير الذين رتبتهم له الدولة.
فإذا مل القراءة والدرس، استجم بنوع من الدراسة آخر لا يقل عن القراءة أهمية، وهو دراسة الحالة الاجتماعية في فرنسا، ومدى تقدمها وأسباب نهضتها، ما قوانينها، ما عاداتها، ما تجارتها، ما وسائل اعتناء أهلها بصحتهم، كيف يعطفون على مرضاهم؟ ما حالاتهم الاقتصادية؟ ما علومهم وفنونهم ونظام التدريس عندهم؟ ما هي المؤسسات العلمية غير المدارس، كالمكتبات والأكاديميات؟ حتى الملاهي والتمثيل وصالات الرقص بجميع أنواعها - كل هذا درسه بأمعان، وقيده بالكتابة، واختزنه في ذهنه، وأجاله في عقله على أساس ما يمكن أن يصنع من ذلك في مصر.
وهو في كل ذلك محتفظ بدينه، محتفظ «بعمته وقفطانه» يهرول بهما في شوارع باريس على كثرة ما لقي في ذلك من عناء، فكلما مشي لفت الأنظار إليه بغرابة شكله وطرافة زيه؛ ولا ينسى يوما حكاية ظريفة وقعت له فتصرف فيها تصرفا ظريفا مثلها، إذ كان يسير ليلة في زقاق في باريس، فمر بحانة لعبت الخمر بمن فيها من رجال ونساء، وصادف مرور الشيخ خروجهم وهم يصيحون «الشراب الشراب»، ولاحت التفاتة من أحدهم فرأى الشيخ يسير في «جبته وقفطانه» فصاح به: يا تركي يا تركي، وقبض على ثيابه، فجذبه الشيخ رفاعة بلطف وساقه إلى «بار» كان بالقرب منه، ودخل به وقال لصاحب البار: «من فضلك أعطني بهذا كأسا».
صاحب البار :
ليس بيع الرجال في بلادنا، إنما ذلك في بلادكم.
الشيخ رفاعة :
وهل هذا رجل؟ وهل من يفعل بنفسه ذلك آدمي؟
وضحك الجميع وانصرف الشيخ. •••
في آخر السنوات الخمس عقد للشيخ الامتحان النهائي، حضره جمهرة من الأساتذة الفرنسيين، ومعهم مسيو جومار؛ وتقدم لهم الشيخ رفاعة ومعه اثنا عشر كتابا أو رسالة ترجمها من الفرنسية إلى العربية أثناء إقامته، ففحصها الممتحنون؛ ثم قدمت له كتب عربية طلب منه أن يقرأ صفحاتها ويترجمها إلى الفرنسية شفاها وعلى البديهة؛ وأحضرت كتب مترجمة من العربية إلى الفرنسية فأعطى الفرنسيون الكتب الفرنسية والشيخ رفاعة الكتاب العربي وطلب إليه أن يقرأها في نفسه وينطق بترجمتها بالفرنسية، وقد أعجبوا بتفوقه، ولكن أخذوا عليه أن نطقه الفرنسي لم يصقل الصقل الكافي، وأنه في الترجمة أحيانا يعبر عن الجملة الواحدة الفرنسية بجمل كثيرة عربية، وربما ترجم الكلمة بجملة فرارا من المصطلحات، وربما غير مجازا فرنسيا بمجاز آخر عربي، وأنه يراعي روح المعنى أكثر مما يراعي حرفية اللفظ، ونصحوه أن يراعي ذلك في المستقبل، وأعلنوا نجاحه في اغتباط وفرح، وكتبوا تقريرا مفصلا لمحمد علي باشا يثنون عليه، ويبينون مدى نجاحه في كل ما عهد إليه، إلا الرسم، فقد تصلبت أصابعه ولم يرزق الخفة في يده، ويتنبأون له بمستقبل باهر في خدمة أمته بما يؤلف ويترجم.
إلى هنا كان الشيخ قد أتم مرحلة الاستعداد، وفارق باريس إلى مصر ليحمل عبئه ويؤدي رسالته، وفي صدره هوى حبيبتيه مصر وباريس فيقول:
لئن طلقت باريسا ثلاثا
فما هذا لغير وصال مصر
فكل منهما عندي عروس
ولكن مصر ليست بنت كفر
الشيخ رفاعة الطهطاوي (4)
شتان بين الشيخ راحلا إلى باريس والشيخ عائدا من باريس، كان معصوب العينين، فعاد مفتوح العينين؛ كان يرى أن مصر أم الدنيا. فإذا هو يراها ذيل الدنيا، ولكن يجب العمل لتكون رأسها، كانت دنياه هي الأزهر وحي الأزهر، فإذا دنياه الدنيا كلها في حاضرها وغابرها ومستقبلها، بما شاهد وبما قرأ من جغرافيا وتاريخ وسياسة واجتماع؛ كانت غايته أن يكون عالما، ومعنى العالم في نظره أن يتقن النحو والبلاغة والأصول، فإن تظرف فحفظ شيء من الشعر؛ وكان مثله الأعلى الشيخ الفضالي والشيخ القويسني، وأن يجلس على مقعد بجوار عمود من أعمدة الأزهر وحوله الطلبة الكثيرون يشرح لهم أغمض الجمل وأعقد التراكيب، فإذا انتهى أقبل عليه الطلبة يتخاطفون يده لتقبيلها، فإذا هو يرى في فرنسا أن كلمة «العالم » المطلق لا مدلول لها، إنما هناك عالم جغرافيا وعالم تاريخ وهكذا، وأن شيوخ الأزهر لم يعودوا مثله الأعلى، فإن علم الأزهر نقطة من بحر العلم، وطريقة تعليمهم نقطة سوداء في مناهج التعليم، وليس مثله الأعلى أن يجلس بجوار عمود، ولكن مثله الأعلى ورسالته الكبرى أن يغزو الجهل والأمية في مصر كلها، وأن يخلق فيها حركة تعليم تقلب أوضاعها وتنير أذهانها، وتبصرها بالدنيا وتفهمها أين هم لأنفسهم وأين هم من الأمم الأخرى - وكان يرى الشيوخ يتملقون الولاة والأمراء تملقا رخيصا ليستدروا منهم كيس نقود أو خلعة سنية، فصار يرى أنه لا يستطيع أن يكف عن المدح، وإلا فسد برنامجه، فليمدح لمشروع جليل، ولإنشاء مدرسة، ولعمل خيري، ولرسم الطريق للأمراء ليتوجهوا بأعمالهم نحو الخير العام.
وأخيرا كان يحس من نفسه الضعة إذا جالس واليا وأميرا أو عظيما، وكان يحس النقص إذا جلس في مجلس يتكلم فيه عن شؤون الدنيا، فارتفعت نفسه، فمن فخر بلغة فهو يملك ناصية الفرنسية، ومن فخر بعلم دنيوي فليس يمكن أن يباريه، ومن فخر بمعرفة الدنيا وشؤونها فأين هو منه وقد قرأ جغرافية العالم وسياسته، وجالس أذكى الناس عقلا وأرقاهم مدنية، وعاش في أوساط قد لا يبلغها كبير. وهكذا سمت نفسه وشعر بقوته في غير كبر ولا غرور، يرتفع عن بني قومه ولكن يأخذ بيدهم، ويحس قوته فيصرفها في نفع أمته، ويحذق فهم التيارات السياسية في مصر، وعقلية الشعب وعقلية الولاة، فيعرف كيف يتجه بسفينته.
خمس سنوات في فرنسا جعلت منه إنسانا آخر، ولكن كم من مئات ومن ألوف قضوا أعواما وأعواما في انجلترا وفرنسا وألمانيا وعادوا نكبة على أوطانهم، ولم يفيدوها حتى بكف شرورهم عنها، وصدق الأثر: «الناس معادن خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام». ولو كان لنا في كل مجموعة من البعثة مبعوث مثل رفاعة لتغير وجه مصر. •••
كان من العادات الظريفة التي اندثرت أن يجتمع الجم الغفير من العلماء والأمراء والأغنياء والتجار في ليلة من ليالي رمضان في بيت السادات في «بركة الفيل»، ويجلس الشريف الحسيب النسيب وشيخ السادات مجلسه الفخم الوقور يمنح الرتب والألقاب لمن شاء من الزوار، ولكن ليست رتبة «بك» ولا «باشا» ولا نحو ذلك، إنما هي ألقاب وكنى يستمدها من الوحي الصوفي والإلهام اللدنى، فهذا أبو الأنوار، وهذا أبو الوفاء، وهذا أبو البركات، وهذا أبو الخير؛ ففي ليلة من هذه الليالي الرمضانية كان من الزوار شيخنا الشيخ رفاعة، فتفرس فيه شيخ السادات، ونظر إليه بقلبه ، ثم قال له: «اذهب فأنت أبو العزم»، وكذلك كان، وكانت كنية موفقة، فأبرز صفات «الشيخ رفاعة» عزمه. •••
عاد الشيخ رفاعة إلى مصر سنة 1247ه، وقد عرفه محمد علي باشا بما كتبه عنه مدير البعثة من تقارير، وعرفة إبراهيم باشا حين قابله في الإسكندرية، لأنه سمع به حين زيارته باريس، ولأنه كان يعرف أسرته في طهطا، وقد عرف ما نكبت به من انتزاع ما في يدها من أطيان، وقطع ما يصرف لها من غلال، فأراد أن يكفر عن ذلك، فمنحه 36 فدانا في الخانكة (الخانقاه)، فكان ذلك مبدأ ثروته ونعمته - أرض لطيفة قريبة من القاهرة يستطيع الشيخ أن يديرها ويرفه عن نفسه فيها.
عينه محمد علي باشا مترجما في مدرسة الطب، وكانت بأبي زعبل، وكان ناظرها كلوت بك، وكانت محاولة أولية لمدرسة الطب أنشئت بجانب المستشفى هناك، وكان يؤخذ تلاميذها من المكاتب ومن الأزهر، لا يعرفون لغة، ولا يعرفون إلا القراءة والكتابة وقليلا من الحساب الأولي، وكان المدرسون الذين يدرسون الطب إما فرنسيين أو إيطاليين، فكيف يكون التفاهم بين الطلبة والمدرسين؟ لا بد من مترجمين يعرفون العربية والفرنسية والإيطالية، فيلقي الأساتذة الدروس بلغتهم والطلبة سكوت لا يفهمون شيئا، فيترجمه المترجمون إلى العربية، ثم يشرح المترجمون للأساتذة ما ترجموا ليثق الأساتذة من صحة الترجمة، ثم يمليه المترجمون على الطلبة بالعربية، ثم يحفظه الطلبة، ومن أظهر التقدم من الطلبة واستطاع أن يفهم من الأساتذة بعض الشيء جعل مشرفا على الطلبة الضعاف مساعدا للأستاذ والمترجم.
وهؤلاء المترجمون أيضا مشكلة أخرى، فهم طائفة من السوريين أو الأرمن أو نحوهم مثل مسيو رفاييل ومسيو عنحوري، قد يجيدون اللغة الأجنبية، ولا يجيدون العربية؛ فاقتضى الأمر أن يؤتى ببعض علماء الأزهر لتصحيح ما يترجمه المترجمون، وسبب وجود علماء الأزهر مشكلة ثالثة، وهي أن التشريح حرام، وهو يعمل في السر، ويخشى أن يطلع عليه علماء الأزهر فيفضحوا المدرسة ويولبوا عليها الرأي العام، وليس لهذه المشكلة من علاج إلا أن يختار من الأزهر الشيوخ المرنون، كالشيخ الدسوقي والشيخ الهراوي، ويرجون ألا يفشوا السر.
هذا هو الوضع للمدرسة أيام عين بها «الشيخ رفاعة» مترجما، فكان أول مترجم مصري يجيد العربية والفرنسية وله إلمام بالطب، وقد عين مرءوسا للمسيو عنحوري، فلما رأى منه (مسيو عنحوري) هذه المقدرة تخلى له عن مكانه.
وعهد إلى الشيخ رفاعة إلى جانب الترجمة أن يعلم بعض الطلبة الإعداديين اللغة الفرنسية والجغرافيا، وصدر الأمر بأن يعطي مرتبا على ذلك 1223 قرشا في الشهر، مع إضافات، كبدل انتقال ونحو ذلك. مرتب ضخم في ذلك العصر، فاثنا عشر جنيها كانت قدرتها الشرائية أكثر من ستين أو سبعين جنيها في عصرنا، حتى قبل أن يرخص ورق النقد.
ولهذا نرى الشيخ ينزوج بنت خاله الشيخ محمد الأنصاري، ويتبحبح في المعيشة، فيكون له بيت في «المهمشة» بالقرب من شبرا، وفيه حديقة لطليفة فيها أثر الذوق الفرنسي، وفي البيت جوار وعبيد من ملك يمينه - فلم يكن أبطل الرق بعد - وفي ذلك أثر للذوق الشرقي.
عمل في مدرسة الطب ما شاء الله أن يعمل، وأحس الطلبة روحا جديدا في المدرسة، ورقيا في لغتهم اقتربوا به من أساتذتهم، وقرب إليه بعض خيار الطلبة يشجعهم ويمرنهم ويعدهم للبعثة، وكان من هؤلاء محمد علي باشا البقلي - جراح مصر الشهير - فكان يقبل يد الشيخ كلما رآه، ويعد نفسه صنيعة من صنائعه، فلولاه ما نبغ، ولولاه ما كان مبعوثا؛ بل أخذ الشيخ في هذه الفترة يضع الرسائل في الطب يساعد بها الطلبة ويراجع الكتب العربية القديمة من قانون ابن سينا وتذكره داود لوضع المصطلحات الطبية.
ولكن لم يلبت بهذه المدرسة إلا نحو سنتين، ثم صدر الأمر بنقله من مدرسة الطب بأبي زعبل إلى مدرسة «الطوبجية» بطره، وكان ناظرها رجلا أسبانيا اسمه «ساكورا» بك، واسمه في الأصل «الدون أنطونيو ده سيجويرا» عربه الشيخ رفاعة إلى «ساكورا»، وكان في الأصل ضابطا برتبة كولونيل في المدفعية، عهد إليه تأسيس هذه المدرسة وتنظيمها لتخريج ضباط للجيش وللبحرية، يؤخذ طلبتها من المكاتب، ويتعلمون بها الفنون العسكرية والحساب والجبر والهندسة ولغة أجنبية.
فعين الشيخ رفاعة ليترجم الكتب العسكرية والرياضية ، بعد أن كان يترجم الكتب الطبية، وطلب إليه أن يترجم فن إحداث الجراح، بدل ما كان يترجم فن تضميد الجراح - فليكن - ها هو الشيخ يعكف على ترجمة كتاب في الهندسة يدرس في مدرسة «سانسير» بفرنسا، وها هو يقلب أيضا الكتب القديمة في الهندسة يستخرج مصطلحاتها، وها هي مطبعة بولاق تطبعها وتوزعها على طلبة مدرسة الطوبجية.
ولكن الشيخ لم يعجبه مسيوبا كورا بك، ولم تحسن العلاقة بينهما. وتأتي سنة 1250ه، فيحدث في مصر طاعون شنيع، ويكثر الموتى وتضطرب الأحوال في القاهرة، ويغلو السعر حتى تكون كيلة القمح بتسعة قروش، فيسافر الشيخ بلا إذن إلى بلده طهطا.
مكث في بلده ستين يوما، هل استراح فيها وسكن إلى أهله وأهل بلده بعد غيبة طويلة؟ هل فكر في الطاعون وكثرة الموتى؟ هل صده عن العمل تضايقه من مسيوسا كورا؟ لا شيء من ذلك، ها هو كتاب في الجغرافيا أعجب بقراءته لما كان في باريس، وأعيدت منه طبعة جديدة أدخلت عليه تعديلات جديدة، وهو كتاب ضخم واسع مؤلفه «ملطبرون»
Malte-Brun
دنماركي الأصل، نفي من بلاده فأقام في باريس، فعكف على دراسة الجغرافيا طول حياته، واعتصر منها مؤلفا في ستة أجزاء ضخام، أقام في تأليفه تسعة عشر عاما، وفيه أرقى المعلومات وأوسعها عن العالم (في عصره) لو ترجم إلى العربية لوسع من آفاق أهل العربية وفتح عيونهم للعالم.
في هذه الستين يوما دأب على ترجمة الجزء الأول منه، وعاد به في يده، وقابل محمد علي باشا وقدمه إليه وشرح له قيمته، فشكره ومنحه منحة، وأنعم عليه بلقب صاغ، إذ كانت كل الرتب عسكرية، فأصبح «الصاغ رفاعة»؛ وشكا له من عمل في مدرسة الطوبجية ومن مسيوسا كورا، وقدم إليه مشروعا لمدرسة الألسن وصف فيه برنامجها وما يصح أن تؤديه لمصر من الخدمة إذا أسست على أساس صحيح، وأنه هو أنفع لهذا العمل والإشراف عليه، فكان ذلك، ونقل من مدرسة الطوبجية إلى مدرسة الألسن، يؤسسها وينظمها ويتولى الإشراف عليها. وهنا أعطى القوس باريها وتجلت عظمته ومواهبه فيها.
ما مدرسة الألسن التي خلقها الشيخ رفاعة، وما الغرض منها؟؟
لقد عرف الشيخ رفاعة في باريس مدرسة اللغات الشرقية، أسست لدراسة لغات الاستشراق، وكان يسميها في كتابته مدرسة الألسن، لما ذاع في العربية من اللسان العربي واللسان العجمي، ولما جرى على ألسنة العامة: «يتكلم بالسبعة ألسن». ولكن موقف مصر في اللغات غير موقف فرنسا، فوجب أن تؤسس في مصر مدرسة للألسن تواجه مطالبها وتناسب موقعها.
لقد نجحت فكرة محمد علي باشا في البعثات، وعاد أعضاؤها يتكلمون الفرنسية، ويجيدون ما تخصصوا له من المسائل الفنية، ولكنهم لا يكفون للنهضة المصرية الواسعة النطاق، إن مصر محتاجة لمن ينقل لها خير ما وصل إليه العلم الحديث في كل فروعه، فلا بد من تكوين طائفة كبيرة من الشبان يحذقون العربية ولغة أخرى حية، وخاصة الفرنسية، وإلى ذلك يثقفون ثقافة فنية خاصة، هذا في الرياضة، وهذا في القانون، وهذا في الجغرافيا والتاريخ؛ حتى إذا عهد إليهم ترجمة كتاب كانوا مثقفين بعلمه ولغته، وهؤلاء المتخرجون على هذا النحو يستطيعون أن يقوموا بترجمة الكتب في الفروع المختلفة، ويصح أن يكونوا معلمين في المدارس التجهيزية والخصوصية، ويصح أن يكونوا موظفين في مصالح الحكومة التي تحتاج إلى من يجيدون لغة إلى لغتهم الأصلية، فيكونوا نواة لنهضة صحيحة - إننا بالبعثة ننقل المصريين إلى أوروبا، وبهذه المدرسة ننقل علم أوروبا إلى مصر. الترجمة، الترجمة، هي أساس النهضة لمصر، وهي مبعثها من مرتدها، والفاتحة لعيونها، لقد تقدم العلم الإسلامي، بعد وضع أساس النهضة بالترجمة في العصر العباسي، فوجب أن تكون نهضتنا الحديثة مؤسسة على الترجمة الحديثة، ولهذا لقبوا محمد علي بالمأمون الثاني.
ثم في هذا العمل - إذا نجح - فائدة أخرى، وهي إيجاد عدد كبير ممن يحذق اللغات الأجنبية، فنستطيع بهم أن نستغني عن كثير من الفرنج الذين يحتلون هذه المناصب، كما نستريح من مشاكلهم.
فلنأخذ الطلبة من النابهين في المكاتب، وندرس لهم خمس سنوات أو ستا اللغات العربية والفرنسية والتركية، ومبادئ الرياضيات، والتاريخ والجغرافيا، ولنختر لهذه الدراسة خير من عندنا من فرنسيين وترك وعلماء أزهر ، ولنخلص النية في تعليم هؤلاء الطلبة، فعليهم تتوقف النهضة، وهم معقد الأمل.
هذا هو مشروع مدرسة الألسن كما تصوره الشيخ رفاعة، وكما صادق عليه محمد علي باشا، وصدر الأمر بإنشائها، وأعدت عدتها، وفتحت، وتولى نظارتها «الشيخ رفاعة».
الشيخ رفاعة الطهطاوي (5)
من يظن أن «خمارة شبت» كما يسميها العوام، أو «فندق شبرد» كما يسميه المتعلمون اليوم هو الذي كان مدرسة الألسن، حيث كان الشيخ رفاعة ومساعدوه وتلاميذه يخمرون الخميرة الأولى للنهضة العلمية والأدبية؟
ومن يظن وهو يمر الآن على هذا النزل أن له تاريخا طويلا، وأن قد تقلبت عليه أوضاع شتى فتداول عليه الجد والهزل، واحتلته الأرستقراطية والديمقراطية، وكان أحيانا حرما آمنا لا يستطيع أن يقربه أحد، ثم كان كبرج بابل يرطن فيه بالفرنسية والإنجليزية والعربية والتركية، وتدوي في أرجائه اللغات دوي النحل، ثم أصبح مثابة لكل أرستقراطي عابر. لقد كان بيتا للأمير أحمد بك الدفتردار زوج الأميرة نازلي هانم كريمة محمد علي باشا، ثم مدرسة للألسن، ثم جعله محمد علي فندقا للإنجليز، ثم ضار فندقا لمن يشاء، وهكذا الأماكن «تشقى كما تشقى الرجال وتسعد»، فهذا البهو الفسيح كان يخطر فيه الشيخ رفاعة وحوله الطلبة يعرضون عليه مشاكلهم اللغوية، وأحيانا يخطب فيهم فيجلجل صوته، ثم كان يجلجل فيه صوت الجازبند، يرقص على نغماته مهفهفو الشبان، مع الفيد الحسان. •••
سافر الشيخ إلى الأقاليم يفتش في المكاتب عن نجباء التلاميذ يختار منهم من يصلح ليكونوا تلاميذ لمدرسة الألسن، وكانت قد انتشرت هذه المكاتب في الأرياف، وأسست على نظام جديد، فيه شيء من الثقافة المدنية كالحساب وما إليه ، وسميت «مكاتب الأرياف الأميرية» وبلغ عدد طلبتها خمسة عشر ألفا، اختار «الشيخ» منهم خمسين، ولكن لوحظ أن أكثر من اختارهم من الصعيد، فهل كان هذا «محسوبية» من الشيخ وعصبية لأهل بلده وإقليمه؟ قد يكون ذلك، فالمحسوبية داء قديم، وكما يصح أن يفسر هذا التفسير السيء يصح أن يفسر تفسيرا آخر نبيلا، وهو أن إقبال الناس على تعليم أبنائهم كان ضعيفا، وكثير ممن تعلموا في ذلك العصر تعلموا بالإكراه، وكان من يؤخذ ليتعلم يودع بالصياح والعويل، كما يودع من قبل في الجندبة اليوم، وقد يقبل الناس أن يتعلم أبناؤهم في مكاتب بلادهم، أما أن يسافروا إلى مصر بعيدين عن أنظارهم ولا يعرفون عاقبة أمرهم، فهذا ما لا يقبلون؛ والشيخ رفاعة صعيدي له في قومه جاه، وله في بلده وما حوله حسن سمعة، فالناس يطمئنون أن يسلموا أولادهم له، وليس له من هذه الوجاهة في الوجه البحري ما لم في الوجه القبلي، فلعل علة كثرة الصعايدة في الدفعة الأولى من تلاميذ مدرسة الألسن، حتى إذا اطمأن الناس إلى هذه المدرسة رأينا التلاميذ من الأقاليم المختلفة لا فرق بين صعيديهم وبحريهم.
خمسون تلميذا داخلية في مدرسة الألسن يأكلون ويشربون ويلبسون وينامون ويتعلمون على حساب الدولة، ومعهم ثلاثة مدرسين فرنسيين، ومدرسون من علماء الأزهر لتدريس اللغة العربية، ومدرسون للمواد الأخرى وعلى رأسهم الشيخ رفاعة.
ليس من السهل إنشاء مدرسة كهذه، فهي تسبب مشاكل لا تنتهي: طلبة من الأرياف «بعبلهم»، لم يروا إلا زرعهم وضرعهم وبيتهم المتواضع الذي تنام فيه الجاموس والبقر بجوارهم، وفيهم للتزوج وله أولاد، وفيهم من لم يبلغ الحلم، يدخلون فجأة هذا القصر المنيف، ويراد منهم أن يعيشوا عيشة نظامية نظيفة، ويجلسون أمام مسيو «بتيير» يتعلمون منه الفرنسية! يا لها من معجزة! والشيخ علي الفرغلي الأنصاري يخلع حذاءه ويشمر ويتوضأ، ويخلع جبنه، ويفرشها على الأرض، ويصلي الظهر في حجرة واحدة مع مسيو «ديزون».
وأحمد عبيد الطحطاوي الطالب في المدرسة يبصق على أرض الحجرة المصنوعة من «الباركية» - عقليات مختلفة في الطلبة، وعقلية متباينة في الأساتذة، ويطلب من كل هذه العناصر المتناقضة أن تكون وحدة.
لا بأس، فالشيخ رفاعة قادر على كل ذلك، وقد مر بهذه الأدوار كلها وعرف عقلياتها، فهو مستطيع مواجهتها ومعالجتها، هو ملتقى العقليات المختلفة والتقاليد الاجتماعية المتباينة.
غريب أمر الشيخ في المدرسة - رزقه الله صحة جيدة لا تمل، ورزقه قلة النوم، ورزقه الطبع الفرح المرح الذي يستعذب النكتة ويضحك لها من أعماق قلبه ويشارك في صنعها ، بكل ذلك يملأ جو المدرسة، هو أب رحيم لكل الطلبة، وأخ كريم لكل الأساتذة. هو حركة دائمة لا تتقيد بميعاد ولا جرس، يحلو له أحيانا أن يعقد درسا بعد العشاء أو في ثلث الليل الأخير فيفعل والطلبة في إقبال على التحصيل، والأساتذة في إقبال على الدرس.
فإذا نال الطلبة قسطا لا بأس به من الفرنسية والعربية مرنهم على الترجمة، ولكن لا يمرنهم بموضوعات تكتب في كراساتهم ثم تطرح، بل في كتب نافعة يترجمون منها ما استطاعوا، فإذا وقفوا في فهم جملة أو لم يستطيعوا ترجمتها رجعوا إلى الشيخ فساعدهم، ثم عرضوا ما ترجموا على أستاذ اللغة العربية يصحح لغتهم، وخاصة الشيخ محمد قطة العدوي، فقد كان ساعده الأيمن في هذه المدرسة بفضل ما منح من قدرة على التدريس بلغة سهلة، وعبارة فصيحة وقدرته الفائقة على تصحيح عبارات الطلبة فيما يترجمون. فإذا أتموا الكتاب أو الكتب روجعت ثم قدمت إلى المطبعة لتطبع، فتكون أثرا خالدا.
فأنت يا أبا السعود أفندي ترجم لنا هذا الكتاب وسمه «نظم اللآلى في السلوك، فيمن حكم فرنسا من الملوك»؛ وأنت يا خليفة أفندي محمود ترجم لنا «إتحاف ملوك الزمان في تاريخ شارلكان»، فإذا فرغت منه فترجم «المشرق في المنطق»؛ وأنت يا محمد أفندي مصطفى البياع ترجم لنا «مطالع الشموس في وقائع كرلوس» ملك السويد؛ وأنت يا أحمد أفندي عبيد ترجم لنا «الروض الأزهر في تاريخ بطرس الأكبر» وهكذا.
واسمعوا ما يقوله هذا الأخير في كتابه؛ لأنه يدل على منهج العمل: «كنت تحت إرشاد مدير مدرسة الألسن، المؤيد برعاية الملك المبدى ، السيد رفاعة أفندي، فأجاد تربيتي كغيري، حتى حسن حالي وسيري، وتعلمت بإرشاده اللغتين الفرنساوية والعربية ... فبعد أن رأى في التعليم حسن حالي، واجتهادي في نيل المعالي بين أمثالي، اقتضى رأيه المؤيد، وحزمه المعضد، أن أترجم كتابا من كتب التاريخ، فاختار ملكا من ملوك الإفرنج تعلو همته على المريخ، وهو تاريخ بطرس الأكبر، الذي فضله أشهر من أن يذكر، لمؤلفه الشهير المسمى فولتير، الذي يعد بين أكابرهم أعظم حجة، وإن كان عن الأديان بعيد المحجة، فجاء التعريب بحمد الله على أحسن حال، وأتم منوال، وقد شرعت في نقله من الفرنساوية إلى العربية، مع إعانته لي في حل مشكلاته، وما عسر علي من غوامضه ومعضلاته ... وقد صرفت في ترجمته على صعوبته الهمة، وسهرت في مطالعته وفهمه الليالي المدلهمة ... مع ما يضاف إلى ذلك من كون هذا التاريخ معدودا من التواريخ السياسية المشحونة بالوقائع والحوادث البوليتيفية، ومؤلفه من كبار المتفلسفين من العيسوية، ومن عظماء فصحاء الدولة الفرنساوية، ولا أقول مع ذلك إنه خلى من الخلل، أو عري من الخطل، فإن ذلك ليس في طاقة الإنسان، الجامع في اشتقاقه حروف النسيان.
وبعد سنوات تخرجت هذه الدفعة الأولى، فشهدت مصر منها نموذجا لم تشهده من قبل، شباب متعلم لغة عربية ولغة أجنبية، ومثقف ثقافة أدبية - جغرافية وتاريخية. وكل ذلك تعلمه في مصر لا في أوروبا، ولذلك تلقفتهم المصالح المختلفة التي تحتاج إلى هذا النمط من الموظفين، فكنت ترى - فيما بعد - هؤلاء المتخرجين في الدفعة الأولى، يشغلون مناصب هامة مختلفة، هذا عبد الله افتدى أبو السعود أكبر رجال الترجمة في مصر، ومدرس التاريخ العام بدار العلوم، وهذا محمد أفندي عبد الرازق كاتب سر الحضرة الخديوية، وهذا شحاته عيسى أفندي قد تخصص بعد في العلوم الرياضية والحربية، وكان ناظر مدرسة أركان حرب، وهذا أحمد عبيد أفندي وكيل مجلس التجار بالمحروسة، وهذا حسن فهمي أفندي وكيل السكك الحديدية بالأقطار الصعيدية، وهذا السيد عثمان الدويني القاضي، وهذا مصطفى رضوان مدرس اللغة الفرنسية بمدرسة الطب، الخ الخ، ولو رأيتهم يوم دخلوا المدرسة بجلابيبهم وسذاجتهم ورأيتهم يوم تخرجوا بعد سنوات قلائل، لأخذ منك العجب كل مأخذ، وهتفت بحياة «الشيخ رفاعة».
وقد استفاد هو نفسه من هذه التجربة الأولى، فأخذ يصلح الأخطاء ويوسع الاختصاص وينوع العمل.
فألحقت بمدرسة الألسن مدرسة تجهيزية تعد الطلبة للدخول بها بدل أبناء المكاتب، وأدخلت اللغة الإنجليزية ضمن اللغات التي تدرس فيها، وتوسع في قبول الطلبة حتى بلغ من فيها مائة وخمسين طالبا، وأنشئت بالمدرسة فروع مختلفة، مدرسة فقه وشريعة إسلامية يدرس بها القانون الفرنساوي والفقه الإسلامي، ومدرسة محاسبة ومدرسة إدارة أفرنجية، وكل هذه المدارس يسومها ويديرها الشيخ رفاعة، ويحل فيها المصريين أساتذة محل الأوروبيين.
سبع عشرة سنة يعمل في هذه المدارس، كالنحلة لا يمل، فأمور إدارية، وقيام بترجمة كتب، وإشراف على ما يترجمه غيره، وفي كل حين يضم إليه عمل آخر جديد، فيعهد إليه الإشراف على جريدة الوقائع المصرية، والكتبخانة الإفرنجية، ومخزن عموم المدارس، ويفتش على المدارس، ويشرف على الامتحانات العامة في آخر السنة، ويحبر الخطب تخطب فيها، حتى كون جيلا جديدا هو - من غير شك - أثر مجهوده ونتيجة إخلاصه، وتغير وجه مصر من الناحية العلمية والأدبية، فجعله ما ألفه وترجمه هو وتلاميذه بين مطبوع وغير مطبوع، نحو ألفي كتاب، هي خميرة نهضتنا، وعماد ثقافتنا. يدين له رجال الأدب بما كون لهم من أمثال إبراهيم بك مرزوق الناظم الناثر المشهور، ومحمد عثمان جلال، صاحب العيون اليواقظ ومترجم قصص لافونتين، وقبول وورد جنة الخ، وصالح مجدي؛ ويدين له رجال القانون بما أخرج لهم من أمثال قدري باشا مقنن الشريعة الإسلامية بكتبه الأحوال الشخصية، وقانون العدل والإنصاف، ومرشد الحيران؛ ويدين له الرياضيون بأمثال محمد بك الشيمي وتأليفه في الحساب والهندسة، إلى ما لا يحصى من رجال الفكر في كل فرع من فروع العلم. •••
زهت له الدنيا، فهو ناجح في عمله، والولاة مقبلون عليه مقدرون لجهده، والمنح تتوالى عليه، فكلما تقدم تلاميذه ومنحوا ألقابا لم يرض أولو الأمر إلا أن يمنحوه ألقابا أعلى منهم، حتى تقدم مرة بجزء آخر من ترجمة كتاب ملطبرون إلى محمد علي باشا فمنحه رتبة ميرالاي ورفع مرتبه إلى 13000 قرش صاغ في الشهر، ومنحه 250 فدانا في بلده طهطا إحسانا بإحسان.
ولكن الدنيا لا تدوم على حال، والعيش - أبدا - حلو ومر، «والدهر ذو غلطة حينا وذو لين»؛ فهذا عباس باشا الأول يأتي فيقف حركة التعليم ويبطل المصانع والمعامل، رغبة - فيما زعم - في الاقتصاد، ولم يبق للتعليم إلا مدارس قليلة جدا، وكان فيما ألغى مدرسة الألسن والشيخ رفاعة، وإذ كان الشيخ أكبر منبع للتعليم، كان أحق الناس بالمقت، وإذ كان أحب شيء إلى الشيخ العلم والتعليم، فأبغض الناس إليه من يلغي العلم والتعليم. وجاء رجال السوء الذين يزينون للرؤساء كل ما يهوون، ويخترعون المنطق لكل ما يرغبون، فإذا قالوا أسود، أتوا إليهم بألف دليل على أنه أسود، وإذا قالوا أبيض، أتوا إليهم بألف دليل على أنه أبيض، وإذا قالوا أسود أبيض لم يعدموا ألف دليل آخر على أنه أسود أبيض. كالذي يروي أن طاهيا سأل سيده يوما:
ماذا نطبخ اليوم؟
السيد :
والله لا أدري، أنطبخ باذنجانا؟
الطاهي :
الله! نعم ما ذكرت، إنه لذيذ الطعم، مفيد للجسم.
السيد :
ولكنه يتعب معدتي.
الطاهي :
صدقت، ما أثقله، وما أعسر هضمه، وما أقل فائدته.
السيد :
يا رجل! إنك من لحظة تمدحه وتقر بفائدته!
الطاهي :
اسمع يا سيدي، أنا خادمك أو خادم الباذنجان!
كذلك شم هؤلاء رغبة الوالي في إقفال المدارس، فاستطاعوا أن يجدوا ألف دليل على ضرر العلم وضرر التعليم، وطعنوا في الشيخ رفاعة بأنه قليل الفائدة، عقيم الطريقة.
فإذا الأمر يصدر بنفيه إلى الخرطوم تحت ستار غنشاء مدرسة ابتدائية هناك وتعيينه ناظرها ومعه طائفة من المغضوب عليهم ولا الضالين. ولم يكن الأمر أمر اختيار كما هو شأننا اليوم، نقبل الوظيفة أو نرفضها، إنما الأمر أمر جزم يقبل الوظيفة، أو ينفى إلى أسوأ من الخرطوم بلا وظيفة.
الشيخ في الخرطوم بعد باريس، ولم تكن الخرطوم كما نعهد اليوم، نظافة شوارع، وجمال مساكن، ومدنية وأبهة، إنما كانت مدينة صغيرة لا عناية فيها بالصحة ، ولا وسائل متوفرة للعيش، وهو ناظر مدرسة ابتدائية في السودان بعد أن كان ناظر التعليم كله في مصر، وكل يوم يتخطف الموت أحد معاونيه، حتى لم يبق إلا نصفهم أو أقل، والشيخ يستغيث ولا مغيث، فيشفي غليله في قصائد الاستغاثة، يستغيث أولا بالأمراء، فإذا فشل استغاث بالأولياء والأنبياء، ها هو يستغيث - أولا بحسن باشا كتخدا مصر بقصيدة في ستة وثمانين بيتا، يصف فيها الوشاة فيقول:
مهازيل الفضائل خادعوني
وهل في حربهم يكبو جوادي؟
وزخرف قولهم إذ موهوه
على تزييفه نادى المنادي
قياس مدارسي - قالوا - عقيم
بمصر، فما النتيجة من بعادي؟
ويعجب كيف يقوم لمصر بمثل هذه
الأعمال ثم يجازى مثل هذا الجزاء
على عدد التواتر معرباتي
تفي بفنون سلم أو جهاد
وملطبرون يشهد وهو عدل
ومنتسكو يقر بلا تمادي
ومغترفو قراح فرات درسي
قد اقترحوا سقاية كل صادى
ولاح لسان باريس كشمس
بقاهرة المعز على عمادي •••
رحلت بصفقة المغبون عنها
وفضلي في سواها في المزاد
وما السودان قط مقام مثلي
ولا سلماي فيه ولا سعادي
ويحز في نفسه فرقة أولاده:
وقد فارقت أطفالا صغارا
بطهطا دون عودي واعتيادي
أفكر فيهموا سرا وجهرا
ولا سمري يطيب ولا رقادي
أريد وصالهم والدهر يأبى
مواصلتي ويطمع في عنادي
وكان الشيخ ماكرا حقا، فقد وضع القصيدة على وزن وقافية:
لقد أسمعت لو ناديت حيا
ولكن لا حياة لمن تنادي
فلما لم يجده ذلك أخذ يخمس قصيدة لسيدي عبد الرحيم البرعي في مدح النبي مطلعها:
خل الغرام لصب دمعه دمه
حيران توجده الذكرى وتعدمه
يقول فيها: «رفاعة» يشتكي من عصبة سخرت
لما رأت أبحر العرفان قد زخرت
فارفع ظلامة نفس عدلك ادخرت
وهاك جوهر أبيات بك افتخرت
جاءت إليك بخط الذنب ترقمه
أربع سنوات في السودان كانت عليه كسنى يوسف، ومع هذا يترجم فيها قصة «تليماك»، ويعلم في مدرسته بعض أبناء السودان وأبناء الموظفين من للمصريين، وكانت مندرسته نواة لما أنشئ بعد من مدارس، ولم ينقذه من نكبته إلا موت عباس وتولي سعيد.
الشيخ رفاعة الطهطاوي (6)
يعود الشيخ رفاعة من السودان إلى مصر في أول عهد سعيد باشا، ولكن لا تعود مدرسة الألسن - فسعيد لم يعد نهضة التعليم كما كانت في عهد محمد علي وإبراهيم، وإن توسع بعض الشيء عما كان عليه في عهد عباس الأول - وإنما يعود ناظرا ثانيا أو بعبارة أخرى وكيلا لمدرسة حربية كانت بالحوض المرصود، وكان ناظرها سيف باشا أو سليمان باشا الفرنساوي - مؤسس الجيش المصري ومنظمه ، وقائد الجيوش في حروب محمد علي وإبراهيم، وصاحب التمثال في الميدان المسمى باسمه - وكان جبارا عنيدا، وقف أمام نابليون وهو ضابط فقال له: هل أنت سيف الذي حدثوني عن غطرسته؟ فأجاب: إذا كان هذا كل ما تريد أن تقوله لي عدت إلى فرقتي، ثم أعطى ظهره له ورجع إلى مكانه، فرقاه نابليون لجرأته؛ وهو الذي عمل الأعمال الحربية العظيمة في مصر، من تمرين المماليك ثم تمرين المصريين حتى حذقوا الحرب وتفوقوا على الجيش العثماني؛ هذا هو الناظر الأول الذي عين ناظره الثاني الشيخ رفاعة فاعجب لهذا الوضع الذي لا مبرر له إلا أن الشيخ رفاعة «ميرالاي».
ومع هذا فقد وسع «الشيخ» نفوذه العالمي. فقد وضع مشروع مدرسة بالقلعة تدرس فيها الفنون الحربية والمدنية وأقره عليها سعيد باشا، فاختار لها المدرسين، وراعى في كل ذلك ما يشوق الأهلين للإقبال عليها وإدخال أبنائهم فيها؛ ثم امتد نفوذه فأعيد قلم الترجمة، وهو أشبه شيء بمدرسة الألسن، وجعل مشرفا عليه؛ وأحيلت عليه نظارة مدرسة المحاسبة والهندسة الملكية والمعمارجية؛ وأحبه سعيد باشا وقربه جدا إليه، واستمد الشيخ منه نفوذه يوجهه في التعليم ونشره.
وهنا ذكر الشيخ عهده بالمستشرق ده ساسى، والمستشرق كوزن، وما يقوم به المستشرقون من أعمال قيمة في خدمة اللغة العربية بنشرهم أمهات الكتب، فوضع مشروعا للعناية بتصحيح الكتب القديمة القيمة، وطبعها بمطبعة بولاق وعرضه على سعيد باشا فأجازه؛ وجرد الشيخ محمد قطة العدوي، والشيخ إبراهيم الدسوقي، والشيخ نصر الهوريني وغيرهم، واشترك معهم في اختيار الكتب التي تطبع والقيام على تصحيحها وطبعها؛ فطبع بإرشاده تفسير الفخر الرازي ، ومعاهد التنصيص، وخزانة الأدب، ومقامات الحريري، وغير ذلك من الكتب الدينية والأدبية والتاريخية، فكان هذا دعامة أخرى من دعائم النهضة: تأسيس الكتب بعد تأسيس الرجال؛ وأعانه على ذلك معرفته الواسعة بالكتب العربية غرامه باقتنائها، وإنشاؤه لنفسه مكتبة واسعة غنية بالنوادر. •••
لم تكن كل الأمور ميسرة كما نراها اليوم، بل كان الطريق لكل عمل وعرا محفوفا بالمصاعب، فإنشاء مدرسة أو إلغاؤها منوطان بالوالي نفسه، فلا بد من قصائد مديح ودعوات صالحات وملق أنيق، تقدم للوالي في لفائف من حرير لينشئ مدرسة، ولا بد من أول الكتاب وآخره من ثناء مستطاب، ودعاء للأنجال، وتزلف لمدير المطبعة ونجله ليتم طبع الكتاب، ولا بد ولا بد في كل شيء، من كل شيء؛ والشيخ ماهر في كل ذلك، يعرف من أين تؤكل الكتف، ويأتي البيوت من أبوابها، فيسهل عسيرها ويحل عقدتها.
ومسائل العلم نفسها عسيرة كمسائل الولاة والأمراء، فالعلم الحديث قد تقدم، والعلم العربي قد وقف منذ سبعة قرون، وهو إذا أراد ترجمة كتاب حديث اصطدم بالمصطلحات: ماذا منها عرفه القدماء وماذا منها لم يعرفوه؛ وماذا يضع من الكلمات لما لم يعرف، هل يضع الكلمات الأجنبية كما هي بعد صقلها صقلا عربيا، أو يبحث لها عن لفظ عربي؟
لقد حيره ذلك منذ كان في باريس وعندما عهد إليه ترجمة كتاب في «الفولكلور» أو عادات الشعوب، سماه «قلائد المفاخر، في غريب عوائد الأوائل والأواخر»، يتمرن فيه على الترجمة، فاصطدم بأسماء البلاد الإفرنجية والرجال والأشياء، وكان هو لم يعرفها فيرجع إلى المعاجم التي تشرحها، فبم يترجمها؟
لقد اهتدى إلى فكرة لطيفة، هي أن يجعل للكتاب ملحقا يضمنه كل الأسماء الإفرنجية التي وردت في الكتاب ويرتبها على حسب حروف المعجم، ويضع لها اسما مأخوذا من اللفظ الإفرنجي، ويصقله صقلا عربيا: فللبرازيل «إبرزيلة» بسكون الموحدة وكسر الراء بعدها مثناة تحتية فزاي مكسورة فلام فتاء تأنيث، ثم يأخذ في شرحها وتاريخها؛ وأوميروس أو هوميروس، ويضبط الكلمة ويعرف به؛ وكذلك البارومتر، والسبكتاكل ويقال له التياترو اسم للعبة ببلاد الفرنج يلعب فيها تقليد سائر ما يقع، ويأخذ في شرحها في نحو صفحة، وهكذا.
ويود أن كل مترجم كتاب يجرد هذه المصطلحات ويعربها كما فعل، ويجمعها في أول الكتاب أو آخره حتى يكون للغة العربية بعد ذلك معجم جامع لكل المصطلحات الإفرنجية، وأسماء البلاد والأشخاص والأشياء؛ وهذا نص كلامه العجيب: «وقد شرحنا الكلمات الغريبة التي توجد في هذا الكتاب وعربناها بأسهل ما يمكن التلفظ به، حتى يمكن أن تصير على مدى الأيام دخيلة في لغنا كغيرها من الألفاظ المعربة عن الفارسية واليونانية؛ ولو صنع نظير ذلك في كل كتاب ترجم في دولة أفندينا ولي النعم الأكرم لانتهى الأمر بالتقاط سائر الألفاظ المرتبة على حروف الهجاء، ونظمها في قاموس مشتمل على سائر غريب الألفاظ المستحدثة التي ليس لها مرادف أو مقابل في لغة العرب، فإن هذا مما يفيد التسهيل على الطلاب، وبه تحصل الإعانة على فهم كل علم أو كتاب».
أمنية تمناها، وخطة أملاها منذ 116 سنة، لو سرنا عليها لحللنا أكثر مشاكل التعريب التي نعانيها اليوم.
وظل يكافح في هذا الباب كفاح الأبطال، فقد عهد إليه منذ عودته بأعمال مختلفة تتصل بعلوم مختلفة، فأخذ في كل منها يواجه مشكلة مصطلحاتها، ويضع ما ندين له ببعضها اليوم - يترجم في الهندسة ويضع بعض مصطلحاتها، وكذلك في الطب، والجغرافيا، والتاريخ؛ ويترجم القانون الدني الفرنساوي ويضع مصطلحاته، وهكذا. •••
بلغ «الشيخ» أوجه في عهد إسماعيل لما عادت الحركة العلمية قوية نشيطة؛ بلغ أوجه المالي، فقد منحه إسماعيل 250 فدانا أخرى، فبلغ مجموع ما منحه 736 فدانا، واشترى هو 900 فدان أخرى، فكان ما يملكه 1636 فدانا، غير العقارات العديدة في القاهرة وطهطا؛ فقد كان في عهد يكافأ فيه الرجل النافع بما يوسع رزقه، ويوفر جهده لعمله؛ ومع ذلك فهذا الباب أتفه مقوماته، فقد ذهب الشيخ رفاعة وأصبحت أطيانه الموقوفة مصدرا لنزاع لا ينتهي، ولم يخلده إلا مجهوده العلمي وآثاره الباقية.
ويبلغ أوجه العلمي، فهو عضو من أعضاء «قومسيون المدارس»، يضع برامجها، ويشرف على التعليم والامتحان فيها، ويقول فيه علي باشا مبارك: «كانت مجامع الامتحان لا تزهو إلا به»، وهو ينشئ أول مجلة مصرية هي «مجلة روضة المدارس»، يلتف حوله في تحريرها أدباء مصر وعلماؤها.
ويرى أن ليست هناك كتب للمدارس تصلح لمواجهة النهضة الجديدة والعقلية الحديثة؛ فالكتب الأزهرية لا تناسب الطلبة، والكتب الأدبية القديمة مملوءة بالغث والسمين، والدنيا كلها تؤسس تعليمها على النعرة الوطنية، والتعريف بمزايا الوطن وتاريخه، وتستنهض همم الناشئين لخدمته، ولا شيء من ذلك في الكتب العربية .
إذن فليقم هو بكل هذه المهمات.
يؤلف كتابا في النحو على نمط جديد، محتذيا فيه حذو الفرنسويين في تسهيل أجروميتهم، ويسميه «التحفة المكتبية» في القواعد والأحكام والأصول النحوية بطريقة مرضية، ويضع بعض القواعد في شكل جداول يسهل حفظها.
ويضع لمطالعة المدارس كتاب «مباهج الألباب المصرية في مناهج الآداب العصرية»، وهو أول كتاب عربي ينزع إلى الناحية الوطنية، فيذكر معنى الوطن، ومصر ومزاياها؛ وتشغل ذهنه المنافع العامة فيخصص لها أكثر الكتاب، فيذكر كيف تؤدى في البلاد المتمدنة، ونبدأ مما قام به بعض رجال المسلمين في سبيل المنفعة العامة، وواجب الأغنياء، وكيف يربي الأولاد، وفصولا في الاقتصاد المصري: من منابع الثروة وتقسيم الأعمال إلى منتجة للأموال وغير منتجة؛ ويعود إلى المنافع العامة ويقسمها ويبين تاريخها في الأمم وتاريخ مصر إزاءها إلى عهد محمد علي، ويذكر الإصلاحات التي عملها، ثم يذكر الآمال التي يأملها في المنافع العامة في المستقبل.
ثم خاتمة فيما يجب للوطن الشريف على أبنائه من الأمور المستحسنة.
وهو - في كل ذلك - يجمع بين ثقافته الإسلامية وثقافته الفرنسية.
وينزع إسماعيل إلى تعليم البنات، وتنشأ أول مدرسة لهن في مصر، ولا يرضى عن ذلك الرأي العام المصري المتدين، فيقف الشيخ رفاعة في كتبه يحبذ تعليم البنات، ويرد حجج المعارضين، فيقول: «ينبغي صرف الهمة في تعليم البنات والصبيان معا لحسن معاشرة الأزواج، فتتعلم البنات القراءة والكتابة والحساب ونحو ذلك، فإن هذا مما يزيدهن أدبا وعقلا، ويجعلهن بالمعارف أهلا، ويصلحن به لمشاركة الرجال في الكلام والرأي، فيعظمن في قلوبهم ... وليمكن للمرأة عند اقتضاء الحال أن تتعاطى من الأعمال والأشغال ما يتعاطاه الرجال على قدر قوتها وطاقتها ... وهذا من شأنه أن يشغل النساء عن البطالة، فإن فراغ أيديهن عن العمل يشغل ألسنتهن بالأباطيل، وقلوبهن بالأهواء، وافتعال الأقاويل؛ فالعمل يصون المرأة عما لا يليق، ويقربها من الفضيلة؛ وإذا كانت البطالة مذمومة في حق الرجال، فهي مذمة عظيمة في حق النساء، فإن المرأة التي لا عمل لها تقضي الزمن خائضة في حديث جيرانها، وفيما يأكلون ويشربون، ويلبسون ويفرشون وفيما عندهم وعندها، وهكذا. وأما القول بأنه لا ينبغي تعليم النساء الكتابة، وأنها مكروهة في حقهن ارتكانا على بعض الآثار، فينبغي ألا يكون ذلك على عمومه؛ ولا نظر إلى من قال إن من طبعهن المكر والدهاء والمداهنة، فتعليم القراءة والكتابة ربما حملهن على الوسائل الغير المرضية ... فمثل هذه الأقوال لا تفيد أن جميع النساء على هذه الصفات المذمومة، وكم من نهي وردت به الآثار كمقاربة السلاطين والتحذير من الغنى، وقد حمل كل ذلك على ما يعقبه شر وضرر محقق؛ وتعليم البنات لا يتحقق ضرره، وكيف ذلك وقد كان من أزواجه صلى الله عليه وسلم من يكتب ويقرأ، كحفصة وعائشة. الخ الخ.
ألست ترى معي أن هذه نظرة صادقة، ودعوة جريئة كانت قبل «قاسم أمين» بنيف وثلاثين عاما؟! وقد ملأ «الشيخ» هذا الفراغ بتأليف كتاب للمطالعة يصح أن يوضح في يد الفتى والفتاة سماه «المرشد الأمين للبنات والبنين». •••
وقد يكون «الشيخ» في شعره ضعيفا أشبه ما يكون بشعر الفقهاء، وقد لا يبلغ في نثره مبلغا عاليا، فكثيرا ما يتعثر في السجع المتصنع، ويشد أنواع البديع شدا؛ وينبو ذوقه أحيانا في كتابه «المرشد الأمين للبنات والبنين» في تعرضه لموضوعات لا يصح أن توضع في يد البنات، كفصله في «البكارة والثيوبة» ونحو ذلك؛ ولكن من العدل إذا قسناه أن نقيسه بزمنه، وبمن قبله لا بمن بعده - فقد نشأ في زمن يعد فيه «من فك الخط» كاتبا، وعالم الأزهر الذي يقرأ «المطول» و«الأطول» في البلاغة لا يحسن أن يكتب خطابا لأمه أو أبيه.
على أن قيمة «الشيخ» الكبرى ليست في أسلوبه، أو شاعريته أو ناثريته، إنما هي في أنه نشر العلم في أوساط فسيحة، وأسس نهضة علمية متوثبة، وفتح للمتعلمين آفاقا واسعة لم يكن لهم بها عهد، وذوقهم معنى العلم الصحيح، وشوقهم للاستزادة منه، وبصرهم بعيوبهم، وأبان المناهج لتكميل نقصهم؛ وليس ذلك بقليل على رجل. •••
أربعة وأربعون عاما تقريبا منذ عاد من باريس وهو في هذا العمل الدائب والحركة التي لا تنقطع في التعليم والتأليف والترجمة والنشر، حتى أوفى على الخامسة والسبعين، وقد دهمه الدهر الذي لا يرحم، فلفع بالشيب رأسه، وأحنى قوسه.
وفي ليلة فاجأه مرض «البروستاتا» أو التهاب المثانة فعولج حتى شفي، ثم عاوده واشتد عليه؛ وفي أول ربيع الثاني سنة 29/1290 مايو سنة 1873 حصر بوله، تسمم دمه، أسلم لخالقه روحه - سرى البرق بنعيه - اهتزت مصر لموته، احتشد لتشييع جنازته الألوف المؤلفة من رجال المعارف والأمراء والنبلاء وتلاميذ المدارس. وازدحمت الشوارع بالناس يردون بعض جميله: يذكره الأزهريون على أنه ابنهم، والمتعلمون المدنيون على أنه أبوهم، والجالية الفرنسية على أنه أخوهم، والمصريون كلهم على أنه مؤسس نهضتهم؛ وكلهم بتوجع لفقده، ويشيد بذكره. وسار المشهد من منزله بالمهمشا، حتى إذا قارب المدينة كان ينتظره شيخ الأزهر وعلماؤه وطلبته، فاشتركوا في تشييع الجنازة، ووضع النعش في القبلة الجديدة، ولا يكون ذلك إلا لعظيم، وأخذ الأفاضل في رثائه بالقصائد والخطب، ثم حمل إلى «بستان العلماء»، حيث طويت صحيفته، وبقيت آثاره خالدة تعظم وتتزايد وتتوالد - رحمه الله، فقد صنع لأمته كثيرا.
تقدير الجمال
عجب بعض الناس إذ ذكرت أن الشيخ رفاعة الطهطاوي - الرجل الأزهري الصالح - تغزل في صوت النواقيس حينما رست سفينته على «نابولي»؛ وعجب صديقي الدكتور إسحاق موسى الحسيني إذ سمع مني لأول مرة إعجابي بجمال عيون سيدة كانت تعلمني، ونقدني بعض إخواني في لجنة التأليف أن أذكر مثل هذا في بيئة أكثر فيها الخلعاء من ذكر الجمال وصور الجمال، حتى استهتر الشباب وانغمسوا في اللهو، وأفرطوا في التهتك. قالوا - فالواجب يقضي أن نصدهم عن هذا التيار، ولا نجاريهم في هذا الميدان، ولا يأتي ذكر الجمال على لساننا، فإنهم إذا اتجهوا للجمال لم يقفوا عند حد، وجرفهم التيار حتى يغرقهم. وأرى أن هذا سوء تقدير للجمال، وظلم له؛ وكأن الفضيلة أن يكون الإنسان حجرا لا يأنس بجمال، ولا ينفر من قبح، وكأن من يقدره يرتكب جريمة يجب عليه أن يتستر منها. وفي رأيي أن شرور العالم كلها تنشأ من سوء تقدير الجمال لا من حسن تقديره، والذين يستهترون ويفرطون في اللهو إنما أتاهم ذلك من قصر نظر إلى الجمال، لا من سعة نظر فيه، ومن انحطاط في فهمه لا من سمو في إدراكه - ومن الخطأ أن نعد الجمال من كماليات الحياة، فإنه من ضرورياتها، وأن نعده متعة من متع ساعات الكسل والفراغ، فإنه لا بد أن يملأ حياتنا؛ ومن قصر النظر أن نقصره على أنواع من الزينة، وعلى ضروب من الأشكال، وعلى أنماط من المظاهر، فمداه أوسع من أن يحده حد. وهو أعمق من أن يكتفي فيه بالسطح، وهو أقوم من أن يكون ملهى في لحظات من الحياة.
ما الدنيا إذا فقدت الجمال، وفقدنا شعورنا بالجمال؟! إنها - إذن - لا تستحق الحياة فيها ساعة، فما يقومها ويجعلها تستحق البقاء إلا أن كل شيء فيها مزج قصد النفع منه بقصد التجميل: «ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون، وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس إن ربكم لرءوف رحيم، والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة، ويخلق ما لا تعلمون».
لولا الجمال والشعور به لبقيت الكهوف والمغارات هي مساكن الإنسان الآن كما كانت مساكن الإنسان الأول، ففيها كل الفناء في أنها تقي الحر والبرد، وتسد الحاجة، وما طورها هذا التطور البديع إلا القصد إلى التجميل، وعن هذا نشأ فن المعمار وهندسة البناء والمدن، ولولا الجمال لكانت البيوت حجارة مرصوصة في غير نظام ولا ترتيب، ولا فرق بين أعظم المدن وأحقر بيوت الفلاحين إلا الجمال والشعور به والقصد إليه.
ولولا الجمال ما كانت الحدائق والبساتين، ولا كان حب الأشجار والأزهار، ولا كان هناك فرق بين رائحة البنزين ورائحة الياسمين، فما فرق بينهما إلا الشعور بالجمال؛ بل ولا كان فرق بين لون الجراد والقنفذ، ولون الطاووس والفراش، ولانعدمت تماما مملكة الألوان بما فيها من زينة وإبداع.
ولولا الجمال لاختفى كل فن، فلا أدب ولا تصوير، ولا نقش ولا موسيقى، ولاختفى كل أسماء الفنانين، ولما كان أبو نواس والمتنبي، والجاحظ والحريري، وشكسبير وموليير وجوته، ولا إسحاق الموصلي وبيتهوفن، ولا رفائيل، إلا أسماء ميتة لمدلولات ميتة، ولكانت أصوات سوق النحاسين كموسيقى أشهر الموسيقيين، ولكانت أصوات البوم والغربان كأصوات البليل والكروان؛ ولا كانت كتب إلا كتبا في التجارة والحياة العملية؛ بل وما كان الإنسان إلا آلة حقيرة، يعمل وينتج ويستهلك كآلة النسيج أو آلة الطباعة، على شرط ألا يكون في نتاجها أثر من آثار الزينة والجمال.
ولولا الشعور بالجمال ما كان في كل ما حولنا من مناظر طبيعية جمال: فشروق الشمس وغروبها، وبريق النجوم ولمعانها، والبحار وأمواجها، والسماء وزرقتها، لا قيمة لها في نظر فاقد الشعور بالجمال، كما لا قيمة لها في نظر العميان.
دقق النظر فيما شئت من مأكلك ومشربك وملبسك ومسكنك، تر أن الاحتفاء فيها بالجمال أضعاف الاحتفاء فيها بالمنفعة، ولولا ذلك لقنع من مأكله ببرشامة، ومن ملبسه بما يقيه الحر والبرد من أي صنف ولون، وعلى أي وضع، وهكذا.
فإن أنت انتقلت من الحسيات إلى المعنويات، رأيت جمالا ساميا، وحسنا فائقا، فللعدل جماله، وللحق جماله، وللتضحية جمالها، وللشجاعة جمالها؛ ولو أنت قدرت كل ذلك بميزان المنفعة وحدها لضاع منها أكبر قيمتها، وكنت كمن يقدر الوردة الجميلة بثمنها، والشجرة الجميلة بغلتها.
إن تقدم الإنسانية في المدنية والحضارة، والدين والعلم، والاختراع والخلق، يدين للشعور بالجمال أكثر من أي شيء آخر، فلولاه ما تحرر الإنسان من سيطرة الطبيعة عليه، ذلك أنه لما استيقظ في نفسه الشعور بالجمال نظر إلى العالم حوله نظرة عجب وإعجاب، فكان هذا مفتاح بحثه، ومفتاح عليه، ومفتاح فك القيود التي قيدته بها الطبيعة، بل ومفتاح تحرره من القيود الثقيلة التي قيده بها النظام الاجتماعي من استبداد وظلم واعتساف. لقد تنبه شعور الإنسان بالجمال رويدا رويدا، فرأى وجه الظالم قبيحا فنفر منه، ووجه الرق ذميما فاشمأز منه، بقدر ما استجمل العدل والحرية والإخاء والمساواة، فهانت عليه التضحية في سبيل جمالها؛ ولولا شعوره بهذا الجمال لكان هو والحيوان سواء. فلئن كانت السلطات المختلفة - دائما - تنسج جمال الأغلال، فالشعور بالجمال يعمل - دائما - على نقض ما أبرمت، وفك ما غلت.
والفرق بين أمة راقية وأمة منحطة هو الشعور بالجمال، هو ينظفها، وهو يمدنها، وهو ينظم مدنها، وهو يرقي عقلها، وهو الذي يحقق العدل فيها، وهو الذي يحسن العلاقة بين أفرادها، وبين أفرادها وحكوماتها؛ فامنحني الشعور بالجمال تمنحني كل شيء، واحرمنيه أحرم كل شيء - ولو أنصف رجال التربية لملئوا برامج المدارس بما يربي الشعور بالجمال، كما ملئوه بما يربي العقل - في زعمهم - ورحم الله مربيتي الإنجليزية، فقد كان أكبر همها أن تزين حجرتها بالأزهار الجميلة والصور البديعة، ومن حين لآخر تغير أوضاعها حتى تجدد ذوقها؛ فإذا دخلت الحجرة ولم ألحظ ذلك التغيير، ولم أبدأ الحديث بتحبيذه أو نقده، صرخت في قائلة: «يجب أن يكون لك عين فنية، وأذن موسيقية».
قد يفسد الدين رجال الدين، فيضطهدون العلماء، ويعذبون الفلاسفة، ويقيمون محاكم التفتيش، ويشعلون نار الحروب الصليبية، ويتعصبون تعصبا زريا، ولا ينقذ الإنسانية من هذا كله إلا الشعور بالجمال، يستقبح العصبية، ويستجمل التسامح، ويسمو بالدين عن السفاسف.
لقد تأسست الأديان - فيما تأسست - على شعور الإنسان بالجمال، فالكنائس الفخمة البديعة بما فيها من فن ونقش وتصوير وموسيقى، والكتب السماوية - بما فيها من شعر - كانت عاملا كبيرا من عوامل الاستجابة للدين. والإسلام - مع بعده عن التصاوير والتماثيل ومحاربته لها - استخدم الشعور بالجمال من واد آخر، فقد لفت النظر إلى مناظر الطبيعة الجميلة على أنها آية من آيات قدرة الله وعظمته وجلاله وجماله:
أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت * وإلى السماء كيف رفعت * وإلى الجبال كيف نصبت * وإلى الأرض كيف سطحت .
والشمس وضحاها * والقمر إذا تلاها * والنهار إذا جلاها * والليل إذا يغشاها * والسماء وما بناها * والأرض وما طحاها * ونفس وما سواها .
إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون . الخ.
ومعجزة الإسلام الكبرى تتوقف على الشعور بجمال أسلوب القرآن، وفنه في أداء أغراضه وحسن تصويره لمعانيه، وقصده مع هذا جمال البساطة؛ وكم للبساطة من جمال!
ولما تقدم المسلمون في الحضارة غذوا شعورهم بالجمال من الناحية الدينية أيضا، فجملوا المساجد، وأدخلوا الموسيقى في الأذان وقراءة القرآن.
ثم الصوفية من كل دين جعلوا أسمى أغراضهم الفناء في الحب، وهل هناك حب إلا لجمال؟ إذا رقى الشعور بالجمال في أمة ثارت على كل قبيح في مادة أو معنى، ولم تقنع إلا أن يحيط بها الجمال في نفسها وفي بيتها وفي قوانينها وفي نظام حكومتها، وفي كل شيء حولها.
وإذا سما الشعور بالجمال في إنسان أدرك أن الفضيلة فضيلة لجمالها، لا لأي صفة أخرى. فالجمال انسجام، والقبح نشاز؛ جمال الأدب في انسجام لفظه مع معناه، وانسجام ذلك كله مع الكاتب والقارئ؛ وجمال الموسيقى في انسجام الأصوات، وانسجام الأصوات مع النفس، والشعور المرهف بالجمال يرى الفضيلة إنما كانت فضيلة لجمالها، وجمالها أتى من انسجامها مع المجتمع، وسيرها معه في طريق الرقي.
قد تصدر الفضيلة عن عرف وعادة، فتكون عرضة للخطأ والفساد، ككل عرف وعادة؛ وقد تصدر عن عقل فيحسب العقل ما في العمل من خير وشر، ولذة وألم، ومنفعة ومضرة، فيكون شأنها شأن كل أحكام العقل فاترة جامدة، عرضة لأن يلعب بها المنطق الذي يستطيع أن يبرهن على الشيء ونقيضه؛ إنما القيمة الحقة للفضيلة في أنها تصدر عن عشق وهيام، ولا عشق ولا هيام إلا عن شعور بالجمال - أمثال هؤلاء هم الذين ضحوا بأموالهم وأنفسهم لعقيدتهم وفضيلتهم وحريتهم، ولولا العشق ما كانت التضحية، ولولا الجمال ما كان العشق.
أفبعد هذا كله - يا أخي - تنكر على شعوري بالجمال، وتنصحني بستره؟!
في الهواء الطلق (5)
كانت رحلتنا هذه المرة إلى «الأهرام» في ليلة اكتمل فيها البدر، فصبغ العالم بلونه الزاهي الجميل، وامتلأ الوادي بفيضان النيل، فكان في ضوء القمر فضة مذابة، ورق النسيم وراق الجو، فكان كل ذلك متعة النفس وجلاء القلب.
وكنا أربعة خامسنا عالمنا، قد تخصص في علم النفس، ودرسه في مصر وفي أوربا، وفي المدارس النظرية والمدارس العملية، وشغف به حتى شغله عن كل شيء؛ فهو قليل الكلام إلا إذا عرض شيء نفساني، فهو يتدفق ويتدفق؛ وإذا تحدثنا في شخصية من الشخصيات السياسية أو المالية أو العلمية، أخذ يحللها نفسيا، ويرجع مظاهرها إلى عناصرها الأولى، كما نحلل نحن عددا حسابيا كبيرا إلى عوامله الأولية. وإذا روينا حادثة اجتماعية حدثت، أخذ يشرحها وينظر في أعماقها ودقائقها، كأن هذا العلم وضع على عينيه «مكرسكوبا» دقيقا.
قال له أحدنا: يا دكتور، هل لك في هذا الجو الهادئ الجميل أن تحللنا، وتشرح لنا نفوسنا، وتسلط علينا علمك ومكرسكوبك، وتقرأ لنا نفوسنا كما يقرأ عالمم الكف أكفنا، فهذا درس عملي لذيذ، وفرصة سانحة تكشف لنا كثيرا من نفوسنا، وقد تفيدنا في أخلاقنا.
الدكتور: لا شك أن هذا عمل لذيذ مفيد، وحقيقة إنها لفرصة سانحة، فقد كنتم أصدقائي منذ صباي، واطلعت على نفوسكم وتصرفاتكم في المواقف المختلفة، واختزنت منها الشيء الكثير في ذاكرتي، مما يسهل لي الحكم عليكم؛ ولكني أخشى أن أغضبكم أو أغضب بعضكم، فكشف النفس أمر لا يستحب ككشف الجسم، وقد يحسن أن يكون ذلك حديثا منفردا مع كل منكم، حتى لا يطلع عليه الآخرون فيألم لذلك؛ والناس جميعا في كل مكان يودون أن يظهروا بمظهر الكمال، وتعريه نفوسهم كشف لعوراتهم، والناس في مصر أشد حساسية في ذلك، فهم يكرهون النقد، ويكرهون الناقد أكثر من غيرهم، ولذلك ضعف النقد، وركن الناقد إلى السلامة، سواء في ذلك النقد السياسي والأدبي والاجتماعي. ولما عدت إلى مصر من أوربا أدركت هذا المعنى في وضوح؛ فقد بدأت أنقد في مصر كما كنت أنقد في أوربا، فصدمت صدمة قوية عنيفة جعلتني أتردد في النقد. ولا أدري سبب ما رأيت من تأخر النقد، فقد كان النقاد في مصر أقدر وأجرأ منهم اليوم، ولا يصح تعليل ذلك بالحرب وإعلان الأحكام العرفية، فإن هذا إذا صدق في السياسة لم يصدق في الأدب والفن، وحتى قبيل الحرب لم نكن في هذا الباب خيرا منا الآن. (أ) :
كيف لا تدري السبب - يا دكتور - وأنت متخصص في علم النفس الفردي والاجتماعي، ولا شك أنك صادفت مثل هذه الأعراض وحللتها وشرحتها.
الدكتور :
ليس الأمر أمام العالم بهذه السهولة، فعالم النفوس من أعقد العوالم وأدقها، وفي كثير من الأحيان كانت تعرض علينا حالات فردية كنا نحار في تفسيرها - أنا ومن يعمل معي من أساتذتي وزملائي - ونذهب فيها كل مذهب، وأخيرا نقرر عجزنا عن حلها. هذا في حالة نفسية فردية، فكيف في حالة اجتماعية! ولكن - على العموم - يخيل إلي أن سبب ضعف النقد في مصر وغضب المنقودين يرجع إلى أن رقي الثقافة العامة في أوربا جعلتهم يدركون أن كل فرد له مزاياه وعيوبه، فإذا كشفت عيوب شخص فلا بأس، فهذا أمر طبيعي؛ ثم فشو الروح الرياضي في الأمم جعلتهم في ألعابهم يتلقون الضربات في سماحة، ويتلقون النقد في سماحة مثلها؛ ثم إن معدل «مركب النقص» في مصر أكبر منه في أوربا، ولذلك كان النقد يزيد في المنقود هنا شعورا بهذا النقص، فيغضب ويتألم، ألا ترى أن الرجل الواثق بنفسه لا يؤلمه النقد كما يؤلم من فقد الثقة بنفسه، وهكذا؟! (أ) :
لكن هذا يا دكتور يصح أن يكون سببا في ضعف النقد في مصر عنه في أوربا، ولكن لا يعلل ضعف النقد في مصر عنه في مصر أيضا منذ سنوات.
الدكتور :
هذا صحيح، وفي ظني أن هذا يرجع إلى أسباب اجتماعية وتاريخية أكثر منه إلى أسباب نفسية، وإن كانت هذه الأمور مرتبطة ببعضها ارتباطا كبيرا، فغلبة الرجعية، وعدم استجابة جمهور الأمة لدعاة التجديد، وغير ذلك من أسباب ليس هنا موضعها ، كانت سببا في ذلك. (ب) :
قد خرجنا عن موضوعنا بعض الشيء، فحلل نفوسنا، ولك علينا عهدا لا نغضب، وأنت من جانبك لا تتعمق في مشرطك، ولا تبالغ في جرحك، واستعمال الإيماء أحيانا، والكناية أحيانا، ففي ذلك كفاية. (ج) :
أما أنا فأنصحك أن تقول كل شيء عني في صراحة من غير تلميح؛ فإن أنت مدحتني وهديت إلى محاسني ومزاياي، كان علمك صحيحا وكلامك صحيحا، وإن ذممتني ونقدتني كان علمك سخيفا وكلامك سخيفا؛ وأنا راض في الحالين، فالحكم عليك لا علي. (ضحك الجميع).
الدكتور :
وليكن، ولكن اسمحوا لي أن أتكلم كلاما عاما بعض الأحيان، وكل منكم يطبقه - إن شاء - على نفسه. ومن محاسن الصدف أنكم الأربعة تمثلون أصناف الناس ونماذجهم الأصلية؛ فأولا: «أ و ب» من النموذج الذي يسميه علماء النفس
Introversion ، ولا أدري كيف أسميه بالعربية، فمعناه الحرفي «تحويل الظاهر إلى الباطن»، وهذا الصنف من الناس - عادة - من خصائصه أن يعيش في نفسه أكثر مما يعيش في خارجها، يميل إلى الدرس والبحث، فإذا غلب عليه هذا المزاج فهو أميل إلى الفلسفة والعكوف على أفلاطون وأرسطو وسبينووا وأمثالهم؛ ومن هذا الصنف أيضا فريق المتصوفة الذين يغرقون في أنفسهم ويحللونها ويشرحون مقاماتهم وأحوالهم، هم - عادة - خجولون في أوساطهم، يكرهون المجتمعات والحفلات الصاخبة، يشعرون شعورا بالغا بالألم التافه، ولا يشعرون شعورا عظيما بالفرح العظيم، يفضلون أن يجلسوا في حجراتهم يحلون مشكلة اجتماعية أو نظرية رياضية على شهود ألعاب رياضية أو حفلة موسيقية.
وأما «ح و ء» فمن الصنف الآخر الذي يسميه علماء النفس أيضا
Extraversion ، ومعناه الحرفي «تحويل الباطن إلى الظاهر»، وهذا الصنف من الناس - عادة - لا يستطيعون الصبر على الخلو إلى أنفسهم مدة طويلة، ولا يستطيعون أن يصبروا على البحث العميق الطويل، يحبون الناس واجتماعاتهم، وقد يشتركون في عمل الحفلات والولائم والإعداد لها، ويحبون الاشتراك في النوادي، يلفتون الأنظار إليهم في تصرفاتهم، ويحبون الظهور، وأن يكتب اسمهم في الجرائد دائما - يكرهون الفلسفة واسمها، ويكرهون العزلة؛ ويحبون من الروايات الكوميديا ويكرهون التراجيديا، ويعجبهم من الموسيقى النغمات المرحة ولا تعجبهم النغمات الحزينة، وهكذا.
ومنشأ ذلك خلقة وطبيعة وظروف أكثر منها أي شيء آخر.
أتذكر يا فلان (أ) أنك كنت ضعيفا في صغرك، لا تشترك مع الأطفال في لعبك! أولا تذكر يوم كنا في المدرسة الثانوية معا، وكان إخواننا في الفصل يطلقون عليك لقب «مالك الحزين»، وقد نما هذا الشعور عندك، فطلقت الجمعيات، واحتضنت الكتب، وشعرت بمركب النقص عندك، فمنحتك الطبيعة «التعويض»، وكان هذا التعويض أن تخلق من نفسك عالما غير العالم الخارجي تسمح فيه، ثم نمت عقليتك على حساب الملكات الأخرى، وعلى حساب الاشتراك مع الأصحاب في الألعاب والحفلات، فتفوقت على زملائك في العالم والعقل، وضعفت عنهم في المواهب الأخرى: في الألعاب الرياضية، في الحفلات السارة، في الأعمال الاجتماعية؛ ولترضي نفسك بهذا التعويض قومت الحياة العقلية أكبر من قيمتها، كما قومت الأنواع الأخرى من الحياة أقل من قيمتها، ولم تكتف بذلك، بل سبحت في عالم من الخيال الفلسفي، وجعلت مثلك في الحياة عزلة عن الحياة العملية إلى حياة فكرية مجردة تسخر فيها بحياة الناس العملية - حتى إنا لما دعوناك إلى هذه الرحلة معنا أتيت بضغط يشبه الإكراه. أليس كذلك؟
وعلى العكس من ذلك أخونا (ح)، فقد نشأ - كما أعرف وتعرفون - في صحة جيدة ووسط موات، ولما كان معنا في المدرسة الثانوية كان رئيس فرقة الكرة، وكنا إذا فكرنا في حفلة فهو منظمها، وهو المهرج فيها، وكان لا يحتبس في بيته للمذاكرة إلا عند الضرورة القصوى؛ فلما أتم دراسته كان - كما ترون - رجلا يعرف الدنيا، ويلعب بالبيضة والحجر كما يقولون، لا يعترف بالهزيمة إذا كانت، يلعب بالحياة كما كان يلعب الكرة في مدرسته، إذا غلبت فرقته مرة ضحك، واستعد أن يغلب في المرة القادمة؛ وبينما أخونا «أ» يحضر درسا في حجرته في نظرية «الأوساط» عند أرسطو، إذا بأخينا «ح» يطبق نظرية «الأوساط» في حفلة رقص. (ضحك من الجميع). (أ) :
إذن فما رأيك في أخينا «د»، وأخينا «ب»، فقد نسيتهما وصببت كل كلامك على «أ» و«ح».
الدكتور :
الواقع أني لم أنسهما، ولكن بدأت بالكلام في «أ» و«ح» لأنهما نموذجان متقابلان يشرحان فكرتي في وضوح، وباقي إخواننا ليسوا إلا صورة مكبرة أو مصغرة منهما، أو ملونة لونا آخر غير لونهما، ولكن الأساس واحد.
فأخونا «د» عكس أخينا «أ»، أخونا «أ» بمركب النقص، وأخونا «د» مصاب «بمركب التسامي»، وكلاهما عيب، ومركب التسامي في نظر علماء النفس ليس إلا دخانا كثيفا يلف مركب النقص. فالمصاب بمركب التسامي تظهر عليه أعراض معينة، فهو يشعر بنقصه، ولكنه يمنع الناس أن يدركوها كما يدركها هو، ووسيلة ذلك الظهور بالتسامي والظهور بمظهر العظمة، ألا ترى أن الكلب الكبير حقا، العظيم حقا، لا ينبح إلا عند الضرورة، وأما الكلب الصغير الحقير فينبح ويقفز لأتفه الأشياء يعلن بذلك عن نفسه، ويغطي شعوره بنقصه؟! كذلك الرجل العظيم حقا لا يفخر بعظمته، لأنه يشعر أن أعماله كافية في التعبير عنه؛ والمرأة الواثقة بجمالها لا تبالغ في حيلها وزينتها كما تبالغ من شعرت في نفسها بشيء من العيب أو القبح؛ والغني الكبير العريق في الغنى لا يتظاهر بما يتظاهر به «المحدث في الغنى»؛ وهكذا كل شاعر بنقص في ناحية من النواحي يحتاج إلى عمل إشارات كثيرة تجعل الناس يؤمنون به ولا يطلعون على عيبه، شأنهم في ذلك شأن الطفل الصغير يشعر بالخوف فيأتي بإشارات وحركات يتظاهر فيها بشجاعته. الا ترون أن صاحبنا يحاول أن يفرض رأيه علينا فرضا، ولا يسمح لأحد أن يقترح رأيا بجانبه، ويريد أن يشعر دائما بشخصه، وهو الذي اقترح رحلتنا اليوم ونفذها، لا يحاسب نفسه كثيرا على تصرفه ولا على من اجتاحهم أثناء سيره، يضحينا دائما لطموحه، ويشك في قيمة الناس فيكتسحهم؟! (د) :
كلب في عينك قليل الأدب، لم يبق إلا أن تمثلني بالكلب، وما الكلب إلا أنت وعلمك الفارغ، كلمات تحفظها وتطبقها على ما يصلح لها وما لا يصلح، وشقشقة ألفاظ من مركب النقص ومركب التسامي لا حقيقة وراءها؛ إن كنت متكلما حقا، فحلل لنا نفسك وبين علاقتها بالكلب.
الدكتور :
آسف كل الأسف، وهذا ما كنت أخشاه من أول الأمر، ولكن ما كنت أتوقع أن يبلغ الأمر هذا المبلغ، فما ذنب طبيب إذا عرض عليه مريض فرأى عنده سرطانا؟ أيكون منصفا إذا قال إنه ورم بسيط، ولكني نسيت أمرا تعلمته، وهو أن الإنسان لا يسمح لطبيب النفس أن يشرحه ويعين مرضه كما يسمح لطبيب الجسم، ولهذا سبب ليس محله الآن، وكل ما أقوله إني آسف ومعتذر. (أ) :
غلطتك يا دكتور ليس في التشخيص، ولا في الشرح، ولكن في أنك قد فاتك التعبير الرقيق والتشبيه الفني، فقد كان يمكنك التعبير عن هذا المعنى تعبيرا أرق؛ وأنت يا «د» ليس لك الحق في الغضب، فقد تعاقدنا أول الأمر على ألا تغضب، والجو أمامنا فسيح، وفيضان النيل أمامنا بالغ منتهاه، فخذ من الدكتور ما يعجبك، وارم ما لا يعجبك في النيل أو في الهواء الطلق. (الجميع) :
وهو كذلك فأكمل لنا «ب»، وبذلك ينتهي الحديث في صفاء.
الدكتور :
أما أخونا «ب»، فهداه الغرق في نفسه إلى النزعة الدينية. فنشأ مرهف الحس في وسط كثير التدين، ولست أنسى والده وصلاحه وكثرة صلاته وصيامه، وامتلاءه عقيدة بحقارة الدنيا ونعيمها، وكثرة ذكره للموت. وتطلعه لحياة أخرى فيها الكمال المطلق؛ وفي هذا الوسط نشأ أخونا «ب» فنما شعوره القوي بالدين، وضعف اعتماده على وسائل الدنيا فقوي اعتماده على الله. يعتقد أنه بيدق في يد القدر. يرى أن النفس دائما أمارة بالسوء، فهو يتطلع إ الاستعداد من قوى روحية أخرى تعينه على السلوك المستقيم، فهو ينال ملاذ الحياة بحذر، ويخاف من النسيم أن يجره إلى الإثم، ومن الإثم أن يجره إلى النار، فحيى ضميره وشعوره من هذه الناحية حتى تسلط على كل أفعاله! فمقياس العمل عنده دائما الجنة والنار، أضعف نفسه الخوف فهرب من أداء الواجبات الدنيوية، وركز نظره إلى الحياة الأخرى يضع فيها آماله. ولا أريد أن أطيل حتى لا يغضب أيضا.
فلعلكم ترون من هذا هذه الفرصة السعيدة التي جمعتنا؛ وكان اجتماعنا أشبه باجتماع النماذج البشرية كاملة، فمنا اثنان محكومان بعقلهما ، أحدهما محكوم بعقل منطقي فلسفي، والآخر بعقل عملي، ومنا اثنان محكومان بعواطفهما أحدهما محكوم بعواطف دينية، والآخر بعواطف دنيوية.
ولكن أرجو أخيرا ألا يكون أخونا «د» لا يزال غاضبا. (د) :
لا! هذه فورة وقتية وزالت.
الدكتور :
لعلي أستطيع في فرصة أخرى أن أحدثك وحدك عن سيكولوجية الغضب، والأسباب التي تدعوك إليه. (د) :
كلا، لا أريد سيكولوجيتك ولا تحليلك، فأنا أعرف بنفسي منك. (أ) :
ولكن يا دكتور ، هل هذه العناصر الأربعة أساسية غير قابلة للتحول، أو يمكن تحويل عنصر إلى عنصر؟
الدكتور :
أرى أنه لا يمكن ذلك، فلا يمكن تحويل «أ» إلى «د»، ولا «ب» إلى «ج»، ولو استحال النحاس إلى ذهب. وكل ما في الأمر أن هذه العناصر الأربعة ضرورية في الحياة، نافعة للمجتمع، ولكل غرض، وكل يتخذ لإدراك غرضه أدوات وآلات ووسائل وما يصبو إليه الأخلاقي والمصلح الاجتماعي ليس أن يحول الإنسان من عنصر إلى عنصر، ولكن أن يبقى على غرضه وعنصره، ويحاول أن يجعله يتخذ من الوسائل ما يتفق وصالح المجتمع؛ فقد يتخذ صاحب الغرض وسائل خسيسة ضارة بمجتمعه لتحقيق غرضه، فيأتي المصلح ويهيئ الفرص للناس أن يتخذوا لغرضهم وسائل شريفة تفيد المجتمع. فغرض الشهرة - مثلا - والقصد إلى التسامي ليس شرا في ذاته، ولكن يتفق في هذا العنصر بعض العظماء جدا وبعض المجرمين جدا: الأول اتخذ وسائله في الشهرة الإتيان بأعمال تنفع أمته، والثاني اتخذ وسائله الإجرام، وشتان ما بينهما وإن اتحد العنصر. والنبي الذي يبعث، والمصلح الذي ينبغ، من أكبر الرجال الذين يعرفون نفسيات الأتباع، فيعرفون كيف يرشدون كلا إلى الناحية التي خلق عليها من غير أن يغيروا من تكوينهم الأساسي، وعنصرهم الأولي. (أ) :
ولكن يا دكتور كيف تسنى لهذه العناصر المتباينة أن تتصادق؟ فنحن كما حللتنا ماء ونار، وحرارة وبرودة، وعذوبة وملوحة، ومع ذلك نحن أصدقاء متحابون لا يستغني بعضنا عن بعض، ونشعر كأننا عروة لا تنفصم، ووحدة لا تتجزأ؛ إذا غضب أحدنا لا يلبث أن يصفو، وكان مقتضى الظاهر أن نتخاصم وأن نتعادى، لا أن نتصافى.
الدكتور :
لهذا أيضا سبب سيكولوجي عميق يرجع إلى أصول أبانها علماء تحليل النفس، فهل أنتم على استعداد للبقاء هنا إلى الصباح؟ (أ) :
لا، ولكن على أن تعدني أن نتقابل غدا وحدنا إذا علق الآخرون عائق فتحدثني عن سر ذلك!
الدكتور :
وهو كذلك.
وكانت الساعة قد بلغت الثانية صباحا، وقد تسلطن القمر في عرشه، فركبنا سيارتنا وعدنا من حيث أتينا.
ولما عدت إلى بيتي أبيت إلا أن أقيد أهم ما كان، حتى لا يطويه النسيان.
في الهواء الطلق (6)
تلاقينا كما تواعدنا، وكنت والدكتور وحدنا، فلم أشأ أن أشعب الحديث، واقتحمت الموضوع اقتحاما، فقلت: حدثني - إذن - كيف تكون الصداقة مع اختلاف الطباع والأمزجة والثقافة؛ وقديما قالوا: شبيه الشيء منجذب إليه - وقالوا: حدثني من صديقك أحدثك من أنت! ولذلك حيرني أمر جمعيتنا بالأمس؛ فقد رأينا فيها متدينا ومن لا يأبه بدين، ورجلا نظريا ورجلا عمليا، ورجلا يحكم بالعقل، ورجلا يحكم بالعاطفة، وحليما وغضويا، ومتفلسفا ورجل مال؛ فكيف أتفق لهؤلاء أن يتصادقوا، وأن تنعقد بينهم الألفة على اختلاف منازعهم ومشاربهم؟
الدكتور: لقد علمتنا التجارب أن الصداقة تفرخ تحت حرارة الإعجاب، فما لم يكن إعجاب لم تكن صداقة؛ فأنت تعجب بصديقك من ناحية ما، أو من جملة نواح، وهو كذلك. وهذا الإعجاب من شأنه توسيع النفس والشعور باللذة فيما تعجب به، فأنت تتغذى من صديقك بالنواحي التي أعجبت بها، وتتلذذ هذا الغذاء، وتشعر أن نفسك اتسعت لتتشرب نفسه، وهو يشعر هذا الشعور نحوك؛ وقد تضحي ببعض فوائدك ومسراتك من أجله، ولكن هذه التحضية في الواقع ليست إلا تضحية لذة للذة أكبر منها؛ فأنت تضحي - مثلا - بشيء من راحتك أو مالك لصديقك لتنعم بلذة أكبر منها، وهي ما تتلذذه من مواضع الإعجاب، أو ما تتلذذه من تضحية صديقك لك.
ثم هذا الإعجاب من جانب قد يكون مناقضا للإعجاب من الجانب الآخر، فيكون أدعى إلى التصادق؛ فإذا كنت حسن الحديث، وكان صديقك حسن الاستماع، وأعجبت به لحسن استماعه، وأعجب بك لحسن حديثك، كان ذلك سببا من أسباب الصداقة، إذ تلاقت فيكما الرغبتان، قد شعرت أنت بمركب النقص عندك في الرغبة الكلامية، وأحس هو بمركب النقص في الرغبة السكوتية، فأعجب كل منكما بصاحبه لأنه يكمل نقصه. فليس صحيحا دائما أن شبيه الشيء منجذب إليه، بل قد يكون التناقض سبب الانجذاب، كالكهرباء السالبة والموجبة؛ ومثل هذا في الحياة الواقعية كثير، فكثيرا ما يقع اختيار الزوج على زوجته لأنه غضوب وهي حليمة، أو هو مسرف وهي مقتصدة، أو هو رزين وهي مرحة، أو نحو ذلك أو عكس ذلك ثم يكون الزواج موفقا، وسبب التوفيق هذا التناقض؛ ولو كان الزوجان غضوبين أو مسرفين أو رزينين، لكانت عيشتهما لا تطاق، فخير أن ينضم إلى النار ماء، من أن ينضم إلى النار نار؛ ومن هذا ترى - يا أخي - أن عجبك من اختلاف الأصدقاء في الطبع والمزاج يساوي عجبك من تصورك أن الصداقة تتطلب الاتحاد في الميول دائما.
فأساس الصداقة - كما ذكرت - الإعجاب، وليس الاتحاد في موضوع الإعجاب؛ ومصداق ذلك أنك ترى بعض الناس تغلب عليهم عقيدة أن الناس كلهم أشرار خائنون لا شرف لهم، وأن ما يصدر عنهم مما يظن فيه الخير والمنفعة العامة ليس إلا خداعا يسترون به أنانيتهم وحبهم لأنفسهم، أمثل هؤلاء لا يستطيعون أن يصادقوا لأنهم فقدوا الإعجاب، ففقدوا بفقده الصداقة.
وقد تتم الصداقة بين شخصين أو أكثر، وتتأكد الصداقة بتأكيد الإعجاب، فإذا فتر الإعجاب فترت الصداقة.
وليس دائما أن تكون الصداقة مبنية على الإعجاب بالنيل والفضل والأخلاق الجميلة: فقد تكون الصداقة صداقة شريرة مبنية على الإجرام، أو على شرب الخمر، أو تعاطي كيف من الكيوف، وقد تكون صداقة نبيلة أساسها البطولة أو النبوغ أو الفضيلة، وسواء كان هذا أو ذاك فالأساس هو الإعجاب؛ فالمتصادقان على احتساء الخمر سبب صداقتهما إعجاب كل بمقدرة الآخر على السكر، وتلذذه من أن يرى صاحبه عونا له على بلوغ غايته، ونحو ذلك.
ومما يساعد على الصداقة ويقويها الإيثار والتضحية، ومما يضعفها الأثرة والأنانية؛ فمحب نفسه جدا لا يمكن أن يصادق، وتعليل ذلك متصل بما سبق، وهو أن الأناني جدا قل أن يرى خيرا إلا في شخصه، بل هو يكره ويمقت مواضع العظمة من غيره لأنها تشعره بنقص نفسه. ولذلك تجد خير أنواع الصداقة عند من تعاونوا على نوع من أنواع الخدمة الاجتماعية، لأن لهم غرضا واسعا خارجا عن أشخاصهم، وهو تحقيق نوع من الخير لمجتمعهم؛ فكما رأوا أن صاحبا لهم مصدر لهذا النفع زاد الإعجاب فتأكدت الصداقة.
وسكت الدكتور قليلا، فقلت: إذا كان أساس الصداقة الإعجاب فقط، وجب أن يتحقق كلما وجد، وهذا ليس بصحيح، فكثيرا ما أعجب بإنسان ولا تكون صداقة، فأنا أعجب بعدل عمر بن الخطاب، وبطولة خالد بن الوليد، وفصاحة علي ونحو ذلك، ثم لا تكون هناك صداقة؛ بل كثيرا ما يكون الإعجاب بين الأحياء ولا صداقة، فقد أعجب بعقل كاتب إنجليزي أو فرنسي، أو أسلوبه أو بطولته، وقد أعجب بإجادة ممثل على المسرح، أو بجمال غانية، أو بصوت مغن أو مغنية ثم لا تكون هناك معرفة فضلا عن صداقة كم من الناس يعجبون بصوت (عبد الوهاب) أو (أم كلثوم)، أو بكوكب من كواكب السينما ولا معرفة ولا صداقة؛ وكم من المفكرين يعجبون «بيرناردشو»، أو «ويلز» أو «برتراندرسل» أو نحوهم من الأدباء والمفكرين، وكل ما بينهم هو صلة روحية لا أستطيع أن أسميها صداقة!
بل أستطيع أن أذهب إلى أبعد من ذلك، فأرى أن الإعجاب قد يكون ومعه الكراهية والنفور لا الصداقة، فقد أعجب بفصاحة خطيب أو بلاغة أديب، ولكي أكرهه لثقل روحه؛ وأعجب بقدرة عظيم لكفايته المالية وأكرهه لأني أعلم أنه مرتش. والخلاصة أن الإعجاب وحده لا يكفي في تكوين الصداقة.
الدكتور: إن الجزء الأول من اعتراضك، وهو الإعجاب بالأموات، والإعجاب بالعظماء الأحياء عن بعد سهل الرد عليه، وربما كان سبب اعتراضك عدم التفاتك إلى نقطة هامة فيما ذكرت، وهو أن يكون الإعجاب متبادلا من الجانبين، فإنك إذا أعجبت بعمر أو خالد أو علي، أو أعجبت ببرناردشو أو ويلز، او عبد الوهاب أو أم كلثوم، فليس هناك إعجاب متبادل ، وإنما هو إعجاب من جانب واحد؛ وبذلك لا تتم الصداقة.
وأما اعتراضك بأنه قد يكون الإعجاب مع الكراهية، فهو صحيح، ولكنه يؤيد رأيي، لأن كراهة شخص من بعض النواحي مع الإعجاب به من نواح أخرى تضعف قوة الإعجاب، فالكراهية والإعجاب متقابلان، والإعجاب يدعو إلى التصادق، ثم تلتهم الكراهية هذا الإعجاب فتقف حائلا دون التصادق.
وأريد أن أزيد شيئا أكمل به وجهة نظري، وهو أن الصداقة إذا تأسست على الإعجاب فيجب أن تغذي دائما، وإلا هزلت ثم ماتت؛ غذاؤها اتصال الأصدقاء ليتجدد الإعجاب، فإذا لم يتيسر فمبادلة الكتب أو تبادل الأحاديث التليفونية أو نحو ذلك من أنواع الاتصال، لأنه إذا لم يكن اتصال قدم الإعجاب وهزل حتى ينسى فتنسى معه الصداقة - والحديث المأثور: «تهادوا تحابوا» لا يزال صحيح المعنى، وليست قيمة الهدية بين الأصدقاء في ثمنها، وإنما فيما يحيط بها من معان؛ فتقديم الهدية معناه أني لا زلت أذكرك، وأني على استعداد للتضحية في سبيلك، وأني أوثرك بما تحب، إلى غير ذلك من معان نبيلة تؤكد الصداقة وتنميها، فالصداقة شجرة ورد لا بد من ريها، وإلا جفت.
وقد قرأت في هذا المعنى حكاية لطيفة حدثت، وهو أن سيدة أوربية متزوجة من غني كبير اعتاد أن يهديها في عيد ذكرى زواجها وردة صفراء جميلة، رمزا إلى الحب والإعجاب، فجاء عاما من أعوامها وأهداها في ذلك العيد صكا بعشرين ألف جنيه، فغضبت جدا، وألمت جدا، إذ لم يهدها الوردة الصفراء، لأنها رأت أن الوردة الصفراء - لا العشرين ألفا - هي التي تغذي روحها؛ فالمال عند غني قد يمنح صدقة، وقد يؤجر به على عمل، وقد يقدم لمائدة ميسر؛ ولكن الوردة الصفراء - رمز الحب - لاتعوض ولا تقدر بمال، ولا تقدم إلا من محب لمن يحب؛ وكيف يوزن الحب بالمال، وهو إذا وضع في كفة ووضعت الدنيا كلها في الأخرى ما تأثرت الكفة الأولى؟!
قلت: لا يزال في نفسي شيء مما ذكرت، فقد تتوافر الشروط التي قلتها من إعجاب متبادل، وكثرة اتصال ونحو ذلك، ثم لا تكون صداقة.
الدكتور: أرجو أن تنتظرني حتى أتم عرض رأيي، فإذا سكت فإنما أفكر في جمع ما يكمل فكرتي، وقد يكون جواب اعتراضك فيما سأذكر، فنستغني عن الأخذ والرد، لا سيما والموضوع عريض، وتحديده والإلمام بكل أطرافه ليس أمرا هينا؛ فأشكال الصداقة متعددة، وطباع الناس وأمزجتهم مختلفة، وحصرها كلها تحت قاعدة عامة في منتهى الصعوبة.
وما أريد أن أقوله الآن هو أنه يجب أن يضاف إلى ما ذكرت أن يكون هناك تناغم بين المتصادقين، وأن يكون هناك غرض واحد مشترك في شأن من الشؤون، ولست أريد بالتناغم اتحاد الطبع أو المزاج، فقد سبق أن بينت خطأ ذلك، وإنما أريد بالتناغم الانسجام، كالانسجام بين الدف والمزمار والندى في الجوقة الموسيقية؛ بل إن هذا التناغم هو الذي يفسح الجو للصداقة أكثر مما يفسح لها الاتحاد؛ ثم الاشتراك في الغرض معناه أن يكون للمتصادقين نوع من الغاية المتحدة يسعون لتحقيقها، وتدعوهم هذه الغاية إلى تعلم خلق الأخذ والعطاء، وهو خلق لا بد منه في تكوين الصداقة؛ ويتجلى هذا المعنى - معنى الاشتراك في الغرض وتبادل الأخذ والعطاء - في المتصادقين من حزب سياسي واحد، أو حزب اجتماعي، أو لجنة من لجان الخدمة العامة.
ثم إذا استعرضنا الصداقات وجدناها أشكالا وألوانا، فهي كدرجات في سلم طويل، تبتدئ بالمعرفة، وتنتهي بالعشق والهيام، وبين هاتين درجات لا عد لها؛ ثم هناك طباع تصادق من أول نظرة، وطباع متحفظة لا تصادق إلا ببطء وذلك أدعى أن تحتفظ أيضا بصداقتها ببطء.
وإلى جانب ذلك كله هناك صديق تعتبره كالغذاء الروحي لا تستغني عنه أبدا، وتشعر أنك في أشد الحاجة إليه دائما، ويصعب عليك أن يمر اليوم ولا تراه؛ وصديق كالفاكهة تحبها في موسمها، وتشتاق إليها حينا بعد حين؛ فهناك صديق تتلمسه إذا دعا داعي المرح، وصديق آخر تتلمسه إذا دعا داعي الجد.
قلت: هل انتهيت؟
الدكتور: تقريبا، فإن شئت فاسأل.
قلت: كيف تعلل ما نرى من ظاهرة غريبة، وهو أن صديق الصديق قد يكون صديقا، وأحيانا نرى صديقا واحدا لشخصين متعاديين؟
الدكتور: هذا صحيح، وتعليله ليس عسيرا بعد الذي ذكرت؛ ذلك أن نواحي الأخلاق في الإنسان متشعبة متنوعة، فإذا كان صديق الصديق مشتركا معك في نواحي الإعجاب المتبادل، والتناغم والاهتمام بغرضك، كان صديقا لك أيضا - ولكن يحدث أن يكون شخصان متعاديان لعدم الإعجاب وعدم التناغم وعدم اتحاد الغرض، ومع ذلك هما يلتقيان معك في نقطة فيها تبادل الإعجاب، كثلاث دوائر، لا أدري اسمها في الهندسة ولكن أستطيع أن أرسمها لك هكذا ، فمساوى المساوى مساو، ولكن ليس شبيه الشبيه شبيها دائما؛ فقد يخالف رجل رجلا في البياض والسواد، والطول والقصر، والعقلية الفلسفية والعملية، ولكنهما يلتقيان معك في شيئين عندك لكل منهما شيء، يلتقي الأول معك في حب الفن، وهو ليس عند الآخر؛ ويلتقي الآخر معك في نوع من الخدمة العامة لا يقوم بها الأول.
أواضح ما أقول؟
قلت: نعم! ولكن - يا دكتور - ألا ترانا قد بعدنا بعض الشيء عن موضوعنا الأصلي، وهو سؤالنا الأول: كيف تصادق هؤلاء المتخالفون!
الدكتور: بعد هذه القواعد العامة التي ذكرتها، لم يبق إلا التطبيق على «أ» و«ب» و«د» و«ج»، وهذا ليس بالعسير عليك، فتوله أنت بنفسك، فقد أحسست التعب من طول تفكيري في هذا الموضوع، وعرض نظرياته، فتعال بعد ذلك نتحدث فيما لا يتعب الفكر.
قلت: أنا أحوج إلى هذا منك؛ فأنت تتكلم في موضوعك بعد أن مرنت عليه.
وتحدثنا فيما لا يهم القارئ. ثم افترقنا وذهني مأخوذ بهذا الحديث المثير للتفكير.
السوبرمان أو الإنسان الكامل (1)
من قديم أولع الإنسان أن يتصور إنسانا أعلى، إنسانا كاملا، إذ رأى الإنسان الذي يشاهده ويعامله إنسانا ناقصا، فصور صورا مختلفة كمل بها نواحي النقص المختلفة؛ فآلهة اليونان صور للإنسان الكامل في بعض نواحيه، والجن يعملون أعمالا يتشوق الإنسان أن يعملها ولكنه لا يستطيعها فيتصور الجن تعلمها، والسندباد البحري يقوم برحلات تصعب على الإنسان العادي فيتخيلها سهلة ميسرة لمثل السندباد.
ويأتي الزمان ببطل من ناحية من نواحي العظمة، فيفيض عليه الإنسان من خياله ما يكمل نقصه؛ فعنترة بطل شجاع ولكن البطولة الواقعية لا تشبع شهوة الإنسان، ولا تحقق رغبته كلها في إنسان كامل في الشجاعة، فيخلع عليه من خياله ما يكمل هذا النقص، فهو يبيد قبيلة بأسرها ويقف أمام الأعداء مهما كثر عددهم وتعددت أسلحتهم؛ وكذلك فعل مع الأبطال في النواحي المختلفة، فكمل نقص الفكاهة في «جحا»، والحكمة عند زرادشت وبوذا، والكرم عند حاتم، ولم يقنع بما فعله نابليون في الواقع فنسب إليه أفعالا من نسج خياله؛ وإذا قرأ أن بعض الناس عمروا مائة سنة أو مائة وعشرين لم يكفه ذلك وغذى شهوته في التعمير بنسبة العمر غير المعقول إلى بعض الأشخاص، فمنهم من عمر ثلاثمائة عام أو أكثر؛ ولم يرضه طول الإنسان العادي فنسب لآدم وحواء وعوج بن عنق طولا يبلغ مئات الأقدام حتى كان عوج بن عنق يشوي اللحم في الشمس من إفراطه في الطول وهكذا.
وكان شأنهم في المستقبل شأنهم في الماضي، فلم يرضهم الحاضر كيفما كان، ولم يرضهم الحاكم كيفما كان، فهو مهما عدل لا بد أن يعتريه النقص الإنساني فيظلم ولو بعض الظلم، فتصوروا مدنا يسود فيها العدل التام، وتخيلوا لذلك ما يسمى باليوتوبيا أو المدينة الفاضلة، وليس هذا موضوع كلامنها، ولكنهم تخيلوا أيضا إنسانا كاملا يأتي فيحكم الأرض بالعدل الكامل كما يؤملون، وعلى هذا نشأت فكرة المهدي المنتظر عند بعض المسلمين، يأتي فيملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا، وكان لها نظائر في الأمم الأخرى.
وهكذا وضع - في كل العصور - صورة لإنسان كامل، إما من جميع نواحي الإنسان، وإما من ناحية من نواحيه كالبطولة والحكمة والعدل والعفة.
وقد وصف السوبرمان أوصافا مختلفة تبعا لاختلاف الواصفين وتصورهم له.
وكان الشرق من أكثر الناس ذكرا وإيمانا بالسوبرمان في إيمانه بالأنبياء الذين هم صورة للإنسان الكامل، اختارهم الله من بين خلقه ليكونوا صلة بينه وبينهم تبلغهم أوامره ونواهيه، وهؤلاء الأنبياء بحكم رقيهم وسموهم يستطيعون أن يتلقوا عن الله ما لا يستطيعه سائر الخلق.
وكان للصوفية مجال كبير في السوبرمان، فدار الإنسان الكامل على لسانهم، وكان أول من استعمله «ابن العربي»، وألف عبد الكريم الجيلاني كتابا بهذا العنوان «الإنسان الكامل» نحا فيه منحى الصوفية؛ وخلاصة نظرهم أن الإنسان الكامل هو من يرقى بنفسه حتى يتصل بالله الذي خلق الإنسان على صورته، يفنى فيه ويسلك ي حياته الطريق الموصل إلى ذلك، وهذا الطريق هو الذي سار فيه الأنبياء والأولياء والصالحون، وهو إذا وصل إلى هذه الغاية استطاع أن يدرك ما لا يدركه الناس ، ويعرف ما لا يعرفون، ويتذوق ما لا يتذوقون، ويتحرر من الحجاب الذي أسبلته عليه الحواس والشهوات، ولهم في ذلك كلام طويل.
وكان الأوربيون قد انغمسوا في دراسة الحياة الواقعة ونسوا الإنسان الكامل، حتى جاء نيتشه فألف كتابا في السوبرمان كان له من القوة والأثر ما أحيا الفكرة في أوربا من جديد، حتى ظنوا الفكرة جديدة.
وكانت قد ذاعت في الأفكار الأوربية نظرية النشوء والارتقاء وما يتبعها من الانتخاب الطبيعي وبقاء الأصلح، فتأثرت النظرة إلى السوبرمان بذلك وتأثر نيتشه بها فيما كتب عنه.
لقد استنزل نيتشه «السوبرمان» من السماء إلى الأرض، وجعله إنسانا يكون ويربي ويرقى إلى أن يصل إلى الغاية.
كان الإنسان الكامل في نظر «نيتشه» على العكس منه في نظر الصوفية، هو في نظر الصوفية روحاني إلهي سماوي، وهو في نظر «نيتشه» أرضي مادي ملحد.
قد اشتق «نيتشه» صورة الإنسان الكامل من القوة، فالقوة عنده كل شيء، والإنسان الكامل أكبر فضائله الرجولة والشجاعة والإقدام، لا التواضع ولا الرحمة ولا تأنيب الضمير، وأسمى ما في الإنسان الكامل قوة إرادته وثبات عاطفته، فهو إذا أراد غامر وجاهد ولم يرحم، وإذا نفذ ما أراد لم يندم؛ إن الإنسانية الكاملة تتجلى في النشاط والقدرة والقوة في كل أشكالها، والإنسان الكامل لا يحتقر الجسم بل لا بد أن ينميه ويقويه، إذ لا روحا قوية في جسم ضعيف، وفلسفة الإنسان في الحياة نتيجة حالته الجسمية ونتيجة نوع مأكله ومشربه وقوة هضمه. قوة الجسم وقوة العقل وقوة العاطفة هي مقومات الإنسان الكامل، ويجب أن يكون بين هذه القوى توازن تام ، فلا تطغى إحداها بل تتوازن وتنسجم، ولا يكون ذلك حتى يكون هناك غرض يسعى إليه الإنسان الكامل، فهذا الغرض هو الذي يشرح مقدار الاعتدال بين القوى الثلاث أو الطغيان.
لهذا وجب في نظره أن يقضي على كل دعوة دينية أو فلسفية تدعو إلى الرأفة والرحمة والعطف على الفقراء والمجرمين، فالعاجز والمريض والجاني والضعيف والذليل والمتواضع كل هؤلاء رقع في ثوب الأمة يجب أن يعمل على إزالتها لينسجم الثوب.
ويجب أن تكون غاية الأمة العمل على إيجاد هذا الإنسان الكامل، وأن تجعل نفسها جسرا يخطو عليه، ولا تهتم بالأوساط والضعفاء بمقدار ما تهتم بالسادة، فإذا رأينا من تظهر عليه مخايل القوة والإنسانية الكاملة تداخلنا في زواجه ممن تظهر عليها أيضا مخايل القوة، حتى يكون النتاج قويا كما نفعل في انتخاب الحيوان واستيلاده، ثم يجب أن تتربى هذه الصفوة من الأناسي الكاملين في مدرسة قاسية عنيفة، يتحملون فيها الأعباء الثقال، ولا ينعمون فيها بالترف والرفاهية ويتعلمون فيها قوة الإرادة، وكيف يطيعون إذا أمروا، وكيف يطاعون إذا أمروا ويجب ألا يكون في المدرسة تنسك ولا زهد ولا احتقار للجسد.
ولا بأس أن يضحي العدد من العامة إذا اقتضى الأمر إيجاد هذه الصفوة الممتازة، فهم الذين سيخلقون الأمة بعد - ولهذا كانت دعوته دعوة أرستقراطية، ودعوة سيادة طبقة لا دعوة مساواة في الحقوق والواجبات، فيجب أن تتعاون الأمة على إيجاد غايتها، وغايتها هي الإنسان الكامل، ولذلك مجد الحرب لأنها وسيلة من وسائل وجود الإنسان الكامل، وهي خير لأن الخير في نظره ما يزيد الشعور بالقوة، والذي يميز الإنسان الكامل حبه للمغامرة والجهاد، ولا شيء تتجلى فيه هذه المظاهر كالحرب.
لقد كان «نيتشه» وهو يصف الإنسان الكامل يستملي صورته من الإسكندر الأكبر ونابليون وأمثالهما، ويستكمل ما فيهما من نواحي الضعف، ولهذا أشاد بذكر نابليون في كتابه «هكذا قال زرادشت» أكثر من مرة فيقول: «ما أروع منظر نابليون وقد وهب الملايين أنفسهم له كي يتخذ منهم وسائل لأغراضه، فإذا ما سقط منهم جندي تغنى باسم نابليون قبل أن يسلم الروح»، ويقول في موضع آخر: «ولقد أنتجت الثورة الفرنسية «نابليون» على عبئها وفوضاها».
ولكن هل هذه الصورة هي صورة الإنسان الكامل حقا؟ لقد يظهر أن تعاليم نيتشه سادت في ألمانيا، واتخذتها إنجيلا، وصبغت التربية بصبغتها، فمجدت الحرب كما مجدها نيتشه، واتخذت ملايين البشر قنطرة للإنسان الكامل، وآمنت بالقوة وجعلتها غرضا، فكانت هذه كلها مقدمة نتج عنها وعن أمثال هذه النزعات في الأمم الأخرى ما يعانيه العالم اليوم.
فهذا «السوبرمان» كما وصفه نيتشه ومن جرى على أثره لم يحقق أنشودة الإنسانية.
عيب هذه النظرة أنها اشتقت صورة الإنسان الكامل من الواقع، من نظرية النشوء والارتقاء، من البحث في علوم الاجتماع، وبنت حكمها على أن الإنسان قد تم بناؤه على هذا الشكل، وليس قابلا للتشكل أشكالا أخرى جديدة غير هذه الأشكال المألوفة، مع أن نظرة إلى ماضي الإنسان وحاضره ترينا الفرق الكبير في تشكله، وعلى هذا فسيختلف مستقبله اختلافا كبيرا عن حاضره.
وعيب هذه النظرة أيضا أنها اقتصرت على الجانب المادي والاجتماعي والاقتصادي في الإنسان، وعالجته كما يعالج العلماء الحجر والنبات والحيوان، وتجاهلت أن فيه عنصرا آخر روحيا ناميا غير هذه العناصر المادية؛ وكلما ارتقى الإنسان أحس أن له جانبين، جانبا ماديا يشارك فيه الجماد والنبات والحيوان، وجانبا آخر روحيا يحققه كلما رقى، وسيتحقق في مستقبله أكثر من ماضيه، ولهذا سيكون «الإنسان الكامل» في نظره غير الذي رسمه نيتشه.
السوبرمان أو الإنسان الكامل (2)
لم يوفق نيتشه في هذا التصوير، وإن وفق في إثارة هذا الموضوع، وفي ثورته على الأخلاق القديمة، وتوجيه الأنظار إلى البحث في صفات الإنسان الكامل، فإنه لا بد أن يكون للناس مثل أعلى يصبون إليه، ويطمحون أن تكون نفوسهم قريبا منه، والأديان كلها عنيت بتصويره في أشخاص أنبيائها.
وكل من صور السوبرمان انتزعه من مخيلته، ومنحه من الصفات ما يحب، وجرده مما يكره، وكانوا يختلفون في تصويره بساطة وتركيبا، ويختلفون كذلك في تصويره حسب ثقافتهم ورقي عقولهم، فالناس في حالتهم الأولى تصوروه ماردا عملاقا طويل العمر، وهي نظرة ظاهرة البطلان، وآخرون، وإن تقدموا بعض الشيء، منحوه كل صفات المدح الإيجابية ونفوا عنه كل صفات الذم السلبية، وهذا التصوير أيضا لا يمكن أن يوافق الواقع، فقد أثبت علم النفس أن ذلك غير ممكن، وأن العبقرية إنما تنمو في بعض الفضائل على حساب فضائل أخرى، وليس يمكن أن تنمو الفضائل كلها إلى درجة العبقرية في خطوط متوازية متساوية.
ثم إن صفات الإنسان الكامل يجب أن تنحصر في صفات الإنسان من حيث هو إنسان، فالصفات التي يشاركه فيها غيره لا تصح أن تكون من خصائص الإنسان الكامل؛ فالطول لا يصح أن يكون ميزته، فمهما بلغ الإنسان لم يبلغ طول الجبال؛ ولا طول العمر يصلح، فهو مهما طال لا يبلغ طول عمر الأحجار وبعض الأشجار؛ والقوة الجسمية لا تصلح، فهي مهما بلغت لا تبلغ قوة الأسد.
فصفات السوبرمان إنما يجب أن يبحث عنها في حياته النفسية الباطنة، في ضميره، في نحو ذلك مما لا يشاركه فيه غيره.
يرى الأستاذ «أوسبنسكي» أن من أول شروطه أن يكون روحيا لا ماديا، أن يكون فيه شيء من غموض التصوف، أن يكون متصلا بنفسه بما وراء المادة، فذلك يجعله ينظر إلى العالم المادي نظرة غنية خصبة، فلا يصح أن يكون «السوبرمان» مجرد رجل أعمال كبير، ولا فاتح عظيم، ولا سياسي قدير، ولا عالم متبحر؛ بل يجب أن تكون فيه نفحة من الأولياء والقديسين، أن يكون ملهما، أن يكون متصلا بدائرة الخفى والغيب والمجهول، أن يكون فيه ميزات غير مألوفة وغير عادية - أن يكون بعيدا عما يقرره أصحاب نظرية النشوء والارتقاء من نظرهم للإنسان على أنه قرد راق، ولا على أنه تاريخ متطور.
ويرى أن هذه النظرة الروحية حقة وجميلة، وشرط أساسي للسوبرمان، ولكن صد عنها الناس وصدفت عنها المدنية الحديثة والعلم الحديث، لما شوهت به من عفاريت وخرافات؛ ولكن هذا ليس عيبا في الفكرة، فالشر - دائما - هو تحويل الشيء العظيم إلى شيء صغير حقير، وليس هناك شر عظيم، وليس الشر ولا الرذيلة إلا شيئا عظيما أفسده الناس بتخيلهم الباطل، فخيالهم الباطل وتصورهم الفاسد هو الذي أفسد الدين العظيم، والمدنية العظيمة، والعلم العظيم، ونشأ من هذا الخيال الفاسد دين فاسد، ومدنية فاسدة، وعلم فاسد.
ويقول: إن هذا الفساد يأتي على وجهين: إما من وضع الفاسد موضع الحق، كوضع ز السمك؛ وإما من تزيين الباطل وزخرفته، حتى يرى الناس جماله المزيف ويفترون به، ويغريهم جماله به فيظنونه حقا.
إن هذا الاتصال بالمجهول صعب تصوره وصعب التعبير عنه، إنما قارب التعبير عنه الفن من شعر وموسيقى وتصوير، كما قارب التعبير عنه الدين والتصوف. وإذا كان من مقومات السوبرمان هذه النزعة الإلهامية أو التصوفية أو ما شئت فسمها، كان من الواضح ألا يكفي في تكوينه قوة العقل وقوة المنطق، بل يجب أن يضاف إلى عقله الواسع الكبير عواطفه الواسعة العظيمة الراقية، على شكل يصعب تصويره والتعبير عنه - ومن أجل هذا نراه ينزع إلى نوع من الحياة غير العادية وغير المألوفة للإنسان العادي، كما نقرأ في سيرة محمد والمسيح، وبوذا، يشغل تفكيرهم وعواطفهم أشياء لا تشغل الناس، ويقدرون ويسرون ويألمون مما لا يأبه الناس له في العادة.
ومن أجل هذا يساء فهمه ويساء تقديره، فيرمى تارة بالجنون، لأن فيه هذه النزعة المجهولة، وبأنه ساحر أو مسحور، ولا يستطيع أن يفهمه ولا يؤمن به من قصر نظره على المادة، ولو كان عالما ماديا، أو أخلاقيا ماديا، أو عالم نفس ماديا، أو رجل أعمال لا يفهم من الحياة إلا المال والربح والخسارة أو نحو ذلك؛ ولا يؤمن به إيمانا حقا إلا من آمن بهذه النزعة الروحية، وكان لديه استعداد لفهمها أو لديه أثارة منها.
ومن ناحية أخرى، هذا السوبرمان بهذه النزعة الروحية عرضة لأن يقلد تقليدا مزيفا عن طريق الشعوذة، كما قص علينا من سحرة فرعون، وكما روى التاريخ من ادعاء مسيلمة، ونحوهم في التاريخ كثير في كل الأمم وفي كل الأديان. والتفرقة بين الصحيح والمزيف في هذا الباب من أعقد الأمور، لأن المزيفين يستغلون جهل الناس بالمجهول فيكثرون من ادعائهم، ويتقنون دعاويهم وتقليدهم.
هذا العنصر من الروحانية ومن الاتصال بالمجهول، أو كما يسميه المسلمون الاتصال بالغيب، يجعل فهمنا للسوبرمان من أعقد الأمول وأصعبها، كما أن ما لحق بالفكرة من التزييف جعلت الفلاسفة المحدثين من الغربيين يعتبرون هذه الأفكار ضربا من السخف والتخريف، ولكن ظهرت بوادر فلسفة تؤمن بها وتدرسها، وترى ما ورد في الأديان من المعجزات ورموزا لمعان نفسية.
ثم يجب ألا ننظر إلى السوبرمان على أنه فرد ترقى حتى صار إنسانا كاملا؛ إنما يجب أن ننظر إليه من حيث هو خلاصة للإنسانية، ومظهر لوجوهها المختلفة، هو كثمرة الشجرة، نتيجة لكل شيء فيها، من جذورها وساقها وأغصانها وزهورها.
هو بطبيعة تكوينه وبطبيعة نزعاته ينظر إلى الأشياء على غير ما ينظر الناس، قد أضيئت له الدنيا حين أظلمت أمام الناس، كأنما منح عينا جديدة لها خاصية في النظر جديدة، أو كأنما عيناه قد منحتا من الخواص ما لم تمنحه عيون الناس.
قال بعض المفكرين: هب أن السوبرمان كما ذكرت، وأنه خلاصة حياتنا، فما قيمته لنا، وما نفعنا به، وما علاقتنا بوجوده؟ إننا على هذا الأساس لسنا إلا أرضا ينبت فيها زهره، وطينا يصاغ منه تمثاله، وفقراء ننظر إلى قصره البديع، وفي ظلام ننظر - عن بعد - إلى ضوئه المحيط به، نصرف حياتنا في جمع معلومات عن هذا العالم وشؤونه، ونرقى العلم في جميع نواحيه بعد الكد والعناء، ثم يأتي السوبرمان ويقول: إن علمكم ليس إلا ضلالا وتافها وقليل القيمة، وأنه ينظر إلى العالم فيرى حقيقته بعينه الجديدة وملكاته الخاصة؛ ثم تأتون وتشايعونه على رأيه!
ولكن مع إقرارنا بصعوبة إدراكنا للسوبرمان وفهم حقيقته، فليس يعيش منفصلا عنا، وعلاقتنا به علاقتنا بالشمس تسطع علينا، وبالنور يضيء ظلامنا بشرط أن يكون لنا عيون تنتفع بضوئه، وإذا عميت العيون فليس الذنب ذنب الضوء، وهو ليس يحتقر العلم وصنوف المعارف، بل يؤمن بها ويشجعها، ولكنه يرى أن الجانب العلمي وحده - مهما صح واتسع - ليس يكفي لتفسير هذا العالم، وأن العقل العلمي المنطقي على أحسن حالاته إنما يكفي في وضع تصميم بيت وبنائه، في تحصيل الغذاء ونحوه، في معرفة أن اثنين واثنين أربعة، ونحوها ومركباتها، في الأرض وجيولوجيتها وجغرافيتها ونحو ذلك، في المعلومات السطحية للظواهر الطبيعية والكيماوية، في كل ذلك يكون العقل المنطقي محقا ومفيدا، ولكن إذا تخطى هذه الدائرة المحدودة وأراد أن يحل المسائل الكبيرة من مشكلات هذا العالم: هل يسير العالم ويخبط في سيره خبط عشواء، أو هو سائر على نظام مرسوم؟ هل هو وحدة مترابطة متناغمة، أو هو مجموعة من الأشياء المختلفة غير المتناغمة وإن كانت متلاصقة؟ ما الحياة؟ هل هي عارض من عوارض المادة كإفراز المعدة، أو هي شيء وراء المادة؟ هل الإنسان حر الفكر مختار أو هو مجبور مقيد بإرادة فوقه؟ ما حقيقة هذا الكون، وهل للكون وجود أو هو من نسج حواسنا وعقلنا؟ هذه الأسئلة ومئات أمثالها حيرت الإنسان قديما وحديثا، وحاول أن يحلها بشتى الحلو فعجز، وبالعقل المنطقي وحده ففشل؛ فكان ذلك لا بد أن يكون «السوبرمان» مسلحا أيضا بأكثر من سلاح المنطق، ومزودا بقوى للإدراك غير القوي العادية المألوفة، إن الحجرة يمكن رؤيتها من أوضاع مختلفة وأشكال مختلفة يختلف معها مقدار فهمنا لها. فكذلك نظر الناس إلى الحياة، بعضهم لا ينظر إليها إلا بحواسه، وبعضهم يضيف إلى الحواس عقله المنطقي، وبعضهم يضيف إلى ذلك كله ما منحه من قوة مدركة غير الحواس وغير المنطق، هي قوة الإلهام أو ما شئت فسمها، وهذا من أهم العناصر في «السوبرمان».
وسأتحدث عن بعض مميزات أخرى «للسوبرمان» في فرصة أخرى إن شاء الله.
عبرة الموت
مهداة لروح المرحوم الأستاذ عبد العزيز البشري عقب وفاته
من قديم والإنسان أمام الموت مرتاع فزع، ومع أن الموت هو النتيجة الحتمية الطبيعية للحياة لم يتقدم الإنسان أي خطوة في سبيل تهوين أمره وتلطيف وقعه؛ ومع أنا إذا نظرنا إليه من الناحية الاجتماعية لا من الناحية الفردية وجدناه أمرا لا بد منه لحياة الجيل الحاضر والجيل المستقبل، إذ الأرض يستحيل البقاء عليها والعيش فيها، إذا لم يكن الموت - مع كل ذلك - فهذا التفكير المعقول لم يخفف الشعور بهول الموت، وعده المصيبة الكبرى.
أمامه تنهار كل القيم: فالمال والجاه والمنصب واللذائذ تتضاءل كلها أمامه، فيستهونها واجدها، ويستقل شأنها فاقدها.
وفي كل يوم عبر، فهو لا يرحم شابا لشبابه، ولا عظيما لعظمته، ولا أبا لحنوه، ولا صحيحا لصحته - سواء عنده كل شيء؛ فلو نظرت إليه الارستقراطية لانقلبت شيوعية.
وكلما كان الميت أعظم، كانت العبرة به أعظم؛ ومن أجل ذلك وقف الناس وقفة اتعاظ بموت الجبابرة أمثال: الإسكندر، ودارا، وتيمورلنك، ونيرون، ونابليون؛ إذ رأوا أن جبروتهم انهار أمام الموت كما ينهار السائل الفقير، والمسكين الحقير، فإذا الدنيا كلها، والجبرت كله، والعظمة كلها فقاقيع مسها الهواء فزالت، وكأن الحياة لعبة في الهواء، أو كتابة على ماء.
وفي الأدب العربي قصة طريفة، بعثرت فجمعناها، ورويت روايات مختلفة فاخترنا خيرها؛ وهي أن الإسكندر لما مات اجتمع حول جثته جمع من الفلاسفة من تلاميذ أرسطو، فقال عظيمهم: ليقل كل منكم قولا يكون للخاصة معزيا، وللعامة واعظا.
فقام أحدهم وضرب بيده على التابوت وقال: أيها المنطيق ما أخرسك، أيها العزيز ما أذلك، أيها القانص كيف وقعت موقع الصيد في الشرك؟ من هذا الذي يقنعك؟
وقام ثان فقال: هذا القوى الذي أصبح اليوم ضعيفا، والعزيز الذي أصبح اليوم ذليلا.
وقال ثالث: قد كانت سيوفك لا تجف، ونقمتك لا تممن، ومدائك لا ترام، وعطاياك لا تبرح، وضياؤك لا يخبو؛ فأصبح ضوؤك قد خمد، ونقمتك لا تخشى، وعطاياك لا ترجى؛ وسيوفك لا تنتضى، ومدائنك لا تمنح.
وقال رابع: هذا الذي كان للملوك قاهرا، أصبح اليوم للسوقة مقهورا.
وقال خامس: قد كان صوتك مرهوبا، وكان ملكك غالبا، فأصبح الصوت قد انقطع، والملك قد اتضع.
وقال سادس: كنت كحلم نائم انقضى، أو كظل غمام انجلى.
وقال سابع: لئن كنت أمس لا يأمنك أحد، لقد أصبحت اليوم وما يخافك أحد.
وقال ثامن: ههذه الدنيا الطويلة العريضة طويت في ذراعين.
وقال تاسع: كفى للعامة أسوة بموت الملوك، وكفى الملوك عظة بموت العامة.
وقال عاشر: قد حركنا الإسكندر بسكونه، وأنطقنا بصمته.
وهذه القصة إن شك فيها المؤرخ، لا يشك في قيمتها الأديب والمعتبر. •••
وفشت هذه القصة وهذه الأقوال في أوساط الفلاسفة من المسلمين، فلما مات عضد الدولة البويهي، وكان ما كان، ضخامة ملك وعزة جاه، وهو الذي لقب بشاهنشاه؛ ولي المملكة وقد استلوى الخراب عليها فعمرها، وانبث فيها اللصوص والمفسدون فأمنها، ونظم المخبرين، فعنده أخبار العالم الإسلامي في سرعة البرق، ورتب الجواسيس حتى خاف الرجل امرأته والسيد خادمه، وهو شديد لا يلين، وقاس لا يرحم، ما أكثر من قتل وشرد لسبب يستوجب ولغير سبب، حتى رووا عنه أنه أولع بجارية شغلته بجمالها وحسن حديثها عن بعض شؤون الملك، فأغرقها حتى لا يعود لمثلها، وزهت له الدنيا فاغتر بها، ووصف نفسه في شعره بأنه - مالك الأملاك غلاب القدر - وقصده المتنبي فرأى ملكا كبيرا، ونعيما عظيما، وقدرة قادرة، وسطوة قاهرة، فصرخ:
وقد رأيت الملوك قاطبة
وسرتت حتى رأيت مولاها
ومن مناياهم براحته
يأمرها فيهم وينهاها
أبا شجاع بفارس عضد الدولة
فنا خسرو شهنشاها
أساميا لم تزده معرفة
وإنما لذة ذكرناها
إلى أن يقول:
وإن له شرقها ومغربها
ونفسه تستقل دنياها
تجمعت في فؤاده همم
ملء فؤاد الزمان إحداها
وكان في ملكة كرمان وفارس وعمان والعراق والموصل وديار بكر وحران ومنبج، خضعت له وخافت منه واستكانت له، وفزع منه الصغير والكبير ثم ماذا؟
أصابه المرض وهو في السابعة والأربعين، فأذل نفسه وأحقر شأنه واستدعى له مهرة الأطباء فعجزوا عجزه وذلوا ذله، فأخذ يقول الشعر ينعي نفسه:
قتلت صناديد الرجال فلم أدع
عدوا ولم أمهل على ظنة خلقا
وأخليت دور الملك من كل نازل
فشردتهم غربا وبددتهم شرقا
فلما بلغت النجم عزا ورفعة
وصارت ركاب الخلق أجمع لي رقا
رماني الردى سهما فأخمد جمرتي
فها أنذا في حجرتي عاطلا ملقى
ثم جعل يقول: ما أغنى عني ماليه، هلك عني سلطانيه، إلى أن مات.
استرعى هذا المنظر عقول الناس: بناء شامخ سقط في لحظة، وقوة هائلة تحطمت في لمحة، واعتداد بالنفس ذهب مع الريح، ووقف القدر، يسخر ممن زعم أنه غلاب القدر.
وإذ ذاك ذكر فلاسفة بغداد القصة التي رويت لهم عن موت الإسكندر، وما قاله تلاميذ أرسطو في العظة به.
وكان أبو سليمان المنطقي رأس الفلاسفة فيها، وبيته ندوة كل من تفلسف، يسألونه فيما أبهم عليهم، ويستفتونه في أعقد المسائل فيجيب إجابة تدل على علم واسع وعقل ناضج.
فاجتمع عنده طائفة منهم يوم مات عضد الدولة ، واقترح عليهم أن يقولوا فيه كما قال تلاميذ أرسطو في الإسكندر.
وبدأ أبو سليمان فقال: لقد وزن هذا الشخص الدنيا بغير مثقالها، وأعطاها فوق قيمتها؛ وحسبك أنه طلب الريح فيها فخسر روحه.
وقال ثان: من استيقظ للدنيا فهذا نومه، ومن حلم بها فهذا انتباهه.
وقال ثالث: ما رأيت غافلا في غفلته، ولا عاقلا في عقله مثله؛ لقد كان ينقض جانبا وهو يظن أنه مبرم، ويغرم وهو يرى أنه غانم.
وقال رابع: أما إنه لو كان معتبرا في حياته لما كان عبرة في مماته.
وقال خامس: الصاعد في درجاتها إلى سفال، والنازل من درجاتها إلى معال.
وقال سادس: من جد للدنيا هزلت به، ومن هزل راغبا عنها جدت له. انظر إليه كيف انتهى أمره، ووضع شأنه، وإني لأظن أن فلانا الفقير الزاهد الذي مات بالأمس أعز ظهيرا من هذا الذي ترك الدنيا شاغرة، ورحل عنها بلا زاد ولا راحلة.
وقال سابع: إن ماء أطفأ هذه النار لعظيم، وإن ريحا زعزعت هذا الركن لعصوف.
وقال ثامن: كيف غفلت عن كيد هذا الأمر حتى نفذ فيك، وهلا اتخذت دونه جنة تقيك؟ ماذا صنعت بأموالك والعبيد، ورجالك والجنود ... من أين أتيت وكنت قويا صارما ... إن فيك لعبرة للمعتبرين، وآية للمستبصرين.
وعلق ظريف على الموقفين فقال: إن الفرق بين الكلامين كالفرق بين الملكين. •••
إن كان هذا ففيم غرور المغتر، وطمع الطامع، وسطوة الظالم، وطغيان المستبد، وخيلاء المعجب؟
ورحم الله الحسن البصري إذ يقول: ما أكثر المعتبر وأقل المعتبر.
الابتكار
أصل «ابتكر» في اللغة معناها بادر إلى الشيء، وابتكر الفاكهة أكل باكورتها ونحو ذلك - وهذا كل ما في كتب اللغة قديمها وحديثها. ثم استعملها المحدثون في معنى الابتداع والخلق فقالوا: بحث «مبتكر»، وفكرة «مبتكرة» يريدون أنها جديدة مبتدعة لم يسبق إليها.
أما المعاجم الإفرنجية فقديمها لم يذكر هذا المعنى للكلمة الإفرنجية المقابلة لكلمة الابتكار. وأما المعاجم الحديثة التي تجاري الزمان وتساير الإنسان فقد أدخلتها وعرفتها وقالت في تعريفها: «هي القدرة على إدراك فكرة جديدة، وإنتاج آراء أو مخترعات أو أعمال جديدة في الفن أو الأدب».
وقفت عند هذا التعريف طويلا بعد أن قلبت المعاجم العربية والإفرنجية، وتنقل بي الخيال من فكرة إلى فكرة حتى كان من ذلك هذه المقالة.
قلت: إن الفرق بين الشرق والغرب في كل شيء كالفرق بين مساجمنا في كلمة «الابتكار» ومعاجمهم، معاجمنا جامدة واقفة، ومعاجمهم سائرة متحركة، معاجمنا مقلدة يعرف الأخير منها الشيء والكلمة كما عرفها الأول، رغم تقدم العلم والإنسان واللغة، ومعاجمهم تتقدم بتقدم العلم والإنسان واللغة.
شأننا في العلوم كلها شأننا في اللغة، تقليد تام ولا ابتكار. قلب قواعد النحو وأمثلته تجدها هي هي عند سيبويه وابن مالك وابن عقيل، واستعرض قواعد البلاغة وأمثلتها تجدها هي هي في عبد القاهر والسكاكي وكتب المدارس، فزيد أسد وزيد كالأسد، ورأيت أسدا في الحمام، وله لبد أظفاره لم تقلم، وزيد كثير الرماد، وجبان الكلب، والدنيا قائمة قاعدة، والمخترعات والحياة الجديدة مستعدة لأن تمدنا بأمثلة جديدة واستعارات جديدة، ونحن جامدون على القديم. والفلسفة كانت عندنا تقليدا للفلسفة اليونانية، وكان الفيلسوف من يفهمها بله أن يبتكرها، والتأليف العربي الواسع الضخم كان عبارة عن جمع متفرق لا خلق ما لم يكن.
وكنا نقلد القديم فلما غزتنا المدنية الغربية كان كل ما فعلنا أن حولنا وجهتنا من الفلسفة اليونانية إلى الفلسفة الأوربية، ومن الأدب العربي إلى الأدب الغربي، وغاية فيلسوفنا أن يفهم ما كتبه الأوربيون، وغاية أديبنا أن يقلد ما ابتدعه الأوربي من نوع القصة وموضوعها وأسلوبها أو من موضوع الشعر ونمطه؛ وشأننا في المعاني والأفكار والآداب والفنون شأننا في المخترعات وفي الصناعات والأدوات، ننتظر «الأوتوموبيل» حتى يبتدع فنركبه، و«الراديو» يخترع فنستخدمه، والآلات الصناعية تبتكر عند غيرنا فنشحنها إلى بلادنا ونشحن معها من يعلمنا كيف نركبها ونستخدمها، وإذا فسدت بحثنا عن أوربي يصلحها - والفرق بين الراقي منا وغير الراقي ليس فرقا في التقليد، فكلاهما مقلد، وإنما الفرق فيمن نقلده - فالفلاح غير الراقي يقلد قدماء المصريين في أدوات حرثه وزرعه، والمزارع المتعلم الراقي يقلد الأوروبي في أدواته وفنه، وكلاهما مقلد. والأديب المحافظ يقلد بديع الزمان والحريري، والأديب المجدد يقلد شكسبير أو فولتير أو نيتشه أو جوته وكلاهما مقلد، فأين المبتكر؟
سألني مستشرق مرة - وكان يزور مصر - هل أجد في مصر فيلسوفا له فلسفة خاصة من أمثال برجسون وبرتراند رسل يدعو إلى مذهب في الفلسفة جديد، نبع من جوه المصري وتفكيره المصري، فقلت له - مع الأسف - لا. وسألني سائح أمريكي هل في مصر مصلح ديني الآن يقوم بدعوة جديدة لها أسسها ونظمها، فقلت له - مع الأسف - لا. ولو سألني سائل عن فنان له طريقته المبتكرة التي لم يقلد فيها شرقيا قديما ولا غريبا حديثا لقلت له - مع الأسف - لا.
راعني هذا التفكير، وأفزعتني هذه النتيجة، وتساءلت بعدها هل هذا التقليد وقلة الابتكار من طبيعة عقلنا أو من سوء تربيتنا؟
لقد وصلت إلى الإجابة سريعا، فآمنت أنه ليس من طبيعة عقلنا، ولا من أصل خلقتنا، فنحن في إدراك الأمور وفهمهما والحكم عليها لسنا أقل من غيرنا إن لم نفقهم، والطالب الشرقي يتعلم مع الطالب الغربي في مدرسة واحدة وجامعة واحدة فنراه يفهم كما يفهم الآخر وينقد كما ينقد، ويحكم على الأشياء كما يحكم، ويساويه أو يفوقه في كل مظاهره العقلية، وفي هذا ما يكفي للإقناع بأن المسألة ليست مسألة طبيعة العقل، وإنما المسألة مسألة تاريخ مملوء بالأوزار والأثقال، وتربية لا تبعث روح الإبداع، وجو مسمم يخنق القدرة على الابتكار.
في تاريخنا القديم أحداث عظام خطيرة كان لها الأثر الكبير في جمودنا حتى اليوم، لا أستطيع الآن استقصاءها وإنما أذكر أمثلة منها؛ فالناظر في تاريخ المسلمين يعجب من الحركة العقلية المبتكرة في القرون الثلاثة الأولى التي اخترعت فيها العلوم العربية والأفكار الحية، من مثل الخليل بن أحمد، ذي العقلية الجبارة في اختراع النحو والعروض ووضع المعاجم، ومن أمثلة المعتزلة الذين بحثوا البحوث الجديدة وأثاروها، وأبدوا رأيهم المستقل فيها، كالنظام والجاحظ، فهذا العصر يعد الابتكار طابعه وخاصته. وأرى أن وقفة الخليفة المتوكل في القضاء على المعتزلة ونصر المحدثين، كان لها أسوأ الأثر في مهاجمة الابتكار ونصرة التقليد، ذلك أن منهج المعتزلة كان منهج التفكير الحر في حدود أصول الدين، وبحث المسائل كما يؤدي إليه العقل الطليق إلا من قيد الإيمان بالله ورسوله، فاستطاعوا بذلك أن يبحثوا كل شيء في العال من إلهيات وطبيعيات، ويختلفوافي بحوثهم اختلافا جريئا محبوبا يخالف التلميذ شيخه ويجادله وقد يفحمه، ومنهج المحدثين غير هذا المنهج تماما هو منهج نقل وأمانة في النقل، ووقوف عنده والمحافظة على الجملة، بل على اللفظة، بل على الحرف، فإن انحرف في كلمة خرج على القداسة، وهو أسلوب طبيعي معقول مقبول في حدود الحديث وحده، ليس في ذلك غلط، وإنما الغلط جاء من تعميم هذا المنهج وتطبيقه بشدة وقسوة على سائر العلوم، فاضطهد الاعتزال ووضعت في يد المحدثين السلطة والقوة، فأثروا بسلطانهم وقوتهم ومنهجهم على كل العلوم، فانغمس أهلها في الرواية، وعودوا عادة النقل وتقديس الألفاظ والشيوخ والافتخار بكثرة ما يروى، وطبعت العلوم كلها بطابع الحديث، حتى التاريخ وحتى الأدب وحتى الفكاهة وحتى الفقه وحتى الشعر.
هذا المنهج كان معقولا في الحديث، وكان يجب أن يقصر على الحديث، فتعميمه على كل العلوم كان سببا في العقلية العربية والإسلامية وقعت في فخ التقليد، وحرمت الابتكار إلا في القليل النادر، فنحن لا نعد كثيرا من أمثال ابن خلدون المبتكر، ولكن نعد كثيرا من أمثال السيوطي المقلد.
ونشأت الأجيال والأجيال على هذا المنهاج، وأصبح التخلص منه عسيرا يحتاج إلى قوات كبيرة وسنين طويلة. ومن أجل ذلك لما دعا دعاتنا إلى الانتباه وعدم التقليد، وقعنا في تقليد آخر هو التقليد الأوربي ، لأن ملكة التقليد لا تزال ساكنة في النفوس.
وسبب آخر تاريخي أيضا، وهو توالي الاستبداد والظلم على العالم الإسلامي من القرن الرابع الهجري إلا في فترات قصيرة، فالعسف ومصادرة الأموال، وكسب المال من طريق الملق والمدح، وإشباع شهوة الحكام، كل هذا هو ملخص تاريخ المسلمين، وكل هذا يضعف الشخصية، ويجعلها شخصية ذليلة مقلدة لا مبتكرة. والقارئ في التاريخ الأوربي يرى أن الأوربيين عند مرورهم في مثل هذا الطور من الحياة لم يبتدعوا ولم يبتكروا، وجرى عليهم قانون التقليد كما جرى علينا، وعظموا أرسطو أكثر مما عظمنا، وقلدوا في الفلسفة وفي الصناعة وفي الفن كما قلدنا، إنما ظهر الابتكار يوم تحرروا، فالحرية السياسية أنتجت الحرية الفكرية والاجتماعية والأدبية والصناعية - وكان ذلك قانونا طبيعيا يسير عليه العالم دائما.
هذه هي المسئولية التاريخية في الموضوع. وبجانب ذلك مسئولية التربية، فالتربية التي تقيس الطالب بمقدار ما حصله لا ما هضمه، وبمقدار اطلاعه لا مقدار خلقه وابتداعه، وبمقدار حفظه لا بمقدار نقده، والتربية التي تقدس الكتاب ولا تقدس التجربة، والمدرس الذي يحاسب الطالب على ما أملى ويؤاخذه على ما خلق، والامتحان الذي يرتب الممتحنين حسب كثرة استذكارهم لا حسب كفايتهم، كل هذه الضروب من التربية تنتج التقليد، وتميت الابتكار، تخلق قردة مهرة، ولكن لا تخلق أناسي قادة، تخرج نسخا مطبوعة من كتب، ولكن لا تخلق كتابا خطيا مبتكرا، هي آلة تصنع المتشابهات والأمثال لا صنع يد تخرج عديم المثال؛ إن هذا النوع من التربية ينتج الطير، ولكنه حبيس في قفص، ومهما أتقنت فغايتها طير جميل في قفص جميل.
إنما التربية الصحيحة هي التي تكون المبتكر، وتكون القادة المبتدعين، وتكون الشخصية الواسعة، الشخصية الناقدة، الشخصية الخالقة، هي التي تحول «مركب النقص» في الناشئ إلى «التسامي».
كثيرا ما تساءلت ماذا كان يكون أبو بكر وعمر وأبو عبيدة وعلي وخالد وأمثالهم من رجال الإسلام لو لم يكن محمد؟ كانوا يكونون كنظرائهم في الجاهلية، إغارة وخمر وميسر وفخر بالنسب وبالكرم، ثم لا شيء، وإنما تربية محمد لهم هي التي خلقت شخصياتهم وجعلتهم رجالا خالدين، يبتكرون ويبتدعون ويواجهون الأحداث العظيمة بقلوب عظيمة وعقول مفتحة، ويحلون ما يعرض من المشاكل حلولا مبتكرة لا على مثال سابق؛ وكذلك كان يكون شأننا لو وجدنا المربي الصالح الذي يستطيع خلق الشخصيات، فالوالدات لا يزلن يلدن، والطبيعة لا تزال تمنح كل أمة في كل عصر عقولها الطبيعية الممتازة وفنانيها الممتازين والأيدي الممتازة، ولكنها بذور صالحة لا تجد تربة، ومادة خامة لا تجد من يصنعها بل تجد من يتلفها - إن العدة للجيش لا تكفي لنجاحه ونصره، إنما ينصر إذا امتلأ عقيدة بقوته، وأن الله معه، وأن الملائكة تؤيده، وأن الواجب يدفعه، وأن الجنة تنتظره.
وسبب ثالث قد يضاف إلى الأسباب التاريخية وإلى التربية، وهو المجتمع، فقد يكون جوا خانقا للابتكار، وقد يكون جوا مشجعا على الابتكار - يكون جوا خانقا إذا سخر الناس فيه من الفكرة الجديدة وصاحبها، وإذا صفقوا للمتبع واستعاذوا بالله من المبتدع، وإذا حاربوا كل من آتاهم بما لا تهوى أنفسهم فحكموا تقاليدهم ولم يحكموا عقولهم، وإذا كان مقياس التقدير هو الملق والخداع والنفاق لا الكفاية الممتازة، فالمال ينهال على النوع الأول انهيالا، والحرمان والاضطهاد ينصب على الثاني انصبابا؛ ويكون جوا مشجعا إذا أعجب بمن يأتي بالفكرة الجديدة، وإذا وجدت الفكرة عقولا واسعة تتقبلها وتمنحها وتكافئ عليها.
لقد أقمت في أوربا أشهرا فأحسست - مع قصر المدة - بمعنيين واضحين، الأول أن الناس في الأمة يحب بعضهم بعضا أكثر مما نحب، وقد دعاني هذا أن أكتب مرة مقالا «الشرق ينقصه الحب»، والمعنى الثاني أن الناس يحاولون أن يبحثوا في كل شخص في مجتمعهم عن صفته الممتازة أو موهبته الفائقة ليظهروها ويشجعوها ويصفقوا لها، ونحن نبحث عنها ولكن لنكبتها ونخمدها بشتى الوسائل.
هذه - في نظري - هي الأسباب الهامة في غلبة التقليد عندنا وقلة الابتكار.
وهذه الأسباب بنت حولنا سدا كسد ذي القرنين، بعض أحجاره من مخلفات تاريخنا، وبعضها من مخلفات تربيتنا، وبعضها من مخلفات بيئتنا، وما زالت تتراكم وتعلو حتى حصرت الفكر، وحجبت عنا نور الشمس - وفي تشخيص الداء الدواء، وقبل الرماء تملا الكنائن.
سياحة في العالم
قرأت هذه الأيام كتاب الدكتور مشرفة «مطالعات علمية»، ووقفت طويلا عند مقال له عنوانه «سياحة في فضاء العالمين»، وقد أعد لهذه السياحة مركبا من أشعة النور يسير بسرعة الضوء، فيقطع في الثانية 186000 ميل، وسيصرف نحو يوم في سياحته حول المجموعة الشمسية، فيصل إلى الشمس في ثمان دقائق، ويمر على المستري والمريخ وزحل الخ؛ فإذا جاوز المجموعة الشمسية إلى أقرب نجم من مجموعة أخرى قطع المسافة بينهما في أربع سنين، وسيرى في هذا العالم مجموعات من السدم، كل سديم مؤلف من مئات آلاف الملايين من النجوم، بينها مسافات تقدر بعشرات السنين الضوئية. وسيرى أن محيط الكون يقدر بنحو سبعة آلاف مليون سنة ضوئية؛ أي أننا إذا أرسلنا شعاعا من الضوء فإن هذا الشعاع يعود إلينا بعد سبعة آلاف مليون سنة، بعد أن يكون قد طاف حول الكون كما يطوف السائح حول الأرض، ويعود إلى حيث ابتدأ.
قرأت هذا فرأيتني أملك خيرا من هذه المطية، وأسرع من هذا الضوء، وهو خيالي وفكري الذي يستطيع أن يرحل إلى هذه العوالم في لحظة، ويطوف حول الكون في لمحة. ومن اين لي بآلاف الملايين من السنين والعمر قصير والمدى طويل؟!
لقد ركبت خيالي وطفت هذه العوالم في رحلة عجيبة حقا، وعدت بنتائج بهرتني: لقد رأيت في هذه الرحلة أن أرضنا التي ملأتنا صراخا وصياحا لا تساوي في هذه العوالم قطرة من البحار، ولا ذرة من الرمال؛ وأني على مسافة قصيرة من رحلتي لم أتبينها في خريطة الكون لضعة شأنها وحقارة أمرها، فهي بما عليها من جبال وبحار وأنهار ونبات وحيوان وإنسان لا تساوي شيئا، وصدق الأثر: إن دنيانا عند الله لا تزن جناح بعوضة.
كان من غرور الإنسان أن أعتقد أنه أرقى مخلوق في العالم، وأن العالم كله مخلوق له، وكان ذلك لأنه لم ينظر إلا إلى أرضه ونفسه، وكان ينظر إلى النجوم كأنها حبات درر لامعة؛ فلما رحلت هذه الرحلة رأيت عوالم وعوالم لا يشعر أهلها بأن هناك شيئا اسمه الأرض، ولم يسمعوا بشيء اسمه الإنسان، لأن الأرض أصغر من أن تذكر بجانب ضخامة عوالمهم، والإنسان أحقر من أن تعرف حياته لضخامة حياتهم! - لو كان خلق هذا العالم كله للإنسان لكان أقل ما يقال فيه أنه تبذير حتى من الناحية الاقتصادية، كإسراف من يبني قصرا فخما لنملة، بل مدينة عظيمة لبعوضة - لقد ظن الإنسان بعقله القاصر أن العوالم الأخرى فارغة من الحياة، ولا حياة إلا في أرضه، وعلل ذلك بأن بعض النجوم ملتهبة لا تصلح للحياة، أو أنها لا تحوي العناصر الضرورية للحياة، كأن الحياة قاصرة على نوع حياته، ولا حياة إلا على نمطه - لقد رأيت في رحلتي أن كل العوالم مائجة بالحياة، وأن كل عالم له حياة تناسبه، ومحيط ينسجم معه؛ ولكن رأيتها كلها تخضع لسنة النشوء والارتقاء، فأنواع الحياة كلها تتدرج إلى العقل والحياة المفكرة، وإن اختلف منطقها. وقد رأيتها قطعت مرحلة منطقنا وتفكيرنا منذ ملايين من السنين، لأن الأرض من أحدث المخلوقات، فتفكيرها من أكثر أنواع التفكير سذاجة؛ ولذلك لما عرضت عليهم نوع تفكيرنا ونظمنا الاجتماعية، أمعنوا في الضحك بأكثر مما نضحك من تصرفات حشرة، وكانوا أكثر إمعانا في الضحك حين حدثتهم بأخبار الحرب العالمية، فقد ضحكوا أولا من تسميتها العالمية، وقالوا ما أقبح جهلكم حين تنسبون ذلك إلى العالم، وما أسخفكم حين تحاربون لمطمع دنيء، وما أحمقكم حين لا تستطيعون أن تحلوا مشكلة صغيرة كهذه إلا بالقتل والتدمير والتخريب، فتعالجون حل مشكلة بخلق مشاكل أعظم منها!! حقا إنكم لبدائيون، وحين تصلون إلى ما وصلنا إليه نكون نحن قد وصلنا إلى السمو الأعلى، فالنسبة في سيرنا لا تزال محفوظة. ومسافة الخلف بيننا ستظل بعيدة.
كانت هذه الرحلة كأنها عصا سحرية غيرت معالم تفكيري، فأرضنا في هذا العالم كأنها خلية صغيرة من خلايا جسمنا بباقي الخلايا، ولو استطعنا يوما أن نتفاهم مع مخلوقات العوالم الأخرى لكان الاتصال أتم، وسيرنا أسرع. ولكن هل من وسيلة لأن تتفاهم النملة مع الإنسان، والبعوضة مع الفيلسوف ؟ إن أرضنا بناسها وحيوانها ونباتها وجبالها ليست إلا موجة صغيرة على شاطئ المحيط، ونحن محصورون في حدود ضيقة من كلمات «أنا» و«نحن» وجميع ضمائر المتكلم، كما أننا محبوسون في حدود حواسنا التي لا تدرك من العالم إلا اللذة والألم؛ وإنما يستطيع التجرد من ذلك كله أحيانا الفلاسفة والمتصوفة والشعراء، فيخترقون حجب المظاهر، ويحسون - في لحظات - السمو عن هذه الجزئيات، فيلفون محيط العالم في لمحة، ويغرقون في بحر العالم من غير اختناق، ويفقدون أنانيتهم ليندمجوا في حياة العالم من حيث هو كل، ويدركون لذة ذلك بنوع من الإدراك لا يدانيه الإدراك بالعواطف ولا الإدراك بالعقل، ولا أي نوع آخر من الإدراك، ويشعرون أن العالم كله يتناغم مع نبضات قلوبهم، وخلجات نفوسهم، وإذ ذاك يدركون أن الله - فوق ما يستعين به جماهير الناس في مطالبهم الحقيرة - هو قلب العوالم الذي ينبض بحياتها، وهو إرادتها المحركة لها، ويرون أن الموت ليس إلا ذوبانا في وعاء الأبدية!
لم أصادف في رحلتي إلا قليلا من أهل الأرض، ليس منهم الذين قضوا حياتهم بين مزارعهم ومصانعهم لا عمل لهم إلا أن يحسبوا دخلهم وخرجهم، وليس منهم من اقتصروا على الحاجات الحسية والحياة المادية؛ وإنما رأيت طائفة من الشعراء ليس منهم أو نواس ومدرسته الذين غنوا للخمر واللذات الجسمية، ولا أبو تمام والبحتري ومدرستهما ممن غنوا للملوك واستجدوا الأغنياء، فهؤلاء جميعا التصقوا بالأرض ولم يرفعوا أعينهم إلى السماء؛ وإنما وجدت أبا العلاء حائرا يبحث عن سر النجوم وينشد:
أمنيته شهب الدجى أم محسة
ولا عقل أم في آلها الحس والعقل
ويقول:
يا ليت شعري وهل ليت بنافعة
ماذا وراءك أو ما أنت يا فلك
كم غاض في إثرك الأقوام واختلفوا
قدما - فما أوضحوا حقا ولا تركوا
شمس تغيب ويقفوا إثرها قمر
ونور صبح يوافي بعده حلك
طحنت طحن الرحى من قبلنا أمما
شتى ولم يدر خلق أية سلكوا
راموا سرائر للرحمن حجها
ما نالهن نبي لا ولا ملك
ورأيت ابن الشبل البغدادي يطوف حول العالم ويقول :
بربك أيها الفلك المدار
أقصد ذا المسير أم اضطرار
مدارك قل لنا في أي شيء
ففي أفهامنا منك انبهار؟
ومعهم طائفة من شعراء العرب وغيرهم من الأمم ممن ترفعوا عن ضوضاء الأرض ونزعات التنازع، وحلقوا فوق الخصومات، ونظروا إلى الإنسانية كوحدة، بل إلى العالم كوحدة، وغنوا للناس ليسموا سموهم، وينشدوا مثلهم - وقد سبقهم إلى ذلك درجات شعراء الصوفية، وعظماء رجالها الذين أدركوا وحدة الوجود، وجمال الخلق والخالق، وأحاطوا بالعوالم علما، ووصلوا إلى قلبها ينبغض وروحها تختلج، ونفذوا من مظاهرها السطحية إلى تياراتها الخفية. وقابلت الأنبياء الذين قطعوا اللاأبدية إلى الأبدية في خطوة، وأدركوا الحق وعشقوه وهاموا به، ورأوا أعراض الحياة لا قيمة لها والخير في السمو الأبدي، ويوم يجيء موت الأعراض تبقى الحياة متصلة بالرفيق الأعلى.
وفي طريقي للعودة عرجت على طائفة من الفلكيين والمنجمين كانت ميزتهم أنهم اكتشفوا حقارة الأرض وعظم السماء، وشغلوا بالمسافات والأبعاد وتحليل الأشعة ورسم الخرائط الجوية، ولكنهم وقفوا عند المظاهر، ولم ينفذوا منها إلى قلبها النابض، ولذلك لم أرهم إلا حين قاربت الأرض.
عدت بعد رحلة ممتعة كاد ينعدم فيها الزمان والمكان. ولما قاربت الأرض كدت أختنق من الهواء، لأني اعتدت أن أعيش في غير هذا الهواء؛ شعرت شعور من يسكن الكوخ بعد أن سكن القصر، ومن يعيش في أرض قاحلة بعد أن أقام في البساتين الناضرة؛ وكلما قاربت مس الأرض أحسست ضوضاء وجلبة مختلطة غير منسجمة صدعت رأسي، وأصمت أذني.
وأدركت أني وإن خلق جسمي من تراب، وسيعود إلى تراب، فإن حبي الذي يلتهب في قلبي، وفكري الذي يجول في رأسي، ونفسي التي تحل في جسمي، تتصل بالخلود، وتنتقل من خلود إلى خلود، تسطع عليها العوالم الأخرى، كما تسطع النجوم على الأرض، وتستمتع بالاتصال بالأرواح الأخرى، وتسعد بالعمل على فك الأرواح المقيدة من أغلالها، وتبديد الظلام الذي يحيط بها، والأخذ بيدها لخير الإنسانية حتى تسمو إلى العوالم العليا - ورأيتني لم أخش الموت لأني فهمت حقيقته. •••
وأعجب ما كان مني يوم عدت من رحلتي، أني برمت بكل ما حولي، قرأت الجرائد فاستسخفت كل ما أقرأ: أخبار الحروب تافهة وحقيرة لأن الإنسان الذي يقوم بها حقير، ومكان الحروب جزء من الأرض الحقيرة؛ فلما قرأت أخبار الوفيات والحفلات، والحركات والتنقلات، والجرائم والسرقات والسياسات، رأيتها أسخف وأسخف، فعلى بعد خطوات من رحلتي انقطعت هذه الضوضاء كلها، وكانت كلها أهون من فقاقيع على سطح الماء وجلست عصر هذا اليوم إلى الناس أسمع حديثهم في الغنى والفقر، وصنوف السعادة والشقاء، والملذات والآلام، والجمال والقبح، فلم يقع ذلك كله من نفسي في قليل ولا كثير، لأني كنت لا أزال مبهورا بجمال ما رأيت، وعظم ما شاهدت في السياحة، فكان كل هذا الحديث وموضوعاته أقل في سمعي من طنين ذبابة!
وسمعت قارئا يقرأ
الحمد لله رب العالمين ، فكأن هذه الآية لم تدخل سمعي قبل الآن، فقد فهمت أن العالمين، هي هذه العوالم العظيمة التي ليست المجموعة الشمسية إلا عالما صغيرا منها، وما قد علمنا من العوالم أقل بكثير مما لم نعلم،
ويخلق ما لا تعلمون .
وقلت: ليت الذين يختالون تيها، ويخطرون عجبا، ويمسون حواجبهم، وينفخون أشداقهم، وليت الذين يتجاوزون قدرهم، ويعدون طورهم، ويفترون بمالهم وجاههم، ويعتزون بعلمهم أو فنهم أو أدبهم؛ وليت العتاة والطغاة والمستبدين، ومن يرددون أنا وحي، ومن يتحكمون في أممهم اغترارا بسلطانهم أو قوة جيشهم؛ ليت كل هؤلاء يرحلون معي هذه الرحلة العالمية، فيرون منها قيمة الأرض التي يفخرون بزخرفها ووزنها الذري الذي يطمحون إلى السيادة على بعض منها؛ إذن لتصاغرت إليهم نفوسهم، وأقلعوا عن غرورهم، وتضاءلت منهم أمانيهم ومطامحهم، وطارت نعرة رأسهم، واعتدل صعر خدهم.
ورأيت أني إن بقيت على هذه الحال لم أصلح للحياة، ولم تنسجم نفسي مع ما حولي ومن حولي، فكلما وقع نظري على شيء قارنته بالعوالم الأخرى فاستصغرته؛ ورأيتني كالمجنون وسط عقلاء، أو العاقل وسط مجانين، يتصرفون فلا أفهم كيف يتصرفون، وأتصرف فلا يفهمون ما أعمل، وأتحمس لأشياء لا يأبهون بها، ويتحمسون لأشياء لا آبه بها، وكأن لي عيونا غير عيونهم، وآذانا غير آذانهم ؛ ورأيت أن العيش على هذا المنوال محال، فإما أن أرحل إلى العوالم الأخرى وأعيش فيها أبدا، وكيف وقد علقت بالنفس ثاء الجسم الثقيل كما يقول ابن سينا، وإما أن أنسى رحلتي، وأعود إلى حياة الأرض سيرتي، وأزود العوالم الأخرى لماما كلما شغلني أمر، أو ضغطني هم، ففضلت الثانية مرغما، فلا رأى لمن لا يطاع!!
أخلاق الطفولة وأخلاق الرجولة
لاحظ الطفل، وأمعن النظر في تصرفاته، وراقب البواعث على حركاته وسكناته، تخرج بنتيجة حتمية، وهي أنه أناني مفرط الأنانية، يرى أن أهم ما في الوجود شخصه، وكل شيء حوله يجب أن يكون له؛ ما يصدر عنه من أعمال فإنما هي لجسمه، وللذة يلتذها جسمه، ليس يهمه أي شيء يتصل بغير شخصه، لا يعنيه من أمه إلا أن ثدييها وعاء للبنه؛ كل ما له من عمل، وكل ما له من شعور، وكل ما له من فكر، وكل ما له من رغبات، فإنما هي موجهة نحو ذاته؛ فإذا أحس فراعا من الزمن ليس فيه شيء مما يشتهي ويلتذ بكى، لو كلف أن يرسم خريطة العالم كما يرى، واستطاع ذلك، لرسم شخصه فقط، وكان هو العالم وحده وما عداه من شيء فلخدمته.
لاحظه بعد ذلك وهو ينمو، تجده يتحول من «أنا» قليلا قليلا إلى «نحن» شيئا فشيئا، فهو يبدأ يشعر بأسرته بجانب شخصه، ثم بتلاميذ مدرسته بجانب نفسه، ويتعلم دروس الأخذ والإعطاء بعد أن كان درسه الوحيد هو الأخذ، ويضم إلى العمل لشخصه العمل لغيره، ويعتاد ألا يعمل فقط ما يحب، بل يعمل أيا ما يجب، ويعمل ما تقتضيه التقاليد، ويعمل خوف الاستهجان أو العقوبة أو نحو ذلك - يتعلم ذلك كله في أسرته وفي مدرسته، وفي ألعابه وفي شارعه؛ ويتولد فيه شعور وتفكير ورغبات للعمل للغير، كما تولدت فيه من قبل هذه الأمور للعمل لشخصه.
ويرقى فيه الشهور ب «نحن» إذا اتسع أفقه في الحياة العامة، وخرج من المدرسة وتولى عملا، وعامل الناس وتبادل معهم المنافع والمصالح، فيشعر بأن هناك أناسا غير أسرته وغير مدرسته وغير معارفه، وأنه مرتبط ببعضهم في التعامل، ويشعر بأن هناك مسئولية ملقاة على عاتقه نحو من يعمل معهم، وأنه خاضع لقوانين البلاد، وله ربواط بقومه وأهل دينه ونحو ذلك، كما يشعر أنه يجب عليه العمل، لا كما يحب كالطفل، ولا طاعة للتقاليد أو خوفا من العقوبة كالفتى، ولكن ليحصل رزقه يقوت به نفسه أو أهله أو من يحمل عبئهم؛ وهكذا تراه يبعد بعض الشيء من «أنا » ويقرب من «نحن»، ولكن في حدود ضيقة معينة.
فإذا نحن سمونا لدراسة «الرجال» وعظماء الناس، رأينا استغراقا وعمقا في «نحن»، وضمروا في «أنا»؛ رأينا الرجل العظيم الناضج يصل إلى منزلة يرى معها أن لا قيمة لحياته إلا إذا ارتبطت بحياة الناس والعمل لإسعادهم، لا يقتصر على علاقاته الطيبة بمن حوله في الأعمال العادية، ولكن يضع نصب عينه العمل لترقية الناس روحيا ونفسيا وماديا؛ لا يرى أن مسئوليته هي نحو أسرته فقط، ولا أصدقائه فقط، ولا قريته أو مدينته فقط ولكن لأمته خاصة، وللإنسانية عامة إن وسعه الجهد والكفاية؛ هو واسع النظر، عميق الفهم، رحب الصدر، متسامح أمام ما يشمل العقل من العصبية الوطنية والدينية والخلافات، الحزبية؛ يختبر حاجات الناس وأسباب شقائهم في الناحية التي هو معد لها، ثم يوجه إرادته لرفع الشقاء عنهم، وجلب السعادة لهم ما أمكن، ويحمل مسئولية ذلك في لذة وسرور وتضحية، ولا بأس إن كان فقيرا، ولا بأس إن لم تنبته أسرة أرستقراطية، ولا بأس إن لم يتسلح بقوة، فهو يشعر أن نبل غرضه قوة فوق قوة المال، وفوق الأسرة النبيلة، وفوق أسلحة الناس.
إذا كانت جماهير الناس يعملون للأجر، ويقومون العمل بالمال، فإن أعطوا كثيرا عملوا كثيرا، وإن أعطوا قليلا عملوا قليلا، ويفاضلون بين عمل وعمل بقدر ما يدر من ربح، فإن هؤلاء العظماء يعملون لأنهم يلذهم العمل، ويقومون العمل بمقدار ما يحقق من خير لأمتهم وللإنسانية أجمع؛ يدأبون في العمل، ويعرضون حياتهم للخطر في سبيل مرض يكتشفونه وداء يعالجونه به، أو في سبيل تحرير العقول من أغلالها، أو تحرير العقيدة مما أفسدها، أو يحاربون الظلمة والطغاة لتحقيق العدل في الأمة أو العالم، يحتملون في ذلك العذاب ألوانا، لأن عشقهم للحق غلب حبهم للذات، وهيامهم ب «نحن» أضعف حبهم ل «أنا». فإذا قال الطفل «أنا»، وقال الإنسان العادي «أسرتي»، قال الرجل «أمتي»، أو «عالمي»؛ وإن تلذذ الناس بالعمل يربح، تلذذ هو بالفكرة تنجح؛ وإن تساءلوا عند العمل: ماذا نجني من دخل؟ تساءل هو: ماذا يستلزم العمل من جهد؟
قد منحهم الله قوة من فوته، وقدرة على الخلق من قدرته: يخلقون النافع فيما حولهم، ويبتدعون الجمال ينشرونه في دائرتهم، فهم - دائما - مصدر نفع وجمال. حددوا غرضهم في الحياة، فعلموا أنهم لا يصلون إليه إلا إذا فهموا حق الفهم دنياهم التي يعيشون فيها، وطبائع نفوس الناس في الاستجابة للإصلاح والنفور منه.
يلتذون تحمل التبعات كما يلتذ الجبناء الهرب منها، يواجهون الصعوبات بابتسام، ويتقبلون الهزيمة ريثما يستعدون للوثوب؛ أقوياء في خصومتهم. صابرون في هزيمتهم، كرماء سمحاء في انتصارهم؛ آلوا على أنفسهم أن يكونوا قوة محاربة للشر المحيط بهم حتى ينهزم، وأن يكونوا ضوءا يدافع الظلام حتى ينجاب، يكرهون من أعماق نفوسهم المرض والجهل والفقر، والسخافة والتخريف، وكل عيوب البشرية، ومع هذا يمزجون كراهيتهم لهذه الأشياء بالعطف على المنكوبين بها حتى ينقذوهم منها.
كافأتهم الطبيعة على حسن صنيعهم براحة ضميرهم وطمأنينة بالهم، لأن الطبيعة فرضت أن يكون الإنسان اجتماعيا، وفرضت أن ينبع سنة الارتقاء، فأثابت من جرى على سننها، وعاقبت من خالف قوانينها؛ فإذا رأيت سأما وضجرا بالحياة، وميلا إلى الانتحار، وجنونا بعد عقل، وشقاوة نفس بعد سعادة، فثم - ولا شك - قانون طبيعي خولف، وطريق مستقيم عدل عنه. •••
ثم الأمر في النفس ليس كالأمر في الجسم فقد ينضج الجسم ويكتمل، والنفس لا تزال على حالها نفس طفل؛ فالشاعر كان محقا حين قال: «جسم البغال وأحلام العصافير»، وفي الناس حولنا أشكال وألوان من هذا القبيل، رجولة جسم وطفولة نفس، ومقياس ذلك الذي لا يتخلف هو ضمير «أنا» و«نحن»؛ فإن رأيت لا شيء إلا «أنا» رأيت طفلا مهما كان جسمه وسنه، وإن رأيت «نحن» كثيرا و«أنا» قليلا رأيت رجلا، والرجال قليل.
هناك من ليس أمامه في الدنيا إلا جسمه، يبحث حياته عن الأكل الطيب والملبس الطيب والنعيم الطيب، وذلك كل تفكيره، وكل سعيه، وكل غرضه؛ ركزوا في صحة جسمهم ونعيمه كل شعورهم، وكل عواطفهم، وكل ملذاتهم؛ فإن عملوا عملا خارج هذه الدائرة فلهذه الغاية، تعرفه بالإفراط في العناية بنوع ما يأكل، ومقدار ما يأكل، وبهندامه وبمرآه في المرآة، وبالحذلقة في حركاته وسكناته ونحو ذلك، ثم لا شيء؛ فهذا طفل كبير.
وإن شئت فعد من هذا القبيل ناسكا راهبا لا يفكر في أحد من بني آدم حوله، ولا يهمه حال قومه سياسيا ولا اجتماعيا، ولا يعنيه شقوا أم سعدوا، ولا يحمل تبعة شيء، ولا يصادق أحدا، ولا هم له في الحياة إلا نفسه وعبادته؛ أليس هو الآخر طفلا كبيرا شغلته «أنا» عن «نحن»؟
وهناك من يحد العالم بحدود نفسه، إذا فكر فكر فيها، وإذا عمل عمل لها، لا يعنيه من العمل إلا مقدار ربحه منه، خسر الناس أو كسبوا، لا يمنعه من الغش في عمله إلا خوف العقوبة، فإن أمنها عمل ما شاء ليربح مالا، أو يكسب شهرة، أو يحقق غرضا من أغراضه لنفسه، تعلم درس الأخذ ولم يتعلم درس العطاء، وليست الدنيا كلها وما فيها إلا قنطرة يعبر عليها للوصول إلى غايته، فهذا كذلك طفل كبير.
وهناك من يهرب - كالطفل - من كل تبعة، لا يقتحم الحياة ولكن ينتظر القدر، ولا يزاحم ولكن ينتظر الحظ، إن عرض له شيء متعب تنحى عنه إلى شيء مريح.
وهناك أسوأ من هذا: من رفع نفسه فوق الناس، فهم لم يخلقوا إلا له، ولم تخلق عيونهم إلا لتقع على مطلبه، ولا آذانهم إلا لتصغى إلى كلمته، ولا أيديهم إلا للعمل في خدمته، يسير في الحياة على ما يهوى، ويحب أن يسير الناس فقط على ما يهوى، فهذا أيضا طفل كبير؛ وكم في الناس من أطفال كبار، وهم في طفولتهم أشكال وألوان. •••
ارسم خطا مستقيما رأسيا، وضع في أسفله «أنا» وفي أعلاه «نحن»، وامتحن نفسك: كيف أنت في عملك، هل لا تنظر إلا إلى شخصك، أو تراعي فيه مصلحة قومك؟ وكيف أنت في علاقتك بالناس وعلاقة الناس بك، وهل تؤدي زكاة مالك، وزكاة علمك، وزكاة فنك، وزكاة كفايتك، أو تشح بكل ذلك، فلا تنفقه إلا لمال أكثر تحصله، أو جاه تبتغيه؟ وكيف أنت في نياتك ومقاصدك، هل يؤلمك بؤس الناس وشقاؤهم وفقرهم، فتتعاطف معهم، وتعمل جهدك لإسعادهم، أو أنت وبيتك، ثم على الدنيا العفاء؟ وحدد بذلك كله مركزك من الخط المستقيم، فإذا قربت جدا من «أنا» فهذا دليل الطفولة ولا محالة، وإن قربت جدا من «نحن» فأنت رجل.
هذا هو التقويم الصحيح للناس، وهو - مع الأسف - غير ما تواضعوا عليه، إنهم يقدرون الرجل بماله وبجاهه وبمنصبه، وبكل شيء إلا قيمته الحقيقية؛ ولو راعيت هذا المقياس الحق الذي ذكرنا لرفعت من شأن عامل بسيط على صاحب مصنع كبير، وموظفا في الدرجة الثامنة على موظف في الدرجة الأولى، ومعلما أوليا على سري كبير، وكناسا مخلصا على طبيب غير مخلص، وجنديا مجهولا على قائد مشهور. ولكن أتى لنا المدنية الحقة التي تهدم نظام القيم المتعفن لتضع مكانه نظاما للقيم نظيفا؟
نظرة في إصلاح متن اللغة العربية
اللغة العربية لغتنا، فيجب أن تخضع لحياتنا، تنمو بنمونا، وتسير مع زمننا وزمن من يأتي بعدنا، تسايرنا في تقدمنا وتكون أداة طيعة لتطورنا، لا أن تقسرنا على أن نرجع إلى الوراء، ونعيش عيشة القرون الوسطى. ولغة كل أمة عنصر من عناصر تكوينها، ورقيها أو انحطاطها، لها الأثر الكبير في تكوين النزعات والأخلاق فيها؛ فإن اللغة متن الأدب، والأدب غذاء العقول والأرواح، وهو الطابع الذي يطبع الأمة بطابع السمو أو الضعة، والمرة أو الذلة.
ونظرة واحدة إلى تاريخ اللغة العربية وموقفنا منها الآن، يبين لنا مدى، الخطر الذي يحيط بنا؛ وهو يتلخص في أن جماعة من العلماء في صدر الدولة العباسية ساحوا بين قبائل العرب يجمعون منهم مفردات اللغة، وكان برنامجهم ألا يأخذوا عن حضرى قط، ولا عمن خالط الحضر من أهل التخوم، وكلما أمعنت القبيلة في البداوة كانت أولى بالنقل عنها، كقيس وتميم وأسد ثم هذيل وبعض كنانة وبعض الطائيين، وأودعوا كل ذلك كتبهم التي صارت نواة لمعاجم اللغة، وهم - من غير شك - يشكرون كل الشكر على ما بذلوا من جهد وكابدوا من عناء. ولكن موضع الخطأ فيهم أنهم ومشايعيهم رأوا أن اللغة العربية ليست إلا هذا الذي جمعوه، لا يصح أن تزيد ولا تنقص، وكانت النتيجة الطبيعية لهذه النظرة أنهم يريدون ألا يستعمل الناس أيام الدولة العباسية البالغة مبلغا عظيما من الحضارة إلا ما كان يستعمله هؤلاء البدو في معيشتهم البدوية، ومحال ذلك - لهذا رأينا اللغة غنية غنى مفرطا في أدوات البدو ووسائل معيشتهم، فقيرة جدا في حاجات المدنية ووسائلها، ولهذا اضطر غيرهم - بعد أن ضغطت عليهم المدنية - إلى التعريب بعد أن أعرضوا عنه، نزولا على حكم الطبيعة وتطور العمران، وخلطوا ما أحذوه عن القبائل بما عربوه من الأمم الممدنة، فأضاعوا بذلك القاعدة الأولى التي رسموها لأنفسهم، وهي الأخذ عن العرب الخلص فقط، ولو كانوا أدركوا هذه النتيجة لسمحوا لأنفسهم من أول الأمر بالأخذ عن القبائل التي اختلطت بالعجم أيضا، فهم على الأقل أولى من العجم الصرف الذين عربوا عنهم.
على كل حال أدرك الناس أن متن اللغة البدوي لا يكفي للحياة الحضرية إذ ذاك، فأكملوه بالتعريب وبتوسيع الاشتقاق وبالقياس، وسايرت حركة الاجتهاد في اللغة حركة الاجتهاد في التشريع؛ ثم أصيب العرب بالضربة الشنيعة في الأمرين معا، وهو إقفال باب الاجتهاد في التشريع وباب الاجتهاد في اللغة، وهو حكم قاس لا يمكن تنفيذه فيهما إذا ماتت الأمة، وماتت اللغة (لا قدر الله)، فلما لم تمت الأمة تحايل بعض العلماء على فتح باب الاجتهاد في التشريع بوسائل ضعيفة وحيل سخيفة. فلما لم تنجح هذه الحيل كانت الضربة المخجلة، وهي إهمال التشريع الإسلامي والاعتماد على التشريع الأوروبي إلا في حدود ضيقة كالأحوال الشخصية. وأما في اللغة فكذلك نمت اللغة العلمية على حساب اللغة العربية، واستعمل الناس في حرفهم وصناعاتهم وحياتهم اليومية الكلمات التي يرون أنفسهم في حاجة إليها، ولو أخذا من اللغات الأجنبية محرفة، ولم تبق اللغة العربية الفصيحة إلا في تعليم التلاميذ ريثما يؤدون الامتحان، أو على أقلام الخاصة الذين يشعرون بضيقها وكثيرا ما يفرون عند كتابتهم من وصف الحياة الواقعية من جزمة وطربوش وجاكتة إلى كلمات عامة: كحذاء وقلنسوة ولباس ونحو ذلك، مما تكون فيه الحقيقة في واد والكلام في واد، ولو استمررنا على ذلك لكانت نتيجة اللغة نتيجة التشريع.
ولا علاج لهذا الأمر إلا فتح باب الاجتهاد لأن إقفاله كان هو الداء.
وإذا ثبت لنا الاجتهاد بدأنا بذكر بعض مقترحات متواضعة نقبعها بغيرها إن شاء الله:
فأولا:
نظرة واحدة إلى اللغة العربية ترينا أنها واسعة سعة عظيمة أكثر مما يلزم في بعض المواضع، ضيقة ضيقا شديدا أكثر مما يلزم في مواضع أخرى، كالثوب يطول أحد كمية أمتارا، ويقصر كمه الآخر فلا يكون إلا شبرا.
والسبب في ذلك هو ما ذكرت أن اللغة العربية كانت لغة قبائل مختلفة بدوية، فما كان منها يتصل بحياة البدو من الإبل وحياتها وصفتها، والأرض وأنواعها، والخيام وما إليها، فغني غنى مفرطا يدل على ذكاء العرب ومقدرتهم ودقة ملاحظاتهم، حتى يتركوا شيئا من ملابسات حياتهم إلا لحظوه ووضعوا له اسما، وكانت كل قبيلة تفعل ذلك؛ فلما جمع العلماء اللغة من قبائل مختلفة تنوعت الأسماء المتعددة للشيء الواحد، وهذا علة ما نسميه بالمترادفات - وما كان منها يتصل بحياة الحضر كالملابس الحضرية والأطعمة الحضرية فقليل، وأكثره جاء من التعريب في العصر العباسي. فإذا أتينا إلى زمننا ورأينا الحضارة الغربية ومنتجاتها رأينا من الطبيعي قصورا واضحا، فإذا قارنا الناقة وأنواعها وأجزاءها بالطيارة وأنواعها وأجزائها، والعقاقير البدوية بالعقاقير الحضرية، والصناعة اليدوية بالصناعة الحضرية الخ، وجدنا الغنى المفرط في الأولى والفقر المدقع في الثانية، وهكذا. وعلاج ذلك في نظري أمور:
التخفف من كثير من مفردات اللغة التي في المعاجم، فلا بد من طرح بعض الألفاظ وإماتتها إلا أن تودع في كتب مؤرخة للغة، وهذا عمل ضروري لتفسح مجالا للكلمات الجديدة في المسميات التي نحن في حاجة إليها؛ وإلا فإذا نحن أبقينا القديم كما هو وأضفنا إليه الجديد لتضخم متن اللغة تضخما يعجز عنه أي متعلم. وأولى الكلمات بالإماتة هي: (أ)
الكلمات الحوشية التي يمحها الذوق ويكرهها السمع، والتي عبر عنها أصدق تعبير الصفي الحلي إذ يقول:
إنما الحيزبون والدردبيس
والطخا والنقاخ والعلطبيس
لغة تنفر المسامع منها
حين تروى وتشمئز النفوس
وقبيح أن يذكر النافر الوح
شي منها ويترك المأنوس
أين قولي هذا كثيب قديم
ومقالي عقنقل قدموس
خل للأصمعي جوب الفيافي
في نشاف تخف منه الرؤوس
إنما هذه القلوب حديد
ولذيذ الألفاظ مغناطيس
فلننزل على حكم الصفي الحلي ونستبعد هذه الألفاظ وأمثالها. وكما يكون عملنا في المعاجم التفتيش عما يصلح، يكون من عملنا أيضا النفتيش عمالا يصلح، وتقرير استبعاده وعدم إدخاله في المعاجم الجديدة. (ب)
كذلك استبعاد كثير من المترادفات التي لا حاجة إليها، فما حاجتنا إلى أن يكون للعسل ثمانون اسما، وللسيف نيف وخمسون، وللحية نحو مائتين، وللمصيبة نحو اربعمائة، في حين أن أهم من ذلك كله ليس له اسم واحد. لقد مضى الزمن الذي كنا نعد فيه كثرة المترادفات مفخرة للغة، واضطرتنا كثرة مخلوقات المدنية أن نحمد الله إذا وجدنا لكل مادة في الحياة اسما واحدا يصطلح الناس عليه، ويتفاهمون به. نعم إن بعض المترادفات ليس مترادفا لدلالته على وصف أو نحو ذلك، ولكن الكثير منها لا يدل على شيء غير الذي يدل عليه اللفظ الآخر فلا حاجة إليه - ونعم، إن كثرة المترادفات ضروري للشعر العربي الذي تلتزم فيه القصيدة وحدة القافية والروى، ولكن هذا في نظري عيب آخر يضاف إلى عيوب المترادفات، فوحدة القافية والروى في القصيدة الطويلة أضعفت من الشعر إلا على يد المهرة، وجعلت الشعراء يشدون المعاني شدا ليعثروا على القافية لا أن يأتوا بالقافية التي تلائم المعنى، وما علينا لو تعددت القوافي في القصيدة الواحدة، فذلك أروح للسمع، وأفسح مجالا للشاعر. (ج)
كذلك حذف كلمات الأضداد والقضاء عليها بتاتا مثل قولهم: «ولي إذا أقبل وولي إذا أدبر؛ وشعبت الشيء إذا أصلحته، وشعبته إذا شققته؛ وأفدت المال إذا أعطيته غيري، وأفدته استفدته؛ وقسط جار، وقسط عدل؛ والغريم المطالب، والغريم الطالب، ونحو ذلك من مئات الكلمات. فهذا أسخف شيء في اللغات وهو مفسد للقصد منها، فإن اللغة موضوعة للإبانة عن المعاني، فلو جاز وضع لفظ واحد للدلالة على الشيء وضده لضاعت قيمة اللغة، وكان هذا تعمية لا إبانة، وتغطية لا كشفا، واللغة لم توضع لتكون ألغازا. وعلة وجود الأضداد في اللغة العربية أن العلماء جمعوا الكلمات من القبائل المختلفة، فقد تكون الكلمة دالة على معنى في لغة، وعلى ضده في لغة أخرى، فكانت كل قبيلة حكيمة في نفسها؛ فلماذا يريدوننا أن نجمع بين المتناقضات؟ وكما ولد اختلاف القبائل هذا التضاد، ولد أيضا كثرة المشترك في اللغة، فكم معنى للعين وللخال وغير ذلك مما يجعل الذي يريد أن يفهم نصا من النصوص حائرا بين جملة معان كلها صالح، ولكن لا يستطيع الجزم بأحدها. ولعل القارئ لشرح ابن الأنباري للمفضليات يرى في كل قصيدة الاختلاف في فهم المعاني لكثرة هذا المشترك، ولكن لا أريد حذفه بتاتا كما أريد حذف المتضاد، فالحاجة إليه شديدة، ولكن أريد التخفف منه قدر الإمكان.
هذه أمثلة من أمثلة تضييق الواسع. وأما الناحية الأخرى، وهي توسيع الضيق، فأبوابها التعريب والاشتقاق والقياس، وكلها اتبعت في العصر العباسي، ثم كان الخطأ في التضييق على أنفسنا في استعمالها مع شدة حاجتنا إليها.
أما التعريب، فقد سار مجمعنا اللغوي وبعض العلماء عليه سيرا محمودا، وقضوا جزءا كبيرا من وقتهم في تعريب المصطلحات العلمية والفنية، وليس عليهم إلا أن يستمروا في طريقتهم في تعريب أدوات الصناعة وسائر أدوات الحضارة، مع توسع في المنهج الذي يسيرون عليه، وقد أفرد لذلك بحثا آخر. وأما الاشتقاق والقياس فكلاهما يتدخل في الآخر في بعض صوره، فلأجمع بينهما في الكلام، وأسق بعض الأمثلة لما أريد منهما: (1)
إنا نعرف صيغ الزوائد، كأفعل وفعل وفاعل وانفعل وافتعل واستفعل الخ، ونعرف المراد منها في الأعم الأغلب؛ فيقولون إن فاعل للمشاركة مثلا، وافتعل لاتخاذ شيء كاختتم اتخذ خاتما، واستفعل للطلب كاستغفر الله، وتفاعل لحصول شيء تدريجا كتزايد النيل، وتواردت الإبل، إلى آخر ما قالوا.
ولكن وجه العيب أنهم قصروا ذلك على ما سمع، ولم يبيحوا لعلماء اللغة أن يتوسعوا في هذا الاستعمال متى احتيج إليه وكان جاريا على أساليب اللغة. ما الذي يمنع من أن أقول خابرته كما قالوا نابأته والمعنى في الاثنين واحد؟! وما المانع أن أقول استلفت نظره وفيها معنى طلبت إليه أن يوجه نظره؟! ونحو ذلك. إن أكثر المتزمتين في اللغة لا هم لهم إلا أن يخطئوا كل ذلك لأنه لم يرد في المعاجم؛ والذي أريد: أن يكون كل هذا قياسيا متى انطبق على القواعد الصرفية ودعت الحاجة إليه. وكذلك الشأن في المصادر، فقد نصوا على أن الفعل إذا دل على حرفة فقياس مصدره فعالة كالخياطة والحياكة، فلنعم ذلك إذا شئنا كالبرادة والنقاشة؛ وفعلان يدل على التقلب كالجولان والغليان فنقيسه في مثله متى احتجنا إليه، ولو لم ينصوا عليه؛ وصيغة فعال تطلق على صاحب الحيوان ومروضه، فقالوا: فيل وفيال، فلم لا نقول إذا احتجنا قرد وقراد، وكلب وكلاب، وهكذا؟! (2)
كذلك من أصعب الأبواب وأكثرها خلطا في اللغة العربية المذكر والمؤنث، فيؤنث المذكر، فيقال: هو رواية للشعر وعلامة، ونسابة، ويذكر المؤنث فيقال هي كاعب وناهد؛ وهناك ألفاظ يطلق فيها اللفظ الواحد على الذكر والأنثى من غير تغيير كقولهم: شاب أملود، وجارية أملود، وبعير ظهير، وناقة ظهير، أي قوي، وجمل ضامر وناقة ضامر. وهناك الحيرة في أسماء هل هي مؤنثة أم مذكرة؟ كالدرع والرمح والرحم، فلا بد من الإمعان في الكشف عليها، وقد لا تجد نصا؛ وهناك ما يذكر ويؤنث على السواء، كالسلاح والصاع والسكين والدواء والسوق والعسل والروح - فيجب العمل على تسهيل هذه الصعاب المربكة والجرأة في تنظيمها، ووضع قواعد عامة لها، ولو خالفنا فيها بعض النصوص، من مثل: (أ)
جواز تأنيث كل مؤنث بإلحاق تاء التأنيث به، فنقول: هي كاعبة وناهدة، وشاب أملود وجارية أملودة، وجمل ضامر وناقة ضامرة. (ب)
كل ما لم يرد فيه نص فالأنثى بالهاء والمذكر من غيرها، من غير توقف على نص. (ج)
كل ما ليس مؤنثا حقيقيا كأسماء الجماد إذا لم تكن فيه علامة التأنيث كالدلو والبئر والأرض والسماء والنجم يجوز تذكيره وتأنيثه، كما روى صاحب المصباح عن ابن السكيت وابن الأنباري إذ قالا: «إن العرب تجترئ على تذكير المؤنث إذا لم تكن فيه علامة التأنيث».
وعلى الجملة فالواجب تنظيم هذا الباب بالقواعد التي ذكرت ونحوها، وإزالة الصعاب التي شوهت اللغة وجعلت تعلمها عسيرا.
كذلك يجب ألا نفهم أن اللغة العربية التي نملكها هي عمل العرب في البادية وحدهم، بل إن اللغة العربية هي عمل هؤلاء مصموما إليه عمل الأدباء والعلماء الذين عانوها وعالجوها إلى اليوم؛ وبعبارة أخرى يجب أن نفهم أن اللغة ليست ما جمعه الخليل وابن دريد والجوهري ونحوهم من ألسنة العرب وحدهم، بل اللغة أيضا ما استعمله ذوو الذوق العربي من أمثال أبي تمام والبحتري والمتنبي وأبو العلاء ومن أتى بعدهم على منوالهم، فإذا استعمل هؤلاء لفظا أو تعبيرا لم يرد في المعاجم، ووجدناه يسد حاجة من حاجاتنا استعملناه وعددناه عربيا، فالألفاظ التي استعملها أبو الفرج الأصفهاني في الأغاني - من مثل: ندر الرجل، وتندر إذا جاء بالنادرة، وندر بفلان وتنادر عليه إذا جعله موضع نادرته - عربية كالتي نطق بها الأعرابي؛ وإذا استعمل المقرى «التذكرة» بمعنى الرقعة التي يكتب فيها ليتذكر فهي عربية؛ والألفاظ الاصطلاحية التي استعملها ابن خلدون ليسد بها حاجته في علم الاجتماع عربية ويجب أن تدخل في المعاجم.
وهذا كله يسلمنا إلى القول بغربلة ما سموه الدخيل، وإدخال ما يصلح منه في معاجمنا كالأصيل تماما بلا تفرقة إلا إذا وضعنا معجما تاريخيا، وقد قام الأستاذ «دوزي» في ذلك مقاما حسنا بمعجمه الذي وضعه في معاني الكلمات المستحدثة التي رودت في كتب المتأخرين.
هذا رأيي في التوسيع والتضييق، وليس ما ذكرت إلا أمثلة قليلة يمكن التوسع فيها إذا قبل المبدأ.
ثانيا:
من أشق الأمور على دارس اللغة العربية وزن الفعل الثلاثي ماضيه ومضارعه من أوزان الفعل الستة، والمتخصص في دراسة اللغة يشيب ولا يستطيع الجزم بصحة نطقه في هذا الباب أهو من باب نصر أو ضرب أو ذهب الخ، ولو ترك هذا الأمر على حاله ما أمكن النطق الصحيح الدائم مهما طال الزمن وكثر الدرس، بل في كثير من الأحيان نشك فنرجع إلى المعاجم في بعض الصيغ فلا تنص أو تختلف أو تحيز! ومما يزيد الأمر صعوبة أن الفعل الواحد يكون له وزن أو وزنان إذا كان بمعنى خاص، وله وزن آخر أو وزنان إذا كان بعنى آخر، ويضطرب الباحث بين هذه النصوص، وإذا لم يضطرب فلا يستطيع إحصاءها واستيعابها والأمن من الزلل فيها.
وقد أدرك هذه الصعوبة بعض العلماء قبلنا فاجتهدوا فيها، فقد روى القاموس في مقدمته عن أبي زيد الأنصاري: «إذا جاوزت المشاهير من الأفعال التي يأتي ماضيها على فعل فأنت في المستقبل (أي في الفعل المضارع) بالخيار إن شئت قلت يفعل (بضم العين)، وإن شئت قلت يفعل (بكسرها) فتقول: حشر يحشر ويحشر، وعكف يعكف ويعكف الخ».
وهو اجتهاد حسن لا بأس به، ولكن يجب أن يكون لنا من الحق ما لأبي زيد، فننظم الأفعال الثلاثية كلها ولا نقتصر على ما كان من باب «فعل»، ولا نجيز أن يكون مضارع فعل من باب ينصر أو يضرب، فإن هذه توسعة ضارة لا حاجة إليها، بل نكتفي بوزن واحد وليكن وزن يضرب. فإذا جاز لأبي زيد أن ينظم بعض التنظيم، فنحن أحوج ما نكون إلى التنظيم الكامل وأقدر منه.
وهناك أبواب أخرى في اللغة العربية مسببة للخلط والاضطراب، كباب التعدي واللزوم، وباب العدد، والمصادر وكثرتها وبعثرتها، وجموع التكسير واضطرابها الخ، وكلها تحتاج إلى ضبط ولو بتضحية.
وأخيرا:
لا بد من تقرير فتح باب الاجتهاد في اللغة لتنظيمها وضبط الفوضى فيها، وهذا لا يكون إلا بالاعتقاد أن اللغة ملكنا لا أنا ملك لها، نتصرف فيها كما يتصرف الملاك في أملاكهم، بالهدم والبناء والتغيير والتبديل؛ إنما يجب أن يكون التصرف تصرف العقلاء لا السفهاء، فنربط جديدنا بقديمنا، ولا نبني إلا ما نحن في حاجة إليه، ونبنيه على خير وجه يحقق الغرض المطلوب، ونختار في بنائه خير البناة.
إن الوضع الذي وضعنا فيه أنفسنا إزاء اللغة وضع خطأ لقد وضعناها وضع الإلهة المالكة المقدسة ووضعنا أنفسنا منها وضع العبد الذليل الخاضع. والوضع الصحيح أننا نحن السادة وهي العبدة الطيعة، وليس يصح أن ننتظر رأيا من أبي زيد، ولا كلمة من الأصمعي، ولا تخريجا من الأشموني، لنلجأ إليه ونعتصم به في الإصلاح، فعقولنا أقدر على فهم حاجتنا، ونظرنا وتفكيرنا أقدر على تنظيم بيتنا.
إني لأعجب من أن كثيرا من المصلحين تنبهوا إلى خطر الجمود في التشريع ونادوا بالاجتهاد فيه مع الاحتفاظ بالأصول الكلية في الدين، ولكن لم أجد داعيا إلى الاجتهاد في اللغة، مع أن للجمود فيها خطرا لا يقل عن خطر الجمود في التشريع! ومصداق ذلك انصراف أكثر المتعلمين عنها متى نالوا حظا من لغة أجنبية، وقلة من يجيدها قراءة وكتابة كأنها لغة إضافية لا لغة أصلية.
ثم لا خطر من هذا الاجتهاد مطلقا متى أحكم طريقه، ومتى حوفظ على مقومات اللغة. وليست مقومات اللغة في هيئتها وبناء كلماتها وطريقة الاشتقاق منها ونحو ذلك، بل إن تنظيمها وتحديد الفوضى فيها يرفع من شأنها ويزيد من حيويتها، ويكثر من سواد من يجيدها.
وهنا سؤال يصح أن يوجه، وهو لمن يكون هذا الحق في الاجتهاد؟
والجواب: أن شأن اللغة شأن غيرها من الفقه وسائر العلوم والفنون، كل متمكن من فرع دارس له متخصص فيه نضج فيه ذوقه، له الحق أن يقترح وينادي بنظريته التي يراها حقا، والمتخصصون في هذه المادة ينظرون إلى رأيه ونظرياته ويقررونها أو يرفضونها أو يعلونها، ثم بعد ذلك الهيئات الرسمية في التشريع تأخذ ما تراه صحيحا من أقوال هؤلاء العلماء، وتتخذ منها قانونا لها، والمجامع العلمية المعترف بها من الأمة تقرر صحة النظرية العلمية أو خطأها، وتدخل في عداد العلم ما ثبتت صحته وهكذا؛ فكذلك الشأن في اللغة لكل كاتب وشاعر أن يستعمل من الكلمات اللغوية ما يؤدي غرضه ويعرضه على الناس ليجاروه أو يرفضوه، والمجامع الرسمية كمجمعنا ومجمع دمشق تأخذ من هذا كله ومما يعرضه عليها أعضاؤه بجدهم وبحثهم ما تراه صالحا، وتعده وتذيعه على الناس ليكون دستورا. ثم لا بد أن يكون هناك اتصال بين المجمع والحكومة اتصالا تشريعيا؛ فإذا قرر المجمع مثلا رسم الألف اللينة في الآخر ألفا مطلقا، فلا قيمة لهذا القرار إلا أن تصدر وزارة المعارف بذلك أمرا لاستعماله في مدارسها وكتبها وإلزام المعلمين باتباعه، وهكذا حتى يكون للإصلاح نتيجة فعلية؛ ولنتبع في ذلك ما اتبعته الأمم الحية في إصلاح لغتها وكتابتها وننتفع من تجاربها، ونتجنب أخطاءها، والله الموفق.
زعماء الإصلاح الإسلامي في العصر الحديث
مقدمة
طلع القرن التاسع عشر والعالم الإسلامي في ظلمة حالكة، ومحنة شاملة: جهل مطبق، وظلم فادح، وفقر مدقع.
هذا سائح فرنسي زار مصر في آخر القرن الثامن عشر وهو مسيو فولني
Volney ، وأقام بها وبالشام نحو أربع سنوات يقول: «إن الجهل في هذه البلاد عام شامل، وهي في ذلك مثل سائر البلاد التركية، يشمل الجهل كل طبقاتها، ويتجلى في كل نواحيها الثقافية من أدب وعلم وفن؛ والصناعات اليدوية فيها في أبسط حالاتها، يندر أن تجد في القاهرة من يصلح ساعتك إذا فسدت، فإن عثرت على أحد منهم فهو إفرنجي».
وهذه الحكومة المصرية تخشى من الرأي العام في تعليم الرياضة والطبيعة، فتستفتي شيخ الجامع الأزهر الشيخ محمد الإنيابي «هل يجوز تعليم المسلمين العلوم الرياضية كالهندسة والحساب والهيئة والطبيعيات وتركيب الأجزاء - المعبر عنها بالكيمياء - وغيرها من سائر المعارف؟» فيجيب الشيخ في حذر: «إن ذلك يجوز مع بيان النفع من تعلمها» - كأن هذه العلوم لم يكن للمسلمين عهد بها، ولم يكونوا من مخترعيها وذوي التفوق فيها.
كان العالم الإسلامي منعزلا، لا يتصل بأوروبا إلا فيما تعانيه تركيا من مشاكلها السياسية، فليس هناك اتصال بين الشعوب الإسلامية والشعوب الأوربية؛ لقد أغلقت على العالم الإسلامي الأبواب منذ الحروب الصليبية، وأخذ يأكل بعضه بعضا - وقفوا في علمهم فليس إلا ترديد بعض الكتب الدينية واللغوية، وفي صناعاتهم فلا اختراع، بل ولا إتقان للقديم، وفي آلاتهم وفنونهم العسكرية فهي على نمط الأقدمين؛ وسكان المدن والريف قد أبعدوا عن الاشتراك في الشؤون السياسية والحربية، فلا تراهم في جيش ولا في قيادة جيش، ولا تعرض عليهم المشاكل السياسية، ولا أرى لهم فيها، إنما هم مزرعة الحكام ومستغل الولاة والأمراء، كلما تفتحت شهواتهم فعلى الرعية أن يجدوا سبيلا لملئها بالمال يجمعونه من عرق جبينهم وصنع أيديهم. مركز الخلافة - وهو الآستانة - مفك منحل، والولايات من مصر والشام والعراق والحجاز متدهورة منحدرة، قد أمات نفسها توالي الاستبداد عليها، يقودها في العلم رجال الدين وهم أجهل الناس بالدنيا وشؤونها واتجاهاتها، كل همهم كلمة تعرب، أو جملة في كتاب تفسر، أو حفظ متن، أو وضع حاشية على شرح، وهذا كل عالمهم؛ أما الدنيا وكيف تسير، والشعوب وكيف تظلم، والعدل وكيف يطلب، فموكولة إلى الله تعالى يفعل فيها ما يشاء؛ يخدمون كل وال، ويلينون مع كل ظالم؛ حتى «نابليون» لما دخل مصر لم يجد فيها قنطرة يعبر عليها لحكم مصر إلا مجلس العلماء، وقال: «إنه استعان بهم ليتقي أكبر العقبات لأن أكثرها دينية - ولأنهم لا يعرفون أن يركبوا حصانا ولا أن يقوموا بأي عمل حربي، وقد استفدت منهم كثيرا، واتخذتهم وسيلة للتفاهم مع الشعب، وألفت منهم ديوان القضاء».
يأكل بعضهم بعضا ويلعن بعضهم بعضا. هذا الشيخ الدواخلي - أحد أكابر العلماء ونقيب الأشراف - يزدحم الناس على بابه، ويتزاحم العلماء على مائدته، فإذا غضب محمد علي باشا عليه لكلمة بلغته عنه، وأمر بالقبض عليه ونفيه إلى دسوق، هرع هؤلاء العلماء الفضلاء يكتبون العرائض يملؤونها ذما في الدواخلي وتشنيعا عليه، يعددون عليه ذنوبا أكثرها في الحقيقة محامد، ويقيمون الأفراح شماتة به، ويعملون الولائم ويتضاحكون عليه، فيصرخ «الجبرتي» الرزين، ويعلق على هذا الحادث بقوله: «إنهم قد زالت هيبتهم من النفوس، وانهمكوا في الأمور الدنيوية، والحظوظ النفسانية، والوساوس الشيطانية، ومشاركة الجهال في المآثم، والمساعة إلى الولائم، في الأفراح والمآتم، يتكالبون على الأسمطة كالبهائم، فتراهم في كل دعوة ذاهبين، وعلى الخوانات راكعين ... وعلى ما وجب عليهم من النصح تاركين.
أمور يضحك السفهاء منها
ويبكي من عواقبها اللبيب»
ويشمت «الجبرتي» بهذا الشيخ الدواخلي لأنه فعل مثل هذا الصنيع مع السيد عمر مكرم.
ويقودها في السياسة وال تركي يسيطر عليها بطائفة من الجند ، ولا يطيل المكث إلا ريثما يغتني هو وجنوده من الأمة بالسلب والنهب والرشا، حتى صبح اسم الحكومة والوالي والجند مرعبا مفزعا؛ مقرونا في النفس بمعنى الظلم والعسف واغتصاب المال.
وأعجب من هذا كله إلف الشعوب الإسلامية هذه الحالة السيئة والاستنامة إليها، وكراهيتهم لكل إصلاح؛ فإذا أريد إصلاح الجندية ثارت الانكسارية؛ وإذا أريد إصلاح القانون غضب العلماء؛ وهي مع ذلك يسودها الغرور، فهي تشعر أنها خير ما في الدنيا، وقوتها فوق كل قوة، والله ناصرها على كل عدو، ولا خوف عليها من أي شعب آخر أو ملة أخرى، أليس الله قد رد أعداءها في الحروب الصليبية، ومحا كيد من يكيدها ويعتدي عليها؟! فالعلم ليس إلا ما في كتبهم وعند علمائهم، والقوة الحربية ليست إلا فيهم، وما على السلطان إلا أن يرفع البيرق النبوي حتى تلتف حوله جنود الأرض وجنود السماء فيمحقون كل قوة، ويذلون كل جبار. يقول بعض المماليك المصريين عند ما بلغه نزول الحملة الفرنسية: «دعوهم فإذا جاءت جميع الجيوش الإفرنجية فسندوسهم بخيولنا».
وعلى الجملة فقد كان العالم الإسلامي - إذ ذاك - شيخا هرما حطمته الحوادث، وأنهكه ما أصابه من كوارث، من حروب صليبية، وما تبعها من فساد نظام، واستبداد حكام، واستئثارهم بالمغانم، وفوضى أحكام، وخمود عام، واستسلامه للقضاء والقدر، وترديد قول الشاعر:
دع المقادير تجري في أعنتها
ولا تبيتن إلا خالي البال
فقد الدين روحه، وصار شعائر ظاهرية لا تمس القلب ولا تحيي الروح، وسادت الخرافات وانتشرت الأوهام، وأصبح التصوف ألعابا بهلوانية، ووسيلة النجاح في الحياة ليس الجد في العمل ولكن التمسح بالقبور والتوسل بالأولياء. فهم الذين ينجحون في العمل، وهم الذين ينصرون في الحروب، والشوارع والحارات مملوءة بالدجالين والمشعوذين.
هذا ما كان عليه الحال في الشرق. أما الغرب فقد حمل معه بذور الإصلاح أيام الحروب الصليبية، وبدأ يغرسها في أرضه حتى أنتجت هذه البذور أشجارا باسقة عصفت بها الريح حينا، ودب إليها الفساد حينا، ولكنها تحملت الشدائد حتى استوى أمرها وكونت لها شخصيتها. رفعت ثوراتها من شأن الشعوب وجعلتها فوق شأن الحكام، فبينما كان الحكام في الشرق كل شيء ولهم كل الثروة وكل العظمة، وللشعوب كل الفقر وكل الجهل، كان النداء يدوي في الغرب بأن الأمة كل شيء، وأن الحاكم إنما له حق البقاء في مركزه ما خدم شعبه. وسلبوا القيادة العلمية من رجال الدين وسلموا زمامها لرجال الدنيا، يطلقون لعقولهم العنان، ويبحثون ما شاءوا، وقصروا رجال الدين على قيادتهم في الأمور الروحانية والمسائل اللاهوتية، ولكن ليس لهم قيادة في العلم ولا في السياسة؛ فاتجه العلماء إلى الطبيعة يبحثونها في كل مناحيها، ويحاولون الوقوف على أسرار الكون، ويبنون حياتهم العملية على ما اكتشفوا منها في صناعاتهم وتجارتهم، ويستخدمون الهندسة والفلك والكيمياء والرياضة والميكانيكا في بناء السفن والمدفعية والقوى الحربية، وسببت عندهم المخترعات والصناعات والآلات ثروة كبيرة لكثير من الأفراد ساعدت على تأسيس شركات تقوم بأضخم الأعمال؛ وهذا التقدم في الصناعات رفع من شأن أفراد الشعوب، وجعل لهم الكلمة العليا في حكوماتهم، وحررهم في الفكر والعمل، فتضاعف التفكير، وتضاعف الاستكشاف، وتضاعف الإنتاج. •••
هذا هو الشرق، مصره لا تعرف أن تصلح ساعة، وجيوشه تعبأ على طريقة الحروب الصليبية، وأسلحته هي ما كانت عليه منذ خمسة قرون، ومشايخه يبحثون في الكتب ليستخرجوا فتوى بحل تعلم الحساب أو حرمته، وشعوبه أكواخ حقيرة فقيرة قذرة لعامة الناس، وقصور فخمة ضخمة ملئت بالجواري الحسان، وكل أسباب الترف والنعيم لعدد محدود من الولاة والأمراء، وكل ما في البلاد من خير فلهؤلاء السادة، وكل ما في البلاد من شقاء فعلى رءوس الشعب.
وهذا هو الغرب، ثورة من شعوبه على الحكام ونظام الطبقات لتسترد حريتها، وثورة على النظام الاقتصادي لتنظم الضرائب وتحرر التجارة وتحد من تدخل الحكومة في الأعمال الاقتصادية، وتنشط الزراعة والصناعة بشتى الوسائل، ثم ثورة صناعية نتج عنها توسع في استخراج الفحم والحديد وصناعة الآلات.
هذا هو الحال عندما اصطدم الشرق بالغرب حول أوائل القرن التاسع عشر - لقد كان الغرب يتهيب الشرق لما وقر في نفسه من عظمته أيام الحروب الصليبية، ولكن ما لبث التجار والجواسيس والرحالة الغربيون يكشفون لأممهم حال الشرق حتى اقتنعوا بضعفه؛ وكانت أكبر ناحية تفوق فيها الغرب على الشرق - عدا ما ذكرنا - هي الناحية البحرية؛ فإن كانت بعض دول الشرق قوية في جنودها، باسلة في قتالها، فليس لها ما تعتمد عليه من أساطيل بحرية قوية كالتي للغرب.
لقد غزا الغرب الشرق مسلحا بالعلم الواسع في شتى نواحيه، في السياسة والاجتماع والاقتصاد، وبنفسية الشعوب وجغرافية العالم وتاريخه، ومسلحا بالأدوات الحديثة في الحروب برا وبحرا، وبالأساليب الحربية على آخر طراز، ومسلحا برءوس الأموال تمده بها الحكومات والشركات، ومسلحا برجال العلم ينزلون مع الجيش يدرسون وينقبون عن الزراعة والصناعة والحضارة القديمة والفن وما إلى ذلك.
وحيثما غزا الغرب قطرا فسرعان ما يبث فيه أسباب حضارته من سكك حديدية تمد، وبريد ينظم، وزراعة تصلح، ومالية تضبط، وهو المشرف على كل ذلك يسخرها كما يشاء حسبما يشاء؛ ولا يكتفي بنشر حضارته المادية بل ينشر حضارته العلمية والأدبية، فالمدارس الوطنية تدرس لغته وآدابه وفنونه وعلومه، وهذه تزاحم الثقافة القديمة للبلاد شيئا فشيئا، والعادات الغربية تكتسح العادات القديمة، وعلى الإجمال تنبث المدنية الغربية في البلاد المفتوحة بخيرها وشرها.
كل هذا نبه الشرق مذعورا من سباته العميق، والتفت وراءه فرأى ماضيا قريبا يستدعي الخجل: من إهمال مصالح البلاد وفساد مرافقها، وضعف ثغورها؛ ورأى حاضرا خائرا لا يقف أمام قوة، ولا يصد تيارا عنيفا، وليس يملك شيئا إلا أن يلعن من أوصله إلى هذا الحال. وما غناء اللعن باللسان أمام قوة السنان؟
وكانت هذه حال العالم الإسلامي أجمع حول أوائل القرن التاسع عشر، سواء في ذلك ما غزى من الأقطار وما ينتظر الغزو القريب، لأن القوى الغربية تتسابق، وسقوط الأقطار الشرقية يتلاحق.
وقد كانت أكبر مصيبة أصيب بها الشرق في هذه الآونة قلة رجاله الخبيرين بالدنيا وشؤونها، والسياسة وألاعيبها، الماهرين في معالجة المشاكل، الحازمين في تصريف الأمور، وحتى كان إذا وجد أمثال هؤلاء لم يجدوا تأييدا من الرأي العام الجاهل، فمن نادى بالمساواة في العدل بين الرعية من غير نظر إلى جنس أو دين اتهم بمحاربته للمسلمين، ومن نادى بتنظيم الجيش على الأساليب الحديثة اتهم بالتفرنج والخروج على التقاليد، ومن نادى بتأسيس مجلس شورى اتهم بمحاربة السلطان، والحض على الثورة، والعبث بالنظام؛ وهكذا.
وكانت هذه الخيبة التي مني بها سببا في التفكير في حالته والحزن على ما أصابه، ونزعة بعض المفكرين وكبار الرجال في الإصلاح، فنبغ رجال قليلون في سائر الأقطار يعالجون الإصلاح بوسائل مختلفة، كل ينظر إليه من زاوية خاصة؛ ولعل أشهر الزعماء في العصر الحديث وأكبرهم أثرا كان محمد ابن عبد الوهاب في الحجاز، ومدحت باشا في تركيا، والسيد أحمد خان في الهند، والسيد جمال الدين الأفغاني في مصر، والسنوسي في طرابلس، وخير الدين باشا في تونس.
وسنذكر كلمة عن كل رجل من هؤلاء وغيرهم نبين بها وجهة نظره في الإصلاح، وما قدر له من خيبة أو فلاح، فربما جهل كثير من شباب الجيل الحاضر تاريخهم، مع قرب العهد بهم، وتأثرنا في حاضرنا ومستقبلنا بأعمالهم.
محمد بن عبد الوهاب (1)
1115-1306ه/1703-1791م
هو زعيم الفرقة التي تسمى الوهابية، وتعتنق مذهبه الحكومة الحاضرة في الحجاز.
نشأ في بلدة تسمى «العيينة» في نجد، وتعلم دروسه الأولى بها على رجال الدين من الحنابلة، وسافر إلى المدينة ليتم تعلمه؛ ثم طوف في كثير من بلاد العالم الإسلامي، فأقام نحو أربع سنين في البصرة، وخمس سنين في بغداد، وسنة في كردستان، وسنتين في همذان؛ ثم رحل إلى أصفهان ودرس هناك فلسفة الإشراق والتصوف، ثم رحل إلى «قم»، ثم عاد إلى بلده واعتكف عن الناس نحو ثمانية أشهر، ثم خرج عليهم بدعوته الجديدة.
وأهم مسألة شغلت ذهنه في درسه ورحلاته مسألة التوحيد التي هي عماد الإسلام، والتي تبلورت في «لا إله إلا الله»، والتي تميز الإسلام بها عما عداه، والتي دعا إليها «محمد»
صلى الله عليه وسلم
أصدق دعوة وأحرها؛ فلا أصنام ولا أوثان، ولا عبادة آباء وأجداد، ولا أحبار ولا نحو ذلك. ومن أجل هذا سمى هو وأتباعه أنفسهم «بالموحدين»؛ أما اسم الوهابية فهو اسم أطلقه عليه خصومهم، واستعمله الأوروبيون، ثم جرى على الألسن.
وقد رأى أثناء إقامته في الحجاز ورحلاته إلى كثير من بلاد العالم الإسلامي أن هذا التوحيد الذي هو مزية الإسلام الكبرى قد ضاع، ودخله كثير من الفساد.
فالتوحيد أساسه الاعتقاد بأن الله وحده هو خالق هذا العالم، والمسيطر عليه، وواضع قوانينه التي يسير عليه، والمشرع له، وليس في الخلق من يشاركه في خلقه ولا في حكمه، ولا من يعينه على تصريف أموره؛ لأنه تعالى ليس في حاجة إلى عون أحد مهما كان من المقربين إليه؛ هو الذي بيده الحكم وحده، وهو الذي بيده النفع والضر وحده، لا شريك له؛ فمعنى لا إله إلا الله: ليس في الوجود ذو سلطة حقيقية تسير العالم وفقا لما وضع من قوانين إلا هو، وليس في الوجود من يستحق العبادة والتعظيم إلا هو، وهذا هو محور القرآن:
قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون .
إذن فما بال العالم الإسلامي اليوم يعدل عن هذا التوحيد المطلق الخالص من كل شائبة إلى الإشراك مع الله كثيرا من خلقه؟ فهذه الأولياء يحج إليها، وتقدم لها النذور، ويعتقد فيها أنها قادرة على النفع والضر؛ وهذه الأضرحة لا عداد لها تقام في جميع أقطاره، يشد الناس إليها رحالهم، ويتمسحون بها، ويتذللون لها، ويطلبون منها جلب الخير لهم ودفع الشر عنهم؛ نفى كل بلدة ولي وأولياء، وفي كل بلدة ضريح وأضرحة تشرك مع الله تعالى في تصريف الأمور ودفع الأذى وجلب الخير، كأن الله سلطان من سلاطين الدنيا الغاشمين، يتقرب إليه بذوي الجاه عنده وأهل الزلفى لديه، ويرجون في إفساد القوانين وإبطال العدل؛ أليس هذا كما كان يقول مشركو العرب:
ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى
وقولهم:
هؤلاء شفعاؤنا عند الله ؟!
بل وا أسفاه! ألم يكتف المسلمون بذلك بل أشركوا مع الله حتى النبات والجماد؛ فهؤلاء أهل بلدة «منفوحة» باليمامة يعتقدون في نخلة هناك أن لها قدرة عجيبة من قصدها من العوانس تزوجت لعامها؛ وهذا الغار في الدرعية يحج إليه الناس للتبرك، وفي كل بلدة من البلاد الإسلامية مثل هذا؛ ففي مصر شجرة الحنفى، ونعل الكلشنى، وبوابة المتولي
1 ؛ وفي كل قطار حجر وشجر، فكيف يخلص التوحيد مع كل هذه العقائد؟
إنها قصد الناس عن الله الواحد، وتشرك معه غيره، وتسيء إلى النفوس، وتجعلها ذليلة وضيعة مخرفة، وتجودها من فكرة التوحيد، وتفقدها التسامي.
وأساس آخر يتصل بهذا التوحيد كان يفكر فيه «محمد بن عبد الوهاب»، وهو أن الله وحده هو مشرع العقائد، وهو وحده هو الذي يحلل ويحرم، فليس كلام أحد حجة في الدين إلا كلام الله وسيد المرسلين، فالله يقول:
أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ؛ فكلام المتكلمين في العقائد، وكلام الفقهاء في التحليل والتحريم ليس حجة علينا، إنما إمامنا الكتاب والسنة، وكل مستوف أدوات الاجتهاد له الحق أن يجتهد، بل عليه أن يفعل ذلك ويستخرج من الأحكام - حسب فهمه لنصوص الكتاب وما صح من السنة - ما يؤديه إليه اجتهاده. وإقفال باب الاجتهاد كان نكبة على المسلمين، إذ أضاع شخصيتهم وقوتهم على الفهم والحكم، وجعلهم جامدين مقلدين يبحثون وراء جملة في كتاب أو فتوى من مقلد مثلهم، حتى انحط شأنهم وتفرقوا أحزابا يلعن بعضهم بعضا، ولا منجاة من هذا الشر إلا إبطال هذا كله، والرجوع إلى الدين في أصوله، والاستقاء من منبعه الأول.
وهكذا شغلت ذهنه فكرة التوحيد في العقيدة مجردة من كل شريك ، والتوحيد في التشريع فلا مصدر له إلا الكتاب والسنة.
هذا هو أساس دعوة محمد بن عبد الوهاب، وعلى هذا الأساس بنيت الجزئيات.
اقتفى في دعوته وتعاليمه عالما كبيرا، ظهر في القرن السابع الهجري في عهد السلطان الناصر هو «ابن تيمية»، وهو - مع أنه حنبلي - كان يقول بالاجتهاد ولو خالف الحنابلة، وكان حر التفكير في حدود الكتاب وصحيح السنة، ذاق اللسان، قوي الحجة، شجاع القلب لا يخشى أحدا إلا الله، ولا يعبأ بسجن مظلم، ولا تعذيب مرهق، فهاجم الفقهاء والمتصوفة، ودعا إلى عدم زيارة القبور والأضرحة وهدمها، وألف في ذلك الرسائل الكثيرة، ولم يعبأ إلا بما ورد في الكتاب والسنة، وخالف إمامه أحمد بن حنبل إذا أداه اجتهاده إلى ذلك.
فيظهر أن «محمد بن عبد الوهاب» عرف ابن تيمية عن طريق دراسته الحنبلية، فأعجب به، وعكف على كتبه ورسائله يكتبها ويدرسها. وفي المتحف البريطاني بعض رسائل لابن تيمية مكتوبة بخط ابن عبد الوهاب، فكان ابن تيمية إمامه ومرشده وباعث تفكيره، والموحى إليه بالاجتهاد والدعوة إلى الإصلاح.
دعا مثله إلى رد البدع، والتوجه بالعبادة والدعاء إلى الله وحده لا إلى المشايخ والأولياء والأضرحة، ولا بوساطة توسل ولا شفاعة، وزيارة القبور إن كانت فللعظة والاعتبار، لا للتوسل والاستشفاع، فهم لا يملكون شيئا بجانب الله وقوانينه الثابتة التي لا تتخلف والتي نظم الله بها كونه؛ فالذبح للقبور والنذور لها والاستغاثة بها والسجود عندها شرك لا يرضاه الله، وهو هدم للتوحيد - الذي جاء به الإسلام - من أساسه، ومثل ذلك تجصيص القبور وبناية الأضرحة، وتشييد الأبنية عليها وكسوتها بالحرير المذهب وما إلى ذلك، فكل هذه لا يعرفها الإسلام.
فكانت دعوة ابن عبد الوهاب حربا على كل ما ابتدع بعد الإسلام الأول من عادات وتقاليد، فلا اجتماع لقراءة مولد، ولا احتفاء بزيارة قبور، ولا خروج للنساء وراء الجنازة، ولا إقامة أذكار يغنى فيها ويرقص، ولا «محمل» يتبرك ويتمسح ويحتفل به هذا الاحتفال الضخم، وهو ليس إلا أعوادا خشبية لا تضر ولا تنفع.
كل هذا مخالف للإسلام الصحيح يجب أن يزال، ويجب أن نعود إلى الإسلام في صفاته الأولى، وطهارته ونقائه، ووحدانيته واتصال العبد بربه من غير واسطة ولا شريك؛ فلا إله إلا الله معناها كل ذلك. والكتب المملوءة بالتوصلات كتب ضارة بالعقائد، كدلائل الخيرات، وما في البردة من مثل قوله:
يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به
سواك عند حدوث الحادث العمم
وقوله:
إن لم تكن في معادي آخذا بيدي
فضلا وإلا فقل يا زلة القدم
وقوله:
فإن من جودك الدنيا وضرتها
ومن علومك علم اللوح والقلم
ونحو ذلك، أقوال فاسدة كاذبة، فلا التجاء إلا إلى الله، ولا اعتماد في الدنيا والآخرة إلا عليه.
لقد كان محمد بن عبد الوهاب ومن نحا نحوه يرون أن ضعف المسلمين اليوم وسقوط نفسيتهم ليس له من سبب إلا العقيدة، فقد كانت العقيدة الإسلامية في أول عهدها صافية نقية من أي شرك، وكانت لا إله إلا الله معنا السمو بالنفس عن الأحجار والأوثان وعبادة العظماء وعدم خوف من الموت في سبيل الحق، ولا خوف من استنكار المنكر والأمر بالمعروف مهما تبع ذلك من عذاب، ولا قيمة للحياة إذا بذلت في رفع لواء الحق ودفع الظلم، وهذا هو الفرق الوحيد بين العرب في الجاهلية والعرب في الإسلام، وبهذه العقيدة وحدها غزوا وفتحوا وحكموا. ثم ماذا؟
ثم لم يتغير شيء إلا العقيدة، فتدنوا من سمو التوحيد إلى حضيض الشرك، فتعددت آلهتهم من حجر وشجر وأعواد أخشاب وقبور أولياء، وركنوا إلى ذلك في حياتهم العامة؛ فالزرع ينجح لرضا ولي ويخيب لغضبه، والبقرة تحيا إذا نذرت للسيد البدوي أو مثله، وتموت إذا لم تنذر، وهكذا في الأمراض والعلل والغنى والفقر، كلها لا ترجع إلى قوانين الله الطبيعية وإنما ترجع إلى غضب الأرواح ورضاها. ومثل هذه النفوس الضعيفة التي تذل للحجر والشجر والأرواح لا تستطيع أن تقف أمام الولاة والحكام الظالمين تأمر بمعروف أو تنهاهم عن منكر، فذلوا للحكام والأغنياء كما ذلوا للأخشاب والأحجار. وما زال كل قرن يمر تزداد معه الآلهة عددا وتزداد النفوس ذلة ، حتى وصلت الحال بالأمة الإسلامية إلى فقد سيادتها، وانهيار عزتها. ولا يلح آخر الإسلام إلا بما صلح به أوله، فلا بد من العودة إلى الحياة الإسلامية الأولى حيث التوحيد الصحيح والعزة الحقة، ولا بد من هدم هذه البدع والخرافات باللين إن نجح، وبالقوة إن لم ينجح، والله المستعان.
لم ينظر محمد بن عبد الوهاب إلى المدنية الحديثة وموقف المسلمين منها، ولم يتجه في إصلاحه إلى الحياة المادية كما فعل معاصره محمد علي باشا، وإنما اتجه إلى العقيدة وحدها والروح وحدها؟ فعنده أن العقيدة والروح هما الأساس وهما القلب، إن صلحا صلح كل شيء وإن فسدا فسد كل شيء، وطبيعي أن يكون هذا هو الفرق بين رئيس الدين في نجد ورئيس الحكم في مصر. •••
أما بعد، فإن التوحيد الصحيح المطلق المجرد عن شائبة كل تجسيم، المنزه عن كل تشخيص، الذي يصل العبد بربه من غير وساطة ولا وسيلة، مطلب عسير لا يستطيعه إلا الخاصة أو خاصة الخاصة، أما من عداهم فيشعرون بالتوحيد لحظات ثم سرعان ما يتدهورون ويشوب عقيدتهم نوع من التشخيص، وأسلوب من التجسيم على نحو ما، ثم يتخذون من الصالحين وسائل وزلفى - كان ذلك في الجاهلية وكان ذلك في الإسلام بعيد البعثة إلى الآن.
فالمؤرخون يروون أن أهل الطائف لما أسلموا كان لهم بنية على اللات، فأمر النبي بهدمها فطلبوا منه أن يترك هدمها شهرا لئلا يروعوا نساءهم وصبيانهم حتى يدخلوهم الدين، فأبى ذلك عليهم وأرسل معهم المغيرة بن شعبة وأبا سفيان بن حرب وأمرهما بهدمها.
وفي الحديث أن العرب كانت لهم في الجاهلية شجرة تسمى «ذات أنواط» كانوا يعلقون بها سلاحهم ويعكفون حولها ويعظمونها، فسأل بعض المسلمين رسول الله أن يجعل لهم كذلك «ذات أنواط» فنهاهم عن ذلك.
ولما جاء عمر شعر أن بعض الناس أخذ يحن إلى العادات الجاهلية القديمة، فرآهم يأتون الشجرة التي بايع رسول الله
صلى الله عليه وسلم
تحتها بيعة الرضوان فيصلون عندها فبلغ ذلك عمر فأمر بها فقطعت.
ولما رأى عمر كعب الأحبار يخلع نعله ويلمس برجليه الصخرة عند فتح بيت المقدس، قال له: «ضاهيت والله اليهودية يا كعب».
وهكذا ما لبث بعض الناس حتى تراجع عن التوحيد المطلق الذي جاء به الإسلام، لأن التحرر من المادة بكافة أشكالها، والإفلات من قيود الحس، والتسامي إلى الله فوق المادة وفوق الحس وفوق التشخيص يتطلب منزلة رفيعة من السمو العلي تعجز عنه الجماهير.
وقال النبي
صلى الله عليه وسلم «إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك»
ثم سرعان ما اتخذ المسلمون قبور الصالحين وغير الصالحين مساجد، ولم يكن الصحابة الأولون يشدون الرحال إلى المشاهد، ثم كان ذلك، وهكذا كلما مضى زمن كثرت فيه أصناف التعظيم للقبور والأضرحة وكثير من الأشجار والجماد.
وظهر الدعاة والمصلحون على توالي العصور يحاولون أن يردوا الناس عن هذا ويرجعوهم إلى التوحيد وحده، وكلما دعا داع إلى ذلك عذب وأهين ورمي بالكفر والإلحاد كما فعل بابن تيمية، فقد ألف الرسائل في هذا الموضوع وانتقد حال المسلمين في استغاثتهم بالقبور ورحيلهم إليها، وطوافهم بالصخرة في بيت المقدس، ورحيلهم إلى مشهد الخليل ومشاهد عسقلان، وتعظيمهم حتى بعض آثار النصرانية، فعذب وسجن؛ وأتى بعده بقرون محمد بن عبد الوهاب هذا فدعا مثل هذه الدعوة فرمي بالكفر. وأخيرا جاء الشيخ محمد عبده فدعا إلى العدول عن التوسل والشفاعة والزيارة للقبور، وملأ دروسه في التفسير وتفسيره لجزء «عم» بمثل هذه الدعوة، فلقي من أهل زمنه ما لم يغب عن أذهاننا بعد.
هذا هو جوهر الدعوة التي دعا بها محمد بن عبد الوهاب فماذا كان شأنها ومصيرها؟
محمد بن عبد الوهاب (2)
كانت جزيرة العرب عندما دعا محمد بن عبد الوهاب دعوته - التي شرحناها في العدد الماضي - أشبه شيء بحالتها في الجاهلية، كل قبيلة تسكن موضعا يرأسها أمير منها: هذا أمير في الأحساء، وهذا أمير في العسر، وهؤلاءأمراء في نجد الخ، ولا علاقة بين الأمير والأمير إلا علاقة الخصومة غالبا. ثم تتوزعها - أيضا - الخصومة بين البدو والحضر، فمن قدر من البدو على خطف شيء من الحضر فعل، ومن قدر من الحضر على التنكيل ببدو فعل؛ والطرق غير مأمونة، والسلب والنهي على أشدهما، وسلطة الخلافة في الآستانة تكاد تكون سلطة اسمية، ومظهرها تعيين الأشراف في مكة وإمدادهم ببعض الجنود وكفى.
لقد بدأ «محمد بن عبد الوهاب» يدعو دعوته - التي ذكرناها - في لين ورفق بين قومه. ثم أخذ يرسل الدعوة لأمراء الحجاز والعلماء في الأقطار الأخرى، حانا لهم على استنهاض الهمم في مكافحة البدع والرجوع إلى الإسلام الصحيح.
كم من المصلحين دعوا مثل هذه الدعوة، ولكنها مرت بسلام، وإن شابها شيء فسجن الداعي أو التسهير به، ورميه بالكفر أو الزندقة، ثم ينتهي الأمر ويعود الناس سيرتهم الأولى؛ بل نرى من قام بمثل هذه الدعوة - فعلا - في المغرب كالشيخ أبي العباس التيجاني، فقد أمر بترك البدع ونهى عن زيارة القبور، وكثرت أتباعه حتى بلغت مئات الألوف، ولكن لم يلفت الناس والحكام أمره كما لفتهم محمد بن عبد الوهاب؛ وكذلك الشيخ محمد عبده دعا مثل هذه الدعوة فأجابه بعضهم وأنكر عليه بعضهم، ثم أسدل الستار. فما السبب في نجاح الدعوة الوهابية دون الأخرى؟
السبب في هذا ما أحاط بالدعوة الوهابية من ظروف لم تتهيأ لغيرها.
فقد اضطهد في بلده العيينة، واضطر أن يخرج منها إلى الدرعية مقر آل سعود؛ وهناك عرض دعوته على أميرها محمد بن سعود فقبلها، وتعاهدا على الدفاع عن الدين الصحيح ومحاربة البدع، ونشر الدعوة في جميع جزيرة العرب باللسان عند من يقبلها، وبالسيف عند من لم يقبلها؛ وإذ ذاك دخلت الدعوة في دور خطير، وهو اجتماع السيف واللسان، وزاد الأمر خطورة نجاح الدعوة شيئا فشيئا، ودخول الناس أفواجا فيها، وإخضاع بعض الأمراء بالقوة لحكمها، وكلما دخلوا بلدة أزالوا البدع وأقاموا تعاليمهم، حتى هددت الحركة كل جزيرة العرب. ولما مات الأمير ومات الشيخ تعاقد أبناء الأمير وأبناء الشيخ على أن يسيروا سيرة آبائهم في نصرة الدعوة متكاتفين، وظلوا يعملون حتى غلبوا على مكة والمدينة.
وشعرت الدولة العثمانية بالخطر يهددها بخروج الحجاز من يدها، وهو موطن الحرمين الشريفين اللذين يجعلان لها مركزا إسلاميا ممتازا، تفقد الكثير منه إذا فقدتهما.
فأرسل السلطان محمود إلى محمد علي باشا في مصر بأن يسير جيوشه لمقابتلة الوهابيين؛ وكما أرسلت الجيوش لمقاتلتهم أرسلت الدعاية من جميع الأقطار الإسلامية للنيل من هذه الدعوة وتكفير مبتدعيها، وحمل علماء المسلمين عليها حملات منكرة، وألفت الكتب الكثيرة في التخويف منها والتشنيع عليها.
وهكذا حدثت الحرب بالسيف والحرب بالكلام، كل هذا خدم الدعوة الوهابية بلفت الأنظار إليها، ودورانها على كل لسان. وزاد من شأنها أن الوهابيين انتصروا على حملة محمد علي باشا الأولى بقيادة الأمير طوسون.
ثم أعد محمد علي باشا العدة القوية الكبيرة، وسار بنفسه وحاربهم بخير سلاحه، فانتصر عليهم، وأتم النصر ابنه إبراهيم باشا، وانهزمت قوة الوهابيين؛ ولكن بقيت الدعوة إلى أن هيئ لها في العهد الحاضر المملكة السعودية الحاضرة في تاريخ طويل لا يعنينا هنا، وإنما يهمنا الدعوة وما تم لها.
إن الدعاية التي أحكمت ضدها، وتسلق الناس بالدولة العثمانية، وميلهم الشديد أن تظل بلادها وحدة لا ينفصل عنها جزء، جعلت عامة المسلمين في أقطار العالم الإسلامي يفرحون بهزيمة الوهابية، ولم لم يفهموا جوهر دعوتها. وشيء آخر كان كبير الأثر في تنفير عامة المسلمين من هذه الحركة، وهو أنها حيث استولت على بلد نفذت تعاليمها بالقوة ولم تنتظر حتى يؤمن الناس بدعوتها؛ فلما دخلوا مكة هدموا كثيرا من القباب الأثرية كقبة السيدة خديجة؛ وقبة مولد النبي
صلى الله عليه وسلم ، ومولد أبي بكر وعلي؛ ولما دخلوا المدينة رفعوا بعض الحلى والزينة التي كانت على قبر الرسول؛ فهذه كلها أثارت غضب كثير من الناس وجرحت عواطفهم، فمنهم من حزن على ضياع معالم التاريخ، ومن حزن على الفن الإسلامي، ومنهم من حزن لأن مقبرة الرسول
صلى الله عليه وسلم
وفخامتها مظهر للعاطفة الإسلامية وقوة الدولة؛ وهكذا اختلفت الأسباب واشتركوا في الغضب، والوهابيون لم يعبئوا إلا بإزالة البدع والرجوع بالدين إلى أصله.
قد اهتموا بالناحية الدينية وتقوية العقيدة، وبالناحية الخلقية كما صورها الدين، ولذلك حيث سادوا قلت السرقة والفجور وشرب الخمور وأمن الطريق وما إلى ذلك؛ ولكنهم لم يمسوا الحياة العقلية ولم يعملوا على ترقيتها إلا في دائرة التعليم الديني، ولم ينظروا مشاكل المدنية الحاصرة ومطالبها. وكان كثير منهم يرون أن ما عدا قطرهم من الأقطار الإسلامية التي تنتشر فيها البدع ليست ممالك إسلامية، وأن دارهم دار جهاد؛ فلما تولت حكومة ابن سعود الحاضرة كان لا بد أن تواجه الظروف الحاضرة، وتقف أمام منطق الحوادث، ورأت نفسها أمام قوتين قويتين لا معدى لها عن مسايرتهما، قوة رجال الدين في نجد المتمسكين أشد التمسك بتعاليم ابن عبد الوهاب والمتشددين أمام كل جديد فكانوا يرون أن التلغراف السلكي واللاسلكي والسيارات والمجلات من البدع التي لا يرضى عنها الدين، وقوة التيار المدني الذي يتطلب نظام الحكم فيه كثيرا من وسائل المدنية الحديثة كما يتطلب المصانعة والمداراة، فاختطت لنفسها طريقا وسطا شاقا بين القوتين، فقد عدلت نظرها إلى الأقطار الإسلامية الأخرى وعدتهم مسلمين، وبدأت تنشر التعليم المدني بجانب التعليم الديني، وتنظم الإدارة الحكومية على شيء من النمط الحديث، وتسمح للسيارات والطيارات واللاسلكي بدخول البلاد والاستعمال وما إلى ذلك، وما أشقه عملا: التوفيق بين علماء نجد ومقتيضات الزمن، وبين طبائع البادية ومطالب الحضارة. •••
لم تقتصر الدعوة الوهابية على الحجاز والجزيرة العربية، بل تعدتها إلى غيرها من كثير من الأقطار الإسلامية، وكان موسم الحج ميدانا صالحا وفرصة سانحة لعرض الدعوة على أكابر الحجاج واستمالتهم إلى قبولها، فإذا عادوا إلى بلادهم دعوا إليها. فنرى في زنجبار طائفة كبيرة من المسلمين يعتنقون هذا المذهب، ويدعون إلى ترك البدع، وعدم التقرب بالأولياء.
وقام في الهند زعيم وهابي اسمه السيد أحمد، حج سنة 1822م، وهناك آمن بالمذهب الوهابي وعاد إلى بلاده، فنشر هذه الدعوة في بنجاب وأنشأ بها شبه دولة وهابية، وأخذ سلطانه يمتد حتى هدد شمال الهند، وأقام حربا عوانا على البدع والخرافات، وهاجم الوعاظ ورجال الدين هناك، وأعلن الجهاد ضد من لم يعتنق مذهبه، ويقبل دعوته، وأن الهند دار حرب؛ ولقيت الحكومة الإنجليزية متاعب كثيرة شاقة من أتباعه حتى استطاعت إخضاعهم.
وكذلك حضر الإمام السنوسي مكة حاجا، وسمع الدعوة الوهابية واعتنقها، وعاد إلى الجزائر يبشر بها، ويؤسس طريقته الخاصة في بلاد المغرب كما سيأتي بيانه.
وفي اليمن ظهر أعلم علمائه، وإمام أئمته وهو الإمام الشوكاني المولود سنة 1172ه، فسار على نفس هذا النهج، وإن لم يتلقه عن ابن عبد الوهاب، وألف كتابه القيم «نيل الأوطار» شارحا فيه كتاب ابن تيمية «منتقى الأخبار»، عارضا الأحاديث النبوية، مجتهدا في فهمها، وفي استنباط الأحكام الشرعية منها ولو خالف المذاهب الأربعة كلها؛ وحارب التقليد ودعا إلى الاجتهاد وثارت من أجل ذلك حرب كلامية شعواء بينه وبين علماء زمنه، كان أشدها في صنعاء، وألف في ذلك رسالة سماها «القول المفيد في حكم التقليد»؛ ودعا في قوة إلى عدم زيارة القبور والتوسل بها، فقال في نيل الأوطار
1 : «وكم سرى عن تشييد أبنية القبور وتحسينها من مفاسد يبكي لها الإسلام، (منها) اعتقاد الجهلة لها كاعتقاد الكفار للأصنام، وعظم ذلك فظنوا أنها قادرة على جلب النفع ودفع الضرر؛ فجعلوها مقصدا لطلب قضاء الحوائج، وملجأ لنجح المطالب، وسألوا منها ما يسأل العباد من ربهم، وشدوا إليها الرحال، وتمسحوا بها واستغاثوا، وبالجملة فإنهم لم يدعوا شيئا مما كانت الجاهلية تفعله بالأصنام إلا فعلوه، فإنا لله وإنا إليه راجعون. «مع هذا الفكر الشنيع والكفر الفظيع، لا نجد من يغضب لله، ويغار حمية للدين الحنيف لا عالما ولا متعلما، ولا أميرا ولا وزيرا ولا ملكا، وقد توارد إلينا من الأخبار ما لا يشك معه أن كثيرا من هؤلاء القبور بين أو أكثرهم إذا توجهت عليه يمين من قبل خصمه حلف بالله فاجرا، فإذا قيل له بعد ذلك احلف بشيخك ومعتقدك الولي الفلاني. تلعثم وتلكأ، وأبى واعترف بالحق؛ وهذا من أبين الأدلة الدالة على أن شركهم قد بلغ فوق شرك من قال إنه تعالى تاني اثنين وثالث ثلاثة. «فيا علماء الدين، ويا ملوك المسلمين، أي رزء للإسلام أشد من الكفر، وأي بلاء لهذا الدين أضر عليه من عبادة غير الله، وأي مصيبة يصاب بها المسلمون تعدل هذه المصيبة، وأي منكر يجب إنكاره إن لم يكن إنكاره هذا الشرك المبين؟»
وقد مات الإمام الشوكاني سنة 1250 بعد أن أبلى في هذا بلاء عظيما، وخلف تلاميذ كثيرين يدينون برأيه.
وفي مصر شب الشيخ محمد عبده فرأى تعاليم ابن عبد الوهاب تملأ الجو، فرجع إلى هذه التعاليم في أصولها من عهد الرسول إلى عهد ابن تيمية، إلى عهد ابن عبد الوهاب؛ وكان أكبر أمله أن يقوم في حياته للمسلمين بعمل صالح، فأداه اجتهاده وبحثه إلى نفس الأساسين اللذين بنى عليهما محمد بن الوهاب تعاليمه وهما: (1) محاربة البدع وما دخل على العقيدة الإسلامية من فساد بالإشراك مع الله تعالى الأولياء والقبور والأضرحة، و(2) فتح باب الاجتهاد الذي أغلقه ضعاف العقول من المقلدين؛ وجرد نفسه لخدمة هذين الغرضين، ولكنه امتاز بميزة كبرى عمن عداه، وهي ثقافته الواسعة الدينية والدنيوية، ومعرفته بشؤون الدنيا وأسسها وتياراتها، وذلك بتربيته الدينية الأولى المستمرة، وبانغماسه في الأمور السياسية واطلاعه على الثقافة الفرنسية، ورحلاته إلى أوربا يخالط علماءها وفلاسفتها وساستها. فلما تعرض لمثل ما تعرض له ابن عبد الوهاب فلسف الدعوة، وركزها على أسس نفسية واجتماعية، كما شارك في تركيزها على الأسس الدينية؛ ففي دروسه في التفسير التي كان يلقيها في الرواق العباسي بالأزهر، كان ينتهز كل إشارة لآية ولو من بعيد تندد بالشرك فيفيض في الحملة على عبادة الصالحين، وزيارة القبور والشفاعة والتوسل وما إلى ذلك، فيطيل الوقوف - مثلا - عند قوله تعالى:
ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب ، فيقسم الشيخ الأنداد إلى قسمين: هؤلاء الشفعاء الذين اتخذهم الناس وسيلة للقرب من الله يستقضونهم في الحوائح، وهؤلاء الذين يقلدون في الدين ويتخذ قولهم شرعا من غير حجة ولا برهان. وتظهر فلسفته للمذهب في بيان الأضرار النفسية من هذه العقائد، فهي تورث الذل وتخضع الناس للحكام الظالمين، وتحط بالنفوس إلى الدرك الأسفل، ثم هي تضر اجتماعيا باعتماد الناس على هؤلاء الأولياء بتركهم القوانين الطبيعية التي جعلها الله أسبابا لا بد منها لحصول المسبب. فالزراعة إنما تنجح بالحرث والتسميد والبذرة والسقي، لا بالاستغاثة بولي؛ والحرب إنما تكسب باتخاذ سلاح مجهز على آخر طراز كسلاح العدو، وإعداد العدة الكاملة كما يفعل العدو، لا بالاستعانة بأهل القبور؛ وفضيلة المسلم أن يستعين بعد ذلك كله بالله وحده يطلب منه أن يثبت قلبه، ويلهمه التوفيق. وهكذا كان يفيض في هذين الأساسين، مفندا آراء من يقول بالتوسل والشفاعة والتقليد.
وينتهز فرصة وجود جماعة من العلماء عنده في يوم مولد، ودعوته للعشاء عند أحد المحتفلين، فيبين لهم أن هذه الموالد كلها منكرات، ويتمنى لو صرف ما يصرف في الموالد على تعليم الفقراء، ويناظرهم في ذلك مناظرة تنتهي بانصراف العلماء إلى العشاء في المولد، وامتناع الشيخ وحده.
ويضع الشيخ تفسيرا لجزء «عم» للناشئة فيلتمس كل وسيلة للحملة على كل ما يشوب التوحيد من شرك بعبادة المشايخ والقبور والأضرحة والتخريف، راجيا أن ينشأ الشباب نشأة دينية صحيحة خيرا مما عليه آباؤهم - وأعانه في هذه السبيل تلميذه وصديقه السيد محمد رشيد رضا في مجلة المنار، فقد ملأها كذلك بمثل هذه الدعوة، ومثل هذه الحجج يسمع بها المسلمين في جميع الأقطار الإسلامية.
وفي تركيا قامت الحكومة التركية الكمالية بمحاربة هذه البدع والخرافات فأغقلت التكايا وكانت عش التدجيل، وطاردت المشايخ، واضطهدت المهرجين؛ ولكن الفرق بين هذه الحركة وما قبلها أن كل الحركات السابقة كانت مؤسسة على الدين والإصلاح الديني، والرجوع إلى الأصول الدينية، أما هذه الحركة فمؤسسة على العقل المطلق، وفكرة الإصلاح الاجتماعي من غير أن يكون الوازع عليها الرغبة في الإصلاح الديني. •••
وأخيرا وقد مضى على هذه الدعوة الإصلاحية من عهد محمد بن عبد الوهاب إلى الآن عشرات السنين، واشترك في تنظيم الغزة عشرات من الأبطال، فماذا كانت النتيجة؟
ظل عامة المسلمين في جميع الأقطار الإسلامية - كما هم - من حيث الالتجاء في قضاء الحوائج إلى المشايخ والقبور والأضرحة، وظلت على عادتها في الاحتفال بها وإن قل بهاؤها ورونقها، وإنما تأثر بهذه الدعوة الخاصة أو خاصة الخاصة، كما تأثر بها ناشئة الشباب المثقفين بحكم ثقافتهم ونمو عقليتهم، فلم يلجئوا إلى المزارات والمشايخ كما كان يلجأ آباؤهم؛ ولكن أخشى ألا يكون كثير منهم يلجأ إلى الله أيضا كما كان يلجأ آباؤهم.
والآن ننتقل إلى نوع آخر من الإصلاح كان مظهره مدحت باشا في تركيا.
مدحت باشا (1)
1238-1301ه/1822-1833م
وهذا مصطلح آخر من جنس آخر؛ محمد بن عبد الوهاب مصلح ديني، وهذا مصلح اجتماعي؛ ذاك في نجد، وهذا في استنبول؛ ذاك لا شأن له بالسياسة ولا بالمدنية الحديثة، إنما همه إصلاح العقيدة؛ وهذا منغمس في السياسة لا مشكلة أمامه غيرها؛ ذلك برنامج إصلاحه الرجوع إلى عهد الرسول
صلى الله عليه وسلم
وصاحبته لنعتقد ما يعتقدون، ونعمل ما يعملون، ونترك ما يتركون؛ وهذا يرى الإصلاح في الرجوع إلى المدنية الحاضرة ومناهجها في الأمم الحية لنختار منها ما يصلح لنا ويتفق ومواقفنا، دارسين في إمعان كيف شق الأوربيون طريقهم إلى الحياة الاجتماعية والسياسية، وكيف تعثروا وكيف نهضوا، فنتعلم من خطئهم وصوابهم، ونقتبس خير ما أنتجته عقولهم. •••
لقد ولد في عهد السلطان محمود، ونضج شبابه في عهد السلطان عبد المجيد، وبدأت كهولته في عصر عبد العزيز، وانتهت في عهد عبد الحميد.
جاء والدنيا مدبرة عن الدولة العثمانية، وحركة الجزر تلي حركة المد، والمملكة تنقص من أطرافها، ويدب الفساد في داخلها.
يقع الظلم على سكانها المسلمين والنصارى على السواء، ولكن المسلمين ينادون بالإصلاح في هدوء وإشفاق، والنصارى من ورائهم أمم تحميهم، وتتخذ ظلمهم وسيلة للتدخل في شئؤون الدولة بدعوى حمايتهم، والعمل على تحريرهم، فأصبحت الدولة وكل يوم تقتطع منها ممالك، وكل يوم تعقد معاهدات تنقض حقوقها تفرض عليها بالتهديد والوعيد.
حكام في كل ولاية يحكمون البلاد بعقول ضيقة وشهوات واسعة، فخفخة في المظهر، وسخف في المخبر؛ لا يقيدهم قانون، ولا يردعهم عدل، ولا يرون للشعوب حقا إلا أن تؤمر فتطيع، وتنتهب فتصبر؛ بل لا يكفيهم الصبر على المصيبة، وإنما يتطلبون المدح والثناء عليهم في ظلمهم وطريقة حكمهم، فمن امتعض من ذلك فهو ثائر، ومن شكا فهو كافر، فأورث ذلك الهجرة عند من احتفظ بإبائه، والذل والهوان عند من لصق بأرضه.
لا عناية بصحة ولا تعليم، فالأمراض فاشية، والجهل عميم، والمسلمون في ذلك أسوأ حالا من المسيحيين، لأن الجمعيات المسيحية في الأمم الغربية تعين مسيحيي الشرق بفتح المدارس لهم، ونشر التعليم بينهم، والمسلمون حائرون بين إقدام على التعلم في هذه المدارس مع التعرض لما يمس دينهم، وبين الاحتفاظ بدينهم ومعه الاحتفاظ بجهلهم.
والفقر ضارب أطنابه بين الشعوب لضعف وجوه الاستغلال، فلا زراعة صالحة، ولا صناعة ناجحة، فهذه كلها تدار بيد أضعفها الفقر، وعقل أضره الجهل، وعقيدة أفسدها التخريف؛ ثم عدم اكتراث الناس لما تنتجه أيديهم وأرضهم إذ ليس يحميه عدل حكامهم.
الجنود في الدولة لا تزال قوية شجاعة على رغم كل ذلك، تحتقر الموت وتستعذ به؛ وحالتها المعنوية عالية رفيعة، ولكن لا نظام لها على النمط الحديث، ولا نظام في التموين بالآلات والعدد والغذاء؛ فإن انتصروا في بعض المواقع فبفضل قوة إيمانهم وسمو روحهم، وعلى الرغم من سوء تغذيتهم، وضعف عدتهم؛ وتلك حال لا تبشر بخير دائم. والأمم الحية حولهم كل يوم تعد جديدا من الآلات، وتستكمل نقصا في النظام، وتتخذ الأساليب الخفية والظاهرة في الظفر بالأعداء؛ فكيف ينفع بقاء القديم وسير الأمور في مجراها العتيق؟
وهذه الدول من حولها أحست ضعفها، وشعرت بدنو أجلها، فهو كل يوم تنصب الشباك حولها، وتتقن صنعها في دقة ومهارة، ولكل دولة أساليبها في الحبائل، وطرقها في الصيد، وكل دولة تصطنع من الدولة رجالا هم عيونها وعدتها ووسائلها.
والمملكة خليط من عناصر مختلفة يختلف جنسها وتختلف لغتها، ويختلف دينها، ولكل عنصر هوى، ولكل جنس أسباب متصلة بأمم أخرى تستهويها وتستنجدها.
فلا المالية صالحة، ولا الإدارة صالحة، ولا الجيش صالح، ولا الأمة متحدة النوازع والآمال والآلام.
وزاد الأمر سوءا أن السلطان عبد العزيز جاء ناقما على الحالة التي وصلت إليها الأمة، وانتقد أخاه عبد المجيد في تصرفاته، وفي إسرافه في شهواته، وفي تبذيره للمال، وعدم نظره إلى شؤون الدولة كما ينظر إلى نفسه، فأعلن أنه آت لإصلاح المفاسد، والأخذ بيد الشعب، والاقتصار على زوجة واحدة، والاقتصاد في نفقات الحريم، ولكن سرعان ما تبددت هذه الوعود، وخطا في سبيل البذخ والترف والنعيم والإسراف أضعاف ما كان ينتقده من أخيه! وارتكب في عهده غلطتين كبيرتين: استفزازه عواطف رعاياه المسلمين في أنهم أولى بالتفضيل في مزايا الدولة في المعاملة والمناصب ونحو ذلك، وأن ليس يصح أن يساويهم رعاياه المسيحيون في ذلك، فأوقد بذلك شعور البغضاء والحقد وحب الانتقام بين عناصر الأمة الواحدة، ومهد الطريق للدول الأوربية أن تتدخل في حماية أهل دينها.
والغلطة الثانية: وقوعه في الدين من المصارف الأجنبية لقلة دخل الدولة وكثرة إسرافه. نعم، إن بعض هذا المال أنفق في إصلاح الجند والبحرية، ولكن كثيرا منه أنفق في بناء قصوره العديدة الفخمة وما تحوي من أسباب الترف والنعيم - مع أنه لما أراد سعيد باشا والي مصر الاستدانة بعث إليه بكتاب طويل مملوء بكل الحجج التي يمكن أن تقال في سوء عاقبة الاستقراض وضرره بالممالك - فكان هذا أيضا وسيلة من وسائل التدخل الأجنبي؛ هذا إلى اعتداده بنفسه، واستبداده برأيه، وتركيز أعمال الحكومة كلها في شخصه؛ فهو مرجع كل شيء، لا يسمح نصيحة ناصح، ولا رأي مجرب، ويخشى الذكاء والعلم والثقافة الواسعة ومعرفة بواطن الأمور، لأنها كلها تؤدي إلى مراقبة أعماله ومحاسبته على إسرافه.
وجاء السلطان عبد الحميد فزاد في الطنبور نغمة بل نغمات؛ لقد لعب خوفه على شخصه برأسه، وقد سمع من التاريخ أن كثيرا من أجداده خلعوا أو قتلوا، وهذا بالأمس القريب عبد العزيز خلع وقيل قتل، فليحذر أن يمثل به هذا الدور؛ ثم ذكاء نادر، ومال كثير وسلطان كبير، كل هذا يوجه للمحافظة على شخصه أن يمس بسوء، فلا تذكر الملة والأمة في الصحف والمجلات، بل تذكر «الذات الشاهانية» متوجة بالألقاب الضخمة الفخمة ، فهو السلطان الأعظم والحاقان الأفخم، وسلطان البرين والبحرين، وإمام الحرمين الشريفين، وهو ظل الله في أرضه، المحفوف بألطافه الصمدانية، وعنايته الربانية.
ويصادر الكتاب إذا كان فيه «الأئمة من قريش»، وتمنع «العقائد النسفية» من الطبع لأن فيها فصلا في الإمامة وشروط الخلافة؛ وكل كتاب يطبع في الشام أو العراق أو الآستانة لا بد له من «رخصة جليلة»؛ ويجمع كتاب كان يدرس في «مكتب الحقوق» ويحرق لأنه وردت فيه جملة مضمونها أنه إذا اختلت دولة من الدول يكون للدولة المجاورة الحق في طلب إصلاحها.
وخطيب الجمعة يتحرى الحديث الذي يذكره في الخطبة، فلا يكون مما ينهي عن ظلم، ولا مما يشير إلى حق رعية على راع، ولا نحو ذلك؛ ولذلك يغلب أن يكون الحديث: «إن الله جميل يحب الجمال».
والجواسيس لا عداد لها، والجاسوسية سبيل الارتقاء، وعشرة آلاف جندي يقفون للمحافظة على حياة السلطان وإظهار أبهته وجلاله إذا خرج للصلاة يوم الجمعة. والقصر مملوء بالمشعوذين والدجالين من المشايخ، يختلقون رؤيا يزعمون أنهم رأوها، أو يفسرون حلما، أو يوقعون بمن يقف في سبيل دجلهم، والأمور تدار والمشاكل السياسية تحل، بمثل هذه الرؤى، وآراء هؤلاء الطغام. •••
في هذه الأجواء عاش مدحت باشا وكافح وجاهد حتى مات.
ما أشق الإصلاح على من يعمل فيها! فأنفاسه معدودة عليه، وحركاته وسكناته تسجلها الجواسيس، وهم لا يكتفون بما يعمل، بل يزيدون عليه ما لم يعمل، ويؤولون ما يصدر عنه تأويلا يزيد في ربحهم وقربهم. يخلص في عمله، فيقال إنه يرمي إلى أخطر غاية، ويعزل من عمله فيقال إنه يدبر المكايد، ويبعد لعمل خارج العاصمة فيقال إنه يسعى للاستقلال بولايته، ويعمل للدستور فيقال إنه يريدها جمهورية؛ وهكذا وهكذا، في كل خطوة عقبة، وفي كل فكرة وساوس، وفي كل حركة دسائس، وليس يحتمل مثل هذا إلا أولو العزم الذين يدأبون مهما عذبوا، ويعملون مهما اضطهدوا، عقيدة تتملكهم أنهم ليسوا ملكا لأنفسهم ولا لأسرتهم، إنما هم ملك لفكرة استحوذت عليهم، ومبدأ غمر مشاعرهم؛ أما غيرهم فسرعان ما يعودون من منتصف الطريق ، سائلين الله السلامة، مكتفين بأول عذاب نالهم ليستريح ضميرهم، ويلقوا التبعة على غيرهم. وكان مدحت من هؤلاء الذين في خلقهم حمية، وفي طبعهم تحد للشر، وثبات على الجهاد، وجلد على تحمل الألم حتى يلفظ آخر أنفاسه وعار عليه أن يتأوه. •••
ولد مدحت في استانبول؛ وكان أبوه «الحاج حافظ محمد أشرف» عالما دينيا تولى بعض أيامه القضاء الشرعي في بعض الولايات، فأنشأه أبوه تنشئة دينية، فحفظه القرآن وهو في العاشرة، ولقب بالحافظ، وهو لقب لكل من يحفظ القرآن من الأتراك، فكان اسمه الحافظ أحمد شفيق؛ أما مدحت الذي غلب عليه فهو اسم ديواني. والتحق بالديوان الهمايوني يتعلم الخط الديواني، وتنقل مع والده في الولايات التي تولى فيها القضاء يتعلم في مكاتبها؛ حتى إذا عاد والده إلى الآستانة ألحقه بأحد أقلام الحكومة يساعد الكتبة ويتعلم منهم بعض الوقت، والبعض الآخر يقضيه في جامع الفاتح، وكانت فيه حلقات الدروس تشبه حلقات الأزهر، لكل شيخ حلقته وتلاميذه. فكان يتعلم هناك اللغة العربية والفارسية والدروس الدينية والنحو والمنطق والفقه والبلاغة والفلسفة التي كانت تسمى الحكمة؛ وظل على هذه الحال إلى أن ناهز العشرين، تلميذا في دواوين الحكومة وتلميذا في جامع الفاتح.
وهي ثقافة - كما ترى - ضعيفة، فلا تاريخ ولا جغرافيا ولا رياضة ولا لغة أجنبية، ولكن قد يعلم الزمن العقل المستعد أكثر مما تعلمه المدارس النظامية والبرامج الثقافية، ولذلك نراه يشعر بنقصه الثقافي إذا كبر فيطالع بنفسه الكتب. ولما جاوز الخامسة والثلاثين رأى الحاجة الثقافية والسياسية ماسة إلى تعلم لغة أجنبية، فتعلم اللغة الفرنسية، فكان يدرها وهو يشتغل في (وظيفته).
وشيء آخر أفاده إفادة كبرى في ثقافته العملية، وهو سياحته في أوربا لدرس النظم السياسية والاجتماعية التي أصلحت من شأنها، وعالجت بها أمثال المفاسد التي تعانيها تركيا؛ فحصل على رخصة للسفر سنة 1274 وسنه إذ ذاك نحو ست وثلاثين، فأنفق في سياحته هذه نحو ستة أشهر، زار فيها باريس، ولندن، وفينا، وبلجيكا؛ وكانت زيارته زيارة درس واستطلاع، كيف تنظم الدول ماليتها، وكيف تسوس أمورها، وما نظام الحكم وما علاقة شعوبها بملوكها، وما أهم وسائل العمران عندهم، إلى غير ذلك من الأسئلة التي ملأت ذهنه، وأراد أن يتطلب الإجابة عنها عن كل مملكة زارها - وفي الوقت عينه أراد من سياحته أن يتقن اللغة الفرنسية التي تعلمها على كبر، فتم له ما أراد لعقله المتفتح وهمته العالية، واستقامته التي أخذها عن دينه.
ولذلك كان مزيجا غريبا، محافظة على الصلاة وسبحة، ومعرفة بشؤون الدنيا، واطلاع واسع على تيارات العالم وأسس المدنية الحديثة، ودروشة ويقظة.
أول ما لفت الأنظار إليه في تركيا أنه شب صريحا لا يتقن فن المجاملة، حادا لا يكظم غيظه، حارا في تنفيذ ما رأى في وسط بارد بطيء، مخلص لفكرته، على حين أن كثيرا ممن حوله إنما يخلص لشخصه؛ تربى في مدرسة كبرلي باشا ورشيد باشا وعالي باشا، وتعلم منهم القوة والتصميم، والقدرة على التنفيذ؛ فلما خلفهم من لا يملأ كراسيهم اصطدم بهم. تولى محمد باشا القبرصلي «صدرا أعظم»، وكان بينه وبين مدحت إحن وأحقاد، واندلع لهيب الثورة إذ ذاك في البلقان، واحتاجت إلى رجل شديد، فرماها القبرصلي باشا بمدحت، لعله يفشل أو يقتل فيستريح منه، وإن نجح فلا بأس، فأقل ما فيها أنه أبعده عن وجهه. فسافر مدحت ومعه قوة عسكرية، وقضى ستة أشهر في قمم الجبال ومغاورها يقبض على أشقيائها، وأثبت إدانة أربعة منهم وأعدمهم، وحبس ثمانين أرسلهم إلى الآستانة، وهدأت للفتنة ووضع مشروع الإصلاح، فكان ذلك مما لفت الأنظار إلى قوته وحزمه.
كما لفت الأنظار إلى حسن إدارته عندما عين واليا في الصرب وبلغاريا، وقضى فيها أربع سنوات كان فيها مجددا حقا، يختلف عن سائر الولاة العثمانيين: بث المدارس في أنحاء الولاية، وأنشأ المستشفيات، وأصلح من الطرق نحو ألفي ميل، وبنى نحو 1400 جسر، فإذا أعوزه المال الرسمي حض الأهالي على التبرع فأجابوه، بعدما لمسوا قيمة الإصلاح في تحسين حالهم؛ وأهم ما تمتاز به إدارته - مما كان جديدا في نظر العثمانيين - عدم تفرقته في سياسته وإدارته وعدله بين مسلم ومسيحي، ثم شدته المتناهية على العصاة ومثيري الدسائس، ومعاقبته لهم بما يؤمن البريء، ويردع المسيء؛ فأصبحت بفضله هذه المقاطعة على فقرها وكثرة فتنها مضرب المثل في الغنى والأمن أيام حكمه من غير أن يكلف الدولة مالا.
كل هذا كان إرهاصا بما سيكون إذا أسندت إليه شؤون الدولة.
مدحت باشا (2)
إن ضعف الدولة العثمانية الذي ذكرنا، وعدم كفاية السلاطين المتأخرين، صحبه مشاكل في منتهى التعقيد، فعناصر الدولة متعددة، ويكفي البلقان وحده - بما يشمل من البوسة والهرسك وسربيا وألبانيا واليونان وبلغاريا ورومانيا - وما يقطن فيه من أمم عديدة أن يقض مضجع أية دولة مهما بلغت من القوة، وخاصة بعد ما جاءت عدوى القومية فأثارت نوازع كل عنصر من هذه العناصر نحو الاستقلال، فكيف بالدولة العثمانية، وكيف ذلك مع ألاعيب الدول المختلفة وإثارتها لهذه العناصر؟ هذا إلى تعدد المذاهب الدينية النصرانية وما بين كنائسها من خلافات لا تنتهي. ونشأ عن هذا كله ما سمي «المسألة الشرقية» ويعنون بها «النزاع بين عناصر الأمم التركية من جهة، ودخول الدول العظمى في هذا النزاع لتحقيق آمالها المتناقضة من جهة أخرى».
وسوء الحالة الداخلية والحالة الخارجية يتمخض - عادة - عن عدد من المفكرين في هذه المشاكل، ويقترحون ما يرون من ضروب الإصلاح؛ ومن هذا نشأت أنواع من الإصلاح متسلسلة تسمى في عرف الأتراك «التنظيمات الخيرية»، ويريدون بها الإصلاحات التي يراد بها إنقاذ الدولة العثمانية من ضعفها، وعلاج مشاكلها في الداخل والخارج، من عهد السلطان محمود. وكان من أشهر هذه الإصلاحات أو التنظيمات القانون المعروف بخط «كلخانه» الذي صدر سنة 1839 في عهد السلطان عبد المجيد، والذي سعى إليه محمد أمين عالي باشا، وكان أهم ما يتضمن هذا «الخط» حماية النفس والملكية، من غير تفرقة بين جنس أو دين، وإلغاء نظام الالتزام، ومساواة الرعايا مهما اختلف دينهم أمام القانون، وأن جميع المجرمين يجب أن يحاكموا محاكمة علنية، والمساواة في الفرص أمام الجميع لتولي الأعمال الحكومية، وتجنيد غير المسلمين، وإصلاح الإدارة والبوليس والضرائب والطرق، وإنشاء البنوك الخ.
ولكن هذه الإصلاحات كان يعترض تنفيذها صعوبات جمة أهمها السلطان - وأكثر السلاطين كان يرى أن هذه الإصلاحات تحد من إرادته - ورجال الدين لغضبهم على التشريع المدني، وبعض الرعايا الأجانب لأن هذه المساواة تحرمهم من امتيازاتهم القديمة، وبعض الدول الأجنبية لأنها لا يسرها أن تصلح الدولة. فكانت كل «التنظيمات» التي توضع لا تلبث أن تصبح حبرا على ورق.
وفي هذا الوسط الشائك جدا حاول مدحت باشا أن يضع إصلاحه، فرأى أن الإصلاح الذي يجب أن يسود المملكة العثمانية هو الحكم الديمقراطي على نمط ما رأى في انجلترا وفرنسا، ومظهر هذا الحكم هو الدستور، وإشاء المجالس النيابية، وتمثيل كل عنصر من عناصر الدولة وكل قطر من أقطارها في هذه المجالس؛ وبعبارة أخرى أن تحكم الأمة نفسها بنفسها لا أن يحكمها السلطان بإرادته ونوازعه والمقربين إليه الذين يخدمون أغراضه.
كان يرى أن كل الأمم الأوروبية مرت بهذا الدور الذي تمر به الدولة العثمانية، ولم ينقذها إلا الحرية، فهي التي تربي الأمم، وتحيي النفوس، وترد للمرء حقوقه وتشعره بشخصيته، وتضمن له العدل؛ والحرية هي التي تولد الدستور الذي يبث الطمأنينة بين أفراد الأمة، ويسوي بين الأفراد على اختلاف دينها وعناصرها، فيؤلف بين قلوبها، وهو الذي يفسح الفرص لكل كفء قادر، ويسد الطريق أمام كل دساس ماكر.
لقد عانت إنجلترا وفرنسا ما نعاني، ووقع على أفرادها الظلم كما يقع علينا، ولكنها نجت من ذلك كله بتحرير شعوبها، ووضع دساتيرها، والحزم في السير عليها؛ ذلك حال إنجلترا قبل دستورها وبعده، وحال فرنسا قبل ثورتها وبعدها، هدموا الاستبداد، وأحلوا محله حياة الحرية الصحيحة، فلو فعلنا ذلك وأعلن السلطان الدستور، وسرنا عليه في حزم لانتظمت إدارتنا وماليتنا، وشعرت عناصر الدولة المختلفة بالتساوي بينها ومشاركتها في الحكم وتحقيق العدل فاطمأنت، ولو فعلنا ذلك لم تجد الدول المختلفة وسيلة للتدخل في شؤوننا فكفت يدها، وإذا تدخلت ظهر تعنتها فلم تجد رأيا عاما يسندها - بهذا الدستور يصبح الحكام في كل ولاية مسئولين أمام البرلمان، وبعبارة أخرى أمام الأمة، فيفتح الحاكم عينه ويحد من شهوته، ويتحرى العدل وإلا طار من منصبه .
الدستور علم ينشر بين الشعب، وغنى يسبب طمأنينة الشعب، وعدل بين أفراد الشعب، ويقظة للرأي العام، وتفتح للملكات، ونشاط للقدر التي كبتها الاستبداد.
فلا حياة للدولة العثمانية إلا بدراسة النظم الديمقراطية في الأمم الأوروبية، واختيار أنسبها مما يتفق وحالة الدولة وظروفها ومركزها، ثم سن تشريع لها، ثم إحاطته بسياج من القوة حتى لا نتلاعب به أيدي العابثين المفسدين.
إلى هذا انتهى مدحت بعد طول درسه وتفكيره وتقليبه وجوه الإصلاح المختلفة.
لم يكن مدحت باشا وحده هو الذي يفكر هذا التفكير، بل كان حوله شباب أحس إحساسه وشعر شعوره، وأنكر الاستبداد، وحاول الخلاص منه، وعكف على قراءة التاريخ والسياسة، والنظم الأوروبية، ووجدت جمعية في باريس على رأسها مصطفى باشا فاضل تنقد الدولة العثمانية، ونظام الحكم فيها، وتجاهد بطلب الإصلاح. ومصطفى فاضل هو صاحب الخطاب المفتوح المشهور الذي ترجمه فتحي زغلول باشا «من أمير إلى سلطان» والأمير هو مصطفى فاضل هذا، والسلطان هو السلطان عبد العزيز، والخطاب هو أول خطاب من نوعه يوجهه أمير عثماني إلى السلطان في مثل هذه الصراحة والقوة.
كان رأس هذه الحركة وعقلها المفكر وحكيمها الرزين هو مدحت باشا. وجاء دور التنفيذ، يريد مدحت باشا ورجاله وشبابه الحكم الديمقراطي والدستور والحرية ويصطدمون بالسلطان عبد العزيز وحاشيته وأعوانه، فهم لا يريدون ذلك - يرى مدحت أن لا أمل للحياة إلا بالشورى، ويرى عبد العزيز أن الشورى تسلبه سلطانه؛ يرى مدحت أن الدستور لا بد منه، فهو يعيد إلى الأمة حقها في الإشراف على الحكم، ويضمن العدل والمساواة، ويبعث الإخاء، ويحمي الأمة من شهوات الأمراء والسلاطين، ويوحد بين عناصر الأمة المختلفة؛ ويرى عبد العزيز وحاشيته وكثير من رجال الدين وبعض رجال السياسة أن الحكم النيابي لا يصلح للدولة العثمانية لاختلاف العناصر وعدم التجانس، وميل كثير من الطوائف المسيحية إلى ترويج مصالح الأمم التي ترتبط بها، وعدم بلوغ الأمة حدا من العلم يهيئها لهذا الحكم وتفضيل مصلحة الوطن على المصلحة الشخصية الخ.
إذ ذاك ظهر الصراع بأجلى مظاهره، وانجلى الغبار عن معسكرين متميزين بأعلامهما وجنودهما: هذا معسكر مدحت باشا على رأس حزب كبير من الكبراء والوزراء والأمراء وطائفة كبيرة من الشباب، وهذا معسكر على رأسه السلطان عبد العزيز، وحوله الحاشية ومحمود باشا نديم رئيس الوزارة، وهو يمد السلطان بكل ما يحتاج إليه من أموال الدولة، ينفق منه أقله في المصلحة العامة، وأكثره في شهواته، ثم يؤيده كثير من المعممين من رجال الدين قد اشتريت ذممهم بما أغدق عليهم من أموال الأمة، فهم يسمون كل حركة تدعو إلى الإصلاح فتنة، ويقولون: سلطان غشوم خير من فتنة تدوم.
وكان لكل معسكرا أيضا أدباؤه وكتابه وشعراؤه، فمع مدحت باشا كتاب من الطبعة الأولى يحررون في الصحف الفرنسية والتركية والعربية. وأبدع ناممق كمال أدبا تركيا يتغنى بالحرية في أسلوب جديد، جميل في بساطة، واضح في قوة؛ وأدب آخر رجعى يشيد بذكر السلطان ويهجو دعاة الحرية والإصلاح، ومنهم كتاب جريدة «الجوائب».
والدول الأوروبية نفسها تدخل في هذا المعترك؛ فانجلترا تعطف على مدحت لأنها بحكم نظامها تميل إلى الديمقراطية وإلى الدستور، ولأن في صلاح تركيا وهدوئها ما يعوق مطامع روسيا؛ وروسيا تؤيد السلطان ومحمود نديم، وسفيرها في تركيا «ايغناتيف» يثير الفتن والثورات حتى يحقق مطامع روسيا إذ ذاك.
ويركز مدحت برنامجه في كلمات فيقول: «إن التبذير في الدولة قد بلغ درجة لا تطاق، فالمالية ترسل الأموال إلى المابين، فيصرفها السلطان في ملذاته، والنظار يبيعون الوظائف بيع السلع؛ فالوالي يشتري وظيفة من الصدر الأعظم ويذهب إلى الولاية فيستغل أهلها بأنواع الظلم حتى خربت الولايات، ووقعت الدولة في أزمة شديدة، ولا سبيل إلى الخلاص منها إلا بتبديل الإدارة الحالية، وتبديلها يكون بإنشاء مجلس نيابي، وجعل النظار مسئولين أمامه، وأن يكون هذا المجلس قوميا، فلا يفرق في انتخابه بين المذاهب والعناصر - وأن يوضع الولاة في الولايات تحت المراقبة الشديدة فلا يعبثون بمصالح الرعية».
كل هذه المعاني تركزت في كلمة واحدة اسمها «الدستور».
ها هي الدعوة تنتشر والنفوس تغلي، وأخطاء السلطان عبد العزيز المتتابعة تزيدها غليانا.
تحت ضغط الحوادث أبعد الصدر الأعظم محمود باشا نديم حبيب السلطان عبد العزيز لأنه يمده بما شاء من أموال الدولة، وحبيب الحاشية كذلك، وحبيب سفير روسيا في الآستانة، وحبيب ذوي المناصب من رجال الدين، وعين مدحت باشا صدرا أعظم، وهو المكروه من كل هؤلاء، والمحبوب من الطائفة التي تغلى لطلب الإصلاح.
فما استقر على كرسيه حتى أعاد المنفيين الذين نفوا لاتهامهم بمشايعة حركة الإصلاح، وأعاد تأسيس ميزانية الدولة على أساس ثابت لا أساس صوري كما فعل محمود نديم ، وضيق على السلطان عبد العزيز وحاشيته فلم يمدهم بالمال الذي يشتهون، وبت في المشاكل الخارجية بما أصلحها، وتوجه إلى الإصلاحات الداخلية فاهتم بربط البلاد البعيدة بالدولة، فوضع مشروع خط حديدي يربط العراق بالدولة بإنشاء خط بين بغداد وطرابلس الشام. واختار مهندسا فرنسيا لذلك كلفه وضع المشروع ورسمه وتخطيطه واكتشاف أقرب طريق إلى ذلك، ووضع الخرائط له في نظير مائتي ألف ليرة، ودبر المال لذلك المشروع بالاتفاق مع انجلترا على دفع ثلاثة ملايين من الليرات في نظير نقل بريد الهند على هذا الخط، كما وضع مشروع إنشاء الخطوط التلغرافية في بلاد الحجاز، وإنشاء طريق حديدي بين دمشق وبغداد، وامتداد الأسلاك التلغرافية بين دمشق والحجاز واليمن، وفعلا أحضرت الأخشاب والأدوات لإنشاء خط بين القدس وجدة؛ ورأى أن ذلك لا يكلف الدولة كثيرا، فتلغرافات الحجاج تعوض النفقات في سنين قلائل.
ووضع المكاييل والموازين على أساس عشري، ووحدها بين أجزاء الدولة، وعارض أشد المعارضة في منح الخديوي اسماعيل باشا فرمانا يبيح له عقد قروض من الدول الأجنبية وقال: «إنه إذا أبيح له ذلك تدخل الأجانب في شؤون القطر المصري، وضاع استقلاله الإداري والسياسي معا، وتدخل الأجانب يوما ما في شؤون تلك البلاد بحجة حفظ أموالهم»، فعل هذا مع أن السلطان كان قد وعد اسماعيل باشا بإصدار هذا الفرمان.
نمط جديدة في الوزارة لم يألفه عبد العزيز، فقد ألف أن طاعته غنم وإشارته حكم. ولذلك لم يلبث مدحت في الوزارة إلا خمسة وسبعين يوما اعتزل العمل بعدها وضاعت كل مشروعاته، وخسرت الحكومة مائتي ألف ليرة للمهندس الفرنسي واضع مشروع خط بغداد من غير أن تستفيد شيئا.
ثم رأيناه وزيرا للعدل في وزارة أسعد باشا، ثم في وزارة شرواني زاده محمد رشدي باشا، فمكنته هذه الوزارة الأخيرة أن يعكف على وضع النظم واللوائح لإصلاح الدولة.
وكتب مدحت إلى عبد العزيز كتابا لينا في مظهره شديدا في جوهره، قال فيه: «لقد صرحتم جلالتكم في خطاب العرش بأنكم تلتزمون خطة الإصلاح المنشود، ومع هذا فقد ساء الحال، وأنتجت كثرة تغيير موظفي الدولة القلقلة والاضطراب، وضل أكثرهم الطريق، ولم يسيروا وفق مقصدكم، بل خرجوا عن جادة الاستقامة وأفسدوا ما أحدثه الإصلاح، واختلت مالية البلاد، وحدا ذلك بالناس إلى نشر الأراجيف في داخل البلاد وخارجها، وخاف الناس أن ينتج هذا انقراض الدولة ... «قد اضطرتنا وطنيتنا إلى عدم السكوت والوقوع فيما لا تحمد عقباه، فلجأنا إلى أعتابكم الشاهانية ... ولا يخفى على حكمة جلالتكم أن الدواء الشافي لهذا العلة هو اجتثاث أسبابها التي نعرفها حق المعرفة، فإذا أزيلت الأسباب زال المرض ... فإذا أصدرتم خطا همايونيا جديدا حتمتم به اتباع القوانين والنظم والمساواة بين الغني والفقير والكبير والصغير في نظر القانون، وأرجعتم المنشآت الخيرية إلى أصلها (وكان السلطان استولى عليها)، وصرفتم الأموال في سبيل ما خصصها له الواقفون، وأعدتم مرجع أمور الدولة إلى الباب العالي (الوزراء) فيقر قراراته ويعرضها على جلالتكم، ولم تستأثروا جلالتك بشيء من حقوق الدولة المالية والملكية ولم تصرف المالية قرشا واحدا إلا برأي الباب العالي، وحددت وظائف كبار الموظفين وأصاغرهم، وجعل الوزراء مسئولين عن نتائج أعمالهم، وحتمتم ذلك على خواصكم ورجال حاشيتكم - إذا تم ذلك كله حصلت النتيجة المطلوبة بعون الله تعالى، ووصلت الدولة إلى الطريق الذي ترجوه جلالتكم.
هذه الأقوال هي نتيجة أفكارنا، وربما أخطأنا ... ونحن نطلب من جلالتكم تخليص الأمة - التي قد أصبحت مصالحها بين يديكم - من أزمتها الحاضرة وعلى كل حال فالرأي لكم».
في هذا الكتاب مجمل أفكار مدحت باشا ونظرته إلى الإصلاح.
أعد مدحت باشا هذا التقرير، وهو وزير عدل. وعرضه على الوزارة فاتفقت كلمتهم عليه، واتفقوا على أن يرفعه الرئيس إلى السلطان عبد العزيز، فقابله ولم يستطيع أن يفاجئه، فحدث السلطان أحاديث مختلفة ثم تدرج إلى ذكر هذا الكتاب، فلما سمع كلمة الإصلاح والشورى والدستور هاج هائجه وأصدر أمره في الحال بعزل مدحت باشا من الوزارة، وإبعاده بتعيينه واليا لسلانيك؛ وبعد أيام عزل شرواني وعينه واليا لحلب، وبذلك أبعد الاثنين اللذين يذكران الإصلاح. ولم يمكث مدحت طويلا في سلانيك فعزل بعد ثلاثة أشهر، وأخذ يصلح في مزرعته، ويفكر في أمته.
مدحت باشا (3)
هذا مدحت باشا - في مزرعته - يفكر، كل محاولته في الإصلاح ضاعت سدى، لصلابة السلطان عبد العزيز الذي يأبى أن يسمع كلمات «الشورى، والدستور، والعدل، والحرية، والأمة»؛ وكل من نطق بهذه الكلمات كان عرضة للنفي والتشريد والقتل والعزل كما حدث له.
إن السبب الوحيد لتذمر المسيحيين في الدولة هو فقدانهم الحرية، فمتى منحوها عطفوا على الدولة وشعروا أنهم جزء منها.
وسبب ضعف المسلمين هو فقدان الحرية، فمتى شعروا بحريتهم أقدموا على عملهم ونشطوا، وكسبوا، وتعلموا، واستخدموا ذكاءهم ومواهبهم لإسعاد أنفسهم وأسرتهم وهيئتهم الاجتماعية.
وفقدان الجميع الحرية يملؤهم خوفا، ويفقدهم رجولتهم ويخلقهم بأخلاق العبيد: من ذلة وضعة، وعدم الالتفات إلا إلى المأكل والملبس ينالونه من أخس الطرق. وليس الذي وقعنا فيه من طبيعة الإسلام في شيء، فالإسلام يسوي بين الغني والفقير في الحقوق والواجبات، وبين الوزير وراعي الغنم، ويجعل أمرهم بينهم شورى؛ وهذا السلطان يكره كلمة الشورى كما يكره الموت. والإسلام جعل من أهم قواعده الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ وهذا السلطان لا يسمح لأحد أن يأمر بمعروف ولا أن ينهي عن منكر.
إن الشورى الإسلامية نظمت في العصر الحديث بما يسميه الأوروبيون البرلمان، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تشكل في المدنية الحديثة بحرية الصحف في النقد، وحرية الأفراد والجماعات في التأليف وإبداء الآراء في صراحة، يستحسنون ما يرون، ويستنكرون ما يرون، ويخطبون كما يشاءون، فلا أحد معصوم، ولا الحكومة معصومة، ولا الولي معصوم؛ وإنما الذي يقومهم ويخيفهم ويلزمهم الجادة يقظة الرأي العام وحريته في النقد، وهذا هو ما سمي في القرآن: بالتواصي بالحق، والتواصي بالصبر. كل هذا واضح وجلي ولا بد منه، ولكن إرادة السلطان عبد العزيز هي الصخرة التي تتكسر عندها كل هذه الآراء.
أرض الدولة العثمانية أخصب أرض في العالم، وهي مع ذلك أفقر أرض، لهجرة كثير من أهلها بالظلم، وإقال كاهل من بقي بالضرائب. ولا شركات، ولا مصانع؛ فالقطن كثير في البلاد ومع هذا فالأقمشة القطنية تجلب من أوروبا، حتى الطرابيش التي نضعها على رءوسنا، وعلب الكبريت التي نشعل بها نيراننا نجلبها من الخارج؛ وكل المواد الأساسية متوفرة عندنا، ولكن لا عدل، ولا أمن على المال، فلا شركات ولا صناعات. ولا يتأتى العدل إلى بالقوانين العادلة، والمحاكم العادلة، وهذه لا تكون إلا بالحرية، أي الدستور. كل من جاهر بالإصلاح أبعد؛ ففؤاد باشا مات محتقرا مهينا، وعالي باشا دست له الدسائس حتى عزل من منصبه، وهما ماهما في الكفاية والاستقامة؛ وإما يقرب أمثال محمود نديم الشره الجاهل الذي يقدم مال الدولة للسلطان، ثم ينتهب لنفسه ما نالته يده.
رحم الله فؤاد باشا وعالي باشا، فقد رأيا أن السلطان لا يسمع لقولهما في الإصلاح، ففكرا في حيلة لطيفة: أن يشوقا السلطان عبد العزيز لزيارة أوروبا، وينتهزا فرصة زيارته للعواصم الأوروبية فيبينا له ما وصلت إليه من النظام والتقدم، ويشعراه من طرف خفي بأن سبب هذا كله حسن الإدارة وصلاحية الحكم، لعله إذا عاد تحفزت نفسه لحسن التقليد، فأصغى إلى المصلحين وشجعهم على الإصلاح، وسار في أموره غير سيرته، والتفت إلى رعيته؛ ولكن خاب فألهما فقد عاد أشد إسرافا، وأكثر تبذيرا في ملذاته. عاد ووعد ثم أخلف ما وعد؛ وكل ما فعل أن حقد عليهما لأنهما أشارا عليه بانتخاب مجلس في كل ولاية يجدد كل سنة لمشاركة الوالي في أعماله، وبذل النصح له، فرأى أنها فكرة شيطانية يراد منها التدرج إلى البرلمان أو الدستور، ذلك الشبح المخيف. وكل ما جنته البلاد من هذه الرحلة إنشاؤه مصانع ومتاجر باسم خزانته الخاصة لا باسم الشعب. ثم هذا السلطان يستدين ويستدين؛ فقد كانت ديون الدولة في آخر أيام السلطان عبد المجيد 25 مليون ليرة، فبلغت بعد 12 سنة - بفضل عبد العزيز - 250 مليون ليرة، فما مصير الدولة إذا استمر الحال على هذا المنوال؟! يظهر أن لا أمل في الإصلاح مع وجود «عبد العزيز»، بل لا أمل حتى ولو أصدر لوائح الإصلاح، وأوامر إنشاء القوانين للمحاكم والنظم للمدارس، فقد جربناه فرأيناه يطأطئ للعاصفة حتى تمر، فإذا مرت عاد سيرته الأولى ، وحل ما عقد، ونقض ما أبرم.
لم يبق إلا أمر واحد، وهو تهيئة النفوس لعزله، ووضع الخطط المحكمة لإنزاله عن عرشه؛ ومع الأسف لا يمكن أن يتم ذلك إلا بالجيش، وفي هذا خطورته، ولكن قد تعلمت في جامع الفاح أن الضرورات تبيح المحظورات. فإذا تمت الأمور وعزل عبد العزيز، وأقيم مكانة سلطان جديد أقامته الأمة بقوتها، وأعلن - يوم توليته - الدستور، شعر بأن الأمر بيد الأمة فأطاعها، وأنه مدين لعرشه بالدستور فاحترمه، وسارت الأمور سيرا حسنا: دستور نافذ، وسلطان مطيع؛ وبدأنا حياة جديدة كلها خير على الأمة، وسرنا في الطريق الذي سارت فيه الأمم الحية، نأخذ محاسنهم، ونتجنب أخطاءهم، فإذا الحياة سعيدة، والعدل شامل، والدستور حام، فلنسر على بركة الله.
هكذا فكر مدحت، وهو يشرف على الإصلاح في مزرعته، والفؤوس تضرب في الأرض، والنواعير تبكي بدموع غزار.
سارت الأمور أول الأمر كما فكر تماما، فها هو يدبر الحركة ويتصل بالشبان والشيوخ الذين سئموا هذه الحال، ويتفق معه في الرأي حسين عوني باشا (سر عسكر الدولة)، وهما يتصلان بناظر البحرية وشيخ الإسلام، ويتفق الجميع على خلع عبد العزيز في يوم معين. حتى إذا جاء اليوم أتى الأسطول فرسا أمام سراي طولمة بنجه، واجتمعت العساكر فأحاطت بالقصر، ودخل على السلطان من أبلغه خبر العزل، فاستخف بهذا الخبر، فأشهدوه العساكر والأساطيل والجموع المحتشدة فاستسلم، وأنزلوه من السراي، ووضعوه في قصر فخم ومعه والدته وثلثمائة أنثى، بين زوجات وجوار مملوكات ووصيفات وخادمات؛ واختصروا حاشيته فاستغنوا عن 1200 سائس و1000 طبلكار (حامل طبليات الطعام) و600 قواربي وأمثالهم من الخدم، وقطعت مرتباتهم للضائقة المالية التي حلت بالدولة. وبعد بضعة أيام وجد السلطان مقتولا، فقيل إنه قتل، ويرى الأكثرون، ويقرر الأطباء العديدون، ويؤكد ذلك مدحت، أن السلطان أخذته العزة فقطع شريانا من ذراعه بمقراض فمات من ذلك.
ومهما كان فقد بويع السلطان مراد، فلم تمض عليه أيام حتى ظهر جنونه واختلط عقله؛ فولي السلطان عبد الحميد بعد ثلاثة أشهر، وحمل «مدحت» عبء هذه الأحداث الفظيعة والربكة الشنيعة؛ وهو في أثناء مرض السلطان مراد يجتمع بأعوانه ويدرس قوانين أوروبا ونظمها ويختار أنسبها.
وكان في ذلك يضع إحدى عينيه على النظم الأوروبية والأخرى على حالة الدولة، فما كل ما يصلح لأوروبا يصلح لها؛ وفي ذلك يقول: «إن أخذ القانون من أوروبا ووضعه لنا لأنه أفادهم يشبه أخذ آلة من الآلات عندهم للنسيج وجلبها إلى بلادنا وليس عندنا فرد يقدر على إدارتها والاستفادة من سرعتها.
وفضلا عن ذلك فكثير من القوانين لا يوافق كل الولايات في دولتنا؛ فالقانون الذي يوافق ولايات حلب وسوريا وبغداد لا يوافق ولايات بروسه وأزمير وأدرنه؛ وقد يكون القانون في بعض الولايات عدلا، وفي بعضها ظلما، فيجب النظر إلى هذه المسألة عند تغيير القوانين.
وإن مسألة استقلال المحاكم، وأصول جباية الأموال، وقوانين الإدارة وغيرها من القوانين والنظامات، قد استعملها الإفرنج فأفادتهم بسبب رقي الأهالي ومدنيتهم؛ فقانون الأراضي مثلا يقضي علينا بتعيين المهندسين، ومعرفة مقادير أراضي بلادنا وأصحابها ووضع الضرائب اللازمة، وهذا لا يتم بواسطة كاتب واحد يتقاضى 150 قرشا في الشهر، فالإفرنج يعينون لكل قرية لجانا ومهندسين يمسحون الأراضي ويقدرون الضرائب، ونحن لا نعرف لليوم عدد سكان بلادنا ولا مقدار أراضينا.
فيجب تدريب الرجال وإلقاء أزمة الأمور إليهم بالتدريج ... كما يجب تخصيص الأعمال لكل طائفة؛ ففي أوروبا للمالية اختصاصها، وللحربية اختصاصها، وكذلك للداخلية والعدل أما عندنا فالأمور كلها منوطة بالوالي».
وهكذا عكف هو وأعوانه على هذا الإصلاح الذي يتلخص في اختيار خير النظم الأوروبية واختيار أوفقها لحالة الدولة الاجتماعية، والأخذ بيدها تدريجا، كلما ألفت خطوة انتقل بها إلى ما بعدها.
ويعد القانون الأساسي للدولة ويرتب نظام مجلس المبعوثان، فما ولي السلطان عبد الحميد حتى كان ذلك كله معدا، وتولى مدحت باشا الصادارة. وبعد أربعة أيام من صدارته بادر السلطان إلى إقرار القوانين، وأعلن الدستور المؤسس على الشورى، والمؤسس على اشتراك جميع الرعايا في شؤون تحسين الدولة من غير تفرقة بين عنصر ودين؛ ونظم للدولة مجلسان: مجلس ينتخب من الأهالي ويسمى بمجلس المبعوثان، ومجلس تعين الدولة أعضاءه ويسمى مجلس الأعيان. وتلى هذا الدستور المشتمل على 119 مادة بالآستانة في محفل عام (14 من ذي الحجة سنة 1293ه)، وأمر بأن يكون العمل بمقتضاه في جميع أنحاء المملكة العثمانية، وأطلقت المدافع عن القلاع البرية والبحرية، واستبشر الناس خيرا، وأقيمت الأفراح والليالي الملاح. وكان يتضمن هذا الدستور حقوق الدولة وواجبات الوزراء ورجال الإدارة، واختصاص كل مجلس من المجلسين، وتنظيم المحاكم والديوان العالي والمالية الخ، وكل الدلائل تبشر بالخير. هذا مدحت أبو الدستور رئيس الوزارة، وهذا السلطان عبد الحميد أتى بإرادة الأمة وهو مدين لها بجلوسه على العرش، مدحت يؤيده، وهو يؤيد مدحت، والكل يخضع للنظام والحكم الديمقراطي، فماذا ينتظر بعد ذلك إلا الخير!!
هكذا قال الناس، وهكذا قال مدحت.
لعله أخطأ إذ بلغ في التفاؤل أكثر مما يلزم، وكذلك أكثر عظماء الرجال تسحرهم الفكرة، ويلعب بلبهم المبدأ فلا يرون منه إلا النواحي البراقة، كالفنان يرى في شجرة الوردة أزهارها ولا يرى أشواكها. استخف بقوة الرجعيين، ولم يعرف لطهارته أساليب دسائسهم، واقتنع بالبسمة على وجوههم، ولم ينفذ منها إلى الغل في أعماق صدورهم، ولم يقدر قوة العدد العديد الذي كان يغتني من الظلم وسيفتقر بالعدل؛ والذي كان يثري من كلمة ملق أو تسويد سطر بوشاية، فأصبح خائفا من العدل أن يجرده من ثرائه وينزله من جاهه؛ والذين يبشرون أنفسهم بالحظ لأنهم فقدوا أن ينالوا شيئا ببذل الجهد.
وشيء آخر هام فاته، وهو أن من عاش طويلا في ظل العبودية لا يتعلم سريعا مزايا الحرية، وأن الأمم السابقة إلى النظم الديمقراطية لاقت الأهوال قبل أن تعتدل، وتأرجحت كثيرا قبل أن تتوسط، والذي نفعها أنها لم يكن يطمع فيها طامع، فقضت مدة التجربة وهي آمنة مطمئنة؛ أما هذه الدولة فلا ينتظر مدة تجربتها أحد، فإذا بدأت تجرب قالوا لا تصلح، وإذا أخطأت لم يقولوا إنه عرض مفارق بل قالوا طبع ملازم.
فهذا مجلس المبعوثان يجتمع فيشتط بعض أعضائه في القول من غير حساب حتى يثير بأقواله مشاكل ومخاوف ما كان أغناهم عنها، وكل ولاية تظن أن مبعوثيها نائبون عنها لا غير وليسوا نائبين عن الأمة، وأن عليهم أن ينفذوا جميع رغائبها ولو كانت غير عادلة، ولو كانت لا تتفق ومصلحة الدولة من حيث هي كل؛ ويحمل البريد إلى كل مبعوث ما ينوء بفتحه بله قراءته: هذا يطلب عزل خصمه وتوليته بدله، وهذا يلتمس رتبة ونيشانا، وهذا راغب في وظيفة، وهذا راغب في ترقية، حتى بلغ الحال أن مكاريا سرقت دابته فبعث إلى مبعوث ولايته أن يأمر بإعادتها إليه.
وربما كان هذا طبيعيا والنظام جديد، والجهل عتيد، ولا بد من فترة تمر يفهم فيها أن المصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة، وأن مبعوث الولاية نائب الأمة أولا وولايته ثانيا، وأنه كلما خفف ناخبوه مطالبهم زادوه مقدرة على نفع أمتهم؛ ولكن أنى لهم بمن يصبر على سخاتهم، ويفسح الصدر لمرانهم، والأعداء كثيرون في الداخل والخارج وهم لهم بالمرصاد؟!
وزاد الأمر سوءا أن الروسيا إذ ذاك لم يرضها هذا الحال، فاحتجت على ذلك وتأخرت في الاعتراف بالنظام الجديد، ولعبت بالبلقان فحركته، وثارت الثورات في أنحائه، فثورة في الصرب، وثورة في الجبل الأسود والبوسنة والهرسك، والحروب قائمة، وانتصارات الدولة لا تفيدها عند الدول، وانتصارات عدوها يفيده؛ والدولة فقيرة في المال بما أسرف عبد العزيز، وفقيرة في رؤساء القواد، فقد قتل حسين عوني باشا وغيره معه بيد أثيمة، وروسيا تريد فصل البلغار عن الدولة، ولكل دولة مطامع؛ ومدحت يتحمل كل هذه الأعباء الداخلية والخارجية في صبر عجيب، فنهاره في تنظيم الشؤون الداخلية، وليله في المشاكل الخارجية، وفي ذلك يقول: «تحملت من المتاعب من يوم جلوس السلطان مراد ما يفوق القدرة البشرية، وكنت أقول ليست هذه الحياة لي بل للأمة، وقد وقع الوطن في مصائب داخلية وخارجية، فواجب أن أسعى في تخليصه من مخالبها».
وفيما هو كذلك سلم إليه أحد رجال المابين خطابا فتحه وقرأه، فإذا فيه عزله وإبعاده إلى خارج الدولة فورا من غير أن يعرج على أهله، وذلك بعد شهرين من صدارته. فألح مدحت على رجل المابين أن يراجع السلطان في بيان السبب؛ فعاد وقال : إن السلطان يقول إن المادة 113 من الدستور تخول السلطان حق إبعاد الذين ترى نظارة الضابطة سوء حالهم، وقد قام ناظر الضابطة إلى جلالة السلطان تقريرين وقع عليهما وهما هذان. ففتح مدحت أحدهما فإذا فيه: «أن جاسوسا سمع ضابطا يقول لصاحبه في إحدى المقاهي إن مدحت سيكون رئيس جمهورية» فاكتفى مدحت بهذا ولم يفتح الثاني، وقال: «إن بلادي التعيسة كمريض حضره نطس الأطباء، وعالجوه حتى كاد يبل من مرضه، فاندس عدو له فسقاه سما قضى على حياته». وصدع بالأمر وركب الباخرة «عز الدين» لتوه من غير أن يرى أهله.
وخاف السلطان من الرأي العام، فطلعت الجرائد ومن ضمنها «الجوانب» ترمي مدحت بأفظع التهم، هذه تقول إنه ضبطت أوراق تدل على خيانته، وهذه تقول إنه أراد أن يجعلها جمهورية، وهذه تقول إنه قد أوقع الدولة في مشاكل خطيرة؛ وأدى الشعر رسالته، وأنشئت فيه قصائد هجاء بليغة، وأظهر كثير من المعممين ابتهاجهم، وقالوا إنه يريد فصل السلطة الدنيوية عن السلطة الدينية - والذي يقارن بين الجرائد منذ أربعة أيام وبينها اليوم يعجب لهذا الانقلاب الغريب من مديح رنان إلى هجاء رنان. وسكت الناس بين الدهشة والعجب، والشك واليقين؛ وشرد رجال مدحت ممن أخلصوا له ولمبادئه. ووسط هذه البلبلة الفكرية صدر الأمر الشاهاني بتعطيل الدستور تعطيلا مؤقتا، ولكن ألا تعرف - أيها القارئ الكريم - مدة هذا التعطيل المؤقت؟ ثلاثون سنة!!
لم يكن الرأي العام حذرا فخدر، ولا عاقلا فخدع، ولا قويا فامتهن.
مدحت باشا (4)
هذه الباخرة «عز الدين» تمخر البحر لتقذف به في ثغر من ثغور أوروبا، وقد ضاعت كل آماله؛ فكل ما حزر من تقديره الثورة ونتائجها، والدستور وثباته، والسلطان عبد الحميد وخضوعه لإرادة الأمة، قضي عليه في لحظة، وزال من الوجود في لمحة، وعادت الدولة إلى ما كانت عليه قبل جهاده المتواصل، وكدحه المتتابع، وكل ما في يده الآن غضب السلطان عليه وعلى أتباعه، وبعده عن أهله وتجرده من ماله.
لو أن أي إنسان عادي آخر مكانه للعن الإصلاح والمصلحين، وترك الدولة تجني جزاء ظلم سلاطيتها، وانتظر حتى يتشفى بمنظر الفساد يهد أركانها، ويفتخر بأنه نصح فلم ينتصحوا، وأنذر فلم يصغوا، فارتاحت نفسه بصدق ما تنبأ، وحدوث ما أنذر.
ولكن لم يكن مدحت في شيء من هذا، فما مرت هذه الخواطر بنفسه حتى طاردها، وأخذ يفكر من جديد في وسائل إصلاح ما كان، وعجب من نفسه فوصفها بقوله: «إن حب الإصلاح قد اختلط بدمي فكان كالمرض المزمن لا يبرأ منه».
فكر سريعا، ووصل إلى النتيجة سريعا، فرأى أن روسيا تحارب بلاده وتجمع لها جيوشها الجرارة، ويذهب القيصر بنفسه إلى ميدان القتال لتحميس الجند، والدول كلها تتنبأ بنصرتها، فواجبه - إذن - أن يؤلب الدول على روسيا ما استطاع، ويبين لكل منها الأضرار التي تنالها من هزيمة الدولة العثمانية، وتعديل خريطتها. فهو في أسبانيا يتصل بساسة إنجلترا وفرنسا، ويحاول إقناعهم بآرائه، ثم يذهب إلى انجلترا لهذا الغرض، ويبرق إلى المابين يقول: «قد سعيت مدة إقامتي في عاصمة بلاد الإنجليز بما يعود على دولتنا بالنفع ويرفع شأن حكومتنا، وحاولت إقناعهم بعقد صلح يحفظ الدولة وعظمتها، وأفتخر أني وفقت إلى ذلك بعض التوفيق»؛ ثم يذهب إلى فيينا لهذا الغرض ويبرق فيقول: «أنا اليوم في (فيينا) أبذل الجهد لترويج نفس المساعي ... وآمل إخباري بما يوافق مصلحة الأمة لأستعين به على أمنيتي الوحيدة، وقد وقفت حياتي لتخليص الدولة من ورطتها، وأنا قادر على القيام بأعباء ما يطلب مني، ومصلحة الوطن تضطرني إلى ذلك».
وكانت تعترضه صعوبة أن بعض الدول ترد عليه بأنه ليس مفوضا، ولا له صفة رسمية يتكلم بها، وأنه ليس إلا رجلا منفيا، فطلب من الدول تصحيح موقفه لإتمام مساعيه فلم يجد سميعا!
وأغرب ما في الأمر بعد ذلك أن يزف إليه «ناظر التشريفات» بشرى أن السلطان ذكره بمحضره، وسأل عنه كيف يعيش؟ فقال «ناظر التشريفات»: إنه في حالة بؤس ينتقل من بلد إلى بلد، ويعيش بالقرض، فظهرت رقة قلب السلطان بكى، وقال أرسلوا له ألف ليرة؛ ثم يختم الخطاب بأنه يطلب منه شكر السلطان، وتضرعه إليه بالعفو عنه .
ظن المسكين «ناظر التشريفات» أن كل النفوس ذليلة كذلته، ملقة كملقه؛ ولكن هذا الخطاب وقع من نفس مدحت الأبية موقع السهم المسموم في الفؤاد الجريح، فهاج وثار، ورد عليه فقال: «لقد عبرتم للسلطان عن حالي بأنها حال بؤس ينتقل من بلد إلى بلد، تستدرون بذلك شفقته، وهذا وصف لا يوصف به إلا فاقد الشعور أفاق، لا رجل مثلي عمل ما عمل، وتولى الصدارة بجدارة.
وأنا كما وصفتم من أسباب عيشي وفقري، فقد اقترضت عشرة آلاف فرنك من خرستاكي في نابولي فنفدت، وأنا اليوم أسعى في قرض جديد أسد به رمقي ورمق أسرتي في الآستانة، ولكني فخور بذلك، فقد ولدت عاري الجسد، وسأموت عاري الجسد، وأنا ابن الحاج أشرف أفندي ونعم النسب، ومع هذا فلا أنتسب إلا إلى الله، وذخيرتي أني عاهدته ألا أقول إلا الحق، ولو أوصلني إلى مثل ما ألاقيه الآن من الشدائد.
وما الذي فعلت من إجرام حتى أطلب العفو؟! لقد سعيت في تولية السلطان مراد بعد عبد العزيز، فلما مرض سعيت أن يجلس مكانه السلطان عبد الحميد، وكان جلوسه مقرونا بإعلان الدستور ووضع خطط الإصلاح.
ومنذ خروجي من الآستانة وأنا أفكر في الدولة وسبيل إنقاذها من المهالك، ولا أفكر في نفسي، فماذا في هذا مما يعتذر منه؟
لقد بلغت السادسة والخمسين، ولا أمل لي في الحياة! فلم يتجاوز أسلافي الستين، فأيامي معدودة، وجل رجائي أن أعيش منفردا، وأدعو لولي النعم الأعظم».
هذه خلاصة كتاب أقل ما يوصف به أنه يعبر أصدق تعبير عن قوة مدحت وعظمته ورجولته وسمو نفسه.
لقد وصف «ناظر التشريفات» هذا الخطاب لما قرأه بأنه كالعروس عطلت من حليها، وعريت من ثيابها، ولكن أين يكون الجمال إذا لم يكن هذا جميلا؟ وفي الحق أن هناك عيونا لا ترى الجمال الحق في الإباء والشمم، وإنما ترى الجمال المتصنع في النفاق والملق.
كان يوما يصطاف في الريف عند صديق له من دوقات الإنجليز، وإذا بسفير الدولة العثمانية في إنجلترا يقابله، ويبلغه أن السلطان سمح له أن يقيم مع أسرته في جزيرة «كريد». فذهب إليها وعاش فيها مع أسرته نحو شهرين. ثم عين واليا لسوريا، ثم لأزمير، ثم كانت مأساته التي ختمت بها حياته كما سنبينه بعد. •••
هذا هو العمود الفقري في حياة مدحت، وله بجانب هذا أعمال فرعية في الولايات التي تولاها، وهي أعمال خالدة لا تزال تذكر من أهل البلاد التي عمل فيها بالحمد والثناء.
لقد ولي العراق، وولي سلانيك، وولي الشام، وولي أزمير، وكان له في كل أولئك خطة واحدة، يعمد - أولا - إلى الأشقياء الذين يعيشون بالأمن فيضربهم ضربة تنخلع منها قلوبهم وقلوب أمثالهم، فإذا الأمن شامل والهدوء عام. ثم ينشر العدل بين الناس فيطمئنون على أنفسهم وأموالهم؛ ويعمل بالشورى فيحيط نفسه بمجلس من خيرة الولاية يستشيرهم في أمورها، ويجرئهم على قول الحق في صراحة، ويعلمهم كيف يعالجون المشاكل؛ ثم يصلح الطرق ويربط الولاية بشبكة محكمة، لأن ذلك يعين على الإسراع في ضبط أمورها؛ ثم يضع الخطط لاستغلال منابع الثروة في البلاد على خير وجه، كل ولاية بما يناسبها، حتى يزيد نتاجها على نفقاتها، ويأخذ من المال الناتج لإنشاء المدارس ونشر التعليم، وهو بعمله هذا يضع نواة العلم في بلاد فشا فيها الجهل وكادت تعم الأمية.
تولى العراق سنة 1285ه/سنة 1870م في عهد السلطان عبد العزيز فأخضع رؤساء العشائر بعد عنادها، ودوخ العصاة وطاردهم في أوكارهم، ثم أصلح أداة الحكومة، فأقبل الزرع على زراعتهم، والعمال والصناع على عملهم وصناعتهم، وأنشأ أول مطبعة في بغداد، وشجع على إنشاء جريدة سماها «الزوراء»؛ وحث الشركات على العمل: فشركة تسير البواخر بين بغداد والبصرة، وشركة تسير الترام بين بغداد والكاظمية؛ وقرب المسافة بين بغداد والبصرة بتحويل مجرى دجلة، وبث المهندسين الزراعيين يدرسون حالة البلاد الزراعية، وأنشأ منتزها عاما في بغداد سماه «بستان الأمة» «ملت باغجة سي».
ومن طريف آرائه أنه عرف أن «بالنجف» كنوزا مدفونة، فيها كثير من الأحجار الكريمة، كانت تزين بها الأضرحة والمشاهد، قد أخفيت أيام هجوم الوهابيين وهدمهم للقبور، فأخرجها مدحت، وقومها الخبراء بما يزيد على ثلثمائة ألف ليرة؛ فاقترح مدحت بيعها وإنشاء خط حديدي بثمنها بين النجف وإيران (لأنه كان قد اشترك في التبرع بها كثير من الفرس)، فلم يوافقه العلماء على ذلك فبطل المشروع. كذلك من طرائفه أنه ألف مجلسا للشورى في بغداد يرجع إليه في أمور الولاية، ولم تكن الناس تألف الجهر بالرأي والشجاعة في القول، ولا تعد لهم بجانب الوالي شخصية، فجمعهم يوما وقال لهم: إني أرى الحاجة ماسة إلى استئذان الباب العالي في زيادة الضرائب لتنفيذ ما نرى من وجوه الإصلاح فماذا ترون؟ قالوا جميعا موافقون، هذا هو الرأي، وهي الحكمة؛ فكتب بذلك محضرا وختمه جميعهم؛ ثم جمعهم في اليوم الثاني وقال: لقد فكرت في أمر زيادة الضرائب فتراءى لي أنها ظلم فادح لا يستطيعه الناس، ولكن محضر أمس أرسل، فإذا رأيتم هذا الرأي صوابا كتبنا آخر ألحقناه به، وبينا الأسباب الموجبة لنقضه، فقالوا نعم الرأي ما رأيت؛ ووقعوا على الثاني كما وقعوا على الأول. فأمسك بالمحضرين هذا بيد وهذا بيد، وقال: والله ما أرسلته ولكن أردت أن أختبركم، فما قيمة المجلس إذا رجعتم دائما إلى رأيي وحده؟! ثم ألقى عليهم درسا قاسيا في الحرية وفوائدها، والشخصية وتكوينها، والاستقلال في الرأي ومزاياه.
وكانت ولايته للشام أصعب، فقد تولاها في العهد الحميدي بعد حوادثه مع عبد العزيز واتهامه بالجمهورية، وعداء السلطان والمابين والوزراء له، كلهم يتربص به الدوائر. ثم مشاكل الشام أعقد من مشاكل العراق، فهذه مشاكلها بدو وعشائر، وعلاقته بإيران ونحو ذلك؛ أما مشاكل الشام فأخطر: أمور لبنان تتصل بفرنسا، وأمور الدروز تتصل بإنجلترا؛ ولكل دولة مصالح ومدارس وكنائس، وغير ذلك. فكان أول ما لفت نظره ما ذكر من «أن مسلميها قد فشا بينهم الجهل ... ومدارس الإفرنج تتقدم كل يوم تقدما ملموسا، وليس للحكومة سوى بعض مدارس ابتدائية يقرأ فيها الأحداث القرآن، فكتب أفكر في أمر تعليم أبناء المسلمين وإصلاح مدارسنا».
فشكل الجمعيات، وجمع الإعانات، وفتح المدارس، وأصلح المساجد وجعلها مدارس، ووضع عقوبة لولي أمر الطفل إذا بلغ ابنه السادسة ولم يرسله إلى المدرسة، واستعان بأموال الأوقاف في أمور التعليم، وتأسست في عهده «جمعية المقاصد الخيرية» وانتشرت شعبها في البلاد.
ولما حاول الإصلاح الاقتصادي والإداري اصطدم بالدول، فكانت فرنسا صاحبة امتياز لبنان، وكانت الحكومة العثمانية خصصت لها خمسة وعشرين ألف ليرة من إيراد جمارك الشام، فكتب إلى رئيس الوزارة بقطع هذا المبلغ فغضبت فرنسا؛ وهكذا وهكذا من مشاكل، والدسائس تحاك حوله، وتشاع الإشاعات بأنه يريد الاستقلال بسوريا، ويستدل على ذلك بأن هاتفا هتف «فليحي مدحت باشا»، وأن كاتبا كتب «الخديوي مدحت». ولذلك لم يتمكن من الإصلاح في الشام كما تمكن منه في العراق، مما لاقى من العناء في الداخل والخارج. فيالله للمصلحين.
وأخيرا نقل إلى أزمير، فلم يطل بها مقامه حتى كانت المأساة.
فبعد خمس سنين من وفاة السلطان عبد العزيز تحركت مسألة وفاته من جديد، وأشيعت الإشاعات أنه لم ينتحر وإنما قتل بإياز مدحت وأصحابه. وبلغ مدحت وهو في أزمير أنه يراد القبض عليه والتحقيق معه، وكتب إليه صديق له «فاخرج إني لك من الناصحين». وعرض عليه بعض أصدقائه من الأروبيين ركوب باخرة معدة وسفره إلى الخارج فرفض وقال: «كيف أرتكب الفرار لجريمة لا نصيب لها من الصحة».
وبينا هو نائم في داره إذا بالجنود تحيط به، ويقبض عليه ويرسل إلى الآستانة لمحاكمته بتهمة الاشتراك في قتل عبد العزيز.
من عهد أن تولى السلطان عبد الحميد، وهو لا يأمن جانب مدحت، ومن لف لفه، ويخشى جد الخشية أن يعيدوا معه تمثيل دور عبد العزيز؛ وبلغت به الخشية حد الهوس، فكل قوى المملكة من مال ورجال وسمع وبصر مسخرة للمحافظة على شخصه، ومراقبة مدحت وأمثاله، لأن من قدر على البدء كان أقدر على الإعادة - وأخيرا اهتدى هو وأعوانه - للقضاء على مدحت وأصحابه، إلى هذه التهمة، فدبرت محاكمتهم، ورتبت شهودهم، ورسمت خطة الإيقع بهم. وبعد محاكمة صورية حكم عليهم بالإعدام، فتوسط الإنجليز وبعض سفراء الدول فاستبدل بالإعدام النفي، ووضعوا في باخرة سارت بهم إلى جدة ومنها إلى الطائف
1 . وأهينوا من يوم خروجهم من الآستانة بالتضييق عليهم في مأكلهم وملبسهم ومنامهم؛ وسجنوا في قلعة الطائف ثلاث سنين، وأجرى عليهم العذاب ألوانا؛ وكلما مر عليهم زمن وهم أحياء زادوهم تضييقا حتى يموتوا؛ ومن اشتد من الضباط عليهم رقى، ومن أخذته الشفقه عليهم أبعد. ومدحت يرسل الكتب إلى أهله يطلب منهم مالا يقتات به، ويبذل كثيرا من الحيل في إيصالها إليهم، فإذا أرسلوه لم يصل إليه. وثمانية من سادة القوم منهم مدحت يعيشون على صحن من «شوربة» مصنوعة من الماء وورق الفجل في الصباح ومثله في المساء، يريدون بذلك أن يميتوهم جوعا فلا يموتون. وأخيرا ضاق ولاة الأمور بهم ذرعا فقرروا أن يسموهم، ولكن مدحت وصحبه يكتشفون المؤامرة.
فلما أعيتهم الحيل أوغروا بخنقه فخنق. وكان آخر ما كتب إلى أهله كتابا جاء فيه: «سيكون هذا المكتوب آخر ما أكتب فيما أظن.
فقد أخذوا منا الأقلام والمداد والورق، وضيقوا علينا الخناق، وقصدوا تسميمنا واحدا بعد واحد، ولكن ظهرت نيتهم.
ولا بد أن يصلوا يوما ما إلى غرضهم. فإذا جاءكم خبر وفاتي قبل كتابي فلا تحزنوا. وأنا أرجو من الله المغفرة فقد مت فداء الوطن، وأستودكم الخالق الباقي» •••
قضى مدحت حياته كلها في الإصلاح الاجتماعي، يختار من المدنية الحديثة أحسن ما وصلت إليه من تنظيم الحكم على أساس الشورى التي تتفق وتعاليم الإسلام، ويأخذ خير أساليبها في نشر العلم وتنظيم الحياة الاقتصادية للبلاد، ويراعي في ذلك كله مستوى الأمة ومقدرتها على الامتصاص، فيعجل ما أمكن، ويؤجل ما لم يمكن إلى أن يمكن، ويحور ما يأخذه حتى يتفق وعقلية شعبه، ويلتذ من العذاب يصيبه في هذه السبيل لأنه ربطه بعقيدته الدينية؛ فالدين في نظره ليس صلاة وصوما فقط، ولكنه مع ذلك عمل الخير لشعبه، ولا خير أرقى من الأخذ بيد الأمة لتفهم حقوقها وواجباتها وتثور على من يقف عقبة في سبيل تقدمها - ومن أجل هذا كان هادئا مطمئنا مستبشرا، وهو في منفاه يرتقب الموت من ساعة إلى ساعة، يقول لأهله في بعض كتبه: إني أقرأ القرآن وأستعيد حفظه ، وأستعذب تكرار آية
ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه
وأعدها أكبر عزاء لي، وأهزأ بما أسمع من هجاء وافتراء فقلت سلمت كل أموري لربي. إن الحياة محدودة وهي كألعوبة، ومحنتنا يكافئنا عليها ربنا، ولنا أسوة في الأنبياء والأولياء الذين قتلوا أو سجنوا فصبروا على ما أصابهم.
فإذا فرغ من عباداته، دون بعض مذكراته. •••
وقد خدمت أفكاره شناعة وفاته أكثر مما خدمها جهاده في حياته، فقد ألمت النفوس الخيرة مما أصابه ألما ممضا، وتأججت النار في أفئدتهم وأفئدة من يتصل بهم، وكانت أحداث الظلم المتوالية تغذيها بالوقود، فلما التهبت النيران التهمت عبد الحميد كما التهمت من قبل عبد العزيز؛ بل لعلها أيضا هي التي التهمت فكرة الخلافة من أساسها فيما بعد. •••
والآن ننتقل بأجهزتنا إلى مصلح آخر من صنف آخر، هو السيد جمال الدين الأفغاني.
السيد جمال الدين الأفغاني (1)
1254-1314ه/1839-1897م
لئن كان محمد بن عبد الوهاب يرمي إلى إصلاح العقيدة، ومدحت باشا يرمي إلى إصلاح الحكومة والإدارة، فالسيد جمال الدين يرمي إلى إصلاح العقول والنفوس - أولا - ثم إصلاح الحكومة، وربط ذلك بالدين. «مدحت» يرى إصلاح الشعب عن طريق إصلاح الحكومة؛ وجمال الدين يرى إصلاح الحكومة عن طريق إصلاح الشعب. مدحت يقول: إن الحكومة راع وإذا صلح الراعي صلحت الرعية، والغاية «الدستور» فإذا وضع ونفذ فالخير كل الخير للأمة؛ ويقول جمال الدين: «إن القوة النيابية لأي أمة لا يكون لها قيمة حقيقية إلا إذا نبعت من نفس الأمة ، وأي مجلس نيابي يأمر بتشكيله ملك أو مير، أو قوة أجنبية محركة له، فهو مجلس موهوم موقوف على إرادة من أحدثه»، فالعقول والنفوس - أولا - والحكومة ثانيا والغاية هما معا.
ماذا تنفع الحكومة الصالحة إذا كان الشعب غير صالح؟ لقد علمنا التاريخ، أن الحكومة لا تستقيم إلا إذا كان في الأمة رأي عام يخيفها، ويلزمها أداء واجباتها، والوقوف عند جدها، فإذا لم يكن ذلك فالطبيعة البشرية تملي على الحكام أن يستأثروا بالمنافع، وغاية ما يتوقع من الحكومة الصالحة غير المؤسسة على قوة الأمة ويقظتها أن تكون موقوتة بوقتها، فإذا زالت حل محلها من لا يصلح؛ إذ لا شأن للأمة في اختيارها، ولا رقابة لها على أعمالها.
يقول حول سنة 1296ه: «هبوا أن مجلسا نيابيا أنشئ فستجدون أن حزب الشمال لا أثر له، وسيفر الأعضاء كلهم إلى حزب اليمين، وسيكونون كلهم آلة صماء ... وسيرى كل عضو أن الدفاع عن الوطن ومناقشة الحاكم الحساب قلة أدب، وسوء تدبير، وقلة حنكة، وتهور». لا! لا! العقول والنفوس هي المقدمة، والحكومة الصالحة النتيجة. •••
أفغاني الأصل، شريف النسب، ينتمي إلى الحسن بن علي (ولشرف النسب في هذه البلاد حرمة وإجلال تفوق ما في غيرها من الأقطار). جمع إلى شرف النسب عزة السيادة؛ فقد كان أهل بيته سادة على عمالة من أعمال أفغان. ولكن ما لنا ولهذا كله، فقد تنبت النبتة الطيبة في الأرض السبخة، والنبتة الفاسدة في الأرض الصالحة، فإذا نبتت النبتة الصالحة في الأرض الصالحة اكتفينا بالتسجيل. فأسرة جمال الدين لم تنبت إلا جمال الدين، وأسرة محمد عبده لم تنبت إلا محمد عبده، وما أكثر الأسر التي تشبه أسرتيهما أو تفوقهما ومع هذا لم تنبت شيئا. فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
تعلم - كما يتعلم شباب زمانه في بلاده - الفارسية والعربية على طريقة تشبه الطريقة الأزهرية، ولا تمتاز عنها إلا بدراسته الواسعة في الفلسفة الإسلامية والتصوف كما هي عادة الفرس إلى اليوم، فكان ذلك نواة ثقافته؛ ودرس في الهند الرياضة على الطريقة العصرية، وساح سياحة طويلة في الأقطار الإسلامية إلى مكة، فأكسبه ذلك تجارب عملية واسعة، وخبرة بحياة الشرق. ووقعت بلاده في منازعات سياسية على من يتولى الملك، فانغمس فيها وتشيع لجانب منها ونام منه مقام الوزير وانتصر وانهزم، ولمس تدخل الدول، فعلمه ذلك كله السياسة وخصومتها ودهاءها وألاعيبها.
وتعلم الفرنسية وهو كبير؛ أتى بمن يعلمه الحروف الهجائية ثم انفرد بتعليم نفسه نحو ثلاثة أشهر يحفظ من مفرداتها حتى استطاع أن يقرأ من كتبها ويترجم منها، ثم توسع في ذلك أثناء إقامته بباريس ومع هذا فلم يحذقها كل الحذق.
كم من الناس علموا أكثر مما علم، وقرأوا أكثر مما قرأ، ورطنو أكثر مما رطن، ولكن لم يكن لأحد منهم شخصية كشخصيته. ذكاء متوقد، وبصيرة نافذة، وتوليد للأفكار والمعاني من كل ما يقع تحت سمعه وبصره، واستقصاء للفكرة حتى لا يدع فيها قولا لقائل. «له سلطة على دقائق المعاني وتحديدها وإبرازها في صورها اللائقة بها، كأن كل معنى قد خلق له. وله قوة في حل ما يعضل منها كأنه سلطان شديد البطش، فنظرة منه تفكك عقدها. كل موضوع يلقى إليه يدخل للبحث فيه كأنه صنع يديه فيأتي على أطرافه، ويحيط بجميع أكنافه، ويكشف ستر الغموض عنه، فيظهر المستور منه. وإذا تكلم في الفنون حكم فيها حكم الواضعين لها؛ ثم له باب في الشعريات قدرة على الاختراع، كأن ذهنه عالم الصنع والإبدع، وله لسن في الجدل، وحذق في صناعة الحجة لا يلحقه فيها أحد إلا أن يكون في الناس من لا نعرفه ...
أما أخلاقه فسلامة القلب سائدة في صفاته، وله حلم عظيم يسع ما يشاء الله أن يسع، إلى أن يدنو منه أحد ليمس شرفه أو دينه، فينقلب الحلم إلى غضب، تنقض منه الشيب، فبينما هو حليم أواب، إذا هو أسد وثاب، وهو كريم يبذل ما بيده، قوى الاعتماد على الله، لا يبالي ما تأتي به صروف الدهر.
أما خلقه فهو يمثل لناظره عربيا محضا من أهالي الحرمين، فكأنما قد حفظت له صورة آبائه الأولين من سكنة الحجاز . ربعة في طوله، وسط في بنيته، قمحي في لونه، عصبي دموي في مزاجه، عظيم الرأس في اعتدال، عريض الجبهة في تناسب، واسع العينين عظيم الأحداق، ضخم الوجنات، رحب الصدر، جليل في النظر، هش بش عند اللقاء، قد وفاه الله من كمال خلقه ما ينطبق على كمال خلقه
1 ».
فهم رسالته وما تتطلب من جهاد، وما تقتضيه من أعباء، فلم يرتبط بأسرة ولم يستعبده مال، وعاش لأفكاره ومبادئه، تكفيه أكلة واحدة في اليوم كله، وإن أفرط في الشاي والتدخين. أعد نفسه للنفي في كل لحظة؛ فنافيه لا يتعبه إلا شخصه. ملابسه على جسمه، وكتبه في صدره، وما يشغله في رأسه، وآلامه في قلبه.
ولقد طوف في فارس والهند والحجاز والآستانة، وأقام فيها، ولكن لعل أخصب زمنه، وأنفع أيامه، وأصلح غرسه، ما كان في مصر مدة إقامته بها من أول محرم سنة 1288 إلى سنة 1296ه (مارس سنة 1871/أغسطس سنة 1879). ثمان سنين كانت من خير السنين بركة على مصر، وعلى العالم الشرقي، لا بجمال مظهرها وحسن رونقها، وسعادة أهلها، ولكن لأنه فيها كان يدفن في الأرض بذورا تتهيأ في الخفاء للنماء، وتستعد للظهور ثم الازدهار، فما أتى بعدها من تعشق للحرية وجهاد في سبيلها فهذا أصلها، وإن وجدت بجانبها عوامل أخرى ساعدت عليها وزادت في نموها.
لقد جرب «السيد» أن يبذر بذورا في فارس والآستانة فلم تنبت، ثم جربها في مصر فأنبتت.
كان من حسنات رياض باشا أن أعجب «بالسيد» ورأى فيه عالما لا من جنس العلماء، يعرف الدين ويعرف الدنيا ويجيد الفهم ويجيد القول؛ فمكن له من البقاء في مصر وسعى عند الحكومة فقررت له عشرة جنيهات شهريا.
كانت هذه السنون الثمان من أشق السنين على مصر، إذ كان حالها حال أسرة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان، ولكن ربها أسرف فيما ينفق، ولم يكتف بدخله الكثير فأنفق أضعاف ما كسب مما كان يستدين، حتى إذا بلغ الغاية في الدين أخذ الدائنون يحجرون عليه، ويتدخلون في شؤونه، ويشرفون على مصادره وموارده، ولا يتركون له شيئا من حرية التصرف؛ فإذا الأسرة بائسة بعد نعيم، وشقية بعد سعادة، وإذا هي مغلولة الأيدي والأرجل والأعناق تحاول الخلاص فلا تجده، وتتلمس طريق الحرية فلا تهتدي إليه.
فقد توالت القروض التي عقدها اسماعيل باشا، ففي المدة الواقعة بين سنة 1864 وسنة 1875 بلغت الديون نحو خمسة وتسعين مليونا من الجنيهات، فجاءت بعثة كيف
Cave
سنة 1875 لفحص مالية مصر، واقترحت لضرورة إصلاحها إنشاء مصلحة للرقابة على ماليتها، وأن يخضع الخديوي لمشورتها، ولا يعقد قرضا إلا بموافقتها.
وأنشئ صندوق الدين سنة 1876 يتسلم المبالغ المخصصة للديون من المصالح المحلية، فكانت حكومة أجنبية داخل الحكومة المصرية. وأنشئ نظام الرقابة الثنائية في هذه السنة أيضا، وكان من مقتضاه أن يتولى الرقابة على المالية المصرية مراقبان: أحدهما إنجليزي لمراقبة الإيرادات العامة للحكومة، والآخر فرنسي لمراقبة المصروفات؛ وأنشئت لجنة مختلطة لإدارة السكك الحديدية وميناء الإسكندرية. وجاءت لجنة تحقيق عليا أوروبية سنة 1878 لمراعاة مصالح الدائنين الأجانب، وتدبير المال اللازم لوفاء الأقساط المطلوبة لهم.
وتطورت الرقابة الثنائية إلى تأليف وزارة مختلطة برئاسة نوبار باشا يدخلها وزيران أوروبيان أحدهما إنجليزي لوزارة المالية، والآخر فرنسي لوزارة الأشغال
2 .
ولا شك أن المال عصب الحياة، فالمشرف عليه مشرف على كل شيء، فتوفير المال لسداد الديون يتطلب الإشراف على جميع الإدارات التي تغل المال، وهذه الإدارات تحصل المال من الفلاح، فلا بد أن يكون آمنا على ماله، مهيأة له وسائل إصلاح زراعته، يعامل بالعدل في تحصيل الضرائب منه، فلا بد من الإشراف على هذه الشؤون كلها من أجل المال. وهكذا من أشرف على المال أشرف على كل شيء.
كل هذا حدث مدة إقامة «جمال الدين» في مصر، وكان من طبعه الانغماس في السياسة، ونمى هذا الطبع نشأته في بيت حكم، وانغماسه فيها أيام تنازع الأسرة المالكة في الأفغان، فكانت هذه الأحداث المصرية حافزة له على أن يعيد ما بدأ به من الاشتغال بالسياسة، وحافزة للناس في مصر على أن يجاوبوا حركته. •••
كان نشاطه التعليمي ذا شعبتين: دروس علمية منظمة يلقيها في بيته في «خان الخليلي »، ودروس عملية يلقيها بين زواره في بيته وفي بيوت العظماء حين يرد زيارتهم، وفي «قهوة البوستة» بالقرب من «العتبة الخضراء»، وحيثما تيسر له في المجتمعات.
فأما دروسه في بيته، فكان يلقيها على طائفة من مجاوري الأزهر وبعض علمائه، أمثال الشيخ محمد عبده، والشيخ عبد الكريم سلمان، والشيخ إبراهيم اللقاني، والشيخ سعد زغلول، والشيخ إبراهيم الهلباوي.
كان أكثر الكتب التي قرأها على هؤلاء وأمثالهم كتب منطق وفلسفة وتصوف وهيئة، مثل كتاب الزوراء للدواني في التصوف، وشرح القطب على الشمسية في المنطق، والهداية ، والإشارات، وحكمة العين، وحكمة الإشراق في الفلسفة، وتذكرة الطوسي في علم الهيئة القديمة، وكتابا آخر في علم الهيئة الجديدة.
هي كلها كتب فلسفة على نحو ما يتصور الفلاسفة القدماء وفي العصور الوسطى؛ فكانوا يعدون المنطق مقدمة الفلسفة أو مدخلها، ومن فروعها الألهيات والطبيعة والفلك والطب وما إلى ذلك.
ويظهر لي أن هذه الكتب لم تكن لها قيمة في ذاتها؛ فقد كان الشيخ حسن الطويل مثلا يقرأ بعض هذه الكتب في الأزهر، وإنما كانت قيمتها في أن كل فصل من فصولها، أو جملة من جملها، كان تكأة يستند عليها الشيخ في شرح أفكاره وآرائه، والتبسط في مناحي الفكر، والتطبيق على الحياة الواقعة، ونظرته إلى العالم كوحدة، مازجا التصوف بالفلسفة بالهيئة بغير ذلك. وهذا هو ما أقنع الشيخ محمد عبده من الشيخ وطمأن نفسه إذ قال: إنه «بعد حضوره في الأزهر سنين مل الدروس المعتادة، وصارت نفسه تطلب شيئا جديدا، وتميل إلى العلوم العقلية، وكان الشيخ حسن الطويل ممتازا في الأزهر بعلم المنطق فحضره عليه ولكن لم يكن يشفي ما في نفسه، بل كانت تتشوف دائما إلى علم غير موجود ... وقرأ الشيخ حسن الطويل شيئا من الفلسفة، ولكن لم يكن يجزم بأن المعنى كذا، بل كان درسه احتمالات، حتى جاء السيد جمال الدين فوجد عنده طلبته وأقصى أمنيته».
فهذه الكتب التي قرأها إنما قيمتها في نفس جمال الدين، والدنيا تتلون بلون منظار الرائي، والطبيعة كلها مفتوحة أمام أعين الناس كلهم، ولكن لا يفهم منها إلى القليل.
ما هذا الشيء الجديد الذي وجده «محمد عبده» عند «جمال الدين» فاطمأن إليه واهتدت نفسه؟ هو ما عند جمال الدين من أصول كلية هي عماد الفلسفة، يرجع إليها كل ما يقرأ من صفحات الكتب، وهي الحكم في صحة ما يصح، وبطلان ما يبطل، ثم شخصية قوية تجزم في الحكم ولا تتردد تردد الشيخ حسن الطويل، ثم ربط جزئيات الحياة العلمية والعملية كلها برباط واحد، يفتح النوافذ كلها بعضها على بعض حتى تتألف منها وحدة، فالتصوف، والفلسفة ، والدنيا العامة، ودنيا الشخص، هذه كلها لا يصح أن يكون كل منها حجرة مغلقة على نفسها، بل لا بد أن تتقابل وتتناغم، وتؤلف دورا موسيقيا واحدا، فإذا تم هذا صح نظر الإنسان وزال عنه كثير من الشك المؤلم والحيرة المضنية، وبت فيما ينفع وما يضر، وما يعمل وما يدع، ووضحت أمامه الأعلام، واستنارت السبل، أما جملة تصح وجملة لا تصح، ومؤلف أخطأ ومؤلف أصاب، ومنطق في الكتاب ولا منطق في العمل، ونظرية في التصوف يقضها نظرية في الحكمة، وأقوال في الزهد يسلم بها في حينها، وأقوال في الحث على الانغماس في الحياة يسلم بها في حينها أيضا، فهذه كلها نظرة البدائيين الذين لا يستطيعون أن ينظروا إلا إلى السطح دون الأعماق، والأعراض دون الجوهر، والأشكال دون الحقيقة.
وفوق هذا كله كان يأخذ بيد تلاميذه فيرفعهم إلى مستوى يسيطرون فيه على الكتاب ولا يستعبدهم الكتاب، ويسمون عن قيود الألفاظ والجمل إلى معرفة الحقيقة في ذاتها ولو خالفت الألفاظ والجمل.
وكانت طريقته في التدريس عكس طريقة الشيخ محمد عبده. كان جمال الدين يحدد موضوع الدرس فقط من الكتاب، ثم يفيض في شرح الموضوع من عنده حتى يحيط به من جميع أطرافه، وبعد ذلك يقرأ نص الكتاب فإذا هو واضح ظاهر، بين فيه موضع الخطأ والصواب. أما الشيخ محمد عبده فكان يقرأ النص أولا ويتفهمه ويفهمه، ثم يفيض في التعليق عليه وفي بسط الموضوع من عنده.
هذه هي مدرسته النظامية في بيته .
السيد جمال الدين الأفغاني (2)
أما مدرسته الثانية غير النظامية فكانت أكبر أثرا وأعم نفعا، وهي التي كان يتلقى عليه فيها زواره في بيته، وعظماء الرجال عند زيارته لهم في بيوتهم، وخاصة المفكرين والمثقفين عند تحلقهم حوله في «قهوة البوسطة»، وجمهور الناس عند اجتماعهم به في المناسبات.
في هذه المدرسة تلقى دروسه أمثال: محمود سامي البارودي، وعبد السلام المويلحي، وأخيه إبراهيم المويلحي، ومن الشباب أمثال: محمد عبده وإبراهيم اللقاني، وسعد زغلول، وعلي مظهر، وسليم نقاش، وأديب إسحاق؛ وغيرهم.
وفي هذه المدرسة حول مجرى الأدب ونقله من حال إلى حال. كان الأدب عبد الأرستقراطية، لا هم له إلا مدح الملوك والأمراء، والتغني بأفعالهم وصفاتهم مهما كانوا ظلمة فجارا؛ فكل حاكم سيد الوجود في زمانه، آت بالمعجزات في أعماله، معصوم من الخطأ فيما يأتي به، يبتز مال الناس غصبا فلا يلام على ما غصب ولكن يمدح على ما أنفق، ويقتل من شاء فلا يسأل عمن قتل ولكن يشاد بفضله إذا عفا. الفن والأدب والشعر والنثر موسيقى لطربه، وبهلوان لتسليته، وعبيد مسخرة لنهش أعدائه، ومدح أوليائه. الأديب الصغير مداح للغني الصغير، والأديب الكبير مداح للأمير الكبير - فأتى جمال الدين فسخر الأدب في خدمة اشعب؛ يطالب بحقوله ويدافع عن ظلمه، ويهاجم من اعتدى عليه كائنا من كان، يبين للناس سوء حالهم ومواضع بؤسهم، ويبصرهم بمن كان سبب فقرهم، ويحرضهم أن يخرجوا من الظلمات إلى النور، وألا يخشوا بأس الحاكم، فليست قوته إلا بهم، ولا غناه إلا منهم، وأن يلحوا في طلب حقوقهم المغصوبة، وسعادتهم المسلوبة. فخرج على الناس بأدب جديد ينظر للشعب أكثر مما ينظر إلى الحاكم، وينشد الحرية، ويخلع العبودية، ويفيض في حقوق الناس وواجبات الحاكم، ويجعل من الأديب مشرفا على الأمراء، لا سائلا يمد يده للأغنياء، وهذه نغمة جديدة لم يعرفها المسلمون منذ عهد الاستبداد.
قال الشيخ محمد عبده في وصف حال مصر قبل مجيء «جمال الدين»: «إن إهالي مصر قبل سنة 1293ه كانوا يرون شؤونهم العامة بل والخاصة ملكا لحاكمهم الأعلى ومن يستنيبه عنه في تدبير أمورهم، يتصرف فيها حسب إرادته، ويعتقدون أن سعادتهم وشقاءهم موكولان إلى أمانته وعدله، أو خيانته وظلمه، ولا يرى أحد منهم لنفسه رأيا يحق له أن يبديه في إدارة بلاده، أو إرادة يتقدم بها إلى عمل من الأعمال يرى فيه صلاحا لأمته، ولا يعلمون من علاقة بينهم وبين الحكومة سوى أنهم مصرفون فيما تكلفهم الحكومة به وتضربه عليهم. وكانوا في غاية البعد عن معرفة ما عليه الأمم الأخرى سواء كانت إسلامية أو أوروبية - ومع كثرة من ذهب منهم إلى أوروبا وتعلم فيها من عهد محمد علي باشا الكبير إلى ذلك التاريخ، وذهاب العدد الكثير منهم إلى ما جاورهم من البلاد الإسلامية أيام محمد علي باشا الكبير وإبراهيم باشا، لم يشعر الأهالي بشيء من ثمرات تلك الأسفار، ولا فوائد تلك المعارف. ومع أن اسماعيل أبدع مجلس الشورى في مصر سنة 1283، وكان من حقه أن يعلم الأهالي أن لهم شأنا في مصالح بلادهم، وأن لهم رأيا يرجع إليه فيها، لم يحس أحد منهم ولا من أعضاء المجلس أنفسهم بأن له ذلك الحق الذي يقتضيه تشكيل هذه الهيئة الشورية، لأن مبدع المجلس قيده في النظام وفي العمل، ولو حدث إنسانا فكره السليم بأن هناك وجهة خير غير التي يوجهها إليها الحاكم لما أمكنه ذلك؛ فإن بجانب كل لفظ نفيا عن الوطن، أو إزهاقا للروح، أو تجريدا من المال».
كان الأدب ظلا لهذا الموقف، وصورة صادقة لهذا المنظر، فأدباء مصر أمثال السيد علي أبو النصر، والشيخ علي الليثي، وعبد الله باشا فكري تتصفح آثارهم فماذا ترى؟ غزلا في حبيب، أو رسالة إلى صديق، أو مدحا لأمير، أو استعطافا له، أو اعتذارا إليه، أو وصف سفينة، أو شكرا على هدية. أما مصر وحالة شعبه، وبؤس قومه، وظلم حكامه، وحقوق الناس، وواجبات حكومته، فلا تعثر منها على شيء.
فلما جاء جمال الدين قلب هذا الوضع وفتح للناس منافذ للقول، وسلك في ذلك مسالك مختلفة: (1)
كون جماعة من الكهول والشبان حبب إليهم الكتابة ورسم لهم خطتها، وأوحى إليهم بالمعاني الجديدة التي يكتبونها، وشجعهم على إنشاء الجرائد، يكتب فيها ويستكتب لهم من توسم فيه المقدرة. مثال ذلك أنه شجع «أديب إسحاق» - بعد أن اتصل به اتصالا وثيقا وتتلمذ له طويلا - على أن ينشئ جريدة اسمها «مصر»، وكان جمال الدين يرسم له خطة السير فيها ويكتب بنفسه بعض مقالاتها باسم مستعار هو «مظهر بن وضاح»، ثم أوعز إليه بالانتقال إلى الإسكندرية، وأنشأ بها صحيفة يومية اسمها «التجارة»، وكان جمال الدين يستكتب لهاتين الصحيفتين الشيخ محمد عبده، وإبراهيم اللقاني ، وأمثالهما، هذا إلى ما يكتبه جمال الدين بنفسه. وكان مما كتبه مقالان أحدهما في الحكومات الشرقية وأنواعها، والثاني سماه «روح البيان في الإنجليز والأفغان» كان لهما صدى بعيد. ولقيت الصحيفتان رواجا كبيرا، ولفتت إليهما الأنظار بروحهما الجديد، ثم أغلقهما «رياض باشا».
وكذلك فعل في توجيه الكتاب إلى الكتابة في الوقائع المصرية وأمثالها، فربى بذلك طائفة من الكتاب تحسن - الكتابة - وتحسن اختيار الموضوعات التي تمس حياة الأمة في صميمها؛ فيكتب «أديب إسحاق» - مثلا - تحت عنوان «أوروبا والشرق»: «قضى على الشرق أن يهبط بعد الارتفاع، ويذل بعد الامتناع، ويكون هدفا لسهام المطامع والمطالب، تعبث به أيدي الأجانب من كل جانب ...» الخ.
ويقول الشيخ محمد عبده: «إن الحاكم - وإن وجبت طاعته - هو من البشر الذين يخطئون وتغلبهم شهواتهم؛ ولا يرده عن خطئه، ولا يقف طغيان شهوته، إلا نصح الأمة له بالقول والفعل».
ويتصل به الكاتب الإسرائيلي الفكة «يعقوب مصنوع» فينشئ مجلة هزيلة اسمها «أبو نضارة» ينتقد فيها سياسة اسماعيل باشا.
كل هذا كان النواة الأولى في الشرق للصحافة الشرقية والكتاب الذين يعالجون شؤون الوطن وحالة الشعوب.
وفي الحق أن الظروف التي أحادت بجمال الدين كانت مساعدة على ذلك: فالحال في مصر هي كما وصفنا من قبل، والنفوس جازعة من المراقبة الثنائية ونحوها، وإسماعيل نفسه يشجع نقد التدخل الأجنبي وإن لم يشجع نقد شخصيته، فكان يسره مقالات أمثال «الوقائع المصرية» و«مصر» و«التجارة»، ولا يسره أمثال «أبو نضارة»، فكان الأمر أن البلاد أصبحت مستودع «بنزين»، وجمال الدين «عود ثقابها»، فلما أشعله اشتعلت، ولولا هذه الظروف لخابت دعوته في مصر كما خابت في فارس والآستانة. (2)
ومسلك آخر سلكه جمال الدين في مدرسته الشعبية، وهو أحاديثه التي كان ينثرها هنا وهناك في المقهى، وفي المحافل، وفي بيوت الزيارة. وكان رحمه الله قليل الاحتفال بالأكل، قليل النوم، كثير السهر، قوي الشهوة للكلام، تواتيه المعاني ويطاوعه اللسان، فكان يجد مادة للكلام في كل شيء: في السجارة يشعلها، وفي أي منظر يراه، وفي الطفل يسأله فيجيب أو لا يجيب، وفي حادثة زواج أو حادثة طلاق. وهكذا يستطيع أن يخلق أمتع الحديث من الشيء العظيم والشيء التافه ومن كل شيء. وكانت مصر - بحمد الله - مليئة بالأحداث في هذا الزمان، فكانت تغنيه أحداثها العظام عن خلق الأحاديث المرتجلة، وكان له القدرة على أن يلهب مستمعه، فلا يزال يروح على الفح حتى يلهبه، فإذا جليسه يرى بعد الجلسة راحته في السير لا في الركوب. وفي العمل لا في السكون، كأنه يريد أن يجاوب جسمه قلبه، ويناغم عمله نفسه.
وكان له مذهب في الكلام يتفق مع شهوته؛ وهو أن يحدث من يفهم ومن لا يفهم، ومن يستعد ومن لا يستعد، كالسحاب ينزل الغيثفتنتفع به الأرض الصالحة وتسوء به الأرض الفاسدة، ولا عيب على السحاب. يقول الشيخ محمد عبده في هذا: «كان السيد جمال الدين يلقي الحكمة لمريدها وغير مريدها، ومن خواصه أنه يجذب مخاطبه إلى ما يريد، وإن لم يكن من أهله، وكنت أحسده على ذلك، لأنني تؤثر في حالة المجلس والوقت، فلا تتوجه نفسي للكلام إلا إذا رأيت له محلا قابلا واستعدادا ظاهرا».
وهذا هو السر في وجود مدرسة في مصر عجيبة تحسن السمر والحديث، وتشقيق الكلام وحسن الاستطراد، وتأخذ على السامع لبه، من أمثال محمد عبده، وسعد زغلول، والهلباوي، ولطفي السيد، وكلهم من تلاميذه في هذا الباب.
قال سليم بك العنحوري: «كان من ديدن «جمال الدين» أن يقطع بياض نهاره في داره، حتى إذا جن الظلام خرج متوكئا على عصاه إلى مقهى قرب الأزبكية، وجلس في صدر فئة تتألف حوله على هيئة نصف دائرة، ينتظم في سمطها اللغوي والشاعر والمنطقي والطبيب والكيماوي والتاريخي والجغرافي والمهندس والطبيعي، فيتسابقون إلى إلقاء أدق المسائل عليه، وبسط أعوص الأحاجي لذيه، فيحل عقد إشكالها فردا فردا، ويفتح إغلاق طلاسمها ورموزها واحدا واحد، بلسان عربي مبين لا يتلعثم ولا يتردد، بل يتدفق كالسيل في قريحة لا تعرف الكلام، فيدهش السامعين، ويفحم السائلين، ويبكم المعترضين، ولا يبرح هذا شأنه حتى يشتعل رأي الليل شيبا ... فيقفل إلى داره بعد أن ينقد صاحب المقهى كل ما يترتب له في ذمة الداخليين في عداد ذلك الجمع الأنيق».
ويقول في موضع آخر: إنه في خلال سنة 1878. زاد مركزه خطرا لأنه تدخل في السياسة، وأخذ يقرب منه العوام، ويقول لهم في أثناء كلامه ما معناه: «إنكم معاشر المصريين قد نشأتم في الاستعباد، وربيتم في حجر الاستبداد، وتوالت عليكم قرون منذ زمن الملوك الرعاة حتى اليوم، وأنت تحملون عبء نير الفاتحين، وتعنون لوطأة الغزاة الظالمين، تسومكم حكوماتكم الحيف والجور، وتنزل بكم الخشف والذل، وأنتم صابرون بل راضون، وتستنزف قوام حياتكم - التي تجمعت بما يتحلب من عرق جباهم - بالعصا والمقرعة والسوط، وأنتم صامتون. فلو كان في عروقكم دم فيه كريات حيوية، وفي رءوسكم أعصاب تتأثر فتثير النخوة والحمية، لما رضيتم بهذا الذل وهذه المسكنة ... تناوبتكم أيدي الرعاة ثم اليونان والرومان والفرس، ثم العرب والأكراد والمماليك الخ؛ وكلهم يشق جلودكم بمبضع نهمه، وأنتم كالصخرة الملقاة في الفلاة لا حس لكم ولا صوت.
انظروا أهرام مصر، وهيا كل منفيس، وآثار طيبة، ومشاهد سيوه، وحصون دمياط، فهي شاهدة يمنعه آبائكم وعزة أجدادكم.
هبوا من غفلتكم! اصحوا من سكرتكم..! عيشوا كباقي الأمم أحرارا سعداء.
ومنذ ذلك الحين طارت شرارة الثورة العرابية».
بهذا انقلب «الشيخ» من معلم في حجرة إلى معلم أمة: يخاطب العامة والخاصة، ورجل الشارع والمتربع في دست الوزارة.
ومن تمام برنامجه في هذا الباب أن انضم إلى المحفل الماسوني الاسكتلندي لأنه يضم كثيرا من علية القوم، لعله بذلك يتمكن من إيصال أفكاره إليهم، ويضم طائفة من المصريين والأجانب، فلعل حرية القول فيه تكون أتم، ولكن ما دخل «السيد» فيه حتى ثارت ثائرته، وأخذ يهاجمه في تصرفه، وينقده بخطبه المتوالية، غاظة من المحفل أنه وجد أعضاءه لا يحبون أن يتكلموا في السياسة فقال: «أول ما شوقني للعمل في «بناية الأحرار» عنوان كبير خطير: حرية - مساواة - إخاء، وأن غرضها «منفعة الإنسان - سعي وراء دك صروح الظلم - تشييد معالم العدل المطلق»، ولكن كنت أنتظر أن أسمع وأرى في مصر كل غريبة وعجيبة، ولكن ما كنت لأتخيل أن الجبن يمكنه أن يدخل من بين اسطوانتي المحافل الماسونية!
إذا لم تتدخل الماسونية في سياسة الكون - وفيها كل بناء حر، وإذا كانت آلات البناء التي بيدها لا تستعمل لهدم القديم وتشييد معالم حرية صحيحة وإخاء ومساواة، وإذا كانت لا تدك صروح الظلم والعتو والجور، فلا حملت يد الأحرار مطرقة، ولا قامت لبنايتهم زاوية قائمة».
وهكذا نقدها في عدم تدخلها في السياسة، وتنازع أعضائها على الرياسة، ورغبتهم في إغماض عينهم على ما يقع على الأمة من ظلم.
وأخيرا استقال من هذا المحفل، وأنشأ محفلا آخر تابعا للشرق الفرنسي؛ وسرعان ما بلغ أعضاؤه أكثر من ثلثمائة عضو من نخبة المفكرين والناهضين المصريين؛ وكان في هذا المحفل مطلق الحرية، نظم شعبه للأعمال المختلفة: فشعبة للحقانية، وأخرى للمالية، وثالثة للأشغال، ورابعة للجهادية وهكذا لكل وزارة ومصلح شعبة، تدرس كل شعبة شؤون وزارتها أو مصلحتها، وتعرف ما يقع من الظلم ووجوه الإصلاح فيها، ثم كل شعبة تتصل بالوزير المختص وتبلغه رغباتها في أسلوب حازم صريح، فكان لذلك هزة في الأندية والمجتمعات
1 .
وهكذا اتسعت دائرة نفوذه وأعماله، فقد بدأ يدرس في حجرة، ثم أخذ يسيطر على عقول مستمعيه في «قهوة»، ثم ها هو يريد أن يسيطر على الوزارات ومصالح الحكومة بمحفله. وكان يدرس في بيته كتب الفلسفة والحكمة، فإذا به في مجتمعاته ومنتدياته يشرح حالة الأمة الاجتماعية، ويبين حقوقها وواجباتها، ثم إذا به آخر الأمر يضع يده في صميم الحياة السياسية.
خلقة فيه ظهرت منذ كان شابا يلعب دوره في نصرة أمير على أمير في ولاية الأفغان، لا يقنع حتى يتزعم، ولا يهدأ حتى يضع يده على الأزرار التي تصرف الأمور، ولكنها أزرار مشحونة بالكهرباء مثيرة للاضطراب، هو لا يعبأ بها ولكنها على رغمه تنال منه.
ماذا كان يريد السيد جمال الدين في مصر؟
يريد في دراسة النظامي توسيع عقول الطلبة، وتفتيح آفاق جديدة في فهم العالم، وتعليم الحرية في البحث، وإيجاد شخصيات من الطلبة تبحث وتنقد وتحكم ؛ خالفت النص أو وافقته، خالفت المعروف المألوف أو وافقته.
ويريد في درسه العلم أن يتحرر الشعب من العبودية للحكام، ويفهموا موقفهم من الحاكم، وموقف الحاكم منهم: كل يعرف حدوده ويؤدي واجبه، فإذا تعدى الحاكم هذه الحدود قال له الشعب: «لا» بملء فيه - يريد تكوين رأي عام واسع الثقافة قوي حازم، يفهم الأمور الداخلية والخارجية، ويكون لكل ما يعرض من الحوادث العظام رأيا يقنعه ثم يفرضه على أولي الأمر حتى لا يتلاعبون به، يفهم أن من حقه أن يعيش عيشة صالحة ينعم بدخله وله غلة جهده، فإذا أخذت الحكومة منه الضرائب فعلى قدر ما تستدعيه المصالح العامة لا الشهوات الشخصية، ولذلك كان من حقه الإشراف على وجوه الدخل والخرج.
ويريد في السياسة أن يقتنع الشعب بحقه في الحكم؛ فإذا فهم ذلك - وهذا ما عمله جمال الدين وصحبه - طالب بالمجلس النيابي، فيعطاه بناء على فهمه وطلبه وقدرته لا على أنه منحة تمنح له، فإذا أعطيه بجهده كان أجدر بالمحافظة عليه، وحرص عليه حرصه على دمه، فاستقر وثبت، ولم تستطع سلطة ما أن تلغيه أو تهمله:
استدعاه الخديوي توفيق باشا إلى سراي عابدين وقال له: «إني أحب كل خير للمصريين، ويسرني أن أرى بلادي وأبناءها في أعلى درجات الرقي والفلاح؛ ولكن مع الأسف إن أكثر الشعب خامل جاهل، لا يصلح أن يلقى عليه ما تلقونه من الدروس والأقوال المهيجة، فيلقون أنفسهم والبلاد في تهلكة».
فأجاب جمال الدين: «ليسمح لي سمو أمير البلاد أن أقول بحرية وإخلاص إن الشعب المصري كسائر الشعوب لا يخلو من وجود الخامل والجاهل بين أفراده، ولكنه غير محروم من وجود العالم والعاقل، فبالنظر الذي تنظرون به إلى الشعب المصري ينظر إليكم، وإن قبلتم نصح هذا المخلص، وأسرعتم في إشراك الأمة في حكم البلاد عن طريق الشورى، فتأمرون بإجراء انتخابات نواب عن الأمة تسن القوانين وتنفذها باسمكم وإرادتكم يكون ذلك أثبت لعرشكم وأدوم لسلطانكم»
2
ثم خرج من عنده يخطب في هذا الموضوع ويستحث تلاميذه وأعوانه على الكتابة فيه في حماسة وقوة.
لقد رأيناه أول عهده في مصر يرى أن مجلس النواب لا قيمة له ما دام المصريون على ما هم عليه من قلة التنبه، وضعف اليقظة، وقلة الشجاعة. ثم رأيناه آخر عهده يلح في طلب الحكم النيابي يحرض عليه. فلعله رأى من الأحداث واستبداد الحكام، ونضج الأمة في السنين الثمان ما غير رأيه وعدل خطته.
لقد كان الأمير توفيق في آخر أيام اسماعيل باشا يقدره ويدين بمبادئه. وكان السيد يلتقي به في المحفل الماسوني، ويتوسم فيه الخير إذ ولى بعد اسماعيل، ولكن الخديوي توفيق لما تولى الحكم سعى إليه الساعون، وأوعز إليه الموعزون، فاجتمع مجلس الوزراء وقرر نفي السيد جمال الدين «لأنه رئيس جمعية سرية من الشبان ذوي الطيش مجتمعة على فساد الدين والدنيا»، فمثلت لنا من جديد رواية سقراط، وقبض عليه وعلى خادمه الأمين الفيلسوف الأمي أبي تراب في 6 رمضان سنة 1296، 24 أغسطس سنة 1871، وأودعا في باخرة سارت بهما إلى بمباي. وكان هذا آخر العهد بالأستاذ في مصر، وإن لم يكن آخر عهدها بآرائه ومبادئه.
السيد جمال الدين الأفغاني (3)
أقام السيد في حيدر أباد في الهند منفيا لا يسمح له بمفارقتها، ولا يستطيع أن يشترك في عمل إلا حديثا مع زائر، أو قراءة في كتاب، أو ردا على سؤال.
وفي هذه المدة ألف كتابه المشهور في «الرد على الدهريين» وعنوانه «رسالة في إبطال مذهب الدهريين، وبيان مفاسدهم، وإثبات أن الدين أساس المدنية، والكفر فساد العمران». وقد كتبها بالفارسية ثم ترجمت إلى الأردية، ثم ترجمها الشيخ محمد عبده بمعاونة عارف بالفارسية وهو تابع السيد جمال الدين، عارف أبو تراب.
رد في هذه الرسالة على «داروين» ومذهبه في النشوء والارتقاء، وعلى أمثاله ممن ذهبوا مذهبه.
وقد يعجب القارئ من تعرضه لمثل هذا البحث وهو يتطلب كما - فعل «داروين» - تخصصا في العلوم الطبيعية من جيولوجيا، وفسيولوجيا، وبيولوجيا، وأمبريولوجيا (علم تكوين الأجنة) وغير ذلك.
ولكن عذر السيد أن مذهب «داروين» قد أثار موجة من الإلحاد قوية - وإن لم يكن داروين نفسه ملحدا - وطغا في عصره مذهب المادية القائل بأن العالم له أساس واحد هو المادة، ولا شيء وراءها، وكل شيء في الحياة مظهر من مظاهرها حتى الفكر والعاطفة؛ والمادة لا تحد ولا تفنى، وقوانينها أبدية لا تتغير، وهي قديمة أزلية أبدية، وليس في هذا العالم شيء يعتريه الفناء، وإنما تتغير الأشكال؛ وبناء على ذلك فلا نفس ولا روح، ولا دين، ولا إله.
وهذا المذهب قديم تراه في البوذية، وعند قدماء المصريين، وعند بعض فلاسفة اليونان، وظهر في العصور الحديثة في الثورة الفرنسية؛ ودعا إليه كثير من الفلاسفة في انجلترا، وفرنسا، وألمانيا؛ وعرفه العرب قديما وسموا أصحابه «الدهريين» وحكى مذهبهم الجاحظ والشهرستاني وغيرهما من مؤرخي المذاهب.
وبانتقال الآراء الغربية إلى الشرق انتقل فيما انتقل مذهب النشوء والارتقاء. ومذهب الماديين؛ فترجم في مصر «شبلي شميل» مذهب بخنر سنة 1884، وأثار حركة كبيرة حوله. وفي الهند ظهرت طائفة تعتنق هذا المذهب وتسمى طائفة «النيتشرية» نسبة إلى نيتشر
nature (وهي كلمة إنجليزية معناها الطبيعة) وترددت هذه الكلمة وقرعت أسماع الكثيرين، كما قرعت سمع جمال الدين أيام إقامته في حيدر أباد، وسأله الأستاذ محمد واصل مدرس الفنون الرياضية بمدرسة الأعزة بحيدر آباد في خطاب يقول فيه: «يقرع سمعنا في هذه الأيام صوت «نيشر»، «نيشر»، ويصل إلينا من جميع الأقطار الهندية، ولا تخلو بلدة من جماعة يلقبون بهذا اللقب «نيشري» فما حقيقة النيشرية وما مذهبهم، وفي أي وقت ظهروا؟» فكان من ذلك تأليف هذه الرسالة.
ولكن ليس أقوم ما فيها الرد على داروين، وإنما أقوم ما فيها إثبات قيمة الدين، وضرورته للإنسان، وأثره في رقيه، وأثر الإلحاد في انحطاطه. وهذا هو ما يبلغ فيه جمال الدين الذروة.
وخلاصة رأيه في هذا الموضوع أن الدين - على العموم - أكب عقول البشر ثلاث عقائد، وأودع نفوسهم ثلاث خصال، كل منها ركن لوجود الأمم، وعماد لبناء الهيئة الاجتماعية.
العقيدة الأولى:
التصديق بأن الإنسان ملك أرضي وأنه أشرف المخلوقات.
والعقيدة الثانية:
يقين كل ذي دين أن أمته أشرف الأمم، وكل مخالف له فعلى ضلال وباطل.
والثالثة:
جزمه بأن الإنسان ورد هذه الدنيا لتحصيل كمال يهيئه للعروج إلى عالم أرفع وأوسع من هذا العالم الدنيوي، والانتقال من دار ضيقة الساحات، كثيرة المكروهات، جديرة بأن تسمى «بيت الأحزان» إلى دار فسيحة الساحات، خالية من المؤلمات، لا تنقضي سعادتها، ولا تنتهي مدتها.
أما الخصال الثلاث فهي:
الحياة، والأمانة، والصدق.
ويشرح أن هذه الأسس التي أتت بها الأديان هي علة العمران، وعليها تتوقف سعادة الإنسان، وأن الماديين أو الدهريين أو النيشريين تؤدي تعاليمهم إلى إنكار هذه الأسس فتنزل الإنسان منزلة الحيوان، وتفقده الوازع على الخير، وتعده لحياة جامدة ضيقة جافة لا قلب لها، ولا سمو فيها، وفي هذا انتكاس لخلقه، وهدم لكيانه، وحرمان مما أعده الله له.
وفي الإسلام مزايا على سائر الأديان:
أولها:
صقل العقول بصقال التوحيد، وتطهرها من لوث الأوهام. فمن أهم أصوله الاعتقاد بأن الله منفرد بتصريف الأكوان متوحد في خلق الأفعال، وأن من الواجب طرح كل ظن في إنسان أو جماد - علويا كان أو سفليا - يكون له في الكون أثر من نفع أو ضر، أو إعطاء أو منع، أو إعزاز أو إذلال، ...؛ أو نحو ذلك من خرافات كل واحدة منها كافية في إعماء العقول وطمس أنوارها.
وثانيها:
أن الإسلام فتح أبواب الشرف للأنفس كلها، وأثبت لكل نفس صريح الحق في السمو ... ومحق امتياز الأجناس، وتفاضل الأصناف، وقوم الناس بالكمال العقلي والنفسي؛ فالناس إنما يتفاضلون بالعقل والفضيلة لا بأي شيء آخر. وقد لا نجد من الأديان الأخرى ما يجمع أطراف هذه القاعدة.
وثالثها:
أن الإسلام يكاد يكون منفردا بين الأديان بتقريع المعتقدين بلا دليل، وتوبيخ المتبعين للظنون ... فهو كلما خاطب خاطب العقل، وكلما احتكم احتكم إلى العقل، تنطق نصوصه بأن السعادة من نتائج العقل والبصيرة. وأن الشقاء والضلالة من لواحق الغفلة وإهمال العقل، وانطفاء نور البصيرة.
ورابعها:
أن الإسلام أوجب تعليم سائر الأمة وتنوير عقولها بالمعارف والعلوم، وفرض نصب المعلم ليؤدي عمل التعليم، وإقامة المؤدب الآمر بالمعروف الناهي عن المنكر فقال:
ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، وقال:
فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون .
وعلى هذه الأركان الأربعة بنى الإسلام، وكل ركن منها له الأثر البالغ في تقويم المدنية وتشييد بناء النظام، وتدعيم السعادة الإنسانية، وقد دارت حالة المسلمين رقيا وانحطاطا حسب تمسكهم بهذه العناصر وتخليهم عنها.
هذا ما عمله «جمال الدين» في حيدر أباد.
فلما حدثت في مصر «الثورة العرابية» نقلته حكومة الهند من حيدر أباد إلى كلكتا، وألزمته الإقامة فيها مخفورا مراقبا حتى انتهت الثورة بدخول انجلترا مصر، فأبيح له الذهاب حيث شاء (في غير الشرق)، فيذكر مستر «بلنت»
Blunt
أنه ذهب إلى أمريكا ليتجنس بالجنسية الأمريكية، وأقام بها أشهرا ولم ينفذ ما اعتزمه - ولم يذكر ذلك غير بلنت من مترجميه ولا الشيخ محمد عبده
1 .
ثم رأيناه في لندن سنة 1883 ولم يطل الإقامة بها، ثم سافر منها إلى باريس، وكان قد كتب إلى تلميذه وصديقه الشيخ محمد عبده، ليوافيه بها من منفاه في بيروت ففعل.
ما برنامجه؟ ماذا ينوي من العمل بعد ما جرب، وبعد ما نال من الأحداث ونالت منه؟
ها هو والشيخ محمد عبده يتشاوران فيما يصنعانه من الإصلاح.
فأما الشيخ محمد عبده فكاد يدب إليه اليأس من الجيل الحاضر، بعد أن خبر الناس في حوادث عرابي وغدرهم، وقلة وفائهم، وتكالبهم على مصالحهم الشخصية، فأشار على السيد جمال الدين أن يذهبا إلى مكان بعيد غير خاضع لسلطان دولة تعرقل سيرهما، ثم ينشئان فيه مدرسة للزعماء يختاران لها التلاميذ من نجباء الناشئين من الأقطار الإسلامية، ومن يتوسمان فيهم الخير، ثم يربيانهم على منهج قويم يختارانه، ويعدانهم للزعامة والإصلاح، قال: «فلا تمضي عشر سنين حتى يكون عندنا كذا وكذا من التلاميذ الذين يتبعوننا في ترك أوطانهم، والسير في الأرض لنشر الإصلاح المطلوب فينتشر أحسن انتشار».
لم يعجب «السيد» هذا الرأي، ورأى فيه خورا في العزيمة، وجنوحا إلى السلامة، ومبالغة في التشاؤم من الحاضر، وقال للشيخ محمد عبده: «إنما أنت مثبط»
2
ووضع «السيد» خطته، وهي إنشاء جريدة عربية في باريس، تنشر منها في العالم الإسلامي، تفهمه حقوقه وواجباته وتشعل وطنيته؛ فكان ذلك. وكان من هذا جريدة «العروة الوثقى» يكون «للسيد» فيها الأفكار والمعاني، وللشيخ محمد عبده التحرير والصياغة، وميرزا محمد باقر يعرب لها عن الصحف الأجنبية كل ما يهم العالم الشرقي، وكان وراء هذه المجلة جمعية سرية منبثة في جميع الأقطار الإسلامية، اختير أعضاؤها من بين المسلمين المثقفين المتحمسين لدينهم. ووضع لها يمين يقسمه من يدخل فيها ويتعهد فيه (بأن يبذل ما في وسعه لإحياء الأخوة الإسلامية، وإنزالها منزلة البنوة والأبوة الصحيحتين، وألا يقدم إلا ما قدمه الدين، وألا يؤخر إلا ما أخره الدين، ولا يسعى قدما واحدة يتوهم فيها ضررا يعود على الدين جزئيا كان أو كليا، وأن يطلب الوسائل لتقوية الإسلام عقلا وقدرة، وأن يوسع معرفته بالعالم الإسلامي من كل نواحيه بقدر ما يستطيع» الخ. وأنشئت للجمعية فروع في البلدان المختلفة، وكل فرع يجتمع للمذاكرة، وفي آخر كل اجتماع يتبرع الأعضاء بشيء من المال في صندوق صغير له ثقب ضيق يضع فيه كل ما تيسر خفية، حتى لا يعلم من أدى أقل ومن أدى أكثر - ولعل هذا الباب هو ما كان ينفق منه على الجريدة والقائمين بها، فقد كانت ترسل أكثر أعدادها مجانا.
أصدرا من الجريدة ثمانية عشر عددا في ثمانية أشهر، ظهر العدد الأول في 15 جمادى الأولى سنة 13/1301 مارس سنة 1884، وظهر للعدد الأخير في 26 ذي الحجة سنة 17/1301 أكتوبر سنة 1884.
ماذا كان الغرض من هذه الجريدة؟
لخصت الجريدة أهم أغراضها في أول عدد من أعدادها فيما يأتي: (1)
بيان الواجبات على الشرقيين التي كان التفريط فيها موجبا للسقوط والضعف، وتوضيح الطرق التي يجب سلوكها لتدارك ما فات.
ويستتبع ذلك بيان أصول الأسباب ومناشئ العلل التي أفسدت حالهم وعمت عليهم طريقهم. وإزاحة الغطاء عن الأوهام التي حلت بهم. (2)
إشراب النفوس عقيدة الأمل في النجاح، وإزالة ما حل بها من اليأس. (3)
دعوتهم إلى التمسك بالأصول التي كان عليها آباؤهم وأسلافهم، وهي ما تمسكت به الدول الأجنبية العزيزة الجانب. (4)
الدفاع عما يرى به الشرقيون عموما والمسلمون خصوصا من التهم، وإبطال زعم الزاعمين أن المسلمين لا يتقدمون في المدنية ما داموا متمسكين بأصول دينهم. (5)
إخبار الشرقيين بما يهمهم من حوادث السياسة العامة والخاصة. (6)
تقوية الصلات بين الأمم الإسلامية، وتمكين الألفة بين أفرادها، وتأمين المنافع المشتركة بينها، ومناصرة السياسة الخارجية التي لا تميل إلى الحيف والإجحاف بحقوق الشرقيين.
أراد السيد أن يدعو إلى إصلاح المسلمين دينيا واجتماعيا وسياسيا. وإذ كان الإسلام تمتزج فيه العقائد بالنظم الاجتماعية، بالنظم السياسية كانت دعوته شاملة لهذه المناحي الثلاثة.
كان المثل الأعلى له حالة المسلمين في عهد الخلفاء الراشدين، من حيث العقيدة والصفات الخلقية والنظام السياسي.
فيرى أنهم كانوا موحدين حقا، معتزين بدينهم، لا تفرقهم المذاهب والنحل، مترابطين برباط الأخوة، فيهم خلق الإباء والشمم، يبذلون أعز شيء في سبيل عقيدتهم وعزتهم، ينشرون بينهم العلم ما استطاعوا، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر في غير هوادة.
ثم دخل الفساد على توالي الزمن من خمسة أبواب: من عقيدة الجبر؛ والخطأ في فهم القضاء والقدر حتى صرفت النفوس عن الجد في الأعمال؛ ومما أدخله الزنادقة على تعاليم الإسلام في القرنين الثالث والرابع، فجعلوا المسلمين شيعا وأحزابا، وأضعفوا قوة الدين بما أدخلوا من تعاليم فاسدة؛ ومما أحدثه السوفسطائية من أفكار، وعدهم الحقائق خيالات تبدو للنظر؛ ومما عمله كذبة المحدثين من وضع أحاديث ينسبونها إلى رسول الله وفيها السم القاتل لروح العمل والإباء، وفيها ما يستوجب ضعفا في الهمم، وفتورا في العزائم، ومن ضعف التربية والتقصير في إرشاد الجمهور إلى أصول دينهم، ونشر العلم بينهم. وزاد في بعض المقالات أسبابا أخرى أهمها تفكك الروابط بين أجزاء الأمة، فلا ترابط بين العلماء بعضهم وبعض، ولا بين العلماء والأمراء، ومنها أن الدين الإسلامي جعل أمته أمة مجاهدة قوية محاربة، يأمرها الله بقوله:
وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ، فلما استهانت بهذا الأمر؛ ولم تعد لكل موقف عدته ذلت بعد عزة وضعفت بعد قوة.
وكان يختار بعض هذه الأسباب ويوسعها تفصيلا، أو يفردها في مقال. كما فعل في مقال القضاء والقدر. وكان من عادته أن يلهب النفوس بأسواط النقريع، ثم يدخل الأمل عليها بأن هذه عوارض يمكن أن تزول ما سلم الأصل، مذكرا دائما بحالة المسلمين في العهد الأول، وعزتهم الأولى.
وكان مثله الأعلى كذلك حكومة إسلامية واحدة تأتم بالإسلام وتعاليمه، ولما رأى أن ليس في الإمكان خضوعها لأمير واحد اكتفى بالدعوة إلى أن ترتبط أجزاؤها بروابط محكمة، ويكون لها مقصد واحد، وتحكم الأقطار كلها بحكومات إمامها القرآن، وأساسها العدل والشورى، واختيار خير الناس لتولي الأمور. يقول في ذلك بعد أن دعا إلى اتفاق الأمم الإسلامية: «لا ألتمس بقولي هذا أن يكون مالك الأمر في الجميع شخصا واحدا، فإن هذا ربما يكون عسيرا، ولكني أرجو أن يكون سلطان جميعهم القرآن، ووجهة وحدتهم الدين، وكل ذي ملك على ملكه يسعى بجهده لحفظ الآخرين ما استطاع، فإن حياته بحياته وبقاءه ببقائه». وكثيرا ما كان يضرب المثل بالإمارات الجرمانية في توحدها بعد تشتتها، ويدعو إلى حلف بين الدول الإسلامية يتزعمه أكبرها وأقواها
3 .
وخشى أن هذا النظام الذي يدعو إليه يثير الشقاق بين المسلمين وغيرهم من أهل الديانات الأخرى في الأقطار الإسلامية، فقال: «لا يظن أحد من الناس أن جريدتنا هذه بتخصيصها المسلمين بالذكر أحيانا ومدافعتنا عن حقوقهم نقصد الشقاق بينهم وبين من يجاورهم في أوطانهم، ويتفق معهم في مصالح بلادهم، ويشاركهم في المنافع من أجيال طويلة، فليس هذا من شأننا، ولا مما ندعو إليه، ولا مما يبيحه ديننا، ولا تسمح به شريعتنا الخ».
وقادة هذا التفكير في نوع الحكومة التي يأملها، والأخلاق التي يرجوها من العزة والشمم والقوة، أن يناهض - في الجريدة - الاحتلال الأجنبي في الأقطار الإسلامية - وخاصة في مصر - بكل قوته، ويؤلب عليه في غير هوادة. وقد شغل هذا أكبر جزء من الجريدة من كتابة مقالات ورواية أخبار وتعليق عليها، واستعمل لهذا الغرض أشد أنواع التعبير، وأعنف أساليب التهييج، واستغل حوادث المهدي في السودان لإثارة الشعور وإهاجة النفوس. واستعمل إلى جانب الجريدة رسلا متخفين يذهبون إلى الأقطار المختلفة مزودين بالتعاليم التي لا يستطيع نشرها في الجريدة، فرسول إلى موسكو، ورسول إلى الحجاز، حتى أرسل الشيخ محمد عبده مرة - وهو محكوم عليه بالنفي - إلى مصر وتونس.
كان من نتيجة ذلك أن أحس من بيده السلطة على الحكومات الهندية والمصرية الخطر من الجريدة، فأمر بمنعها من الدخول، وأصدرت وزارة نوبار قرارا بالتشدد في منعها.
فلما أحست الجريدة شدة المراقبة، واستحالة وصول الأعداد إلى أصحابها إلا في القليل النادر، وفي كثير من التحايل احتجبت.
احتجبت والأسى يحز في نفس القائمين عليها؛ فلا من دعوهم لبوا الدعوة فثاروا يطلبون أن يكون أمرهم بيدهم، ولا الجريدة استطاعت أن تستمر في دعوتها حتى تؤدي رسالتها.
وبهذا انتهت مرحلة أخرى من حياة «السيد» مدتها ثلاث سنين قضاها في باريس كلها عناء، وكلها جهاد، انتهت بما أحزنه وخيب أمله، وإن كانت المعاني لا تنعدم كما أن المادة لا تنعدم.
السيد جمال الدين الأفغاني (4)
حادثان هامان حدثا في السنين الثلاث التي كان فيها «السيد» في باريس، أحدهما اتصاله بالفيلسوف الشهير «رينان» وإعجاب كل منهما بالآخر ودخولهما معا في معركة - وإن لم تكن حامية - حول الإسلام والعرب؛ وقد فتحت صدرها لهذه المعركة جريدة «الديبا» الفرنسية الشهيرة.
فقد ألقى الأستاذ «رينان» في السربون محاضرة دارت حول نقط ثلاث: (1)
خطأ المؤرخين في قولهم علوم العرب، وفنون العرب، وتمدن العرب، وفلسفة العرب، مع أن هذه الأشياء نتاج الأمم غير العربية أكثر منه نتاجا للأمة العربية، فالتمدن أكثر من نتاج الفرس، والفلسفة أكثرها من نتاج النصارى النسطوريين والوثنيين الحرانيين، والفلاسفة الذين ظهروا في دولة الإسلام كالكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد لم يكن منهم من العرب إلا الكندي، فنسبة الحضارة والمدنية والعلم والفلسفة إلى العرب خطأ، وعدم دقة في التعبير. (2)
أن الإسلام لا يشجع على العلم والفلسفة والبحث الحر، بل هو عائق لها، بما فيه من اعتقاد في الغيبيات وخوارق العادات والإيمان التام بالقضاء والقدر. ومن اشتغل بالفلسفة من المسلمين اضطهد أو أحرقت كتبه أو كان في حماية خليفة أو أمير مؤمن في الظاهر غير متدين في الباطن، ومع ذلك فما وصل إليه هؤلاء في الفلسفة ليس له قيمة كبيرة، فهو ليس إلا فلسفة اليونان مشوهة، والفلسفة التي أخذناها عن المسلمين في أسبانيا كانت فلسفة رديئة الترجمة، مشوهة الأصل، لم نستفد منها الفائدة الحقة إلا بعد ترجمتها ترجمة جديدة من منابعها الأصلية. ومع هذا يقول «رينان»: «إن في دين الإسلام تعاليم ومبادئ عالية القيمة رفيعة المقام، وما دخلت في حياتي مسجدا من مساجد المسلمين إلا شعرت بجاذبية نحو الإسلام، بل وتأسفت ألا أكون مسلما ...» ولكنه حجب العقل عن التأمل في حقائق الأشياء ... وعقول أهل البلاد الإسلامية قاصرة، وما يتميز به المسلم هو بغضه للعلوم واعتقاده أن البحث كفر، وقلة عقل لا فائدة فيه. (3)
أن العنصر العربي بطبيعته أبعد العقول عن الفلسفة والنظر فيها؛ فالزمن الذي كان يسود فيه العنصر العربي - وهو عهد الخلفاء الراشدين - لم تكن فيه فلسفة، ولم يظهر البحث العلمي ولا الفلسفة إلا حين انتصرت الفرس ونصروا العباسيين على الأمويين وسلموهم زمام الملك، ونقلوا الخلافة إلى العراق، مهد التمدن الفارسي القديم.
وختم محاضرته بالإشادة بقيمة العلم ودعوة الأمم كلها شرقية وغربية إلى الهجوم عليه، «فالعلم روح كل هيئة اجتماعية، وبه تتقدم الأمم، وبه يتحقق العدل، وبه يستخدم العقل القوة ... وهو لا يساعد إلا على التقدم المؤسس على حرمة الإنسان وحريته».
نشرت هذه المحاضرة في جريدة «الديبا» فأثارت خواطر المسلمين والمستشرقين والباحثين في شؤون المسلمين.
فكان ممن رد عليه الأستاذ «مسمر» رئيس البعثة المصرية بفرنسا إذ ذاك، وفي رده كاد يسلم بالمسألة الأولى، وهي أن المدنية العربية ليست مدنية العرب وحدهم بل مدنية الأمم المختلفة التي دخلت في الإسلام، وفي المسألة الثانية قال إنه ليس في دين الإسلام وتعاليمه ما يمنع المسلمين من التقدم العلمي، وقد تقدم المسلمون في عصور مختلفة ولم يمنعهم دينهم من أن يتفوقوا على المسيحيين في بعض تاريخهم، وكل سائح الآن يسيح في البلاد الإسلامية يشعر بنهضة الشرق وأخذه بأساليب التقدم والإصلاح، من غير أن يصدهم دينهم عن ذلك. ثم قال: «ومن الغريب أنه قبل أن يلقى المسيو رينان خطبته بيومين ألقى بعض العلماء العظام أمام المحفل نفسه محاضرة اشتملت على مكتشفات العرب في علم الحياة - وقد نشرت هذه المحاضرة في المجلة العلمية ... وهي محاضرة ترشدنا إلى حقيقة التمدن الإسلامي في القرون المتوسطة، فلو اطلع المسيو رينان عليها وعلى ما كتبه «سديو» و«دوزي» في مؤلفاتهما عن العلوم والآداب والفنون والصنائع المنسوبة إلى العرب، وعرف ما عملته هذه الأمة في العلم، مما لا يحصى عدده، بينما كانت أوروبا منغمسة في التوحش والجهالة ما نسب إلى العرب ما نسب، وهذا العلم تقدم بمعونة الدين لا رغما عن الدين. فإذا كان الإسلام سمح للنساطرة والمجوس واليهود في دولته بهذا التقدم العلمي الذي ذكره مسيو رينان فلماذا لا يكون سببا في حمل ملايين المسلمين الآن على الأخذ بأسباب العلم - وأما المسألة الثالثة فلم يعرها مسيو مسمر كبير اهتمام في الرد.
وقد تحمس الشباب المسلم في باريز لمقال رينان ورد مسمر فاجتمعوا وكلفوا أحدهم حسن عاصم «حسن باشا عاصم فيما بعد» تعريب المحاضرة والرد عليها فعربهما، وقال في أول ذلك: «لما كان الذب عن الدين فرضا على الإنسان، وحب الوطن من الإيمان، اجتمع جم غفير من طلبة العلم المصريين المقيمين بفرنسا وكلفوا أخاهم العبد الفقير «حسن عاصم» بتعريب الخطبة التي ألقاها رينان ... طعنا في دين الإسلام والأمة العربية، وبتعريب ما كتبه الفيلسوف الكبير صاحب الفكر الصائب المسيو مسمر ... والغرض أن نقف على الطعن والرد كل من كان على دين الإسلام أو من الأمة العربية، ويمكنهم تفنيد كلام المسيو رينان فيفعلون إظهارا للحق»؛ كما عرب محمد مختار أحد طلبة العلوم الطبية بباريس المحاضرة التي أشار إليها مسيو مسمر.
بعد بضعة أسابيع من نشر محاضرة رينان رد الأستاذ جمال الدين عليه في «الديبا» أيضا، ولكن كان رده هادئا في بعض نقطه، فلعله لذلك لم يعجب حسن عاصم ولا إخوانه، ولذلك لم يهتموا بترجمته إلى العربية أو نشره ، فقد مدح رينان على بحثه وإنصافه وقال إنه استفاد من محاضرته استفادة كبيرة، ثم قال: «إن المحاضرة تشتمل على نقطتين أساسيتين: (1)
أن الديانة الإسلامية كانت - بما لها من نشأة خاصة - تناهض العلم. (2)
أن الأمة العربية غير صالحة بطبيعتها لا لعلوم ما وراء الطبيعة ولا للفلسفة. «فأما عن النقطة الأولى، فإن المرء ليتساءل، بعد أن يقرأ المحاضرة عن آخرها، أصدر هذا الشر عن الديانة الإسلامية نفسها أم كان منشؤه الصورة التي انتشرت بها الديانة الإسلامية في العالم، أم أن أخلاق الشعوب التي اعتنقت الإسلام أو حملت على اعتناقه بالقوة، وعاداتها وملكاتها الطبيعية هي جميعا مصدر ذلك؟ لا ريب أن قصر الوقت المخصص للمسيو رينان قد حال دون إجلائه هذه النقطة.
ثم أخذ يبين أن ما وقع للمسلمين وقع مثله في الأديان الأخرى، «فرؤساء الكنيسة الكاثوليكية المبجلون لم يلقوا أسلحتهم بعد كما أعلم، وهم عاكفون على محاربة ما يسمونه بالتدليس والضلال (يعني العلم والفلسفة)»
1 .
قال: «وأما النقطة الثانية فالكل يعلم أن الشعب العربي خرج من حال الهمجية التي كان عليها وأخذ يسير في طريق التقدم الذهني والعلمي، ويفل السير بسرعة لا تعادلها إلا سرعة فتوحاته السياسية، وقد تمكن في خلال قرن من التكيف بالعلوم اليونانية والفارسية ... فتقدمت العلوم تقدما مدهشا بين العرب، وفي كل البلدان التي خضعت لسيادتهم، وقد كانت روما وبيزنطة المدينتين الرئيسيتين لعلوم اللاهوت والفلسفة، بل مبعث أنوار المعارف الإنسانية كلها ... ثم جاء الوقت الذي وقف فيه علماء هاتين المدينتين عن البحث، وتهدمت فيه نصبهم التي أقاموها للعلم، ودرجت كتبهم القيمة في طي النسيان، وقد كان العرب في ذلك الجهل حين شرعوا يتناولون ما تركته الأمم المتمدنة، فأحيوا تلك العلوم الندثرة ورقوها وخلعوا عليها بهجة لم تكن لها من قبل، أوليس هذا دلالة بل برهانا على حبهم الطبيعي للعلوم؟
صحيح أن العرب أخذوا عن اليونان فلسفتهم كما أخذوا عن الفرس ما اشتهروا به. بيد أن هذه العلوم التي أخذوها بحق الفتح قد رقوها ووسعوا نطاقها ووضحوها، ونسقوها تنسيقا منطقيا، وبلغوا بها مرتبة من الكمال تدل على سلامة الذوق وتنطوي على التثبت والدقة النادرين. وقد كان الفرنسيون والإنجليز والألمان لا يبعدون عن رومة وبيزنطة بعد العرب عنهما، وكان من السهل عليهم أن يستغلوا كنوز علوم تلك المدينتين، ولكنهم لم يفعلوا، حتى جاء اليوم الذي ظهر فيه منار المدنية العربية على قمة جبال البرانس يرسل ضوءه وبهاءه على الغرب، فأحسن الأوروبيون إذ ذاك استقبال أرسطو بعد أن تقمص الصورة العربية، ولم يكونوا يفكرون فيه وهو في ثوبه اليوناني على مقربة منهم أوليس هذا برهانا آخر ناصعا على مزايا العرب الذهنية وحبهم الطبيعي للعلوم؟ «وبينما يسلم مسيو رينان بأن البلدان الإسلامية في غضون خمسة قرون من سنة 775م إلى أواسط القرن الثالث عشر كانت تحتوي علماء ومفكرين عظاما، وأن العالم الإسلامي إذ ذاك كان يفوق العالم المسيحي في الثقافة الذهنية، إذ يقول إن أكثر الفلاسفة الذين شهدتهم القرون الأولى للإسلام كانوا كنابهي السياسيين من أصل حراني، أو أندلسي، أو فارسي، أو من نصارى الشام. ولست أريد أن أغمط علماء الفرس صفاتهم الباهرة، ولا أن أغض الطرف عن الدور الجليل الذي لعبوه في العالم الإسلامي، ولكن أرجو أن يسمح لي أن ألاحظ أن الحرانيين كانوا عربا، وأن العرب لما احتلوا أسبانيا لم يفقدوا جنسيتهم بل ظلوا عربا، وأن اللغة العربية كانت إلى ما قبل الإسلام بعدة قرون لغة الحرانيين وكونهم قد حافظوا على ديانتهم القديمة وهي «الصابئة» ليس معناه أنهم لم ينتموا إلى الجنسية العربية، وقد كانت أكثرية نصارى الشام عربا غسانيين اهتدوا بهدي النصرانية. أما ابن باجة، وابن رشيد، وابن طفيل فلا يمكن القول بأنهم أقل عربية من الكندي بدعوى أنهم لم يولدوا في جزيرة العرب، وخصوصا إذا اعتبرنا أن لا سبيل إلى تمييز أمة عن أخرى إلا بلغتها. «ثم ماذا يكون لو قصرنا نظرنا على الأصل الذي ينتمي إليه العظيم ولم نأبه للنفوذ الذي سيطر عليه، والتشجيع الذي لقيه من الأمة التي عاش فيها؟ لو فعلنا ذلك لقلنا إن نابليون لا ينتمي إلى فرنسا، ولما صح لألمانيا أو إنجلترا أن تدعي كلتاهما الحق في العلماء الذين استوطنوها بعد أن رحل أصولهم إليها من بلدان أخرى».
ثم تعرض لأسباب انطفاء هذه الشعلة، وختم رده بقوله: «إن العقل لا يوافق الجماهير، وتعاليمه لا يفقهها إلا نخبة من المتنورين، والعلم على ما به من جمال لا يرضي الإنسانية كل الإرضاء، وهي التي تتعطش إلى مثل أعلى، وتحب التحليق في الآفاق المظلمة السحيقة التي لا قبل للفلاسفة والعلماء برؤيتها أو ارتيادها».
رد عليه الأستاذ رينان وبادله مدحا بمدح، وإعجابا بإعجاب، وقال: «تعرفت بالشيخ جمال الدين من نحو شهرين فوقع في نفسي منه ما لم يقع لي إلا من القليلين، وأثر في تأثيرا قويا؛ وقد جرى بيننا حديث عقدت من أجله النية على أن تكون علاقة العلم بالإسلام هي موضوع محاضرتي في السربون ... والشيخ جمال الدين نفسه خير دليل يمكن أن نسوقه على تلك النظرية العظيمة التي طالما أعلناها، وهي أن قيمة الأديان بقيمة من يعتنقها من الأجناس، وقد خيل إلي من حرية فكره، ونبالة شيمه، وصراحته - وأنا أتحدث إليه - إني أرى أحد معارفي من القدماء وجها لوجه، وأني أشهد ابن سينا، أو ابن رشد، أو واحدا من أولئك الملحدين العظام الذين ظلوا خمسة قرون يعملون على تحرير الإنسانية من الإسار.
ثم قال: «ولست أرى في البحث النفيس الذي عالجه الشيخ إلا نقطة يصح أن نختلف فيها حقيقة ... فلسنا بالتأكيد ننكر ما لرومة على تاريخ الإنسانية من نفوذ، ولا ما كان للعرب من نفوذ، ولكن هذه التيارات الإنسانية العظيمة في حاجة إلى تحليل؛ إذ ليس كل ما كتب باللاتينية يزين تاج شهرة روما، ولا كل ما كتب باليونانية من عمل اليونانيين، ولا كل ما كتب بالعربية نتاج عربي، ولا كل ما نشأ في بلد مسيحي من تأثير المسيحية، ولا كل ما ظهر في البلدان الإسلامية من ثمار الإسلام ... «لقد خالني الشيخ غير منصف في أني لم أوف الكلام حقه، ولم أقل في المسيحية ما قلته في الإسلام، وأن الاضطهاد بين المسيحيين لا يقل عما كان بين المسلمين، وهذا قول الحق؛ فجالليو لم يلق من الكاثوليك خيرا مما لقيه ابن رشد من المسلمين ... وإذا كنت لم أطل القول في هذه الحقيقة فلأن آرائي في هذا الشأن معروفة لا حاجة بي إلى تكريرها على مسمع محفل علم بكل أعمالي وآرائي ... ولست أريد من المسيحي ترك عقيدته المسيحية ولا من المسلم ترك الإسلام؛ ولكن أريد من المسيحيين والمسلمين المتنورين أن يهتموا بالعلم اهتماما لا تعوقه العقيدة، وقد تم هذا في نصف البلدان المسيحية ونرجو أن يتم مثله في الإسلام. وإن يوما يتم ذلك فيه لما أرحب به أنا والشيخ ونطرب له جميعا».
واستمر في تأييد رأيه الذي قاله في المحاضرة ثم ختم مقاله بقوله: «ويلوح لي أن الشيخ جمال الدين قد زودني بطائفة من الآراء الهامة تعينني على نظريتي الأساسية وهي أن الإسلام في النصف الأول من وجوده لم يحل دون استقرار الحركة العلمية في الأراضي الإسلامية، ولكنه في النصف الثاني خنق الحركة العلمية وهي في خظيرته فكان هذا من سوء حظه»
2 .
وهذه النتيجة الأخيرة - من غير شك - فيها كثير من التعديل لآراء رينان السابقة، وهي تؤدي حتما إلى أن ذلك ليس من طبيعة الإسلام، ولو كان من طبيعته ما شجع الحركة العلمية في أوله ولا آخره.
وإلى هنا أسدل الستار عن هذه الرواية التي سيعاد تمثيلها - على وجه أشد - بين مسيوها لوتو والشيخ محمد عبده. وما أقوى الردود! ولكن أقوى منها رد المسلمين عليها بتبؤئهم مكانة عليا في العلم والفلسفة. •••
وأما الحادثة الثانية فسياسية، ذلك أن بعض ساسة الإنجليز - وقد أحسوا حملة جريدة العروة الوثقى وتهييجها الرأي العام على انجلترا - رأوا أن يتفاهموا مع القائمين عليها فبعثوا إلى السيد جمال الدين في ذلك، فأرسل مندوبه الشيخ محمد عبده وقال: «رأينا أن يذهب الشيخ محمد عبده (المحرر الأول لهذه الجريدة) إلى لندرة إجابة لدعوة من يرجى منهم الخير لملتنا، ومن يؤمل فيهم حسن النية (إشارة إلى مستر بلنت) ...
قابل محرر الجريدة كثيرا من رجال السياسة الإنجليزية وحادثهم محادثات طويلة في المسألة المصرية، ومن هذه المحادثات ما نشر إذ ذاك في الجرائد الإنجليزية، واكتفى السيد جمال الدين في العدد الرابع عشر من العروة الوثقى بذكر محادثات كانت بين الشيخ محمد عبده ووزير الحربية الإنجليزية لورد «هرتنكنن» خلاصتها أن وزير الحربية سأل الشيخ محمد عبده: ألا يرضى المصريون أن يكونوا في أمن وراحة تحت سلطة الإنجليز، وهي خير من سلطة الأتراك ومن جاء على أثرهم، خصوصا وأن الجهالة عامة في أقطار مصر، وأن كافتهم لا يفرق بين حاكم أجنبي وحاكم مصري؟!
ورد الشيخ محمد عبده بما خلاصته أن في المصريين من يحبون أوطانهم حب الشعب الإنجليزي لبلاده، وأرض مصر من زمن محمد علي انتشرت فيها العلوم والمعارف، وأخذ كل منها نصيبا على قدره، ولا تخلو قرية مصرية من قارئين وكاتبين يقرءون الجرائد العربية ويوصلون ما فيها إلى من لم يقرأ، والنفرة من ولاية الأجنبي من طبيعة البشر، فضلا عما لتعاليم الإسلام في هذا الشأن
3 .
وقد أخذت الجريدة هذا الحديث وسيلة للتهييج وإثارة الشعور. وعلى كل حال فلم تأت هذه الأحاديث بنتيجة من التفاهم، واستمرت الجريدة في خطتها حتى حجبت كما أسلفنا.
السيد جمال الدين الأفغاني (5)
ماتت جريدة العروة الوثقى، ولكن لم يمت أثرها، فقد أحيت روح كثير من المتنورين في العالم الشرقي، وأيقظتهم من سباتهم، وبصرتهم بسوء حالهم مع الاحتلال، وعلمتهم كيف يكتبون ويخطبون ويدعون إلى الشعور بالقومية الذي سمي بعد بالاستقلال؛ فإن قلنا إنها كانت أول شرارة في الشرق لإلهاب الشعور بالكراهية للحكم الأجنبي لم نبعد، فقد كتبت في الجامعة الإسلامية والرابطة الشرقية والمسألة المصرية والسودانية والهندية، وعالجتها كلها في حماسة وتهييج بالغين، ونظرت إلى كل ذلك في ضوء السياسة الدولية العامة، والتفتت إلى الشعوب تحركها وتثير شعورها، والحكومات المختلفة تبين لها أضرارها من احتلال الشرق؛ وهكذا وهكذا.
لم تتأثر بالدعوة وقتئذاك الشعوب ولا الحكومات الأجنبية ولا المحلية، وإنما تأثرت بها طبقة قليلة من المستنيرين في الأقطار الشرقية المختلفة تأثرا كان نواة للحركات الوطنية بعد. ولست أزعم أنها كانت النواة الوحيدة، ولكن كانت النواة الأولى.
على كل حال عطلت الجريدة وانفرط عقد التأمين بأمرها. فالشيخ محمد عبده وميرزا باقر يعودان إلى بيروت، والسيد جمال الدين إلى فارس بناء على دعوة من الشاه ناصر الدين. تلقاه الشاه والعلماء والأمراء في حفاوة، ولكن سرعان ما دبت الغيرة إلى نفس الشاه وأحس خطره فتنكر له، فاستأذن السيد في الرحيل ورحل إلى سان بطرسبرج عاصمة روسيا، وأقام نحو ثلاث سنين من سنة 1886 - سنة 1889.
لماذا اتجه إلى روسيا وماذا عمل في هذه المدة؟
إن معلوماتنا عنه في هذه الفترة قليلة، وأكبر الظن أنه شغل فيها بشيئين: (1)
حال المسلمين الروسيين وعددهم نحو ثلاثين مليونا وكانوا يعاملون في عهد القياصرة معاملة ظالمة جائرة، فلعله حاول باتصاله برجال الحكم إذ ذاك أن يلطف من ظلمهم ويخفف من جورهم. وقد عرف عنه أنه سعى عند القيصر في طبع المصحف وبعض الكتب الدينية لمسلمي الروس فأذن له في ذلك. (2)
ما كان لروسيا من أثر كبير في سياسة الشرق ومناهضتها للسياسة الإنجليزية في آسيا، وضغطها الشديد على الدولة العثمانية، والعمل على إتعابها، وتقطيع أوصالها؛ ومع هذا التنافس والمخاصمة على الشرق بين انجلترا وروسيا فإن كثيرا من السياسيين يرون أن هذه المنافسة أفادت إنجلترا وفرنسا وإيطاليا أكثر مما أفادت روسيا. فلولا ضغط الروس على الدولة العثمانية ما سهل على فرنسا الاستيلاء على الجزائر وتونس، ولا على إيطاليا الاستيلاء على طرابلس، ولا على انجلترا الاستيلاء على مصر.
على كل حال انغمس «السيد» أثناء إقامته في روسيا في السياسة الدولية وحرض روسيا على سياسة إنجلترا. ونشر في الجرائد الروسية مقالات في السياسة الأفغانية، والفارسية، والعثمانية، والروسية، ونقد السياسة الإنجليزية، وقابل القيصر فسأله عن آرائه في الشرق، ثم سأله عن سبب خلافه مع الشاه، فقال إنه الحكومة الشورية، أدعو إليها ولا يراها. قال القيصر: الحق مع الشاه؛ فكيف يرضى ملك أن يتحكم فيه فلاحو مملكته. قال السيد: أعتقد يا جلالة القيصر أنه خير للملك أن تكون ملايين رعيته أصدقاءه من أن يكونوا أعداءه يترقبون له الفرص. فلم يعجب القيصر هذا الحديث، وقام: علامة الإذن له بالانصراف.
ثم سافر إلى أوروبا على نية أن يزور معرض باريس سنة 1889، وفي أثناء سفره من روسيا إلى باريس نزل بمونيخ في ألمانيا، وتقابل مع شاه الفرس ناصر الدين، فعرض عليه العودة معه إلى فارس، واعتذر إليه عما كان، ووعده أن يمهد له طريق الإصلاح الذي يقترحه، فرفض السيد أولا وقبل أخيرا.
ها هو السيد في طهران، يلتف حوله جمهور من العلماء والعظماء، ويتبلور فيه ما في نفوس الخيرين من ميل إلى الإصلاح، فيسعى هو ومن التف حوله إلى وضع المشروعات في إصلاح الإدارة، وإقامة العدل، وتقنين القوانين؛ وفوق ذلك تنظيم الحكم النيابي للبلاد. والحركة تشتد وتمتد، والشاه يظهر الاستعداد لقبول هذه المطالب، والنفوس العاملة تفرح لقرب النصر، والأمل في الخير، ولكن سرعان ما اكفهر الجو وأنذر بالصواعق؛ فقد وسوس الصدر الأعظم للشاه أن الحكم النيابي يسلبه سلطانه، والنظام الإداري والقانوني المقترح أعلى من مستوى الناس، ونحو ذلك من مقالات السوء التي سمعنا مثلها في مصر أيام إقامة «السيد» فيها، وفي تركيا أيام مدحت، وفي كل مكان وزمان يدور فيهما النزاع بين دعاة الإصلاح ودعاة الرجعية.
فتجهم الشاه له وأحس «السيد» الخطر منه، فخرج إلى مقام «عبد العظيم» أحد أحفاد الأئمة - على بعد نحو عشرين كيلو من طهران - والفرس يعدون مقامه حرما من دخله كان آمنا. اتخذه السيد مركزا لدعايته وخطبه وتهييج الرأي العام لطلب الإصلاح، وبعض العلماء والوزراء والضباط يحجون إليه ليسمعوا خطبه، ويصغوا إلى آرائه، ويعودون وقد شحنوا قوة كهربائية بقدر تحملهم للشحنة، وكلهم ثائر هائج يريد الإصلاح. وأقام على ذلك أشهرا والبلاد يزداد غليانها، ومركز الشاه والحاشية يزداد خطرا، والمنشورات تذاع، والكتب الغفل من الإمضاء تصل إلى الشاه بالعدل أو العزل، وبالحكم النيابي أو تولية غيره.
فما راع «السيد» إلا خمسمائة جندي مسلحون يهجمون عليه غير حافلين بحرم الشيخ عبد العظيم ولا بمرض السيد مرضا شديدا. وكما يصف هو : «سحبوني على الثلج إلى دار الحكومة بهوان وصغار وفضيحة لا يمكن أن يتصور دونها في الشناعة ... ثم حملني زبانية الشاه - وأنا مريض - على برذون، مسلسلا، في فصل الشتاء وتراكم الثلوج والرياح الزمهر يرية؛ وساقتني جحفلة من الفرسان إلى خانقين»، (ومنها سافر إلى البصرة) يعاني ألم المرض الذي اشتد عليه من هذا الحادث وكاد يودي به لولا لطف الله.
فلو رأيته نم لرأيت رجلا أكلت منه حمى الحمية حمى المرض، وقد تجمع دمه في رأسه يحتقن، وفي وجهه يلتهب، وفي عينه تقذف بالشرر، كيف يهان هذا الهوان وهو الرفيع النسب، العزيز الحسب؛ العظيم الجاه، العالي المنزلة في دينه وشرفه وعقله، ورغبته في الخير، كيف يرجوه الشاه أن يأتي بلده ويعده أن ينفذ إصلاحه، ويعلي كلمته، ثم يعامله معاملة العبد يطرد، والذليل يصفع. والحقير يهان.
لقد آلى أن ينتقم منه شر انتقام، وألا تهدأ نفسه حتى ينزله عن عرشه، وقد بر فيما أقسم. فأخذ يكتب إلى علماء الدين المسموعي الكلمة يهيجهم على الشاه، ولا يتورع أن يصفه بأقبح الصفات، ويبين ضرره على الأمة، ويثير عاطفتهم الدينية، ليشغبوا عليه حتى يخلع. وكان الشاه قد تعاقد مع شركة إنجليزية على احتكارها «التنباك» فانتهز الفرصة وأبان الضرر على الأمة من هذا الاحتكار، وأهاب برجال الدين أن يذودوا عن وطنهم، فاستمعوا إليه، وهاجوا على الشاه، وهيجوا عليه، حتى اضطر إلى فسخ العقد، ودفع نصف مليون ليرة تعويضا للشركة، فكانت هذه أول خطوات الانتقام .
ثم لما عادت إليه عافيته سافر إلى لوندرة، وحاضر نبلاء الإنجليز وكبراءهم في مصائب الشاه على فارس، وساهم في إخراج مجلة شهرية اسمها «ضياء الخانقين» تصدر بالعربية والإنجليزية، كان يكتب فيها مقالات بإمضاء «السيد الحسيني» يفضح فيها حكومة الشاه، وسوء الإدة، وانتشار الرشوة، وتعذيب الأهالي، ويحرض فيها العلماء على عمل صغير، وهو أن يصدروا فتوى بعدم التعاون مع الشاه، فإذا هو طريد، ويختار من الألفاظ والجمل في مدح العلماء وقوتهم أضخمها وأقواها، وفي ذم الحكومة والشاه أهجاها وأقساها.
وهذه زلة كبيرة من السيد جمال الدين دعاة إليها حدته وحبه للانتقام؛ إذ كيف أجاز لنفسه التشهير بحكومة شرقية إسلامية في بلاد أجنبية تتخذ من أقواله حجة للتدخل الذي طالما حاربه في «العروة الوثقى»، وكيف استباح أن يفضح هذه العيوب، ويغسل هذه الأثواب القذرة على مشهد من كل الناس.
لقد كان مدحت باشا في موقف كهذا أنبل من السيد وأكرم، إذ نفاه «عبد الحميد»، وأخذه رجاله من دست الوزارة إلى السفينة، لا مال ولا ثياب ولا أهل. ومع هذا فما وضع رجله في أوروبا حتى أخذ يسعى في دفع الشر عن أمته، ويتكلم الكلام الكثير في فضل الأتراك على أوروبا، ولا ينطق بكلمة في ذم عبد الحميد الذي عامله معاملة الشاه لجمال الدين. الحق أنها غلطة من غلطات «السيد» دعا إليها حدة مزاجه.
لقد رجاه سفير فارس أن يكف عن الطعن في الشاه وعرض عليه المال الكثير، فقال: لا، حتى يلقى الشاه منيته.
تجمع عند السلطان عبد الحميد من الأسباب ما حمله على أن يدعو «السيد» إلى الآستانة، فهو يخشى أن ينضم إلى حزب تركيا الفتاة، فيكون قوة كبرى إلى قوتهم، خصوصا وقد كان السيد اجتمع في باريس ببعض رجال هذه الجمعية، وأطلعوه على خطتهم في إصلاح الدولة العثمانية فراقه مذهبهم، وشجعهم على عملهم، وسمي جمعيتهم «الجمعية الصالحة» وبلغ السلطان ذلك عنه. ثم إن الشاه وسط السلطان في كف أذى جمال الدين عنه، لهذا وذاك رجاه السلطان عبد الحميد أن يزور الآستانة فأبى، ثم سلط عليه حيله ومكايده، ووعده ومناه، وأطعمه وأمله حتى قبل، وما إن وضع رجله في الآستانة حتى كان في قفص من ذهب أحكم بابه، لقد وعده السلطان أن له حرية الخروج من الآستانة إذا شاء، ولكن كان كل ذلك خدعة.
أمر السلطان عبد الحميد باستقباله استقبالا حسنا، وأجرى عليه 75 ليرة شهريا، وأنزله بيتا ظريفا في نيشان طاش، بالقرب من يلدز، وجعل تحت أمره عربة وخدما وحشما، بعضهم للخدمة والتجسس، وأحاطه بكل أنواع الرعاية المادية.
لقد خيل إليه أنه بمعونة السلطان يستطيع أن يوسع دائرة إصلاحه؛ فيضع خطته لجامعة إسلامية، يؤلف بها بين فارس والأفغان وتركيا وولاياتها بنوع من الاتحاد أو الحلف، ثم يرسم منهج إصلاح الإدارة في الدولة العثمانية وإصلاح التعليم، وفاته أن جو الآستانة في عهد عبد الحميد لا يصلح أن تنمو فيه بذرة صالحة، وكان له في مدحت وأشباهه العظة البالغة. ولقد زار الآستانة الشيخ محمد عبده بعد وفاة السيد وفي عهد عبد الحميد، فقال فيها: «إنه لم ير بيئة في العالم - ولم يكن يعقل وجود بيئة - كالآستانة في سوء تأثيرها في العقل والفكر والقلب، وإن ذهنه فيها كان ممسوحا كأنه لم يكن فيه شيء من العلوم والآراء، ولهذا كان أحرار الترك معذورين في شرودهم منها، وتوطين أنفسهم على كل ما يمكن أن يلقاه الإنسان من ضروب البلاء والمحن».
قابله السلطان في يلدز، فرأى منه شخصية غريبة جريئة في القول والحركة جرأة لم يشهدها من أحد قبل. يطلب منه السلطان أن يترك مهاجمة الشاه فيقول «السيد»: إني لأجلك قد عفوت عنه، فيرتاع السلطان لمثل هذا القول - والسيد في حضرته يلعب بحبات السبحة، فإذا لفت نظره رئيس المابين إلى ذلك بعد خروجه قال له: «إن السلطان يلعب بمستقبل الملايين من الأمة، أفلا يحق لجمال الدين أن يلعب بسبحته كما يشاء»؟! فيفزع رئيس المابين ويهرب من سماعه هذه الكلمة خشية أن يكون قد سمعها أحد.
لقد تحدث إلى السلطان كذلك في الحكم الشورى للدولة العثمانية، فخدعه السلطان بتظاهره بحسن الاستعداد له، وفرح السيد بهذا التظاهر، واتفق معه على العمل لتكوين الجامعة الإسلامية، وعرض عليه السلطان منصب شيخ الإسلام فأبى إلا إذا عدل النظام من أساسه أولا. وكرر مقابلته للسلطان والحديث إليه، وكون أخيرا فكرة عن السلطان عبد الحميد بأنه ذكي واسع الاطلاع على السياسة الأوربية وألاعيبها، واسع الحيلة في العمل على ضرب بعض الدول ببعض، ولكنه جبان يفسد عليه جبنه ذكاءه ومعرفته.
كانت المدة الأولى من إقامته في الآستانة محفوفة بعطف السلطان عليه ولو ظاهرا - يزوره السيد ويشير عليه بالإصلاح، قال له مرة: «خذ بحزم جدك السلطان «محمود» وأقص الخائنين من خاصتك الذين يكتمون عنك حقائق ما يجري في الولايات، وخفف الحجاب عنك، واظهر للملأ ظهورا يقطع من الخائنين الظهور، وأعتقد أن نعم الحارس الأجل
فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون .
ولكن ذهب كل ذلك مع الريح، ووجد له في الآستانة خصم لدود، هو أبو الهدى الصيادي الذي أتقن من الحيل والدهاء والدسائس والمؤمرات والغلبة على عقل السلطان ما لا ينفع معه إخلاص جمال الدين وصراحته ونصحه، ففسدت حياة السيد، وفسد ما بينه وبين السلطان، وضاع كل أمل له في التعاون معه على الإصلاح، وأصبح يقول في مجالس خاصته: «إن هذا السلطان سل في رئة الدولة». واقتصرت قيمة السيد مدة إقامته في الآستانة - وهي أربع سنين وأشهر - على ما كان يلقيه على زواره وسماره من أحاديث وآراء، إلى دسيسة بين حين وآخر تحاك حوله، ويصرف الزمن في نقضها.
وكل تراثنا منه في هذه الفترة بعض من أحاديثه اللطيفة وآرائه الطريفة
1
وتحريكه عقول سامعيه إلى التفكير الحر في الإصلاح وفي الشؤون الاجتماعية.
في هذه الفترة كانت تظهر من أحاديثه آثار الأسف والحزن، إذ يستعرض ماضيه فيرى ما كان منه من جهاد طويل في تحريك الشعوب الإسلامية ثم لم ينبض لها عرق، وفي رجال عقد عليهم الأمل ثم غدروا، وفي شاد خان، وفي جريدة عطلت، وفي سلطان لا أمل فيه، وفي بيئة خانقة. ماذا في يده بعد حياة طويلة قضاها في الكفاح وفي النفي، وفي الحبس، وفي الطرد، وفي التفكير والتحرير، وفي إيقاظ العقول النائمة والنفوس الخائرة؟ لا شيء إلا أنه أسد في حديقة الحيوانات، ينشد حرية نفسه فلا يجدها، بعد أن كان ينشد حرية الأمم الإسلامية كلها ويأمل أن يجدها.
يزوره شكيب أرسلان، ويدور الحديث حول ما روي من أن العرب عبروا المحيط الأطلانطيقي قديما، وكشفوا أمريكا، فيقول السيد: «إن المسلمين أصبحوا كما قال لهم الإنسان كونوا بني آدم أجابوه إن آباءنا كانوا كذا وكذا، وعاشوا في خيال ما فعل آباؤهم، غير مفكرين بأن ما كان عليه آباؤهم من الرفعة لا ينفي ما هم عليه من الخمول والضعة. إن الشرقيين كلما أرادوا الاعتذار عما هم فيه من الخمول الحاضر قالوا: أفلا ترون كيف كان آباؤنا؟ نعم! قد كان آباؤكم رجالا، ولكنكم أنتم أولاء كما أنتم، فلا يليق بكم أن تتذكروا مفاخر آبائكم إلا أن تفعلوا فعلهم»، «إن المسلمين قد سقطت هممهم، ونامت عزائمهم، وماتت خواطرهم، وقام شيء واحد فيهم هي شهواتهم»؛ «هذا محمود سامي البارودي عاهدني ثم نكث معي وهو أفضل من عرفت من المسلمين».
ولكن أحيانا تنقشع عنه سحابة اليأس، ويعود إلى أمله في الشرق والمسلمين، ويعود إلى ذكر الداء والدواء، والأمل في العلاج، ككل النفوس البشرية، تتردد بين الحزن والسرور، واليأس والأمل، وكالطبيعة تتردد بين الصحو والغيم، والإرعاد والإبراق ثم الإشراق.
فها هو في رفقه من صحبه يحللون أدواء الشرق ويستوصفونه العلاج، فيقول إن الدواء هو ما يسير عليه الغربيون من العزة والجري على قول الشاعر العربي: «عش عزيزا أو مت وأنت كريم»، فإذا كان هذا بعيد المنال، فلا بد من تربية جيل جديد تربية دينية صحيحة، يتولى أمرها أناس يأخذون على أنفسهم عهدا ألا يقرعوا بابا لسلطان، ولا يضعضعهم الحدثان، ولا يثني عزمهم الوعيد، ولا يغرهم الوعد بالمنصب، ولا تلهيهم التجارة ولا المكسب، بل يرون في المتاعب وتحمل المكاره لنجاة الوطن من الاستعباد غاية المغنم وفي عكسه المغرم.
قيل له: وهل هذا في الإمكان ؟
قال: «إن الأزمة تلد الهمة، ولا يتسع الأمر إلا إذا ضاق، ولا يظهر فضل الفجر إلا بعد الظلام الحالك - وعلى ما أرى قد أوشك فجر الشرق أن ينبثق، فقد ادلهمت فيه ظلمات الخطوب وليس بعد هذا الضيق إلا الفرج، سنة الله في خلقه».
ثم استطرد في هذا المجلس إلى بيان الخطر مما تستعمله بعض الأمم الأجنبية في الشرق من إضعاف اللغة القومية وقتل التعليم القومي، والتنفير من آداب الأمم الشرقية لتحل محلها لغتها وآدابها، مع أنه لا جامعة لقوم لا لسان لهم، ولا لسان لقوم لا آداب لهم، ولا عز لقوم لا تاريخ لهم، ولا تاريخ لهم إذا لم يقم منهم من يحي آثار رجال تاريخها فتعمل عملهم وتنسج على منوالهم». وكانت محاضراته في مجالسة تدور حول موضوعات هامة تخلقها المناسبة، كلها ترمي إلى الإصلاح في العقيدة وفي الاجتماع وفي اللغة. وبين حين وآخر تثار حفيظة السلطان عليه بما يدبره أبو الهدى الصيادي وصحبه، فيزور الآستانة - مثلا - الخديوي عباس ويريد مقابلة جمال الدين، ولا يكون هذا إلا بإذن، فيرفض السلطان ويأمر جمال الدين ألا يقابله، فيقول لرسول الخديوي: «إني كضيف للسلطان أسير لمضيفي في منزله، ولكني أذهب كل يوم إلى «الكاغدخانة» للتنزه فإن شاء أن يحضر الخديوي إلى هناك فليفعل. فذهب الخديوي وقابله على انفراد، فأطرى الخديوي السيد وأبدى له إعجابه به وحياة تحية لطيفة، وهذا كل ما كان. فأطار الجواسيس إشاعات في الجو، وملأوا التقارير بأن جمال الدين قد تعاقد مع الخديوي عباس على تأسيس دولة «عباسية»، ووضعوا بيتين نسبوها إلى جمال الدين هما:
شاد الخلافة في بني العباس
عباس لكن نعته السفاح
ولأنت خير مملك ستشيدها
بالبشر يا عباس يا صفاح
وقامت الدنيا وقعدت، واستدعى السلطان جمال الدين وسأله، فقال إن الأمر بسيط، فقد كتبت التقارير أنا كنا وحدنا وليس معنا ثالث، فمن سمع هذا القول؟ وهل إذا كان هذا الخبر صحيحا أقوله أنا أو يقوله عباس؟ ثم أقسم أن شيئا من ذلك لم يحدث، وأنه في حياته لم ينظر شعرا، وانتهى الأمر، ولو - في الظاهر - بعد جلبة طويلة وضجة مفتعلة.
وحدث أن الشاه ناصر الدين - الذي كان بينه وبين السيد الخصومة التي عرفنا - قد قتل، وكان القاتل أحد تلاميذ جمال الدين، وممن كانوا يزورونه في الآستانة، وروي أنه عندما طعن طعنته قال: «خذها من يد جمال الدين»، وروي عن جمال الدين أنه لما بلغه ذلك قال كلمات تدل على الإعجاب بالقاتل، فذلك كله أرعب السلطان عبد الحميد وخاف منه على حياته، فضيق عليه في مقابلاته ومنع زيارته إلا بإذن، فغضب جمال الدين وعزم على الرحيل من الآستانة ووعد بإعطائه التصريح بذلك من المفوضية الإنجليزية، ولكن السلطان كان يخاف منه في الخارج أكثر مما يخافه في الداخل، وهو تحت سمعه وبصره أهون، فاسترضاه ورجاه في البقاء واستعان بإثارة إبائه العار من الالتجاء إلى دولة أجنبية فعدل. ثم حلت المشكلة نفسها بمرضه بالسرطان في فمه ثم وفاته، وشاعت الإشاعات المختلفة حول موته من إهمال مقصود في معالجته والاتفاق مع طبيب السلطان للتخلص منه.
وأيا ما كان فقد مات وشيعت جنازته كأقل الناس - لم يسر فيها إلا أفراد معدودون غلبتهم الجرأة والوفاة، ودفن كما يدفن عامة الناس، ومنعت الجرائد في الولاية العثمانية من تأبينه.
السيد جمال الدين الأفغاني (6)
ما تعاليم السيد في كلمة؟ وما أغراضه في جملة؟
يقول لوثروب ستودارت الأمريكي
Lothrop Stoddard : «إن خلاصة تعاليم جمال الدين تنحصر في أن الغرب مناهض للشرق، والروح الصليبية لم تبرح كامنة في الصدور كما كانت في قلب بطرس الناسك، ولم يزل التعصب كامنا في عناصرها، وهي تحاول بكل الوسائل القضاء على كل حركة يحاولها المسلمون للإصلاح والنهضة.
ومن أجل هذا يجب على العالم الإسلامي أن يتحد لدفع الهجوم عليه ليستطيع الذود عن كيانه، ولا سبيل إلى ذلك إلا باكتناه أسباب تقدم الغرب والوقوف على عوامل تفوقه ومقدرته».
ويقول «جولد زيهر»: إن جمال الدين كان - كما يرى براون - فيلسوفا، كاتبا، خطيبا، صحفيا؛ وفوق ذلك كان سياسيا، يرى فيه محبوه وطنيا كبيرا، وخصومه مهيجا خطيرا؛ وكان له أثر بالغ في النزعات الشورية التي حدثت في عشرات السنين الأخيرة في الحكومات الإسلامية، وكان يرمي إلى تحرير الممالك الإسلامية من السيطرة الأوروبية، وإنقاذها من الاستغلال الأجنبي، وإلى ترقية شؤونها الداخلية بالإدارات الحرة المنظمة؛ كما كان يرمي إلى جامعة تنتظم الحكومات الإسلامية، ومنها إيران الشيعية، لتتمكن بهذا الاتحاد من منع التدخل الأوروبي في شؤونها».
ويقول السيد جمال الدين عن نفسه: «لقد جمعت ما تفرق من الفكر، ولممت شعث التصور، ونظرت إلى الشرق وأهله، فاستوقفتني الأفغان وهي أول أرض مس جسمي ترابها، ثم الهند وفيها تثقف عقلي، فإيران بحكم الجوار والروابط، فجزيرة العرب: من حجاز هو مهبط الوحي، ومن يمن وتبابعتها، ونجد، والعراق، وبغداد وهارونها ومأمونها، والشام ودهاة الأمويين فيها، والأندلس وحمرائها؛ وهكذا كل صقع ودولة من دول الإسلام وما آل إليه أمرهم، فالشرق الشرق؛ فخصصت جهاز دماغي لتشخيص دائه، وتحري دوائه، فوجدت أقتل أدوائه داء انقسام أهله وتشتت آرائهم، واختلافهم على الاتحاد واتحادهم على الاختلاف (فعملت على توحيد كلمتهم وتنبيههم للخطر الغربي المحدق بهم).
ويقول الشيخ محمد عبده: «أما مقصده السياسي الذي قد وجه إليه كل أفكاره وأخذ على نفسه السعي إليه مدة حياته - وكل ما أصابه من البلاء أصابه في سبيله - فهو إنهاض دولة إسلامية من ضعفها، وتنبيهها للقيام على شؤونها حتى تلحق الأمة بالأمم العزيزة، والدولة بالدول القوية، فيعود للإسلام شأنه، وللدين الحنيفي مجده، ويدخل في هذا تقليص ظل بريطانيا في الأقطار الشرقية».
فيكادون كلهم يجمعون على أن له غرضين واضحين: (1)
بث الروح في الشرق حتى ينهض بثقافته وعلمه وتربيته وصفاء دينه، وتنقية عقيدته من الخرافات، وأخلاقه مما تراكم عليها، واستعادة عزته ومكانته. (2)
مناهضته الاحتلال الأجنبي حتى تعود الأقطار الشرقية إلى استقلالها مرتبطة بروابط على نحو ما؛ لتتقي الأخطار المحدقة بها.
كان في حياته يحمل في يديه العلمين معا، فلما مات تفرق العلمان وتداول المصلحون بعد على حمل واحد منهما - هذا أو ذاك - لا على حملهما معا. فالشيخ محمد عبده - مثلا - أكبر تلاميذه وأقدرهم - خلفه في حمل العلم الشافي لا السياسي. لقد تبين بعد أن اشتغاله بالسياسة في العروة الوثقى ونحوها إنما كان مدفوعا إليه بقلب جمال الدين لا بقلبه هو، ولذلك اقترح عليه بدل إنشاء الجريدة إنشاء مدرسة للزعماء كما تقدم. فلما استقل بنفسه كان عمله في بيروت عملا تعليميا صرفا؛ ولما عاد إلى مصر كان برنامجه التعليم والتثقيف بأوسع ما يستطيع وأنمه؛ ولذلك اقترح على أولي الأمر بعد عودته أن يعين ناظرا لدار العلوم أو أستاذا فيها، فخشوا من اتصاله بالتلاميذ لتاريخه الماضي، وعينوه قاضيا أهليا ليكونوا بمأمن من جانبه، بل رأيناه يلعن في كتاباته السياسة وحروفها ومشتقاتها كراهية لها، بل رأيناه يصرح بأن الواجب الأول على المصلح تثقيف الشعب وتهذيبه، ثم الاستقلال يكون الخاتمة؛ بل رأيناه يضع خطة إصلاحه بأن يتعاون مع الإنجليز ويصادقهم، ويتفاهم معهم لينال منهم - بأقصى ما يستطيع - إعانته فيما ينشد من إصلاح داخلي تثقيفي. وهذا سبب ما كان بينه وبين «مصطفى كامل» والحزب الوطني من خصومة؛ بل ربما كان هذا سببا أيضا فيما نلاحظه من بعض الفتور في العلاقة بينه وبين أستاذه السيد جمال الدين، فقد كتب من مصر للسيد - وهو في الآستانة - خطابا غفلا من الإمضاء وتلميحا لبعض الأشخاص من غير ذكر أسمائهم؛ فهاج السيد وكتب إلى الشيخ محمد عبده جوابا من نار على هذا التصرف، يؤنبه فيه على الجبن والخوف، ويقول: «تكتب ولا تمضي وتعقد الألغاز؟ ... أمامك الموت ولا ينجيك الخوف ... فكن فيلسوفا يرى العالم ألعوبة ولا تكن صبيا هلوعا»؛ ولعل هذا آخر ما كان بينهما من تواصل.
وما كان بالشيخ محمد عبده من جبن، ولكن الجسم الملتهب يشعر بالجسم المعتدل باردا، وقد كتب السيد جوابه هذا وقد ملكته الحدة، وكم ملكته.
على كل حال اختط الشيخ محمد عبده لنفسه خطة اقتنع بها كل الاقتناع، وهي رفع أحد العلمين دون الثاني، فأخلص لمبدئه وبذل في ذلك جهده وصحته وعقله وماله، واتجه إلى كل نواحي الثقافة يغذيها وينميها ويصلحها بقدر ما يستطيع إنسان أن يعمل، مع ما يوضع في سبيله من عقبات من الخديوي ومن الجامدين من رجال الدين، ومن دسائس الدساسين؛ فكانت حياته موزعة بين الإشراف على التعليم في مدارس الجمعية الخيرية الإسلامية، وإصلاح الأزهر ودرسه التفسير فيه، وتأليف جزء «عم» لناشئة المدارس، وجده في إصلاح الأوقاف والمساجد، وتحريره المقالات في مجلة المنار لتثقيف العقل وهدايته إلى فهم الدين، ورد على مهاجمي الإسلام، كما فعل في رده على هانوتو، ردا حارا قويا بأحر وأقوى من رد السيد جمال الدين على رينان، وسفره إلى تونس والجزائر يحاضر في إصلاح العقيدة الدينية وإصلاح الطرق التعليمية وهكذا. كل ذلك في حدود خطته التي رسمها والتي رآها أوفق لنفسه، وكل ميسر لما خلق له.
أما الذين رفعوا العلم الآخر - علم مناهضة الحكم الأجنبي - فهم عبد الله نديم، ثم مصطفى كامل وفريد، ثم سعد زغلول، فساروا على مثل دعوة السيد جمال الدين، مستخدمين ما استجد من أساليب، وما استعمله الغرب من وسائل.
هذا في مصر ومثله في سائر أقطار الشرق، من زعماء حملوا لواء الإصلاح الثقافي، وزعماء حملوا اللواء السياسي مما يطول ذكره؛ وقد نعرض - فيما نكتب بعد - لبعضه. ولو انتبه «السيد» اليوم من رقدته لحمد من الشرق سيرته، وإن كان أكبر الظن أنه يحتد عليه لبطئه؛ فقد كان - رحمه الله - حارا حاد المزاج لا يرضيه من الإصلاح السير على الأقدام ولا ركوب القطارات، بل لا يرضيه بعض الرضا إلا ركوب الطائرات وحرب الدبابات. يقول الشيخ محمد عبده في وصفه: «إن طموح إلى مقصده السياسي، إذا لاحت له بارقة منه تعجل السير للوصول إليه؛ وكثيرا ما كان التعجل علة الحرمان ... وهو شجاع مقدام لا يهاب الموت كأنه لا يعرفه، إلا أنه حديد المزاج؛ وكثيرا ما هدمت الحدة ما رفعته الفطنة».
ثم كان أشبه الناس في سياسته بعلي لا بمعاوية، كانت سياسة معاوية عنوانها: «إنا لا نصل إلى الحق إلا بالخوض في كثير من الباطل». أما «علي» فلا يريد الخوض في الباطل ليصل إلى الحق، بلا لا يريد إلا الحق من طريق الحق، وإفا فلا كان. وهكذا كان جمال الدين. قال الشيخ محمد عبده: «ماذا كان يضر السيد لو مهد لإصلاحه - وهو في الآستانة - بالسعي عند السلطان في إعطاء أبي الهدى الصيادي خمسمائة جنيه ونيشان لابنه أو لأخيه، فإذا رأى أبو الهدى أن «السيد» يخدمه فإما أن يواتيه، وإما ألا يناويه» ولكن أنى للسيد أن يطلب هذا الباطل وهو يعتقد أن أبا الهدى سافل دنيء إذا طلب له مشيئا فالشنق.
ولما كان السيد يحكي لخاصته إقناعه للسلطان بأن حادثة الخديو عباس دسيسة، وأن السلطان اقتنع بذلك، وأخبره أن هذا من دسائس أبى الهدى، قال له عبدالله نديم: ليتك عندما صرح السلطان بذلك ذكرت له دسائسه وضرره. فغضب عند ذلك جمال الدين، وقال: «أعوذ بالله أن أكون من المنافقين، أو أن أفعل ما أنكر على الغير، أو أن أكون همازا مشاء بنميم».
وهكذا يريد الحق غاية، ويريد الحق وسيلة، والدنيا علمتنا أن سياسة معاوية هي التي نجحت، وأن سياسة الدنيا تقوم على المصالحة وأخذ شيء بترك شيء. فمن أراد الحق كاملا وإلا لا، فلينشد ذلك في المثل الأعلى للخلق لا في السياسة، أو فلينتظر حتى تخضع السياسية للخلق. •••
بقيت مسألة هامة في تاريخ السيد، وهو اتهامه بالإلحاد - وقد أشرنا إليها في مقال سابق. ولرمي السيد بالإلحاد تاريخ طويل، فقد رمي به في الآستانة عند زيارته لها أول مرة، فقد خطب في دار الفنون خطبة ذكر فيها أن المعيشة الإنسانية أشبه شيء ببدن الحي، وأن كل صناعة بمنزلة العضو، فالملك كالمخ، والحدادة كالعضد، والزراعة كالكبد ... الخ، ولا حياة للجسم إلا بالروح، وروح المعيشة الإنسانية النبوة والحكمة.
فاتهموه بالإلحاد لهذا، وشنعوا عليه بأنه يقول إن النبوة صناعة، وشغبوا عليه حتى نصح بالخروج من الآستانة.
فلما جاء إلى مصر اتهمه بعض العلماء كالشيخ عليش وبعض العامة بالإلحاد، والإلحاد في نظر هؤلاء ومثالهم شيء هين، يكفي ألا يسير سيرتهم، ولا يلبس لباسهم، وأن يدخن السيجار، ويجلس في المقهى، ويلتف حوله بعض اليهود والنصارى، ليحكموا عليه بالإلحاد. وكما أن عقيدة كل إنسان لها لون خاص، فكذلك تصوره للإلحاد يتكيف بذهنه.
ثم لما ترجم سليم بك عنحوري للسيد جمال الدين في كتابه «سحر هاروت» رمي السيد أيضا بالإلحاد فقال: «إنه برز في علم الأديان حتى أفضى به إلى الإلحاد والقول بقدم العالم، زاعما أن الجراثيم الحية المنتشرة في الفضاء ترقى وتتحور إلى ما نراه من أجرام، وأن القول بوجود محرك أول حكيم وهم نشأ عن ترقي الإنسان في تعظيم المعبود على حسب ترقيه في المعقولات ... الخ».
وقد قابله الشيخ محمد عبده، وعاتبه على نشره مثل هذا القول من غير تحر وتدقيق، فكتب سليم بك في الجرائد يصحح فيه قوله، ويقول: إني قابلت الشيخ محمد عبده، فأوضح لي بدلائل ناهضة وبراهين داحضة، أن ما تتناقله الألسن من هذا القبيل ما كان إلا من آثار الحسد، وأن السيد كان أثناء مناظراته الجدلية يشرح النحل والبدع وأقوال المعطلين شرحا وافيا، ثم يقيم الحجج على بطلانها؛ فلعل سامعا سمع منه هذا القول في مثل هذا الموقف فنسبه إليه، وقال إنه لم يسمع من السيد هذا الكلام وإنما تلقاه عن بعض المصريين والسوريين. ونقل كلاما للسيد اطلع عليه في وجوب الدين، وضرورة الاعتقاد بالألوهية، ومزايا الإسلام، وختم مقاله بقوله: «إننا سارعنا لإذاعة هذا، شأن المؤرخ العادل، وقياما بحق الأدب، وضنا بفضل هذا الرجل الخطير من أن تناله ألسنة من لا يعرفونه خطأ وافتراء والله يتولى الصادقين».
ثم رأينا ما اتهمه به «رينان» بعدما جالسه في باريس فكتب كلمته التي نشرناها من قبل، وهذا أدق موقف؛ فرينان فيلسوف واسع الذهن دقيق التعبير، لا يلقي الكلام على عواهنه، خصوصا وقد ورد في رد السيد جمال الدين عليه ما يفيد أنه سلم للمسيو رينان بأن الإسلام كان عقبة في سبيل العلم.
ولكن في رأيي أن السيد عبر تعبيرا غير دقيق في تفرقته بين طبيعة الدين الإسلامي وسيرة المسلمين، خصوصا وأنه أخذ على رينان تقصيره في أنه لم يبحث إذا كان هذا الشر نشأ عن الديانة الإسلامية نفسها، أم عن الصورة التي تصور بها الإسلام، أم عن أخلاق بعض الشعوب التي اعتنقت الإسلام؛ وقراءتنا لرده تشعرنا بأنه وقع في هذا اللبس، وأنه كان يدور حول فكرة أن للدين دائرة، وللعلم دائرة، ويجب أن يسبح كل في دائرته من غير طغيان، وأن الدين يجب ألا يعارض العلم فيما ثبتت صحته علميا - وهذه الآراء الواضحة في ذهننا الآن، والواضحة في تعبيرنا، لم ترد واضحة في رده، فكان ردا مهوشا، كما كانت محاضرة رينان نفسها كذلك.
وليس من شك في أن السيد كان حر التفكير قويا على الجدل، متشعب طرائق الحجج، فمن الممكن جدا أن يكون في مجالسه مع رينان تبحبح في بعض الأقوال التي من هذا القبيل، والتي تحدث لكثير من كبار المفكرين في بعض اللحظات، فحكم رينان عليه هذا الحكم الشامل خطأ.
ثم كان «السيد»، كما يحكي عنه الشيخ محمد عبده وبعض خاصته، متصوفا يدين بعقيدة المتصوفة، وهي مبهمة غامضة تنتهي بوحدة الوجود، والتعبير عنها قد يلتبس - إلا على الخاصة - بالإلحاد، ومن أجل هذا رمى يحيى الدين ابن العربي وأمثاله بالكفر لعدم الدقة في الوزن.
إن حياة «السيد» مملوءة بالدعوة الحارة إلى الدين، وإلى التوحيد. في كتاباته في «الرد على الدهريين» وفي العروة الوثقى، وفي مجالسه الخاصة.
يذكر بعض خاصته أنه سمع رجلا كبيرا تكلم كلمة في حق النبي فأمر «السيد» من معه من الأفغانيين بضربه فضربوه حتى خرج يزحف.
وحكى المخزومي مجلسا شهده، إذ زار رجل جمال الدين في بيته في الآستانة وجرى الحديث فقال هذا الرجل: «إني قرأت كتب الفلاسفة فثبت لي أن الله غير موجود ولا يعتقد به إلا حيوان». فضاق صدر السيد ولم يجبه، ودعا الحاضرين إلى حديقة البيت وكان فيها أنواع من الطيور والدجاج، فتصايحت الديكة وغردت الطيور، فقال السيد: «كيف لا يفضل أضعف حيوان أعجم يذكر الله إنسانا ناطقا ينكر وجود الله»؟! كيف يجرؤ على إنكار واجب الوجود من يأكله الدود؟! إذا لم يتعظا لإنسان بما فوقه من أجرام فليتعظ بما تحته من رفات الأجسام ! فخرج الرجل الملحد خجلا من غير أن يودع.
لا يمكن أن تصدر هذه الكتابات وهذه الأقوال وهذه الغيرة من ملحد، إلا أن يكون قد بلغ الغاية في التصنع والنفاق. ولم يكن عيب جمال الدين نفاقه، إنما كان عيبه إفراطه في صراحته، وعدم استطاعته كتمان ما يعتقد، ويقول: «لا يكون الكمال النسبي في البشر إلا متى كثر إعلانهم وقل كتمانهم». وأكثر متاعبه في الحياة كان سببه جهره بما يصح أن يكتم وإعلانه ما يجب أن يسر، فأخلاق مثل هذه تؤكد أنه لو كان السيد ملحدا يرى الحق والخير في الإلحاد لدعا إليه في صراحة وجرأة وشجاعة من غير ما مواربة ولا إيماء.
لقد كان يؤمن بالأصول، ويترك لعقله الحرية التامة في الفروع، ويصل في ذلك إلى نتائج غريبة عن أذهان الجامدين المتزمتين فيرمى بالإلحاد؛ فكان ينفر من التقليد ويدعو إلى الاجتهاد، ويذكر في مجلسه قول للقاضي عياض ويتمسك به راووه فيقول «السيد»: سبحان الله! إن القاضي عياضا قال ما قاله على قدر ما وسعه عقله وتداوله فهمه، وناسب زمانه، فهل لا يحق لغيره أن يقول ما هو أقرب للحق وأوجه وأصوب من قول القاضي عياض وغيره من الأئمة! إذا كان القاضي عياض وأمثاله سمحوا لأنفسهم أن يخالفوا أقوال من تقدمهم فاستنبطوا وقالوا ما يتفق وزمانهم فلم لا نستنبط ونقول ما يوافق زماننا؟! «ما معنى باب الاجتهاد مسدود، وبأي نص سد، أو أي إمام قال لا يصح لمن بعدي أن يجتهد ليتفقه في الدين، ويهتدي بهدي القرآن وصحيح الحديث والاستنتاج بالقياس على ما ينطبق على العلوم العصرية وحاجات الزمان وأحكامه! «إن الفحول من الأئمة اجتهدوا وأحسنوا، ولكن لا يصح أن نعتقد أنهم أحاطوا بكل أسرار القرآن، واجتهادهم فيما حواه القرآن ليس إلا قطرة من بحر، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء من عباده».
ويرى أن التفرقة بين أهل السنة والشيعة أحدثتها مطامع الملوك لجهل الأمة، وجميعهم يؤمنون بالقرآن ورسالة محمد، ففيم الخلاف ولم القتال؟
ويقول إن الأديان الثلاثة كلها أساسها واحد وإنما يوسع شقة الخلاف بينها اتجار رؤساء الأديان بها.
ويفيض في اشتراكية الإسلام ويقارن بينها وبين اشتراكية الغرب، فيرى أن اشتراكية الغرب بعث عليها جور الحكام واعوامل الحسد في العمال من أرباب الثراء، أما الاشتراكية التي كانت في الإسلام فملتحمة مع الدين ملتصقة مع الخلق، باعث عليها حب الخير كما في أعمال عمر وأبي ذر.
ويعرض في مجلسه للحديث عن الرجل والمرأة والسفور والحجاب فيطيل القول في ذلك. وخلاصة رأيه أن المرأة في تكوينها العقلي تساوي الرجل، فليس للرجل رأس وللمرأة نصف رأس، والتفاوت الذي بينهما لم يأت إلا من التربية وإطلاق السراح للرجل وتقييد المرأة للبيت ولتربية الجيل، ومهمتها في هذا أهم وأسمى مما يقوم به الرجل من كثير من الصناعات؛ ويخطئ من يطلب مساواة الرجل بالمرأة في كل شيء، فلكل وظيفته، وعلى تعاونهما - كل في عمله - يقوم المجتمع، ولا مانع أن تعمل المرأة في الخارج إذا فقدت عائلها واضطرتها ظروفها إلى ذلك، ولكن بنية صالحة وذيل طاهر. ثم قال: «وعندي أن لا مانع من السفور، إذا لم يتخذ مطية للفجور».
ويقول: «إن الدين لا يصح أن يخالف الحقائق العلمية، فإن كان ظاهره المخالفة وجب تأويله. وقد عم الجهل وتفشى الجمود في كثير من المتردين برداء العلماء حتى اتهم القرآن بأنه يخالف الحقائق العلمية الثابتة - والقرآن بريء مما يقولون - والقرآن يجب أن يجل عن مخالفة العلم الحقيقي خصوصا في الكليات».
وهو واسع الصدر ينقد «شبلى شميل» في آرائه الملحدة التي جاوز فيها مذهب دارون، ومع ذلك يقدره لصبره على البحث وجرأته في الجهر بما يعتقد ولو خالف الناس. وهكذا وهكذا مما يراه المتزمتون خروجا عن المألوف، فما أقرب ما يقذفون بكلمة الإلحاد.
سنة مألوفة في الكون، لا يأتي مصلح سابق لزمنه إلا رمي بالزندقة أو الكفر أو الجنون، ثم أوذي ممن يسعى في الخير لهم، وممن يضحي بسعادته لسعادتهم، ولا يقدر حق قدره إلا بسعد أن يهدأ الحسد بموته، وتتجلى صحة دعوته بعد زمنه. •••
لقد قصدت الآستانة سنة 1928 بعد وفاته بإحدى وثلاثين سنة، فرأيت واجبا أن أزور قبر هذا الرجل العظيم، وأستعيد عنده ذكرى عظمته وسلسلة أعماله، فسألت عنه الكثير فلم يعرفه، ورأيت رجلا أفغانيا يعمل خازنا لمكتبة الشهيد علي، فوصف مكانه لي، فذهبت مع صديقي «العبادي» عصر يوم الأحد 8 يوليه إلى «ماجقة» أو «متشكة»، فوجدت في ربوة على مدخل البوسفور مقبرة قد انتثرت فيها المدافن، ودلنا شيخ المقبرة على مدفن السيد، فعلمنا أن قبره كان قد تشعث ولم يعن به أحد، وكادت تضيع معالمه ولم يفكر فيه أحد من أهل الشرق الذين أفنى فيهم حياته، إنما ذكره مستشرق أمريكي حضر إلى الآستانة سنة 1926 ونقب عن قبره حتى وجده، فبنى عليه تركيبة جميلة من الرخام، وأحاطها بسور من حديد، وكتب على أحد وجوه التركيبة اسم السيد وتاريخ ولادته ووفاته، وفي وجه آخر كتابة تركية ترجمت لنا كما يأتي: «أنشأ هذا المزار الصديق الحميم للمسلمين في أنحاء العالم الخير الأمريكاني المستر شارلس كرين سنة 1926».
وقفنا على قبره وقلنا: هنا رقد محيي النفوس ومحرر العقول، ومحرك القلوب، وباعث الشعوب، ومزلزل العروش، ومن كانت السلاطين تغار من عظمته، وتخشى من لسانه وسطوته، والدول ذات الجنود والبنود تخاف من حركته، والممالك الواسعة الحرية تضيق نفسا بحريته.
هنا خمد من كان يشعل النار حيث كان، في الأفغان، في مصر، في فارس، في باريس، في لندرة، في الآستانة.
هنا باذر بذور الثورة العرابية، ومؤجج النفوس للثورة الفارسية، ومحرك العالم الإسلامي كله لمناهضة الحكومات الأجنبية، والمطالبة بالإصلاحات الاجتماعية. هنا من حارب إسماعيل وتوفيقا في مصر، وناصر الدين في فارس، وانجلترا في باريس، وحارب الجهل والأمية والذلة في الشرق، والجاسوسية والنفاق في الآستانة. ولم ينتصر عليه شيء إلا الموت.
لقد أجللناه وأعظمناه، والتهبت نفوسنا لذكراه، فكيف كان محضره ومرآه، رحمه الله.
السيد أحمد خان (1)
1817-1898
هو في الهند أشبه شيء بالشيخ محمد عبده في مصر بعد مفارقته للسيد جمال الدين وعودته من نفيه، الإصلاح عندهما إصلاح العقلية بالتثقيف والتهذيب، والنظر إلى الدين نظرة سماحة ويسر، والاستقلال يأتي بعد ذلك تبعا؛ فلا استقلال لجاهل ولا مخرف، إنما عماد الاستقلال العلم، العلم بالدنيا وبالدين، العلم بكل شيء أتت به المدنية الحديثة من طبيعة وكيميا، ورياضة وفلك، ونفس واجتماع ونظام الحكم والإدارة؛ ذلك كله إلى دين يحي القلب ولا يقيد العقل، ويغذي النفس ولا يشل التفكير. والإسلام إذا فهم على أصوله كفيل بذلك؛ فليس فيه ما يمنع الإنسان أن يصل في العلوم ونظم الدنيا إلى غايتها، بل فيه ما يبعث على ذلك ويشجعه، وفيه ما يحيي القلب، ويوجه الإنسان في حياته وفي علمه وفي تفكيره إلى الخير. ثم كلاهما كان يرى أن السلطان في مصر وفي الهند في يد الإنجليز، ولهم من القوة المادية من الأسلحة والذخائر في البر والبحر، ومن القوة العلمية والسياسية ما لا تستطيع الهند ومصر مقاومته. قد يستطيعون المقاومة إذا اتحدوا، ولكن كيف يكون اتحادهم مع جهلهم وضعف خلقهم، بل كيف يكون ذلك مع فساد أمرائهم - إذ ذاك - وبحثهم عن منافعهم الشخصية ولو على حساب الأمة؛ - قالا - إذن فالأولى مسالمة الإنجليز والتفاهم معهم، وأخذ ما نستطيع لخير الشعب منهم؛ لنفهم الإنجليز أن عليهم واجب النهضة بالشعوب التي يحكمونها عقليا كما ينهضون بها ماديا، وأنهم مسئولون على جهل الأمم التي يحكمونها، كما هم مسئولون عن فقرها، وأن العلم والثقافة وإنارة الأذهان في مصلحة المستعمر والمستعمر، ولنأخذ منهم ما نستطيع أن نأخذه من طريق الإقناع والمسالمة والمصالحة، وما نأخذه نستغله في خير الشعوب وثقافتها خير استغلال، والزمن - بعد - كفيل بإظهار النتائج.
ثم كلاهما عانى من المتاعب ما عانى الأخر من جهتين: فمسالمة المستعمرين لا ترضى - عادة - دعاة الوطنية والاستقلال، ويرون فيها خيانة. وقد يرى بعضهم أن لا مفاوضة ولا مطالبة ولا مسالمة إلا بعد الجلاء، وكل من يطلب شيئا دون هذا بائع لوطنه يستحق أن يهاجم وينقد ويؤنب - ومن جهة أخرى هناك الطبقة الجامدة من العلماء التي ترى العلوم الحديثة التي أتت بها المدنية الأجنبية مفسدة، والقول بأن قوانين الدنيا في الزراعة والاجتماع والصحة والمرض وكل شيء مبني على السبب والمسبب كفر بالقضاء والقدر، وإنكار سلطة المشايخ والأولياء والأضرحة زندقة. فهؤلاء وهؤلاء يشنون الغارة على مثل الشيخ محمد عبده والسيد أحمد خان، فيختطون هم دعوتهم وسط هذه الأشواك الحادة. وقد يمد الأمراء دعاة الرجعية بوسائلهم للنيل إلى أقصى حد من المصلحين من هذا القبيل لأنهم نقموا عليهم الالتجاء إلى معونة الأجنبي دونهم، ولو التجئوا إليهم - مع الأسف - ما نفعوهم. كل ذلك كان في مصر وفي الهند، لأن طبيعة الأشياء واحدة، وقوانين الطبيعة لا تتخلف.
كانا على غير رأي السيد جمال الدين في الإنجليز والاحتلال؛ كان السيد يكره الإنجليز ويشنع عليهم ما استطاع، بحكم ما لقي منهم في الأفغان والهند ومصر وباريس، حتى لقد عاتبه بعض أصحابه يوما وقال له: إننا نراك عادلا في حكمك على الأشخاص والأمم، تذكر بالخير حسناتهم، وبالشر سيئاتهم، ولا نراك تفعل ذلك في الإنجليز. قال السيد: «ليس من ينكر أن الإنجليز - كأمة - من أرقى الأمم، تعرف معاني العدل، وتعمل بها، ولكن في بلادها، ومع الإنجليز أنفسهم»، ثم ذكر له ما فعلته في الهند ومصر. ولخص رأيه مرة أخرى وقال: «إن الشرقيين تصرفوا في أملاكهم وأراضيهم وبلادهم تصرف السفيه المبذر، ثم قضى عليهم أن يكون الحاكم لهم هو الغرب، والغرب - في الحقيقة - ليس من مصلحته إصلاح سيرة الشرقي ولا منعه من السفه، بل من أمانيه أن يتمادى الشرق في غيه وإسرافه، ليطول عهد الحجر عليه». فلما كانت عقيدة جمال الدين هذا كانت سيرته في حياته ما ذكرنا.
أما السيد أحمد خان والشيخ محمد عبده فيريان أن الإنجليز خصوم شرفاء معقولون، يمكن التفاهم معهم، وأخذ أشياء من أيديهم تدريجا لمصلحة الأمة، حتى إذا نضجت الأمة أمكنها الحصول على حقوقها كاملة، حيث لا تستطيع أن تنال شيئا منها مع الجهل والغفلة. •••
هو السيد أحمد خان ابن السيد محمد متقى خان من أسرة أرستقراطية نبيلة، رحل أجداده من بلاد العرب إلى هراة ومن هراة إلى دلهي في عهد «أكبر شاه»، وقد ولد صاحبنا في 17 أكتوبر سنة 1817 وتوفى والده وهو في التاسعة عشرة من عمره، بعد أن ثقفه ثقافة دينية على عادة أهل زمنه وبلده. وقد جرت أسرته على عادة التحرج من الاتصال بالإنجليز وخدمتهم، ولكنه خالف أهل بيته والتحقق بخدمة الحكومة أمينا للسجلات في القلم الجنائي في دلهي، ثم عين منصفا (قاضيا مدنيا) في «فاتح بور» من إقليم «أكرا» ثم منصفا في «بجنور»
Bignaur ، وإذ هو في هذا العمل في هذه المدينة اندلعت نار الثورة الهندية سنة 1857، وقام الهنود بحركة عنيفة، يخربون السكك الحديدية ويذبحون الإنجليز حيثما وجدوهم، ويدمرون ما وصلت إليه أيديهم، فكانت ثورة جائحة عنيفة أشد العنف، وهاج الرأي العام على الإنجليز هياجا شديدا. ولكن كان رأي السيد أحمد هادئا متزنا، مخالفا للرأي العام، فرأى أن هذه الثورة لا تأتي بنتيجة، وأن آخرة أمرها عودة الإنجليز إلى السيطرة ثانية من غير فائدة إلا ضحايا الطرفين، وأن قتل الإنجليز - وخاصة المدنيين - عمل غير إنساني. لذلك وضع خطة بذل فيها الجهد مع بعض أصدقائه لحماية الإنجليز من القتل، وإنجاء من تصل إليه أيديهم منهم، فنجا على يده ويد أصدقائه كثير، وضحى في ذلك بالكثير من ماله وباضطهاد أقاربه حتى لقد طعن بعضهم بالخنجر بيد الثائرين، وماتت أمه لهول الصدمة من وقع هذه الحوادث الأليمة. فلما هدأت الثورة عرف له الإنجليز فضله، وحفضوا له جميله، وكافئوه ماديا وأدبيا. ومن ذلك الحين تأكدت الصلة بينه وبينهم، فاستخدمها فيما وضع من خطة إصلاح.
ومع هذا فقد وضع رسالة في أسباب هذه الثورة باللغة الأردية وترجمت إلى الإنجليزية كان فيها قاضيا منصفا، لم يتحيز فيها للهند ولا للإنجليز، ولم يرع فيها عداوة عدو ولا صداقة صديق، فرد على بعض الجرائد الإنجليزية فيما ذهبت إليه من أن الثورة سببها تهييج الأفغان أو الروس للهنود، وتدبير المؤمرات والدسائس منهما، وعد ذلك سخافة من القول لا قيمة لها، وأن حركة الثورة حركة شعبية صادرة من صميم الشعب، سببها أن كثيرا من المآسي يشعر بها الشعب من سنين، ثم لا تصل إلى السلطات العليا، ولا تعلم بها حتى تعالجها ؛ فبينما الحكومة من جانبها تتبع خطتها المألوفة من جهل سعيد بما يدور في أذهان الشعب وما يشعر به من آلام، إذا بالشعب من جانبه يتهم الحكومة بعلمها بمآسيه وسوء القصد من تصرفها، كما أن الشعب يعتقد أن الحكومة تتدخل في عقائده وشعائره الدينية، وتؤيد - ولو في الخفاء - حركات التبشير في البلاد ... إلى آخر ما ذكر من أسباب كان فيها صريحا مخلصا يقول ما يعتقد. •••
على كل حال إنما يهمنا منه دعوته إلى الإصلاح وعمله في سبيله.
لقد نظر فرأى أن بالهند نحو سبعين مليونا من المسلمين فشا فيهم الفقر والجهل والبؤس والقلق، من تعلم منهم فتعلم ديني عقيم لا يفتح نظرا ولا يبعث حياة. وهم خاضعون لرجال دين لا يفهمون من الدين إلا رسمه؛ يريدون أن يخضعوا المدنية الواسعة لعقليتهم الضيقة، ولا يعترفون بتغير زمان وتلون حياة، وتقدم علم؛ يعيشون في ركود العالم حولهم مائج، يرون أن المدنية الحديثة بعلمها ونظمها ووسائلها ومقاصدها مدنية كفر لا يصح للمسلم أن يستمد منها ولا أن يتعاون مع أهلها، وأنهم إذا فتحوا صدورهم لها طاحت عقائدهم وأخرجتهم من دينهم. في كل بلد أو إقليم «ملا»، وهذا الملا أو العالم الديني يتسلط على عقول أهله، فإذا فتح المبشرون مدارس حرم هؤلاء العلماء على المسلمين أن يرسلوا أبناءهم إليها ثم لا يفتحون هم مدارس مثلها، بل إذا فتحت الحكومة مدارس فكذلك حرموها على أبناء المسلمين؛ والندوس يرسلون أبناءهم إلى هذه وتلك فيتثقفون ويصلحون للحياة ويشغلون المناصب الحكومية، والمسلمون بمعزل عن الوظائف لأنهم في مدارسهم الدينية البدائية بمعزل عن الحياة. فالمدارس مملوءة بالنصارى والوثنيين، وفيها القليل النادر من المسلمين؛ وكانت نتيجة هذا أن أعمال الحكومة المتنوعة - وخصوصا المناصب الكبرى منها - أصبحت وليس في يد المسلمين منها إلى ما ندر.
وحركات الإصلاح الديني التي قام بها بعض رجال الدين كانت دعوات سلبية أو قليلة القيمة العملية. ففي سنة 1804 قام الحاج شريعة الله يؤلف حزبا إصلاحيا قوامه أن صلاة الجمعة لا تصح في الهند لأنها ليست دار إسلام ، ولذلك سمي حزبه «جماعة اللاجمعة»، وما أكثر ما أخذت هذه المسألة من تفكيرهم ووقتهم، وخلافهم وجدلهم، ودخل فيها الملايين من مسلمي بنجاب.
وجاء مصلح آخر اسمه كذلك: «السيد أحمد» (1782-1831) فحج واعتنق مذهب ابن عبد الوهاب، وجاء إلى الهند داعيا بدعوته من تحريم زيارة الأضرحة والشفاعة بالأولياء ونحو ذلك مما ذكرنا قبل، وزاد على ذلك دعوته أن الهند دار حرب لا دار إسلام، وأن الجهاد فيها واجب على المسلمين، فاصطدم هو وأتباعه بالحكومة الإنجليزية، وكانت خصومة، وكانت ضحايا، ولم تكن هناك نتيجة ذات قيمة .
لم يعجب السيد أحمد خان هذا كله وتساءل في حزم ما علة هذا الجهل وضيق العقل والفقر وسوء الحال؟ وأجاب في حماسة: إنه التربية، ومن ذلك الحين ابتدأ يضع منهج التربية التي يريدها. وصادف ذلك أن ثورة سنة 1857 كشفت لعقلاء المسلمين في الهند حالهم ووجوب تغيير موقفهم وشعورهم بتخلفهم عن الطوائف الأخرى، فتناغم تفكير «السيد أحمد» واستعداد الرأي العام للتنور فأنتج هذا التناغم حركة إصلاح تعد نقطة تحول في تاريخ المسلمين في الهند.
قال لقومه يوما: «انظروا إلى انجلترا، لقد كانت ثروتها تتمشى يوما فيوما مع تربيتها، كلما زادت تربيتها زادت ثروتها، وقد كانت منذ قرن وأمامها من العقبات والصعاب التي تعوق التربية أكثر مما عندنا، ولم يكن لها إذ ذاك سكك حديدية ولا آلات ميكانيكية للطباعة ولا نحو هذا، إنما كان لها سعة نظر وقوة إرادة. «لو أن الهند سنة 1856 كانت تعرف العالم وتعرف قوتها وقوة خصمها من الإنجليز، وتزن الأمور بميزان صحيح وتدرك نتائج الأمور، ما حدثت الحوادث الأليمة التي حدثت سنة 1857 - ألا إن الجهل سبب لكل شر».
وأول ما بدأ به خطته في التربية إنشاؤه جمعية أدبية علمية في عليكره - حيث كان قاضيا بها سنة 1861 - كان الغرض منها نشر الآراء الحديثة في التاريخ والاقتصاد والعلوم وترجمة أهم الكتب الإنجليزية في هذه الموضوعات إلى اللغة الأردية، وقد كان يرى أن تعلم هذه العلوم باللغة الإنجليزية لا يكفي إلا في تثقيف عدد قليل لا يجزي، إنما الذي يفيد فائدة كبرى نقل هذه العلوم إلى لغة البلاد حتى يشترك في تفهمها والاستفادة منها أكبر عدد ممكن، ولذلك كانت خطته التي بدأ بها وسار عليها، نقل هذه الكتب الهامة من اللغة الإنجليزية إلى اللغة الأردية، ولم يمنعه إعجابه بالإنجليز ولغتهم وثقافتهم من أن يكون صلبا حازما شديدا في طلبه نقل الكتب الإنجليزية للشعب لا نقل الشعب للغة الإنجليزية.
ولكن سرعان ما هاج عليه الرجعيون والمتزمتون من رجال الدين يتهمونه بإفساد العقول وإفساد الدين وإفساد الوطنية، واشتبك في حرب عوان معهم انتهت بانتصاره بوضعه الحجر الأساسي لكلية فيكتوريا بغازي بور.
وحدث حادث كان له أكبر الأثر في إصلاحه، ذلك أنه في سنة 1869، وهو في نحو الثانية والخمسين من عمره، تقرر إرسال ابنه «محمود» إلى إنجلترا - عضو بعثة -، فانتهزها «السيد أحمد» فرصة وسافر معه؛ وحدثت له على السفينة طرائف رويت عنه من أحاديث في الدين تحدث بها مع أصدقائه من الإنجليز يدل على غيرته على الإسلام مع سعة عقل، وابتهج حين مروره على شاطئ جزيرة العرب لأنها مبعث النبي.
نزل إنجلترا وقابل كثيرا من عظمائها، منهم توماس كارليل، وقد حدثه «السيد» طويلا في محمد، ولعله كان لذلك أثر محمود في كتابة «كارليل» الفصل البديع عن محمد البطل في كتابه «الأبطال». وأخذ «السيد» يدرس نظم التربية في إنجلترا، ولفت نظره تربية الشعب الإنجليزي وثقافته أكثر مما لفت نظره تربية الخاصة. لقد دون إعجابه بخادمة المنزل تقرأ وتكتب، وبربة المنزل لها رأي في السياسة العامة. وبالحوذى يقرأ الجريدة ويحتفظ بها ليتم قراءتها عند انتظار راكب، ونادى إذ ذاك بفكرته المتغلبة على ذهنه قائلا: «إن الذين يريدون إصلاح الهند الحقيقي يجب أن يجعلوا نصب أعينهم نقل العلوم والفنون والآداب الأوروبية إلى لغة البلاد الأصلية، وأحب أن يكتب هذا الرأي بأحرف كبيرة جدا على جبال الهملايا لتذكرة الأجيال القادمة. إن تقدم الغربيين إنما جاء من أنهم عالجوا الآداب والعلوم بلغتهم، ولو كانت العلوم والفنون تعلم في إنجلترا باللغة اللاتينية أو اليونانية أو العربية أو الفارسية لظلوا جاهلين جهل الهند، فما لم نهضم العلوم والفنون ونتمثلها بلغتنا فستظل في حالتنا السيئة».
ولعل قارئ هذا يطفر ذهنه - إذا قرأ هذا النداء - إلى حالة البلاد العربية، ويقول كما قال «السيد أحمد» ما لم تتوحد اللغة العربية والعامية في الأمم العربية وتنتقل العلوم والفنون إلى لغة الناس التي يتكلمون بها في بيوتهم وشوارعهم ومعاملاتهم وسمرهم، فلا أمل في إصلاح حقيقي. ورحم الله أستاذي «علي بك فوزي» فقد زرته في الآستانة وجلست معه جلسات طويلة، أستفسر فيها عن ثورة تركيا ونتائجها ومحاسنها ومساويها، فقال لي مرة: «حبذا لو تعلمتم التركية لا لأن أدبها رفيع المقام، ولكن لتروا كيف استخدم الأتراك لغتهم وآدابهم لإصلاح عقولهم وشؤونهم». وعقب على ذلك فقال: «لا أمل في إصلاح مصر ما دام هناك لغة للعلم، ولغة للكلام، فإما أن ترقى لغة الكلام، وإما أن تنحط لغة العلم حتى يتحدا، وحينئذ فقط يكون التفكير الصحيح والرقي الشعبي».
وكنت مرة أقدم أديبا مصريا كبيرا لشرقي كبير، فسألني سؤالا غريبا: «هل هو يكتب للخاصة أو للعامة؟ فقلت: للخاصة، قال: ومن من الأدباء يكتب للشعب؟ قلت: لا أحد، قال: وا أسفاه!
واهتم «السيد أحمد» بدراسة نظام التربية في المدارس الشعبية وفي الجامعات الإنجليزية، وكان مما قاله: «إن الطفل في مدارس انجلترا يتربى ويتثقف، وأما في مدارس الهند فيتعلم، وشتان بين التربية والتعليم، وإن الشاب في الجامعات الهندية يفقد أخلاقه بسكناه في أوساط المدن مع المغريات المتعددة، كما أنه ليس في هذه الجامعات عناية بالأخلاق والآداب والدين، وأساتذتها ومدرسوها يعتقدون أن واجباتهم تنتهي بانتهاء دروسهم، وآمال الشبان ومطامحهم محصورة في وظائف حكومية، من غير تفكير في واجب لأنفسهم ولا لأمتهم».
يجب تغيير كل ذلك، ووضع منهج لمسلمي الهند غير المنهج الذي يسيرون عليه.
السيد أحمد خان (2)
عاد السيد أحمد من إنجلترا وهو عاقد العزم على إصلاح حال المسلمين في الهند عقلا ودينا ولغة وخلقا واجتماعيا، سواء في ذلك خاصتهم وعامتهم، مصمم على أن يغزو الجهل والجمود بكل ما يستطيع من قوة، وأن يحمل المسلمين بكل الوسائل على أن يتقبلوا المدنية الحديثة في علومها وفنونها قبولا حسنا، ويستخدموها في ترقية حياتهم، وأن يبذل الجهد في التوفيق بين الإسلام والمدنية؛ فالإسلام في جوهره وأصله معقول واسع الصدر لأحكام العقل غير مناهض لما يثبته العلم، فإذا نقى مما لحقه وليس منه أمكن أن يقبل المسلمون على العلم الحديث من غير حرج.
وضع من أول خططه بعد عودته أن ينشئ في الهند جامعة تكون للمسلمين كأكسفورد وكمبردج في إنجلترا، تربي الخاصة، ثم هم يربون العامة، وما زال يكد ويسعى ويجمع المال ويكافح العقبات توضع في سبيله، وأخيرا فاز بإنشاء كلية عليكره المشهورة وحدد لها أغراضا ثلاثة: (1)
أن تعلم المسلمين الثقافة الغربية والشرقية في غير تعصب ولا جمود. (2)
أن يعني فيها بحياة الطلبة الاجتماعية فيجدوا فيها سكنا يقيهم شرور للدن ومفاسدها، فيطمئن الآباء - حين يرسلون أبناءهم إليها - على أنهم في بيئة صالحة لخلقهم مرقية لآدابهم. (3)
أن يعني في نظام الكلية بترقية العقل وتربية البدن وتهذيب الخلق معا، وبعبارة أخرى أن يكون الغرض منها «التربية» لا التعليم فقط.
وتم بناؤها واستقبلت طلبتها تعلمهم على المنهج الذي اختطه، ونجحت في خلق جيل من المسلمين جديد مثقف ثقافة واسعة مع سعة في العقل وسماحة في الدين؛ وانتشر خريجوها في أقطار الهند يحملون رسالة جامعتهم ويضيئون ما حولهم، وأصبحت كلمة «عليكره» لا تدل فقط على كلية أو جامعة، وإنما تدل أيضا على نوع من العقلية الراقية، والصبغة الخلقية والاجتماعية الخاصة.
لقد أخذ الوطنيون المسلمون على خريجي هذه الجامعة وطلبتها أنهم لا يشتركون في الحياة السياسية مع فضلهم وسعة عقلهم وغزارة علمهم، حتى أنهم لا يضربون يوم تضرب الجامعات الإسلامية لغرض سياسي، ولكن هذه الصبغة هي التي صبغ بها السيد أحمد طلبته، إقبال على العلم وبعد عن السياسة.
فلما فرغ من هذه الجامعة أخذ يعمل في اتجاه آخر، فأنشأ مجلة دورية سماها «تهذيب الأخلاق» عالج فيها المشاكل الاجتماعية والدينية في جرأة وصراحة، وأخذ يفسر القرآن، ويدعو إلى أن القرآن - إذا فهم فهما صحيحا - اتفق مع العقل، وأن النظر الصحيح فيه يوجب الاعتماد على روحه أكثر من الاعتماد على حرفيته، وأنه يجب أن يفسر على ضوء العقل والضمير.
وتظرف أكثر من ذلك، فكان يقول بأن الوحي كان بالمعنى دون اللفظ، ذاهبا في ذلك مذهب علماء المسلمين المتقدمين الذين حكى قولهم السيوطي في الإتقان إذ قال: «وذكر بعضهم» أن جبريل إنما نزل بالمعاني خاصة، وأنه صلى الله عليه وسلم علم تلك المعاني وعبر عنها بلغة العرب، وتمسك قائل هذا بظاهر قوله تعالى: «نزل به الروح الأمين على قلبك»
1 .
إذ ذاك هاج عليه كثير من رجال الدين، وهيجوا عليه العامة وتعرضت حياته للخطر، وأراد أحدهم أن يطعنه مرة بخنجر فنجا منه بأعجوبة، ومع هذا ظل ثابتا جريئا في دعوته كما هو لم يتزحزح، ولم يداج ولم يمار، بل ربما كان بعد ذلك أقوى وأصرح فيما يقول وما ينشر، لا يعبأ بنقد ولا تهديد بقتل، ولا بأي ضرب من ضروب التخويف.
وكما كانت ناحيته الدينية جريئة خطيرة كذلك كانت ناحيته السياسية، فكان يرى أن الغرض الذي يجب أن يرمي إليه السياسي الهندي هو أن تكون الهند كلها أمة واحدة، وأن الإسلام والهندوكية والنصرانية يجب أن تكون عقائد دينية في نفوس معتنقيها فقط، ولكن هذه العقائد كلها يجب ألا تؤثر في الوطنية، فيجب أن يكون عند كل طائفة عقيدتها الخاصة بها ووطنيتها العامة عند كل الطوائف، أما النزاع الطائفي الديني، والنزعة إلى تقسيم الهند حسب الأديان ونحو ذلك، فكلها أفكار باطلة، وليس يؤدي إلى الاسقتلال الحق إلا حصر الدين في العقيدة، وتعميم الشعور بالوطنية بين كل الأفراد وفي كل الملل. وقال: «في قطر كالهند تتقسمه الطبقات، وتتوزعه النزعات الدينية الحادة، ولم تنتشر فيه التربية الصحيحة التي تعد الناس كلهم سواء في الحقوق والواجبات، أرى بل أعتقد أن الانتخاب والتمثيل في شتى المجالس ضرره أكبر من نفعه»، ولهذا رفض أن يشترك في المؤتمرات السياسية والأحزاب على اختلاف ألوانها، فأغضب رجال السياسة كما أغضب رجال الدين، ولم يعبأ بهؤلاء ولا هؤلاء. ووجه كل همه في أحب الأعمال إليه من اشتراك في المجلس الأعلى للتعليم، والمجلس الأعلى للخدمة الاجتماعية، والإشراف على سير كلية عليكره.
ثم كانت له فكرة عظيمة نافعة، وهي أن يجمع مؤتمرا كل عام يجتمع فيه قادة المسلمين في الأقاليم الهندية المختلفة، كل عام في مدينة، يلقون فيه الخطب والمحاضرات عن الشؤون الإسلامية وأمراض المسلمين وعلاجها، ويصدرون القرارات التي يرونها نافعة في ذلك. وكان الغرض الذي يرمي إليه «السيد» منه بث روح الائتلاف بين المسلمين في البلاد الهندية، وتبادل الآراء في خير الوسائل لترقيتهم، والتعاون على الأعمال المفيدة من إنشاء المدارس أو النهوض بها أو نحو ذلك، وقد نفذ الفكرة ونجح المشروع ورأس السيد المؤتمر خمس سنوات قبل أن يتوفاه الله، ثم استمر يجتمع بعد حياته برياسة بعض أصحابه وأتباعه.
لقد سيطرت روحه على المؤتمر في حياته وبعد مماته، وهي روح تدعو إلى الهجوم على المدنية الغربية، وأخذ كل شيء حسن فيها، وخصوصا العلوم والآداب «إن النور اليوم يأتي من الغرب بعد أن كان يشرق من الشرق، فيجب أن نأخذ من أوروبا علومها ومدنيتها، ونسير مع الزمان في مضمار الحياة العصرية، وذلك لا يفقد المسلمين شخصيتهم ودينهم، إنما يفقدهم ذلك الجهل لا العلم» «إن التعليم كان في الزمن الماضي دينيا محضا لا يعبأ بالدنيا وما فيها، وقد تطرف في الأولى وأخل بالثانية، فحبذا الجمع بين الدين والدنيا». «إن العلم اتخذ شكلا جديدا، فلم تعد طبيعيات أرسطو، ولا نظريات ابن سينا ولا جبر الخيام ولا كيمياء جابر بكافية، وهي لا تصلح للدراسة إلا من الناحية التاريخية». واهتم المؤتمر بالتربية وشؤونها، ينتقد التعليم ومناهجه ويقترح الإصلاح ويضع نصب عينه كلية عليكره «حتى تصل إلى درجة تساعد على ترقية النشء وتهذيبه، وحتى تصل إلى درجة تكون فيها منبع العلوم ومحط الرحال للطلبة من جميع الأقطار الإسلامية؛ وليس من البعيد عند ذلك أن ينبغ فيها أمثال ابن سينا وابن رشد وغيرهما من العلماء السابقين ينشأون في مهد العلوم الحديثة ويبحثون فيها وينهضون بها، فأن هؤلاء الناشئين بمساعدة المباحث والتجارب الكيمياوية والطبيعية والفنون المصرية والقواعد الطبية يعيدون لنا سالف مجدنا القديم، فيكون فيهم ابن موسى جديد يخترع آلات جديدة، وطوسى آخر يكتشف كواكب ويحدد دوائرها ويضع كتبا في علم الهيئة الحديثة وهكذا». «والذي نريده أن ينشأ أولادنا في عالم من الحرية بعيدين عن المضار والأوهام الفاسدة والعادات السخيفة التي تحيط بهم من كل جانب».
عليكم بالعلم، فإذا شئتم أن تتعلموا وتستفيدوا فانسلخوا من كثير من عاداتكم القديمة وأخلاقكم الوخيمة، واهتدوا بنور العلم في طريق حياتكم التي تسيرون فيها: «يجب علينا أن نشارك الأمم الغربية في معارفهم وأن نزاحمهم في مساعيهم بالمناكب والأقدام في كل خطوة يخطونها لكسب علم أو اختراع عمل، ولا منقذ لنا من براثن الفقر ومخالب الجهل إلا اقتطاف علومهم وإدخال مدنيتهم ليكون هناك شيء من التكافؤ بيننا وبينهم، حيث لا حافظ لنا من الهلاك في هذا المزدحم الشديد إلا التكافؤ».
هذه أقوال من أقوال أصحابه وأتباعه الذين حملوا الراية بعده في المؤتمر الهندي الإسلامي وكلها من روحه ومستمدة من تعاليمه
2 .
لقد ظل حياته يكافح في سبيل المسلمين في الهند كفاحا شديدا وهو صابر على رميه بأشنع التهم من كفر وإلحاد وفقدان وطنية، وأنه آلة إنجليزية، شجاع في مقابلة كل ما يقف في سبيله يجتاحه اجتياحا، يرى أن المسلمين مرضي لا يشعرون بمرضهم إلا إذا ذاقوا طعم العافية؛ فقراء لا يشعرون بفقرهم وسوء مسكنهم وغذائهم إلا إذا أكلوا الطعام الهني وناموا على الفراش الوثير في المسكن الفسيح، فعمل على أن يذوقوا العافية والغنى ليدركوا ما كانوا عليه من مرض وفقر، وكذلك كان.
فقد رأى مسلمو الهند ناشئة جديدة عاقلة مفكرة مهذبة تصلح للحياة، ورأوا كلية عليكره تنتج في البلاد حركة فكرية بديعة، وتؤلف الكتب القيمة في أسلوب جديد قويم؛ وأخذت الحياة تدب بين المسلمين بعد خمودها، فآمنوا إذ ذاك بأن «السيد أحمد» مصدر نعمة وبركة، لا كارثة ونقمة. وإن اختلفوا معه في بعض آرائه.
ثم كانت له جولة إصلاح عظيمة في اللغة الأردية؛ لقد كانت هذه اللغة قبله كاللغة العربية في عهد الظلام: عشق وغرام ومديح، وأسلوب مزركش الظاهر فارغ الباطن، فنقلها إلى آفاق واسعة، وأصبح من موضوعاتها السياسية والاجتماع والأخلاق والدين والتاريخ والأدب في أسلوب متين فيه القوة والسلاسة والصفا، والسعة، غزير بالمعنى، خال من التصنع.
لقد بدأ «السيد» حياته في اللغة الأردية شاعرا، فكان شاعرا عاديا لم يلفت النظر إليه، فلما اتجه إلى النثر ملك ناصيته وفتح فيه فتحا مبينا، وبدأ ذلك في جريدته التي أنشأها واسمها «سيد الأخبار»؛ فلما أنشأ بعد جريدة «تهذيب الأخلاق» بلغ في ذلك الغاية. وأئتم به كثير من الكتاب وأصحاب الجرائد فعالجوا بهذه اللغة موضوعات لم تكن تعالج فيها من قبل، وبذلك أخذ الأدب الأردي يشق طريقه إلى التقدم؛ يقول هو في ذلك:
لم آل جهدا في ترقية العلم والأدب باللغة الأردية على صفحات جرائدي المتواضعة، واتخذت في ذلك أسلوبا يجمع بين السهولة والجزالة لا تعقيد فيه ولا تكلف، تجنبت فيه الألفاظ الرنانة، والاستعارات والكنايات الوهمية التي تنحصر في الشكل ولا تتصل بالقلب، وجهدت في تشويق القارئ إلى ما أكتب فيه، ونقل مشاعري وعواطفي إلى مشاعره وعواطفه.
وتعددت موضوعات كتاباته فطرق كل موضوع، وعالجه معالجة من يلقى عليه ضوءا كاملا لا يتركه حتى يكون واضحا جليا في جميع جوانبه.
ثم وجه الناس إلى العناية بهذه اللغة وأدبها، ونقل كثيرا من خير الآداب الأجنبية إليها. وكان له رأي في الترجمة إلى اللغة الأردية بديع، وهو عدم التقيد بالحرفية في الترجمة، ويرى أن هذا أسلوب واه ضعيف؛ وإنما الواجب أخذ الأفكار وعرضها عرضا جديدا بطريقة تتفق وذوق الهنود وتلائم أفكارهم. ولم تكن اللغة الأردية تشتمل على مصطلحات علمية، فجد في صياغة اللغة صياغة تتناسب مع العلم، ووضع ما استطاع من المصطلحات؛ وسار على هذا المنهج طلبته.
قال الأستاذ شبلي النعماني عالم الهند العظيم: «طالما كان النزاع بيني وبين السيد أحمد شديدا في آرائه الدينية، وطالما فندت آراءه، ومع هذا لا أنكر فضل أسلوبه العالي الذي استخدمه في شرح أفكاره، فكان أسلوبا رائعا منقطع النظير، مملوءا بالفكاهة الحلوة، والتنادر الظريف.
حدث مرة أن مولوي على بخش نقده نقدا مرا، ثم ذهب إلى مكة بقصد الحج وأخذ فتوى من علماء مكة بتكفيره، فكتب السيد أحمد في «تهذيب الأخلاق»:
ما أعجب إلحادي، قد جعل مني كافرا وجعل منه حاجا مؤمنا - إني لفي شوق شديد لأن أرى فتواه، إنه كما قال الأول: إذا خرب بيتي بيت الأوثان، قام على أنقاضه بيت الإيمان. إن إلحادي كالأمطار، تخرج أحسن الورود في البستان، وأحسن الكلأ في الوديان.
ولما صدر الأمر بإغلاق جريدة «تهذيب الأخلاق» كتب في آخر عدد منها:
طالما طرقت باب النيام ليستيقظوا، فإن فعلوا فذلك ما أبغي، وإن تخبطوا عند انتباههم وترنحوا يمنة ويسرة فمرحلة لا تستوجب الرضا، ولكنها مع ذلك تستوجب الأمل في يقظة المستقبل، وليتها تكون.
وعندما ترى الأم طفلها مريضا تلح عليه أن يشرب الدواء المر، وهو يلح دعيني يا أماه قليلا فسأشربه بنفسي.
وأنا كذلك سوف أطرق باب النيام دائما ليستيقظوا، وسأصيح بالأطفال المراض اشربوا اشربوا حتى يتجرعوا.
لا أكل ولا أمل.
وظل كذلك يدق الباب، ويلح في شرب الدواء حتى أدرك الناس أخيرا جدا أنه قام بعمل جليل في لغة قومه وعقليتهم وتعليمهم وتربيتهم، مهما عابوه في بعض تعاليمه الدينية، وبعده عن التدخل في السياسة القومية.
فلما زار البنجاب في آخر حياته استقبل استقبال الملوك الظافرين، والغزاة الفاتحين، بل المصلحين الناجحين، وأنساه نعيم الآخرة شقاء الأولى.
ولما بلغ الحادية والثمانين من العمر أسلم روحه لخالقه، فبكاه الأوروبيون والهندوس والمسلمون على اختلاف عقائدهم وطبقاتهم ومذاهبهم السياسية والاجتماعية، وأشد ما بكوه من أجله، شجاعته التي لا تحد في تنفيذ خطته، وصراحته البالغة في الجهر برأيه، وعدم اعتداده بنقد الناقدين على اختلاف ألوانهم، وإصراره على ألا يسمع إلا لصوت ضميره؛ ينقد الإنجليز في ترفعهم، والمواطنين في تخلفهم، ورجال الدين في جمودهم، ورجال السياسة في تخيلهم، على حد سواء، ويبكونه أكثر من ذلك لأنه مصلح عملي، لا يكفي بالنظريات والمبادئ يثيرها، ثم يهدأ ضميره لأنه قد أدى واجبه، بل لا يزال يسعى ويكدح وراء مبادئه حتى يخرجها في بناء وفي طلبة وفي معمل وفي مؤتمر وفي مجلة وفي درس، وهي ميزة ندر أن تكون في المصلحين، ولذلك كانت نتيجته في إصلاحه عملية كسيرته؛ فلو رأيت مسلمي الهند أيام سلمهم، ورأيتهم أيام تسلمهم لوجدتهم قد ارتفعوا درجات في العلم، وفي الفكر، وفي الخلق، وفي اللغة، وفي الصلاحية للحياة؛ حتى لو قلنا إن تاريخ المسلمين في الهند قد تحور واتخذ اتجاها جديدا في حياته وبحياته لم نعد الصواب.
ثم نرى في بعض المصلحين عيبا كبيرا؛ وهو أنهم لا يربون من يحمل علمهم، ويكمل خطتهم، وكثيرا ما يكون سبب ذلك اعتدادهم بأنفسهم مع شخصيتهم القوية التي لا تسمح لشخصية عظيمة أخرى أن تظهر بجانبهم، فتلتف حولهم الشخصيات الضعيفة التي تتقن الملق والنفاق، وتغذي بأقوالها وأعمالها عظمتهم واعتدادهم بأنفسهم، وتنفر منهم الشخصيات القوية لأنها ترى في نفسها ندا أو شبه ند، لأن كرامتها تأبى أن تنزل عن رأيها لرأيهم، أو تتصنع النفاق للقرب منهم، فإذا مات مثل هؤلاء مات إصلاحهم إلا من الرؤوس أو ثنايا كتب التاريخ - ولم يكن «السيد أحمد» من هذا الطراز، فهو قوي جبار في اعتناقه آراءه ومبادئه والجهر بها والعمل عليها، ولكنه سمح النفس مع الناقد الشريف، باذر الحب للنفوس حوله حتى تنمو وتقوى، مشجع لأتباعه وتلاميذه أن يروا رأيهم، ويستعملوا حقهم في صراحتهم، كما يستعمل حقه في صراحته.
ولذلك كان حوله وبعده من يكمل خطته، ويسلك منهجه، ويحمل رايته، ويصلح ما أخذ عليه من مثل سراج علي، والسيد أمير علي. (1) مدرسته (1-1) سراج علي
كان من أهم مدرسة «السيد أحمد خان» وأصحابه المشاركين له في العقلية نوع الإصلاح وإن خالفوه في بعض التفاصيل مولوي سراج علي، والسيد أمير علي.
فأما «سراج علي» فمن أهم مواقفه الدفاع عن الإسلام من ناحية خاصة غير الناحية التي عرض لها رينان والسيد جمال الدين، وغير ما عرض له هانوتو والشيخ محمد عبده .
ذلك أن بعض الإنجليز في الهند أثاروا مسألة هامة ومنهم مستر ملكولم مكل
Malcolm MacColl
نشر في مجلة
Contemporary Review
في عدد أغسطس سنة 1881 مقالا بعنوان «هل الإصلاح ممكن تحت نظام الحكم الإسلامي؟» ذكر فيه أن الإسلام صلب جامد غير قابل للتغير، ومبادئه القانونية والدينية والسياسية والاجتماعية مؤسسة على أراء ثابتة قاطعة محدودة لا تقبل زيادة ولا نقصا، ولذلك ليس فيها من المرونة ما يجعلها صالحة لمواجهة الأحوال الطارئة، ولا لتغير الظروف والبيئة المتجددة، فالتشريع عندهم راكد، ونظام الحكومة ثيوقراطي يديرها الخليفة أو السلطان نيابة عن الله ، إلى آخر ما قال شرحا لهذه النظرية، التي تنتهي بأن الإصلاح في ظل النظام الإسلامي غير ممكن، وقد وافقه على هذا الرأي بعض من إنجليز الهند وكتبوا مؤيدين رأيه.
فانبرى «سراج علي» لتنفيذ هذا الرأي في جرأة وصراحة قد لا يوافق على بعض ما يقوله بعض المسلمين إذ فيه نزعة «السيد أحمد» الجريئة، فقال:
إن الإسلام كما شرحه محمد رسول الله
صلى الله عليه وسلم
له من المرونة ما يمكنه أن يعدل نفسه وفق التقدم السياسي والاجتماعي للعالم، والتشريع الإسلامي كما جاء في القرآن لا يمكن أن يقال فيه إنه غير قابل للتقدم. «وكما كان اتساع الدولة الإسلامية بعد الرسول داعيا إلى وجود المجتهدين كأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم، ليواجهوا مطالب الحياة الاجتماعية، ويشرعوا لها تطبيقا على الأصول الإسلامية، فكذلك نحن الآن. فتغير الإقليم والأخلاق والمعاملات والتاريخ والحضارة في الأقطار الإسلامية يجب أن يواجه باجتهاد من جنس الاجتهاد السابق، يراعى فيه ما حدث للمسلمين من تغير سياسي واجتماعي، فليس التشريع منطقا صرفا، ولا نظريات محضة، وإنما هو علم تجارب واستنتاج من الواقع، فيجب أن تقابل ظروفنا ببحث واجتهاد في حياتنا كما قابل أبو حنيفة والشافعي وغيرهما الحالة في أزمانهم، وليس ذلك مخالفا لروح الدين في شيء؛ والمذاهب التي واجهت الماضي وكانت صالحة له لا يمكن أن تطبق بحذافيرها على العصر الحاضر من غير أن يدخلها التعديل الذي يقتضيه الحال.
وليس أحد من المجتهدين السابقين حتم طريقته في الاستنتاج والاستنباط، ولا قال إن كلمته هي الأخيرة، بل إنهم - رحمهم الله - لم يوجبوا ذلك على معاصريهم، فكيف يوجبونه على المستقبل مع تغير الظروف والأحوال والأوضاع؟! إنما الذي قال ذلك بعد المقلدون الذين لم يكن لهم من صدق النظر وعمق التفكير والمعرفة بأحوال الزمان ما للمجتهدين، وسلبوا أنفسهم حق الفكر، ونادوا بعدم الاجتهاد. وجاء بعد ذلك بعض المستشرقين أمثال مستر سل
Sell
فأخذوا أقوالهم بدعوى أن هذا هو الإسلام وهم في ذلك مخطئون، ولو رجعوا إلى المجتهدين أنفسهم ومصادر الدين الأولى ما وقعوا في هذا الخطأ؛ فهؤلاء الحنابلة أنفسهم قرروا وأكدوا أنه يجب أن يكون في كل زمان مجتهد لقوله عليه الصلاة والسلام: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى يأتي أمر الله»، ولأن الاجتهاد فرض كفاية في كل عصر، لأن الحوادث غير متناهية، وهذا أحد المتأخرين من علماء الهنود مولوي عبد العلي شارح كتاب «مسلم الثبوت» يقول: «إن من الناس من حكم بوجوب خلو (العالم من مجتهد) بعد العلامة النسفي، وقالوا إن الاجتهاد المقيد ختم به، والاجتهاد المطلق ختم بالأئمة الأربعة، حتى أوجبوا تقليد واحد من هؤلاء الأئمة، وهذا كله هوس من هوساتهم لم يأتوا فيه بدليل، ولا يعبأ بكلامهم، وإنما هم من الذين حكم الحديث بأنهم حكموا بغير علم فضلوا وأضلوا.
واستمر سراج علي فقال: إن أصول الأحاكم في الإسلام القرآن والسنة والإجماع والقياس، أما القرآن فلم يقل إنه أتى ليعلم القوانين الاجتماعية والسياسية ولا القوانين المدنية في شرح وتفصيل، وما تعرض له منها كان لبيان فساد بعض العادات العربية، ككثرة تعدد الزوجات، وسهولة الطلاق والرق، ومهاجمة الأخلاق الفاسدة التي تضر المجتمع؛ وأكثر الأحكام التفصيلية التي استنتجها الفقهاء في القانون المدني والجنائي والسياسي إنما استنتجوها من ألفاظ مفردة، وآيات وردت في السياق، ومع الأسف كان اعتمادهم على التمعن في الألفاظ والجمل أكثر من اعتمادهم على روح الآيات - لقد ذكروا أن آيات الأحكام في القرآن نحو من مائتي آية من ستة آلاف آية في القرآن، وأنا أعتقد أن نحو ثلاثة أرباع هاتين المائتين، ترجع إلى تعسف في الاستنتاج، من اعتماد على لفظ أو إمعان زائد في شرح. وعلى الجملة فالقرآن لم يتدخل - في نظري - في الأمور السياسية، ولا في تفاصيل القوانين المدنية والجنائية، إذ إنما يهمه التعاليم الدينية والقواعد العامة الأخلاقية، ومن أجل هذا بدأ المتنورون من علماء المسلمين في العالم الإسلامي - وخاصة في تركيا والهند في القرن التاسع عشر - يعتقدون بحريتهم في وضع النظم السياسية والاجتماعية والقانونية من غير أن يكونوا مخالفين للدين.
وأما الحديث فبحر واسع تعرض لموضوعات مختلفة اجتماعية وسياسية وقانونية جمعت كلها في كتب الحديث.
ولكن في الحق أن كثيرا من الصحابة لم يكونوا يرون جمع الحديث وتدوينه، وإن كان بعضهم الآخر - وخصوصا في الجيل التالي - قد حرص على جمعه. ونما الحديث نموا كبيرا وكثر الوضع فيه حتى أصبح بحرا لا ساحل له، واشتمل على حق وباطل، وحقائق وأساطير، وأصبح كل مذهب في العقائد وكل نظام سياسي واجتماعي يؤيد بالأحاديث الموضوعة، كما توضع لخدمة غرض خليفة أو أمير، واستخدام اسم الرسول
صلى الله عليه وسلم
في تغطية السخافات واختراع الأباطيل وخدمة الاستبداد.
وجمع الحديث في الكتب الستة جاء متأخرا في القرن الثالث الهجري، ونقده وتمحيصه لم يكن مؤسسا على معقولية الحديث، ولا على أحداث التاريخ ولا على امتحان صوابه، إنما اقتصر على الرواة والسند وتلقى بعضهم من بعض ونحو ذلك من الأوضاع الشكلية.
فليس - إذن - من الحق أن نقرر أن الأحكام المستمدة من الحديث غير قابلة للتغيير والتعديل، خصوصا إذا علمنا أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
نفسه لم يطلب من أصحابه تدوين حديثه الشفوي، وأنه لم يتدخل في النظم السياسية والقانونية ما لم تصطدم بروح الإسلام وتتعارض مع مبادئ الأخلاق.
وأما الإجماع - وهو اتفاق علماء الأمة في العالم الإسلامي على أمر لم يرد فيه كتاب ولا سنة - فقد أنكره داود الظاهري ومحيي الدين بن العربي وابن حبان وابن حزم، وقيل أن أحمد بن حنبل أنكره إلا أن يكون إجماعا للصحابة، وأنكر مالك الإجماع إلا إجماع أهل المدينة، كما أنكره النظام من المعتزلة الخ الخ وقد اهتز هذا الأصل وتزعزع بكثرة من هاجمه من العلماء وبقولهم بعدم وقوعه وعدم إمكانه.
بقى القياس وهو في الحقيقة ليس منبعا مستقلا لاعتماده على الكتاب والسنة والإجماع، وقد أبنا رأينا فيما يعتمد عليه القياس، فكيف يقال إن أحكامه غير قابلة للتغير؟!
ومع هذا فما وصل إليه علماء الفقه الإسلامي وواجهوا به تقدم الزمان يستدعي الإعجاب، وبعضه صالح إلى الآن، وبعضه يحتاج إلى إعادة النظر فيه وتعديله كبعض مسائل الزواج والطلاق، كما تحتاج المسائل الاجتماعية والسياسية والقانونية إلى نظرة جديدة تتفق وتطور الزمن وتغير الظروف، ويقوم بها المتأهلون للاجتهاد بجودة ثقافتهم وصحة نظرهم ومعرفتهم بزمانهم.
وليس في تعاليم القرآن ومبادئ الرسول
صلى الله عليه وسلم
ما يمنع من الرقي الروحي، وحرية التفكير في وجوه الإصلاح والإبداع في كل مرافق الحياة، سواء كانت سياسية أو اجتماعية أو عقلية أو خلقية، بل كل هذه النواحي من الإصلاح قد شجع عليها القرآن، مثل قوله تعالى:
فبشر عباد * الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب .
فاستبقوا الخيرات .
يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين .
ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير .
فهذه الآيات تحث العقل على التفكير في الرقي في مناحي الحياة المختلفة والإسراع إليه، وقد شجع رسول الله على الاجتهاد وإعمال العقل عندما قال معاذ إن لم أجد كتابا ولا سنة أجتهد رأيي؛ ولم يقف في سبيل أي تغيير صالح، ولم يشأ أن تكون الأحكام جامدة راكدة.
ثم عرض لما قاله المستر ملكولم من قوله إن الحكومة الإسلامية حكومة ثيوقراطية تخضع لقانون إلهي لا يتغير، غاضة النظر عما حدث في العالم من تغير في القرون المتوالية، واقفة في وجه كل إصلاح يقتضيه الزمان.
فرد عليه بأن الحكومة الإسلامية ليست ثيوقراطية، وقد كانت في عهد الخلفاء الراشدين حكومة ديمقراطية مؤسسة على اختيار الخليفة، ولم يكن في أيامهم قانون دستوري مكتوب يحتم طريق السير على نظام خاص إلا ما توحيه أصول القرآن. ثم استعرض الأدوار التي مرت عليها الحكومات الإسلامية ونظم الحكم فيها، وأبان خطأ الباحثين من مثل ملكولم من عدم تفرقتهم بين تعاليم القرآن وأقوال الفقهاء، قائلا إن المسلمين يقدسون القرآن، ولكن لا يقدسون أقوال الفقهاء؛ وإذا رجعنا إلى القرآن لم نجد نصا واحدا يفرض نوعا من الحكومة خاصا، بل إن رسول الله نفسه لم يشأ أن ينص على من يخلفه، وترك ذلك للمسلمين يرون ما فيه المصلحة لهم، وليس في تعاليم القرآن ما يمنع أن ينظر المسلمون في نوع حكومتهم ونظامها حسب مقتضيات الزمان وتغير الظروف، وكل ما يطالبهم به هو اتباع مبادئه الروحية والأخلاقية.
وختم هذا البحث بقوله إن الإسلام - متى فهمناه على أنه تعاليم القرآن ومبادئه الأساسية - دين قابل لكل تقدم، فيه من المرونة ما يواجه بها التغيرات الاجتماعية والسياسية، وفيه كل الحيوية التي تخدم التقدم السريع والمعقولية، أما تعاليم الفقهاء فليست بالمعصومة، وإذا كان فيها ما يدعو إلى الركود فلا علينا إذا نبذناها، واسترشدنا بالقرآن نفسه.
وهكذا خصص «سراج علي» جزءا كبيرا من حياته في الرد على ما ينشر في المجلات والكتب بالإنجليزية في المطاعن على الإسلام من هذا القبيل.
فكتب في نظر الإسلام في العلاقة بين المسلمين وأهل الأديان الأخرى، وفي دار الإسلام ودار الحرب، ومن رأيه أن هذا التقسيم ليس جامعا، وأن الهند ليست دار إسلام ولا دار حرب. وكتب في الرق في الإسلام وفي نظام الحرب، ودافع عن تركيا المسلمة وضرر الامتيازات الأجنبية ومعاملة المسلمين للمسيحيين والمسيحيين للمسلمين الخ، مما يطول لو لخصنا رأيه في كل ذلك.
3
ولعل القارئ يدرك من هذا التلخيص تطرف «سراج علي» في بعض آرائه، وخاصة ما يتعلق منها بطريقة استنباط التشريع من القرآن ومهاجمته للحديث، ثم إن هذا الرأي في جملته ينتهي إلى نتيجة خطيرة، وهي حصر الدين في القيادة الروحية، والهداية الأخلاقية، وإقامة الشعائر الدينية، ثم بعد ذلك يكون عقل المشرعين حرا في درس حياة الأمم وما وصل إليه التقدم القانوني والسياسي والاجتماعي، والاستفادة والاقتباس منه حسب حاجات الزمان ومقتضيات الظروف؛ وهذه صبغة تتجلى في هذه المدرسة، مدرسة السيد أحمد خان وسراج علي والسيد أمير علي، ولهذا لم يوافقهم عليها كثير من المسلمين، وإن وافقوهم وحمدوهم في نواحي الإصلاح الأخرى، كما حمدوا لهم غيرتهم الدينية، ودفاعهم المجيد عن الإسلام، وردهم هجمات كثير من كتاب الأوروبيين مما كان له أثر حميد عند المنصفين منهم ورجوعهم عن موقفهم. (1-2) السيد أمير علي
أما «السيد أمير علي» فمصلح عملي من جنس «السيد أحمد»، بل ربما كان أكثر منه تقديرا للحياة الواقعية ومواجهتها.
لقد قابل «السيد أحمد» في إنجلترا، ثم قابله في الهند، وطالما تجادلا لاختلاف وجهة نظرهما في إصلاح مسلمي الهند، فالسيد أحمد يرى أن الإصلاح وسيلته التربية والتعليم فقط من غير انغماس في أية ناحية من النواحي السياسية؛ والسيد أمير علي يرى أن التربية وسيلة صحيحة، ولكن لا بد بجانبها من علاج الشؤون السياسية للمسلمين في الهند، ووضع خطة لها إزاء خطة الهندوكيين، وإلا ضاع المسلمون بجانب الهندوكيين؛ لا بد من وضع غرض سياسي وتنظيم خطة وتحديد مطالب ورسم طرق السير، والسيد أحمد يأبى ذلك ويقول لا شيء إلا التربية. ولهذا سار كل منهما على مبدئه، فالسيد أمير علي يؤسس سنة 1878 «الجمعية الوطنية الإسلامية» للدفاع عن حقوق المسلمين وتحديد الوضع السياسي لهم، ويدعو «السيد أحمد» للعمل معه فيأبى.
وأخيرا جدا، وفي آخر حياة «السيد أحمد» يؤمن بصحة نظرية السيد أمير علي، بفضل حوادث الهندوكيين، فيؤسس «جمعية الدفاع الإسلامية».
يمتاز «السيد أمير علي» بثقافته الغربية والشرقية الواسعة، فقد تعلم العربية والفارسية، ثم اتصل في شبابه بأدباء الإنجليز في الهند، فدرس الآداب الإنجليزية دراسة عميقة. لقد قرأ بإمعان أكثر روايات شكسبير، والفردوس المفقودة لملتن، وحفظ «شيلي»، وقرأ لكيتس، وبيرون، ومور، وكل روايات ولتر سكوت، وكتاب جيبون في أسباب سقوط الدولة الرومانية إلى غير ذلك.
هذا إلى دراسته القانونية، وحصوله على درجة جامعية فيها من الهند قبل سفره إلى إنجلترا، ثم ذهابه إلى إنجلترا عضو بعثة، وثقافته الواسعة فيها، ودراسته الأدبية والتاريخية لتغذية نفسه؛ ثم كان له من بروز شخصيته، ونبالة نفسه، واعتداده بأنه شريف النسب تنتمي أسرته إلى النبي العربي، ما جعله يظهر في الأوساط الإنجليزية، ويؤكد صلات الصداقة بينه وبينهم ويتعرف الحياة الاجتماعية الإنجليزية أدق معرفة.
كل هذا مكن له في شق طريقه إلى الإصلاح.
وكان حسن استعداده الأدبي، ودراسته الآداب الإنجليزية في سعة وعمق، مما مكن له في السيطرة على أسلوب إنجليزي أدبي ممتاز، استخدمه في نشر كتبه الإسلامية المملوءة حماسة وغيرة على الإسلام.
ففي أواخر سنى دراسته في إنجلترا أصدر كتابا عن «محمد وتعاليمه» كان له صدى بعيد في الأوساط الأوروبية والهندية. وقد قال عنه المستشرق أسبورن
Osborn : «إن هذا الكتاب يستحق الإعجاب حقا؛ وقد كتب بأسلوب يدل على ملك كاتبه لناصية اللغة الإنجليزية، أسلوب قل من يستطع أن يجاريه من الإنجليز المثقفين، أسلوب خلا من العيوب التي وقع فيها مثقفو الهنود ... ويجب أن يهنأ مسلمو الهند على أن يكون منهم من بلغ هذه الدرجة، ومن المستحيل على من فاتحة أعماله هذا الكتاب ألا يكون له في مستقبله أثر فعال عميق في قومه، أما موضوع الكتاب فإننا نخالفه في كثير من مسائله. وسنعرض وجهة نظرنا ووجه خلافنا فيما بعد».
واستعمل قلمه البليغ هذا في كتابيه الكبيرين «مختصر تاريخ العرب» و«روح الإسلام»، ففي الأول لخص تاريخ المسلمين، وعنى بوصف حالتهم الاجتماعية في أسلوب سهل جذاب؛ وفي الثاني عني بوصف الدين الإسلامي، عن الإسلام، وقد أفرغ فيها - كما قال المؤلف - قلبه.
ثم كتبه المختصرة في الدعوة إلى الإسلام.
ونشر هذه الكتب بالإنجليزية البليغة كان له أثر كبير لم يسبق إليه، وهو تعريف الأوروبيين بالإسلام ومحاسنه من مسلم متحمس، إذ لم يكونوا يسمعون عن الإسلام إلا من مستشرقين.
ولما عاد إلى الهند خدم القضاء بمنصبه وتأليفه في القانون الإسلامي، وخاصة في الأحوال الشخصية، مستعملا فيها مرونته العقلية، متأثرا بمدرسته من أن له ولأمثاله الحق في الاجتهاد في الأحكام.
ثم قاد الحركة السياسية الإسلامية في الهند، ودافع عنها ولقي في ذلك عناء شديدا، وكان في كثير من الأحيان يضطهد من المحافظين الإنجليز، وإن كان يشجع من أحرارهم، ويكره من الهندوكيين لاصطدامه معهم في إصلاح المسلمين، ويخاصم من كثير من المسلمين أنفسهم لأنه متزوج إنجليزية، ويتبع النمط الإنجليزي في معيشته الخاصة.
ومع هذا سار في طريقه في الإصلاح والعمل، يؤلف الجمعيات المختلفة لذلك، ويقول في بعضها: «إن غرضه ترقية الشعور الطيب بين الهنود على اختلاف طبقاتهم وعقائدهم، وفي الوقت عينه حماية مصالح المسلمين، وتبصيرهم السياسي بشؤونهم».
هذه هي الدعوة التي كان يدعو إليها دائما، يسالم الهندوكيين والإنجليز ما سالموه وما حفظوا حقوق المسلمين، فإذا تعدى أحد عليهم دافع في شدة وإخلاص، فهو يقول في إحدى خطبه: «إن المسلمين في الهند لهم حقوق سياسية واضحة أمام الحكومة وأمام الهندوكيين، فما لم تجب هذه المطالب أخشى أن تنقلب مطالبهم إلى عصبية حادة، إن مطالبهم حقة، وهم لا يطلبون غير ما فيه العدالة، إنهم يطالبون بتمثيلهم السياسي تمثيلا يتفق وعددهم وأهميتهم وتاريخهم، تمثيلا عادلا مؤديا لتمثيل الأكفاء. إن المسلمين يأبون أن يمتاز عليهم الهندوكيون في أي حق من الحقوق السياسية، فإذا سوى بين الجميع فالمسلمون يرحبون بالإصلاح».
واستعمل نفوذه وقلمه ولسانه في إنهاض المسلمين لإدراكهم حقوقهم والمطالبة بها، سواء منهم من كان في الهند، ومن كان في إنجلترا - هذا من جهة - ومن جهة أخرى منازلته من أراد انتقاص حق المسلمين؛ وكتاباته الكثيرة القوية لساسة الإنجليز في الهند، وكبار ساستهم في إنجلترا، ورده على الجرائد الإنجليزية كالتيمس وجازيت وغيرهما. واستمر في ذلك في صراحة وجرأة حتى أبلغ يوما على لسان صديق له «أن حكومة الهند فقدت ثقتها به».
ونشطت سياسته أيضا في مناصرة الدولة العثمانية بعد خروجها من الحرب الماضية مهزومة، فطالب بالإبقاء على كيانها، وحرك الرأي العام المسلم في الهند لعطفهم عليها وتأييدهم لهم، وكتب في ذلك وخطب؛ وله موقف لاذع في جمعية من الجمعيات، إذ اقترح خطيب أن تكون الآستانة مدينة حرة، وتكون مركزا لعصبة الأمم، فرد عليه في بديهة حاضرة بقوله: إن فلسطين أولى بذلك، لأنها «مدينة السلام في الأرض» والدعوة إلى الخير العام للناس منذ نحو ألفي عام.
وإلى جانب حياته العلمية والسياسية النشيطة كان نشاطه في إصلاح الحياة الاجتماعية لمسلمي الهند، وأهم ما التفت إليه من الإصلاح ودعوته لإصلاح الأوقاف في الهند من مطالبته بالاستيلاء عليها من الحكومة، وإصلاح وجوه الصرف فيها وتنظيمها، وقد لاقى في ذلك عناء شديدا؛ ثم دعوته إلى إصلاح المرأة وتعليمها؛ وقد رأس المؤتمر الإسلامي الذي أسسه السيد أحمد خان في بعض السنين بعد وفاة السيد أحمد، وكان مما دعا إليه فيه هاتين الدعوتين، قال في مؤتمر سنة 1900: «إن بالأوقاف وخيراتها انتشرت العلوم، وتقدمت المعارف، وأدت وظيفة نافعة في جميع الأقطار الإسلامية، وكان لها نفع عظيم في البلاد الهندية، ولكن تغيرت الأحوال وخرجت أوقاف كثيرة من يد المسلمين إلى أيدي الغير، وتلاعبت بها الأيدي ... ولهذا أدعو المسلمين إلى السعي في هذا الموضوع، طالبا من الحكومة أن تعني بمسألة الأوقاف وإحاطتها بما يحفظها، فهي فخر المسلمين وحصنهم الحصين تجاه الفقر والأيام العسيرة الخ.
وقال عن المرأة: «لقد أتى على المسلمين زمن كان النساء فيه يلقبن بأمهات الرجال»، فهل يمكننا الآن أن ننعتهن بهذه الصفة؟ كلا إنهن آلة في أيدي الرجال يوجهونهن كيف شاءوا - وإذا كنا نريد أن نرتفع في سلم المدنية والارتقاء، وأردنا أن يحترمنا الناس، فلا بد لنا من تربية بناتنا حتى يصلن إلى أن يكن «أمهات رجال» - إني أعتقد أن تربية البنات يجب أن تسير جنبا إلى جنب مع تربية البنين، لأننا إذا أهملنا النصف المكون لحياتنا الاجتماعية ساءت النتيجة؛ إذ ينفر الجزء المتعلم من الجزء الجاهل، ويبعد عن مصاحبته ومعاشرته ما استطاع، ويحاول أن يسير في تيار لا يرضي الشرف، أو ينحط بفكره ليعاشر ذلك الشريك المنحط في حياته.
ولذلك أرى من اللازم الضروري أن يسعى مسلمو الهند في تعليم بناتهم من هذا الوقت، وأن يضعوا أمام أعينهم النموذج الذي يسيرون عليه إلى الأمام». الخ الخ.
ومن أنبل أعماله الأخيرة ما كان منه في الحرب بين إيطاليا وتركيا والعرب في طرابلس، فقد علم أن جمعية الصليب الأحمر تعني أكثر ما تعني بالمجروحين من النصارى، وليس من يقوم بجرحى المسلمين، فسعى لتأليف جمعية تجمع المال من الخيرين، وتنظيم وحدات علاجية لجرحى العرب والترك، واستمر يكافح في هذا العمل سنين، وعندما سأله المشرف على فرق العلاج هل وظيفته فقط أن يعني بجرحى المسلمين؟ قال له: «إن وظيفتك الأولى أن تعني بجرحى العرب والترك، ولكن هذا لا يمنعك أن تمد يد المعونة لجرحى النصارى واليهود في ساعات الضيق والحرج».
وهكذا كان عمله وعمل جمعيته في مساعدة الجرحى والبائسين في حرب البلقان وفي الحرب العظمى الماضية. •••
لقد كان أهم ما يمتاز به السيد أمير علي «الإخلاص للعقيدة»، عقيدته في دينه، وعقيدته في قومه، وعقيدته في وطنه، ورأى أن مواهبه في لسانه وفي قلمه فصقلهما صقلا بلغ بهما الغاية، فهو في لسانه خطيب بارع، وفي قلمه بليغ ساحر، فلما أن بلغ بهما هذا المبلغ وضعهما في خدمة عقيدته، يكتب عن الإسلام وعن محمد فتصل كتابته إلى كثير من الأوروبيين الذين لم يسمعوا عن الإسلام ومحمد إلا التافه من القول، وتصل إلى مواطنيه فيرون معلومات مألوفة قد عرضت عرضا جديدا حتى كأنها جديدة، ويوم يصل إليهم كتابه عن «محمد» يسامحون من المدارس يوما احتفالا بهذا الكتاب واعترافا بحسن أثره.
ثم يستعمل لسانه وقلمه في خدمة قومه من المسلمين فيحركهم ويجمع شملهم ويدفعهم لمطالبتهم بحقوقهم، فيفقد بذلك كثيرا من المال كان يصح أن ينهال عليه، ومن ألقاب الشرف كان يمكن أن ينالها بمركزه ومواهبه وجاهه، ولكنه كان راضيا بما في يده مع راحة الضمير، وكارها طعم الغنى والألقاب مع عصيان الضمير، وهو من تأليفه ودفاعه وإصلاحه وثمرة عمله في غنى وشرف لا يساويهما أي غنى أو شرف.
لقد تقدم إلى قبره يوم مات كثير من أصدقائه من الأوروبيين والمواطنين يحملون أكاليل الزهر، من بينها إكليل من جمعية كان يرعاها شبكت به بطاقة كان مكتوبا فيها:
بجهد هذا الراقد كم طعم جائع، وكسى عار، وصح مريض، وبفعاله كم اطمأن شارد، وضمت أم طفلها إلى صدرها لولاه لهلك، ووجد الفلاح اليائس الذي خربت الحرب أرضه ما أعاد إليه أمله، وأسعفه بالمال يمهد أرضه ويبذر بذره ويستعيد بذلك رزقه.
ولو استطعنا إكمال البطاقة لقلنا: «وبقلمه ولسانه كم حييت نفوس، وتنبهت عقول، واهتدى ضال، وأصلح فاسد، واستقام معوج، واستردت للمسلمين حقوق، وتعلمت بنات سعد بهن أزواج، وسعدت بأبنائهن الأمة».
حلم عجيب
القلب
محمد والتوحيد
في الهواء الطلق
الحيرة
على هامش الحكم
في الهواء الطلق1 (7)
خطاب
التفاح في الأدب العربي
في الحياة الروحية1
مستقبل الأدب العربي
منطق العقل ومنطق الدنيا
الشرق والغرب
موقعة شعرية
في الأدب العربي (1)
فى الأدب العربي (2)
المنطق العملي
سلطان العقل عند أبي العلاء1
ابتسم للحياة
الرحمة الكاذبة
الجامعة والسياسة
الرجل الثقيل
كناس الشارع!
الحظ ...!
عبد الله نديم
زعماء الإصلاح الإسلامي في العصر الحديث: السيد عبد الرحمن الكواكبي
زعماء الإصلاح الإسلامي في العصر الحديث: خير الدين باشا التونسي
لون من ألوان الفكاهة المصرية
العالم الجديد
أغنى الناس ...
اصنع حياتك
الرأي العام
الرقي العقلي
الشرف
قصة محتال
العدالة الاجتماعية
المدنية تحطم الأعصاب
أسس الحياة الطيبة
أحرقوا اللوائح!!
في الأدب المصري الحديث
ما الذي ألهمني الأدب؟
حلم عجيب
القلب
محمد والتوحيد
في الهواء الطلق
الحيرة
على هامش الحكم
في الهواء الطلق1 (7)
خطاب
التفاح في الأدب العربي
في الحياة الروحية1
مستقبل الأدب العربي
منطق العقل ومنطق الدنيا
الشرق والغرب
موقعة شعرية
في الأدب العربي (1)
فى الأدب العربي (2)
المنطق العملي
سلطان العقل عند أبي العلاء1
ابتسم للحياة
الرحمة الكاذبة
الجامعة والسياسة
الرجل الثقيل
كناس الشارع!
الحظ ...!
عبد الله نديم
زعماء الإصلاح الإسلامي في العصر الحديث: السيد عبد الرحمن الكواكبي
زعماء الإصلاح الإسلامي في العصر الحديث: خير الدين باشا التونسي
لون من ألوان الفكاهة المصرية
العالم الجديد
أغنى الناس ...
اصنع حياتك
الرأي العام
الرقي العقلي
الشرف
قصة محتال
العدالة الاجتماعية
المدنية تحطم الأعصاب
أسس الحياة الطيبة
أحرقوا اللوائح!!
في الأدب المصري الحديث
ما الذي ألهمني الأدب؟
فيض الخاطر (الجزء السادس)
فيض الخاطر (الجزء السادس)
مجموعة مقالات أدبية واجتماعية
تأليف
أحمد أمين
حلم عجيب
أصبت بالزكام في هذا الأسبوع، وفي ليلة من لياليه أرقت، فقد اعتدت أن آخذ نفسي من أنفي وأطبق فمي، ولكن أنفي - وقد زكم - لا يساعدني، فلا بد من مساعدة فمي، فإذا أخذ النوم عيني عدت إلى عادتي، فانضمت شفتاي، وألزمتا أنفي أن يتنفس وحده وهو لا يستطيع، فأكاد أختنق، فأنتبه، وهكذا مرتين وثلاثا، ثم يكون الأرق الشديد الذي أفضله على النوم المضني.
وأضأت المصباح، ومتى أضأته فلا بد من كتاب، وفتحت المكتبة وتلمست كتابا سهلا، فوقعت يدي على كتاب «علاء الدين والقنديل المسحور». وقصة مصباح علاء الدين إحدى قصص «ألف ليلة وليلة»، ولكنها لم ترد في المجموعة التي بأيدينا، إنما عثر عليها مستشرق وطبعها وحدها في باريس.
كنت نسيتها، فأعدت قراءتها من جديد، وأنساني لطفها وظرفها الزكام والأرق، واختلست نفسي ثلاث ساعات أتممت فيها قراءاتها.
وأعجبني هذا المصباح العجيب الذي كان يحكه علاء الدين، فيظهر له خادم من الجن يقول له: أنا عبدك وعبد من بيده المصباح، فماذا تأمر؟ فإذا أمر أمرا أحضره في لمحة البصر؛ يأمره مرة أن يحضر له مائدة أكل لأنه جائع، ففي طرفة عين تأتي المائدة من ألذ الطعام في صحاف من الفضة النقية، ومرة يأمره أن يحضر جواهر كريمة لا مثيل لها في العالم؛ ليهديها إلى السلطان يتقرب بها إلى ابنته بدر البدور، فما هو إلا أن يأمر فتحضر. ومرة يأمره أن يحضر إليه بنت السلطان وخطيبها؛ لأن السلطان أبى أن يزوجها له، فإذ به يحضرهما إليه، ثم يأمره أن يعيدهما في الصباح فيعيدهما، وهكذا. يبني له القصور متى شاء، وكيف شاء، ويقرب له البعيد، ويبعد القريب، حتى يحقق كل أمانيه، ويتزوج بدر البدور، ويعيش في سعادة وهناء، كل ما في الدنيا تحت أمره بفضل هذا المصباح.
وأخيرا قبل الفجر أخذ مني التعب مبلغه من زكام وأرق وقراءة، فحلمت أنني في يوم دافئ والشمس ساطعة، فاستحثني هذا كله على السير في صحراء مصر الجديدة، فتوغلت فيها، وبينا أنا أسير رأيت على جانب الطريق شيئا تنعكس عليه الشمس فيلمع، فاتجهت وجهته، فإذا به مصباح، فقلت في نفسي: ومن يدري؟! لعله مصباح علاء الدين، ساقته إلي المقادير.
رأيته مصباحا صغيرا من جنس المصابيح التي يلعب بها الأولاد في رمضان، تكسر زجاج ناحية من نواحيه الأربع وصدئ صفيحه، ولكن الشمس تسطع على ما بقي فيه من زجاج، وهذا ما كان يلمع عندما رأيته.
وخفت أن أحكه فيظهر العفريت من قبل أن أستعد له ، فأرجأت ذلك إلى قراري في بيتي، وعجلت العودة، ونفسي مملوءة بالأماني الطيبة، أسائل نفسي: ماذا تطلب لو كان هو حقيقة مصباح علاء الدين؟ فكرت طويلا، ثم فضلت أن أترك ذلك للقدر ولوحي الساعة.
ثم سرعان ما وصلت إلى بيتي ودخلت حجرتي وأغلقتها علي من الداخل، وأخذت المصباح فحككته، فما هي إلا الحجرة تنشق ويخرج منها شيطان مريد، فارتعدت فرائصي وكاد يغمى علي من الخوف، ثم تمالكت نفسي، وعاد إلي بعض صوابي، وإذا به يسأل بصوت جازم: ماذا تطلب؟
غابت عن نفسي كل أمانيها الطيبة، ورأيتني أقول في سخافة: أريد أن أعرف الناس على حقيقتهم، والتاريخ على حقيقته، والدنيا على حقيقتها.
رأيته يبتسم من قولي، فسري عني، وقال: إن هذا أول مطلب من نوعه سمعته منذ خلقت في عهد سليمان - صلوات الله عليه -، وفي كل تاريخي إنما استحضرت لآتي بمال كثير، أو جوهر كريم، أو امرأة جميلة أو عرش عظيم، أو التنكيل بعدو: من إغراق في البحر، أو رمي من شاهق جبل، وذلك مما سهل علي، ومرنت عليه؛ فأما مطلبك فيحتاج إلى إعمال فكر في الوسائل، واتخاذ العدة للوصول إلى الغرض.
ثم غاب عني ساعة أطول مما حكته قصة «ألف ليلة» في عودته في مثل لمح البصر، وعاد ومعه منظار عجيب فيه مسمار علمني تحريكه ليكون من المنظار ثلاثة أوضاع: وضع إذا أردت أن أعرف الناس، ووضع إذا أردت أن أعرف التاريخ ، ووضع إذا أردت أن أعرف الدنيا، ثم اختفى.
وضعته على عيني، وخرجت لأعرف الناس، فرأيت عجبا، رأيت على صدر كل شخص بطاقة تظهر حقيقته وتبين قيمته. راعني أني رأيت أغلب من لاقيت درجات تبين وزنه، أكثرها تحت الصفر بعشر ومائة ومائتين، وألف وألفين، وقل منهم جدا من هو فوق الصفر، ورأيت وجيها كبيرا خير منه كناس، وعظيما خطيرا يفوقه بمراحل ساعي بريد، ومن أعرف أنه وطني كبير كتب في بطاقته أنه خائن، وخائن كبير كتب في بطاقته أنه وطني كبير، وعالم عظيم لقب بمغفل، وأمي حقير لقب بحكيم، ومجنون بعاقل، وعاقل بمجنون، وغني له الثروة العريضة والمال الوفير والأرض والعمارات والأوراق المالية بالألوف والمئات كتب في صحيفته أنه فقير، وفقير لا يملك إلا قوت يومه كتب عنه أنه غني كبير، وشريفة عالية المقام نبزت بالفجور، ومتزينة متبرجة وصفت بالعفاف.
وعلى الجملة فقد رأيت الأوضاع انقلبت، والقيم انعكست؛ فالصديق عدو والعدو صديق، والأول آخر والآخر أول، ومن كانت يده تقبل تستحق القطع، ومن كان ينبذ ويمتهن يستحق التكريم والتقديم.
ودخلت حفلا رتبت صفوفه ومقاعده حسب المقام والطبقات، والوظائف الحكومية والدرجات المالية، والمنزلة في الهيئة الاجتماعية، فتصفحت صحائفهم المثبتة في صدروهم، فرأيت فيمن جلس في الصدر من يستحق أعلى المسرح، ومن جلس في أعلى المسرح من يستحق الصدر؛ وعجبت إذ رأيت قادما كتب في صحيفته ألف تحت الصفر، قد استقبله المستقبلون من خارج الباب واحتفوا به أشد احتفاء، وأجلسوه في أعظم مكان، ومن كتب في صحيفته أنه ألف فوق الصفر لم يؤبه له، وحاول أن يدخل فلم يستطع من الزحام فعاد من حيث أتى، وذكرت الحديث: «رب أشعث أغبر لو أقسم على الله لأبره»، فقلت: لا بد أن يكون صاحب الحديث قد قاله وهو لابس هذا المنظار.
وهاجت عواطفي فرأيتني أصفع وجيها، وأعانق فلاحا، وأعرض عن باشا، وأقبل على مسكين، وأحيي عاملا، ولا أرد تحية كبير، وأتصدق على غني، وأتحرج من الصدقة على فقير، وأهزأ بكلام عالم، وأصغي إلى كلام جاهل. ومن أغرب ما رأيت وأنا أسير في الشارع سيارة فخمة يركبها سائق قد كسي أحسن ثياب، وصاحب السيارة في داخلها عريان، ومررت على بنك فشممت منه رائحة كريهة، وعلى مصنع فشممت رائحة ذكية، ورأيت سيدة رزينة محتشمة في ملبسها، جادة في مشيتها، فقرأت صحيفتها. فكدت أرجمها، ورأيت خادمتها التي تسير خلفها لها قيمة كبيرة، فقدمت لها وردة جميلة اختطفتها من صدر شاب لا يستحقها. وعلى الجملة رأيتني آتي بأفعال حسبما أقرأ من القيم، أقل فعل منها يقتضيني أن أكون في مستشفى المجاذيب.
فأسرعت في العودة إلى بيتي.
ودخلت مكتبي، وغيرت وضع المنظار لأرى التاريخ، وعمدت إلى كتابي المسعودي وابن الأثير أفتحهما، وأقلب صحفهما فأدهشني ما رأيت؛ رأيت أن كثيرا من الصفحات قد شطب وكتب عليه بالخط الأحمر «كذب»، وأحيانا أرى صفحات قد محي سوادها، وكتب في بياضها أنها لا تستحق الذكر، وأحيانا أرى قائدا كبيرا أو ملكا عظيما قد أعلم عليه وكتب مكانه تاريخ جندي مجهول أو رجل مغمور، وكتب في آخره أنه أولى بالذكر. ورأيت في أول تاريخ كل قرن صفحات بيضاء كتب في أولها بالأحمر عنوان كبير: «الشعب في هذا العصر»، ثم لم يكتب شيء - وأحيانا تفصيلات كثيرة علق عليها بأن من غفلة المؤلف أنه ذكر المسببات وأهمل الأسباب، وكان في ذكرها الكفاية.
ووقع في يدي - خطأ - كتاب في «الطبيعة»، فرأيت في آخره تعليقا واحدا، وهو أن «هذا علم صحيح بالنسبة لزمنه وستكشف الأيام خطأه».
وأسرعت فاشتقت إلى الوضع الثالث من المنظار، وهو الوضع الذي يريني الدنيا على حقيقتها، واستحسنت أن أرى هذا المنظر فوق سطح بيتي، فصعدت والقمر ساطع، والجو ساكن، والدنيا نائمة، فحركت المسمار، فإذا السقف يرتج من تحتي، ودخان كثيف يملأ الأفق، والجو ينذر بحادث فظيع أنا مقدم عليه، فلم أتمالك نفسي وارتجف قلبي، ولم أشجع على مواجهة ما سيكون، فقلبت المنظار، ونزلت من السطح سريعا، وأحضرت المصباح وحككته، فظهر العفريت. فقال: لبيك!
فقلت: خذ هذا المنظار واكسره، فخير لي أن أعيش مغفلا جاهلا في وسط مغفلين جاهلين، وفي كتب مغفلة جاهلة، من أن أعيش عاقلا في وسط كل هذه الغفلة والجهالة.
تبسم العفريت، وقال: أتذكر بسمتي يوم طلبت طلبتك؟
قلت: نعم.
قال: هذا ما كنت أتوقع، وهذا سر ابتسامتي، لخير لك أن تطلب مني ما كان يطلبه الناس من أن تتفلسف في الطلب، وتتسامى في الغرض.
أأحضر لك كنزا من الذهب؟
قلت: لا.
قال: فأحجارا كريمة؟
قلت: لا.
قال: فزوجة شابة جميلة؟
قلت: اخفض صوتك، لا.
قال: فجاها عريضا؟
فغضبت من كثرة العرض وكثرة الرفض.
وصرخت فيه: لا لا لا بأعلى صوتي.
فانتبهت من النوم وأنا أقول: لا.
وحزنت على الرفض، فأغمضت عيني وقلت: «طيب هات»، ولكن الأمر كان قد فات.
فقمت آسفا، وأنفي يعطس، ورئتي تسعل، وجسمي مهدم من سوء ما لاقيت من الأرق، والزكام، والأحلام؛ وقد نذرت إن عثرت على مصباح علاء الدين مرة أخرى لأطلبن ما يطلب الناس.
وأدرت التليفون لأطلب صديقا لي متخصصا في تفسير الأحلام على مذهب «فرويد» فلم أجده، فقلت: «بركة يا جامع».
القلب
خطر لي أن أكتب في القلب، فمددت يدي إلى «دائرة المعارف البريطانية» وطالعت فيها مادة القلب، فرأيت فيضا من الكلام في القلب وشكله، وكيفية بنائه الفسيولوجي وأجزائه، ووظيفة كل جزء، وحالته في الجنين وتطوره، ومقارنة القلوب في الحيوانات المختلفة، ثم ما يعتريها من أمراض ... إلخ. ثم قلت: لا يغنيني هذا شيئا فيما أريد، فللأعضاء وظائف روحية غير الوظائف المادية؛ فإذا أردت البحث عن فصاحة اللسان أو ذكاء العقل أو طهارة القلب فلست واجدا شيئا من ذلك في كتب المادة - كتب وظائف الأعضاء - إنما تجدها في كتب المعاني والروحانيات؛ وهذه أيضا قلما تعنى بتشريح العضو من ناحيته الروحية كما عنيت كتب الفسيولوجيا بتشريحه من الناحية المادية؛ لأن أمور الروح أعقد وأدق وأعسر.
وقد نالت بعض أعضاء الجسم حظا أوفى من غيرها في مجال الروح؛ فالشعر العربي - مثلا - مملوء بالكبد في باب الحب والألم من الهجر والفراق وما إلى ذلك، كالذي يقول:
أيا كبدا كادت عيشة «غرب »
1
من الشوق إثر الظاعنين تصدع
ولكن لم ينل شيء منها - من التقدير والشهرة والجريان على الألسنة وكثرة ما نسب إليه في باب الدين والخلق والشعر والحب - ما نال القلب - ففي القرآن الكريم تردد القلب والفؤاد أكثر مما تردد العقل، ولا تكاد تقرأ مقطوعة صوفية أو أبياتا غزلية إلا يطالعك القلب. وفي الأخلاق ربطت الشجاعة والجبن بالقلب، فقالوا في الشجاع: ثبت الجنان، جميع الفؤاد، رابط الجأش، قوي القلب، وقالوا في الجبان: إنه مخلوع القلب، مهزوم الفؤاد. وباب الرحمة والقسوة يدور على القلب، فيقولون: منظر تتوجع له القلوب، وينفطر له القلب رحمة، وحالة تلين له القلوب القاسية، ويتصدع لها فؤاد الجلمود. وفي عكس ذلك يقولون: إن له قلبا لا يعرف اللين ولا تلجه رحمة، وإن له قلبا أقسى من الحديد وأصلب من الجلمود. ويقولون للرجل العظيم: كبير القلب، وللرجل النذل: صغير القلب ... إلخ. ولو أنك شرحت القلب فسيولوجيا لم تجد فيه ما يدل على شجاعة وجبن، ولا على رقة وقسوة، بل قد تجد قلب الجبال أحيانا أصح ماديا من قلب الشجاع؛ ذلك لأنهم يقصدون بقولهم ووصفهم القلب الروحي لا القلب المادي. فما هو هذا القلب الروحي؟
يصح أن نعرفه بأنه مركز العواطف - من حب وكره وإعجاب وازدراء وميل ونفور ورحمة وقسوة ... إلخ. وبعبارة أخرى «هو مجتمع العلاقات»؛ فكما أنه - ماديا - مركز الشرايين التي توزع الدم على كل أجزاء الجسم، كذلك هو مركز الصلات بين الفرد وغيره، وكما أنه مركز للدم الفاسد ينصلح فيه، وللدم الصالح يوزعه، كذلك هو مركز للعواطف المختلفة يوحدها - وهو أيضا نقطة الاتصال بين العالمين اللذين يعيش فيهما الإنسان: عالم المادة وعالم الروح، فهو الجسر الذي يعبر عليه أحدهما إلى الآخر. لك أن تسمي هذا شعرا أو خيالا، ولكنه هو الحقيقة - وعلى قدر هذه العلاقات - التي بين الإنسان والأشياء كمية وكيفية والتي مركزها القلب - تكون قيمة الإنسان وقيمة حياته.
والغذاء الصالح لقلبنا هذا الروحي هو الحب، والحب الذي نقصده هو الحب بأوسع معانيه، حب الجمال الخلقي، والجمال الطبيعي، والجمال الفني، وحب المعاني من نبل وسمو، وأخوة وإنسانية، وشأنه في ذلك شأن الطفل يغذى الغذاء الصالح لجسمه فينمو ويحيا، والغذاء الفاسد فيضعف وقد يموت.
فالقلب الكبير في الشخص الكبير هو الذي غزي بالحب حتى نضج، ومن أجل هذا كان القلب عماد الدين؛ لأن الدين ليس إلا حبا، وعماد الغزل، وهو الحب؛ وعماد الرحمة لأنها حب الضعيف، وعماد الوطنية؛ لأنها من حب الأمة، وعماد الإنسانية؛ لأنها حب الإنسان مجردا عن جنسه ودمه وقوميته. وهناك قلوب تتغذى بجب المنصب والجاه والمال والشهرة، ولكنها كلها غذاء لا يوافق عناصر القلب. الأساسية، غذاء تنقصه الفيتامينات الضرورية، فقد يكبر بها القلب، ولكنها ضخامة ورم، أو طبل أجوف، أو تمثال لقلب.
والقلب عضو الرغبة، الرغبة في الحياة ووسائلها، هو - دائما- ينادي: «أرغب» «أريد». ولكن القلوب تختلف قيمتها الروحية بحسب رغباتها؛ فقلب كقلب الطفل يرغب أن تكون كل الدنيا له، علاقته علاقة المالك بما ملك. وقد يكبر الرجل جسما وتكبر مادة قلبه، ولكن لا تكبر روحانية هذا القلب، فيكون أنانيا، يريد أن يسخر كل شيء لنفسه، أو يستبد بكل شيء لشخصه، أو يوجه كل شيء لفائدته! ولكن إذا كبرت روحانية القلب تعددت خيوط علاقاته، وعرف ما تستوجبه كل علاقة؛ علاقته بالأصدقاء، وبالبؤساء، وبالأمة، وبالإنسانية؛ فإذا قال قلبه: «أنا أريد»، فإنما يريد أن تكون هذه العلاقات المتعددة على أحسن وجه يوحي به الحب.
إن القلب المادي يغذي ويتغذى، ويأخذ ويعطي، ويضحي لنفسه ولجسمه، وإذا فتر لحظة فترت الحياة، وإذا سكن لحظة سكنت الحياة، وهو ينشر نفوذه، ويقدم خدماته للقريب من أجزاء الجسم والبعيد، للمعدة على قوتها، وللشعرة على ضعفها؛ فالقلب الروحي لا يصح حتى يكون كذلك، فإذا قال: أنا أرغب فإنما يرغب للعالم ولنفسه، وهو شديد الاتصال بما حوله ومن حوله؛ اتصال انتفاع ونفع، واتصال استفادة للإفادة، دائب لا يمل، عامل لا يفتر حتى تفتر الحياة، ينبض بالحياة كلها كما ينبض قلبه المادي بالجسم كله، يتناغم مع العالم حوله كما يتناغم قلبه المادي مع جسمه، من قدمه إلى فرقه، فإذا تمنى لنفسه فقط فالنزاع الأخير.
لقد ألف القلب المادي الجسم كله، ووحده بنبضاته، فليوحد القلب الروحي كله في خلجاته وتموجاته؛ وقد مد القلب المادي شرايينه إلى الجسم كله، فإذا انسد شريان مات عضو، فليس من المعقول ألا يكون للقلب الروحي إلا شريان واحد يجري فيه الدم لشخصه، للقلب الروحي عين يبصر بها؛ لأنه مركز الضوء في الحياة، يرى الجمال والقبح، والفضيلة والرذيلة، والخير والشر، وفي أعماقه مصباح يضيء، ولكن لا بد أن يتعهد بالزيت وبالشعلة تضيئه وإلا انطفأ. وللقلوب عمى كعمى العيون، وصدق الله العظيم:
فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور .
الإنسان هو القلب، والقلب هو الإنسان، والحي حي القلب، والميت ميت القلب. لا يعبأ القلب الروحي بالزمان والمكان كما تعبأ الأجسام؛ فالتحام الأجسام لا يكون صداقة، واقتراب الأبدان قد يكون مع العداء والخصام، ولكن قلبا يتصل بقلب يولد الصداقة مهما تباعد الزمان والمكان!!
وإنه على صغره ليسع العالم على كبره، إنه ليسع السماء والأرض، والبر والبحر، ينبض بجمالها، ويتناغم بنغماتها، ويخفق لها، ويحيا بسكناها، وبمقدار سعته وضيقه يوزن الإنسان.
صدقت العرب إذ سمته قلبا، واشتقت منه التقلب، فهو دائم التغير، يضيق ويتسع ويرقى ويسفل ويموت ويحيا، ويشتت ثم يجتمع، ويلتئم بعد أن ينصدع، ويضيء ثم يظلم، ويظلم ثم يضيء، ويكون مرة جنة ومرة نارا، ومرة أرضا ومرة سماء.
يا للقلب!! إن الناس ليرحلون ليروا العجائب وبين جنوبهم قلوب هي أعجب العجب. فلو سئلت عن أعجب شيء في السماء والأرض لقلت: القلب، ولو قيل للأنبياء: لا تذكروا القلب في تعاليمكم، وللشعراء لا تترنموا بالقلب في شعركم، وللفنانين لا تعرضوا للقلب في فنكم، وللموسيقيين لا تتناغموا مع القلب في موسيقاكم، لم يقولوا شيئا ولم يفعلوا شيئا!
ثم للأمة قلب مشترك، وهو - كقلب الفرد - يقوى ويضعف، ويموت ويحيا، وينبض ويخمد، وينقلب من حال إلى حال؛ يحيا فتحيا الأمة، ويموت فتموت. هو قلب موحد من قلوب الحكومة والموظفين والعمال، وله شرايين تصل إلى كل فرد فتنبض بنبضه ، وينبض بنبضها، وهو يتغذى بالحب؛ لأنه وحده هو الذي يعلمه التضحية، ولا حياة لأمة بدون تضحية.
إن المحب الذي يحبك لتحبه تاجر، والذي يحبك لتكافئه مالي، وإنما المحب من يحبك لأنك أنت أنت. فإذا أحب قلب الأمة ضحى وكد وعمل، ولم ينتظر ربحا، فإذا الأمة تدب فيها الحياة.
إن الحب في قلب الأمة رحمة للضعيف، وعطف من الغني على الفقير، وتعليم للجاهل، وتعفف عن المال إلا بحقه، وذود عن الوطن، وتقدير للكفاية، وإعلاء لشأن العدل، ومقت للظلم، وهو نبل الحاكم، وشرف الموظف، وجد العامل، والغيرة من الجميع على سمعة البلاد.
إن أردت الحكم على أمة فاستمع لنبض قلبها.
محمد والتوحيد
إن أردنا أن نلخص الإسلام في كلمة قلنا: «التوحيد»؟
وإن أردنا أن نوجز عمل النبي
صلى الله عليه وسلم
من بدء مبعثه إلى يوم وفاته، قلنا: «العمل على التوحيد».
وإن أردنا وصف الناس عند دعوته، ووصفهم عندما أسلم روحه لخالقها، قلنا: إنه تعدد وتفرق لا حد له، أخذ يزول شيئا فشيئا، ويتجمع شيئا فشيئا، حتى حل التوحيد محل التعدد.
هذه هي العرب في جزيرتها يوم تسلمها محمد، قبائل متعددة لا تربطها رابطة، لكل قبيلة لغتها، ولكل قبيلة صنمها، ولكل قبيلة مكانها ومرعاها، وشيخها وتقاليدها؛ إن عرفت قبيلة قبيلة أخرى، فإنما تعرفها يوم تغير عليها، ثم يكون الحرب والقتال والأخذ بالثأر، وكف المغلوب على مضض، وكف الغالب حتى يستعد للوثبة، وهكذا. غرض الفرد في الحياة أن يأكل ما يجد، وينهب إذا لم يجد، ويقاتل مع أفراد القبيلة إذا قاتلت؛ وغرض شيخ القبيلة أن ينعم بطيبات المغانم ويرأسها في القتال، وغرض القبيلة أن تستعد للوثبة يوم تغير، وللدفاع يوم يغار عليها!! وهذا ملخص حياتها.
فماذا فعل الإسلام لتوحيد الكلمة، وماذا فعل محمد؟
أسس الإسلام عقيدة عامة يجب أن يعتنقها كل مسلم، فليس الإله إله قبيلة، ولكنه رب العالمين؛ وليس الفخر بالقبيلة ولا بالأنساب ولا بالمال والبنين، ولكن بالعمل الصالح، والعمل الصالح هو ما يحسن العلاقة بين الإنسان وربه، والإنسان والإنسان، وكل إنسان مسئول عن عمله:
فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره . الغني والفقير سواء والقرشي والباهلي سواء، وبنت محمد وبنت غيره سواء، والرجل والمرأة سواء، لا يعبأ الله بقبيلة ولا يعبأ بنسب - لا لات ولا عزى، ولا قرابين ولا أوثان؛ ولكن لا إله إلا الله، هو الخالق وهو المحاسب، وهو الغرض:
فأينما تولوا فثم وجه الله . إذا فالفروق بين القبائل لا معنى لها متى اتحد الغرض واستوت الأفراد، والأصنام التي تميز بين القبائل لا معنى لها لأنها آلهة باطلة، والاعتزاز بالحسب والنسب والقبيلة لا معنى له لأنه لا يدخل في ميزان الأعمال.
وطبيعي أن تحدث مثل هذه الدعوة اختلافا بينا بين مؤمن بالتعاليم الجديدة وكافر بها، ولكن مهما كان فقد نشأ تطور جديد حتى في الخلاف، فبعد أن كان الخلاف بين قبيلة وقبيلة أصبح الخلاف بين معتقدين في الدين الجيد، ومحافظين على الدين القديم، وهذه طائفة مهما تعددت قبائلها، وتلك طائفة مهما تعددت قبائلها. وأعلن رسول الله أن المؤمنين إخوة، وأن الكفر ملة واحدة، وكان لهذا الخلاف فضل، إذ جعل جزيرة العرب معسكرين اثنين بعد أن كانت المعسكرات بعدد القبائل.
وجدت في الدعوة الإسلامية نقطة ارتكاز، قوامها الرسول وطائفة معه قليل. عددها، قوي إيمانها، تدعو دعوتها في سلام، وكل وسائل إقناعها الحجة والبرهان. ماذا تغني اللات والعزى، وما يغني التكاثر بالمال والبنين، وما الفخر بالنسب إلى نحو ذلك؟!
ولكن القوم خرجوا من مقارعة الحجة بالحجة إلى مقارعة الحجة بالسيف، فالرسول يضطهد، والمؤمن يعذب، والدعوة تكبت.
فلا بد - إذا - من مقابلة القوة بالقوة، والسيف بالسيف، والحرب بالحرب فاتسعت الدائرة، وأصبحت العقيدة الجديدة تحميها القوة المادية بجانب القوة الروحية، ويتمثل جيشها في المهاجرين والأنصار، كما احتمت العقيدة القديمة بالقوة، وتمثل جيشها في صناديد قريش. ووجد مركزان للقوتين: «المدينة» للمسلمين، و«مكة» للكافرين.
إذا لا بد من الدعوة، ولا بد من القوة تحمي الدعوة.
وظلت القوتان تتقاتلان نحو عشر سنوات انجلت عن نصرة الإسلام، وتوحد جزيرة العرب تحت لوائه ، تدين كلها بدين واحد، وتؤمن بعقيدة واحدة، وتخضع لنظام واحد، ويدوي في أرجائها كلها: لا إله إلا الله.
لم يكن السيف وحده هو القوة الفعالة؛ فقد كان سيف أعدائه أقوى من سيفه، ولا كانت القوة المادية وحدها هي العاملة في هذا التوحيد، وإنما كانت هناك خطة توضع بعيدة الغرض صحيحة القصد، تعين على الوصول إلى هذه النتيجة، فما هي؟
أول كل ذلك تعاليم الدين نفسه؛ فاتحاد الغرض، وهو إعلاء كلمة الله الذي يتمثل في اتحاد القبلة وتوجه المسلمين كلهم جهة واحدة، جعلهم قلبا واحدا، يسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم، ثم ضم الآخرة إلى الدنيا في الحساب جعل الحياة رخيصة في سبيل المبدأ؛ فهو يجاهد بكل قلبه وبكل قوته، فإن عاش عاش سعيدا، وإن مات فهو أسعد.
فالتضحية العظيمة في النفس والمال اتحدت مع الأنانية في سعادة باذلها، فإذا دميت الإصبع قال قائلهم:
ما أنت إلا إصبع دميت
وفي سبيل الله ما لقيت
وإذا ذهب المال قال صاحبه: «إن المال عرض زائل».
وإذا أشرف على الموت في الجهاد تمثل بقول الشاعر:
لبث قليلا يلحق الهيجا حمل
لا بأس بالموت إذا الموت نزل
ثم قيادة حكيمة، حازمة رحيمة؛ لا تضحي جندها لخيرها، ولكن تضحي نفسها وجندها لعقيدتها؛ ولا تسخر جيوشها لتجلس على أكداس غنائمها، وإنما غنائم الجيش له وللمسلمين، وقائدهم أحدهم؛ ثم قوة في القيادة عظيمة، علمت عظمتها الجنود كيف يطيعون ولا يختلفون؛ فلكل مركزه كما رسمه القائد الأعلى، ولو كان عمر في جيش أسامة وكل يؤدي واجبه ولو أمر عليه عبد حبشي كأن رأسه زبيبة.
فاتحاد الغرض وحد القلوب، ووحد بين الرئيس والمرءوس، ووحد في التضحية بين القائد والجندي، فأصبحت جزيرة العرب وحدة واحدة؛ لأن كل شيء في إدارتها كان يرمي إلى التوحيد؛ الفرص متكافئة لكل رجل ولو كان من أوضع قبيلة؛ ليتفوق بحسن عمله. ومن بلال، ومن صهيب، ومن سلمان الفارسي، لولا تعاليم الإسلام بإهدار الدم والجنس والقبيلة، والمناداة بأن أكرمكم عند الله أتقاكم؟!
ليس هناك نظام للطبقات تؤسس على الغنى والفقر، ولا طبقات تؤسس على الفروق بين الحاكم والمحكوم، ولا طبقات تؤسس على الدم والحسب والنسب؛ بل كل يقوم بعمله و«رب أشعث أغير ذي طمرين تنبو عنه أعين الناس لو أقسم على الله لأبره».
وراء المادة روح، ووراء العمل قلب، ووراء الأعمال الظاهرة بواعث نفسية، وأمام كل مسلم غرض هو إعلاء الحق وكلمة الحق وتطهير النفس؛ وهذا الغرض الواحد أمام الجميع يوحد الأعمال وإن اختلفت مظاهرها.
ثم هذا هو الإسلام، وهذا هو محمد ينادي بالأخوة في العقيدة، ويعمل عليها وينشرها في جو الجزيرة العربية ؛ ليستنشقها كل مسلم «إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم - المسلم أخو المسلم - المسلمون إخوة لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى - المؤمن يألف ويؤلف ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف، وخير الناس أنفعهم للناس - المؤمن أخو المؤمن يكف عليه ضيعته ويحوطه من ورائه». وهكذا. ومنذ أن ظهر الإسلام ومحمد يؤاخي بين الصحابة ويراعي في ذلك مزاج المتآخين، وهدم الفروق المالية والقبيلة. فهذا مكن لهم - في تعاطفهم وتوحدهم - أخوة بين الفرد والفرد، وبين القبيلة والقبيلة. وبين الفرد والحاكم، وبين الرجل والمرأة، حتى كادت الأخوة تكون شعار الدين.
ثم القرآن وحد اللغة كما وحد الدين، فضعفت اللهجات الأخرى غير لهجة قريش، وماجت الجزيرة العربية بأهلها في الحرب وفي السلم، وكثر تقابلهم وتحادثهم وامتزاجهم، وكثرت تلاوتهم للقرآن والحديث، فإذا اللغة متحدة أو متقاربة كالدين.
لقد تسلم «محمد» جزيرة العرب وهي «أقطاع» تقتطع كل قبيلة منها قطعة تستقل بها، وخلفها أمة واحدة في دينها وفي لغتها وفي غرضها، تخضع لنظام واحد وتشريع واحد، وليس هذا بالأمر اليسير؛ فتوحيد بلاد الفرس في أمة أو بلاد الرومان في أمة، أيسر ألف مرة من توحيد سكان جزيرة العرب في أمة؛ لبعد ما كان بين بعضهم وبعض في الأرض وفي النفس؛ ولأنهم لم يخضعوا لنظام سابق، ولم يمرنوا على الخضوع لحاكم ولا لإطاعة أحد غير شيخ القبيلة، وكل واحد منهم ملك في نفسه معتز بدمه وعصبيته ولغته وإلهه ؛ فتوحيد أشتات كهؤلاء وجعلهم أمة فيها كل خصائص الأمة معجزة المعجزات. وصدق الله إذ يقول:
واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها .
وقد أعلن (محمد) في خطبته في حجة الوداع الأسس التي بنى عليها توحيد العقيدة، وتوحيد الجزيرة، وكيف وصل إلى الغرض، ففيها: «أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له». «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم». «فمن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها». «إنما المؤمنون إخوة، ولا يحل لامرئ مال أخيه إلا عن طيب نفس منه». «إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم، وآدم من تراب، إن أكرمكم عند الله أتقاكم». «اتقوا الله في النساء واستوصوا بهن خيرا».
هذه هي وحدة العقيدة، وهذه هي الأخوة!! ثم أعلن هدم نظام الطبقات من أساسه؛ فلا ربا؛ لأنه يساعد على نظام طبقات من غني وفقير، ولا فخر بحسب؛ لأنه يعين على تأسيس طبقات على أساس الدم، فقال: «إن ربا الجاهلية موضوع، ولكن لكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون». «وإن مآثر الجاهلية موضوعة، غير السدانة والسقاية».
ثم أشاد بهذا النظام الذي أسس على هذه المبادئ وأوجب التمسك به: «ترجعن بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض، فقد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا بعده». «إن الشيطان قد يئس أن يعبد في أرضكم هذه».
فالتوحيد أول كلمة في الإسلام وآخرها، وأول عمل من أعمال الرسول وآخره. •••
لقد رمى الإسلام أن يوحد العالم بعد أن وحد جزيرة العرب، وما الذي يمنع من ذلك؟ إن رب العرب رب العالمين، ورب السماء والأرض ورب الطبيعة كلها، فلو عبد الناس كلهم ربهم الحق لتوحدوا في العقيدة، وأصبح العالم وحدة، وما يمنع الناس أن يؤمنوا بهذه العقيدة إلا دين انحرف عن القصد، وربانيون تجار، وملوك يحتفظون بملكهم فيجارون شعور شعبهم وسلطة ربانييهم؟!
إن الإسلام مرتبط بالطبيعة أشد ارتباط، ويذكرنا دائما بالنظر إليها والعبرة بها والاستدلال منها على خالقها ؛ فيدعو إلى التفكير في السماء كيف رفعت، وإلى الجبال كيف نصبت، والأرض كيف سطحت، والسحاب المسخر بين السماء والأرض، والشمس والقمر يتعاقبان، والبحار والأنهار تجري بأمره، فماذا يحول بين الناس وبين خالقهم في كل بقعة من بقاع الأرض أن يفكروا، فيعبدوا الله وحده خالق هذا الكون ومبدعه! اقرءوا إن شئتم:
والشمس وضحاها * والقمر إذا تلاها * والنهار إذا جلاها * والليل إذا يغشاها .
ثم هذا الإسلام يؤمن بكل ما أتى به الأنبياء من قبل، من آدم إلى عيسى، ويعظمهم ويمجدهم، ويرى أنهم كمحمد، وأن الله الذي أرسله أرسلهم، وأن دعوته ودعوتهم واحدة، عمادها التوحيد وعدم الشرك، ومن آمن بدعوتهم صحيحة كان كمن آمن بدعوة محمد:
إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده ،
إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون .
فالأساس واحد كما أن إله الجميع واحد، وما فرق بين الناس إلا الأغراض والشهوات، وحب الدنيا وحب الرياسة:
وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا .
فلم لا يزول هذا الخلاف في العقيدة، وتتحد عقيدتهم كما توحد خالقهم؟
هذا جانب العقيدة. أما الجانب العملي في الحياة فكذلك؛ أليس من الخير أن يسود الناس العدل فلا يكون ظلم، ويعلى شأن الفرد فلا تكون عبودية، وتكون الحكومة للفرد لا الفرد للحكومة، ويسوى بين الناس فلا يقوم الرجل إلا بعمله؟! فما بال من حول جزيرة العرب من فرس وروم وأحباش تسوء حالة رعاياهم؟ فغنى مفرط بجانب فقر مفرط، وإسراف حكام في الملاهي والملذات على حساب الشعوب، وطبقات عالية تستولي على الخيرات ولا تترك للطبقة الدنيا إلا الفتات.
ما بال العالم لا تتوحد قواعده الأساسية في الحكم كما تتوحد في العقيدة، فيكون عدل مطلق، وحرمة للرعية دقيقة، وأمن شامل، ونظام شامل، وأخوة شاملة، وإهدار للجنسية، فلا عرب ولا روم، ولا فرس ولا أحباش، ولكن خلق الله يتآخون أفرادا ويتآخون أمما، وتحل الإنسانية محل الجنسية، وعبادة الله الحق وحده محل الآلهة المصطنعة المتعددة، فيكون توحيد في العقيدة، وتوحيد في العمل، وتعاون في العالم؟!
على هذا الأساس أرسل محمد
صلى الله عليه وسلم
كتبه إلى ملوك العصر المجاورين للجزيرة: هرقل عظيم الروم في الشام، والمقوقس في مصر، وكسرى في فارس، والنجاشي في الحبشة، يدعوهم إلى التوحيد، فإذا توحدوا توحد العالم.
يقول في هذه الكتب التي أرسلها للنصارى منهم:
قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله .
ففي العقيدة الأولى الدعوة إلى الوحدانية، وفي الثانية: الأخوة وهدم الطبقات. ثم في كل الكتب يحمل الملوك تبعة الرعية، ففي استطاعتهم قبول الدعوة، وإذا رفضت فالإثم عليهم؛ لأنهم يبغون حظ أنفسهم؛ ففي كتابه إلى هرقل: «فإن توليت فإنما عليك إثم الأريسيين».
1
وفي كتابه إلى المقوقس: «فإن توليت فعليك إثم القبط». وفي كتابه إلى كسرى: «فإن أبيت فإنما إثم المجوس عليك».
ولكن أنى يلبي هؤلاء الملوك الدعوة ومقياس الأشياء عندهم المظهر لا المخبر؟ فكيف يجرؤ عربي بدوي في الصحراء ملتف بإزاره أن يدعو من يغرق في الترف، وينعم في الحضارة، ويرفل في الدمقس وفي الحرير، ويسير في الجنود والبنود، ويرث الروم في مدينتهم، أو الفرس في عظمتهم وفخفختهم؟!
بل كيف يلبون الدعوة وهي تدعو إلى إزالة الفوارق ومساواة السيد بالعبد، والراعي بالرعية، والحاكم بالمحكوم، وتلغي الطبقات وهي عماد الدولة في نظامها وتشريعها وماليتها وكل شيء فيها؟!
لا! لا! مزقوا الدعوة احتقارا، أو ردوا الرسول محملا ببعض الهدايا استخفافا.
وهكذا صدوا عن أسمى فكرة وهي التوحيد في العقيدة والعمل، ولصقوا بالتقاليد في العقيدة والعمل.
فلما لقي محمد ربه، نفذ بعض الخطة خلفاؤه. •••
أما بعد، فلا يصلح آخر الدين إلا بما صلح به أوله، كان التوحيد هو الأساس، ولا يزال هو الإصلاح. كل تعاليم الإسلام باقية ولكن فقدت روحها، واحتفظت بجسمها ولكن ضعفت حرارة قلبها، قد كانت عقيدة «لا إله إلا الله» تعني توحيد المعبود، فأصبحت الآلهة متعددة عملا ، وإن توحد لفظ التوحيد لفظا؛ فالمال معبود، والسلطان معبود، والشهوة معبودة، والدنيا معبودة، فلا بد أن تكسر هذه الأصنام آخرا كما كسرت أولا. وكان هناك توحيد في العمل، فالقيادة واحدة، والنظام واحد، والرأي - بعد الشورى - واحد، فإذا كل رأس رأس قائد، وكل متكلم زعيم، وكل زعيم مستبد، وحب الشهوة يلعب، والأنانية تلعب، والدسائس للتفريق تلعب. وكان في الإسلام أخوة تبعث الحب، والحب يوثق الصلة، فإذا العداوة في كل جو ترضع مع اللبن، وتتنفس مع الهواء. ولم تكن هناك طبقات، فتعددت الطبقات من كل جنس، على أساس الدم والمال والمنصب والسياسة. وعلى الجملة، فكل دعوة إلى التوحيد تقابل بألف مشكلة من أنصار التعديد، وكل تعديد فرقة، وكل فرقة ضعف، وكل ضعيف عرضة لأن يلتهم، ولا عظة بالتاريخ، ولا عبرة من أحداث الزمان، فيا لله للمسلمين!!
في الهواء الطلق
كان برنامجنا هذه المرة أن نتقابل صباحا في مصر الجديدة، ففعلنا، وسرنا في صحرائها الجميلة ننعم بالشمس الساطعة ودفئها، والهواء النقي ولطافته، والسكون الهادئ المريح للأعصاب. وما خلفنا المدينة وضوضاءها والناس وبلاياهم ومفاسدهم حتى تفتحت عندنا شهية الكلام.
قال أحدنا: لست أدري علة لهذه الظاهرة الغريبة عندي - كلما رأيت منظرا جميلا للطبيعة كغروب الشمس في البحر، أو جبل فخم ضخم، أو شمس ساطعة أو قمر منير، أحسست نوعا من الحزن، حزنا ليس كالحزن عند فقد عزيز أو نزول كارثة، ولكنه حزن غير أليم، حزن ممزوج بلذة، فأراني مطمئنا لحزني لا أرضى به بديلا سرورا خالصا ولا ضحكا صارخا.
أ :
سبب ذلك - على ما يظهر لي - أن هذه المناظر جمعت بين الجلال والجمال، والجلال يبعث في النفس شعورا بالضعة؛ إذ يقيس الإنسان نفسه بالطبيعة فيراه ضئيلا بجانب عظمتها، حقيرا بجانب فخامتها. والشعور بالضعة أليم؛ لأنه يشعر النفس بالذلة، وعزيز عليها أن تذل. وإلى جانب هذا شعور بجمال المنظر، والشعور بالجمال لذيذ؛ إذ يفتح النفس ويؤنسها، فتكون حركة النفس لهذه العوامل المختلفة حركة انقباض وانبساط، أو كما سميتها أنت لذة وألما.
ب :
ولكن أخبروني، أليس عجيبا أن المصريين والشرقيين على العموم أميل إلى الحزن والانقباض؟ وأن شعورهم بالألم وأسبابه أرق من شعورهم بالفرح وأسبابه؟ حتى صاحبنا هذا يأتي إلى المناظر الطبيعية الجميلة الباعثة على السرور والانشراح فيسودها بما عرض علينا من مشاعر وأفكار! لقد عشت في فرنسا عهدا طويلا - كما تعلمون - وكنت من أكثر زملائي المصريين فرحا وسرورا ونشاطا، ومع هذا وصفتني أكثر من سيدة بأني حزين متشائم منقبض، فإذا كنت أنا كذلك فكيف لو رأين غيري؟ إذا لوصفنه بأنه بكاء يذوب أسى وحسرة.
لقد فكرت في هذا الأمر كثيرا بعد أن تجلت لي هذه الحقيقة بالمقارنة الدقيقة بين الشبان المصريين في فرنسا والفرنسيين أنفسهم، وكذلك عندما أقمت في إنجلترا أشهرا وألمانيا أشهرا، ورأيت المصريين وغيرهم من هذه الأمم؛ وبحثت الأسباب فلم أهتد إلى علة جازمة.
ج :
ربما كان السبب الجو؛ فالشرقيون يعيشون غالبا في جو حار أو أقرب إلى الحرارة، والغربيون يعيشون في جو بارد أو أقرب إلى البرودة، والحر يسبب الكرب وانقباض الصدر، والبرد يدعو إلى الحركة، والحركة تجري الدم وتبعث على النشاط وتذهب السأم. أضف إلى ذلك أن الجو البارد عندهم يدعو إلى اجتماع الأسرة والأصدقاء في البيت رجالا ونساء، وإشعال النار في المدافئ والاجتماع حولها، وفي سكونهم إلى النار ومعهم المرأة بلطفها وبهجتها مبعث للأنس والسرور، وغذاء للنفوس تتغذى به طول اليوم حتى يتجدد المنظر.
ب :
فكرت في هذا كما فكرت، ولكن لم أجده سببا صالحا؛ ففي البلاد الشرقية ما يعتدل جوه وقد يكون أميل إلى البرودة في أكثر أيام السنة كسوريا ولبنان، ومع ذلك فالطبيعة الشرقية واحدة! ثم إنك نسبت الفرح إلى المدافئ والشرق فيه المدافئ الطبيعية الكافية، والحر يجري الدم والبرد يجمده، ألم تقرأ كلمة ابن خلدون في أن الإنسان إذا دخل الحمام كان أميل إلى الغناء؛ لأن حرارة الحمام تنشط دمه وتبسط نفسه؟! فهب أن الحر اشتد في جونا حتى كان كله حماما، أليس في هذا ما يدعو إلى جريان الدم وانبساط النفس؟ ثم لو كان ما تقوله صحيحا لكان «الترمومتر» مقياسا للفرح والحزن، كما أنه مقياس للحرارة والبرودة، وهذا ظاهر البطلان! قد يكون في بعض ما دل عليه كلامك - ولو لم توضحه كل الإيضاح - شيء من الصحة، وهو موقف المرأة في الغرب والشرق؛ فالمرأة في الغرب مبعث السرور والنشاط في المجتمعات وفي الحياة العامة، وفي باب الحب وفي باب العمل، وهي بلسم الهموم في الغرب وليست كذلك في الشرق؛ ولكن حتى هذا لا أراه كافيا.
أ :
عندي أن السبب في انتشار الحزن والتشاؤم يرجع إلى الحياة الاجتماعية ونظمها وتاريخها؛ فالشرق منذ مئات السنين رازح تحت أثقال ظلم الحكام، سلب ونهب واستئثار بطيبات العيش، وإسراف في الترف يقابله إغراق في فقر الشعب، وسطوة تقتل النفس وتحملها على المذلة والملق، ومناظر مخزية من ضياع عدل بالرشوة والمحاباة وتقديم غير الكفء وإهمال الكفء، وتسلط على الفلاحين والطبقات العاملة، وأخذ كسبهم لتزيين قصور أغنيائهم، وتركهم في بؤسهم لا يكادون يجدون ما يأكلون.
كل هذا ملأ النفوس أسى وأسفا، وتراكم عليها ذلك حتى أثقل كاهلها، وغضن جبينها وحير نظرتها، فإن ضحكت فمن فمها لا من قلبها، وإن تشاءمت فلما رأت من تتابع خيبة أملها. وكيف يفرح من في بيته مأتم، أو كيف يضحك من يشيع جنازة؟ - ليس العجب من حزنه وتشاؤمه، بل العجب من بقائه حيا إلى اليوم مع كثرة ما لاقى - إني لأعجب من ضحكاته القليلة، وأعجب من قوة احتماله لأثقاله!!
ودليلي على ما أقول أنه لما بدأت تتحسن حالة الشرق الاجتماعية قليلا بدأ يضحك قليلا قليلا، فإذا تم ما أمل انفجرت ضحكته عالية.
واكفهر الجو واحتجبت عين الشمس وأخذ السحاب ينذر بالمطر الغزير، فجددنا السير لنرى ملجأ نحتمي فيه، فلم نجد إلا «مخفر البوليس»، فاستضفناهم، فضيفونا، وانسجم الجو والمطر والرعد والبرق مع الموضوع - وأخرج كل منا ما يحمله من طعام بسيط، وبدأنا الأكل، ولكن كانت شهيتنا لإتمام الموضوع فوق شهيتنا للأكل.
قال الأول - وهو من بدأ الحديث -: ربما كان السبب عندي يرجع إلى الدين، وأرجو ألا يؤاخذني صديقي «أ» فقد عرفته دائما يتحمس للدين ويغضب للدين، ويرجع للدين في ماضيه وحاضره كل فضيلة، ولعدم التمسك به كل رذيلة، وأرجو أن يكتم غضبه حتى أتمم حديثي فقد يقتنع.
أرى أن الإسلام في أصله كان يعتمد على ركنين: الترغيب والترهيب، وكانا متوازيين متعادلين؛ الجنة تقابلها النار، والنعيم يقابله الجحيم، والتهديد بالعقوبة يقابله عدم التيئيس من رحمة الله، وهكذا؛ ولكن بعد القرن الأول علت نغمة التخويف وضؤلت بجانبها نغمة الأمل، وكان على رأس هؤلاء الحسن البصري، فملأوا أدب الدين بالنار والرعب منها، والخوف من الآخرة وشدتها، وما زالوا يفرطون في ذلك حتى انخلعت قلوب الناس وتولاها الهلع والجزع، فصاروا إذا ضحكوا استغفروا، وإذا استمتعوا ندموا. وكلما أتى جيل من العلماء زاد هذه النغمة علوا، فزادت القلوب يأسا، وساد الجو وجوم وشمله الخوف، وبدل أن يعمل العلماء بالحديث «بشروا ولا تنفروا»، عملوا بعكسه فنفروا ولم يبشروا - فلا عجب بعد هذا كله أن يحزن الناس ويتشاءموا وتعلوهم الكآبة. وكانت هذه النتيجة بعينها في الغرب في القرون الوسطى لما سادت سلطة رجال الدين، وكانت نغمتهم نغمة رجال الدين من المسلمين، فلما زالت العلة وأتت النهضة كانت الدعوة إلى تقدير الحياة الدنيا والاستمتاع بها، فكانت البهجة والسرور.
أ :
هذا قول غير صحيح؛ فالإسلام بشر وأنذر، ورجال الدين كما زادوا في وصف النار زادوا في وصف الجنة، وغرضهم من التخويف بالنار وعقابها ردع الناس عن الفجور، وحسنا فعلوا، فهل تعجبك أوروبا في مباذلها ومباهجها واستهتارها؟ تبا للسرور إذا أنتج هذه النتائج، ولخير منه ألف مرة الحزن مع الاستقامة (قال ذلك في شيء من الحدة والغضب) .
ومن حين لآخر يسود الصمت فنسمع صوت الرعد وانهمال المطر، فنفكر في وسيلة العود، وما رأيك أنت يا سيد (د) إنا لم نسمع منك كلمة من بدء الحديث؟
د :
إني أستمتع بحديثكم وأستزيد علما من أقوالكم وجدلكم، وعندي رأي أبديه بين آرائكم، هو أن سبب الحزن السائد هي الفنون، من شعر وموسيقى وغناء. فالفنون - في نظري - هي قادة الشعوب وخاصة في مشاعرها، وقد رأيت الشعر العربي يميل دائما إلى الحزن من حين قال امرؤ القيس: «قفا نبك» إلى أن قالت أم كلثوم: «سكت والدمع تكلم»، وبينهما ما لا يحصى من الشعر الحزين والدمع المنسكب. إن الشعراء كانوا كرجال الدين أعطوا عودا ذا أوتار فلم يغنوا كثيرا إلا على الوتر الحزين حتى كاد الشعر يغرق في بحر الدموع. الحب بكاء والرثاء بكاء. والمديح مذلة للنفس وهي بكاء، تبدى الشعراء فبكوا الأطلال، ثم تحضروا فبكوا الديار، وأحبوا فبكوا الحبيب، ثم شقوا فبكوا الشقاء، وتصوفوا فبكوا، ونقدوا المجتمع فبكوا، فماذا بعد هذا؟
أ :
فأين أنت من شعر عنترة وأمثاله الذي يفيض قوة وبطولة؟ وأين أنت من شعر أبى نواس الذي انغمس في متع الحياة إلى أذنيه؟ وأين أنت من شعر المتنبي الثائر القوي؟ وأين أنت من شعر البهاء زهير العاشق المرح؟ أمن العدل في الحكم أن تنظر إلى من بكى ولا تنظر إلى من ضحك، وتنظر إلى شعر الضعيف ولا تنظر إلى شعر القوي؟
د :
لم يغب عني ما ذكرت، ولكني لا أرى رأيك في أبي نواس؛ فإنه بكى على الخمر كما بكى غيره على الحبيب، ولا في المتنبي؛ فإن شعره قوي حقا ولكنها قوة الذي يضرب فيوجع، لا قوة الذي يحمس فيفتح الأمل. إن الشعر الذي أتمناه الشعر العربي شعر قوي فيه الشعور بالقومية وبالعزة وبالحياة وبالحرية، تستند فيه قوة الشاعر على صدق الشعور وحرارة القلب لا على الإسراف في الخيال ولا على الإمعان في ضروب البديع، وهذا القدر في شعر العربية قليل إذا قيس بالشعر الحزين. إن في بعض الشعر الغربي حزنا أيضا ودموعا هياما، ولكن هذا اعتدل واستوى بما كان بجانبه من شعر ضاحك قوي يفتح النفس ويبعث على الحياة، فكان النوعان ككفتي الميزان استوتا وتعادلتا. أما عندنا فكفة راجحة جدا، وكفة شائلة جدا.
والغناء عندنا أسوأ من الشعر؛ إن في الشعر ضروبا، ولكن الغناء ضرب واحد وهو الدموع المسفوحة، والكبد المجروحة، والقلب الذائب في الوصال والفراق، والقرب والبعد والرضا والصد، كأن لا حب إلا بدموع كالذي قال:
هل الحب إلا زفرة ثم عبرة
وحر على الأحشاء ليس له برد
وفيض دموع تستهل إذا بدا
لنا علم من أرضكم لم يكن يبدو
والموسيقى صدى للغناء، يبكي المغني فتبكي الموسيقى لبكائه، وأحب أدوار المغني إليه وإلى الناس ما أحزن، وكذلك الموسيقى، ومرحى لهما إذا أجريا دموع السامعين، واستخرجا من أعماق القلوب آهات المحبين!!
كل هذا في نظري سبب ما شاع في نفوس الشرقيين من الحزن، فكثير من الأمم مدينة بقوتها وعظمتها وتبسمها وإقبالها على الحياة للفنانين من شعراء وكتاب وموسيقيين ومغنين؛ فأصلحوا الفن يصلح الناس، وأضحكوا الفنانين تضحكوا السامعين.
وصمتنا لحظة، وإذا السماء لا تزال تسح، والسحاب لا يزال يدمع، فسألنا مضيفنا أن يستوقف لنا سيارة تحملنا.
ب :
ولكن أترى هذا سببا أم نتيجة؟ أبكى الشعب لما بكى الشعراء، أم بكى الشعراء لما بكى الشعب؟ إني أرى أن الفنانين إنما يطربون الشعوب؛ لأنهم غنوا لهم على مشاعرهم، ولو غنوا لهم غناء قويا ما أعجبهم.
د :
هذا يا سيدي من ضعف الفنان؛ فالفنان القوي يقود الشعب ولا ينقاد له، ويسير أمامه لا وراءه، كالنبي يطلع على الناس بالجديد في تعاليمه، ثم يحملهم على الجادة بقوته التي يستمدها من ربه، وبما هيأه له الله من قوة قلبه.
أ :
ولكن ألا ترون أنكم بالغتم في الحط من قدر الحزن والبكاء، وفي عدهما علامة ضعف الأمة؟ أليست الدمعة علامة رقة الشعور وطهارة القلب وصفاء النفس؟ ألم يقل كبار الفلاسفة: إن المأساة أرقى وأنبل من الملهاة؟ والمأساة تثير الدمع والملهاة تثير الضحك!
والشاعر يقول:
ما واجد الصبر في المعنى كفاقده
وجامد الدمع في المعنى كجاريه
إن الحزين الدامع أقرب إلى قبول الخير من اللاهي الضاحك القاسي.
ب :
إن الحزن ألوان والدمع ألوان. وإن ما نكره هو الحزن يقبض النفس، ويبعث على اليأس ويصرف عن الحياة، وإن الأمة بهذا النوع من الحزن لا يرجى منها أي خير، ولماذا تكون رقة الشعور في الحزن ولا تكون في السرور؟ إن النفس الإنسانية أوتار ولا بد أن نوقع عليها جميعا، فأما أن تبكي فقط فقتل للنفس. لا بأس من الحزن، ولكن حزن الرجال، وخير من قول شاعرك الذي حكيت قول أبي تمام:
ولربما ابتسم الكريم على الأذى
وفؤاده من حره يتأوه
وهذا معنى كريم، فهو يشعر ولكن لا يبكي، ويتأوه ولكن يعمل في مقاومة ما يتأوه منه، يألم من الشر ولكنه يدفعه، ويفرح بالخير ويستزيده. ألا ترى أن الطفل يبكي كثيرا حيث لا يبكي الرجل؟ إن الأطفال يبكون لأنهم يتألمون ويعجزون عن إزالة أسباب الألم، وهم لا يبكون للألم ولكن للعجز؛ فالحزين الباكي من الرجال طفل يتألم ويعجز، والقادر القوي يتألم ولا يبكي؛ لأنه لا يعجز أتريد أن تكون الأمة أطفالا أو رجالا، أو تريد ...
وزمرت السيارة زمرتها إيذانا بالحضور، فركبنا والمطر ينهمر، وعدنا إلى منازلنا، أفكارنا هائمة في حوارنا.
الحيرة
لست أنسى تلك الأيام التي قضيتها في فندق «أوريان بالاس» في دمشق أيام مهرجان المعري، وكان الشباب السوري يتحلق حول العلماء الوافدين، ويمطرهم بالأسئلة الاجتماعية والسياسية الأدبية.
إن كان هناك طابع يميز هذه الأسئلة فهو «الحيرة»؛ الحيرة فيما يجب أن يعملوا لأنفسهم ولصالح أمتهم؛ والحيرة في المذهب السياسي والاجتماعي الذي يجب أن يعتنقوه؛ والحيرة في موقفهم إزاء المدنية الحديثة، ماذا يأخذون وما يذرون؛ والحيرة في كيفية التوفيق بين مطالب الإسلام ومطالب المدنية.
وليس الأمر مقصورا على الشباب السوري، فالشباب الشرقي كله حائر في هذه الأمور وأمثالها، بل كل المثقفين وأولي الأمر حائرون.
ولهذه الحيرة أسباب خاصة في كل قطر، وأسباب عامة في العالم.
إن العالم كله اليوم حائر؛ لأنه هدم قديمه، ولما يبن جديده، كالسائر يمشي في الطريق الواضح المعلم حتى إذا أتى إلى مفترق الطرق حار أين يتجه. نقم المصلحون على الوطنية؛ لأنها جرت التنافس إلى حد التناحر؛ ولأنها أدت إلى المغالاة في حماية الصناعة الوطنية والتجارة الوطنية، وفرض كل أمة صناعتها وتجارتها وسياستها ورجالها على مستعمراتها، وأشعلت نيران العداوة والحسد والغيرة بين الأمم حتى أدت إلى هذه الحروب الطاحنة، ونادوا بأن تحل الإنسانية محل الوطنية، أن تفتح البلاد للتجارة الحرة تتنافس تنافسا مشروعا أساسه الرخص والجودة وما إليهما. ولكن كيف ترسم هذه الخطط لبرنامج الإنسانية، وكيف يحافظ على مزايا الوطنية وتتجنب أضرارها، وكيف نتخلص من إرث قيم في نفوسنا، وأين الساسة القادرون على أن يقودوا الرأي العام لا أن يقودهم الرأي العام؟ كل هذا لم يتبين بعد، فالناس حائرون.
وشكا آخرون من التربية وقالوا: إنها علة العلل، وإنه تخدم الوطنية وتؤججها، وتبعث في نفوس الناشئين ضيق النظر وعصبية الجنس والأمة، وتعد للحرب والخصومة والسير على آثار من قبلهم في تصور نظم الحكم؟ ولكن كيف الإصلاح؟ وكيف يعم هذا الإصلاح الأمم كلها حتى لا يتسلح قوم بالوطنية والخصومة، بينما الآخرون متسامحون يؤسسون تعاليمهم على الإنسانية والعطف والإخاء؟ وكيف ينفذ الإصلاح - لو عرف - والقابضون على زمام التربية والتعليم عقليتهم من جنس عقلية حكومتهم التي تحافظ على القديم وتكره الجديد، خصوصا إذا كان جديدا ثائرا؟ هذا موضع حيرة.
ورجال الدين يصرخون: ضاع الدين ففسدت الأمم، وماتت الروح فضاعت الذمم، ولا نجاة إلى بعودة الدين إلى حياته ليعود لضمير إلى محاسبة النفس، ولكن ماذا فعل رجال الدين ليصوروه دين روحانية لا مادية فيها، وسمو أخلاق لا ضعة فيها، وحقيقة لا خرافة فيها، وسماحة لا ضيق فيها، وصفاء نفس لا شائبة فيها، وخدمة للإنسانية لا كراهية فيها، وعون على التقدم الاجتماعي لا رجعية فيه، وتصفية العلاقة بين العبد وربه لا تكديرها، وتجرد عن خدمة السياسة والاستبداد والشهوات والأغراض؟! هذا موضع حيرة.
والمصلحون السياسيون ينادون أن النظام الحالي للدول سبب البلاء، فأمم متقاطعة ترتكز سياستها على ضيق النظر وكسب الغنائم على حساب غيرها؛ وتوجيه الشعوب لمصلحة حكومتها لا توجيه الحكومة لمصلحة شعبها، ونظم تتنازع العالم بين شيوعية ونازية وديمقراطية، ويؤول تنازعها إلى انقسام العالم إلى معسكرات وفناء الملايين من بني البشر، وتسخير العلوم والفنون للحرب، وغير ذلك. ولكن ما هي النظم التي يجب أن تحل محل القديم، وكيف تفرض على الجميع، ومن الذي ينفذها؟ لسرعان ما توضع المبادئ الإنسانية في الحرب، ثم تنسى في السلم، فكيف ينفذ في السلم ما يقال في أيام الحرب؟ هذا أيضا موضع حيرة.
ورجال الأخلاق يشكون من ضياع الأخلاق الفاضلة؛ فقد ضاع عطف أفراد الأسرة بعضهم على بعض، وعطف رب المال على العمال، والعمال على رب المال. وضاعت حرمة القوانين والمبادئ كما ضاعت حرمة المعاهدات. وفشا الشك في قيمة الفضيلة كما فشت الفوضى في العقول. ولكن كيف السبيل للإصلاح؟ إن المواعظ والنصائح وكتب الأخلاق لا تؤثر ما لم يدعمها الإصلاح السياسي والاجتماعي، وقد أبنا صعوبته وحيرتنا فيه! فهنا حيرة كتلك .
العالم كله غارق في الحيرة من هذا ومن أمثاله. •••
ثم للشرق حيرة أخرى بجانب هذه الحيرة العالمية، بل حيرات. إن مصيره مرتبط بمصير العالم، فهل تتغلب المبادئ الإنسانية والعدالة الاجتماعية فتنظر للشرق كأنه أخ للغرب، إن تخلف عنه يأخذ بيده حتى يتقدم، كما يأخذ الأخ العاقل العادل الكبير بيد الأخ الصغير فيعلمه ويمرنه ويعده لمستقبله خير إعداد، ويؤهله للتعاون معه في إعلاء مجد الأسرة؟ أو يسلك معه في الحاضر ما سلكه في الماضي فيكون كالأخ الظالم الكبير يتولى الوصاية على الصغير فيسلبه ماله، ولا يعلمه لأنه ينتفع بجهله، ويعينه على الفساد لأن فساده خير له من صلاحه؟: هذا موضع حيرة! وحيرته في هذا مشوبة بالخوف، والخوف مبعث القلق، والقلق يؤدي إلى الاضطراب، والاضطراب ليس في مصلحة الحاكم ولا المحكوم، لا الغالب ولا المغلوب.
ثم هو قد توزعته الدعاة؛ فداع إلى المثل القديم يريد نظام التشريع القديم ويريد التعليم على الأساس القديم، ويريد التمسك بالعادات والأوضاع القديمة؛ فلا سفور للمرأة، ولا أخذ من التشريع الحديث، ولا أخذ من المدنية الغربية إلا أن تقرها المدنية القديمة، وإلا في حدود ضيقة جدا؛ ودعاة يدعون إلى التجديد في كل شيء، ونقل الشرق إلى الغرب في نظمه وتربيته وكل شؤونه. وهؤلاء وأولئك جادون في دعوتهم، مقتسمون الشباب فيما بينهم، مؤيدون بالبراهين القوية وجهة نظرهم. يرمي الأولون الآخرين بالتهور، ويرمي الآخرون الأولين بالجمود، والشباب بينهما حائر!
ثم دعاة التجديد فيما بينهما منقسمون ومتوزعون على المثل العليا، تقسمتهم المذاهب السياسة والمذاهب الاجتماعية، وبعضهم حرب على بعض، وكثيرون ينظرون إلى هؤلاء وهؤلاء، فيصرخون من أعماق صدورهم: أين الحق؟
إن رمي الغرب بحيرة، فقد رمي الشرق بحيرة خاصة بجانب الحيرة العامة.
لست أكره هذه الحيرة ولا أمقتها، فهي دليل الحياة، ودليل النشاط؛ ولكن أشفق على أهلها إشفاقي على الهائم في طريقه، الضال في مسلكه، أو المريض تضاربت في علاجه أقوال الأطباء.
ولعل أكبر سبب لإشفاقي، وأكبر سبب لحيرة الشباب، ندرة الزعماء المتميزين، وكثرة الأعضاء الصالحين لا يقودهم رأس صالح . إن الزعيم القوي يبعث في النفوس إيمانا قويا يذهب بالحيرة، ونارا حارة تأكل التردد، وعينا حادة تعين الطريق عند مفترق الطرق، والزعيم القوي يلتهم الخلافات فلا يكون لها أثر، ويوحد بين الآراء المتشعبة فيكون منها رأي واحد يؤمن به الجميع، إلا من لا يعبأ به. والويل إذا تقارب الرؤساء في الكفاية، ولم يضطرهم رئيس ممتاز أن يخضعهم لكفايته، ويسيرهم لاعتقادهم بميزته.
ولكن الزمان علمنا أن الحيرة تخلق الزعامة، كما يتكون السديم نجما. والضلال يسبق الهدى، كما يكون الفجر الكاذب إرهاصا للفجر الصادق.
على هامش الحكم
لقد ورثنا إرثا بغيضا من العصور الماضية، وهو ترك الحكام وشأنهم يفعلون ما يشاءون وحسابهم عند ربهم؛ وهو أثر من آثار العقيدة بأن الحكم فريضة القدر، إن شاء رحم الشعب فهيأ له حكومة عادلة، وإن شاء قهره فهيأ له حكومة ظالمة، والقدر يفعل ما يشاء بلا حساب. وكل ما يعرف من قوانين القدر أنه إذا كان الشعب صالحا يؤدي الفرائض الدينية كما أمر هيأ الله له حكومة عادلة، وأما إذا ارتكب الخطايا عوقب بحكومة ظالمة.
وكان نموذج الرجل الطيب بناء على هذا هو من يبتعد عن السلطان، وبعبارة أخرى عن رجال الحكم، فلا يأخذ عطاءهم، ولا ينقد عملهم، وإنما ينقطع للعبادة ما أمكن، فإن شارك في أعمال الدنيا فبالأعمال الصالحة، وهي تكاد تنحصر في الإحسان إلى الفقير، وإطعام الجائع، وكسوة العريان ونحو ذلك. ونقرأ في الكتب القديمة فنرى هذا هو المثل الأعلى للرجل، عبادة وعزلة، والاكتفاء بذلك إن كان فقيرا، وصدقة وبناء مسجد إن كان غنيا. أما موقف الشعب من الحكومة فهو كموقفه من الشمس؛ لا يستطيع إليها الصعود ولا تستطيع إليه النزول، ولا يستطيع أن يغير حرارتها إن اشتد القيظ، ولا يزيد حرارتها إن اشتد البرد، كما قال الشاعر:
هي الشمس مسكنها في السماء
فعز الفؤاد عزاء جميلا
فلن تستطيع إليه الصعود
ولن تستطيع إليك النزولا
وتلون كثير من الأدب العربي في العصور الوسطى بهذا اللون من إعلاء شأن السلطان وعدم التعرض له بخير أو شر، ومدح الذين نفضوا أيديهم من الأمر، والإشادة بشأن من دعوا للمشاركة في الحكم فأبوا، وللقضاء فامتنعوا، ولعطاء السلطان فهربوا - وامتلأ بالحكم والمواعظ والأمثال من هذا القبيل.
هذا شأن الأتقياء وأصحاب الزهد والورع. فأما أهل الدنيا مثل الشعراء، كما كانوا يسمونهم - فإغراق في المديح، وتفنن في البديع، وإفراط في وصف الحاكم بحسن الصنيع، يمدح إذا أتى بالخير، ويمدح إذا أتى بالشر؛ فإعطاء الألف كرم يفوق كرم السحاب، وقتل البريء حزم، والانهماك في الملذات ظرف، والكلمة العادية حكمة وهكذا. فهناك قوم سلبيون لا يتعرضون بخير ولا شر، وقوم إيجابيون «كالمطيب» للمغنيات. فأما جهر بالرأي ونقد للحكم فلا، إلا في القليل النادر!!
كان هذا هو الشأن أيضا في العهد الروماني، وكان هو الشأن في أوروبا قبل الثورة الفرنسية، ولكن كل هذا تغير عندهم إلى حد كبير، وعندنا إلى حد صغير، ويجب أن يكون - أيضا - إلى حد كبير.
في العصور الماضية كان الفرد مسئولا فقط عن نفسه، فإن تعداه قليلا فعن أسرته، وكان الحكم مسئولا عنه القدر وحده، أما اليوم فالحكم الصالح أو الفاسد في الأمة مسئول عنه كل فرد - أنا وأنت وهو مسئولون عن وزارة المعارف كيف يجري فيها نظام التربية والتعليم، وعن وزارة العدل كيف يجري فيها تحقيق العدالة، وعن وزارة التموين كيف يصل الغذاء الكافي واللباس الكافي لأحقر فلاح في أبعد أرض، وعن وزارة الخارجية ماذا فعلت في المشاكل المصرية بينها وبين الأمم الأجنبية، وكيف حلتها أو أهملتها.
ومسئولون عن الوزارة كلها ككل؛ هل نرضى عن سياستها فتبقى، أو لا نرضى فتعزل أو تسقط؟
ونزل الحكم من شمس السماء إلى كرة في الأرض نوجهها حسبما نشاء، ونصيب بها الغرض الذي نشاء، فإن أطاعت فيها، وإلا قذفناها إلى غير رجعة.
فإذا شكونا من وزارة خانت فلنشك من أنفسنا؛ نحن الذين مكناها من الخيانة، وإذا مدحنا وزارة عدلت فلنغتبط إذ نحن الذين حملناها على العدل.
لقد أصبح الرجل الطيب لا من يتنحى عن العمل ويعتزل في صومعة، ولكن من يقول ويعمل كما يقول؛ وأصبح الشاعر الطيب لا من يمدح بالحق والباطل، ولكن من يمدح حيث يجب المدح ويذم حيث يجب الذم؛ وأكثر من ذلك من يعبر عن مشاعره في صدقن، والعمل الصالح ليس في إعطاء فقير وكسوة عريان فقط، بل في نقد أعمال الحكومة أيضا، والبطل ليس هو القديس ولكنه المصلح.
والشعب الصالح للبقاء ليس هو الشعب الذي يقول: دعوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله، ولكن الذي يقول: ما لقيصر وما لله لله وللأمة؛ هو الذي منح شعورا مرهفا بالظلم يمقته حيث كان، في الشركات، في الوزارات، في الحكومات، فإذا رآه صرخ وقال: «لا ظلم» بملء فيه.
والشعب الصالح للبقاء من لا يكتفي بتضميد الجروح، ولكنه ينقي الدم - فهو لا يقنع كما كان يقنع الأول بالبكاء على الرذيلة، ولكنه يعمل لتدعيم الفضيلة.
لم تعد الصومعة ولا الدير موطن البطولة، إنما موطنها ميدان العمل؛ فمكافحة الملاريا أفضل عند الله من ألف صلاة تزيد عن الفرض، وتنوير الشعب بحقوقه وواجباته خير من الصوم الدائم، وتحسين حال الصناع والعمال والفلاح أقرب إلى الله من الرهبنة!!
وأصبحنا نفهم الزكاة بمعنى أوسع، فليست الزكاة واجبة على الأغنياء في أموالهم فقط، وإنما هي واجبة أيضا على العالم في علمه والفنان في فنه، والقادر في قدرته، والموهوب في مواهبه، كل عليه زكاة يؤديها لخدمة المجتمع.
وأول واجب يطالب به الناس كافة إقامة الحكومة الصالحة العادلة التي ترعى حقوق الشعب.
تسألني: وكيف يستطيع الشعب القيام بذلك؟ أقول: إن الحكومة الظالمة لا تستطيع البقاء في منصبها يوما واحدا إذا صرخ الشعب كله صرخة واحدة صاعدة من قلب يشعر بالظلم؛ صرخها الكناس في الشارع، والعامل في المعمل، والصحفي في صحيفته، والنائب في برلمانه.
لقد روي في الأثر: «كما تكونوا يولى عليكم» وهو حق صحيح، ولكن لا بالمعنى الشائع، وهو أنكم إذا صلحتم من عليكم القدر بحكومة صالح، ولكن بمعنى ارتباط السبب بالمسبب والعلة بالمعلول، فإذا صلحت الأمة صلح الحكم؛ لأن الأمة لا تصلح حتى تضع عينها على الحكم تعرف ماذا يفعل، وتستخدم لسانها لتوجهه أو تنقده أو تزجره - وأما إن هي تركته يفعل ما يشاء، وأخذ المخادعون والمنافقون والكتاب والأدباء والشعراء والصحف يطرون ظلمه ويسبحون بحمده، أو أخذوا بأضعف الإيمان، وهو الاستنكار بالقلب، كانت النتيجة لا محالة حكومة فاسدة وحاكما ظالما. ومن الحق ما قاله أبو الطيب:
والظلم من شيم النفوس، فإن تجد
ذا عفة فلعله لا يظلم
وليس يمنع حاكما من ظلمه مثل أن يرى أمة لا تقر ظالما على ظلمه، ورأيا عاما جريئا يشعر بالعدل، ثم يعبر في صراحة عما يشعر به، وشعبا يحلل أعماله وينقدها ويقومها.
وليس يمكن أن يصل شعب إلى هذه الدرجة إلا بتنويره وتثقيفه، ولست أعني الثقافة العلمية الخاصة، ولكن الثقافة العامة بالصحف والمجلات والراديو وخطب المساجد، وما إلى ذلك في الموضوعات الواقعية التي تواجهنا كل يوم، فكم من مثقف في النحو والصرف والرياضة والطبيعة والكيمياء، ثم لا يفهم شيئا من أمور الدنيا، ولا مما يجري حوله من مظالم.
فإذا ثقف الشعب هذه الثقافة السياسية والاجتماعية العامة أمكن أن يكون له رأي عام يخيف الحاكم ويحمله على العدل.
إن أول واجب أن يفهم الشعب أن الحكومة من عمله، وليست من عمل القدر، وأن ظلمها وعدلها وصوابها وخطأها وضلالها ورشدها صورة منعكسة لحالة الشعب من قوة أو ضعف، وتنبه أو خمود، ورقابة أو إهمال.
قد يرزق الشعب الجاهل الغافل بحاكم عادل، ولكن شأنه في ذلك شأن الرجل غير المستحق كسب ورقة في «اليانصيب»، إنما الضمان الحقيقي للعدالة المستمرة هي تنبه الشعب ويقظته ورقابته وشجاعته.
في الهواء الطلق1 (7)
هذا صديقي وأنا، نمشي على شاطئ البحر في رأس البر في وقت الأصيل، وننتقل من الحديث عن الجو إلى المفاضلة بين الإسكندرية ورأس البر، إلى أخبار الحرب ومصير العالم، ثم إذا بنا ننغمس في الجدل في نظرية «التقدم المستمر للعالم».
قلت: إن العالم في تقدم مستمر، فهو اليوم خير منه أمس، وهو غدا خير منه اليوم، وقد أتى على الناس زمان كانوا ينشدون فيه مثلهم الأعلى في ماضيهم، واليوم ينشدون مثلهم الأعلى في مستقبلهم. وأذكر أني قرأت جملة لطيفة لكاتب غاب عني اسمه، وهي: «أن قدماء اليونان كانوا يعتقدون أنهم من نسل الآلهة فانحدروا؛ وأما المحدثون فيرون أنهم من نسل القرود فسموا» وهذا يمثل نوعي النظر في انحطاط العالم شيئا فشيئا، أو تقدمه شيئا فشيئا؛ وأنا ممن يؤمن بهذا التقدم. قد يكون ماضي أمة معينة خيرا من حاضرها، وقد يقف العالم وقفة يكسر فيها بعضه بعضا - كما هو حادث الآن - وقد تقوم الثورات في الأمم فتدك النظام القائم، وتقع في الفوضى، ولكن إذا نظرت إلى العالم من حيث هو كل، وفي أزمانه المختلفة، رأيته يتقدم دائما، وإذا وقف فإنما يقف ليثب، وإذا كسر بعضه بعضا فليخلق خلقا جديدا خيرا من الخلق القديم، وإذا وقع في الفوضى حينا فليبنى على أنقاض النظام القديم البالي نظاما جديدا متينا، ثم يبلى الجديد فيبنى خير منه، وهكذا، وكل بناء جديد خطوة إلى الأمام.
وهذه الفكرة - مع صحتها - نافعة للإنسانية، ففي القرون الوسطى أيام كان الناس يعتقدون أن عصرهم الذهبي خلفهم لا أمامهم غلب عليهم اليأس والتشاؤم، وضعفت عزائمهم، وكان مثلهم الأعلى أن يعودوا إلى الوراء لا أن يسيروا إلى الأمام، وسادت فيهم الرجعية، ورموا كل من يدعوهم أن ينظروا أمامهم بالزندقة ونحوها، وتوقعوا قرب انتهاء العالم، فما هي إلا أجيال ثم ينقرض، فكان تقدمهم بطيئا؛ لأنهم تقدموا رغم أنوفهم لا بإرادتهم، وعاكسوا التيار فعوقوا عن السير. فلما جاء عصر النهضة واعتنق الناس فكرة التقدم المستمر، رأوا عصرهم الذهبي أمامهم لا خلفهم، فسارعوا إلى السير مع التيار، فتضاعف تقدمهم، واتسعت وثبتهم، وانفسح أمامهم المدى؛ فالإنسانية في نظرهم أمامها مستقبل بعيد سعيد. ويجب أن يعتنق الشرق هذه الفكرة كما اعتنقها الغرب، فلينظروا أمامهم أكثر مما ينظرون خلفهم، وينشدوا مستقبلهم أكثر مما يتغنون بماضيهم، بل هم إن تغنوا بماضيهم فليستحثهم على السير أمامهم.
فكر صاحبي هنيهة ثم قال: لا أظن ذلك! ألا ترى هذه الموجة؟ - ونظرت إلى موجة مسرعة إلى الشاطئ - إنها تتقدم سريعا حتى تفنى ، وتتبعها موجة أخرى وهكذا، والبحر هو البحر، قد يحدث المد ثم يحدث الجزر، والبحر لا يتغير. والتاريخ يعيد نفسه؛ لأن العالم يعيد نفسه، لعل الخلاف بيني وبينك ناشئ من اختلاف وجهة النظر في مظهر التقدم، فإن عددنا مظهر التقدم تغلب الإنسان على الطبيعة وتسخير قوانينها لمصلحته، ورقي عقله، وفهمه للعالم أكثر مما كان، وكثرة مكتشفاته ومخترعاته، فالرأي رأيك، وإن عددنا مقياس الرقي سعادة الإنسان فإني أخالفك، فلسنا أسعد من آبائنا، ولا رقي العقل وكثرة المخترعات قللت من متاعبنا، بل ربما كان العكس هو الصحيح - إن شئت فانظر إلى عشش رأس البر تر مصداق ما أقوله: هذه عشش وضيعة تحوي ناسا فقراء في المال، فقراء في العقل، وهذه عشش غنية مترفة، فيها الراديو، وفيها التليفون، وفيها الطباخ الماهر والأكل الفاخر، وعقول أهلها أرفع مستوى وأعلى مقاما؛ ولكن هل تستطيع أن تجزم بأن الآخرين أسعد من الأولين؟ ما أظن ذلك! فلو مررت بجانب عشش الأولين لسمعت الضحك عاليا، والرضا بما كان شاملا، وقد تكون صحتهم أتم، ولذتهم بالأكل البسيط أوفر من هؤلاء الأغنياء الممعودين الذين تعدهم أرقى، وتقيمهم مثلا للتقدم المستمر. وما قيمة رقي العقل وكثرة المخترعات إذا لم تصحب بالسعادة، وكان الأمر كما قال المتنبي:
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله
وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم!
بل ما هذه العقلية التي تطنطن بها؟ إن الإنسان مع تقدمه المزعوم لم يظفر إلا بمعرفة أعراض المادة. أما حقيقة المادة وحقيقة الروح فلم يتقدم في فهمها أية خطوة، بل لعل الإنسان كان يقوده شعوره إلى السلوك في الحياة خيرا مما يقوده عقله المطعم بالمنطق والفلسفة! إن العالم - في نظري - كالرجل المتردد يقدم رجلا ويؤخر أخرى، فهو يبني ويزخرف، ثم تعرض له جنة الحرب، فيهدم ما بني وما زخرف، ثم يبدأ يبني من جديد وهكذا، وليته ما بنى وما هدم؛ وكلما أجاد البناء أجاد الهدم، وشجرة المعرفة كشجرة آدم، من أكل من ثمارها خرج من الجنة. والإنسان الكل كالإنسان الفرد، يبدأ طفلا ثم ينمو ثم يهرم ثم يموت ليخلفه طفل جديد. وهكذا الأمم وهكذا العالم، فهو يدور في حلقة مفرغة.
قلت: لعل خلافي لك ينحصر في نقطتين: الأولى: أنك قللت من قيمة التقدم العقلي؛ والثانية: أنك عممت السعادة ولم تفرق بين سعادة وسعادة. والنقطتان مرتبط بعضهما ببعض أتم الارتباط، فالإنسان إنما ارتقى عن الحيوان بعقله لا بحواسه وغرائزه، فإذا سلمت بأن الإنسان أرقى من الحيوان وجب أن نسلم بأن الإنسان الأرقى عقلا أرقى من الإنسان الأضعف عقلا. وإذا سلمت بذلك وجب أن تسلم بأن العالم في مجموعه إذا كان اليوم أرقى عقلا مما كان فهو في تقدم مستمر. ثم إن السعادة العقلية أو اللذة العقلية أرقى من الجسمية، بل إن الإنسان يفضل العقل مع الألم على الجهل مع اللذة؛ فلو خيرت أنت بين أن تكون فيلسوفا ساخطا وأن تكون جاهلا راضيا لاخترت الأولى، وحكمك أنت في هذا الأمر أصدق من حكم الجاهل؛ لأنك جربت اللذتين: لذة الجهل ولذة العقل، واللذة المادية واللذة العقلية. ففضلت الثانية على علم. ولو عرض على المتنبي الذي قال هذا البيت أن يكون الغني الجاهل أو الغبي المنعم لما اختار إلا نفسه وآلامها.
ولنعد إلى موضوعنا: إن العالم كله يسير اضطرارا نحو الكمال، فالسدم إلى نجوم، والنطفة إلى وليد، والحيوان الأدنى إلى حيوان أرقى، والبذرة إلى شجرة، والشجرة إلى ثمرة. والطبيعة لا تزال بكل شيء حتى تنضجه، فلم لا يكون الإنسان كسائر ما في العالم، يسير نحو النضج؟ وقد دلنا العقل على أن قوانين العالم منسجمة، يسير أكبرها على نحو ما يسير أصغرها.
قال: ولكن النضج يعقبه الفناء.
قلت: ولكن الفناء يعقبه أن يولد خير مما فني.
قال: لا دائما.
قلت: لتكن نظرتنا كلية لا جزئية؛ إن الإنسان سائر إلى الأمام دائما. والعالم في كل قرن خير مما قبله في جملته، والشرور والرذائل تقل شيئا فشيئا. والإنسان بطبعه - وبالضرورة - ككل شيء في العالم يسير نحو غاية هي الكمال. ونظرية النشوء والارتقاء وتنازع البقاء وبقاء الأصلح تصدق على الإنسان كما تصدق على كل ما في العالم.
قال: كم من شرير قتل خيرا، وكم من فئة متبربرة متوحشة غلبت فئة متمدنة راقية! ومكروب الحمى الحقير أمات محمدا رسول الله العظيم! وكل يوم نرى أمثلة الخير يلتهمها الشر. ألم تر اليوم ما فعلت النار بعشش رأس البر كيف أتت عليها وعلى ما فيها، وفزعت أهلها، وأرعبت جيرانها، والتهمت كل ما وصل إليه لسانها؟! وأهلها قد أتوا ليستجموا من عناء أو يستشفوا من مرض أو يتخففوا من ألم. وما قيمة هذا الحريق في رأس البر بجانب حريق العالم في هذه الحرب؟ فلم كل هذا الشر إن كان يراد بالعالم الخير؟
قلت: أعيد فأكرر قولي، يجب أن تكون نظرتنا كلية شاملة لا جزئية خاصة، فلا تنظر لشرير جنى، ولكن انظر إلى ما أنتجت الجناية من تحصين، ولا تنظر لمكروب أمات، ولكن انظر كيف تقدم الإنسان فعرف مكروبا لم يكن يعرفه، وفتك بالكثير منه وهو يحاول الفتك بالباقي، ولا تنظر إلى الحرب وويلاتها، ولكن انظر إلى نتائجها بما أصلحت من نظم، وأظهرت من مفاسد حركت الهمم لتلافيها ووضع خير منها مكانها. ومن قوانين العالم العامة ألا يكون بناء إلا بعد هدم، ولا علاج إلا بعد مرض. إن شئت الفكرة واضحة فقارن بين الإنسان في جيله الأول وانظر كيف كان يعيش، وكيف كان يتصور العالم حوله، وكيف كان يتصرف في المسائل التي تعرض له، وكيف كان يحكم؛ والإنسان في جيله الحاضر، كيف يعيش ويتصور ويتصرف ويحكم، تؤمن بالتقدم المستمر والسير إلى غاية هي الكمال.
قال: إنك تبالغ كثيرا في تقدير المدنية، وإني لا أعد تقدما إلا رقي الطبيعة الإنسانية، وهل هي تقدمت كما تدعي؟ إن المدنية فيما أرى ليست إلا طلاء براقا للطبيعة الإنسانية المتشابهة في القديم والحديث. والإنسان متقدم - كما ترى - في حالة عدم الإغراء وعدم الاحتكاك، فإذا أغري أو وقع في محنة زال طلاؤه وتكشف عن طبيعة تشبه طبيعة الإنسان الأول، كما تراه في الحروب. إن الأمم في حرب بعضها بعضا لا تراها أكثر إنسانية ولا حبا للعدل ولا رغبة عن الانتقام من أسلافها الأولين، ولا أظن أن الإنسان في حاضره قد شابهه أي إنسان آخر قبله في فتكه وإبادته وتخريبه! وحتى في غير أيام الحرب تستطيع أن تقارن بين الاستعمار القديم والاستعمار الحديث لترى ماذا يفعل الإنسان، وهل تقدم إنسان اليوم عن جده؟ ومن الغريب أنك ترى الإنسان المتمدن لم يذبح في حياته دجاجة، ولم يقتل حشرة، فإذا دخل في ميادين القتال كان سفاكا فتاكا، وتكشف عن طبيعة تشبه طبيعة القط رأى الفأر لأول مرة - إن كان هذا فماذا فعلت المدنية؟ أمدت سككا حديدية، واخترعت الراديو والتليفون، وأنشأت الآلات الصناعية، وهل هذا تقدم في الطبيعة الإنسانية؟!
لست - من غير شك - أنكر قيمة ما اكتشفه الإنسان الحديث وما اخترعه، وما استفاد من تجاربه مما غير به وجه الأرض، ولكني أومن في الوقت نفسه أنها أمور خارجة عن نفسه؛ فإذا قسنا الإنسان بمقياسه الحقيقي - وهو طبيعته البشرية - لم نؤمن بالتقدم الكبير الذي تدعيه. وهذا يدل على أن الإنسان خاضع لقانون الوراثة أكثر من خضوعه لقانون البيئة، أو بعبارة أدق هو خاضع لهما بنسب متفاوتة جدا.
قلت: إنك تستصغر التقدم الإنساني إذا قسته بالطبيعة البشرية، وتستنتج من ذلك فساد النظرية. ولكن ...
وهنا قال صاحبي: ألم تتعب من السير؟
قلت: الحديث أنساني نفسي وأنساني تعبي، فلا أذكر إلا حجة تقرعها حجة، فهل لك أن نجلس على الرمل ننعم بغروب الشمس في البحر؟ فجلسنا وسألني: ولكن ماذا؟
قلت: ولكن يظهر أنك تقيس الإنسان القريب بالإنسان الحاضر، والإنسان المعروف في التاريخ بالإنسان اليوم؛ فأمعن في تاريخ الإنسان الأول يوم لم يكن يفترق عن الحيوان إلا قليلا، وآمن بما يقوله العلماء المحدثون من أن عمر الإنسان على وجه الأرض مئات الآلاف من السنين، وأن الطبيعة لا تعرف الطفرة، ولكن تعرف التقدم البطيء؛ فإذا لم تر إلا تقدما قليلا إذا قصرت نظرك على الإنسان التاريخي، فإنك ترى التقدم كبيرا إذا ضممت إلى ذلك الإنسان قبل التاريخ، وكم بين الإنسان الذي يشبه القرد، وبين فلاسفة العصر الحاضر وعلمائه وشعرائه وفنانيه من فرق!
ثم إن في طبيعتنا البشرية نفسها مصداق ما أقول. إن الطبيعة لم تخلق فينا الأمل والطموح عبثا، إنما خلقتهما للسعي الدائب للرقي الدائم، ولو أرادت الطبيعة أن يقف الإنسان عند حد لجردته منهما كما جردت الحيوان. إن للأمل في الإنسان وظيفتين: احتمال متاعب الحياة الحاضرة، والسعي لحياة مستقبلة خير من حياته التي يحياها، وهذا مبعث التقدم في مسكنه، وملبسه، ومأكله، وعقليته، ونفسيته.
قال: هب ما تقول صحيحا، فما قيمة «التقدم المستمر» إذا كان مصير الإنسانية الفناء؟ لا شك أن سيأتي يوم تبرد فيه الأرض تبعا لبرودة الشمس، أو نحو ذلك كما كان الحال في كثير من النجوم، وإذا بالإنسانية كلها قد فنيت. وإذا كان الأمر كذلك فسواء صحت نظرية «التقدم المستمر» أو «الانحطاط المستمر» فالنتيجة واحدة وهي الفناء، وبذلك تكون الغاية التي يسير إليها العالم غاية مضحكة، فإذا كانت غاية مقصودة كانت غاية في منتهى السخف.
قلت: ذلك يكون صحيحا لو حسبت حساب هذا العالم المادي وحده، ولم تضم إليه الحياة الأخرى؛ أما إذا آمنت بحياة أخرى يستمر فيها الرقي والكمال، وتكون فيها الروح بعد تجردها من المادة أقدر على الرقي وبلوغ الكمال حتى تقرب من خالقها، لم يكن لاعتراضك وجه، ثم إنا إذا سلمنا بهذه الحياة الأخرى. •••
وهنا طلع علينا صديق مرح: السلام عليكم. - عليكم السلام. - ما لكما ساهمين؟ - نفكر؟ - في ماذا؟ - في نظرية التقدم المستمر. - ها ها ها.
أفي مثل هذا الجو وهذا المنظر يكون هذا الحديث؟؟ تكلما في غروب الشمس الجليل، أو في هذا البحر الجميل، أو في هذا الهواء العليل، لا في هذا الموضوع الثقيل! ولكنكما كما قال المثل: «يموت الزامر وإصبعه تلعب».
خطاب
القاهرة في 1 / 5 / 1944م.
أخي العزيز ...
معذرة إن تأخرت في الكتابة إليك، فقد مرضت مرضا خطيرا طال شهرين. لقد أضعف المرض جسمي، ولكنه صهر نفسي. أتاح لي أن أستعرض حياتي الماضية، فرأيتني كنت أعنى فيها بالسطح دون العمق، تشغلني التوافه، وأطمح إلى أوهام؛ فأخذت - في مرضي - أتعرف إلى الغرض من الحياة، وأشتاق إلى تفهم معناها، فأجتهد أن أجتلي حقيقتها المغطاة بالأشكال والأسماء، وأبحث عن نقطة الاتصال بين الله والإنسان، كأن نفسي كانت نبعا مدفونا فتفجرت، وكأن الله كان في السماء فصار في القلب.
لشد ما يكون الإنسان أقرب إلى ربه في مرضه، وفي أحزانه، وفي شدائده؛ لأنه يطلب النجدة فلا يجدها في الأصدقاء والأقرباء، وإنما يطلبها ممن لا تحد قوته، ولا تقصر قدرته، ولأنه في مثل هذه المواقف تتكشف له النفس الإنسانية فيراها ضعيفة بذاتها، قوية بربها.
قلبت - في أثناء مرضي - في دفاتري القديمة، فوجدتني قد نما عقلي وفتر قلبي، ولوددت لو كان العكس. وأقسم أني لم أحزن على شيب رأسي كما حزنت على دبيب المشيب إلى قلبي، فالقلب صلة الأرض بالسماء، ومهبط الوحي من السماء إلى الأرض؛ والقلب هو الحب، وهو الانسجام، وهو الجمال؛ والقلب هو الدين، وهو الأخوة، وهو الإنسانية؛ وما الحياة بغير هذا كله؟ إن العالم لم يسعد بنمو العقل بقدر ما شقي بضعف القلب؛ إنه أهدى في الحياة من العقل، إنه منبع السرور والألم، إنه منار الحياة.
حبب إلي في مرضي التصوف، والتصوف الحق سر الدين، والفقه ظاهره، فقرأت فيه كتابين، كان خير ما فيهما الحديث عن القلب، وخير الحديث عن القلب قصة جميلة قصها متصوف. قال: إن تاجرا ألهته التجارة عن صلاة الجمعة، فما انتبه إلا في موعد الصلاة، فتوضأ على عجل وأسرع إلى المسجد، حتى إذا أدركه رأى رجلا خارجا منه، فسأله متلهفا: أتمت الصلاة؟ قال: نعم. فتأوه التاجر آهة خرجت من أعماق قلبه. فسأله الرجل: أتبيعني آهتك بصلاتي؟ قال: نعم! وتم البيع والشراء - ثم رأى التاجر النبي
صلى الله عليه وسلم
في المنام فعاتبه على بيعته، وقال له: «أتبيع نبض الحياة بعمل الجوارح، وعصارة القلب بظواهر الحركات؟! لقد غبنت أيما غبن في بيعتك».
وشغفت - في مرضي - بنوع من الصلاة لطيف، أن أمجد الله في جمال الطبيعة، وأعبده بالنظر إلى سمائه وأرضه وفي جميع خلقه، وأقرأ في كل ذلك فنا دونه أي فن، وقلبا ينبض بالحياة، موسيقى أنغام وجمال انسجام، وإبداعا في التكوين، ووحدة في الوجود، وتدرجا في الارتقاء، وحياة متشابهة في الجميع،
أعطى كل شيء خلقه ثم هدى .
ما الفنان؟ ما الموسيقى؟ وما المثال؟ ما الشاعر؟ ما الأديب؟ كل رأى جمال الطبيعة من زاوية، وقدسه في نفسه، وقلده في فنه، وفني فيه فحيي نتاجه، ورأى الله فيما تخصص فيه، فآمن ولو كان ملحدا؛ وآية إيمانه إقراره بأن جمال الطبيعة فوق جمال فنه، وجلاله فوق جلاله، وإحناؤه رأسه علامة الخضوع، والإقرار بالعجز عن بلوغ شأوه!
غصون وأوراق وأزهار، وجبال ووديان، وبحار وأسماك، ونجوم وسماء، كلها تحيا حياة واحدة وإن تنوعت أسماؤها وصفاتها، ونفس إنسانية هي أعجب العجب، وكل ذلك وحدة مرتبطة الأجزاء، إن قرأت الألف فيها قرأت الباء إلى الياء. وكما قال شاعر فارسي ظريف: «لما لم يكن للطفل أسنان كان لبن، فلما كانت الأسنان كان الطعام الذي يتناسب والأسنان»؛ وكل شيء في العالم مرتبط هذا الارتباط.
بالأمس أخذت كرسيا عصرا، ونزلت إلى حديقتي المتواضعة، وصعدت إلى السطح مساء في ضوء القمر الساحر. وكان قد استولى علي التفكير في نفسي، ماذا صنعت في الحياة؟! اكتفيت بأنك تخط القلم على القرطاس، وتخرج مقالا في صحيفة أو تنشر كتابا تؤلفه، أكل هذا عملك في الحياة؟ أما الانغماس في الحياة الواقعة وإصلاحها بقدر الطاقة فقد نفضت منها يدك، فعاقبتك الطبيعة بشيء غير قليل من السأم؛ فالطبيعة التي غرست في الإنسان المحافظة على ذاته غرست فيه المحافظة على نوعه، فمن لم يحافظ على ذاته برم بالحياة؛ لأنه انحرف عن سنة الطبيعة، ومن لم يحافظ على نوعه بالعمل في خدمته عاقبته الطبيعة بالسأم والضجر؛ لأنه خرج على قوانينها، إنك أخذت في حياتك موقف «المتفرج» من رجال الإصلاح ورجال السياسة ورجال الدين، وجلست تنظر إلى هؤلاء جميعا نظرك إلى ملعب كرة، أو رواية في سينما، أو منظر في تمثيل، وتلذذت من هذه المناظر أو ألمت، فكانت اللذة لنفسك، والألم لنفسك لا للناس؛ وغمرك شعور باطني بنوع من الإعجاب بنفسك؛ لأنك استطعت أن تدرس هذا كله في جو هادئ، كما تدرس موضوعا في مكتبتك، وأن تنظر إلى المسائل الدينية والسياسية والاجتماعية من وجهها الصحيح ووضعها المستقيم، فلن يصدك عن النظر الصحيح حرارة الحزبية، ولم يعمك عن الحقيقة منافعك الشخصية، ونظرت إلى الممثلين في هذه الأمور كلها نظرة المؤرخ الصادق، تذكر ما لكل شيء وما عليه، وأعجبك فهمك لهذه المناظر، إذ ترى أحيانا منظر طامح إلى المجد وإلى الشهرة وإلى المنفعة الشخصية يلبس على المسرح ثياب الطهر والنقاء والغرام بالصالح العام، وترى سمين الرغبة في المال يلبس ثياب الزهد في المال، والمتاجر بالدين أو الوطنية منح على المسرح لسانا طلقا يجعل الناس يؤمنون أنه يعمل ما يعمل لخدمة الدين والوطنية. وأعجبتك نفسك إذ منحت في هدوئك ودراستك ومكتبتك ما مكنك من رؤية الممثلين قبل أن يضعوا في وجوههم الأبيض والأحمر والشعر المستعار والثوب المصطنع، واستطعت بعقلك وخيالك أن تدخل عليهم في حجرة الملابس والزينة قبل أن يتصنعوا، ولكن هل من الحق أن تكون قابلا لا فاعلا، و«متفرجا» لا ممثلا؟!
وهكذا أعذل نفسي وأؤنبها؛ لأنها رضيت أن تكون على هامش الحياة لا في صميمها، وكان خيرا أن تنزل إلى الموقعة، فإما قتلت وإما قتلت؛ وإما كان الصدر وإما كان القبر؟ ثم أرضى عنها وأحبذ عملها؛ لأنها عاهدت الله ألا تنطق إلا بصدق، ولا تنتصر إلا لحق، فإذا أمكنتها الفرص فعلت، وإلا تنحت، ونفسك لا تصلح إلا لما فعلت، وكل ميسر لما خلق له، وحصانك لا يصلح إلا للسير في الطريق التي قطعت. فإن شئت طريقا آخر فغير حصانك إن استطعت، ومثلك الأعلى إما أن تصنعه من مال وجاه وشهرة ومنصب، وإما أن تصنعه من الحب، حب الخير والفضيلة والجمال والحق؛ ومعبودك الذي تعبده إما الوثن وإما الله، ولا يمكن أن تجمع بينهما.
وهكذا كان العراك بيني وبين نفسي، ولا أكتمك أني عندما أخذت كرسيي ونزلت إلى الحديقة كانت النظرة الأولى، وعندما صعدت إلى السطح كانت النظرة الثانية.
أتستطيع أن تعلل لي ذلك، وأن تذكر لي أي النظرتين أحق وأصدق؟ ما أصعب معرفة خبايا النفس لأنها آخر وأعقد ما حاولنا أن نستكشفه!!
لقد تمنيت أن يصح جسمي وتبقى نفسي صافية صفاءها في مرضي، أحتقر توافه الدنيا ولا أعبأ بها. ولكن ها هو دمي يجري من جديد في جسمي، فيحمل في ثناياه الشهوات التافهة والآمال السخيفة، فما أحرى بالإعجاب أولئك الذين استطاعوا أن يحتفظوا بطهارة دمائهم على غزارتها وحيويتها. •••
آسف لأني حدثتك كثيرا عن نفسي، وقد أردته خطابا، فلما بدأته نسيت، فكان مقالا. فقد كنت في الصباح أكتب مقالا فسرت عدوى الصباح إلى المساء.
على كل حال أحسب صداقتنا تسمح لك أن تسر بجدي وهزلي، ووقاري ولغوي.
اكتب لي كثيرا؛ فكتبك تقع مني موقع الماء من ذي الغلة الصادي.
أهلك وأصدقاؤك بخير يسلمون عليك.
التفاح في الأدب العربي
لفت نظري وأنا أقرأ «كتاب الأغاني» الدور الهام الذي لعبه «التفاح» في المدينة العربية وخاصة في العراق، فتفننوا فيه كل تفنن، وأعجبوا به أيما إعجاب، وتغزلوا فيه غزلهم في المعشوق؛ ولم يجاره في ذلك أي ثمر وأي زهر، حتى لو قلنا: إن التفاح كان معبود الغزلين لم نبعد.
وحملهم على الهيام به أنه أحمر كالخدود الموردة، أو أصفر كوجه المتيم، أو أبيض كالطهارة والنقاء أو أحمر وأصفر معا كتحول حالات النفس في الحب، ثم له رائحة عطرية لطيفة، لا بالقوية ولا بالضعيفة، فكان لذلك كله مجال الخيال الخصب، والفن البديع.
وكان يزرع في بساتين العراق، وما كان أكثرها، حتى عد مؤرخ البساتين حول بغداد وحدها أيام انحطاطها خمسة وتسعين بستانا، غير البساتين الخاصة في الدور. وتنوعت البساتين، فهذا بستان الورد، وهذا بستان البنفسج، وهذا بستان التفاح، وهذا بستان النارنج. وتنوع كذلك عشق الناس للأزهار والأثمار؛ فمغرم بالورد، ومغرم بالبنفسج، ومغرم بالتفاح؛ فحكوا عن الرشيد - مثلا - أنه كان شديد الغرام بالورد، وخاصة الورد الأحمر، واتخذ بيتا في بستان الورد كان أثاثه جميعه بلون الورد، وإذا جلس فيه تلبس جواريه الثياب الموردة، وتضع على رؤوسها تيجان الورد، فيكون مجلسا من أغرب المجالس.
وأغرم الناس بهذا غرام الملوك، وكلهم أجمعوا على الغرام بالتفاح، واستجلبوه من الأماكن المختلفة، واستنبتوه في أرضهم، واشتهر في أيامهم منه أنواع - فمنه النوع القومسي،
1
وهو أحمر اللون؛ ومنه التفاح الداماني،
2
وهو نوع كبير حلو أحمر شديد الحمرة، وضربوا به المثل، فقالوا: «خدودها كالتفاح الداماني»؛ ومنه التفاح المسكي، وهو نوع مضلع كبير الحجم؛ ومنه
التفاح القريشي،
3
وهو حلو شديد الحلاوة، كبير هش، أحد وجهيه شديد الحمرة والآخر شديد الصفرة.
هذا التفاح الجميل أوحى إليهم بالخيال الجميل، والفن الجميل، فأول كل شيء أنهم اتخذوه عوضا عن المحبوب، يقوم مقامه إذا غاب، ويؤنس به إذا لم يكن:
لما نأى عن مجلسي وجهه
ودارت الكأس بمجراها
صيرته تفاحة بيننا
إذا ذكرناه شممناها
واها لها تفاحة أشبهت
خديه في بهجتها، واها
ثم أمعنوا في الخيال، فأسبغوا على التفاحة ما صنع مع الله الحلوليون؛ فالحبيب التفاحة والتفاحة الحبيب.
تفاحة تأكل تفاحة
يا ليتني كنت الذي أوكل •••
تفاحة من عند تفاحة
قريبة العهد بكفيها
أحبب بها تفاحة أشبهت
حمرتها حمرة خديها •••
ولما بدا التفاح أحمر مشرقا
دعوت بكأسي وهي ملأى من الشفق
وقلت لساقينا: أدرها فإنها
خدود عذارى قد جمعن على طبق •••
وتفاحة غضة
عقيقية الجوهر
تندت بماء الربيع
في روضها الأخضر
فملت سرورا بها
إلى القدح الأكبر
وأنت لنا حاضر
وإن كنت لم تحضر
ثم غلوا في هذا، فحرم بعضهم على نفسه أكل التفاح لأنه والحبيب اسمان لمسمى واحد:
لا آكل التفاح دهري ولو
جنته كفي من جنان الخلود
تالله لا أتركه عن قلى
لكنني أتركه للخدود •••
أكلت تفاحة فعاتبني
خل رآها كخد معشوقه
وقال: خد الحبيب تأكله؟
فقلت: لا، بل أمص من ريقه
ثم لعبوا بالحب عليه، فعضوا التفاحة، وتهادوها معضوضة؛ قال ابن المعتز:
تفاحة معضوضة
كانت رسول القبل
كأن فيها وجنة
تنقبت بالخجل
تناولت كفي بها
ناحية من أملي
لست أرجي غير ذا
يا ليت هذا دام لي •••
حياه من يهوى بتفاحة
قد عض أعلاها بأسنانه
جاء ولم يبخل بها بعدما
عذبه دهرا بهجرانه
ودعاهم الغرام بالتفاح ودلالاته أن جعلوه صحيفة غرامهم، يكتبون عليه عصارة قلوبهم، وتفننوا في ذلك فنونا بديعة؛ فمن ذلك أنهم كانوا يلبسون التفاحة - وهي خضراء على شجرها - شيئا من النسيج أو الورق، هو بيت من الشعر أو جملة رشيقة أو إشارات دالة، فإذا استوت ونضجت كان مكان النسيج أو الورق أصفر والباقي أحمر. أو يغلفون باقي جسم الشجرة ويتركون مكان الكتابة معرضا للشمس، فتكون الكتابة حمراء وباقي التفاحة أصفر، فتقرأ الأبيات أو الأشعار كأنها من فعل الطبيعة؛ ويتفنن البستانيون في ذلك، ويبتاعها منهم العشاق بالمال الكثير.
قال صاحب «فوات الوفيات» في ترجمة أبي الجعد المعروف بشعر الزنج، إنه كان ناطورا يحفظ البساتين، وقد كتب لمحبوبه هذه الأبيات بالبياض على تفاحة حمراء:
جودوا لمن تيمه
حبكم فهاما
وصار ضوء يومه
من حزنه ظلاما
ثم قال: «إن شعر الزنج هذا أهدى إلى محبوبه يوما تفاحا كثيرا أحمر كالشقائق، وأبيض كالفضة، وأصفر كالذهب، منه ما كتب عليه ببياض في حمرة، ومنه ما كتب عليه بحمرة في بياض - وعلى إحداها حمراء بأصفر.
نبت في الغصن مخلوقة
من قلب ذي شوق وأحزان
صفرني سقم الذي لونه
يخبر عن حالي وأشجاني
وعلى صفراء بأحمر:
تفاحة صيغت كذا بدعة
صفراء في لون المحبينا
زينها ذو كمد مدنف
بدمعه إذ ظل محزونا
فامنن فقد جئت له شاكيا
وقيت من بلواه، آمينا
وكان من هيامهم بالتفاح وغيابه عنهم أحيانا أن اتخذوا له تمثالا يتهادى به الأغنياء وأهل الترف، فصاغوا من العنبر على مثال التفاح، وكتبوا عليه ما شاءوا بخيوط الذهب؛ قال في «الأغاني»: قال أحمد بن صدقة: «كنت عند المأمون، وقد كان غضب على حظية له، فلما طابت نفسه بالغناء، وجهت إليه بتفاحة عنبر مكتوب عليها بالذهب: «يا سيدي: أسلوت؟»
وكتبوا على تفاحة عنبر بالذهب:
ليس شيء يتهادى
مثل تفاح مكتب
يا منى قلبي ما تر
ثى لذي عشق معذب؟
وقد أكثروا من التهادي بالتفاح، وما أكثر الأخبار التي وردت في ذلك، وما كانوا يهدون زنبيلا ولا شيئا كثيرا، إنما يهدون تفاحة واحدة صنعت بها البدع؛ إذ كان من قوانين الظرف عندهم الاعتداد بالمعنى لا بالمبنى، وبظرف الهدية وقلتها لا بكميتها وكثرتها. حدث صاحب الأغاني عن «عريب» المغنية أنها قالت لصاحب لها: قد بلغني أن عندك دعوة اليوم؛ فابعث إلي نصيبي منها، فبعث إليها طعاما كثيرا، فلما وصل إليها أنهبته الناس وبعثت إليه رقعة تقول فيها: يا أعجمي يا غبي أظننتني من الأتراك ووحش الجند، فبعثت إلي بخبز ولحم وحلواء؟! الله المستعان عليك. ثم علمته ظرف التهادي بإهدائه شيئا قليلا جميلا قيمته في فنه لا في كثرته.
وقد قام التفاح هذا المقام لكثرة ما يستطيع عند الفنان أن يجيد فيه.
ثم كان من أجمل مظاهر الجمال عند الخلفاء والأمراء والسراة «الفوارات» أو النافورات في البيوت وفي البساتين العامة، قد صنعت من الخزف الجميل المنقوش، أو من الرخام، وقد تصنع أنابيبها من الذهب والفضة؛ وكان من أساليب تفننهم أن ينثروا الورد فوق عيون الفوارات، فيدفعه الماء بقوة ويصعده إلى علو كبير ثم ينزل في البركة، أو ينثر على الناس، وقد اشتهر بهذا الوزير المهلبي.
فكان من إعجابهم بالتفاح أن يهندسوا الفوارة هندسة خاصة، ثم يضعوا التفاح الأحمر فوق عين الفوارة، فيدفعه الماء إلى أعلى، وتتدافع قوة الماء النابع من الفوارة والهواء الذي يدفعه الماء إلى أعلى وثقل التفاحة وميلها إلى السقوط، فتبقى التفاحة واقفة تدور في مكانها، فيكون من ذلك منظر عجب، وفي ذلك يقول الشاعر:
وفوارة سائل ماؤها
بتفاحة مثل خد العشيق
كمنفخة من رقيق الزجاج
تدار بها كرة من عقيق
ولكثرة ولوعهم بالتفاح ألف الأدباء فيه التآليف المفردة، فألف الجاحظ «كتاب التفاح» وألف بهذا العنوان غلام ثعلب، والوشاء، وإن كنت لم أعثر على شيء من هذه الكتب.
هذا قليل من كثير مما ورد في الأدب العربي عن التفاح.
وقد حرمتنا الحرب أن ننعم بالتفاح الجميل اللطيف، فلا أقل من أن ننعم بذكراه.
في الحياة الروحية1
1
في الإنسان - فيما أعتقد - قوة أو ملكة غير القوة العاقلة، يستطيع أن يدرك بها نوعا من الحقائق في هذا الكون من غير أن يستعمل الطرق المألوفة في المنطق، من مقدمات يستنتج منها نتائج، وهذه القوة موضع الوحي والإلهام والكشف ونحو ذلك من أسماء، وهي لا تعتمد على حساب للمقدمات وتقدير للنتائج، وإنما هي ومضة كومضة البرق تنكشف بها بعض الحقائق.
نجدها حتى في الحيوان كما قال الله تعالى:
وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون . ونجدها في الأطفال، يدركون بها ما لا يدركه الكبار بعقلهم وتجاربهم؛ ونجدها في المرأة أكثر منها في الرجل، فلها حاسة غريبة هي نوع من الإلهام تصل بها إلى الأشياء التي تهمها، من غير أن يكون لها مقدمات معقولة.
وقوة الإلهام تختلف في الناس قوة وضعفا كاختلاف القوة العاقلة، فكما فيهم الذكي والغبي، والبليد والأبله، والرياضي ومن لا يفقه شيئا في الرياضة، كذلك فيهم الملهم وغير الملهم، والمستنير والمظلم، كما في الحديث: «إن في أمتي ملهمين، وإن منهم لعمر». وهذه القوة الإلهامية لا تتصل بمقدار القوة العاقلة، ولا بمقدار الذكاء، ولا بمقدار ثقافة الشخص وكثرة علمه؛ فلعل كثيرا منا شاهد هذا الفلاح غير المتعلم الذي وفد على القاهرة منذ سنين، وهو لم يتعلم قراءة ولا كتابة ولا حسابا، وكان يعطى المسألة مكونة من ستة أرقام أو سبعة ليضربها في أرقام ستة وسبعة، فيجيب على البديهة بحاصل الضرب من غير استخدام أي وسيلة من وسائل الضرب المعروفة، حتى لقد اقترح أن يعين في مصلحة الإحصاء لضبط العمليات الرياضية، كأنه آلة من الآلات المخترعة لعمليات الجمع والطرح والضرب والقسمة.
وفى حياتنا العملية نرى أمثلة كثيرة من هذا القبيل، أناسا يمتازون بإلهامهم كما يمتاز آخرون بعقولهم وتجاربهم؛ هناك التاجر الذي يعرف السوق بإلهامه فيحدس في مستقبل السوق حدسا صادقا يستدعي العجب، وقد لا يستطيع أن يجاريه في ذلك الذكي الدارس للاقتصاد وحركة الأسواق وجغرافية العالم، والمطلع على أحدث النظريات في الشؤون التجارية؛ ومثل هذا في محيط الزراع والصناع ورجال الحرب وغيرهم.
ويتجلى هذا الإلهام بوضوح في الفن؛ فالجمال كله مغلف بالغموض، ومهما قيل في نظريات الجمال ووضع قواعد له تخضع للعقل والتجارب، فإن كل ما قيل فيه لم يكشف غموضه، وظل يعتمد في أكثر شؤونه على الإلهام والذوق لا على العقل والتجارب. إنا لنرى كل شيء ينتج مثله، فالمادة تنتج مادة، والرأي ينتج رأيا، والحياة تنتج حياة، ولكن من أين ينتج الجمال؟ إنه ينتج من أشياء غريبة عنه كالصوت واللون، بل قد ينتج من القبح نفسه! وقد يكون كل جزء في الإنسان وحده جميلا، فإذا ركب لم يكن جميلا ككل، والعكس، فكيف كان هذا؟ لا ندري! وقوة الجمال نفسها كيف تفعل فينا هذه الأفاعيل، وكيف تلعب بالعالم هذا اللعب؟ لا ندري! وناحية أخرى وهي الفنان نفسه، كيف كان هذا الفنان فنانا؟ إن الدلائل كلها تدل على أن هذا الإنسان لا يصلح لشيء، فإذا هو فنان مبدع! لعل كثيرين شاهدوا شوقي بك وجالسوه، ورأوا أنه لا يحسن حديثا ولا يحسن تفكيرا، وعيناه كأنهما ركبتا على زئبق، ومهما أطلت الجلوس معه فلا ترى فيه أثرا من آثار العبقرية؛ وبعد ذلك، فهو شاعر عظيم، بل أعظم شاعر في الشرق في العصور الحديثة. وقد وصف بعضهم شكسبير فقال: «ما أعظم شاعريته، وما ألطف طفولته وسذاجته!» وكان جان جاك روسو من أخيب خلق الله نشأة، لم يصلح لدراسة علمية ولا فنية ، ولم يصلح لخلق؛ حياته - كما تدل عليه اعترافاته - سلسلة أخطاء وسلسلة سقطات، وسلسلة غباوات، ناقص العقل، ضعيف الإرادة، يستجيب للدوافع الوقتية. لم ينجح في الدراسة المدرسية، ولا في الدراسة الموسيقية، ومع هذا كله فقد كان من أنبغ ما أنتجه العالم. استطاع بنتاجه الفني أن يغير التفكير في فرنسا، وقد يكون غير التفكير في العالم أيضا، ولون المدنية الحديثة لونا جديدا. ما ميزة كل هؤلاء الفنانين جميعا إذا كانت حالتهم كما نرى؟ لا شيء غير الإلهام، بدليل أنهم لم ينبغوا من ناحية قوة عقلهم وتجاربهم، إنما كان نبوغهم من حيث مقدرتهم الإلهامية.
ثم إن الفن نفسه كيف يكون؟ إذا سألت الشاعر كيف يقول شعره وكيف تأتيه المعاني والأخيلة، وسألت الروائي كيف تأتيه فكرة الرواية وأحداثها وتأليفها، والرسام كيف يتصور ويتخيل، وكيف يؤلف بين الألوان، أجاب كل هؤلاء أنهم لا يدرون كيف يجيبون، وأنهم لا يعملون في ذلك عقلا، وإنما ينتظرون إلهاما! وقد يلهم الشاعر مطلع القصيدة من حيث لا يحتسب، ثم يعمل فكره وخياله أياما وليالي ليضم إلى المطلع قرينه فلا يفلح؛ لأن الوحي انقطع عنه، ولا يزال كذلك حتى يأتيه الوحي مرة أخرى فيتدفق، ولا يدري كيف وفق وكيف عجز! ومهما عللت ذلك بالصحة أو المرض، أو السرور أو الحزن، أو اعتدال المزاج وفساده، أو نحو ذلك، لم تجد هذا التعليل صحيحا مطردا.
كذلك كثيرا ما نرى هذه القوة - قوة الإلهام - في النوابغ، والنابغة الذي أعنيه هو القادر على التعبير عن زمنه وقومه أحسن تعبير، الدافع لأمته أو لعالمه إلى الأمام ليجعله أقرب إلى المثل الأعلى في تفكيره وعاداته. ولو نظرنا إلى حياة كثير من النابغين من هذا القبيل لوجدناهم قد امتلكوا هذه القوة الإلهامية وكانت هي علة نجاحهم، أمعنوا في الإيمان بعقيدتهم إمعانا قد لا يرتضيه العقل الفلسفي، وتصرفوا في حمل قومهم على عقيدتهم تصرفا قد لا يقره الأسلوب المنطقي، وتأججت عواطفهم وساروا في حياتهم كما توحيه إليهم نفوسهم أكثر مما توحيه عقولهم؛ بل كثير من هؤلاء النابغين كانوا شذاذا في ناحيتهم العقلية، مما جعل بعض الباحثين في النبوغ يقرن بين النبوغ والشذوذ بل والجنون.
بل كثير من المخترعين كان اختراعهم واكتشافهم إلهاما أكثر منه بحثا علميا، إنما كان البحث العلمي خدمة وتحقيقا وتأييدا للومضة الأولى الإلهامية. كم من الناس رأوا التفاح والثمار بأجمعها تسقط من أشجارها، ولكن إلهاما ألهمه «نيوتن» قرن هذا السقوط بفكرة الجاذبية، ثم استخدم العلم والعقل لاكتشاف قوانينها. كم من الناس رأوا مصابيح المعابد معلقة في حبالها، يلعب بها الهواء فيحركها حركة البندول، ولكن جاليليو هو الذي ألهم هذا الإلهام، فاكتشف به قانون الذبذبة، وأتى العقل والعلم بعد ذلك يكمل هذه القوانين ويستخدمها في الحركات الميكانيكية. وهكذا كان الإلهام أولا، والعقل ثانيا.
ثم الإلهام في المجال الديني، فهناك رجال من جميع الأديان في مختلف الأزمنة ذكروا أنهم استطاعوا بالإلهام أن يتعرفوا الحقيقة عن طريق الكشف لا عن طريق العلم، وعن طريق الذوق لا عن طريق العقل، وأن ما عرفوه من هذا الطريق كان أقوى وأبين، حتى كأنهم ينظرون بأعينهم، ويسمعون بأذنهم، ومن هؤلاء من لا يرتقي الشك إلى أقوالهم ككبار الصوفية، ومنهم الغزالي، وكأفلوطين الفيلسوف في القرن الثالث الميلادي الذي قال: إنه رأى الحق، ووصل إلى الله وتكشفت له الحقيقة في حياته على هذا الوجه أربع مرات تكشفا يفوق الوصف، حكى ذلك عنه تلميذه فرفوريوس، وكان يعلم حقيقة ما يقول؛ فقد ذكر أنه هو نفسه في حياته البالغة ثمانية وستين عاما، قد تجلى الله له على هذا الوجه مرة واحدة. ويقول هؤلاء وأمثالهم: إن العالم يدرك بالحواس وبالعقل وبالروح، والإدراك بالروح أتم وأوفى وأصدق، فحقيقتنا روحنا، وحقيقة العالم روحه، ولا شيء أصدق من إدراك الروح بالروح. هؤلاء يرون أن الإلهام والكشف يظهر من الحقيقة ما لا يظهره العقل، وأنهم لذلك يسمون إدراك الإلهام معرفة، وإدراك العقل علما، وغاية الأول الحكمة، وغاية الثاني الفلسفة، ووسيلة الأول الحب والرياضة، ووسيلة الثاني التجارب والمنطق؛ وإدراك الأول ومضة، وإدراك الثاني بالتدريج؛ ومركز الأول القلب، ومركز الثاني الرأس.
وقد بدأ علم النفس يدرس هذه الظواهر النفسية لأمثال هؤلاء بعد أن كان ينكرها جملة، وحيره ما رأى من صدق بعض هذه الظواهر، ووصول بعض المتدينين إلى حقائق عجيبة لم يصلوا إليها من طريق العلم لأميتهم، أو عدم تعلمهم، أو نحو ذلك. •••
مظهر كمال العقل الفيلسوف، أمثال أرسطو ومن سار سيره، ومظهر كمال الإلهام «النبي»؛ تريد الفلسفة أن تعرف علة العالم كله، والمبدأ الأساسي الذي أسس عليه، والأصل الذي يجمعه من الذرة الأولى إلى أرقى كائن، ومن الخلية الأولى إلى الملك بل إلى الله، عن طريق التفكير المنطقي، من مقدمات بديهية إلى نتائج، ثم جعل النتائج مقدمات للاستنتاج منها مقدمات أعلى، وهكذ، فغاية الفلسفة بجميع مجهودها الوصول إلى العلة الأولى، فإن كان كل علم فرعا من شجرة فالفلسفة تريد الجذر الذي أسس هذه الفروع، تريد البذرة الأولى التي تكونت منها شجرة العالم. وهذا الغرض الذي ترمي إليه الفلسفة هو بعينه الذي يرمي إليه الدين، فهو يريد أن يعرف الحقيقة الأولى والأخيرة لهذا العالم، يريد أن يعرف الله الذي هو الأول والآخر، ويوثق الصلة بينه وبينه ولكن لا عن طريق مقدمات ونتائج، بل عن طريق حب وشوق من الروح الصغرى إلى الروح الكبرى. وفي الإنسان الطبيعتان: الطبيعة العاقلة المفكرة التي ترضيها الفلسفة، وطبيعة الشعور بالمحبة الشائقة التي يرضيها الدين. في الإنسان العقل الباحث، وفيه القلب العاشق لقوة يعتمد عليها في بلوغه كماله، في معونته على تخطي العقبات المحيطة به. غاية الفلسفة والدين واحدة، ولكن الطريقين مختلفان، ولن يسافر الفيلسوف والمتدين في طريق واحد، ولن يستعملا وسائل واحدة، ذلك يركب عقله، وهذا يركب قلبه، والأول ينمي ذهنه، والثاني ينمي شعوره وإن لم يمهل عقله؛ وإذ كان العقل الكبير شكاكا فهو قلما يؤمن ويجزم، وإذ كان القلب الكبير عاشقا هائما، فهو مؤمن بمن يحب، لا يقبل فيه جدلا ولا شكا؛ ولذلك كان رضا المتدين وطمأنينته أكثر وأقوى من رضا الفيلسوف! ولما كانت وسائل الفلسفة عسيرة تتطلب علما، وتتطلب مصطلحات، وتتطلب تعليما، لم تناسب إلا الخاصة ، ولما كان الشعور لا يتطلب كل هذا، وقد لا يتوقف على ثقافة خاصة، كان الدين مناسبا للخاصة والعامة على السواء، فلست ترى الفيلسوف الراقي إلا في الخاصة، ولكنك ترى المتدين الراقي في الخاصة والعامة. والقلب يعتقد ويجزم، والعقل قل أن يعتقد ويجزم، القلب يطمئن، والعقل يحار، فإذا جزم فإنما يكون جزمه بمدد من القلب. لقد صرخ الفخر الرازي وغيره نادمين على حياة الفلسفة إذ أسلمت إلى الحيرة، وصرح «هيوم» بأنه لا يستطيع بحال من الأحوال أن يجزم بشيء في حقيقة الله وطبيعته. ولكنك لا تجد عميقا في الدين يشكو الحيرة أو يندم على الحب. رقي العقل في تجرده، ورقي القلب في مده خيوطا تربط بينه وبين من يحب؛ ولذلك كان ذو القلب أكثر شعورا بشخصيته؛ ومن ثم كان أكثر شعورا بطمأنينته، فهو إذا تدين شعر بأن روحا عليا تتجاوب مع روح صغرى.
أساس الدين أن هناك مملكة روحية وراء هذه المملكة المادية، وهي ليست مملكة خيالية ولا شعرية، ولكنها مملكة حقيقية - في كل شيء في الوجود - من جمال ونبات وحيوان وإنسان - نفحة من الروحانية تستمدها من الروح الأعلى، من الله!:
وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم . ولكل شيء رسالته الروحية شعر بها أو لم يشعر. وتختلف هذه الأشياء في روحانيتها، كما تختلف القيمة لأفراد كل مملكة وأشياء كل مجموعة. إنها كنغمات البيانو تختلف ضعفا وقوة وغلظا ورقة وعلوا وانخفاضا؛ وطبيعة كل شيء في الوجود اشتمالها على درجات، فجسم الإنسان والأسرة والجيش، ومجموعة الأنهار والجبال والتلال والأشجار والأزهار؛ والمجموعة الشمسية وغيرها، كل منها درجات يعلو بعضها بعضا؛ وهي حقيقة التفت إليها «دارون» فأوحت إليه بنظرية النشوء والارتقاء. وكل مجموعة من هذه لا بد أن يكون لها رئيس أعلى يعلو الأجزاء المختلفة في القيمة وفي الوظيفة، وهو الذي يمثل نوعه. كذلك في المملكة الروحانية هذا التفاوت في القيمة، وهذه الدرجات المختلفة، وهذا التدرج صعدا إلى الله.
أفراد هذه المملكة الروحانية يختلفون شعورا وحبا وهياما واستطاعة لتلقي أشعة الروح الأعلى، فاختلفت بذلك منزلتهم في تلقي الوحي والإلهام - وقد أعجبت الديانات بمثال النور؛ ففي المجموعة الشمسية شمس تلقي الأشعة وقمر يتلقى منها ضوءها وينشره على الأرض، وحولها كواكب ونجوم تتلقى عنها بمقادير تختلف حسب وضعها واستعدادها، فكان هذا مثالا لطيفا للتعبير عن المعنى الروحي في المملكة الروحانية. وكانت آية النور من أبدع ما ورد في القرآن:
الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم .
هذا الروح الأعلى رأس مملكة تجمع فيه العلم كل العلم، والقدرة كل القدرة، والحكمة كل الحكمة، يفيض منها على من يشاء بما يشاء، ومنزلة الأنبياء منه منزلة القمر من الشمس يتلقى ويشع، يستقبل ويذيع؛ وهناك أناس أقل من الأنبياء منزلة يتلقون دون تلقيهم، ويذيعون دون إذاعتهم - كل هؤلاء شراح القوانين الروحية بلسان الإنسانية، هم الإجابة لصرخة الإنسانية المعذبة والإنسانية الضالة، وهم البلسم للإنسانية المجروحة، وهم ناشرو النور يقبس منهم كل حسب استعداده، يخاطبون كلا بلغته وبمقدار تقبله، ويؤثرون بقولهم كما يؤثرون بضوئهم الذي ينشرونه على الحياة؛ ولذلك آمن كثير من أتباعهم بالنظرة لا بالحجة، وقال قائلهم: «ما هذا وجه كذاب». هم يضيئون القلب أكثر مما يقنعون العقل، ويرفعون النفس إلى السماء إن التصق الجسم والشهوات والنزعات بالأرض؛ هم يصلحون مجتمعهم حسبما تتجلى في أهل زمانهم عيوبهم، ثم يضعون البذور في تعاليمهم يسترشد بها المصلحون فيما بعد لإدراك عيوب زمانهم.
والروح الأعلى عند اختيار من هم أهل لوحيه وإلهامه، لا يعبأ بما يعبأ به أهل المملكة المادية من جاه أو مال أو نسب أو علم أو ثقافة؛ إذ لا يهمه في الاختيار إلا القلب، وهو أعلم حيث يجعل رسالته.
2
كل من وهب نفحة من الروحانية المستعدة لتلقي الإلهام أظهرها حسب استعداده وميوله، كالكهرباء تكون مرة حرارة، ومرة تبريدا، ومرة ضوءا؛ فالموسيقي ينعكس إلهامه موسيقى، والشاعر شعرا، والفنان فنا، والنبي نبوة، والنبي أرقى إلهاما؛ لأن ما يتلقى من الضوء أقوى، ونوعه أكمل، ونوره الذي يعكس أعم نفعا وأهدى للحقيقة في صميمها. في النبي شاعرية وليس بشاعر، وموسيقية وليس بموسيقي، وفلسفة وليس بفيلسوف، وإنما هو فوق ذلك كله؛ لقرب اتصاله بالروح الأعلى وقوة ضوئه الذي يعكسه فينير مناحي الحياة المختلفة - نور كشاف يضيء قلوب من وقعت عليه أشعته - أيا ما كان شكل الوحي الذي حكي في الكتب المقدسة، من صوت يسمع، أو ملك يرى، أو نحو ذلك، فإنما هو القلب، يرهف حتى تكون له عين تبصر وأذن تسمع، وحتى يتجلى بهما الحق أقوى مما يتجلى بالأذن الحسية والعين في وجوهنا.
وما أصعب رسالة النبي! إن الموسيقي والشاعر والأديب والفنان يدرك بالإلهام ما تعجز عن أدائه أدوات الموسيقى والقلم واللسان والألوان؛ ذلك لأن التعبير عن المعقولات أهون من التعبير عن الإلهام؛ ولذلك احتاج الملهم أن يخترع ما يحاول به أن يكمل نقصه كالاستعارات والمجازات والتشبيهات والكنايات عند الشاعر والأديب، والإشارات عند الخطيب، ونحو ذلك عند سائر الفنانين. وهم - مع كل هذا - يقرون بالعجز عن أداء ما يشعرون، ويقرون بالفرق الكبير بين ما يشعرون وما يعرضون - وذلك في النبوة أعقد وأعسر. إنهم يريدون أن يعرضوا العالم في خريطة مصغرة، أو يقدموا المحيط في زجاجة، أو يخرجوا السموات والأرض من جيوبهم؛ ولذلك ما كان أعمق معانيهم وأبعد إشارتهم! وما أتفه من وقف عند حدود ألفاظهم، ولم يتخط ذلك إلى فهم رموزهم!
وصعوبة أخرى، أن الأنبياء بحكم رسالتهم، لا بد أن يسيروا على الصراط بين الروح والمادة؛ لا بد أن يتصلوا بالروح الأعلى ليتلقوا، ولا بد أن يتصلوا بالناس ليذيعوا، لا بد أن يكون رأسهم في السماء وأرجلهم في الأرض.
وصعوبة ثالثة، أنهم يواجهون مطالب القلوب المختلفة صغرا وكبرا، وضيقا وسعة، وظلاما ونورا. ولا بد أن يمدوا كلا بما يحتاجه وبما يستطيعه، ويوفقوا بين المطالب المختلفة والاستعدادات المتعارضة؛ ولذلك كانوا دائما في جهاد مع أنفسهم، وجهاد مع عدوهم، وجهاد مع صديقهم، وجهاد مع العالم. وصدقوا إذ قالوا: «إن الحياة جهاد». ووضع الناس كلهم أنفسهم موضع القضاة لهم أو عليهم، وما أقساها حكومة!
للنبي رسالة ظاهرة، وهي إقامة الشعائر والتشريع لإصلاح المجتمع؛ ورسالة باطنة، وهي: نصب سلم تتدرج فيه النفوس لتعرف الحق، وتعرف الحقيقة، وتعرف الله من طريق القلب. قد تختلف الأديان في الشعائر والشرائع تبعا لاختلاف البيئات الطبيعية والاجتماعية ورقي الإنسانية، أما في الرسالة الباطنة فلا تختلف إلا بمقدار الرقي في السلم؛ فالحق غرض كل الأديان، ليس يختلف الأنبياء في رسالتهم كما يختلف الفلاسفة في تعاليمهم، فقد يقر فيلسوف أمرا وينكره آخر، وقد ينقض اللاحق ما بنى السابق، أما الأنبياء فيقرون دائما، ويبنون دائما، ذلك لأن العقل فيما وراء المادة قائد فقير، قائد في الظلام، والقلب في ذلك قائد بصير، قائد في وضح النهار. إذا تكلم مائة إنسان بقلوبهم اتحدوا، وإذا تكلم ثلاثة بعقولهم اختلفوا. وما يصد الناس عن رؤية الحق إلا إقفال قلوبهم عن رؤية النور، وتعلقهم بصغائر الأمور، وبالجزئيات دون الكليات. إن الإنسان الفرد قد يحب، وقد يكره، وقد يعجب به، وقد يشمأز منه، ولكن الإنسانية - ككل - تحب فقط وهي موضع الإعجاب.
نتتبع سلسلة الأنبياء فنرى بينهم قدرا مشتركا من التعاليم والمبادئ؛ فهم يؤمنون أقوى إيمان بالله وكماله وقدرته، وبالإنسان وشرفه ومسئوليته، وضلاله ووجوب هدايته، وهم يعلنون فى جزم أنهم لم يتلقوا تعاليمهم من تقاليد قومهم، ولا من علمهم ومنطقهم ولا من أي شيء خارج عنهم، ولكن من الله نفسه، يحدث نفوسهم، ومن نوره يسطع على قلوبهم، وأنهم لا يشكون في شيء منه، كما يشك الفيلسوف والعالم، ولذلك يتحملون أكبر الآلام من قومهم وملوكهم، ولا ينحرفون قيد شعرة عن عقيدتهم؛ لأنهم يرون الحق بقلوبهم أصدق مما يرون الأشياء بأعينهم، وأنهم يبلغون رسالة ربهم كما وعوها - هم بذلك يقررون أن علمهم بحقيقة العالم وبالخير والشر آت من أعلى إلى قلوبهم، على حين أن علم العلماء والفلاسفة آت من أسفل إلى عقولهم.
أنكر قوم دعوة النبوة على هذا النحو، وأرادوا ألا يسلموا بشيء إلا إذا كان عن طريق الجبر والهندسة والرياضة! ولكن أمن الحق أن كل علمنا ومعرفتنا عن هذا الطريق؟ إن الإنسان قد يعلم الحقيقة، وقد يشعر بالحقيقة. إذا علم العقل الجبر والهندسة، فالقلب يشعر بالحب، والحب حقيقة كحقيقة الجبر، والرجاء والأمل والخوف والأمن حقائق كحقائق الهندسة، والإنسان عقل وقلب، ولكل غذاؤه، ومكلف الإنسان أن يقتصر على نمط الفلسفة والمنطق والعلم مهدر لنصف شخصيته؛ والمؤمن بمواهب الإنسان المتعددة مؤمن بالدين.
ولكل موهبة طريق تربيتها؛ فالعقل يربى بالتجربة وبالمنطق وبالمران على ربط الأسباب بالمسببات، وعلى ربط النتائج بالمقدمات؛ والشعور يربى بالرياضة الروحية وتطهير النفس، ومن هذا القبيل شعائر الدين. •••
لقد سلك رجال الدين في تأييده وتقويته مسلكين: قوم حددوا عقولهم، وقوم أرهفوا مشاعرهم، فأما الأولون فعلماء التوحيد أو علماء الكلام، وأما الآخرون فصادقو الصوفية - من جميع الأديان - فالأولون جعلوا الدين منطقا وفلسفة، وخلفوا لنا تراثا ضخما من المؤلفات تبرهن برهانا عقليا منطقيا على وجود الله وصفاته وما إلى ذلك. ولكني أعتقد أنهم لم ينجحوا في ذلك نجاح العلماء في البراهين العقلية على قضايا العلم. إن قانون الكيمياء أو الطبيعة أو الرياضة إذا قال به أحد العلماء وبرهن عليه آمن به كل الناس بلا فارق بين أمة وأمة، وأهل دين وأهل دين، وشرقي وغربي. أما علم التوحيد أو علم الكلام، فبرهان لمن يعتقد لا لمن لا يعتقد، برهان لصاحب الدين لا لمخالفه؛ ولهذا لم نر في التاريخ أن علم الكلام كان سببا في إيمان من لم يؤمن أو إسلام من لم يسلم إلا نادرا، إنما كان سببا في إيمان الكثير وإسلام الجم الغفير الدعوة من طريق القلب لا من طريق علم المنطق.
قرأت مرة أن صديقين مثقفين خرجا يتروضان، وكانا يتحدثان في الدين، فمرا على حديقة بديعة مملوءة بالأزهار الجميلة؛ ورد أحمر يانع، وورد أصفر فاقع، وورد أبيض صاف، وبراعم لم تتفتح وهي آخذة طريقها إلى نضجها وتفتحها، والجو مملوء بعبيق الأزهار، والريح تلعب بالأغصان، وجمال كل شيء حولهما يأخذ باللب، فصرخ أحدهما: هذا أقوى دليل على الله؛ وهنا موضع سجود له لجلاله وجمال عظمته! فقال صاحبه في برود العلماء: وأي برهان علمي على ذلك؟! ما البرهان المنطقي على أن الجمال دليل على الله؟ إن كان هنا جمال فثم قبح، وإن كانت الأزهار هنا تتفتح فهي هناك تذبل!
ثم عادا، هذا بإيمانه وهذا بإلحاده.
وكان نابليون - في حملته على مصر - في سفينة حوله علماء ملحدون، وفى ليلة بديعة لمعت النجوم في السماء، وتلألأت في رونقها وبهائها وجمالها؛ فقال نابليون: انظروا أيها الرفاق: ما أبدع النجوم وما أجملها! فمن أبدعها؟ قال ملحد: نحن لا نسأل هذا السؤال، وما يدور في ذهنك من هذه الأسئلة لا يدور في أذهاننا، إنما نحن نسأل: كيف تطور هذا العالم، وكيف ارتقى، وما الظروف التي مر بها، حتى وصل إلى ما نرى. «إن برهانك - أيها القائد - دليل جميل لك».
إن دعوة الإيمان دعوة لما في النفس؛ فإذا استعدت فكل شيء برهان، وإذا لم تستعد فلا برهان. في النفس لا في العقل غريزة الإيمان، والدعوة الحقة بإيقاظها، لا بمقدمة صغرى ولا مقدمة كبرى ونتيجة مؤلفة من موضوع ومحمول؟ ليس العقل هو دليلنا الوحيد في الحياة، بل هناك أدلاء أخر، منها النفس، ومنها العواطف، ومنها الإلهام.
أما الطريق الآخر الذي سلكه صادقو الصوفية، فهو أن يربوا شعورهم، ويقووا نفوسهم لا عقلهم، ويصفوا روحهم من التعلق بالمادة وشؤونها، حتى يتصلوا في نهاية مراحلهم بالروح الأعلى، بربهم، وهم يقررون أنهم بهذه الرياضة يصلون إلى نوع من انكشاف الحقائق أوضح وأجلى وأنور من الانكشاف الحسي؛ وأنهم يطلعون على عالم روحي لا يخضع لما تخضع له المادة من حدود أو زمان أو مكان، ولكنهم - مع الأسف - عجزوا عن وصف هذا العالم الروحي وصفا بينا لنا، أو عجزنا نحن عن فهم وصفهم، ولهذا ساد كتبهم وأقوالهم الغموض التام في كل دين.
والسبب في هذا أن طريقة التفكير العقلي عامة عند الناس، ووسائل إيصال المعلومات العقلية من ذهن إلى ذهن متوفرة، وليس كذلك الشأن في المشاعر؛ فمن السهل أن تقيم البرهان لآخر على قوانين الضوء وقوانين الجاذبية، وقوانين الرياضة والطبيعة والكيمياء، وتقيم البرهان على النظريات الهندسية، وليس كذلك الشأن فى المشاعر. إذا كان عندك برهان على أن هذا المثلث يساوي هذا المثلث أمكنك أن تنقله إلى من لم يعرفه، ولكن إذا أكلت الكمثرى وشعرت بنوع حلاوتها ورائحتها وطعمها، لا يمكنك بحال أن تصفها لمن لم يذقها إلا على سبيل التقريب والتشبيه، فإذا كان قد أكل نوعا قريبا من الكمثرى أمكن التشبيه وقرب فهمه وإن لم يكن دقيقا، وإلا فما أبعد الفهم!
وكذلك الشأن فيما عندي من حب وبغض وإعجاب ونحو ذلك، كلها مشاعر من الصعب نقلها. فالمشاعر والعواطف «تذكرة شخصية»، على حين أن العقل «تذكرة عامة» يصح أن يحملها كل شخص.
بذلك يمكن التفرقة بين معرفة تنقل ومعرفة لا تنقل. واللغة قد تكون أداة طيعة للمحسوسات والمعقولات، وهي أداة غير صالحة للمشاعر والعواطف - والمعرفة عن طريق الإلهام - أو بعبارة أخرى عن طريق الرياضة النفسية - آخذة بشبه من الطرفين؛ طرف العقل وطرف المشاعر، وهي إلى المشاعر أقرب، ولشبهها بالعقل تنكشف انكشاف المعقول، ولشبهها بالمشاعر يصعب نقلها.
وإذا كان شعور الصوفي شعورا شخصيا صعب التعبير عنه وأحيط بالغموض ولم تسعفه اللغة، وكان من يفهمه ويشاركه هو الذي جرب تجاربه، وسلك طريقه، وقرب منه أو فاقه في إلهامه. ويشبه ذلك ما قاله أرسطو من أن الناشئ يمكن أن يكون عالما بالرياضة، ولكن لا يمكن أن يكون سياسيا؛ لأنه يمكن أن يتعلم الرياضة ويحفظ قوانينها، ويفهم براهينها، ولكنه لا يمكنه أن يكون سياسيا؛ لأن السياسة قوامها التجارب في الحياة، وهو لم يجربها حتى ينغمس في أحداثها، ويشعر بتياراتها، ويرى نتائجها.
ويبلغ الأمر بالمتصوف في رياضته، وصفاء نفسه، أن يصل إلى نتيجة تختلف كل الاختلاف عن التفكير العقلي، ذلك أننا في التفكير العقلي نشعر بأن الذي يدرك غير المدرك، والذي يعلم غير المعلوم. فإذا فكرت في حل مسألة هندسية، فالمسألة الهندسية غيري وغير عقلي المفكر، ولكن الأمر في نهاية التصوف ليس كذلك؛ إذ تتكسر الحدود بين العالم والمعلوم، والعارف والمعروف؛ فإذا وصلت النفس إلى العلم بالله أمحت شخصية العارف، وصارت هي والمعروف شيئا واحدا، ويتحقق هذا عندهم في هذه الحياة، كما يتحقق بعد مفارقة الروح للجسم. وأقرب شبه بهذا ما يحدث من هيام المحب بالمحبوب، حتى يكونا روحا واحدا، ويصبح التعبير ب «أنا» و«هو» تعبيرا لفظيا لا تعبيرا نفسيا. أما النفس ومحبوبها فشيء واحد، وتفنى النفس الزائفة في النفس الحقة. ومن أجل هذا قالوا: «من عرف نفسه فقد عرف ربه». وحول هذا تكون الأدب الصوفي كله.
3
قرأت مرة أنه منذ خمسين عاما درس عالم طبيعي دراسة دقيقة جدا ما يحتاج إليه الفأر الصغير لنموه من عناصر اللبن المختلفة، ثم جهز لبنا صناعيا يحتوي كل ما أثبته العلم مما يحتاج إليه الفأر من بروتين ودهن وسكر وملح وماء بمقادير كالتي في اللبن الطبيعي تماما، وقد أعده في أحسن «معمل» وأتقنه. وإذا امتحن اللبن الصناعي امتحانا دقيقا ظهر أنه لا يختلف أي اختلاف عن اللبن الطبيعي؛ وإذا اختبر في الذوق لم يختلف عنه كذلك، ثم أطعم الفأر الصغير هذا اللبن الصناعي، فلم ينم وقل وزنه، وأشرف على الموت. ثم تقدم العلم، فتبين أن هذا اللبن الصناعي ينقصه مادة ضرورية هي صانعة الحياة، هي الفيتامين، وربما شيء آخر وراء هذا الفيتامين.
أذكرني ذلك بالفرق بين العلم والدين، والمادة والروح، والعقل، والنفس. قد يكمل الشيء في مظهره، ويدل امتحانه على أنه لا ينقصه شيء، ولكنه فقد روحه كما يفقد هذا اللبن الصناعي هذا الفيتامين.
قد تقدم العلم في القرن الأخير تقدما باهرا في كل فرع في الطبيعة، في الكيمياء، في النفس، في الاجتماع، في الصناعات؛ ولكنه لم يتقدم أي تقدم في فهم «نظرية الحياة»، وظلت - من غير جواب - تلك الصورة البديعة التي صورها فنان لطفل جميل مستغرب، في أرض جرداء، في مكان موحش، وقد كتب تحتها الأسئلة الآتية: ماذا؟ من أين؟ إلى أين؟ تقدم الطب والتشريح والجراحة، وأتت الاختراعات بالعجائب من: تليفون وفونوغراف وراديو وعجائب الكهرباء، وظلت العجيبة الكبرى على حالها وهي عجيبة الحياة كيف تدب، والموت كيف يكون! وعجز العلم بكل أسلحته وأدواته أن يتقدم خطوة في هذا السبيل، فمهما كانت الآلات المخترعة ضخمة دقيقة معقدة فهي آلة لا غير، ليس فيها روح، ومهما كان التمثال جميلا رائعا فهو تمثال ينقصه ما طلب «بيجماليون» من ربه لتمثاله، أن ينفث فيه الحياة؛ وظلت أكبر آلة وأعظم اختراع لا تدهش الإنسان كما تدهشه ذبابة كيف حييت! وأعظم آلة تحتاج إلى عقل حي ليديرها ويشرف عليها. ما هذه الحياة؟ من أين أتت؟ إلى أين تصير؟ لا يعرف العلم شيئا، ونشأتها محوطة بظلمة البطن، ونهايتها محوطة بظلمة القبر، وهي نور بين ظلمتين، ونهار بين ليلين، ومهما اجتمع الفيزيقيون والكيمياويون فلن يستطيعوا أن يبعثوا الحياة في خلية و...
إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له .
حلل الخلية كما تشاء إلى كربون وهيدروجين وأوكسجين ونتروجين كما كان يقول بعضهم، أو إلى إلكترونات كما يقول بعض آخر، فإنها كلها ينقصها شيء لتكوين الحياة، وهي ليست الحياة، كما أن اللحم والدم والنفس ليس الحياة. واشرح نظرية النشوء والارتقاء كما تشاء، فهي تفسر تدرج الحياة من نوع إلى نوع، ولكنها لا تفسر الحياة الأولى للخلية الأولى. إن العالم يستطيع أن يشرح لنا بناء الجسم الحي من نبات وحيوان ومم يتكون، ويضع لنا المصطلحات لكل جزء، ولكن إلى هنا ويقف. أما كيف دبت الحياة إلى الخلية، وكيف تنتج خلايا شجرة الورد خلايا مثلها حتى تنبت الورد، وكيف تخالفها شجرة الياسمين فتنتج ياسمين، وكيف يختلف الحيوان في ذلك عن النبات، فتكون الخلايا بقرا وغنما وقردا وإنسانا، فذلك ما لا يستطيعه العلم.
ثم كل حي إلى موت، لا يفر منه أي شيء، هو قانون الطبيعة الذي لا يتخلف. قد يستطيع العلم بمهارته وآلاته ومستكشفاته أن يؤخر الموت ساعات وأياما، وإن شئت فقل: أشهرا وسنين؛ ولكن كل وظيفته أن يؤخر لا أن يمنع ، فإذا حاول أن يمنع عجز عجزا تاما.
ثم هو عاجز أيضا أن يفسر لنا ظاهرة الموت! إن هذه الحياة التي أتت ولا نعرف من أين أتت، لا نعرف أيضا أين ذهبت.
إن الدين يبتدئ حيث ينتهي العلم، فهو يفسر لنا الحياة والموت عن طريق العقيدة لا عن طريق المنطق، فالله واهب الحياة:
يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ويحيي الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون * ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون .
هو ممد الحياة في أثناء الحياة، وهو سالب الحياة بالموت؛ وهو باعثها من جديد:
ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون * وله من في السماوات والأرض كل له قانتون * وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وله المثل الأعلى في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم .
والحياة مراحل ثلاث: دخولنا هذا العالم، ورحلتنا فيه، ورحيلنا عنه. ولا سلطان لنا في مرحلتيه الأولى والأخيرة، وإنما لنا مظهر قدرة في المرحلة الوسطى؛ ليجري على أيدينا الخير أو الشر، والنفع أو الضر. إننا لا نستطيع أن نرجع عقرب الساعة إلى الخلف ولا إلى الأمام، وإنما نحن «بندول» يتحرك، يقيد علينا الثواني والدقائق؛ قد قيد علينا الماضي وهو يتحرك في الحاضر، ولا أعرف إن كان يتحرك أو يقف غدا، وكل ما أنا مكلف به أن أعمل لإسعاد من حولي، وإسعاد الإنسانية على قدر ما أستطيع. فأما من آمن فسعد بالشعور باتصال حياته بإلهه، وبالشعور بخلود النفس، وأن الموت ليس إلا ظاهرة مادية كظاهرة الولادة، وأن الروح التي أتت مع الولادة وكانت قبلها، ستظل بالموت وتبقى بعده، وأما من ألحد فالمستقبل مظلم والفناء سريع. عند المؤمن الموت نهر غزير عليه جسر عبور، وعند الملحد الموت نهر غزير ينغمس هو في أعماق ظلماته. عند الملحد لا شيء يخلد، وعند المؤمن هناك خلود الله وخلود النفس وخلود الحقيقة.
إن الدين يقرر إلها كاملا في صفاته، ويقرر إعظام الله، وحسن الصلة بين الإنسان وربه بإقامة الشعائر، وحسن الصلة بين الإنسان والإنسان باتباع القواعد والأخلاق، وأخيرا يقرر بقاء الروح والحياة بعد الموت، والجزاء الأوفى على ما عمل من خير أو شر.
فماذا عند العلم ليقوله في ذلك؟ لا شيء!
لقد شهد القرن التاسع عشر والقرن العشرون معركة حامية بين رجال العلم ورجال الدين؛ لأن كلا منهما كان يحاول أن يغتصب من الآخر ما ليس له، وكان كل منهما مخطئا. اعتز العلم بقوته وبنجاحه في الآلات والصناعات، وتغييره حياة الإنسان وأدواته تغييرا تاما، وإمداده بالقوة في مناحي الحياة المختلفة حتى اعتقد أنه على كل شيء قدير، وشاع على ألسنة الناس البرهان العلمي والتحقيق العلمي وما إلى ذلك من ألفاظ، واعتقد الناس أن ما قاله العلم هو الحق وهو الصحيح، وطمع العلم أن يجري تجاربه على الإنسان، كما نجح في تجاربه على قطعة من الحجر فيحلله إلى عناصره الأولى، حتى حاول أن يرجع الأفكار والعواطف إلى المادة، وأنها مظهر للمادة كبعض صفاتها؛ وكما تفرز المعدة عصارة هضم يفرز المخ فكرا. وأخذ يحلله على هذا الأساس حتى شعره وحبه، وحتى دينه وعقيدته في الله؛ لا شيء إلا المادة وصفاتها، والعالم ليس إلا آلة ضخمة كبيرة، نعم هي معقدة ولكن العلم قادر على شرحها، وأخذ مذهب النشوء والارتقاء يحاول تفسير الأشياء وما يحدث لها تفسيرا علميا من ألفها إلى يائها. وجرى على أن العالم ليس إلا مادة، ولا حقيقة إلا المادة، وأنها خاضعة في كل حركاتها لما تخضع له الآلة الكبيرة من قوانين، وأنها تنشأ وترتقي آليا بنفسها لا بغيرها؛ لكن العلم على هذا النحو اصطدم بالحياة فعجز عن تفسيرها، واصطدم بأن العناصر المادية للشيء تتكون ثم لا يكون الشيء؛ واصطدم بجهله بحقيقة الأشياء وإن عرف مظاهرها وآثارها.
إن العلم نجح في شرح مظاهر المادة فأداه غروره إلى أن يعرف حقيقتها؛ إنه يستطيع أن يعرف «كيف»، ولكنه لم يستطع ولن يستطيع أن يعرف «ماذا». إن من اختصاصه أن يقول: «إن العالم الظاهري الطبيعي مركب من مادة ، وهو آلة تعمل؛ ولكنه بدل أن يقول ذلك قال: «إن العالم المادي هو وحده الحق، والمادة وحدها هي الموجودة». وبدل أن يقول في نشوء العالم: إن الحياة ترتقي من البسيط إلى المركب بعوامل مختلفة. قال: «إن أصل الحياة وجد من هذا البسيط وتركب، وإن أصل الإنسان لم توجده قدرة إلهية، وإنما هو عمل حرارة الشمس في مادة بسيطة». وبهذا تعدى العلم طوره واغتصب ما لا يملكه وإنما يملكه الدين، فالدين وحده هو الذي يستطيع أن يفسر ما وراء المادة من حياة ونفس وإله، ونحو ذلك من العالم الروحاني.
وقد اغتصب العلم ذلك من الدين ردا على ما حدث في قرون طويلة من اغتصاب رجال الدين لحقوق العلماء. إن من حق العلماء أن يقرروا كل ما يتعلق بالمادة وصفاتها كما تقوم عليه براهينهم. للجغرافي أن يقرر ما يقوم عليه البرهان من دوران الأرض حول الشمس لا الشمس حول الأرض، وللفلكي أن يقرر النظام الشمسي وغيره كما يدل عليه علمه، وللجيولوجي أن يقرر عمر الأرض بملايين السنين أو بالآلاف كما تدل على ذلك براهينه، ولدارون أن يقرر النشوء والارتقاء من البسيط إلى المركب، ولكل رجال علم الحق في أن يقرروا قوانين المادة التي يكتشفونها، كل في اختصاصه كما يشاءون. فإذا اعترض رجال الدين على ذلك كانوا قد تجاوزوا حدودهم، وتحدثوا فيما ليس من شأنهم. ولجهل هذا الأساس كان التاريخ وأحداثه الأليمة مظهرا من مظاهر اغتصاب رجال الدين لحقوق العلم، أو اغتصاب العلماء حقوق الدين.
وأخيرا نرى في الأيام الأخيرة بين بعض رجال العلم وبعض رجال الدين حركة محمودة قوامها أن للعلم عالما يجول فيه ما شاء، وليس للدين أن يعترض عليه، وذلك هو عالم الطبيعة، عالم المادة بما فيها العقل والنفس، وأن للدين عالما يجول فيه ما شاء، وليس للعلم أن يعترض عليه، وذلك هو عالم الروح والله. وأن الخريطة التي يرسمها العلماء للعلم مركزها وأفقها ليست هي الخريطة التي يرسمها الدين. ويعجبني قول أحد رجال العلم المشهورين الأستاذ «مكس بلانك»، في كتاب له عنوانه «إلى أين يتجه العلم»: «ليس هناك تعارض حقيقي بين العلم والدين، بل إن أحدهما ليحيي الآخر ويؤيده. وكل إنسان مفكر جاد يرى أن عنصر الدين مغروس في طبعه، ويجب أن يتعهد وينمى ويرقى كما ترقى وتتعهد عناصر الإنسان الأخرى؛ لتتوازن العناصر وتتناغم. وليس من باب المصادفة أن عظماء المفكرين في كل عصر كان الدين متغلغلا في أعماق نفوسهم، حتى ولو لم يظهروا أمام الناس قوة شعورهم بدينهم. ومن التعاون بين العقل والدين ظهرت أجمل ثمرة للفلسفة، وأعني بها ثمرة الأخلاق. والعلم رفع القيمة الأخلاقية للحياة؛ لأنه عضد حبه للحقيقة واحترامها. أما حبه للحقيقة فبما أظهره من حب متواصل في عالم المادة وعالم العقل الذي حولنا. وأما احترامه للحقيقة فلأن كل تقدم في العلم والمعرفة يجعلنا نواجه وجودنا الغامض».
4
كان أبو علي بن سينا من أكبر فلاسفة المسلمين إن لم يكن أكبرهم - تربى من صغره تربية فلسفية دقيقة، فتعلم على أساتذة المنطق والرياضة والطبيعة والفلك، ثم انصرف إلى ما نقل عن اليونان أيضا من علم ما بعد الطبيعة، فقرأ كتاب ما بعد الطبيعة لأرسطو أربعين مرة، فلم يفهمه، ثم عثر على كتاب للفارابي يشرح كتاب أرسطو ويبين أغراضه، فالتهمه التهاما، وانكشف له به كتاب أرسطو انكشافا، وفي كل ذلك يعمل عقله الكبير في أعقد المسائل الفلسفية لا يمل، وإذا نام حلم فيما يشغله في أثناء يقظته، حتى وصل إلى فهم الفلسفة فهما دقيقا، وألف فيها الكتب الكثيرة مطولة ومتوسطة ومختصرة.
ووصل بفلسفته إلى وجود الله، وأنه علة العلل، وأنه واحد، وأنه بريء من الكم والكيف والأين والمتى والحركة، إلى آخر ما قرره في فلسفته.
وكان يعاصره رجل كبير اسمه أبو سعيد بن أبي الخير، يقرن بعمر الخيام فيما له من رباعيات عميقة تفيض بالحياة، وكان صوفيا فارسيا عظيما، تربى على النمط الصوفي، كما تربى ابن سينا على النمط العلمي والفلسفي. إذا قرأ ابن سينا المنطق على أستاذه استعدادا للفلسفة، فأستاذ أبي سعيد يعده للتصوف، فيأمره أن يستحضر الله بقلبه، ويتصوره مكتوبا بأحرف من نور على قلبه وعلى سائر أعضائه، ويمليه رباعية فارسية يأمره أن يكررها ما استطاع؛ ومعناها:
بدونك - أيها الحبيب - لا أذوق طعم الراحة
وفضلك علي - أيها الحبيب - لا يمكن أن يعد ولا يحصى
لو أن كل شعرة من جسمي لسان يذكرك
وكلها تنطق بآلاف الثناء عليك ما أديت حقك
ثم يتدرج به شيخه في الإرشاد من تأمل وخلوة أحيانا ونحو ذلك، حتى يصبح أكبر صوفي في عصره يروى عنه الأدب الغزير في التصوف. فأصبح ابن سينا علما في فلسفته، وأبو سعيد علما في تصوفه.
فيحكون أن القدر جمع بينهما في نيسابور، فاجتمعا ثلاثة أيام بلياليها يتذاكرون ما وصلا إليه في فهم الحقيقة، ثم افترقا. فسأل تلاميذ ابن سينا أستاذهم عن رأيه في أبي سعيد، فقال ابن سينا: «إن ما أعلمه أنا يراه هو!»
وسئل أبو سعيد عن رأيه في ابن سينا، فقال: «إن ما أراه أنا يعلمه هو!»
مهما شك المؤرخون في صحة هذه القصة فهي قصة ظريفة تمثل الواقع. هي الفرق بين الفيلسوف والصوفي، وهي الفرق بين العقل ينمى والقلب يغذى، بين العقل يتفلسف والقلب يتدين، بين ملكتين في طبيعة الإنسان اتحدت غايتهما واختلفت طريقتهما: عقل يسير في طريق المنطق والمقدمات والنتائج، وقلب يسير في طريق الحب. يقول ابن سينا: «أحيانا كنت أتحير في مسألة، ولم أكن أظفر بالحد الأوسط في القياس»؛ وأبو سعيد كان يتحير إذ يجد حرارة حبه قد فترت؛ ذاك يعمل العقل حتى يظفر بالحد الأوسط، وهذا يرهف الشعور حتى تتقد حرارة حبه.
وكما تمثل القصة ملكتي النفس، فهي كذلك تمثل الناس؛ هذا رجل عقل جاف نمى عقله حتى على حساب شعوره؛ وهذا رجل قلب حار نمى قلبه حتى على حساب عقله، وقل من اعتدل.
ويعجبني اتفاقهما على تسمية إدراك العقل علما، وإدراك القلب رؤية. فالعقل يعلم عطف الأب على الابن ولكن قلب الأب يراه؛ والعقل يعلم أن هناك حبا ولكن القلب يراه.
إن الكون مملوء بتموجات دونها تموجات المحيط، ترى العين بعضها ولا ترى بعضها، حتى مما يمكن أن يرى، فإذا زادت التموجات أو قصرت عن حد معلوم فلا يراها الإنسان، وقد يراها بعض الحيوان؛ وكذلك السمع والشم، وهناك تموجات يعلمها الإنسان ويراها الحيوان، فالنحل يرى يعسوبه إذا بعد عنه أميالا، والإنسان قد يعلمه ولا يراه. والطيور الرحالة ترى أعشاشها على بعد آلاف الأميال، والإنسان لا يراها، والجمل يرى موضع الماء في الصحراء واتجاهه، وقد يعلم ذلك الإنسان ولا يراه. والنمل يشم السكر في الصيوان، والإنسان قد يعلمه ولا يشمه. والشيء قد يكون ظلاما دامسا لإنسان ونورا ساطعا لإنسان فحقا ما قالاه من أن إنسانا يعلم وإنسانا يرى! وما العقل والإلهام، وما التفكير والشعر، وما الفن والخيال، وما الفلسفة والدين إلا جداول من ذلك المحيط، محيط الكون اللا متناهي، تدرك بعض تموجاته. فضلة لرجال علم ينكرون وحي الدين، وضلة لرجال دين ينكرون حقائق العلم.
لقد قال متصوف: «حقا حقا، إني لست شيئا إلا فيضانا من حب!» فقال عالم: «حقا حقا، إني لا أفهم لغتك، وما هي إلا هذر». وقال متصوف: «إني أنا الحق». فقال عالم: «لست الحق، ولكني باحث عن الحق لأستخدمه في حياتي». أما أنا فإني أفهم المتصوف في حبه، والعالم في عمله، ولا أفهم إنكار أحدهما للآخر.
وكما تعددت الملكات في الإنسان الواحد واختلفت في القوة، وتعددت في الناس جملة واختلفت في القوة، كذلك اختلفت في البيئات، فاشتهر من قديم إلهام الشرق، وعلم الغرب أو فلسفته؛ فمؤرخو الفلسفة يرون أنها ظلت عقلية بحتة ما استقرت في بلاد اليونان، حتى إذا أتت الإسكندرية امتزجت روح اليونان بروح المشارقة، وكونت مزيجا من عقل الأولين وإلهام الآخرين؛ وتعاونت الروح الشرقية - التي من خصائصها الطموح إلى ما وراء عالم الشهادة، والروح الغربية التي من خصائصها التحليل والشرح وربط الأسباب بالمسببات - على إيجاد فلسفة دينية لا هي فلسفة محضة ولا هي دين خالص.
ثم إن الأديان الكبرى من برهمية وبوذية ويهودية ونصرانية وإسلام، نبعت من الشرق - من آسيا - ومنه انتشرت في أنحاء العالم، فما علة هذه الظاهرة؟
قرأت أخيرا تعليلا لكاتب إنجليزي أقام طويلا في الهند يجيب عن هذا السؤال فيقول: «إن الريح الباردة في الشمال، والسماء الدكناء والغيوم والأمطار لا تجذب إليها الإنسان ليكون خارج نفسه، بل تجعله ينكمش داخلها. إن كل عاصفة باردة، وكل مطر غزير، وكل يوم أدكن لا يذكره بنفسه، ولكن يذكره بجسده، فيجب أن يفكر في كيف يدفأ، وكيف يغذى، وكيف يؤوى، ولا ينسى أبدا أن الجو الخارجي عدوه يخاف منه ويحتاط له. وحمله ذلك على أنه إذا أقام في مسكنه فأكره ما يكره أن يكون مع نفسه وحدها. وعزلة الإنسان وانفراد نفسه مع الطبيعة هي وحدها التي تجعله يسمع صوت الكون. إن الطبيعة لا تتكلم إلا همسا، فيجب أن يسود حولها السكون التام حتى توحي بأسرارها.
والأمر على عكس ذلك في الشرق، تمر الأسابيع والأشهر وربما نصف العام، والنهار كامل في نهاريته، والليل كامل في ليليته. وفي هذا الجو يستطيع أن يكون الإنسان مع نفسه وحدها، في هذه البيئة يستطيع أن يجد الصحراء العميقة في سكونها، والغابات التي لا حد لها، ويستطيع أن يستغرق في سكونه وتأمله فينسى الناس، ولا يشعر إلا بنفسه في أحضان الطبيعة، في أحضان الله!
إنك في الشرق قليلة حاجاتك، لست في حاجة إلى نار للدفء، بل ولا في حاجة ملحة إلى مسكن. وأي غذاء يكفي، وأي ملبس يكفي، ولست في قلق واضطراب وتفكير فيما تواجه به الريح الباردة والجو المظلم! يكفي أن يكون مأواك في النهار ظل شجرة، وفي الليل تسطع على رأسك النجوم بلألائها، لا تتصل بشيء إلا بالطبيعة. فإذا أنت أحببتها كما يجب أن تحب، وتعشقتها كما يجب أن تعشق، وناغمتها كما يجب أن تناغم، وأرسلت نفسك على سجيتها لتسبح في عجائبها ولا نهايتها، استطعت عندئذ فقط أن تستمع لموسيقاها الساحرة.
لهذا سطعت الأديان من أرض الشمس؛ لأن الضوء مصدر الإيمان.
فما لم تر الشرق لا تعرف ما العقيدة! واعتبر ذلك بما يلفت نظرك عندما تضع قدميك في الشرق. ما الذي يفجؤك؟ ما الذي تشعر أنه الشيء الفعال النفاذ في نفوس الناس؟ إنه الدين! إن الشرقي فخور بدينه، يحب أن يدل عليه حتى بمظهره: فهذا الهندوسي بشعبه الثلاث التي على رأسه، وهذا المسلم بلحيته وعمامته أو نحو ذلك. هل رأيت إنجليزيا يصلي في الشارع؟ وإذا رأيته أفلا تلومه وتصيح فيه: «صل في بيتك» وتعتقد أنه يعرض صلاحه وتقواه؟ ليس الأمر كذلك في الشرق، إن الشرقي يفعل ذلك ولا يرى فيه موضع مؤاخذة أو غرابة. إنك تركب القطار في الهند فترى هؤلاء الهنود من رجال ونساء وأطفال يتجمعون عند طلوع الشمس، فيحيونها ويصلون لها ، وهؤلاء المسلمون ينشرون ثيابهم على الأرض، ويتجهون نحو الكعبة، يصلون لله على ملأ من الناس، ويرون ذلك واجبهم؛ ذلك لأننا في الغرب لا ندرك حقيقة إيمان الشرق! إن الشرقي يعد الدين نفسه، ولا يعده الغربي كذلك - إن الغربي قد يساكن آخر، ويصاحبه زمنا طويلا، ولا يسائله يوما عن دينه، بل ولا يهمه ما دينه. ولكن الدين في الشرق أعز شيء عند أهله.
وشيء آخر بين الشرق والغرب، أن الدين في الغرب نظم تنظيما دقيقا كأنه حكومة، والكنيسة ورجال الدين يسيرون على نظام محكم وعلى رأسه البابا. أما في الشرق فليس هذا هو الشأن، فلا رئيس في الهندوكية؟ وخليفة المسلمين ليس له إلا سلطة اسمية، والدين - على العموم - في الشرق نفسي داخلي، وليس يحتاج إلى نظام ولا سلطان. فإذا شعر الشرقي بحاجة إلى الدين بحث عنه كما شاء، واعتنقه كما شاء، وأسس علاقته بربه كما شاء. إذا نظرت إلى الدين في الغرب رأيته كحديقة خضعت للنظام، شذبت أطرافها في دقة، وعني بكل شيء فيها، ومنع من السير على حشائشها؛ كل شيء فيها بقانون ومنهج وقيود؛ لأن بذورها مجلوبة من الخارج فتحتاج إلى مجهود صناعي كبير. أما في الشرق فحديقة طبيعية تنمو أزهارها المحلية كما تشاء، لا تحتاج إلى بستاني يرعاها ويشذبها، وكل شيء فيها ينمو حسب قوته واستعداده الفطري من صغيره إلى كبيره.
لهذا كله كان الشرق مصدر الدين وملهمه».
مستقبل الأدب العربي
1
يكاد يعم الناس شعور بأن هذه الحرب - التي لم يكن لها مثيل في التاريخ - خاتمة مرحلة من مراحل العالم، تبدأ بعدها مرحلة جديدة تخالف الأولى في نظمها وعقليتها ما إلى ذلك.
ومن أجل هذا أخذت كل شعبة تفكر في شأنها ومصيرها وتضع الخطط لمستقبلها، في السياسة والمال والنظم الاجتماعية، وعلاقات الأمم، وغيرها.
فلننظر - على نمطهم وعلى بدع العصر - في أدبنا العربي، ما مستقبله، وكيف ينبغي أن يكون، وأي طريق ينبغي أن يسلك؟
سؤال عسير ينبغي أن تتعاون في الإجابة عنه أقلام مفكري العرب وأدبائهم حتى يصلوا إلى منهج واضح ينفع الأدب في اتجاهه.
فأول واجب على الأدب العربي - في نظري - هو أن يتعرف الحياة الجديدة للأمم العربية ويقودها، ويجد في إصلاح عيوبها، ويرسم لها مثلها الأعلى، ويستحثها للسير إليه.
وبعبارة أوضح: إن الأدب العربي إلى الآن تغلب عليه النزعة الفردية لا النزعة الاجتماعية. فالغزل والمديح والعتاب والرثاء والفخر والهجاء ونحوها كلها في الأدب القديم نزعات فردية طغت على الأدب العربي ولونته اللون الذي نراه، بل وكذلك في العصور الحديثة تراجم الأفراد أو ترجمة الكاتب لنفسه أو تحليل الأديب لبعض الشخصيات أو روايات الغرام أو نحو ذلك كلها في نظري - أيضا - من قبيل النزعات الفردية. وأرى أن الأدب العربي يجب أن يتجه من جديد - بقوة ووفرة - إلى النزعة الاجتماعية حتى يعوض ما فاته منها في عصوره المختلفة حتى عصره الحاضر.
للأدب منزعان ومنبعان: أدب ينبع من النزعة الفردية، والأدب العربي فيها غني قوي، وأدب ينبع من النزعة الاجتماعية، والأدب العربي فيها فقير ضعيف؛ ومستقبل الأمم العربية وحاضرها في أشد الاحتياج إلى الأدب الاجتماعي ينهض بها، ولكن ماذا أعني بالأدب الاجتماعي؟
أعني به - في الأدب العربي - نظر الأدباء إلى مجتمعهم الحاضر يشتقون منه رواياتهم وأقاصيصهم، وشعرهم، ومقالاتهم؛ ويصوغون منه فنونهم الأدبية.
إن مجتمعاتنا مملوءة بالشرور الاجتماعية من عيشة أكثر الناس عيشة تافهة سخيفة، وليس الناس هم المسئولين عن سوء وضعهم وسوء حياتهم بقدر ما هو مسئول عنها أولو أمرهم، والقابضون على زمام التصرف في شئونهم، فلاح بائس، وصانع مسكين، وزوجية تعسة، وفقر ومرض، واستعدادات ضائعة، وكفايات لا تجد من يوجهها، وأطفال لا تجد من يربيها، وأغلبية لا تجد ضرورات العيش، ونفوس مستعدة لا تجد من يرقيها، وعقول صالحة لا تجد من يفتحها، ومئات ومئات أمثال هذه المآسي تنتظر من الأدب أن يعالجها ويشرحها ويحللها، ولا يقتصر على إجادة وصف ما هو كائن بل يرسم ما ينبغي أن يكون في روايته التي يضعها، وشعره الذي يصوغه، وقصصه الذي يحكيه، ومقالاته الفنية التي يحررها، ولا يكون ذلك حتى يخرج الأديب عن عزلته وينغمس في الحياة الواقعية ويكتوي بنارها. وعلى الجملة يصبح عندنا أدباء هم قادة الرأي العام يبصرونه بموقفه ويطلعونه على مزاياه وعيوبه، ويحركونه لغرض نبيل يتسامى إليه - بل هم إذ ذاك يكونون خيرا من المصلحين الاجتماعيين العلميين؛ لأن هؤلاء علماء يبحثون عن الحقائق، والأدباء فوق ذلك يلهبون بفنهم العواطف، ففائدتهم أقوى وأثرهم أبلغ بما يبعثون من حرارة الفن، وتهييج النفوس للخلاص من الشر والوصول السريع إلى الخير. إنهم يثيرون عاطفة الكراهية للموجود، وعاطفة الطموح للكمال، وهم بذلك يضيئون للناس حياتهم التعسة التي يعيشونها، وينيرون السبيل لحياة أسمى يعملون للوصول إليها.
وهذا النوع من الأدب - ما دام الغرض منه الإصلاح الاجتماعي، وقيادة الرأي العام وتنبيهه - يجب أن يكون أسلوبه سهلا واضحا جميلا جهد الطاقة؛ لأنه لا يؤدي رسالته حتى يصل إلى آذان أكبر عدد ممكن في الهيئة الاجتماعية، فإذا تأنقنا في أسلوبه وملأناه بالمحسنات الفنية، وعلونا في التعبير، انقلب الغرض من إصلاح شعوب والأمم إلى إصلاح عدد قليل من الطبقات الممتازة فقط. على أن القطعة الفنية في الأدب متى كان لها موضوع، وكان لها قضية تكشفها وتؤيدها وتدعو إليها استغنت عن كثير من التجميل الأدبي، والغلو في الاستعارات والكنايات والمجازات، فإن هذه أشد ما يحتاج إليها عند خلو الكلام من موضوع قيم، أو أفكار قويمة سليمة.
ولست أريد أن أقول: إن كل أدب عربي سيتجه في المستقبل هذا الاتجاه، أو أنه ينبغي أن يتجهه فقط. فلست أنكر قيمة أنواع الأدب الأخرى من شعر غنائي أو قصص تحليلي أو فن للفن أو نحو ذلك، وإنما أريد أن أقول: إن الأدب الاجتماعي يجب أن يكمل في الأدب العربي بقوة وغزارة؛ لأن موقف الأمم العربية في الحاضر والمستقبل أشد حاجة إليه من أنواع الآداب الأخرى.
أطمح أن يكون لنا في الأدب العربي أمثال برنارد شو في الأدب الإنجليزي وأناتول فرانس في الأدب الفرنسي وتولستوي في الأدب الروسي، وأمثالهم ممن وقفوا أدبهم على خدمة المجتمع وإشعاره بعيوبه واستشارته إلى التسامي.
وهذا هو الأدب الأمريكي يحمل لواءه اليوم رجال مارسوا الحياة العملية في شتى شئونها ثم لم يكتبوا في خيال وأوهام وأحلام، إنما يكتبون أكثر ما يكتبون في مشكلاتهم الحالية ومسائلهم اليومية وحياتهم الاجتماعية، وأكثر هؤلاء لا يستوحون أساطير اليونان والرومان، وإنما يستوحون مجتمعهم وما فيه وما يصبو إليه. فللأديب العربي أن يستوحي امرأ القيس، أو شهر زاد، ولكن يجب أن يون ذلك نوعا من الأدب لا كل نوع ولا هو النوع الغالب ولا هو الأرقى.
والذي أوقع الأدب العربي في هذا النقص أن الأدب ظل من ظلال الحالة الاجتماعية، وللبيئة أثر كبير في تكوينه، والأمم العربية قضت عهدا طويلا في دور قوي فيه الوعي الفردي، ولم يقو فيه الوعي الاجتماعي، شأن الأمم كلها. ولكن الأمم الحية قطعت هذا الدور، وتعلمت الوعي الاجتماعي، والأمم العربية لا يزال الوعي الاجتماعي فيها في حالة التكون لم ينم ولم يقو، ومظهر الوعي الاجتماعي نجاح الجمعيات والنقابات والشركات والمؤسسات التي تنشأ من التبرعات ونحو ذلك؛ فالوعي الاجتماعي يكون حيث يكون شعور أفراد الأمة بعلاقاتهم وخيرهم واتجاه تفكيرهم وإرادتهم لخير المجتمع بجانب الشعور والتفكير والإرادة في أشخاصهم، فإذا بدأ هذا الوعي الاجتماعي رأيت للأمة عادات وتقاليد وعرفا تراعي فيها مصلحة المجموع أكثر مما تراعي مصلحة الفرد، ورأيت للفرد عواطف نحو أمته كعواطفه نحو ذاته، فهو يسر للخير يأتيه، ويتحمس للعمل ينفعه، ويألم من الشر يحيق به، فكذلك تكون عواطفه نحو أمته؛ وإذ ذاك يكون في الأمة قانون غير مكتوب ولكنه يراعى أشد المراعاة: في الاحتفالات والاجتماعات وفي مآسي الأمة ومسراتها، وفي حروبها، وفي شدائدها. وإذا نما الوعي الاجتماعي ظهر أثره في نجاح المشروعات الاقتصادية في الأمة، وفي نظم الأحزاب السياسية، وفي النقابات الزراعية، والهيئات التعليمية، وما إلى ذلك.
وتاريخ الوعي الاجتماعي في الأمة يرجع إلى وجود أفراد سبقوا زمنهم وكانوا قدوة لأمتهم، فشعروا بمجتمعهم شعورهم بذاتهم، وكانوا المثل الذي قلد، والقدوة التي اتبعت، ثم انتشر تقليدهم حتى كان من ذلك رأي عام واع وعيا اجتماعيا، يغضب للظلم، ويتحمس للعدالة، ويتغنى بالحرية، ويألم للفقر، ويغار على كل ما يمس أمته، ويخصص كل فرد جزءا من حياته لعمل اجتماعي، وهكذا. ويقوم الرأي العام في المحافظة على العادات الطيبة، والعواطف النبيلة مقام الجيش والبوليس للحكومة.
وفي طبيعة كل إنسان وعي لذاته وشخصه، ووعي لمجتمعه، ولكن في الأمم البدائية ينمو الأول ويضعف الثاني، لأسباب كثيرة: في الأمم البدائية تصدر حتى الأعمال الخيرية ملاحظا فيها الفرد نفسه؛ فالإحسان لدفع ألمه، أو لشهرته أو لذكر اسمه في الجرائد، أو لتكفير سيئاته، وفي الأمم الراقية الإحسان لإنهاض الفقير، وتخفيف الويل عن المجتمع، وفي الأمم الحية يشعر الماشي في الشارع أن الشارع له وللناس، والسينما له وللناس، وخيرات البلد له وللناس، والأعباء لا بد أن يحمل منها ما يستطيع كما يحمل الناس، ويلون بذلك تصرفاته وأعماله.
لست أريد الدخول في التفضيل بين الوعي الفردي والوعي الاجتماعي، وإنما يكفيني هذا القدر لبيان أن الأدب ظل لحياة الأمة في هذا الباب، فإذا طغى الوعي الفردي في أمة كان الأدباء من هذا القبيل هم صدى للنزعات الفردية والوعي الفردي فقط إلا القليل النادر، فنتاجهم الأدبي غزل وحب وغرام وروايات لتحليل أنفسهم أو لتحليل بعض الشخصيات، أو قطع فنية لإثارة الشهوة الجنسية، وحتى باب الأدب نفسه يرجع في الأغلب إلى نصح الإنسان بصلاحيته كفرد لا كعضو في مجتمع. وهذا مع الأسف هو الأدب العربي في عصور طويلة إلى الآن تقريبا.
بل أبو العلاء المعري نفسه، وهو أكبر شاعر عربي نظر في شعره إلى المجتمع وأبان سيئاته، قد أفلح في مقدماته ولكنه لم يوفق إلى النتيجة كما نرجو الآن. فقد نجح في وصف سيئات المجتمع من ظلم الحكام، وفساد المرأة، وفساد رجال الدين ونحو ذلك، ولكنه شرح ذلك ليخلص منه إلى أن المجتمع لا يصلح للبقاء ولا يصلح لمثل أبي العلاء لأن ينغمس فيه. يقول أبو العلاء:
يسوسون الأمور بغير عقل
فينفذ أمرهم ويقال: ساسه
فأف من الحياة وأف مني
ومن زمن رياسته خساسه
فالمقدمة بديعة لطيفة وإن كانت في حاجة إلى البسط، والنتيجة ليست هي التي نريد، فهي نتيجة يائسة. وإنما الذي نريده أن يشرح هذه العيوب للدعوة إلى إصلاحها، وإثارة النفوس للتخلص منها وإحلال المثل الطيبة محلها. نريد من الأديب إذا ألف مأساة «تراجيديا» ألا يقصد إلى شرحها وتحليلها فقط، ولكنه يبين مسئولية المجتمع فيها ويحمل النفوس على الثورة للخلاص منها، وإذا ألف ملهاة «كوميديا» ألا يقصد إلى استخراج الضحك فقط من الممثل؛ ولكن ليستثير السخرية على من كانوا السبب فيها حتى لا تعود إلى الحياة، وهكذا. وهناك أدباء من هذا القبيل تقرؤهم فتشعر أن عقلك اتسع، وعواطفك سمت، ومشاعرك بالإعجاب من الحسن أو الكراهية للقبح حميت وتحمست، وهذا ما نحن في حاجة إليه.
إن الأمم الشرقية في بدء عهدها بالوعي الاجتماعي؛ فيجب أن يكون لها أدباء يدفعون هذا الوعي إلى الأمام حتى يكمل وينضج، وهذا ما أتوقعه في الأدب العربي القريب. إن الأديب من هذا الطراز رسول أمته وهاديها إلى الخير، وراسم أغراضها في الحياة، يدرك الحقائق قبل أن يدركها الناس، ويشعر بها قبل أن يشعر بها الناس، ثم يحرك عقولهم لإدراكها، وعواطفهم للتحمس للعمل بها، يشعر من أعماق نفسه أن له رسالة أن يرفع مستوى الناس ويدفعهم إلى حياة أسعد وعيش أصلح، يجمع بين السمو الخلقي، والسمو الفني، ثم يسخر فنه لخدمة ما يصبو إليه لقومه.
إذا تحقق هذا في مستقبل الأدب العربي اعتدل مزاجه وكمل نقصه، وجاوب ما في الطبيعة البشرية من حب الذات وحب النوع معا.
2
هناك تفاعل تام بين الحالة الاجتماعية لكل أمة وأدبها، فالأدباء في كل زمان ومكان يؤثرون في مجتمعهم ويتأثرون به، وميزتهم على غيرهم أن لديهم نوعا من الإلهام يدركون به شعور الناس وهو في طور تكونه، وفي حالة غموضه، فيعبرون عنه تعبيرا يكشفه ويجليه فيتقبله الناس على أنه جديد وليس جديدا، وإنما كان كامنا في نفوسهم، ولولا ذلك ما استجابوا له؛ ولذلك كان الأديب أو المصلح إذا سبق زمانه بمراحل لم يسمع لقوله، ويدخر الزمان تعاليمه حتى يستعد لها الناس.
والأمم العربية الآن في حالة تكون جديد، بسبب ما ظهر لعيونهم من عهد ماض مملوء بالظلم والاستبداد والاستغلال، والجهل والفقر، وبسبب ما رأوا من أمم معاصرة تحيا خيرا من حياتهم، وتنعم حيث يشقون، وتعلم حيث يجهلون، بل رأوا غيرهم ينعم بخيراتهم ويستغل غفلتهم وجهلهم، ويستخدم عمله ويقظته في امتصاص ثروتهم، فلما بدأوا يشعرون بذلك كله بدأوا يطمحون إلى حياة أسعد من حياتهم، وينفضون عنهم غبار جهلهم وخمولهم، ويعدون العدة للسير على منهج من سبقهم؛ وهذا - بالضبط - هو الزمن الذي يتمخض فيه - عادة - عن مصلحين تتبلور فيهم آمال الأمة، وأدباء يحدون لهم ليجدوا في سيرهم، ومغنين يغنون لهم بآمالهم، وفنانين يرسمون لهم مطامح نفوسهم.
ومن أجل هذا أتوقع أن تتمخض الحركة الأدبية العربية والحركات الفنية عن حملة اللواء لهذه الشعوب، فالرواية والشعر والقصص والمقالة والتمثيل والغناء والنحت والتصوير والرسم كلها تثير مشاعر الشعوب الغامضة، وتثير العواطف الهائمة ضد الظلم وضد الفقر وضد البؤس، وهذا لونها الحزين، ثم من وجه آخر تبعث الأمل وتدفع للعمل، وتبشر بالفوز، وتؤمل في الإصلاح، وهذا لونها البهيج.
لست أتوقع - ولا من الخير أن أتوقع - أن يقضى على أدبنا الحالي الذي يخدم المشاعر الفردية من غرام وشهوات جنسية، وتحدث عن النفس ونحو ذلك، فالأمم التي سبقتنا لم يخمد فيها هذا الأدب، بل هو لا بد منه في كل زمان ومكان، ولكن وجد بجانبه الأدب الاجتماعي الذي يخدم المصالح العامة ، فكان من هذا وذاك جوقة كاملة منسجمة تجاوب نوازع النفوس المختلفة.
إن في كل أدب وفن الوضيع والسامي، وأسمى الأدب ما يصلح حياة الناس ويغنيها، وخير كتاب أدبي ما إذا قرأته تلذذت من فنه، ثم بعثك بفنه ومعانيه على أن تكون خيرا مما أنت، بإثارة عاطفة الرحمة أو الشفقة عندك، أو عاطفة الجمال في الذات والمعنى والطبيعة، أو بإفهامك طبائع الناس كما هي، أو إعجابك بالخير وكرهك للشر، أو إضاءة أي جانب من جوانب الحياة، أو أي قانون من قوانين الإنسانية، أو تهييج ضميرك ليحق الحق ويبطل الباطل، أو باستصراخك لنصرة العدل ومحاربة الظلم، أو نحو ذلك فإن هو أثار عندك وعكس هذه المعاني، فهو الأدب الوضيع من وجهة النظر الاجتماعي مهما جاد فنه.
والأدباء من هذا القبيل يحركهم نبل الغرض أكثر مما تحركهم المادة، وينتجون إجابة لداعي النفس أكثر مما ينتجون للتجارة، ويشعرون بأنهم يتنفسون بفنهم فإذا سكتوا اختنقوا.
لقد ثار الجدل عند الأدباء الغربيين حول الكتابة للمبدأ والكتابة للعيش، فكان يرى بعضهم أن الأدب الذي يستحق أن يسمى أدبا حقا ما غمر الكاتب شعورا باللذة لكتابته، لا ما كان سدا لحاجة، أو ملأ لخانة، ولا ما حمل الكاتب على كتابته حملا؛ لأن الأدب الحق وحي، والوحي لا يمكن القبض عليه وتحويله حيثما أراد الموحى إليه، ليس هو كرة تدار، ولكن صوتا عميقا من النفوس يسمع فيطاع.
ولكن ربما عد هذا غلوا في الرأي، فكثير من الآثار الأدبية القيمة ألفت تحت ضغط الحاجة إلى المال، وبعض الأدباء ما كانوا ينتجون ما أنتجوا لولا بؤسهم المالي.
ومع هذا فمما لا شك فيه أن نوع الأدب الذي وصفناه بالسمو والرفعة لا يصدر إلا عن شعور نبيل الغرض، ودافع من حب خير الإنسانية؛ لأن النوع الأول - وهو ما يكتب تحت الضغط المالي - خاضع لتحكم تجار الكتب وأصحاب المجلات في نظرهم إلى ما يروج وما لا يروج، وخاضع لمسايرة الجمهور في ذوقهم وتملقهم، والضرب على الأوتار التي يحبونها وتقديم الغذاء الذي يشتهونه، ولو كان فيه السم الزعاف.
أما الكاتب الملهم، الكاتب الذي يتنفس بأدبه، الكاتب الذي يكتب تحقيقا لغرض نبيل عنده، فينتج ما ينتج رضي ناشر الكتاب أو لم يرض، أعجب الجمهور أو لم يعجب، بل كثيرا ما يدفعه نبل غرضه أن يصب غضبه على الجمهور لغفلته وغباوته، ولو أدى ذلك إلى رميه بالحجارة، واتهامه بالخيانة؛ لأنه يريد أن يسير الجمهور لا أن يسيره الجمهور، ويريد أن يجرعه الدواء ولو مرا لا الحلو ولو سما، ويريد أن يكون قائدا للعامة لا مقودا بشهوات العامة.
ومن أجل هذا أتوقع متى نما هذا النوع الرفيع من الأدب أن تتبدل هذه النغمة الصارخة في أدبنا، وهي نغمة تملق الجماهير، وتملق الشباب، وتملق الشهوات الجنسية، فنسمع أصواتا تنقد النقد الحر الجريء، ولو أدى بصاحبه إلى البغض والكراهية والاضطهاد. إن الناس ألفوا أن يروا صورة ضيق نظرهم، وسعة شهواتهم، وقداسة تقاليدهم، معكوسة على النتاج الأدبي، فإذا لم يجدوها عند الكاتب كرهته العامة ولم يقدره إلا الخاصة، وقليل ما هم. كم في حياة الأمم العربية من عيوب لا تصلحها حلاوة السكر، ولا مرارة الصبر، ولا يصلحها الملق، ولكن تصلحها الصرخة القاسية؛ وهذا لا يكون حتى يكون الأديب مؤمنا بعقيدته، مؤمنا بغرضه، يفضل الفقر مع المبدأ على الغنى مع الملق، وهو ما أرجو أن يكون. •••
ثم أتوقع أن يستمر الأدب العربي في نموه من الناحية التحليلية، تحليل الأشخاص وتحليل الظواهر الاجتماعية وتحليل العواطف الإنسانية، وهكذا؛ ذلك لأن الأدب العربي كان إلى عهد قريب تغلب فيه النزعة التركيبية من أمثال الأمثال، والحكم، والتوقيعات، والرسائل الموجزة، مما تصح كل جملة منها لو حللت أن تكون كتابا؛ فلما اتصل الأدب العربي بالأدب الغربي تأثر من هذه الناحية، فدخلت فيه النزعة التحليلية إلى حد ما، وكل المظاهر تدل على أنها ستنمو فيكمل فيه النوعان: النوع التركيبي والنوع التحليلي، كما سينضج فيه النوعان: النوع الفردي والنوع الاجتماعي.
فأغنى الأدب في نظري ما كملت فيه النزعتان الفردية والاجتماعية، واستوت له الناحيتان التحليلية والتركيبية. والأدب العربي غزير فياض في الناحية التركيبية والفردية، متخلف في ناحيته التحليلية والاجتماعية، وهذا صدى لنوع البيئة الاجتماعية التي كان يحياها العرب، فإذا تغيرت - وهو ما نحن مشرفون عليه - تلون الأدب بلونها، وغنى الغناء الذي يتفق ومشاعرها. •••
وناحية أخرى سيتجه إليها الأدب العربي لا محالة، وهي «أدب الطبيعة»، فكم في بقاع الأمم العربية من بحار وأنهار، وأزهار، وجبال، ووديان، وحقول، ونحو ذلك من مناظر فاتنة تنتظر من يتغنى بها! وذلك يكون حيث ينمو الشعور بالجمال في هذه الأمم، وقد عاقها في الماضي والحاضر عن هذا بؤسها وفقرها، ووقوعها تحت نير الظلم والاستبداد؛ ومن عدم القوت نظر إلى الرغيف ولم ينظر إلى باقة الزهر، ومن قيد القيد الثقيل طمح إلى فك أغلاله قبل أن ينظر إلى العالم وجماله. فما تقدم عليه الأمم العربية من نعيم بخيراتها، واسترداد لحرياتها، ونظر صادق لمعالجة شئونها، سيرفع مستواها، سواء في ذلك حالتها الاقتصادية أو الاجتماعية أو السياسية، ونتيجة هذا أن يجعلها تفكر في المعاني، وتسمو إلى الاستمتاع بالجمال، فيدرك الأدباء بإلهامهم - الذي يسبق الزمن بعض خطوات - أن الأمة تتطلع إلى أناشيد الجمال، وتطمح إلى من ينشد قصائد التغني بجمال الطبيعة في شتى نواحيها، فيغنون والناس تتغنى بأغانيهم، وتردد أناشيدهم لأنها تجاوب مشاعرهم.
نعم، إن في الأدب العربي كثيرا من شعر الطبيعة من عهد امرئ القيس إلى اليوم، ولكني أتطلع إلى نوع جديد في أدب الطبيعة. إن شعر الطبيعة في الأدب العربي أفسد كثيرا منه الفن الصناعي، وفهم الشعراء أنهم كلما أجادوا التشبيه والاستعارة أجادوا شعر الطبيعة، من مثل قول الشاعر:
ولاح هلال مثل نون أجادها
بجاري النضار الكاتب ابن هلال
وقول الآخر:
ورد بدا يحكي الخدود، ونرجس
يحكي العيون إذا رأت أحبابها
ونبات باقلاء يشبه نوره
بلق الحمام مشيلة أذنابها
وقوله:
وكأنما البرك الملاء تحفها
ألوان ذاك الروض والزهر
بسط من الديباج بيض فروزت
أطرافها بفراوز خضر
وكثير من أمثال هذا، فهذا ما لا أريده ولا أتمناه، ولا أعده إلا نوعا من البهلوانات التي تأخذ العين ولا شيء وراءها. إنما أريد بأدب الطبيعة أحد أدبين: أدب يفنى فيه الأديب في الطبيعة كما يفنى الصوفي فيها، ويذوب كما يذوب السكر في الماء، فيتناغم هو والطبيعة، وتنسجم نبضات قلبه بنبضاتها، ويشعر أنه هو وهي شيء واحد، وينتشي من ذلك نشوة دونها نشوة الخمر والوصال، فإذا انتشى غنى بجمالها فمس روحك وأعداك بنشوته، وشعرت بأنه يجذبك إلى الجمال، حتى تحس ما يحس، وأنه أثر فيك بروحه وفنائه أكثر مما أثر بلفظه وتشبيهاته ومجازه، وهذا النوع من الأدباء يتطلب فناؤهم وذوبانهم الميل - أكثر ما يكون - إلى الجمال الواسع - إن صح هذا التعبير - كجمال البحار والصحراء والسماء والحقول الفسيحة ونحو ذلك؛ لأنها أقدر بسعتها على امتصاص نفوسهم الواسعة، أو أديب يتشرب الطبيعة لا تتشربه الطبيعة، فهو يحتفظ بشخصيته، ولكن يحققها ويوسعها بالطبيعة يتنسم جمالها، وهؤلاء أميل إلى الجمال المحدود كجمال الزهرة وجمال الصورة وجمال جدول الماء، وهم لاحتفاظهم بشخصيتهم يفضلون ما يذوب فيها على ما يذوبون هم فيه، بل قد يشعرون بالضيق للجمال الواسع؛ لأن شخصيتهم تتضاءل أمامه، وتصغر بجانبه، وقد يرون فيه الجلال لا الجمال؛ وعلى كل حال فإذا تذوقوا هذا الجمال المحدود ومزجوه بأنفسهم، ووسعوا به مشاعرهم، أخرجوه بروحهم وفنهم أدبا جميلا حيا يحيي من سمعه.
وسواء هذا النوع أو ذاك، فكلاهما يرفع مستوى الشعوب، ويرقي شعورها بالجمال، ويكون لذلك أثره الكبير في رقي الخلق ورقي الحياة الاجتماعية. بل إذا ذاك يدركون أن الكذب والظلم والجبن قبيحة قبح المناظر المؤذية، والصدق والعدل والشجاعة جميلة جمال الأزهار والبحار والأنهار والنجوم، فيتعاون الشعور بالجمال والقبح مع إدراك المنفعة والمضرة، وفي هذا ما يرفع الأمة درجات.
كم في الشعوب العربية من يزور مغاني الجمال فيستمتع بها، ومن يخرج إلى البساتين في الربيع فيهتز قلبه لها، ومن يرتب في بيته الزهار كما يرتب الخباز واللبان، ومن يهمه جمال بيته كما يهمه هم بطنه؟ إن جمال الشرق وفير متنوع، ولكنه لا يجد العين التي تنظره، والروح التي تتفتح له. ولا يفتح العين ويفتح القلب إلا أدباء ملهمون يقفون الناس على سر الجمال، ويهزون نفوسهم لتذوقه.
3
يعاني الأدب العربي الآن مشكلة من أكبر المشاكل، وهو أنه أدب الخاصة لا العامة، وليس للعامة أدب. ونحن إذا أردنا أن ننهض بالشعوب العربية وجب أن يصل صوت أدبها إلى خاصتها وعامتها معا؛ فالعامة هم السواد الأعظم في الشعوب، وهم المقياس الحقيقي لرقي الأمة وانحطاطها. فالفلاح في القرى المصرية الذي يكون نحو ثمانين في المائة من مجموع الشعب هو الذي يمثل مصر، لا الشاب الذي أخذ درجة من جامعة مصرية ثم أتم دروسه في أوروبا أو أمريكا، وكوخ الفلاح هو الذي يمثل البيت المصري لا القصر الجميل على ضفاف النيل، وشوارع القرية هي التي تمثل شوارع مصر لا شارع الهرم، وهكذا. فإذا أردنا النهوض الحقيقي للأمم العربية، فليكن جل اهتمامنا بالسواد الأعظم من العامة لا بالطبقات الخاصة وحدها. إذا أردت تحسين العقلية المصرية أو الشامية أو العراقية فوجه أكبر همك إلى تحسين عقلية الفلاح والعامل، ولا تقتصر على العدد المحدود من طلبة المدارس، وهكذا في الشئون المالية والاجتماعية. وإذا أردت وضع «ميزانية» عادلة للشعب فاحسب حساب ما ينال العامة منها وما ينال الخاصة، فإن كان ينال الخاصة أكبر قسط فيها أو نصفها، فهي ميزانية أرستقراطية جائرة، وهكذا.
إن من حق العامة أن يستمتعوا بالأدب كما يستمتع الخاصة، وأن يكون لهم أدب يناسبهم كما للخاصة أدب يناسبهم، وأن يكون في أدبهم ما يغذي عقولهم، ويرفع مستواهم، كما يكون فيه ما يتذوقون معه الفن الجميل - هذا من حقهم على الدولة كحقهم في الماء النظيف يشربونه، والصحة يعنى بها، وضرورات الحياة توفر لهم، لم يكن للعامة أدب، فهم والحيوان سواء. والأمة تجني من هذا الجهل وعدم تذوق الأدب الصاب والعلقم من كثرة الجرائم وانتشار التخريف، وعدم الشعور بالظلم، واستغلال أرباب رءوس الأموال لهم، وهكذا.
والأمم العربية في أسوأ موقف من هذه الناحية. فالكتب، والمجلات، والصحف - وهي الأدب بالمعنى الواسع - ليست إلا للخاصة، ولا شيء منها للعامة، ومعنى ذلك أن الخاصة هم الذين يتغذون عقليا ونفسيا، والسواد الأعظم حرم ضرورات العيش، وحرم أيضا ضرورة العقل والعاطفة وهو الغذاء الأدبي، فأصيب «بالأنيميا» الجسمية والعقلية والعاطفية معا.
وكم الخاصة وكم العامة؟
إن الكتاب في العالم العربي يطبع منه الألف والألفان، وقلما طبع منه عشرة آلاف، والمجلات والجرائد مهما راجت لا تطبع إلا خمسين ألفا أو ستين ألفا، مهما كان أدبها ولغتها متواضعين، ومعنى ذلك أن القراء الذين يتغذون بالكتب والمجلات والصحف لا يتجاوزون مائتي ألف، إذا حسبنا أن الكتاب أو المجلة يقرؤها أكثر من واحد، بل ضاعف هذا العدد إن شئت مرة واثنتين وثلاثا، وانظر نسبته إلى نحو سبعين مليونا يتكلمون العربية في الأقطار الشرقية، فمعنى هذا أن تسعة وستين مليونا فأكثر من الشعوب العربية لا يتغذون غذاء عقليا بالكتب والمجلات، ولا يصل إليهم شيء من الأدب في قليل ولا كثير.
وهذه النتيجة مرعبة مفزعة، وهي المقياس الحقيقي للشعوب، وليس هناك أمة حية على وجه الأرض الآن تشقى نصف هذا الشقاء ولا ربعه؛ فالروايات والكتب الأدبية المناسبة تصل إلى آذان الفلاح في حقله، والصانع في مصنعه.
وسبب هذه المصيبة العظمى في الأمم العربية شيئان هامان: الأول: الأمية الفاشية، فلا تزال نسبتها في الأمم العربية كبيرة جدا بالنسبة للمتعلمين.
وحركة انتشار التعليم والتغلب على الأمية - مع ما بذل فيهما من جهد - ضعيفة بطيئة. وليس ينجينا من الأمية السير المعتدل الرزين، وإنما الثورة العنيفة على الجهل وعلى الأمية، وحشد كل القوى المتعلمة في الأمة مع إمدادها بكل ما نستطيع من مال لهذه الحرب الشعواء، أما السير الحكيم فلا يمحو الأمية إلا بعد مئات السنين، والعالم لا ينتظرنا لينعم بمنظر سيرنا الوقور.
والسبب الثاني: أن لكل أمة عربية لغتين: لغة للكتابة والقراءة والتأليف في العلوم والآداب، ولغة للكلام في الشارع والمنزل والتعامل، وأن الفرق بين اللغتين كبير، وهذا عائق قوي عن تقدم الشعوب العربية وثقافتها - نعم إن كثيرا من الأمم كإنجلترا وفرنسا وأمريكا لها جمل وتعبيرات وكلمات عامية وأخرى فصيحة، ولكن الفرق بينهما ليس كالفرق بين لغتنا العامية ولغتنا الفصحى ، فلو أنك قرأت كتابا أو رواية بالإنجليزية على فلاح أو صانع وكان موضوع الكتاب يتناسب وعقليته، أمكنه أن يفهمه في سهولة، ويشعر أن ليس هناك فرق كبير بين ما يتكلم وما يقرأ ويسمع، وهكذا الشأن في الفرنسي والأمريكي وليس كذلك عند العربي.
وقد أنتج هذا الفرق الكبير بين العامية والعربية الفصحى نتائج سيئة جدا، منها صعوبة نشر التعليم في أوساط كثيرة واسعة، ولا يكون هذا إلا إذا تقاربت اللغتان، ومنها حرمان العامة من تذوق النتاج الأدبي العربي، ومنها أن ما يكتب باللغة العربية الفصحى نفسه في الموضوعات التي تمس الحياة الواقعية ليس فيه الحياة التامة؛ لأن استعمال الكلمات والجمل في الشارع والمنزل يضفي على اللغة نوعا من الحياة لا تستفيده إذا عاشت بمعزل عن الاستعمال اليومي، فلكل كلمة وكل جملة تستعمل على الألسنة هالة غير المعاني المكتوبة في المعاجم، فإذا قصرت على التفاهم بين الخاصة لم يكن لها هذه الهالة.
وأهم فرق بين اللغة العامية واللغة الفصحى، وأهم صعوبة في انتشار اللغة الفصحى - في نظري - الإعراب. لقد فشلنا في تعليمه حتى للخاصة والمثقفين، فهذا متخرج الجامعة قد صرف تسع سنوات على الأقل في المدارس الابتدائية والثانوية يتعلم النحو، ثم عددا من السنين في الجامعة، ومع ذلك قل جدا من يستطيع أن يكتب صفحة خالية من الخطأ النحوي - ومثلهم المثقفون ثقافة عامة ومن قرأوا لأنفسهم كثيرا وكتبوا كثيرا، فكيف نطمع أن نصل إلى نتيجة باهرة إذا أردنا نشر تعليم اللغة العربية في أوساط العامة، وكيف نلزمهم أن ينصبوا الجمع المؤنث السالم بالكسر، ويجروا الممنوع من الصرف بالفتح ونحو ذلك؟ إذا كلفناهم ذلك فقد كلفناهم شططا، وكانت النتيجة لا محالة الفشل في تعميم التعليم. إن ذلك قد صعب على الخاصة فكيف بالعامة!!
هذا أهم عائق يحول دون تعميم التعليم، ودون فهم العامة للأدب العربي. فما الحل؟ إني أرى رأيا أعرضه على أولي الرأي للتفكير فيه وتقليبه على وجوهه المختلفة، وهو اصطناع لغة عربية خالية من الإعراب، وخالية من الألفاظ الضخمة، ومستعملة للكلمات العامية التي هي أيضا عربية ومجردة من خرفشة اللغة العامية. فنقول: «لا أحب» بدل «ما أحبش»، و«سأعمل» بدل «حاعمل» وأسكن آخر الكلمات كلها من غير إعراب، فأقول: «محمد شارك علي في التجارة»، ونحو ذلك.
وهذه اللغة التي هي وسط بين العامية والفصحى هي التي يجب أن نعتمد عليها في نشر التعليم بين العامة، ويكتب بها بعض الأدباء رواياتهم، ويؤلف بها بعض المؤلفين الكتب الشعبية، ويتحدث بها المتحدثون في الراديو، والخطباء في خطبهم الشعبية، وهكذا.
بذلك نستطيع أن نقارب بين العامية والفصحى، وبذلك نستطيع أن نسهل تعليم العربية، وبذلك نستطيع أن نوصل الأدب العربي إلى سواد الناس، ولتبق اللغة العربية الفصحى لغة الخاصة يكتبون بها للمتخصصين، ويقرءون بها التراث القديم، وينتفعون به، وينقلون منه ما شاءوا إلى اللغة الجديدة لنفع الجمهور، وستكون هذه اللغة الجديدة صالحة لأن يصاغ بها الفن الأدبي على أشكاله وأنواعه. فاللغة العامية - على سوء ما فيها - استطاعت أن تخرج الزجل الجميل والروايات الرائعة، فهذه اللغة الجديدة التي تعد عربية إلا في الإعراب وغرابة الكلمات، تكون أصلح في هذا من اللغة العامية وأطوع للفن. وستكون أيضا صالحة للتفاهم بين الأمم العربية لا كاللغة العامية الخاصة لكل شعب.
إن لغة الوقف (تسكين الآخر) هي اللغة التي عمت الإنجليزية والفرنسية والطليانية، وهي الأصلح للزمان لسهولتها ومناسبتها للجمهور، وكثير من اللغات تدرج في تطوره الطبيعي من لغة معربة إلى لغة غير معربة.
ستصدم هذه الفكرة - من غير شك - بعض العقول؛ لأنها غير مألوفة، ولكن أرجو أن تبحث في هدوء على ضوء المنفعة لا على ضوء التعصب للقديم.
وإذا كانت عقولنا لا تزال لا تؤمن بالرأي إلا إذا دعم برأي عالم قديم، فأقول: إن في ثنايا مقدمة ابن خلدون ما يؤيد هذا الرأي ويدعو إليه. قال في فصل عنوانه: «إن لغة العرب لهذا العهد مستقلة مغايرة للغة مضر وحمير»، يؤيد أن اللغة العامية الساكنة الآخر فيها بلاغة، وفيها فنون الأدب، ما نصه: «وما زالت هذه البلاغة والبيان ديدن العرب ومذهبهم لهذا العهد (أي: بعد أن زال الإعراب من لسانهم)، ولا تلتفتن في ذلك إلى خرفشة النحاة - أهل صناعة الإعراب القاصرة مداركهم عن التحقيق - حيث يزعمون أن البلاغة لهذا العهد ذهبت، وأن اللسان العربي فسد، اعتبارا بما وقع في أواخر الكلم من الإعراب الذي يتدارسون قوانينه، وهي مقالة دسها التشيع في طباعهم، وألقاها القصور في أفئدتهم، وإلا فنحن نجد اليوم الكثير من ألفاظ العرب لم تزل في موضوعاتها الأولى، والتعبير عن المقاصد والتعاون فيه - بتفاوت الإبانة - موجودة في كلامهم لهذا العهد، وأساليب اللسان وفنونه من النظم والنثر موجودة في مخاطبتهم، وفهم الخطيب المصقع في محافلهم ومجامعهم، والشاعر المفلق على أساليب لغتهم، والذوق الصحيح والطبع السليم شاهدان بذلك، ولم يفقد من أحوال اللسان المدون إلا حركات الإعراب في أواخر الكلم فقط».
وقال في موضع آخر من هذا الفصل في صميم الموضوع: «ولعلنا لو اعتنينا بهذا اللسان العربي لهذا العهد (عهد ابن خلدون)، واستقرينا أحكامه نعتاض عن الحركات الإعرابية في دلالتها بأمور أخرى موجودة فيه، فتكون له قوانين تخصها، ولعلها تكون في أواخره على غير المنهاج الأول في لغة مضر. فليست اللغات وملكاتها مجانا، ولقد كان اللسان المضري مع اللسان الحميري بهذه المثابة، وتغيرت عند مضر كثير من موضوعات اللسان الحميري وتصاريف كلماته».
في هذين النقلين عن ابن خلدون أرى أنه يقرر في النص الثاني إمكان الاستغناء عن الإعراب والاستعاضة عنه بقوانين تحل محله، مثال ذلك - على ما أفهم - أن رفع الفاعل يدل على الفاعلية، ونصب المفعول يدل على المفعولية، فإذا قلت: «أقرض محمد عليا» دل الرفع على المقرض والنصب على المقترض؛ ولذلك يجوز لك أن تقول: أقرض عليا محمد من غير أن تخل بالمعنى، فإذا حذفنا الإعراب فلا بد من قانون جديد يدل على الفاعلية والمفعولية، كأن تقدم من فعل الفعل ملتزما ذلك، فتقول: «محمد أقرض علي» فهذا مثل من أمثلة القوانين التي يقتضيها حذف الإعراب.
وأما النص الأول من كلام ابن خلدون فمغزاه الدفاع عن لغة الكلام الخالية من الإعراب، وأن لها بلاغة وأدبا وشعرا ونثرا، وأن البلاغة والفن ليسا مقصورين على اللغة المعربة، فليس الإعراب - كما يعبر في موضع ثالث - إلا بعض أحكام اللسان.
إذا تم ذلك رجوت أن تصبح اللغة الجديدة أداة طيعة لنشر التعليم، ووصول الأدب إلى أكبر عدد ممكن، وهذا ما أتوقع أنه سيكون في المستقبل القريب أو البعيد، وكلما قرب كان أدعى إلى سرعة النهوض، وانتشار الأدب ورقي العقل والعاطفة في الشعوب.
منطق العقل ومنطق الدنيا
من الأقاصيص الشعبية المصرية أن رجلا تزوج اثنتين؛ فأما «أم السعد» فشابة لعوب على حظ قليل من الجمال وعلى حظ كبير من المرح والفتنة وخلب العقول والدهاء والمكر. وأما «أم حسن» فشابة على حظ كبير من الجمال وقليل من الحيلة، طيبة القلب، عفيفة النفس، طاهرة الذيل.
أراد زوجهما السفر فاتخذ كل احتياط لصيانتهما، على طريقة العهد القديم، فسمر الشبابيك حتى لا تفتح غيابه، وتفنن ما شاء في القيود والأغلال، ووضع الأرصاد على البيت حتى لا يقربه من يخونه، ثم سافر مطمئنا.
فأما «أم السعد» ففكت القيود، وسخرت بالأغلال، واحتالت على الأرصاد وخرجت وفجرت. وأما «أم حسن» فحفظت عهد زوجها، وصانت سمعته، وحافظت على شرفها وشرفه؛ فلم تخرج من بيتها، ولم تحتل في فك أغلالها، وكانت أمينة في كل شؤونها.
فلما كانت ليلة حضور الزوج تزينت «أم السعد» وتبهرجت، وفعلت كل صنوف الإغراء والفتنة، وأما «أم حسن» فاعتمدت على استقامتها وطهارتها، فلم تبالغ في زينة، ولم تفرط في تجمل.
وحضر الزوج، فهللت «أم السعد» لحضوره، وتصنعت كل ضروب الفرح للقائه، وفعلت الأفاعيل لإغرائه، وقابلته «أم حسن» في هدوء واتزان، وحشمة وثبات.
ثم أخذتا في الحديث، فهرجت «أم السعد» وأخذت تصف كيف حافظت على عهده ووفت بأمانته، وكيف كانت لا تنام شوقا إليه، وحنينا للقائه - ومن حين إلى آخر تتكلم «أم حسن» كلمة أو كلمتين تعليقا على حديث أو ردا على سؤال.
وأخيرا نظر الزوج إلى أم السعد طويلا، ثم أدار نظره إلى أم حسن طويلا، ثم أعلن أن لأم السعد كل ما أتى به من هدايا، ولأم حسن الطلاق.
هكذا منطق العقل ومنطق الدنيا، فمنطق العقل يقضي بالمكافأة للطاهرة العفيفة الجميلة، ومنطق الدنيا يقضي بها للمهرجة اللعوب غير الجميلة.
منطق العقل يقضي بأن يقوم بمواهبه وكفاياته، ككل شيء في العالم، فنحن نقوم الفرس بسرعته لا بسرجه، وكل شيء بالغرض منه لا بشكله، وعلى هذا فالإنسان يجب أن يقوم بكفاياته فيما أريد منه، فإن أردته صانعا فقومه بصناعته، أو عالما فقومه بعلمه، أو لمنصب من المناصب فاختر من يحقق الغرض من المنصب. هذا في منطق العقل، وأما في منطق الدنيا فإنه يقدر بمنظره قبل مخبره ، وبقرابته قبل كفايته، وبعلاقته قبل حقيقته. منطق العقل مبني على التجريد من الاعتبارات، ومنطق الدنيا مبني على تقدير الملابسات. منطق العقل أساسه تقدير الشيء بما فيه من نفع وضر، فإن رجح نفعه عمل، وإلا ترك، ومنطق الدنيا أساسه رضا فلان وغضب فلان، ورجاء فلان وانتفاع فلان، وإغاظة فلان، وهكذا من اعتبارات لا حد لها.
منطق العقل مقدمة صغرى ومقدمة كبرى، إن صحتا فالنتيجة صادقة حتما، ومنطق الدنيا قد تصدق فيه المقدمات وتكذب النتيجة، وقد تكذب فيه المقدمات وتصدق النتيجة.
منطق العقل كباحث في معمل يجرب ويرصد التجارب، فإذا أسفرت التجربة عن لون أحمر قال: إنه أحمر، أو أصفر قال: إنه أصفر، ولا شيء غير ذلك. وأما منطق الدنيا فكالممثل على المسرح يوما ملكا ويوما صعلوكا، ويوما غنيا ويوما فقيرا، على حسب الظروف.
المحسوبية منطق الدنيا، والعدل منطق العقل، وتقدير الأشكال منطق الدنيا، وتقدير القيمة الذاتية منطق العقل. •••
بالأمس حضرت مجلسا دار الحديث فيه حول رسم المصحف، فقال قوم: إن من الواجب أن نرسم المصحف حسب قواعد الإملاء المعروفة، حتى يستطيع الناشئ أن يقرأه، والرجل المثقف العادي أن يقرأه كما يقرأ كل كتاب. أما الرسم الحالي فلا يمكن القارئ من أن يقرأ إلا إذا كان حافظا أو متخصصا، فكيف يستطيع الناشئ أن يقرأ الصلاة إذا رسمت هكذا «الصلوة!»، ولخير أن نيسر قراءة القرآن على الناس عامة من أن نحصر قراءته في دائرة قليلة. أما رسم المصحف الحالي فيكون للخاصة، ومن يريدون أن يدرسوا تاريخ الإملاء.
وإننا نفسد تعليم الناشئ إذا نحن علمناه الإملاء على طريقتنا ثم وضعنا في يده المصحف فرأى طريقة لم يألفها. وقال قوم: لا بد من المحافظة على رسم عثمان حفظا لآثار السلف الصالح وعملا بالمأثور، وربطا بين قديمنا وحديثنا. فقمت وفي نفسي التفكير بين منطق العقل ومنطق الدنيا.
وشاء القدر أن أحضر مجلسا آخر حميت فيه المناظرة حول معلمي اللغة العربية. فقال قائلون: أمن الحق أن يتوزع تعليم اللغة العربية - دون سائر المواد - ثلاثة معاهد: كلية اللغة العربية الأزهر، ودار العلوم في وزارة المعارف، وقسم اللغة العربية في كلية الآداب، وكل يسلك منهجا يخالف الآخر حتى إذا أتموا دراساتهم كانت بينهم حرب شعواء على الوظائف! أليس من الخير ألا يكون في البلد إلا معهد واحد يختار له خير المناهج وخير الأساليب كما الشأن في كل المواد؟ وقالوا أيضا: إننا نفهم أن يكون في البلد مائة معهد للثقافة، أما للصناعة، ولصناعة التعليم، فلا بد ألا يزيد إنتاج المصنع عن حاجة البلد. وقال آخرون: إنها التقاليد، وإنها السلطات، وإنها العصبيات.
فخرجت من المجلس مفكرا في منطق العقل ومنطق الدنيا.
وركبت «المترو» وجلست بين جماعة ينقدون بألسنة حداد حالة الوظائف والموظفين، وكل يشكو ويضرب الأمثلة في وزارته عما حدث من ترقيات؛ هذا للقرابة، وهذا للمصاهرة، وهذا للملق، وهذا للهتاف، وهذا لتقبيل اليد، وهذا للمصالح الشخصية.
فقلت: إن هذا يوم غريب تتتابع كل حوادثه للتمثيل لمنطق العقل ومنطق الدنيا.
ورجعت بذاكرتي إلى أقاصيص جحا، وما في كتب الأدب من أقوال عقلاء المجانين، فوجدت كثيرا منها يعجب الناس لأنها تصور الفرق بين منطق العقل ومنطق الدنيا.
والناس يضجون بالشكوى لأنهم لم يفهموا الفرق بين منطق العقل ومنطق الدنيا، وأرادوا أن يخضعوا الدنيا لمنطق العقل ففشلوا.
والشعراء والأدباء رأوا أنهم لكفايتهم أحق بخيرات الدنيا من كل من عداهم من الحمقى والمغفلين، وهذا منطق العقل. ثم رأوا أن الدنيا في يد أقل الناس كفاية، وأنهم محرومون حتى من ضرورات الحياة، على حين أن المغفلين يغرقون في النعيم، وهذا منطق الدنيا. ولطول ألسنتهم أقاموا حربا شعواء على الناس، وقالوا آلاف الأبيات في شكوى الزمان، وأنه مغفل يحابي المغفلين، ويضطهد العقلاء والأدباء، وأنه لا عقل له ولا منطق له، وجردوا منه شخصا وجهوا إليه أفظع السب وأقذع الهجاء، وما دروا أن للدنيا منطقا تخضع له غير منطقهم، وأسلوبا تتبعه غير أسلوبهم.
وأكثر ما يظهر منطق الدنيا في السياسة؛ فقد أراد الفلاسفة في عهد أفلاطون وأرسطو أن يخضعوا منطق السياسة لمنطق العقل، فوضع أفلاطون جمهوريته، وأرسطو كتابه في السياسة، والفارابي مدينته الفاضلة، وهكذا تتابع الفلاسفة يرسمون المثل الأعلى للحكومة وللسياسة، يريدون أن يخضعوا كل شيء في الدولة لمنطق العقل، والسياسة دائما تتمرد عليهم وتأبى إلا أن تخضع لمنطق الدنيا، وكان هذا هو الشأن إلى أيام ولسن، فقد وضع نظام العالم على أساس منطق العقل، وما زال منطق الدنيا يحاربه بأسلحته حتى هزمه شر هزيمة.
وربما كان «ميكافلى» هو الشخص الذي فهم منطق الدنيا بعد أن جرب الحياة الواقعية وسفر لأمته عند الملوك والأمراء، فنادى بأن السياسة لا تتبع العقل والعدل والخلق، وإنما هي ترعى طبائع الناس وظروف الزمان والمكان، وقال: إن السياسة يجب أن تعرف الخير والشر، ولا بأس من أن تنحرف عن الخير تبعا لضرورة الظروف القائمة - وقرر بعض مبادئ منطق الدنيا، فقال: «إن الناس أسرع إلى الإساءة إلى من وضع نفسه من قلوبهم موضع الحب، منهم إلى من جعل نفسه مخوفا مهيبا»، وقال: «إن الأمير يجب أن يكون أسدا، ولكن ينبغي له أن يتعلم كيف يلعب دور الثعلب». وهكذا أراد أن يشرح منطق الدنيا كما شرح أفلاطون وأرسطو منطق العقل، ولكن - مع الأسف - لم يستطع أن يدون كل منطق الدنيا كما دون من قبله كل منطق العقل. إن الذي وضعه جزء بسيط من منطق السياسة، وما السياسة بجانب الدنيا كلها؟ ولو كنت مكانه لوضعت قواعد منطق الدنيا في سلوك الإنسان وفى كيف يقدر الإنسان الإنسان، وكيف يصل الإنسان إلى أغراضه مع امتهانه لمنطق العقل، وكيف يفعل رجال الحكم تمشيا مع منطق الدنيا، وكيف تقف التقاليد والأوضاع أمام منطق العقل لتفسح الطريق أمام منطق الدنيا وهكذا، ولجعلته مائة فصل، وجعلت ما كتبه ميكافلي عن السياسة فصلا واحدا من فصوله.
في كل شيء يصطدم منطق العقل مع منطق الدنيا، في الأسرة، في الشارع، في المتجر، في المصنع، في الوظيفة، في الحياة الخاصة والعامة، فنرى العقل في ناحية والدنيا في ناحية، وكلما كان الإنسان أرهف حسا، وأكبر نفسا، وأرقى عقلا، كانت صدمة الدنيا أقوى وأعنف.
ومع هذا فأظن أن العالم سائر إلى التقدم في الاستزادة من منطق العقل، والتقليل من منطق الدنيا، ومقياس ذلك الأمم المنحطة والأمم الراقية، ففي الأمم المنحطة منطق العقل يسبح في دائرة قطرها «قيراط»، ومنطق الدنيا يسبح في دائرة قطرها ألف متر، وفي الأمم الراقية تكاد تتعادل الدائرتان أو تكون دائرة منطق العقل أوسع، وليس عمل المصلحين في الدنيا دائما إلا أن يحاولوا توسيع دائرة منطق العقل بتضييق دائرة منطق الدنيا.
الشرق والغرب
الدنيا اليوم كلها بركان ثائر لسنا ندري متى يهدأ وكيف يهدأ: نظريات تتعارض، ومصالح تتشابك، ومبادئ تتخاصم، ولم يبق شيء من الأسس القديمة في السياسة والاجتماع والاقتصاد والأخلاق إلا تزلزل واضطرب، وثار ولما يهدأ.
ابتدأ البركان يثور في نقطة، ثم عم الغرب، ثم امتد من الغرب إلى الشرق، فهذا هو الشرق يتزلزل أيضا ويضطرب أيضا؛ لأن العالم كله أصبح الآن شبكة كهربائية تتفاعل في سرعة البرق.
من قديم وقف الشرق والغرب معسكرين، في الحروب وفى السياسة وفى الاقتصاد، وفى المدنية وفى أساليب الحياة والتفكير، وغلب الشرق حينا، وغلب حينا، وثار الجدل بين الأوروبيين: هل من المصلحة أن يمدن الشرق بمدنية الغرب أو يترك وشأنه، يستغله الغرب في موارد الاستغلال، ثم يخليه ونفسه فيما عدا ذلك؟ وثار الجدل بين الشرقيين أنفسهم: ما موقفهم من المدنية الحديثة؟ أيأخذونها بحذافيرها أم يتخيرون منها؟
ولكن قوانين الطبيعة الجازمة الحازمة لم تعبأ بهذا الجدل ، وسارت سيرها الحثيث نحو توحيد العالم وتوحيد المدنية في جوهر الأمور، وإن اختلفت الأشكال والأعراض، ولم تكترث للحدود الجغرافية المصطنعة بين الشرق والغرب، فالعلوم والفنون والآداب والأوضاع السياسية ونظم الحياة الخاصة والعامة تسربت من الغرب إلى الشرق، كما تسربت قبل ذلك من الشرق إلى الغرب؛ لأن القانون الطبيعي أن البقاء للأصلح والغلبة للأرقى والأقوى، والتفاعل الدائم بين المتجاورين.
والزمن يعمل عمله في هذا التوحيد بين الشرق والغرب بالرحلات والبعثات والتزاوج والصحافة والثقافة والإذاعة والتجارة في المخترعات الحديثة، ورجال السياسة وأساليبهم وغير ذلك، كلها تنقل الماديات والمعنويات من أقصى الأرض إلى أقصاها فتقرب الفكر والمدنية ونمط الحياة.
قد يعوق هذا الامتزاج واتحاد المدنية عصبية من هنا وهناك، كعصبية دينية أو عصبية للجنس أو الدين أو القارة أو اللون ونحو ذلك، وكلها قد تؤخر السير ولكن لا تغير اتجاهه، فقد يقف الزمن أمام هذه العوائق ولكنه لا يلبث حتى يقوى ويكتسحها، ويكمل سيره إلى غرضه غير عابئ بما يبدو من بعض القادة السياسيين من وضع العقبات، فكل هذه تنهار أمام القانون الطبيعي في أن سكان الأرض وحدة تتفاعل، ويأخذ متخلفها في نفس الطريق الذي سار فيه متقدمها.
قبل ثلاثة قرون ونصف لم تكن هناك هذه الفروق بين الشرق والغرب، فإن كان ولا بد فالشرق كان يسبق الغرب في مدنيته وحضارته ووسائل حياته. ثم حدث في أوائل القرن السابع عشر أن اكتشف الغرب وسائل للعلم التجريبي جديدة بنى عليها ثروته الصناعية والاقتصادية، ومن هنا بدأت نقطة التحول والتفوق. ومن نحو قرنين تضاعفت قوة الغرب باكتشافه بعض قوانين الطبيعة ومعرفته كيف يتغلب عليها، وافتتح عصرا جديدا عماده البخار والكهرباء. والشرق في هذه القرون الثلاثة كان يعتمد على وسائله القديمة الخالية من البخار والكهرباء فتخلف، وكان هذا هو الفرق الكبير الذي نراه الآن. وليس هذا فرقا طبيعيا في عقلية الأمم؛ فالتاريخ علمنا أن التفوق والنبوغ يتحولان وينتقلان بين الشعوب لأسباب نفهم بعضها، ونعجز عن فهم بعضها، كنبوغ الأفراد يظهر من حيث لا نعلم، فقد ينبغ من بيت حقير ومن بيت عظيم ومن أسرة وضيعة، ومن أسرة نبيلة ومن قرية ومن مدينة، ومن أكثر الناس علما ومن أقلهم علما. وهكذا نبوغ الأمم. حملت رايته الصين حينا، والهند حينا واليونان حينا وبغداد حينا والقاهرة حينا، وجاء دور الغرب فحملها، وهو دور كسائر الأدوار؛ فلا معنى للتبجح بدعوى التفوق الطبيعي والاستمرار الزمني والمكاني. فما على الشرق إلا أن يأخذ بالوسائل التي اعتمد عليها الغرب من العلم التجريبي واستخدام البخار والكهرباء، حتى تتغير مدنيته وحياته وأخلاقه ويتبوأ مكانه.
وليس كل الذنب في تقصير الشرق راجعا إليه وحده. نعم إنه تكاسل وتواني وأخلد إلى الراحة حينا طويلا، لكن جزءا كبيرا من المسئولية يرجع إلى الغرب، فهو لم يأخذ بيده إلى الآن كهاد ومرشد، بل هو إذا رأى الشرق ينتبه، ويدرك سر التقدم الغربي ويبدأ في أن يسير سيرته ويحذو حذوه صده ووقف في سبيله لمنفعة له وقتية أو نظر أناني قصير أو استغلال مادي حقير، إن أراد استخراج الحديد من أرضه لم يشجعه، وإن أراد أن يغزل قطنه لم يؤيده، وإن أراد أن يقوي جيشه لم يفسح الطريق له، وإن أراد أن يصلح سياسته كما يرى وكما ينبغي لم يمكنه من ذلك، ثم عيب عليه تقصيره وتخلفه واتهم بأن عجزه طبيعة فيه.
إن المدنية الغربية قامت على أكتاف أشخاص يعدون على الأصابع أمثال: جاليليو وكبلر وهارفي ونيوتن وغيرهم، لو منح مثلهم الشرق لتحول تحولا خطيرا وسار إلى الأمام سريعا. ولكن لم منح الغرب هؤلاء ولم يمنح الشرق مثلهم؟ إن البيئة الشرقية الحاضرة لا تسمح بخروجهم، لا لطبيعة الشرق، ففي القديم أخرج الشرق من العظماء ما لم يخرجه الغرب، ولكن لأن الظروف الاجتماعية والسياسية في العصور الحاضرة لا تسمح بخروج هؤلاء النوابغ في الشرق، والمسئول عن ذلك الشرق بخموله والغرب بضغط قوته وسلطانه. وفي حدود قدرته على التملص من هذه القيود استطاع الشرق أن يرتقي بعض الرقي، وينهض بعض النهوض.
لقد بنيت المدنية الغربية - كما يقولون - على أركان أربعة مادية وأربعة معنوية: (1)
تمكين كل فرد من أن يعمل لترقية نفسه حسب ملكاته وقواه. (2)
استغلال الأراضي أحسن استغلال حسب خصوبتها. (3)
استخدام الأمة الطبيعة التي حولها لمصلحتها. (4)
تصريف سلعها ومنتجاتها في أوسع دائرة من الأسواق. (5)
العناية بتأسيس الأخلاق القومية لا الأخلاق الفردية وحدها. (6)
غرس المبادئ التي توحي بشدة المحافظة على الحقوق - والمطالبة بها إذا أهملت - وأداء الواجب. (7)
حب الحرية وعشق النظام. (8)
حب المغامرة والميل إلى الإقدام والرغبة في التجديد. وما عدا ذلك فأمور سطحية كالعادات والتقاليد في الأفراح والجنائز والزواج والطلاق والملابس ونحو ذلك.
ولست أرى ما يمنع الشرق من السير على هذه الأسس إذا أخلص قادته من جهة، وأفسح له الغرب طريقه من جهة أخرى.
ولو أحطنا الشرقي بكل بيئة الغربي السياسية والاجتماعية، وثقفناه بالعلم وربيناه على النهج الغربي لكان كالغربي في تفكيره وميوله وأخلاقه، والعكس، بدليل ما نرى من أن الفروق تتضاءل جدا بين المثقفين الشرقيين والمثقفين الغربيين في العقلية، وتتضاءل بين من عاشوا في إنجلترا أو فرنسا أو ألمانيا في الأخلاق. فكيف إذا اتحدوا في أشكال الحكومات والنظم السياسية وما إلى ذلك؟
قد يظهر بعض الفوارق في مزاج الشرق والغرب، فالشرق أميل إلى التأمل، والغرب أميل إلى العمل، والشرق أميل إلى النظر للماضي في تاريخه والمستقبل في جنته أو ناره، والغرب أميل إلى النظر لحاضره في دنياه، والشرق أميل إلى النظريات وإلى التجديد، والغرب أميل إلى التطبيقات وإلى الواقع، والشرق يميل إلى ما وراء المادة، والغرب يميل إلى التغلب على الطبيعة وضبطها بالعلم.
ولكن هل هذه الفروق وأمثالها توجب التعدد والانقسام، والنظر العالي إلى الأسفل، والنظر الأسفل إلى العالي؟ أو هي فروق كالفروق التي بين أفراد الأسرة يكون فيها المذكر والمؤنث وقوي العاطفة وجامدها والأديب والعالم، وهذه الفروق لم تمنع أن تتكون منها أسرة متوحدة متعاونة متحابة.
الحق أن ليست هناك حضارة غربية وحضارة شرقية، فما نسميه اليوم حضارة غربية بعض نتاج الصين في اكتشافها صناعة الورق والطباعة والبارود، وبعض نتاج الهند والعرب في العلوم الرياضية والفلسفة، كما أنه بعض نتاج فلسفة اليونان وعلمهم وفلسفة المحدثين وعلمهم أمثال: كانت وجاليليو ونيوتن؛ فالعلم والفلسفة والاختراع والمدنية مدينة للنوابغ من جميع أنحاء العالم من هند وصين وعرب ويونان وإنجليز وفرنسيين وألمانيين، فتسميتها بالحضارة الغربية تسمية بمن احتل أعلى طبقة في البناء الذي شيده العالم منذ نشأته واشترك في تشييده النوابغ من كل صقع ومن كل جنس. وتسمية البناء باسم سكان الطبقة العليا تسمية تعسفية أو اصطلاحية، أو هي كالبطاقة توضع على السلعة للتعريف بها.
وكذلك لا أفهم معنى للشرق والغرب بالتفسير الذي يقصدونه، وهو أن هناك فروقا خلقية وطبيعية بين سكان في بقعة وسكان في بقعة أخرى، وأن هذه الفروق قدر محتم كالقدر الذي جعل هذا حجرا وهذا نباتا وهذا حيوانا، وهذا برا وهذا بحرا، وأنه من المستحيل أن يتحول هؤلاء إلى أولئك ولا أولئك إلى هؤلاء. وعبروا عن هذا المعنى بقولهم: «الشرق شرق والغرب غرب» أي: كما نقول: الأرض أرض والسماء سماء.
فهذه نظرية خلقها التعصب وخلقتها السياسة. والحق أن القوانين الطبيعية لا تعرف هذه الحدود الفاصلة، وإنما تعرف موجات يتموج بها العالم كله، وتعرف أن الرقي العقلي وحضارة العالم وعلمه وخلقه سلم واحد تقف منه الأمم على درجات، وتقف كل أمة منه على قدر استعدادها وجدها، وأن ليست الدرجة العليا وقفا على قوم دون قوم ولا على جنس اسمه الغرب دون جنس اسمه الشرق، بل الدرجات تتبادل، والدرجة العليا تحتلها الأمم بالتناوب، وكل أمة بلغت أعلى درجة في شيء أفسحت الطريق أمام الآخرين ليبلغوها وقد يزيدون عليها، وليست الأمم تماثيل واقفة على سلمها لا تتعداه، فالعالم لا يعرف السكون وإنما يعرف الحركة، والسلم عليه دائما حركات بهلوانية يرتفع عليه قوم وينخفض آخرون.
لقد وسع الهوة بين ما يسمى بالشرق وما يسمى بالغرب طائفتان: رجال الدين ورجال السياسة. فأما رجال الدين فقد شاء القدر أن يكون ما يسمى بالغرب مسيحيا وما يسمى بالشرق مسلما أو بوذيا أو غير ذلك. فنشط رجال الدين يبشرون، وكان من وسائل ذلك الرمي بالانحطاط والضعف وتصوير الشرق في صورة وضيعة، واستتبع ذلك رد فعل من الشرق بالكراهية والنفور والتحفظ وسوء الظن وما إلى ذلك. وأما رجال السياسة فقد لعبت برؤوسهم الوطنية، ولعبت الوطنية دورها في العداء بين الأمم الأوروبية نفسها، ولكنها وجدت مجالها الفسيح فيما يسمى بالشرق، فتسابق الساسة الأوروبيون في أن يقدموا لأممهم الهدايا من الشرق بالاستعمار والانتداب والتدخل وبسط النفوذ، وكلما كان المكسب أكثر كانت الأوسمة والألقاب التي يكافأ بها على الوطنية أكثر. وكما حصل رد الفعل من رجال الدين حصل كذلك من رجال السياسة، فقوبلت وطنية الغرب بوطنية الشرق، وحصل النزاع المستمر بالقلم دائما وبغير القلم أحيانا.
ولا شفاء من هذا إلا بتعديل الأساس وهو إلغاء استعمال كلمة الشرق والغرب، بالمعنى الذي تعورف عليه إلى اليوم، والنظر إلى العالم كوحدة، وتبادل المصالح عن طريق التعاون لا طريق الاستغلال، وإحلال الإنسانية محل الوطنية.
لو فكر الساسة تفكيرا عميقا وحسبوا ما يكسبون حقا وما يخسرون حقا من نظرتهم القديمة لوجدوا الخسارة أكثر من المكسب، وأن المصالح المشتركة يمكن التفاهم عليها عن طريق التعاون والأخذ والعطاء، لا عن طريق الأخذ قسرا من غير عطاء، ولا عن طريق الوطنية الضيقة بالنظر إلى الكسب فقط.
وقد آن الأوان لتعديل هذا الأساس، فما يسمى الشرق لم يعد طفلا غرا يضحك عليه باللعب، وما يسمى الغرب قد ذاق مرارة الوطنية الحادة، ودعاة الإصلاح منهم يكثرون ويكثرون من الدعوة إلى الإنسانية بدل الوطنية حتى في معاملة الأمم المهزومة.
وتعديل الأساس على هذا المنوال هو ما تنادي به الطبيعة نفسها، وما ينادي به تقدم العلم وتقدم الاختراع الذي جعل من العالم وحدة. والقوانين الطبيعية لا ترحم، فإن سمع إليها القادة فبشرهم بنعيم مقيم، وإلا فبعذاب أليم.
موقعة شعرية
من عهد النبي
صلى الله عليه وسلم
والاحتكاك مستمر بين المسلمين والإمبراطورية الرومانية الشرقية، بدأ ذلك بكتاب الرسول
صلى الله عليه وسلم
لهرقل، ثم بالفتوح التي فتحها عمر بن الخطاب ومن بعده، وقد ظلت بلاد آسيا الصغرى مسرحا للحروب والقتال بين المسلمين والرومانيين في العصر العباسي، فالمؤرخون يذكرون ما دار من محاربة نثرية بين هارون الرشيد ونيقفور، إذ كتب الثاني للأول: «من نيقفور ملك الروم إلى هارون ملك العرب. أما بعد، فإن الملكة التي كانت قبلي أقامتك مقام الرخ وأقامت نفسها مقام البيدق، فحملت إليك من أموالها ما كنت حقيقا بحمل أضعافه إليها، لكن ذلك من ضعف النساء وحمقهن، فإذا قرأت كتابي هذا فاردد ما حصل لك من أموالها، وإلا فالسيف بيننا وبينك» فأجابه الرشيد: «من هارون أمير المؤمنين إلى نيقفور كلب الروم، وقد قرأت كتابك والجواب ما ترى لا ما تسمع».
ولئن أوخذ على قوله : «كلب الروم» فقد كان يعتمد على قوته وثقته بالنصر - وعلى كل فقد ،سار الرشيد إلى هرقلة
1
ففتح وغنم حتى سأله نيقفور الصلح، وتبين أن الرشيد كان أصدق نظرا.
ثم ما كان في عهد المعتصم من خروج ملك الرومان تيوفيل (ثيوفليوس) إلى زبطرة
2
وقتله وسبيه من المسلمين، فخرج إليه المعتصم وكانت وقعة عمورية المشهورة التي خلفت لنا قصيدة أبي تمام: «السيف أصدق أنباء من الكتب».
ثم كانت الحروب بين سيف الدولة الحمداني والروم، وقد تركت لنا ثروة كبيرة من شعر المتنبي وأبي فراس.
ولكن هذا كله كان شعرا من جانب واحد، أما القصة التي أرويها اليوم فشعر من جانبين بعد أن ضعف المسلمون بعض الشيء واستأسد النمر.
كانت الحادثة في عهد نيقفور الثاني فوكاس
Nicophorus II Phocas
ملك الروم (963-969م) (352-359ه)، وكان قد تولى عرش الروم بالقسطنطينية، وكان معروفا بالإقدام، متصفا بالصفات العسكرية، يتولى بنفسه قيادة الجيوش، وقد غزا بلاد المسلمين لما أحس منهم الضعف بسبب ما نالهم من الانقسام والحروب الداخلية، ففتح المصيصة ودخل طرسوس، فجعل جامعها اصطبلا لدوابه، واستولى على بعض بلاد الشام وعلى قبرص - وليس يهمنا هنا الحروب الآلية والمادية، وإنما يهمنا الحروب الشعرية.
فقد كان من أطرف ما حدث أن نيقفور الثاني هذا بعث إلى الخليفة العباسي قصيدة عربية فظيعة اهتز لها المسلمون أكثر مما اهتزوا لهزيمة حربية وحزنوا لها أكثر مما حزنوا لفقد بعض مدنهم، أما من أنشأ هذه القصيدة لنيقفور فلم نعرف عنه شيئا، والغالب أن يكون عربيا ،متنصرا، وقد روى لنا التاريخ أن بعض عرب تنصروا والتحقوا بالقسطنطينية
3
وقد كان في بلاطه كثير ممن يتقنون العربية، ويقومون بالترجمة وبالمكاتبات الرسمية. وهي قصيدة طويلة تنيف على الخمسين بيتا أرسلها نيقفور إلى الخليفة العباسي المطيع لله، وأولها:
من الملك الطهر المسيحي رسالة
إلى قائم بالملك من آل هاشم
أما سمعت أذناك ما أنا صانع
بلى، فعداك العجز عن فعل حازم
ثغوركم لم يبق فيها لوهنكم
وضعفكم إلا رسوم المعالم
فتحنا ثغور الأرمنية كلها
بفتيان صدق كالليوث الضراغم
ونحن جلبنا الخيل تعلك لجمها
ويلعب فيها بعضها بالشكائم
إلى كل ثغر بالجزيرة آهل
إلى جند قنسرينكم والعواصم
واسترسل في ذكر كثير من البلاد وما فعلوا فيها على هذا النمط، وذكر ما كانوا يفعلون بالأسارى والسبايا:
وكم ذات خدر حرة علوية
منعمة الأطراف غرثى المعاصم
سبينا، وسقنا، خاضعات حواسرا
بغير مهور، لا ولا حكم حاكم
وكم من قتيل قد تركنا مجندلا
يصب دما بين اللها واللهازم
وكم وقعة في الدرب ذاقت كماتكم
فسقناكم سوقا كسوق البهائم
ويرسم في القصيدة خطة سيره فيقول: إنه سيستولى على دمشق مسكن آبائه وغيرها من المدن:
ومسكن آبائي دمشق وإنه
سيرجع فيها ملكها تحت خاتمي
ومصر سأفتحها بسيفي عنوة
وأحرز أموالا بها في غنائمي •••
ألا شمروا يا أهل بغداد ويلكم
فملككم مستضعف غير دائم
رضيتم بأن الديلمي خليفة
فصرتم عبيدا للعبيد الديالم
4
سألقي بجيشي نحو بغداد سالما
إلى باب طاق ثم كرخ القماقم
5
فأحرق أعلاها وأهدم سورها
وأسبي ذراريها على رغم راغم
ومنها إلى شيراز والري فاعلموا
خراسان قصدي بالجيوش الصوارم
فأسرع منها نحو مكة سائرا
أجر جيوشا كالليالي السواجم •••
وأسري إلى القدس التي شرفت لنا
عزيزا مكينا بانيا للدعائم
ولما أتم إعلان خطته قرع المسلمين تقريعا فظيعا بأنهم ساء حكمهم، فلم يعودوا صالحين لإدارة البلاد فقد ملؤوها جورا وظلما، وأفسدوا القضاء بالرشا وشهادة الزور، فكيف بعد يصلحون؟
ملكنا عليكم حين جار قويكم
وعاملتم بالمنكرات العظائم
قضاتكم باعوا جهارا قضاءهم
كبيع ابن يعقوب ببخس الدراهم
شيوخكم بالزور طرا تشاهدوا
وبالبز والبرطيل في كل عالم
سأفتح أرض الشرق طرا ومغربا
وأنشر دين الصلب نشر العمائم
ولم يكتف بإرسال هذه القصيدة للخليفة المطيع، بل نشرها بين المسلمين وفي الجند المحاربين إضعافا لقوتهم، كما توزع اليوم المنشورات بالطيارات، فنالت القصيدة من المسلمين مبلغا يهد الأعصاب ويثير كوامن الشجون.
وكان في جند المسلمين الذين يحاربون في الثغور عالم من أكبر علماء الشافعية اسمه القفال الشاشي الخراساني، ناشر فقه الشافعية في بلاد ما وراء النهر، لم يمنعه علمه وفضله أن يلتحق بالجيش جنديا يوم كان علماء الدين يعرفون حمل السلاح وركوب الخيل، ويجيدون القتال - فكما كان القفال هذا يجيب عن سهم بسهم وضربة سيف بضربة سيف، حملته الغيرة الدينية أن يجيب عن هذه القصيدة بقصيدة من نفس البحر والقافية، بدأها بقوله:
أتاني مقال لامرئ غير عالم
بطرق مجاري القول عند التخاصم •••
وقال: مسيحي وليس كذاكم
أخو قسوة لا يحتذي فعل راحم
وما الملك الطهر المسيحي غادرا
ولا فاجرا ركانة للمظالم
تثبت - هداك الله - إن كنت طالبا
لحق، فليس الخبط فعل المقاسم
ولا تتكبر بالذي أنت لم تنل
كلابس ثوب الزور وسط المقادم
وما العجز في ركض على أهل غرة
وهل ذاك إلا من مخافة هازم
وهل نلت إلا صقع طرسوس بعد أن
تسلمتها من أهلها كالمسالم
وفخر بفعل المسلمين من قبل فقال:
ترى نحن لم نوقع بكم وبلادكم
وقائع يتلى ذكرها في المواسم؟
مئين ثلاثا من سنين تتابعت
ندوس الذرى من هامكم بالمناسم •••
أتذكر هذا أم فؤادك هائم
فليس بناس كل ذا غير هائم •••
طردناكم قهرا إلى أرض رومكم
فطرتم من الشامات طرد النعائم
ورد عليه في أسره وسبيه وبين الفرق بين معاملة المسلمين للأسارى والسبايا ومعاملة الروم لهم فقال:
وعظمت من أمر النساء وعندنا
لكم ألف ألف من إماء وخادم
ولكن كرمنا إذ ظفرنا وأنتم
ظفرتم فكنتم قدوة للألائم
ورد عليه في أمانيه في الفتوح فقال:
وعددت بلدانا تريد افتتاحها
وتلك أمان ساقها حلم حالم
ومن رام فتح الشرق والغرب ناشرا
لدين صليب فهو أخبث رائم
لئن كان بعض العرب طارت قلوبهم
أو ارتد منهم حشوة كالبهائم
فللحق أنصار ولله صفوة
يذودون عنه بالسيوف الصوارم
أتتك خراسان تجر خيولها
مسومة مثل الجراد السوائم
كهول وشبان حماة أحامس
ميامن في الهيجاء غير مشائم
غزاة شروا أرواحهم من إلههم
بجناته والله أوفى مساوم
ورد عليه أمله في فتح بلاد المسلمين بأمل المسلمين في فتح القسطنطينية:
ونرجو بفضل الله فتحا معجلا
ننال بقسطنطين ذات المحارم
هناك يرى نقفور والله قادر
ينادى عليه قائما في المقاسم
ويجري لنا في الروم طرا وأهلها
وأموالها جمعا سهام المغانم
فيضحك منا سن جذلان باسم
ويقرع منه سن خزيان نادم
وإن تسلموا فالسلم فيه سلامة
وأهنأ عيش للفتى عيش سالم
ومن العجيب أنه لما رد عليه في سوء الحكام وفساد القضاة سلم بهذا ولم ينكره وقال:
وقلتم: ملكناكم بجور قضاتكم
وبيعهم أحكامهم بالدراهم
وفى ذلك إقرار بصحة ديننا
وأنا ظلمنا فابتلينا بظالم
وسافرت قصيدة نيقفور برا وبحرا حتى وصلت الأندلس، فعز عليها ألا تساهم في الرد عليها كما ساهم الشرق، فأنشأ ابن حزم الإمام العالم الأديب المعروف قصيدة أخرى على نفس الروي والقافية، أولها:
من المحتمي بالله رب العوالم
ودين رسول الله من آل هاشم
ورثى لحال الخليفة العباسي وأن ليس في يده شيء حتى يدعوه نيقفور:
دعوت إماما ليس من أمر آله
بكفيه إلا كالرسوم الطواسم
دهته الدواهي في خلافته كما
دهت قبله الأملاك دهم الدواهم
ولا عجب من نكبة أو ملمة
تصيب الكريم الحر وابن الأكارم
ولو أنه في حال ماضي جدوده
لجرعتمو منه سموم الأراقم
ويقول: إنكم إنما ظفرتم بالمسلمين لتخاذلهم:
ولما تنازعنا الأمور تخاذلا
ودالت لأهل الجهل دولة ظالم
وقد شغلت فينا الخلائف فتنة
لعبدانهم من تركهم والديالم
وثبتم على أطرافنا عند ذلكم
وثوب لصوص عند غفلة نائم
وفخر بأعمال المسلمين ومجدهم القديم:
ألم ننتزع منكم بأيد وقوة
جميع بلاد الشام ضربة لازم
ومصرا وأرض القيروان بأسرها
وأندلسا قسرا بضرب الجماجم
ثم أنذرهم بالمجد الحديث:
رويدا يعد نحو الخلافة نورها
ويكشف مغبر الوجوه السواهم
وحينئذ تدرون كيف فراركم
إذا صدمتكم خيل جيش مصادم
على سلف العادات منا ومنكم
ليالي أنتم في عداد الغنائم
وأطال في ذكر فعال السابقين وأمله في الحاضرين والقادمين والإسلام والمسلمين، وبشر بفتح القسطنطينية والهند والصين:
وإلى أن يرى الإسلام قد عم حكمه
جميع البلاد بالجيوش الصوارم
وهكذا إلى أن أتمها 137 بيتا وختمها بالموازنة بين قصيدته التي كالعقد الفريد، وبين قصيدة الخصم الباردة:
أتيتم بشعر بارد متخاذل
ضعيف معاني النظم جم البلاعم
فدونكها كالعقد فيه زمرد
ودر وياقوت بإحكام حاكم
ثم أسدل الستار على هذه المعركة العنيفة، ولم يكن الحكم فيها - للأسف - لرجال البلاغة ولا جهابذة النقد، وإنما كان الحكم فيها للسيف، وظل بيت أبي تمام صادقا على مدى الدهور:
السيف أصدق أنباء من الكتب
في حده الحد بين الجد واللعب
في الأدب العربي (1)
أدب الفيل
المعروف أن الأدب العربي عني أكثر ما عني بالإبل لأنها كانت عماد العرب في حياتها، فلم يتركوا شيئا فيها حتى عالجوه جملة وتفصيلا. ومع هذا فلما اتصلوا بغيرهم من الفرس والهنود ورأوهم يعتمدون - فيما يعتمدون - على الفيل، عالجوه في أدبهم كما استخدموه في حروبهم امتثالا لقوله تعالى:
وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة . ولو عاشوا اليوم ورأوا الدبابات والطائرات لاستخدموها في حروبهم وأدبهم.
لقد رأى العرب الفيل في غزو الحبشة لهم لما أتوا من اليمن يريدون هدم الكعبة، ففشلوا وجاءت في شأنهم سورة الفيل.
ثم شاهد العرب الفيلة في حروبهم مع الفرس في غزوة القادسية وجلولا ونهاوند، فلم يخافوا ولم يهنوا، فغلبوهم بجمالهم؛ لأنه كان مع الجمال قلوبهم - وقلوبهم قلوب أسود - وكان مع الفيلة قلوب أعدائهم، وقلوبهم هواء.
وظهر في آخر العصر الأموي شاعر اسمه هارون بن موسى الأزدي بالولاء، كان شاعرا وكان يحارب مع المسلمين بالمولتان من أرض الهند، مارس الفيلة في الحروب فعالجها في الشعر، وقال في صفات الفيل أشعارا كثيرة، وقد حكوا عن هارون هذا أنه اكتشف سرا خطيرا وهو أن الفيل يخاف من الهر، فجاء الموقعة ومعه هر خبأه في ملابسه فلما دنا من الفيل رمى الهر في وجهه ففزع الفيل وولى هاربا، وهربت الفيلة على أثره، وتساقط الأعداء من فوقها فكان ذلك سبب الهزيمة، وأترك تحقيق ذلك لعلماء الحيوان.
ولما رأى المسلمون أن خصومهم يعتمدون على الفيلة في حروبهم، لم يجمدوا، وألفوا في جيوشهم فرقة الفيلة، فكان في جيش أبي جعفر المنصور فرقة الفيلة والفيالين، وكذلك من بعده من خلفاء العباسيين، ومرنوا عليها ومهروا فيها مهارة خصومهم.
وعالج المعتزلة موضوع الفيلة كما عالجوا الحيوانات كلها من ناحية دلالتها على عظمة خالقها، ومن ناحية «أعاجيب ما ركبت عليه من الدفع عن أنفسها والعمل على ما يحييها، وإدراكها ذلك بالطبع من غير روية، وبحس النفس من غير فكرة، ليعتبر معتبر، ويفكر مفكر؛ ولينفي عن نفسه العجب ويعرف مقداره من العجز ونهاية قوته ومبلغ نفاذ بصره، وأن الأعاجم من أجناس الحيوان يبلغ في تدبير معيشته ومصلحة شأنه ما لا يبلغه ذو الروية التامة والمنطق ،البليغ، وأن منها ما يكون ألطف مدخلا، وأرق مسلكا وأصنع كفا وأجود حنجرة»
1
وعلى ذلك ألف المعتزلة القصائد الطوال في بديع صنع الله في الحيوان، كما ألف الجاحظ كتابه الممتع في الحيوان، وأعجب ذوو المشاعر والذوق بالفيل لما رأوا فيه من صفات جميلة جليلة؛ فله من القوة ما يقلع الشجرة الكبيرة ويهدم الحائط الضخم، وهو إلى ذلك وديع لسائسه وداعة الحمل، وهو ثقيل الوزن خفيف الوطء حتى قد يمر بجانب الإنسان، فلا يشعر به لحسن خطوه، وهو بديع المنظر عظيم الصورة، جمع إلى الجلال الجمال، يعجبك بطول خرطومه وجمال أنيابه وسعة أذنيه، قابل للتأديب فيعلم السجود للملوك وممارسة القتال في الحروب، من أذكى الحيوانات وأقربها إلى الإنسان. وقد علمه الإنسان القاسي القسوة؛ فكان ملوك الفرس يمرنونه على قتل من شاءوا بخبطه ودوسه، فكانت الأكاسرة تلقي لها بالرجل فتنقض عليه وتضربه وتدوسه حتى يفارق الحياة، وليس الذنب ذنبها، وإنما ذنب لإنسان الذي علمها، وجرى ذلك إلى الشعر العربي فقال الشاعر:
وأخبط خبط الفيل هامة رأسه
ثم كان الفيل مصدر وحي للأفكار والمعاني عند الفرس والهنود، وانتقل ذلك إلى اللغة العربية عن طريق كتاب كليلة ودمنة، فهو غني بالأمثال المشتقة من الفيلة مثل: «وقال العلماء: إن الرجل الفاضل لا ينبغي أن يرى إلا في مكانين ولا يليق به إلا أحدهما: إما مع الملوك مكرها وإما مع النساك متبتلا، كالفيل إنما بهاؤه وجماله في مكانين: إما في برية وحشيا وإما مركبا للملوك»، وفيه «إن مثلك في هذا كما قال التاجر: إن أرضا يأكل جرذانها مائة من من حديد غير مستنكر إن تخطف بزاتها الفيلة»، وفيه «إن الكريم إذا عثر لم يستعن إلا بالكريم، كالفيل إذا وحل لم يستخرجه إلا الفيلة» إلخ إلخ.
ولحظت العرب في الفيل كثرة أكله وشدته وعظم خلقه، فضربت بذلك كله الأمثال فقالت: آكل من فيل، وأشد من فيل، وأعجب من خلق فيل.
ورووا أنه حضر فيل في المدينة وكان مالك بن أنس يدرس في المسجد، فقال قائل: قد حضر الفيل. فقام تلاميذ مالك ينظرون إلى الفيل وتركوه، إلا يحيى بن يحيى الليثي الأندلسي، فقال له مالك: لم لم تخرج لترى هذا الخلق العجيب وليس في بلادك؟ قال: إنما أتيت لآخذ علمك ولم آت لأنظر الفيل.
وحدث في سنة (371ه) أن وقع خلاف في أسرة بني بويه، وقاتل عضد الدولة البويهي فخر الدولة البويهي أيضا، فانهزم فخر الدولة والتجأ إلى قابوس بن وشمكير بجرجان، فطلبه عضد الدولة، فأبى قابوس أن يسلمه، فتحاربا وانهزم قابوس، وكان في الجيش المنتصر السياسي الأديب الصاحب بن عباد، وكان فيما غنموا فيل عظيم كثر الحديث عنه، فلما سكت السيف تكلم اللسان، فاقترح الصاحب بن عباد على الشعراء أن يقولوا في الفيل، واشترط عليهم أن يكون ما يقولون على وزن وقافية قصيدة عمرو بن معد يكرب البطل الشجاع المشهور فارس اليمن:
أعددت للحدثان سا
بغة
2
وعداء علندى
وكان موفقا في هذا الاختيار، فالقصيدة حماسية قوية، وهي إلى حماستها ظريفة الوزن جيدة الوقع، فتدفق الشعر في الفيل، وكان لنا من ذلك أدب فيل وفير غزير نسوق طرفا منه. فمما قال أبو الحسن الجوهري:
فيل كرضوى
3
حين يلبس
من رقاق الغيم بردا
مثل الغمامة ملئت
أكنافها برقا ورعدا
رأس كقلة شاهق
كسيت من الخيلاء جلدا
فتراه من فرط الدلا
ل مصعرا للناس خدا
يزهى بخرطوم كمثل
ل الصولجان يرد ردا
متمدد كالأفعوا
ن تمده الرمضاء مدا
أو كم راقصة تس
ير به إلى الندمان وجدا
وكأنه بوق يحر
كه لينفخ فيه جدا
يسطو بساريتي لجي
ن يحطمان الصخر هدا
أذناه مروحتان أس
ندتا إلى الفودين عقدا
عيناه غائرتان ضي
قتا لجمع الضوء عمدا
فك كفوهة الخلي
ج يلوك طول الدهر حقدا
تلقاه من بعد فتح
سبه غماما قد تبدى
متنا كبنيان الخور
نق ما يلاقي الدهر كدا
ذنبا كمثل السوط يض
رب حوله ساقا وزندا
يخطو على أمثال أع
مدة الخباء إذا تصدى
أو مثل أميال
4
نضد
ن من الصخور الصم نضدا
متلفع بالكبريا
ء كأنه ملك مفدى
أذكى من الإنسان حتى
لو رأى خللا لسدا
لو أنه ذو لهجة
وفى كتاب الله سردا
ومما قاله عبد الصمد بن بابك:
وممسك البردين في
شبه النقا شية وقدا
فكأنما نسجت عليه
يد الغمام الجون جلدا
وإذا تخلل هضبة
فكأن ظل الليل مدا
وإذا هوى فكأن رك
نا من عماية
5
قد تردى
وإذا استقل رأيت في
أعطافه هزلا وجدا
إلخ. إلخ.
وقال أبو محمد الخازن:
كبنية
6
من عنبر
دعمت سواري الساج نضدا
لولا انقلاب لسانه
لرأيته خصما ألدا
وكأنما خرطومه
راووق خمر مد مدا
أو مثل كم مسبل
أرخته للتوديع سعدى
وإذا التوى فكأنه الث
عبان من جبل تردى
يكسى الحداد وتارة
يكسى نسيج الذرع سردا •••
قد ساد كل بهيمة
كيسا ومعرفة وجدا
فكأنما يوم الوغى
يكسى من الخيلاء بردا
وإذا انثنى من حربه
يسعى فيرقص دستبندا
7
إلخ. إلخ.
وهكذا أقاموا معمعة حول الفيل كما أقاموا معمعة حول الملك.
وفي هذا القدر اليوم كفاية.
فى الأدب العربي (2)
مما أعيب عليه كثيرا من الأدباء ميلهم إلى قصر الأدب على الشعر والنثر الفني المصنوع، فإذا أنا عمدت إلى الكتب المؤلفة في مختار الأدب لم أجد - غالبا - إلا هذين النوعين: شعرا من امرئ القيس إلى شوقي وحافظ، ونثرا من عبد الحميد الكاتب وأمثاله من ابن المقفع والجاحظ، ثم ابن العميد وابن عباد والقاضي الفاضل، إلى المنفلوطي وأضرابه. وأرى أن هذه الفكرة عن الأدب غير صحيحة، وأنها ضارة بالناشئين والمتعلمين؛ إذا تجعلهم يتصورون الأدب على أنه حلية لفظية شكلية، فإذا عمق الكاتب وفكر تفكيرا دقيقا خرج عن الأدب ولم يسم أديبا. وضرر هذا واضح، وهو اتجاه الأدب العربي إلى السطحية، والعناية فيه بالشكل أكثر من العناية بالموضوع. فإذا نحن استثنينا ابن المقفع والجاحظ وأمثالهما من الكتاب الذين كان لأدبهم موضوع رأينا الكثرة العظيمة تتجه نحو الأدب الشكلي الذي تسود فيه العناية بالألفاظ، وتنميقها أكثر من عنايتهم بالأفكار وتوليدها والموضوع ودراسته. على هذا سار ابن العميد وابن عباد والثعالبي والقاضي الفاضل والعماد الأصفهاني وأمثالهم إلى المنفلوطي.
وقد آن لنا أن نعيد النظر في هذا الوضع من ناحية الأدب القديم والحديث؛ فمن ناحية القديم يجب أن نتوسع في فهم معنى الأدب، فندخل فيه نواحي كثيرة لم ينظر إليها على أنها أدب، فالشعر الصوفي والنثر الصوفي أدب يجب أن يدرس، وهو يمثل ناحية من نواحي النفس والعكوف عليها والتأمل فيها، ويجب أن يختار منه في كتب المختارات، والإحياء للغزالي جزء كبير منه نوع من الأدب يجب أن يدرس ويختار منه، ومقدمة ابن خلدون نوع من الأدب؛ لأنها تتعرض لشرح نظريات اجتماعية واقتصادية في أسلوب أدبي، وليس الأسلوب الأدبي مقصورا على السجع والجناس والمزاوجة، بل إن الأسلوب المرسل كأسلوب ابن خلدون أرقى وأجمل من أسلوب القاضي الفاضل؛ لأن المعنى إذا تفه احتاج إلى زينة صناعية تستره، ولكن إذا جمل وغزر كان كالغانية تستغني بجمالها عن حليها.
وبعض رسائل إخوان الصفا أدب، غزيرة الفكر في أسلوب جيد ، ويجب أن يعلم الطالب نوعا من النماذج الفلسفية تعينه على عمق التفكير وسلامة المنطق.
وألف ليلة وليلة أدب كمقامات الحريري، فهي تعلم الخيال الواسع ووصف المجتمع في شكل قصصي، ومقامات الحريري تعلم اللغة والأساليب في خيال محدود. والذي دعانا إلى هجر ألف ليلة وعنترة وعدم تقويمهما نزعتنا الأرستقراطية الضيقة في فهمنا أن الأدب لا يكون إلا حيث اللفظ الضخم والتأنق في التعبير.
وكتب التاريخ ذات الأسلوب الجيد، والتي لا تعنى فقط بالأحداث وتاريخ وقوعها كتب أدب، كتاريخ الطبري، وتجارب الأمم، والفخري.
وكتب الرحلات، كرحلة ابن جبير وابن بطوطة وأمثالهما كتب أدب ذات موضع جيد، يعين على حب المغامرات ودقة النظر وإجادة الوصف.
وهكذا وهكذا، في التراث العربي أنواع كثيرة غير الشعر والنثر الفني يجب أن تعد أدبا، ويجب أن تدرس في باب الأدب، ويختار منها لنماذج الأدب.
أما في الأدب الحديث، فالأمر أوضح، فيجب أن يتجه أدباؤنا إلى الموضوع أكثر من الشكل. ونحمد الله إذ نرى هذا الاتجاه واضحا جليا؛ فالكتب التي تتعرض للمشاكل الاجتماعية أدب، والكتب التي تنقد الأوضاع السياسية أدب. وحسبنا أن نرى أكبر الأدباء في أوروبا اليوم يتجهون هذا الاتجاه. فبرنارد شو يكتب في الاشتراكية ونقد النظم الاجتماعية وتعد كتبه هذه من صميم الأدب كرواياته التمثيلية، و«ه. ج. ولز» يؤلف في التاريخ على نمط جيد، وفي نقد السياسيين والنظم الحاضرة، وما يرجى للعالم من سعادة، وتعد كتبه هذه أدبا كرواياته السينمائية. وبالأمس قرأت للأستاذ ديورانت وصفا لكتاب «الإنسان ذلك المجهول» للدكتور إلكسيس كارليل يقول فيه: إنه أعمق كتب الأدب الأمريكي الحديث وأعظمها قيمة، وأحفلها بالحكمة، وما هذا الكتاب؟ إنه كتاب لطبيب تعرض فيه مؤلفة لجسم الإنسان، وأنواع نشاطه العجيب، والغدد ووظائفها، وجهود العقل ومظاهر النبوغ، ومواهب النوابغ وأسبابها، وأعمال الجسم العجيبة في حفظ الذات ونحو ذلك في أسلوب يبعث على الإعجاب من الجسم الإنساني وعظمته، وعظمة أعماله وعظمة خالقه - فعد هذا أدبا. ففهمنا للأدب على أنه شعر أو نثر يشبه الشعر، أو قصة بديعة، أو نحو ذلك فهم قاصر، والأدب أوسع من ذلك وأشمل، وإن كنا قصرنا إلى الآن في أدب الموضوع وأفرطنا في أدب الشكل، فواجبنا يقضي أن نزيد في الاتجاه نحو أدب الموضوع حتى يعالج النقص.
لست أريد أن أغمط الأسلوب حقه، فالأسلوب عنصر كبير من أهم عناصر الأدب، وله فضل كبير على المعاني، فهو يرقى بالمعنى إلى حد الإعجاب، بل هو قد يعمد إلى المعاني المألوفة فيخرج بها إلى مستوى رفيع، ولكن أريد أن أقول: إننا - وفي عصرنا خاصة - لا يمكن لأديب أن يتبوأ مكانا عالميا إذا اعتمد على الأسلوب وحده، وكان مصابا بالفقر العقلي، وإن الأدب الحق يجب أن يرتكز على ركنين أساسيين لا بد منهما، وهما الموضوع والأسلوب. وإعجاب الناس إذا كان مبنيا على الأسلوب وحده إعجاب موقوت كالإعجاب بأعمال الحواة والمهرجين. إنما يطول الإعجاب يوم يعتمد على الموضوع في أسلوب، لا على الأسلوب له صورة موضوع.
المنطق العملي
كثير من الناس يخطئون فيظنون أن مجال المنطق هو الدراسة النظرية والبحوث الجامعية والبيئات العلمية، ولكن الواقع غير ذلك، فأعمال الحياة كلها خاضعة للمنطق - الفلاح في زراعته، والتاجر في بيعه وشرائه، والإنسان في أسرته وفي وظيفته وفي جمعياته، كل أولئك خاضعون في كل تصرفاتهم للمنطق العملي.
غاية الفرق أن ما يدرس في معاهد العلم هو علم المنطق، وما يستخدم في الحياة اليومية هو فن المنطق، وذلك كعلم الموسيقى الذي يدرس النظريات، وفن الموسيقى الذي يعلم التوقيع على الآلات، وعلم الهندسة وفن الهندسة، وعلم البلاغة، وفن البلاغة، وهكذا. العلم يقرر القواعد النظرية، والفن يمارس الناحية العلمية.
وأعتقد أن من أهم الفروق بين تاجر راق وتاجر منحط وفلاح راق وفلاح منحط وأسرة راقية وأسرة منحطة وأمة راقية وأمة منحطة هو استخدام الطائفة الأولى لفن المنطق، وإهمال الثانية له، وأن من أهم وجوه الإصلاح في الأفراد والجماعات نشر فن المنطق بينهم.
الخصام بين الناس، والنازعات بين الأحزاب، وسوء المعاملة بين الملاك والزراع وبين الباعة والمشترين وبين الرؤساء والمرءوسين وبين أصحاب الحاجات والموظفين، يرجع في الأعم الأغلب إلى سوء التفكير وانعدام فن المنطق أو ضعفه. فرق التفكير في أية طائفة من الطوائف واجعلهم يؤسسون تفكيرهم على المنطق، ويصدرون في أعمالهم حسب فن المنطق ترتق المعاملة وترتق الطائفة.
استعرض ما شئت من التصرفات تجد أن صواب التصرف راجع إلى انطباقه على فن المنطق، وخطأه وما ينتج عنه من أضرار راجع إلى الانحراف عن فن المنطق. هب أن الأسرة قررت شراء سيارة، ففن المنطق يقضي بحساب ميزانية البيت ودرس ثمن السيارة وما تتكلفه كل شهر ومنافعها ومضارها ودرس ما تحتاجه الأسرة من ضروريات وكماليات، ومنزلة السيارة من هذه الأشياء الضرورية والكمالية، ومنزلة ثمن السيارة من ميزانية الأسرة، فإن درس ذلك كله درسا صحيحا ورؤي من المستحسن شراء السيارة، فهذا من فن المنطق. ولكن إن اشتريت السيارة من غير درس وموازنة ومقارنة، فقد أهمل فن المنطق وتعرض رب الأسرة لأضرار كثيرة. وعلى هذا القياس كل ما يحصل من متاعب في الأسرة من جهة الميزانية سببه إهمال فن المنطق.
خذ مثلا آخر في الأسرة: أم مرض طفلها فارتفعت حرارته واستمرت مرتفعة، فسألت الجيران ماذا تفعل! فكل أشار عليها بعمل، فعملت بالإشارة الأولى فلم تنجح، فعملت بالإشارة الثانية، ثم بالثالثة فمات الطفل. إن الطفل إنما مات من إهمال المنطق، فالمنطق الصحيح عرض الطفل على الطبيب ليعرف نوع المرض وما يناسبه من علاج.
هذه أمثلة صغيرة جدا واضحة جدا، ولكن استعرض على ضوئها كل ما يشقي الأسرة تجد أنه راجع إلى إهمال المنطق من الأسرة، أو من ربة الأسرة أو من أولاد الأسرة، وأن الأخطاء راجعة إلى أن أعمالا تعمل قبل أن تدرس ويفكر فيها تفكيرا صحيحا، أو أنها درست ولكن اتخذ لتحقيقها وسائل غير صحيحة، أو قومت فيها اعتبارات سخيفة لأسباب سخيفة غمرت الاعتبارات الصحيحة وهكذا. كذلك الشأن إن نحن وسعنا نظرنا من الأسرة إلى علاقاتنا الاجتماعية والسياسية، فهي تحسن بالمنطق وتسوء بعدم المنطق.
إن التاجر الناجح في الحياة هو التاجر الذي طبق فن المنطق من عرضه لسلعه، وضبطه خرجه ودخله ورأس ماله وربحه، ومعرفته لنفسية الجمهور وطريقة إرضائهم وهكذا. فإن هو سار على البركة لم ينجح إلا إذا وقع مصادفة على فن المنطق، وضحايا التجار وأرباب الأعمال هم في الواقع ضحايا المنطق الفاسد.
انتقل بعد هذا إلى الجو السياسي تر أن البرلمان الصالح هو السائر في بحوثه، وكلام أعضائه ومناقشاتهم وجدلهم وضبط عواطفهم على فن المنطق، فإن هم انحرفوا عنه فبرلمان فاسد، والبلد الناضج في السياسة هو الذي يسيطر عليه رأي عام يعرف فن المنطق، فيحكم على الأشياء والحوادث والأشخاص حكما صحيحا، يقدر الكلام بما فيه من حقائق لا بما فيه من تهويش، ويقدر المسائل بجواهرها لا بأشكالها. والبلد البدائي في السياسة هو الذي لا يدرك فن المنطق؛ فيقدر السياسي بتملقه له، ويقدر الشيء بمنفعته الحاضرة القريبة وإن استتبعت أضرارا بعيدة، ويخدعه التهويش، وهكذا.
كل الناس صالحون لأن يتقدموا في فن المنطق على اختلاف استعدادهم، ومن الناس من منحوا استعدادا فطريا جيدا، فساروا في الحياة على فن المنطق، وإن لم يعلموا أنه منطق ولم يسمعوا باسم المنطق، ولكن مهما كان الاستعداد فالتربية المنطقية تصقله وتزيده قوة وصفاء.
إن العمل الصحيح هو وليد التفكير الصحيح، والتفكير الصحيح وليد شيئين؛ تثقيف واسع بقدر الإمكان، وبيئة صالحة بقدر الإمكان، فإذا أردنا أن نرقي الشعب من ناحية تفكيره وعمله في الحياة حسب فن المنطق وجب أن نثقفه ما وسعنا تثقيفه، فالجهل عدو التفكير الصحيح، ثم يجب أن نصلح ما حوله بالأمثلة والنماذج الصالحة للتفكير الصحيح، ثم نفتح عينه للتجارب. فهذا العمل جرب فحسنت نتائجه فيجب أن يكرر، وهذا العمل جرب فساءت نتائجه فيجب أن يجتنب أو أن تعاد تجربته على نمط آخر.
بل إن فن المنطق لا يستفاد من التعلم النظري بقدر ما يستفاد مما نسميه التربية الاجتماعية، ونعني بذلك أن الجمعية التي يعيش فيها الفرد هي معهد تربية، فإذا كان هذا المعهد يفكر تفكيرا منطقيا ويعمل وفق تفكيره، كان هذا أكبر مرب للفرد، وكل محل تجاري منظم يجري على فن المنطق هو أكبر معلم لأفراده فن المنطق، وكذلك الأسرة والمصنع والحزب، فالبيئة التي يعيش فيها كل فرد هي مدرسته التي تعلمه حسن المنطق أو سوء المنطق؛ وهذه البيئة قابلة للتغير المستمر من سيئ إلى حسن أو من حسن إلى سيئ؛ فالفلاح يسوء تفكيره لأن بيئته سيئة التفكير خاضعة للاعتقادات الخرافية والتقاليد البعيدة عن فن المنطق، والمصنع الفوضى والمتجر الفوضى أسوأ مدرسة لفن المنطق. فأصلح هذا كله يصلح التفكير فيصلح العمل.
والمدرسة النظامية تقوم بنوعين من التربية: التربية عن طريق العلوم النظرية، وهي قليلة الأهمية هنا، والتربية الاجتماعية، وهي تربية السلوك والناحية العملية في الحياة. ومما يؤسف له أن هذه التربية الثانية إلى الآن ضعيفة، وهي التي عليها عماد التفكير الصحيح والعمل على وفق هذا التفكير.
كذلك من أهم معاهد التفكير الصحيح السينما والتمثيل والصحافة؛ فهي دائما تعرض نماذج في التفكير ومن الحوار ومن العمل وفق التفكير، فإذا أصلحت حدث فن المنطق في الأمة ورفعته، وإلا أفسدته ووضعته.
إن عهود الظلام السابقة خلفت لنا ديونا ثقيلة من تقاليد وأوضاع لا تتفق وفن المنطق؛ فعاداتنا في الزواج والطلاق والأفراح والمآتم، واعتقاداتنا في الأضرحة والمشايخ وطب الركة والرقى والتعاويذ ونحو ذلك، كلها ضربات سامة في صميم فن المنطق، تميت الفكر الصحيح، وتجعل الأعمال الصادرة عنه أشبه بأعمال المخبولين والمعتوهين، فإذا رقي الفكر بالوسائل التي ذكرنا حل محلها تدريجا تقاليد مبنية على المنطق.
وعلى الجملة فالحياة ليست إلا سلسلة تفكير تتبعها سلسلة أعمال، فإن ساء التفكير ساء العمل فساءت الحياة، وإن حسن التفكير حسن العمل فحسنت الحياة.
فإن نحن قلنا: إن شقاء الناس من سوء المنطق لم نبعد.
سلطان العقل عند أبي العلاء1
يرى القارئ لتراث أبي العلاء - وخاصة اللزوميات - إشادة بالعقل، واعترافا بقوة سلطانه، فهو أعز ما وهب الإنسان:
والعقل أنفس ما حبيت وإن يضع
يوما يضع، فغوى الشراب وما حلب
وهو الهادي الوحيد لمعرفة الخير والشر، والحق والباطل، فلا حاجة إلى انتظار إمام معصوم يرشد الناس إلى ما يعمل وما يترك - كما يقول الشيعة - فالعقل كفيل ببيان ذلك كله.
يرتجي الناس أن يقوم إمام
ناطق في الكتيبة الخرساء
كذب الظن لا إمام سوى العقل
مشيرا في صبحه والمساء
ولكن الناس في كل زمان ومكان ما قدروا العقل قدره، ولا وفوه حقه، ولا عرفوا كيف ينتفعون به:
ما كان في هذه الدنيا بنو زمن
إلا وعندي من أخبارهم طرف
يخبر العقل أن القوم ما كرموا
ولا أفادوا ولا طابوا ولا عرفوا
عاشوا طويلا وماجوا في ضلالتهم
ولا يفوزون - إن جوزوا - بما اقترفوا
بالعقل والتفكير الصحيح تنقشع الغيوم، وتنجاب الظلماء، وتهون الصعاب وتنكشف الحقائق:
إذا تفكرت فكرا لا يمازجه
فساد عقل صحيح هان ما صعبا •••
خذوا في سبيل العقل تهدوا بهديه
ولا يرجون غير المهيمن راج
ولا تطفئوا نور المليك فإنه
ممتع كل من حجى بسراج •••
وفكروا في الأمور يكشف لكم
بعض الذي تجهلون بالتفكير
والدنيا مملوءة بالتجارب، ولكن التجارب طير اختبأ في عشه، إنما يستطيع أن يصيده من منح العقل والعمر:
إن التجارب طير تألف الخمرا
يصيدها من أفاد اللب والعمرا
والعقل هو المرآة الصادقة ترى فيها الحقائق، لا كلام الناس والإخوان:
أرى اللب مرآة اللبيب ومن يكن
مرائيه الإخوان يصدق ويكذب
وإنما يقيد العقل ويمنعه عن إدراك الحق والعمل به ما ركب فيه من طبع وشهوات، فالعقل مغلولا بالشهوات كالشمس يحجبها الغمام:
يتحارب الطبع الذي مزجت به
مهج الأنام، وعقلهم، فيغله
ويظل ينظر، ما سناه بنافع
كالشمس يسترها الغمام وظله
حتى إذا حضر الحمام تبينوا
أن الذي فعلوه جهل كله •••
واللب حارب فينا
طبعا يكابد حربه
والعقل أحسن هاد لفعل الخير وترك الشر، وخير الخير ما أتاه صاحبه لأنه جميل، لا رغبة في مثوبة، ولا خوفا من عقوبة:
عليك العقل وافعل ما رآه
جميلا فهو مشتار الشوار
ولا تقبل من التوراة حكما
فإن الحق عنها في توار •••
فلتفعل النفس الجميل؛ لأنه
خير وأحسن لا لأجل ثوابها
وأخيرا فالعقل نبي صادق، ومن اتبعه رشد، ومن صد عنه غوى:
أيها الغر إن خصصت بعقل
فاسألنه فكل عقل نبي
وهكذا وهكذا ملئت اللزوميات بهذه المعاني وكررت على أشكال مختلفة نكتفي منها بهذه المثل لندل بها على قيمة العقل في نظره وسلطانه والاعتداد به، ولننظر بعد كيف استخدمه.
لقد عمل على نضج عقل أبي العلاء ذكاؤه الفطري واطلاعه على الفلسفة اليونانية وصداها في الفلسفة الإسلامية، وطول تفكيره وتأمله الذي أعانه عليه وحدته وعزلته وتجرده من شواغل الدنيا ما استطاع.
وفي الفلسفة اليونانية لون زاه ألوان العقلية ومن أثر العقليين الذين يرون للعقل الحق المطلق في الحكم على الأشياء والبرهنة على صحتها أو بطلانها، ولا يؤمنون بشيء ولا عقيدة ولا تقاليد ولا مواضعات إلا إذا قام البرهان العقلي على صحتها، وما لم يقم البرهان عليه لا يسلمون به مهما كانت السلطة التي تجيء به، وبذلك أخضع هؤلاء اليونانيون كل شيء للعقل وسلطانه، فكما خلقوا العلوم الرياضية بعقولهم كذلك خلقوا الفضائل والرذائل بعقولهم، وقرروا النظم الاجتماعية، وأشكال الحكم السياسية بعقولهم، من غير أن تمليها عليهم أي سلطة خارجية؛ فالعالم عندهم عالم عقلي، والإنسان ضال ما لم يكتشف قوانين نفسه وقوانين الطبيعة حوله بعقل، ويسر على القوانين التي توائم بين نفسه والعالم الخارجي كما يرشده إليه عقله.
قرأ أبو العلاء هذا في الفلسفة اليونانية وتأثر به تأثرا عميقا، يدل عليه ما أشرنا إليه من قبل من تمجيد العقل وسلطانه، ولكنه من ناحية أخرى نشأ في الأوساط الدينية، وقرأ تعاليمها، وتعمق في مبادئها، وهي تقضي بأن وراء العالم المادي المنظور عالما روحانيا غير منظور، وإن كان السلطان في عالم المادة للقانون الطبيعي يدركه العقل، فالسلطان في عالم الروح لله، وإن كانت آلة العالم المنظور وإدراك قوانينه هو العقل، فآلة العالم الروحي وإدراك قوانينه هو الوحي، وفي هذا العالم الروحاني الله لا العقل هو مصدر التشريع وهو المرشد إلى الفضائل والرذائل، وهو واضع الشعائر الدينية، وهو الذي ربط بها الثواب والعقاب، وعلى الإنسان أن يطيع أوامر الدين ولو لم يهتد إلى بعضها بعقله؛ لأن قوة العقل في الإنسان محدودة، ووراء قوة العقل قوة الوحي .
هاتان الصورتان الصغيرتان جدا إذا انعكستا في النفس سببتا الحيرة والاضطراب والقلق، وليس يسلم من قلقها إلا من ألحد جدا فلم يخضع إلا لحكم العقل، أو من آمن جدا فأسلم عقله لإيمانه. وهناك أصناف من المذاهب الدينية والفلسفية أرادت التوفيق بين هاتين الصورتين بأشكال مختلفة مما ليس مقصدنا الآن.
فلننظر إلى أبي العلاء المعري كيف وقف من هاتين الصورتين، وكيف كان موقفه من سلطان العقل وسلطان الدين.
لقد أعلى شأن العقل كما رأينا، وأراد أن يستخدمه على طول الطريق، فبدأ ينقد به العادات والتقاليد ونظام الحياة الاجتماعية في عصره، فكان ذلك موفقا كل التوفيق.
لقد نقد الملوك والأمراء؛ لأنهم بوضعهم العقلي خدام الأمة:
إذا ما تبينا الأمور تكشفت
لنا وأمير القوم للقوم خادم
فما بال هؤلاء الخدام يعدون عليها ويظلمونها:
مل المقام فكم أعاشر أمة
أمرت بغير صلاحها أمراؤها
ظلموا الرعية واستجازوا كيدها
وعدوا مصالحها وهم أجراؤها
وهم يصدرون من الأوامر ما لا يتفق والعقل والعدل، ثم ينفذون ما يأمرون بقوتهم وسلطانهم لا بإقناعهم، فإذا نفذ أمرهم قيل: ما أسوسهم:
يسوسون الأمور بغير عقل
فينفذ أمرهم ويقال: ساسه
فأف من الحياة وأف مني
ومن زمن رياسته خساسه
وهؤلاء الولاة المسيطرون على الناس لا عقل لهم، ولا عدل عندهم، شياطين في ثياب ولاة، لا يهمهم جوع الناس إذا ملئت بطونهم، وخمرت رءوسهم:
ساس الأنام شياطين مسلطة
في كل مصر من الوالين شيطان
من ليس يحفل خمص الناس كلهم
إن بات يشرب خمرا وهو مبطان
وحول هؤلاء الولاة بطانة قد جمدت عواطفهم كأنها الحجارة أو أشد قسوة، لا يرحمون دمعة مظلوم ولا يجيبون صرخة مستغيث:
يجور فينفي الملك عن مستحقه
فتسكب أسراب العيون الدوامع
ومن حوله قوم كأن وجوههم
صفا لم يلين بالغيوث الهوامع
والقضاة لا عقل ولا عدل:
وأي امرئ في الناس ألفي قاضيا
فلم يمض أحكاما كحكم سدوم؟
وفقهاء صناعتهم الكلام، ولا روح ولا أحلام:
كأن نفوس الناس والله شاهد
نفوس فراش ما لهن حلوم
وقالوا: فقيه والفقيه مموه
وحلف جدال والكلام كلوم
ووعاظ يقولون ما لا يفعلون، ويأتون ما ينكرون:
رويدك قد غررت وأنت حر
بصاحب حيلة يعظ النساء
يحرم فيكم الصهباء صبحا
ويشربها على عمد مساء
وشعراء ليسوا إلا لصوصا يعدون على من قبلهم في سرقة أقوالهم، ويعدون على الأغنياء بمديحهم لسلب أموالهم:
وما شعراؤكم إلا ذئاب
تلصص في المدائح والشباب
أضر - لمن تود - من الأعادي
وأسرق للمقال من الزباب
2
وقوم تسودهم الخرافة فيلجئون إلى المنجمين والعرافين والمعزمين، وما لهؤلاء من علم، ولكنها شباك تنصب لاستدرار الأموال من المغفلين والمغفلات:
متكهن ومنجم ومعزم
وجميع ذاك تحيل لمعاش •••
لقد بكرت في خفها وإزارها
لتسأل بالأمر الضرير المنجما
وما عنده علم فيخبرها به
ولا هو من أهل الحجا فيرجما
ويوهم جهال المحلة أنه
يظل لأسرار الغيوب مترجما
ولو سألوه بالذي فوق صدره
لجاء بمين أو أرم وجمجما •••
سألت منجمها عن الطفل الذي
في المهد كم هو عائش من دهره
فأجابها مائة ليأخذ درهما
وأتى الحمام وليدها في شهره
وبعد أن نقدهم طبقات، من الملوك إلى القضاة إلى الوعاظ إلى التجار إلى النساء، نقدهم جملة، فكل الناس في زمان ومكان لا يصلحون إلا للفناء:
وهكذا كان أهل الأرض مذ فطروا
فلا يظن جهول أنهم فسدوا •••
لو غربل الناس كيما يعدموا سقطا
لما تحصل شيء في الغرابيل
أو قيل للنار: خصي من جنى، أكلت
أجسادهم وأبت أكل السرابيل •••
يحسن مرأى لبني آدم
وكلهم في الذوق لا يعذب
ما فيهم بر ولا ناسك
إلا إلى نفع له يجذب
أفضل من أفضلهم صخرة
لا تظلم الناس ولا تكذب
وسبب فسادهم أنهم منحوا العقل فلم يصغوا إليه ولم يلتفتوا له، وتجاذبهم عقل يرشد وطبع يغوي، فجروا وراء طبعهم ولم يلتفتوا إلى عقلهم:
فأوسع بني حواء هجرا، فإنهم
يسيرون في نهج من الغدر لاحب
وإن غير الإثم الوجوه فما ترى
لدى الحشر إلا كل أسود شاحب
إذا ما أشار العقل بالرشد جرهم
إلى الغي طبع أخذه أخذ ساحب •••
واللب حاول أن يهذب أهله
فإذا البرية ما لها تهذيب
من رام إنقاء الغراب لكى يرى
وضع الجناح أصابه تعذيب •••
إلى الله أشكو مهجة لا تطيعني
وعالم سوء ليس فيه رشيد
حجى مثل مهجور المنازل دائر
وجهل كمسكون الديار مشيد •••
العقل إن يضعف يكن من هذه ال
دنيا كعاشق مومس تغويه
أو يقو فهي له كحرة عاقل
حسناء يهواها ولا تهويه •••
فطبعك سلطان لعقلك غالب
تداوله أهواؤه بالتشصص
سقيت شرابا لم تهنأ ببرده
فعنيت من بعد الصدى بالتغصص
وهكذا أفاض في نقد المجتمع ومظاهره ونظمه وأخلاقه، وكان في كل ذلك موفقا كل التوفيق، ومظهر توفيقه أنه استطاع في مهارة أن يدرك عيوب المجتمع في جملتها وتفصيلها، ويعالج ظواهرها، ويعمق في النفس الإنسانية في دقة وتحليل، فيصل إلى دخائلها. ثم هو لم يتناقض في هذا الباب ولم يضطرب ولم يمجمج، وجرى على وتيرة واحدة في صراحة ووضوح وانسجام.
وسبب نجاحه في هذا أمران: الأول: أن الأمور الاجتماعية والأخلاقية التي نقدها هي في صميم اختصاص العقل؛ فالعقل أداة صالحة لربط الأسباب بالمسببات، والأمور الاجتماعية والأخلاقية تجارب تحدث فتحدث نتائجها، تظلم الملوك والحكومات فتسوء حال الأمة، وتعدل فيصلح حالها، وللوعاظ غاية، هي إرشاد الناس من طريق إعطائهم المثل بأنفسهم، والدعوة إلى الخير بألسنتهم؛ فإذا لم تتحقق هذه الأمور فالوعاظ شر، وهكذا. فكل ما نقده أبو العلاء من هذا القبيل داخل في دائرة العقل والتجارب. والأخلاق العقلية التي قررتها الفلسفة اليونانية هي بعينها تقريبا الأخلاق الدينية؛ لأنها أيضا نتيجة تجارب لصالح المجتمع. وقد نقدت مظاهر المجتمع والأخلاق من قبل أبي العلاء، كما فعل ابن المقفع والجاحظ مثلا، ولكن مهارة أبي العلاء كانت في إبرازها إبرازا فنيا رائعا. والسبب الثاني في نجاحه في هذا الباب: أن ناقد هذه الأمور متمتع بكثير من الحرية، فلا لوم عليه إذا نقد المجتمع ونقد الأخلاق، بل إن الناس يصفقون للناقد ويعلون شأنه؛ لأنه يدعوهم بنقده إلى الكمال المحبب إليهم من أعماق نفوسهم؛ لذلك صرح بكل ما يريد في هذا الباب وهو آمن مطمئن فنجح.
بعد هذا انتقل خطوة أخرى - في النقد - أدق، وهي تحكيم عقله في المسائل الدينية الشرعية الفرعية، مثل: اليد كيف تودى بخمسمائة دينار، وتقطع في ربع دينار؟
يد بخمس مئين عسجد وديت
ما بالها قطعت في ربع دينار
تحكم ما لنا إلا السكوت له
وأن نعوذ بمولانا من النار
ومثل أن الإسلام جاء لمحو الأوثان والأنصاب، فكيف عظمت بعض شعائر الحج كاستلام الحجر الأسود وتقبيله ونحو ذلك:
ما الركن في قول ناس لست أذكرهم
إلا بقية أوثان وأنصاب
وهذا النوع قد عرض له أناس من أول عهد الإسلام، أرادوا أن يحكموا العقل في التعاليم الإسلامية فصدوا، كالتي سألت عائشة: ما بال المرأة تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ فقالت عائشة: أحرورية أنت؟ وكالذي روي أن ربيعة الرأي سأل سعيد بن المسيب عن عقل أصابع المرأة: ما عقل الإصبع الواحدة؟ قال: عشرة من الإبل. قال: فإصبعان؟ قال: عشرون، قال: فثلاث؟ قال: ثلاثون. قال: فأربع؟ قال: عشرون. قال ربيعة: فعندما عظم جرحها نقص عقلها؟ فقال له سعيد: أعراقي أنت؟ إنما هي السنة.
ومن أجل هذا روي عن علي أنه قال: «لو كان الدين بالعقل لكان المسح على باطن الخفين خيرا من المسح على ظاهرهما»، فجاء أبو العلاء ينقد على هذا النحو فلم يرتح لقوله، ورد عليه الشعراء المتدينون فيما قال.
ثم خطوة أخرى أجرأ وهي عرضه الحديث والأخبار الدينية على عقله، وصرخته بأن كثيرا منها لا يرتضيه العقل، سواء في ذلك ما أتى به اليهود أو النصارى أو المسلمون:
وجاءتنا شرائع كل قوم
على آثار شيء رتبوه
وغير بعضهم أقوال بعض
وأبطلت النهى ما أوجبوه •••
جاءت أحاديث إن صحت، فإن لها
شأنا ولكن فيها ضعف إسناد
فشاور العقل واترك غيره هدرا
فالعقل خير مشير ضمه النادي •••
هل صح قول من الحاكي فنقبله
أم كل ذاك أباطيل وأسمار
أما العقول فآلت أنه كذب
والعقل غرس له بالصدق إثمار •••
ضلت يهود وإنما توراتها
كذب من العلماء والأحبار
قد أسندوا عن مثلهم ثم اعتلوا
فنموا بإسناد إلى الجبار
وإذا غلبت مناضلا عن دينه
ألقى مقالده إلى الأخبار •••
مسيحية من قبلها موسوية
حكت لك أخبارا بعيدا ثبوتها
وفارس قد شبت لها النار وادعت
لنيرانها ألا يجوز خبوتها
فما هذه الأيام إلا نظائر
تساوت بها آحادها وسبوتها •••
تفوه دهركم عجبا فأصغوا
إلى ما ظل يخبر، يا شهود
إذا افتكر الذين لهم عقول
رأوا نبأ يحق له السهود
غدا أهل الشرائع في اختلاف
تقض به المضاجع والمهود
فقد كذبت على عيسى النصارى
كما كذبت على موسى اليهود
ولم تستحدث الأيام خلفا
ولا حالت عن الزمن العهود •••
دين وكفر وأنباء تقص وفر
قان ينص وتوراة وإنجيل
في كل جيل أباطيل يدان بها
فهل تفرد يوما بالهدى جيل •••
إذا رجع الحصيف إلى حجاه
تهاون بالمذاهب وازدراها
فخذ منها بما أداه لب
ولا يغمسك جهل في صراها
والناس لا يحكمون عقلهم في دينهم، إنما هي تقاليد يتبعونها وعادات تحرون عليها:
وينشأ ناشئ الفتيان منا
على ما كان عوده أبوه
وما دان الفتى بحجى ولكن
يعلمه التدين أقربوه
وطفل الفارسي له ولاة
بأفعال التمجس دربوه •••
فى كل أمرك تقليد رضيت به
حتى مقالك: ربي واحد أحد
وقد أمرنا بفكر في بدائعه
وإن تفكر فيه معشر لحدوا
وأهل كل جدال يمسكون به
إذا رأوا نور حق ظاهر جحدوا
وقد سبقه المعتزلة إلى تحكيم العقل في الأحاديث، وأنكروا منها ما لا يتفق والعقل، وخاصة «النظام» فقد كان ينكر الحديث في صراحة إذا كان عقله لا يقره، ولا يكتفي في الحكم على الحديث بالوضع إذا ضعف إسناده، بل أهم من ذلك إذا لم يصبر أمام امتحان العقل؛ ولكن أبا العلاء جرؤ على ما لم يجرؤ عليه النظام وأمثاله، وأراد أن يعرض الأخبار الدينية كلها - أحاديث أو غيرها - على محك العقل، وختم هذه المرحلة بقوله الشديد الجريء:
تقدم صاحب التوراة موسى
وأوقع في الخسار من افتراها
فقال رجاله: وحي أتاه
وقال الآخرون: بل افتراها
وما حجي إلى أحجار بيت
كؤوس الخمر تشرب في ذراها
إذا رجع الحكيم إلى حجاه
تهاون بالشرائع وازدراها •••
وقد كذب الذي يغدو بعقل
لتصحيح الشروع
3
وقد مرضنه
وقد قوبلت أقواله في هذا الباب ببعض السخط، لكن سار فيه أيضا بخطى ثابتة غير مضطربة؛ وإنما قلت: «ببعض السخط»؛ لأنه صاغها صياغة غامضة يحتمل كثير منها التأويل في جانبه.
بعد ذلك نأتي إلى المرحلة الثالثة في نقده العقلي، وهي أخطر المراحل وأشدها وأوعرها، وهي التي تعرض فيها لصميم الدين: هل الله موجود أو لا؟ وهل هناك وحي أو لا؟ وهل هناك حياة أخرى أو لا؟ وهل الإنسان في هذا العالم مجبور أم مختار؟ ما الحق في ذلك كله؟ وأين أجده؟ وكيف أجده؟
هنا كانت تتراءى له الصورتان السابقتان المتعارضتان: صورة الفلسفة اليونانية ومن نحا منحاها، وهي التي تصور أن العقل وحده أداة المعرفة، وهو وحده الذي يستطيع الوصول إلى الحقائق في ذاتها. والمعارف التي تصلنا عن طريقه هي وحدها الحق ولا حق غيرها. والصورة الدينية التي تصور أن الحق يأتي من الله على لسان أنبيائه، وأن مرد الحق إلى الوحي لا إلى الفلسفة، وأن مركز الحق في القلب لا في الرأس. لم يستطع أبو العلاء التوفيق بين الصورتين، ولا أن يكون صورة واحدة مؤلفة منهما، ولا أن يضع لهذه دائرة اختصاص ولتلك دائرة، إنما تركهما - كما هما - تعتركان، وكل ما فعل أنه كان ينظر أحيانا إلى هذه الصورة فتعجبه، ويستلهمها فتلهمه؛ وينظر أحيانا إلى الأخرى فتعجبه، ويستلهمها فتلهمه. إن نظر إلى الأولى ألهمته إلحادا، وإن نظر إلى الأخرى ألهمته إيمانا. ينظر إلى الأولى فيتوقد ذهنه فلا يرى إلا أسبابا ومسببات، ومنطقا ونتائج ومقدمات لا تسلم إلى إسلام، فينكر. وينظر إلى الأخرى فيخفق قلبه ويرهف شعوره، فيترنح من نشوة الإيمان. وهو في كلتا الحالتين صادق معبر عن نفسه أصدق تعبير. وهذا الموقف ليس بعيدا عن حال كثير من المثقفين في كل عصر، فكم منهم يحار ويصدق، ويلحد ويؤمن؛ كالنفس تشدو لها أنغاما حزينة فتحزن، وأنغاما سارة فتسر. والإنسان يطغى أن رآه استغنى، وإذا أدركه الغرق قال: آمنت أن لا إله إلا هو. وأكثر مؤرخي أبي العلاء يخطئون إذ يفرضون في أبي العلاء وحدة الزمان والمكان والفكرة، بل يتصورون نفسه الإنسانية حجرا لا تعتريه حالات؛ فمن اعتقد إيمانه تأول له آيات الكفر، ومن اعتقد كفره لم يأبه بآيات الإيمان. والحق أن من أكفره صادق، ومن جعله مؤمنا صادق؛ كلاهما يصور حالة من حالات نفسه، وما أكثر حالات التغير في النفس اليقظة المتوثبة، ثم هو في حال إيمانه صريح لا يحتاج إلى كناية أو مجاز؛ فهو يتفق وآراء الجمهور. وفى حال إلحاده مضطر إلى الكناية والمجاز خشية السوء. ومع هذا فقد تستغويه الفكرة. فلا يعبأ بالناس ولا يعبأ بموته أو حياته:
لا تقيد لفظي علي فإني
مثل غيري تكلمي بالمجاز •••
وليس على الحقائق كل لفظي
ولكن فيه أصناف المجاز •••
اصدق إلى أن تظن الصدق مهلكة
وعند ذلك فاقعد كاذبا وقم •••
لا تخبرن بكنه دينك معشرا
شطرا، وإن تفعل فأنت مغرر
لنعد إلى موقف أبي العلاء من هذه المسائل الأساسية في الدين في ضوء هذا الرأي: هل الله موجود؟ اللزوميات مليئة بالإجابة بنعم:
إذا كنت من فرط السفاه معطلا
فيا جاحد اشهد أنني غير جاحد
أخاف من الله العقوبة آجلا
وأزعم أن الأمر في يد واحد
فإني رأيت الملحدين تعودهم
ندامتهم عند الأكف اللواحد •••
تعالى الله كم ملك مهيب
تبدل بعد قصر ضيق لحد
أقر بأن لي ربا قديرا
ولا ألقى بدائعه بجحد •••
للمليك المذكرات عبيد
وكذاك المؤنثات إماء
فالهلال المنيف والبدر والفر
قد والصبح والثرى والماء
والثريا والشمس والنار والنثر
ة والأرض والضحى والسماء
هذه كلها لربك ما عا
بك في قول ذلك الحكماء
خلني يا أخي أستغفر الله
فلم يبق في إلا الذماء •••
ليفعل الدهر ما يهم به
إن ظنوني بخالقي حسنه
لا تيأس النفس من تفضله
ولو أقامت في النار ألف سنه •••
هو الفلك الدوار أجراه ربه
على ما ترى من أن تجري الفلك
له العز لم يشركه في الملك غيره
فيا جهل إنسان يقول: لي الملك
إلخ ... إلخ.
وأحيانا أخرى نجد له ما يمجمج به في الإنكار كقوله:
أما الإله فلست مدركه
فاحذر لجيلك فوق الأرض إسخاطا •••
متى عرض الحجا لله ضاقت
مذاهبه عليه وقد عرضنه
هل الكون قديم أزلي كما قال أرسطو، أو هو حادث فان كما يقول الدين؟
أحيانا هذا وأحيانا ذاك. فمن ناحية يقول:
ليس اعتقادي خلود النجوم
ولا مذهبي قدم العالم
ومن ناحية أخرى نقول:
إذا صح ما قال الحكيم فما خلا
زماني مني منذ كان ولا يخلو
أفرق طورا ثم أجمع تارة
ومثلي في حالاته السدر والنخل •••
خالق لا يشك فيه قديم
وزمان على الأنام تقادم
جائز أن يكون آدم هذا
قبله آدم على إثر آدم
هل الإنسان في هذا العالم مجبر أم مختار؟
أما أكثر شعره فالقول بالجبر:
وما فسدت أخلاقنا باختيارنا
ولكن بأمر سببته المقادر •••
جبلة بالفساد واشجة
إن لامها المرء لام جابلها
وأحيانا يميل إلى الاختيار ومسئولية الإنسان:
لا ذنب للدنيا فكيف نلومها
واللوم يلحقني وأهل نحاسي
عنب وخمر في الإناء وشارب
فمن الملوم أعاصر أم حاسي؟
وأحيانا يرى التوسط بين الجبر والاختيار:
لا تعش مجبرا ولا قدريا
واجتهد في توسط بين بينا
هل هناك بعث وحياة أخرى؟
أحيانا نعم وأحيانا لا؛ فنعم كقوله:
وما أنا يائس من عفو ربي
على ما كان من عمد وسهو •••
أما الحياة فلا أرجو نوافلها
لكنني لإلهي خائف راجي
أأصبح في الدنيا كما هو عالم
وأدخل نارا مثل قيصر أو كسرى
وإني لأرجو منه يوم تجاوز
فيأمر بي ذات اليمين إلى اليسرى
4 •••
قال المنجم والطبيب كلاهما:
لا تحشر الأجساد، قلت: إليكما
إن صح قولكما فلست بخاسر
أو صح قولي فالخسار عليكما •••
خلق الناس للبقاء فضلت
أمة يحسبونهم للنفاد
إنما ينقلون من دار أعما
ل إلى دار شقوة أو رشاد
وأحيانا «لا» كقوله:
خذ المرآة وأستخبر نجوما
يمر بمطعم الأري المشور
تدل على الحمام بلا ارتياب
ولكن لا تدل على النشور •••
ضحكنا وكان الضحك منا سفاهة
وحق لسكان البسيطة أن يبكوا
تحطمنا الأيام حتى كأننا
زجاج ولكن لا يعاد لنا سبك •••
ما لي بما بعد الردى مخبره
قد أدمت الأنوف هذي البره
الليل والإصباح والقيظ وال
إبراد والمنزل والمقبره
كم رام سبر الأمر من قبلنا
فنادت القدرة لن تسبره •••
دفناهم في الأرض دفن تيقن
ولا علم بالأرواح غير ظنون
وأخيرا: هل هناك وحي وأنبياء أو لا؟
الجواب أيضا: نعم ولا.
فنعم في مثل قوله:
أم الكتاب إذا قومت محكمها
وجدتها لأداء الفرض تكفيكا
لم يشف قلبك فرقان ولا عظة
وآية لو أطعت الله تشفيكا •••
أفملة الإسلام ينكر منكر
وقضاء ربك صاغها وأتى بها
و«لا» في مثل قوله:
أفيقوا أفيقوا يا غواة فإنما
دياناتكم مكر من القدماء
أرادوا بها جمع الحطام فأدركوا
وبادوا وماتت سنة اللؤماء •••
قالت معاشر: لم يبعث إلهكم
إلى البرية عيساها ولا موسى
وإنما جعلوا للقوم مأكلة
وصيروا لجميع الناس ناموسا
ولو قدرت لعاقبت الذين طغوا
حتى يعود حليف الغي مرموسا •••
إن الشرائع ألقت بيننا إحنا
وأودعتنا أفانين العداوات
وهل أبيحت نساء القوم عن عرض
للعرب إلا بأحكام النبوات •••
هفت الحنيفة، والنصارى ما اهتدت
ويهود حارت، والمجوس مضلله
اثنان أهل الأرض: ذو عقل بلا
دين وآخر دين لا عقل له
وهكذا. وهكذا. •••
لقد فكر أبو العلاء طويلا بعد هذه المرحلة الطويلة التي قطعها في إعمال العقل، واستعرض ما فكر وما قال. فماذا رأى؟ رأى تناقضا في الفكرة وفي القول، يسلمه التفكير يوما إلى الشيء أنه أبيض فيعلنه، ثم يسلمه يوما آخر إلى أنه أسود فيعلنه، فإذا هو آخر الأمر يلعن أنه أسود وأبيض معا ومحال ذلك. أيهما الحق أهو أسود أم أبيض؟ لا بد أن يكون أسود فقط أو أبيض فقط، إما أسود وأبيض معا فضلال، وما هذا العقل الذي يسلمني إلى الشيء ونقيضه؟ عند ذلك صرخ من أعماق نفسه بأنه حائر لم يوفق، ضال لم يهتد، وأن ليس في الناس من يستطيع هدايته، فكلهم إما عاقل لا دين له أو دين لا عقل له، وهو يريد أن يكون دينا عاقلا، والمطمئنون الذين استطاعوا أن ينجوا من الحيرة مقلدون لم يؤمنوا عن فكر وعقل، فهؤلاء ضالون لتقليدهم، وهؤلاء ضالون لحيرتهم. والعقل وما أدراك ما العقل؟ أسلمت له قيادي، فلم يسلم لى قياده، وآمنت به كل الإيمان، وفضلته على كل الأديان، وجعلته نبيا من الأنبياء، ونورا يلمع في الظلماء، فلم يؤد رسالة، ولم ينقع غلة، فلأكفر به كما كفرت بغيره، ولأنكر سلطانه كما أنكرت كل سلطة، ولأكسر قيثارتي التي غنيت عليها في مدحه، ولأضع أناشيد أخرى في ذمه، فهذا هو الجزاء الوفاق لمن وفيت له فلم يف لي، وأكبرت شأنه فأصغر شأني، وركنت إليه فحيرني. جربت النقل فلم أطمئن إليه ، وجربت العقل فلم أطمئن إليه، فلأرفع علم الشك، وأعلن أنه لا يقين.
سألت عقلي فلم يخبر وقلت له:
سل الرجال فما أفتوا ولا عرفوا
قالوا فمانوا فلما أن حدوتهم
إلى القياس أبانوا العجز واعترفوا •••
أرواحنا منا وليس لنا بها
علم فكيف إذا حوتها الأقبر •••
سألتموني فأعيتني إجابتكم
من ادعى أنه دار فقد كذبا •••
أصبحت في يومي أسائل عن غدي
متحيرا عن حاله متندسا
أما اليقين فلا يقين وإنما
أقصى اجتهادي أن أظن وأحدسا •••
وقد عدم التيقن في زمان
حصلنا من حجاه على التظني •••
نفارق العيش لم نظفر بمعرفة
أي المعاني بأهل الأرض مقصود
لم تعطنا العلم أخبار يجيء بها
نقل ولا كوكب في الأرض مرصود •••
إنما نحن في ضلال وتعليل
فإن كنت ذا يقين فهاته
ولحب الصحيح آثرت الرو
م انتساب الفتى إلى أمهاته
جهلوا من أبوه إلا ظنونا
وطلا الوحش لاحق بمهاته •••
وبصير الأقوام مثلي أعمى
فهلموا في حندس نتصادم
لقد تركت الدنيا للدين، والنقل للعقل، ولذة المادة للذة الروح، فلا أفدت هذا ولا ذاك. وأخيرا:
رحلت فلا دنيا ولا دين نلته
وما أوبتي إلا السفاهة والخرق
عقدة أبي العلاء أتت من عظمته، وضعفه نبع من قوته. قد منح عقلا قويا دائب النشاط يريد أن يطحن كل شيء يصل إليه ليعرف كنهه، وشعورا قويا رحيما بالإنسان راثيا لبؤسه، رحيما بالحيوان معذبا نفسه في سبيل الرحمة به. ومثل هذا الشعور القوي يريد أن يؤمن، ومثل هذا العقل القوي يريد أن يواصل البحث حتى يصل إلى الحقيقة. ولكنه - وهنا موضع العقدة - يريد أن يؤمن بعقله كما آمن بشعوره، والعقل ليس أداة صالحة لإدراك الغيب، إدراك الله والحياة الأخرى والوحي والملائكة وما إلى ذلك؛ إنما خلق ليكون أداة للحياة الدنيا ووسيلة لحفظها وبقائها ورقيها، وهو عاجز كل العجز أن يرسم بريشته عالم الغيب المجهول الذي لا يخضع لقانون سبب ومسبب، ومقدمة ونتيجة، وزمان ومكان، وحيز وحدود.
لقد شغلت الفلسفة القديمة بالبحث وراء المادة، فدارت حول نفسها ولم تصل إلى نتيجة، حتى جاءت الفلسفة الحديثة وعلى رأسها «كانت»، فتحول بعض فلاسفتها من البحث فيما وراء المادة إلى البحث في العقل نفسه ومقدرته على المعرفة وحدود ما يمكن أن يعرف وما لا يمكن أن يعرف، إن العقل إنما يستمد معلوماته من الحواس، وكل البحوث في سائر العلوم حتى أدق العمليات الرياضية والهندسية منشؤها الحواس، أعمل فيها العقل بالمقارنات وما إلى ذلك، والحواس لا تدرك من العالم إلا بقدر، فإذا انخفض الصوت عن قدر معين أو ارتفع عن قدر معين لم نسمع، وهكذا العين والشم واللمس، فكم في العالم من أشياء لم تدركها عقولنا لأنها لم تدركها حواسنا. والعقل لا يستطيع أن يسير إلا مستندا على حواسه، ولا يمكن أن يدرك من العالم إلا مظهره، هل يستطيع أن يدرك ما الضوء وما الكهرباء وما الجاذبية؟ إنما يدرك آثارها ومظاهرها. هل يستطيع أن يدرك مركز نفسه، وحقيقة شعوره؟ كلا إنما يدرك آثار ذلك في الحياة الخارجية. من أين أتينا؟ أين كانت حياتنا قبل أن نحيا؟ ماذا تكون حياتنا بعد أن نموت؟ وما حقيقة علاقتنا بالعالم الخارجي حولنا؟ كل هذه الأسئلة ومئات نحوها لا نعرفها، ولا يستطيع العقل أن يعرفها، ولم يتقدم في إدراكها كما تقدم في العلم بقوانين المادة. كم في العالم من حجر مغلقة لم نعط مفاتيحها؟
إنما نشعر بالله وبالحياة الأخرى وبالمملكة الروحانية بقلبنا، وتطمئن نفوسنا إذا آمنت ، وتقلق وتضطرب إذا ألحدت. لقد ارتفع «برجسون» (الفيلسوف الفرنسي المعاصر) إلى أوج الشهرة في أعوام قلائل؛ لأنه دافع عن الطبيعة الإنسانية وآمالها، فكم اغتبط الناس واطمأنوا إذ رأوا فيلسوفا يصون لهم ما يرجون من خلود وما يعتقدون في إله. وقال وليم جيمس: «لقد بحثت في نفسي ولم أعلم ما هي وما شبهها، وأين تسكن وكيف تتغير، وكيف تكون مجبورة، وكيف تكون مختارة؛ وتتغير نظرياتي في ذلك من وقت إلى وقت، ولكن مع هذا أومن بنفسي، وأومن أنها مركز لكل ما أعرف عن العالم حولي»، كذلك الشأن في إدراك المبدأ والمنتهى والله والخلود، إنها عقيدة وإيمان لا قضايا منطق.
اعتبر الأديان كلها، مبعثها ومظهرها، تجدها تختلف باختلاف الأمم ورقيها وطبيعتها، وتتغلب على كل دين صفة من الصفات تكاد تكون كالمحور؛ كالتضحية، ومعنى الأبوة، والرحمة والغفران، وإطاعة الأوامر، والفن والجمال، وإنكار الذات، والإحسان إلى الجميع، والشفقة على الحيوان، والشجاعة، والجهاد في سبيل نشر الدعوة. وكل هذه االصفات على اختلافها من قبيل العواطف والمشاعر، ولم نر دينا أتى بفلسفة عقلية، ولست تستطيع أن تقنع المحب بالحجج العقلية حتى يسلو، ولا أن تقنع من جمدت عواطفه حتى يحب. إن عقله قد يقيم البرهان على خطأ الحب، وقد يمنعه من الزواج، ولكن لا يستطيع أن يمنعه من الحب، وهكذا الشأن في كل المشاعر، وهكذا الشأن في الدين. الدين في القلب لا في العقل، وإذا بحث الدين بالعقل المجرد لم تكن النتيجة دينا ولا فلسفة، وإنما شيء تافه اسمه «علم الكلام».
وقد أراد أبو العلاء أن يضم إلى إيمانه بقلبه إيمانه بعقله فلم يستطع، وكانت العقدة. ولو نام شعوره وانتبه عقله لألحد مستريحا، ولو نام عقله وانتبه شعوره لآمن مستريحا، ولو صحا عقله وشعوره ورسم حدوده، وعرف لكل دائرة اختصاصه لاستراح أيضا، ولكنه أراد أن يصل إلى ما ليس يمكنه العقل فلم يفلح، وقلق واضطرب كما يقلق ويضطرب كل من خرج على قوانين الطبيعة، وحاول الخروج على طبائع الأشياء؛ لأن الدين يغذي حاجة من حاجات النفس لا غنى لها عنه إذا مرضت. هذا هو السبب في أنه نقد المجتمع فنجح، ونقد الأخلاق فنجح، ونقد الأخبار فنجح، ونقد الدين في صميمه فلم ينجح.
يعجبني وصف بعضهم لهجل وصفا ينطبق على أبي العلاء انطباقا تاما إذ قال: «إنه رجل كفر عقله وآمن قلبه»، كما يصدق عليه أيضا قول جوته عن «فاوست»: «إنه عقل طغى على القلب فأشقى صاحبه».
وأيا ما كان، فهذه الشخصية الفذة، الشخصية المؤمنة الكافرة، الشخصية القلقة الحائرة، أخرجت كل ما كان يتناوبها من نبضات قلب، وخطرات عقل، في صورة فنية رائعة أمتعت الناس وإن أشقت صاحبها. فرحمه الله، ورحمه الله.
ابتسم للحياة
حدثت أن الشيخ محمد عبده والشيخ عبد الكريم سلمان كانا صديقين وفيين منذ صباهما، ألف بينهما قرب الجوار في البلدة، وتساكنهما وتلازمهما أيام المجاورة في الأزهر، ثم تعاونهما بعد في معترك الحياة، وأن الشيخ عبد الكريم سلمان كان أذكى من الشيخ محمد عبده وأوفر استعدادا، ولكن كان الشيخ محمد عبده متفائلا وكان الشيخ عبد الكريم متشائما. كان الشيخ محمد عبده يرى أن الناس خيرون بطبعهم، وإنما أفسدتهم الظروف، فإذا أصلحت صلحوا. وأن المصريين كغيرهم من الناس، إذا ساءت بعض أخلاقهم وبعض تصرفاتهم، فلهم العذر، لما جنى عليهم أولو الأمر فيهم، فإذا دعوا إلى الخير ومهدت لهم السبل ورسمت لهم الطرق وربوا تربية صالحة، لبوا الدعوة واستقام أمرهم، واتسع أمامهم طريق المجد والشرف، وعلى هذا الأساس بنى كل حياته وكل أعماله. وكان الشيخ عبد الكريم متشائما يرى أن الناس في مصر فسدوا فسادا لا يرجى معه صلاح، والمصلح يحرق نفسه ثم لا يأتي بنتيجة، فخير أن يكتفي المصلح بنفسه، وليدع الناس وشأنهم حتى يأكلهم القدر.
أما الأول فأصبح - لتفاؤله - الشيخ محمد عبده المصلح العظيم الذي ترك في أمته الأثر الكبير؛ وأما الثاني فلم يعرفه إلا خاصته، ولم يستفد من ذكائه إلا أقرب الناس إليه، وكان شمعة مضيئة في غرفة خالية.
لا شيء يضيع ملكات الشخص ومزاياه كتشاؤمه في الحياة، ولا شيء يبعث الأمل ويقرب من النجاح وينمي الملكات، ويبث على العمل النافع لصاحبه وللناس، كالابتسام للحياة، والطبيعة أدرى بذلك، فقد منحتنا القدرة على الضحك، والقدرة على الفرح والإعجاب بالنوادر اللطيفة والروح الفكهة، كما منحتنا الرغبة في الغذاء والقدرة على الهضم ونحوهما من وسائل الحياة، علما منها بأن العيش لا يصلح إلا بها، والسعادة لا تتم بدونها، فأتى الإنسان من جهله يكبت هذه الموهبة ويلونها باللون الأسود، فوقع في الهم والشقاء؛ لأن الطبيعة لا تمنح السعادة إلا لمن احترم قوانينها وسار على سننها.
إن الطبيعة علمت أن الدنيا لا تخلو من متاعب، وأن الإنسان سيلاقي في حياته بعض المصاعب، فسلحته بروح المرح وروح الفكاهة، وجعلت ذلك دواء لدائه وبلسما لشفائه، فإذا هو فقده لأي سبب من الأسباب، فقد فقد علاج مرضه وعاش في بؤسه، فإن أنت رأيت فتى أو فتاة أو شابا أو شابة عابس الوجه مقطب الجبين، يحمل الهموم ويبرم بالحياة، فاعلم أن هناك مجرما من رب أسرة أو مشرف على التعليم قد سلبه أسن ما في طبيعته، وأجمل ما في ملكاته.
ليس المبتسمون للحياة أسعد حالا لأنفسهم فقط، بل هم كذلك أقدر على العمل، وأكثر احتمالا للمسئولية، وأصلح لمواجهة الشدائد ومعالجة الصعاب، والإتيان بعظائم الأمور التي تنفعهم وتنفع الناس.
لو خيرت بين مال كثير أو منصب خطير، وبين نفس راضية باسمة، لاخترت الثانية، فما المال مع العبوس؟ وما المنصب مع انقباض النفس؟ وما كل ما في الحياة إذا كان صدر صاحبه ضيقا حرجا كأنه عائد من جنازة حبيب؟ وما جمال الزوجة إذا عبست وقلبت بيتها جحيما؟ لخير منها ألف مرة زوجة لم تبلغ مبلغها في الجمال وجعلت بيتها جنة.
ولا قيمة للبسمة الظاهرة إلا إذا كانت منبعثة عن نفس باسمة وتفكير باسم. وكل شيء في الطبيعة جميل باسم منسجم، وإنما يأتي العبوس مما يعتري طبيعة الإنسان من شذوذ؛ فالزهر باسم والغابات باسمة، والبحار والأنهار والسماء والنجوم والطيور كلها باسمة. وكان الإنسان بطبعه باسما لولا ما يعرض له من طمع وشر وأنانية تجعله عابسا . فكان بذلك نشازا في نغمات الطبيعة المنسجمة، ومن أجل هذا لا يرى الجمال من عبست نفسه، ولا يرى الحقيقة من تدنس قلبه. فكل إنسان يرى الدنيا من خلال عمله وفكره وبواعثه، فإذا كان العمل طيبا والفكر نظيفا والبواعث طاهرة كان منظاره الذي يرى به الدنيا نقيا، فرأى الدنيا جميلة كما خلقت، وإلا تغبش منظاره واسود زجاجه، فرأى كل شيء أسود مغبشا.
هناك نفوس تستطيع أن تخلق من كل شيء شقاء، ونفوس تستطيع أن تخلق من كل شيء سعادة، هناك المرأة في البيت لا تقع عينها إلا على الخطأ؛ فاليوم أسود لأن طبقا كسر ولأن نوعا من الطعام زاد الطاهي في ملحه؛ أو لأنها عثرت على قطعة من الورق في الحجرة، فتهيج وتسب ويتعدى السباب إلى كل من في البيت، وإذا هو شعلة من نار. وهناك رجل ينغص على نفسه وعلى من حوله من كلمة يسمعها أو يؤولها تأويلا سيئا، أو من عمل تافه حدث له أو حدث منه، أو من مال خسره أو من ربح كان ينتظره فلم يحدث أو نحو ذلك، فإذا الدنيا كلها سوداء في نظره، ثم هو يسودها على من حوله. هؤلاء عندهم قدرة المبالغة في الشر، فيجعلون من الحبة قبة ومن البذرة شجرة، وليس عندهم قدرة على الخير، فلا يفرحون بما أوتوا ولو كثيرا، ولا ينعمون بما نالوا ولو عظيما.
والحياة فن، وفن يتعلم، ولخير للإنسان أن يجد في وضع الأزهار والرياحين والحب في حياته من أن يجد في تكديس المال في جيبه أو في مصرفه. ما الحياة إذا وجهت كل الجهود فيها لجمع المال، ولم يوجه أي جهد لترقية جانب الجمال والرحمة والحب فيها؟
أكثر الناس لا يفتحون أعينهم لمناهج الحياة، وإنما يفتحونها للدرهم والدينار، يمرون على الحديقة الغناء والأزهار الجميلة والماء المتدفق والطيور المغردة، فلا يأبهون لها، وإنما يأبهون لدينار يأتي ودينار يخرج. قد كان الدينار وسيلة للعيشة السعيدة، فقلبوا الوضع وباعوا العيشة السعيدة من أجل الدينار، وقد ركبت فينا العيون لنظر الجمال، فعودناها ألا تنظر إلا إلى الدينار.
ليس يعبس النفس والوجه كاليأس، فإن أردت الابتسام فحارب اليأس. إن الفرصة سانحة لك وللناس، والنجاح مفتوح بابه لك وللناس، فعود عقلك تفتح الأمل وتوقع الخير في المستقبل. إذا اعتقدت أنك مخلوق للصغير من الأمور لم تبلغ في الحياة إلا الصغير. وإذا اعتقدت أنك مخلوق لعظائم الأمور شعرت بهمة تكسر الحدود والحواجز، وتنفذ منها إلى الساحة الفسيحة والغرض الأسمى. ومصداق ذلك حادث في الحياة المادية، فمن دخل مسابقة مائة متر شعر بالتعب إذا هو قطعها، ومن دخل مسابقة أربعمائة متر لم يشعر بالتعب من المائة والمائتين؛ فالنفس تعطيك من الهمة بقدر ما تحدد من الغرض. حدد غرضك، وليكن ساميا صعب المنال، ولكن لا عليك في ذلك ما دمت كل يوم تخطو إليه خطوا جديدا. إنما يصد النفس ويعبسها ويجعلها في سجن مظلم اليأس وفقدان الأمل والعيشة السيئة برؤية الشرور، والبحث عن معايب الناس والتشدق بالحديث عن سيئات العالم لا غير.
وليس يوفق الإنسان في شيء كما يوفق إلى مرب ينمي ملكاته الطبيعية، ويعادل بينها ويوسع أفقه، ويعوده السماحة وسعة الصدر، ويعلمه أن خير غرض يسعى إليه أن يكون مصدر خير للناس بقدر ما يستطيع، وأن تكون نفسه شمسا مشعة للضوء والحب والخير، وأن يكون قلبه مملوءا عطفا وبرا وإنسانية وحبا لإيصال الخير لكل من اتصل به.
النفس الباسمة ترى الصعاب فيلذها التغلب عليها، تنظرها فتبسم، وتعالجها فتبسم، وتتغلب عليها فتبسم، والنفس العابسة لا ترى صعابا فتخلقها، وإذا رأتها أكبرتها واستصغرت همتها بجانبها، فهربت منها وقبعت في جحرها تسب الدهر والزمان والمكان وتعللت بلو، وإذا، وإن. وما الدهر الذي يلعنه إلا مزاجه وتربيته، إنه يود النجاح في الحياة ولا يريد أن يدفع ثمنه، إنه يرى في كل طريق أسدا رابضا، إنه ينتظر حتى تمطر السماء ذهبا أو تنشق الأرض عن كنز.
إن الصعاب في الحياة أمور نسبية، فكل شيء صعب جدا عند النفس الصغيرة جدا، ولا صعوبة عظيمة عند النفس العظيمة. وبينما النفس العظيمة تزداد عظمة بمغالبة الصعاب، إذا بالنفوس الهزيلة تزداد سقما بالفرار منها، وإنما الصعاب كالكلب العقور إذا رآك خفت منه وجريت نبحك وعدا وراءك، وإذا رآك تهزأ به ولا تعيره اهتماما وتبرق له عينك أفسح الطريق لك، وانكمش في جلده منك.
ثم لا شيء أقتل للنفس من شعورها بضعتها وصغر شأنها وقلة قيمتها، وأنها لا يمكن أن يصدر عنها عمل عظيم، ولا ينتظر منها خير كبير. هذا الشعور بالضعة يفقد الإنسان الثقة بنفسه والإيمان بقوتها، فإذا أقدم على عمل ارتاب في مقدرته وفي إمكان نجاحه وعالجه بفتور ففشل فيه. الثقة بالنفس فضيلة كبرى عليها عماد النجاح في الحياة، وشتان بينها وبين الغرور الذي يعد رذيلة، والفرق بينهما أن الغرور اعتماد النفس على الخيال وعلى الكبر الزائف، والثقة بالنفس اعتمادها على مقدرتها على تحمل المسئولية، وعلى تقوية ملكاتها وتحسين استعدادها. ورجال الأديان مسئولون - إلى حد كبير - عن نشر الأفكار في تحقير النفس وذلتها، وخساستها وشرورها ومعاصيها، حتى ليبالغ بعضهم فينغص على الناس حياتهم، ويفقدهم كل أمل في النجاح.
وبعد: فالشرق في حاجة كبرى إلى كميات كبيرة من الابتسامات الصادقة الدالة على النفوس الراضية الآملة الطامحة.
سر أنى شئت في الشوارع واغش المنتديات والمجتمعات، وتفرس في الوجوه، فقلما ترى إلا وجوها مستطيلة مقطبة الجبين، ورءوسا أثقلها الهم فخفضها، وعيونا ساهمة قد فقدت بريق السرور ولمعان الحيوية.
استثن الضحكات العالية في مجالس اللهو وأماكن التنادر، فهل ترى إلا العبوس وما يشبه العبوس، واستبعد البسمات المزيفة المتصنعة في المقابلات والمجاملات، وانفذ منها إلى أعماق النفوس، فهل ترى إلا انقباضا وانكماشا؟
ما السر في هذا كله؟
سره في تعاقب الظلم على الشعوب من زمن قديم حتى سلبها حريتها، وهل تبسم النفس إلا للحرية، وهل تنقبض إلا من الاستبداد؟!
وسره في الفقر الشامل لأكثر أفراد الشعب، فهم يحملون الهم المضني، كيف يأكلون ويعيشون، وكيف يسدون حاجات أسرتهم ومن تعلق في رقبتهم، والمنافذ ضيقة في وجوههم، وأكثر الثروة قد ضاعت من أيديهم.
وسره في ضعف التربية التي لا تفتح النفس للحياة، وتكتفي بالعلم الجاف.
وسره في النظم الاقتصادية التي لا تقدم على الأعمال، ولا تفتح أبواب الرزق للشبان، ولا تستغل ما بقي من ثروات البلاد.
وسره في أننا إلى الآن لم نتعلم فن الحياة، ولم نسمع به في برامج الدراسة، ولم نره لا في بيوتنا ولا مدارسنا ولا عند خطبائنا وكتابنا.
وسره أننا لم نستشعر الثقة بالنفس؛ فلا الفرد يثق بنفسه، ولا المواطن يثق بمواطنه، ولا رجال الإدارة والأعمال يثقون بمواطنيهم، ولا الناس يثقون بأولي الأمر فيهم.
وسره أخيرا أنا حرمنا العزة القومية طويلا، وكم تبعث العزة القومية من بسمات! فلنتغلب على هذه الصعوبات جميعا، ولنبسم للحياة ولو تكلفا ينقلب التكلف بعد حين تطبعا.
ابسم للطفل في مهده، وللصانع في عمله، وابسم لأولادك وأنت تربيهم، وابسم للتاجر وأنت تعامله، وابسم للصعوبة تعترضك، وابسم إذا نجحت، وابسم إذا فشلت ... وانثر البسمات يمينا وشمالا على طول الطريق؛ فإنك لن تعود للسير فيه.
الرحمة الكاذبة
يروون أن فيلسوف الصين «لوتس»
Lao-tzé
الذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد، كان يقول: «قابل الرحمة بالرحمة، وقابل القسوة بالرحمة أيضا».
ولكن«كونفوشيوس» الفيلسوف الكبير، الذي كان يعيش في الزمن نفسه، لم يوافق على هذا الرأي وكان يقول: «قابل الرحمة بالرحمة والقسوة بالعدل».
وجاء شراح هذين المبدأين، فقالوا: إن كلا من الحكيمين نظر إلى المسألة من جانبه، وإن لوتس كان رجلا شعبيا فوضع هذا المبدأ في الحقوق الشخصية، فإذا ظلمك أحد في مالك ولم يدفع الدين الذي عليه، فرحمته وسامحته فذلك حقك، وإذا أساء إليك إنسان بكلمة قاسية أو عمل غير لائق فرحمته وعفوت عنه، فأنت وشأنك.
أما «كونفوشيوس» فكان حاكما، وكان واليا على إقليم، فنظر إلى المسألة من جانب المصلحة العامة، ومن جانب خير المجتمع، فمن سرق فرحم، أو قتل فرحم، جرأت الرحمة الناس على السرقة فسرقوا، وعلى القتل فقتلوا، وفسدت الجمعية البشرية.
وعلى هذا المبدأ أنت حر في حقوقك الشخصية، تعفو أو تؤاخذ، وترحم أو تعدل، ولكن لست حرا في الحقوق العامة، فلا بد من العدل دون الرحمة.
وأحيانا يمتزج الحقان، ويختلط الأمران، فإذا حاول لص أن ينشل ساعتك قبضت عليه، فالمال مالك والساعة ساعتك، ولكن ضرر السرقة ليس مقصورا عليك، بل معاقبة السارق حق من حقوق الأمة؛ لأنه إذا لم يلق جزاءه جرأه ذلك العودة، وفى ذلك ضرر عام للمجموع.
ففي هذه الحالة وأمثالها يجب أن نسير على مبدأ كونفوشيوس، ونهدر الحق الشخصي، ولا نرعى إلا الحق العام، فنبلغ عن السارق لينال عقوبته.
والحق أن من أكبر مصائبنا غلبة الرحمة علينا حيث تجب القسوة، والمعاملة بالشفقة حيث يجب العدل.
انظر إلى «مصلحتين» من مصالح الحكومة، رئيس إحداهما عادل حازم لا يرحم متهاونا ولا يغفر لأحد غلطة، ورئيس الأخرى لين رحيم لا يضر أحدا ولا يؤذي أحدا ويتستر على الخطأ، فإن ظهر عفا عنه، فماذا تكون النتيجة؟
المصلحة الأولى منتظمة تجري الأمور فيها على أحسن ما يرام، قد آذينا شخصا أو شخصين أو ثلاثة بقطع أيام أو حتى بالفصل ... ولكن كم من ألوف الناس انتفعوا بهذا النظام وبهذه العقوبة، فقضيت مصالحهم واستقامت أمورهم؟ وكم من الموظفين في المصلحة اتعظوا بهذه العقوبة، فاحترسوا من الخطأ، وتجنبوا الزلل؟
والمصلحة الثانية فوضى بسبب رحمة شخص أو شخصين، كثر فيها الإهمال وتعطلت مصالح الناس، وكانت النتيجة أن العقوبة لم تقع على الجاني، وإنما وقعت على أصحاب الأعمال الذين لم يجنوا أي جناية!
بالأمس ذهبت إلى مصلحة لقضاء عمل، فرأيت الموظف المختص خالعا طربوشه، مسندا رأسه إلى يده، يكاد يداعب النعاس عينيه، فلما طلبت منه مسألتي تلكأ في الرد، ثم رد بفتور، وتخلص من العمل ... وأحال على غيره ممن عمل مثل عمله!
أيقال: إن مثل هذا يرحم فتضيع مصالح الناس برحمته؟ ... إن الإفراط في عقوبة مثل هذا أجدى على الأمة ألف مرة من الرحمة الكاذبة!
وفشو هذا الخلق في الأمة جعل المثل الأعلى عندها «هو الرجل الطيب»، والرجل الطيب في نظرها من لا يؤذي أحدا ... ومن يغمض عينه عن مرتكب الجرائم، وعن الكسول، والمتهاون، ومن يرى السارق فيرحم، والمرتشي فيرحم، والمهمل لعمله فيرحم. ولو عقل الناس لسموا هذا «الرجل الطيب» أكبر مجرم؛ لأنه أساء إلى آلاف الناس برحمة رجل واحد.
المعلم «الطيب» بهذا المعنى أسوأ معلم، والقاضي «الطيب» بهذا المعنى أسوأ قاض، ورئيس المصلحة «الطيب» أسوأ رئيس، والوزير «الطيب» أسوأ وزير ... لسنا نريد «الطيبين» ولكن نريد العادلين الحازمين!
فوضى «الرحمة» في الأمة جعلت الأم تخشى على ابنها من السفر، ولو كان في منفعته، وتولول إذا جند، ولو كان التجنيد في خيره وخير أمته.
وفوضى الرحمة جعلت كل موظف يريد أن يكون في القاهرة بجانب أبيه وأمه.
وفوضى الرحمة أفقدتنا الشجاعة؛ لأن كل من حدثته نفسه بأعمال المغامرين ، والاستماع إلى باعث الشجاعة، رأى حوله أما تئن وأبا يحن ... ودموعا تسح.
فطلق شجاعته، واستنام إلى الدعة في أحضانهم.
الناس في مصر يكرهون الحازم الشديد ويحبون اللين الرحيم ... ولو أنصفوا لبدلوا الحب بالكره، والكره بالحب، فإنما ينفعهم الحازم ويضرهم اللين ... ينفعهم الحازم الذي يكافئ ويعاقب، وينفع ويضر، ويعرف متى ينفع ومتى يضر، ويضرهم اللين الذي يريد أن يستخرج من الناس لقب «الطيب» وما هو بطيب!
ليس يعجبني من وصفهم الشاعر بقوله:
يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة
ومن إساءة أهل السوء إحسانا
وإنما يعجبني وصف الآخر بقوله:
فقسا ليزدجروا ومن يك حازما
فليقس أحيانا على من يرحم
لقد تغلبت على الناس فكرة الخوف من «قطع العيش»، وقالوا: إن الرجل إذا أذنب فوراءه زوجة وأولاد لم يذنبوا. وهي حجة واهية، ولو كانت صحيحة لرحمنا القاتل من أجل أسرته، والسارق من أجل أمه أو أبيه.
فالواجب أن يقتص من الجاني أيا كان، وعلى جهات البر من الأمة أن تدبر عيش المساكين من أسر الجانين. أما الخوف من «قطع العيش» المجرم فنتيجته «قطع العيش» الأمة!
الجامعة والسياسة
رحم الله زمانا قضيناه في مدرسة عالية لم نسمع فيه أستاذا يتكلم في السياسة، ولم نضرب فيه إلا يوم وفاة مصطفى كامل إذ خرجنا نشيع جنازته.
ولست أنسى يوما أقيم في مدرستي اجتماع للاحتفال بالعام الهجري، فخصني فيه إخواني بالكلام في سبب ضعف المسلمين، فكان محور حديثي أن ضعف المسلمين يرجع إلى سببين: فساد الحكومات المتتابعة في إدارة البلاد الإسلامية، ورجال الدين. فقامت الدنيا وقعدت من هذه الكلمة البريئة الهادئة، وهددت بالفصل لولا تدخل سعد زغلول إذ كان وزيرا للمعارف.
ولم يكن هذا بالأمر المحمود؛ فلم نكن نتتبع الأحداث التي تجري في بلادنا، ولا نطلع على أغراضها ومراميها، ولا تتجاوب عواطفنا مع سيرها، وأصبح شباب اليوم أوسع أفقا وأكثر معرفة بالدنيا وشؤونها.
ثم جاء زمان تغير فيه هذا الوضع وتأثر كل طالب بالسياسة وسير الأمور، وكان بدء ذلك يوم قبض على سعد زغلول ونفي، فأضربت مدرسة الحقوق وتبعتها المدارس الأخرى، ومن ذلك الحين كثرت الإضرابات والمظاهرات.
ولكن إلى ذلك العهد كانت الإضرابات مرتبطة بالمطالب القومية، إما لتعد على حق من حقوق مصر يراد استلابه، أو لاسترداد حق ضاع من قبل، فكان يشترك في هذا الشعور طلبة المدارس العالية كلهم على اختلاف في مقدار شعورهم.
ثم كان الخلاف بين سعد من جانب وعدلي وحسين رشدي من جانب آخر، فانقسمت صفوف الطلبة تبعا لانقسام الزعماء، وتكونت الأحزاب وتوزع رجال السياسة عليها، وتوزع الطلبة كذلك، وكلما جد حزب اعتنق مبادئه بعض الطلبة وتعصبوا له وعرفوا به؛ هذا وفدي وهذا سعدي وهذا حر دستوري إلخ ... إلخ ... وكان يحدث أحيانا أن يتفق الزعماء فيتفق الطلبة، وأحيانا يختلف الزعماء فيختلف الطلبة، بل كان يحدث أحيانا أن يشعر الطلبة بضرورة اتفاق الأحزاب في المواقف الحرجة، فتكون لهم يد في حمل الأحزاب على الاتحاد، هذا عرض تاريخي موجز جدا لما حدث، فهل لي أن أبدي رأيا صريحا لما اعتقده، لا أرعى فيه حزبا ولا أرعى فيه تعصبا لأي ناحية من النواحي إلا الحق وإلا الحق وحده؟
للاشتغال بالسياسة وجهان وأسلوبان وطريقتان:
فأما الأولى فدراسة المسائل القومية وتاريخها وتطورها، وما يراد بها وما يجب أن يكون موقف الأمة منها، فإذا أريد الحديث عن السودان أو المعاهدة أو الديون أو نحو ذلك وجبت دراستها، وكيف كانت وما جد عليها وإلى أي نقطة وصلت. وواجب رجال السياسة في كل بلد أن يعرفوا كل مسألة من هذه المسائل وأشباهها معرفة دقيقة بالتاريخ والأرقام والوثائق ويكونوا لهم فيها رأيا، وواجب كل حزب أن يفعل ذلك ويوضح منهجه ويحدد ما يطلبه ويعلن ذلك، ما لم تمنع موانع قومية من إظهار هذا الرأي حتى يحين حينه.
أما الطلبة في الجامعة فلا أرى بأسا - بل قد أرى واجبا - أن يطلعوا على هذه الأمور ويكون كل فيها رأيا، بل ولا مانع من إقامة المناظرات والمحاضرات في هذه الشئون ويتخذ كل رأي هذا الحزب أو ذاك حسبما يتجلى له وجه الحق، ولكن بشرط أن يكون ذلك بعد أداء واجبه القومي الأول وهو الجد في تحصيله لدروسه وعدم إهمال أي جانب من جوانب الدرس؛ فالطالب حر بعد أداء واجبه العلمي أن يرى هذا الرأي السياسي أو ذاك، ويوافق رأي هذا الحزب أو ذاك كما يدله عليه عقله ومنطقه وتفكيره.
وأما الثاني فهو تنفيذ الرأي، فهذا واجب السياسيين أولا، فلكل حزب أو الأحزاب مجتمعة أن يرسموا خطط تنفيذ المطلب، ويتحملوا مسئولية ذلك، وما يتطلبه من شجاعة وتضحية.
أما الطلبة فليس لهم أن ينفذوا رأي حزب ضد حزب، بل ولا رأي الأحزاب مجتمعة إلا إذا ظهر الزعماء في الميدان ورأوا جميعا أنهم لا يستطيعون العمل إلا بمعونة الطلبة.
أما أن يختفي الزعماء وراء الستار ويوحوا إلى الطلبة بالعمل، وهم لا يعملون فضرب من الخلق تأباه الكرامة، ووضع للأمور في غير موضعها، وهرم مقلوب أو حصان وراء العربة.
إن كان هذا الرأي صحيحا أمكننا أن نسوق بعض المسائل التطبيقية التي تتجلى في ضوء هذه النظرية:
أولا:
من الخطأ المحض أن ينغمس مدير جامعة أو عميد أو أستاذ في الحزبية السياسية، ويصبغ تصرفاته بهذا اللون، فيحابي بعض الطلبة لأنهم من حزبه ويضطهد آخرين؛ لأنهم من غير حزبه، أو يسلك هذا المسلك في ترقيات الأساتذة وحرمانهم، أو يمشي في ركاب الزعماء ويصفق لهم، أو ينفذ بعض المشروعات والأغراض التي يوحي بها الحزب القائم مجاراة له، ولو خالفت المصلحة في نظره ونحو ذلك من مظاهر عديدة.
هذا كله هدم لاستقلال الجامعة في التفكير وإفساد لأخلاق الشبان والمدرسين؛ إذ يرون الحزبية الضالة أجدى عليهم من الجد والاستقامة والشرف، ولأن هذا يجعل الجامعات مسرحا للأحداث والانقلابات تبعا للتقلب السياسي. وليس لهذا خلقت الجامعة، فإنما شيدت منارا تهتدي به الأمة كلها على اختلاف أحزابها ومركزا للنظريات العلمية والأدبية والسياسية الحرة، ولو خالفت جميع الأحزاب.
وثانيا:
من الخطأ الفاضح كذلك أن تتلاعب الأحزاب المختلفة بالطلبة، فيجعلوهم وسيلة لاستردادهم الحكم إذا كان الحزب مغلوبا، وللدفاع عن الحزب إذا كان الحزب غالبا، وحرام أن تضيع أعمار طلبة في سبيل من يتولى الحكم، وحرام أن يلعب الساسة بهم فيختفوا ليظهر الطلبة، ويستريحوا ليتعب الطلبة، وينعموا ليشقى الطلبة، ويغنموا ليضحي الطلبة.
ولو أدرك المسئولون ما يحدث للطلبة في إضراب يوم واحد لقلقت ضمائرهم ودميت مشاعرهم.
إن الطالب للعلم وللخلق - أولا - وللسياسة ثانيا. ولا يكون للسياسة إلا إذا كانت سياسة قومية، بل لا يكون للسياسة القومية إلا إذا كانت سياسة قومية حقة لا سياسة قومية مزيفة تحت ستار الحزبية. أما الساسة فوظيفتهم السياسة أولا وآخرا، فإذا احتاج الأمر إلى التضحية فليضحوا هم أولا وليظهروا في الميدان أولا، ولا يستغلوا طهارة قلوب الطلبة ليخدعوهم، ولا يستكثروا عددهم ليلعبوا بهم؛ فإن اللعب بهم جريمة لا تغتفر، فالجامعة بأساتذتها وطلبتها منار الأمة كما قلت، فإذا فسدت أظلم الجو كله.
وكما نقول للطلبة والأساتذة والعمداء: كفوا عن السياسة الحزبية واعملوا للعلم والخلق والوطن، نقول للساسة: أشفقوا على أبنائكم فلا تزجوا بهم في السياسة الحزبية، وقدروا ما تجنونه على الأمة من ضياع العلم بإفساد السياسة، وضياع الخلق بالمكافأة على غير الجد في العمل والنبوغ فيما أنشئت له الجامعة.
الرجل الثقيل
الرجل الثقيل: هو من كان وزيرا أو مديرا فحدد لمقابلة الناس موعدا من الساعة الثانية عشرة إلى الواحدة في يومي السبت والخميس - مثلا - ليسمع شكوى الناس ورجاءهم وظلاماتهم، ثم خصص ما عدا ذلك من الوقت للمصلحة العامة يدرس مسائلها ويصرف شؤونها، فإذا جاءه أحد مهما كان عظيما - باشا من الباشوات أو نائبا من النواب أو شيخا من الشيوخ - اعتذر عن عدم مقابلته لأنه لم يأت في الموعد المحدد من قبل أو لم يطلب موعدا خاصا يقابله فيه، فهذا رجل ثقيل.
والرجل الثقيل من رجوته في علاوة موظف أو ترقيته أو نقله من قنا إلى القاهرة، فدرس مسألتك ثم قال لك في صراحة: إنه لا يستطيع ذلك لأن قواعد العدل تأبى إجابة طلبك، فمن رجوتني فيه لا يستحق الترقية لأنه غير كفء، أو لا يستحق النقل من قنا إلى القاهرة لأنه لم يقض فيها المدة المعقولة - فهذا ثقيل أيضا.
والرجل الثقيل من عهد إليه رئيسه درس مسألة أو كتابة تقرير عنها ولمح له برغباته، وأشار له بمقاصده، فذهب هذا المرءوس ودرس المسألة من جميع وجوهها ورأى الحق في غير ما لمح به الرئيس، فسمع لصوت ضميره لا لصوت رئيسه، وكتب التقرير بما يراه هو أنه الحق لا بما يراه رئيسه تحت ضغط رجاء أو رغبة في منفعة شخصية، فهذا أيضا ثقيل.
والرجل الثقيل من سمع محاضرة أو خطبة أو أهدى إليه مؤلف كتابا أو قصيدة، ثم سئل عن رأيه في ذلك كله فقال رأيه الصريح في المحاضرة والخطبة والكتاب والقصيدة من غير محاباة ولا مجاملة ولا تحامل أيضا، وذكر ما في ذلك من محاسن إن كانت هناك محاسن وما فيه من عيوب إن كانت هناك عيوب، ولم يجامل ولم يمجمج - فهذا أيضا ثقيل.
والرجل الثقيل من اختير عضوا في مجلس، فإذا عرض أمر فحصه فحصا دقيقا قبل أن يبدي رأيه، ثم ذكره ولو خالف في رأيه كل الأعضاء، وإذا عرضت عليه ترقية لموظف طلب أن تعرض عليه كل الأشباه والنظائر ليقتنع باستحقاق من طلبت ترقيته أو عدم استحقاقه، ويعارض في الأمر لأنه يراه خطأ، وهو بذلك يغضب جهة من الجهات المحترمة أو لم يهتم عند إبداء رأيه بالحزب القائم ولا بالحزب الذاهب، بل ينظر إلى المسألة نظرا مجردا عن كل اعتبار إلا اعتبار الحق، ويعتبر نفسه في المجلس قاضيا عادلا يجب أن يتصف بكل صفات القضاة العدول من درس وفحص وبناء رأي على «حيثيات» لا يراعي فيها إلا المسألة بذاتها من غير تحيز، فهذا أيضا رجل ثقيل.
والرجل الثقيل هو الذي يرى الرأي فيصلب فيه ولا يتزحزح، يرجوه فلان الكبير أن يعدل عن رأيه فلا يقبل، ويرجوه رئيسه فلا يقبل، فإذا فشلت كل أنواع الرجاء حاولوا ذلك بطريق الإغراء، فمنوه بدرجة فلم يقبل، وبوظيفة أكبر من وظيفته فلم يقبل، وبتعيين ابنه في وظيفة لائقة فلم يقبل، فإذا لم ينفع الرجاء ولا الإغراء سلكوا معه طريق التهديد ، فهدد بالنقل إلى وظيفة أحقر. فقال: لا بأس، وقالوا: ننقلك إلى أقصى الصعيد. فقال: لا بأس، ونهملك فلا نسند إليك عملا. فقال: لا بأس، ونتهمك بأنك غير كفء وأنك لا تصلح لعمل، فقال: لا بأس. واستمر على عناده لا يعبأ برجاء ولا إغراء ولا تهديد، فهذا رجل ثقيل.
والرجل الثقيل رجل عالم في الاقتصاد أو السياسة أو الاجتماع، أداه بحثه إلى نظرية رأى صوابها وخالفه كل من حوله من رجال فنه، فلم يعبأ بذلك وجاهر برأيه، فسلقه الناس بألسنة حداد وقالوا: هل أنت وحدك المحق وكل هؤلاء العلماء الكبار على باطل؟ فلم يعبأ بقولهم؛ أو سياسي رأى الاتجاه السياسي للأمة خطأ مع إجماع الساسة عليه، فجهر برأيه وتحمل النقد الشديد في صبر وحزم، وظل يعلن عن رأيه بكل الوسائل المشروعة، أو أديب رأى الأدب العربي فيه ضعف وفيه قوة، فعرض لذلك في صراحة وإن خالف الناس وإن اتهم بقلة ذوقه وعدم وفائه للغته وأدبه، أو اجتماعي رأى الأمة كلها تتردى في نقيصة من النقائص الاجتماعية، فثار عليها وطالب بإصلاحها متحمسا لا يأبه بنقد ولا يكترث لمخالف، فهذا رجل ثقيل أيضا.
والثقلاء عندنا قليلون يعدون على الأصابع، والكثرة العظمى ظرفاء يجاملون - ولو على حساب المصلحة العامة - ويقبلون الرجاء ويعدون بتنفيذه ولو كان مستحيلا، ويوافقونك على رأيك ويوافقون غيرك على رأيه ولو تناقض الرأيان، ويسمعونك الكلام الحلو العذب ولو أضمروا خلافه، ويفضلون ضياع الوقت في مقابلات على صرفه في إنجاز العمل وقضاء مصالح الناس، ويرعون في أحكامهم خاطر فلان وخاطر فلان ومصلحة فلان ومصلحتهم هم وكل شيء إلا الحق، ويجملون ظاهرهم إلى أقصى حد ولا يهمهم تجميل باطنهم إلى أي حد، ويعنون أشد العناية بالكلام الأنيق واللباقة في الحديث واللياقة في التصرف، ولا يعنون أية عناية بالعدل في الكلام والعدل في العمل والعدل في التصرف.
فاللهم أكثر من ثقلائنا وقلل من ظرفائنا.
كناس الشارع!
هذا كناس الشارع بوجهه الذي علته طبقة من جنس ما يكنس وثيابه الممزقة المتهدلة، وبيده مكنسته التي يثير بها الغبار على نفسه وعلى الناس، ويبرز من عبه نصف رغيف من الخبز الجاف أعده للأكل عندما يعضه الجوع.
وهذا ملاحظه ببذلته التي تشبه البذلة العسكرية، وبكبريائه التي تشبه كبرياء الضباط على الجنود، وكبرياء الجنود على الباعة الجوالين، وبيده عصا من خيزران خفيفة الحمل جيدة اللسع قد أهوى بها على الكناس لسبب لا أدريه، فتلقى الكناس ذلك بسكون ظاهر وغيظ مكتوم.
وتدخل المارة في الشارع يرجون من الملاحظ أن يكف والكناس أن يحتمل، فكف الملاحظ، وسكت الكناس، وانتهت الرواية إلا في جوانب نفسي.
قلت: إن هذا النظر ليس وليد اليوم ولا أمس، ولكنه وليد قرون وقرون من عهد أن كان مثل هذا الكناس يجر أحجار الأهرام ويرفعها، وعليه مثل هذا الملاحظ يلسعه بالعصا إذا تهاون في عمله أو استراح من كده، وقد تمثل في القرون الوسطى في الأيوبيين والمماليك يوم صوروا ما كانوا يلقون من عنت في الحكايات المنسوبة إلى ظلم قراقوش وأمثاله. وتمثل في العصور الحديثة بما كان يفعله المديرون الأتراك في المراكز والقرى، فهم يظلمون ويستبدون بالمأمورين، ويثأر هؤلاء المأمورون لأنفسهم من العمد، والعمد من مشايخ البلد، ومشايخ البلد من الأهالي. صورة واحدة ورواية واحدة تمثل في أعلى طبقة، ثم يعاد تمثيلها طبقة بعد طبقة إلى أن تصل إلى مثل هذا الملاحظ وهذا الكناس، وتمثلت ما كان يقصه علي والدي - رحمة الله عليه - من ظلم إسماعيل باشا المفتش وخليل أغا ومن يسمى داود باشا، وكيف كانوا يجمعون المال من أي سبيل، وكيف كانوا يعذبون الأهالي، وكيف هرب أبوه من بلدته إلى مصر تاركا أطيانه لعجزه عن دفع ما يطلب منه.
تمثلت ذلك كله في العصوات التي أكلها الكناس على الريق قبل أن يأكل نصف رغيفه. لا. لا إن نظام الطبقات واستبداد الطبقة العليا بالسفلى نظام لم يعد صالحا لهذا الزمان.
فالناس سواء في الحقوق والواجبات، فحقوق كناس الشارع وواجباته كحقوق رئيس الوزارة وواجباته، فإذا كان من حقوق رئيس الحكومة ألا يضرب وألا يعتدي عليه، وألا يعاقب إلا إذا أجرم وإلا إذا ثبتت إدانته، فكذلك كناس الشارع.
إنا إذا قبلنا على مضض هذه الفوارق الشاسعة في الغنى والفقر والمائدة الفخمة الدسمة الشهية المختلفة الألوان والطعوم، والكسرة الجافة في عب الكناس، فلسنا نقبل هذه الإهانة للكرامة الإنسانية وتمريغها في التراب.
إن نظرية الطبقات قد اعتنقها الناس حينا واستمتعت بها الأقلية وشقيت بها الأغلبية حينا، وسمن عليها النبلاء والأغنياء وذوو البيوتات الرفيعة حتى ورجال الدين، فأشرفوا على سواد الناس من طيارة، واستغلوا جهودهم لصالحهم، ونظروا إليهم في احتقار وازدراء، واحتكروا الوظائف الرفيعة لهم والمدارس لتعليم أبنائهم، والأماكن الجميلة لمتعة أنفسهم. ولكن طواحين العالم التي تطحن دائما، وتطحن ناعما قد طحنت هذه النظريات وخلاف الطبقات فيما طحنت، فجعلت الوظائف حق الأكفاء، والمدارس حق الجميع، والكرامة الإنسانية حق كل إنسان. فما بال هذا الملاحظ يضرب هذا الكناس؟!
لسنا نريد طبقات وإنما نريد ابن الباشا يجلس في الفصل في المدرسة بجانب ابن الكناس يتعلمان معا، ويرعاهما المدرس على السواء معا، ويؤنب ابن الباشا على ما أخطأ ويشجع ابن الكناس على ما أجاد، ويهذبهما معا، ويعلمهما أن لهما الحقوق المتساوية في كل ما يتصل بالكرامة الإنسانية. وكل ما نطلب أن تتدبر الدولة في تنظيف أبناء الفقراء، فليس من حق ابن الغني أن يشمئز من وضاعة ملابس ابن الفقير، ولكن له الحق أن يشمئز من قذارتها، فلتنظر الدولة كيف تنظفه .
لقد مر زمان على الشعوب الأوربية كانت تعنى فيه بمدارس للخاصة من أبناء الذوات والأعيان، فإذا أتموا دراستهم خطب فيهم خطباؤهم أنهم أعدوهم؛ ليكونوا أسياد الجماهير وقادة الجماهير. ثم أخذ هذا في التلاشي بفضل الديمقراطية الصحيحة، وانقلب الوضع، وصرخ الناس: لسنا نريد قوادا للجماهير، ولكن نريد خداما للجماهير.
لسنا نريد مدير إدارة يتربع على كرسيه الفخم أمام مكتبه الفخم، يشعل سيجاره الفخم ليتكلم من طرف لسانه ويشمخ بأرنبة أنفه على الموظفين عنده ليلعبوا هم مثل دوره على الفلاحين وأصحاب الأعمال.
ولكنا نريد موظفا صغيرا يخدم الجماهير وأرباب العمل، وموظفا كبيرا يخدم الموظف الصغير في إرشاده وتوجيهه كيف يخدم ذوي الحاجات، فليس بيننا قائد ومقود آمر ومؤتمر، ومن هو فوق القانون ومن هو تحت القانون، إنما بيننا خادم كبير وخادم صغير، والكبر والصغر ليسا إلا تابعين لنوع الخدمة.
وعلى هذا الأساس فكناس الشارع يؤدي خدمة للأمة كالموظف على مكتبه، ومدير الإدارة في مصلحته، وكل له الحق في أن يعيش، وأن يعيش مكرما ممن فوقه ومكرما لمن تحته.
فما بال هذا الملاحظ يضرب هذا الكناس؟!
إن العظيم ليس الحاكم بأمره، ولا المترفع عن شعبه، ولا الذي هو فوق القانون وفوق العقوبة، ولا الذي يأمر فأمره حكم وطاعته غنم، ولكن هو الذي يعرف الجماهير، ويعرف نفوسهم ومشاكلهم وأسباب انحطاطهم ووسائل رقيهم ثم يعرف كيف يخدمهم.
وليس العظيم من يميت إرادة الأمة بقوة إرادته، وتفكيرها بإملاء تفكيره عليها، ومشاعرها بفرض مشاعره.
إنما العظيم من يحيي إرادة الأمة بجانب إرادته، وعقلها بجانب عقله، ومشاعرها بجانب مشاعره، ثم يتفاعل معها خادما ومخدوما وآخذا ومعطيا ومفيدا ومستفيدا.
ولخير للأمة أن تفعل ما تريد - ولو أخطأت - مع احتفاظها بعقلها وإرادتها من أن تفعل الصواب إذا سلبت حريتها وإرادتها.
إن الدرس الصحيح الذي يجب أن يتعلمه كل فرد في الأمة - من الطفل في المدرسة إلى الموظف في المصلحة، إلى الفلاح في الحقل، إلى العامل، في المصنع إلى الوزير في الوزارة، إلى رئيس الوزراء في الدولة - هو أن يكون الإنسان نافعا للحياة، خادما بما يستطيع للأمة، محترما لأخيه الإنسان. فلا وضيع ولا شريف، ولا رفيع ولا حقير، وأن يعتقد ويعمل على أن كل الناس سواء في حقوق الإنسانية.
فما بال هذا الملاحظ يضرب هذا الكناس؟!
لن تفلح أمة حتى يتغلغل في أعماق نفسها أن هذا الكناس وأكبر رئيس سواء في الحقوق والواجبات.
الحظ ...!
من قديم والناس يتجادلون: هل في الدنيا شيء اسمه الحظ؟ أو هو مجرد وهم وخرافة؟ وقد كنت قرأت قصة لطيفة في ذلك، وهي أن ملكا ووزيرا تجادلا مرة في هذا:
فأما الملك فقال: ليس في الدنيا حظ إنما هو سبب ومسبب وعمل ونتيجة .
فالتاجر إذا نجح فبجده وبمعرفته قوانين الاقتصاد، وإذا خاب فبكسله أو إسرافه أو جهله بأصول التجارة. والفلاح إذا نجح؛ فلأنه جرى على أصول الزراعة، حرث الأرض جيدا وبذر فيها بذورا نقية وسقاها في مواعيدها ونقاها مما يعلق بها، وجاره إذا خابت زراعته؛ فلأنه لم يتبع هذه القوانين.
قال الوزير: ولكن قد نرى تاجرين أحدهما متعلم على آخر نمط وصل إليه العلم الحديث؛ درس الجغرافيا وعلم محاصيل البلاد ومنتجاتها، ودرس علم الاقتصاد وعرف قانون العرض والطلب، ومتى يرتفع السعر ومتى ينخفض، ومع ذلك نراه تاجرا خائبا، وزميله الذي لم يتعلم ويكاد يكون أميا تاجر ناجح قد ربى ثروة كبيرة. وعندنا في مملكتنا أمثلة كثيرة لآباء جهلة كانوا ناجحين في تجارتهم، وخلفوا أبناء علموهم على آخر طراز، فلما تولوا تجارة آبائهم خابوا وأضاعوا ثروتهم.
أليس هذا أيها الملك الجليل هو الحظ؟
الملك :
ليس هذا حظا، وسبب نجاح الأب وخيبة الابن أن هناك علما غير الذي في الكتب يكتسب بالتجارب؛ فالأب الذي نجح قد عرف أخلاق الناس وعرف كيف يعاملهم وعرف ما يستهويهم وما ينفرهم، فكان هذا سبب نجاحه. أو تعلم من آبائه ألا يتوسع إلا على قدر رأس ماله ولا ينفق على نفسه وعلى أسرته إلا ما هو أقل من ربحه. ثم يجيء الابن المغرور بعلمه فلا يجامل الناس؛ لأن التجار في المملكة التي تعلم فيها لا يجاملون، مع أن لكل ممكلة عوائدها وتقاليدها، أو يتوسع في التجارة أكثر مما يحتمله رأس ماله اعتمادا على حساب تبين خطؤه، أو تغريه الملذات فينفق أكثر مما يربح فتكون النتيجة الفشل، ثم يأتي الجهال فيسمون ذلك كله حظا!
الوزير :
ولكن هناك أمثلة أعقد من هذه. قد نجد فلاحين زرعا أرضهما في ميعاد واحد وبعناية واحدة وتربة الأرض واحدة والتقاوي واحدة وكل شيء واحد، ثم نجحت زراعة أحدهما ولم تنجح زراعة الآخر، لا لشيء إلا الحظ.
الملك :
حتى ولا هذه - فلا بد أن يكون هناك سبب، كأن تكون تقاوي أحدهما مبخرة والأخرى غير مبخرة، أو تكون في السماد البلدي الذي سمد به الثاني أرضه مكروبات سببت فساد زراعته - وأكثر ما يمكن أن يقال: إنه قد يكون هناك قوانين لم تستكشف بعد، بسببها نجحت زراعة أحدهما وفشلت زراعة الآخر، فالمسألة ليست مسألة حظ، ولكن مسألة قوانين طبيعية بعضها عرف وبعضها لم يعرف، والناس يأتون فيسمون هذه القوانين التي لم تعرف حظا.
الوزير :
فما قول مولاي الملك في شابين نزلا يستحمان في البحر فغرق من يعرف العوم ونجا من لم يعرف؟
الملك :
لا بد أيضا من سبب، فقد يكون من غرق لأن قلبه وقف، أو لأنه نزل البحر على امتلاء أو أراد أن ينتحر أو نحو ذلك من أسباب.
وما زال الوزير يعترض والملك يجيب حتى تضايق الملك فقال: إن لم تأتني بدليل قاطع على وجود الحظ عزلتك.
وساعد الحظ الوزير، فلما أظلم الليل أمر أن يقبض على أول اثنين يسيران في الشارع، فأتي بالرجلين فحبسهما الوزير في حجرة مظلمة. فأما أحدهما فكان نشيطا شجاعا، وأما الآخر فكان كسولا جبانا، قعد الكسول في ركن من أركان الحجرة يبكي مما أصابه، وأخذ النشيط الشجاع يتحسس الحجرة لعله يجد فيها ما يأكله، فوقعت يده على كيس أدخل فيه يده فوجده حبا ذاقه فوجده حمصا، فأخذ يأكل، ومن حين لآخر تصطدم أضراسه بحصاة يخرجها فيرمي بها صاحبه اللابد في الركن استهزاء به واستخفافا، فلما أصبح الصباح وأشرق النور تبين أن الحجارة التي في حجر الكسلان الجبان قطع من أفخر الماس، وتكشفت الحال عن نشيط شجاع أكل حمصا، وكسلان جبان نال ماسا.
فذهب الوزير إلى الملك يقص عليه أكبر برهان على وجود الحظ في الدنيا.
فقال الملك: آمنت أن في الدنيا حظا بمقدار ما يوجد الماس في حمص.
وفي الحق أن الدنيا حظا، وأنه أكثر قدرا من الماس في حمص، فهذه ترزق الجمال، وهذه ترزق القبح، وهذا يرزق الذكاء، وهذا يرزق الغباء.
وأجلس في «المترو» في المقعد الضيق فأرزق بالرجل السمين الذي يحتاج إلى «مترو» وحده، ويركب الناس القطارات فتوزع الأرزاق أشكالا وألوانا، هذا محظوظ في مكانه وهذا منحوس في جيرانه.
ويشتري مائة ألف أوراق يانصيب، فيربح أقل الناس استحقاقا، ويخسر أكثرهم استحقاقا.
ويسلم شخص على آخر فيسلمه ميكروبا ينغص عليه حياته أياما، ويتحدث شخص إلى آخر، فينجلي الحديث عن شيء يكون سببا لسعادته في الحياة.
والطائرة تطير حتى إذا وصلت إلى مكان ما تعطل محركها فسقطت على فلاح يجر جاموسته فقتلته وقتلت جاموسته، وفي الأرض ملايين الفلاحين يسحبون ملايين الجواميس، ولكن هذا الفلاح بالذات وهذه الجاموسة بالذات هما اللذان يدركهما سوء الحظ، وقد تكون الطائرة في الأصل غير مصوبة إلى رأس الفلاح ولكنه يجري ليتقيها فيقع تحتها.
وهكذا كل يوم آلاف وآلاف من الحوادث تجري ليس لها تعليل إلا الحظ.
أنا مع الوزير ومع الملك في وجهة نظرهما؛ مع الوزير في أن في الدنيا حظا وفي الدنيا أمورا لا يفسرها قانون السببية، ومع الملك في أن الحظ لا يصلح أن يعتمد عليه في الحياة، فلا يصح للفلاح أن يعتمد في زراعته على الحظ، وكذلك التاجر في تجارته، والطالب في دراسته، والصانع في صناعته، والأمة في مصيرها أو في تسيير شؤونها.
لكل إنسان دائرتان في الحياة: دائرة العمل وهذه ينبغي أن يعتمد فيها على قانون السبب والمسبب، والارتكان فيها على الحظ أو البخت أو القدر أو نحو ذلك من الأسماء خطأ أي خطأ، فإذا بذل الإنسان أقصى جهده في عمله، فهناك الدائرة الأخرى التي ليست في يدنا، وإنما هي في يد القدر أو الحظ، ولتكن ما تكون بعد أن يكون الإنسان قد أرضى ضميره ببذل ما في وسعه.
عبد الله نديم
(1261-1314ه / 1845-1895م)
1
إن كان يستحق الإعجاب من نبغ - والظروف له مواتية - من أسرة عريقة في المجد أو الغنى أو الجاه أو نحو ذلك مما ييسر للأبناء أن يتعلموا، ثم يشقوا لهم طريق الحياة وطريق المجد، فأولى بالإعجاب من ينبغ والظروف له معاكسة، لا حسب ولا نسب، ولا غنى ولا جاه؛ بل ولا القوت الضروري الذي يمكن الفتى من أن يجد له وقت فراغ يثقف فيه نفسه.
قد يدعو إلى شيء من الإعجاب منظر شجرة يانعة ضخمة مثمرة، تعهدها بستانيها بكل ما يصلحها، من وضع في المكان المناسب، والغذاء الكافي، والري المتوافر في أوقاته، ولكن أدعى إلى الإعجاب بذرة طرحت حيثما اتفق، فمدت جذورها بنفسها تجد في حصولها على غذائها، فقد تجده وقد لا تجده؛ وتعاكسها الطبيعة فتكافحها وتتغلب عليها، ثم هي آخر الأمر تكون أينع ما كانت شجرة وأضخمها وأوفرها إثمارا.
كذلك كان من النوع الثاني «عبد الله نديم»، كل الدلائل تدل على أنه سيكون نجارا أو خبازا، ولو تنبأ له متنبئ متفائل لقال: إنه سيكون نجارا ماهرا أو خبازا ناجحا، فأما أديب يملأ الدنيا ويقود الرأي العام ويحسب حسابه في كل ما يخطه قلمه أو تنطق به شفتاه، فلا يدور بخلد أحد حتى فاتح الرمل والضارب بالحصى.
هذا أبوه أصله من الشرقية ورحل منها إلى الإسكندرية، وعمل فيها نجارا للسفن بدار الصناعة «الترسانة» ثم لم يعجبه هذا العمل فاتخذ مخبزا صغيرا يصنع فيه الخبز ويبيعه، ويحصل من ذلك على الكفاف من العيش.
فما بالك بأسرة من هذا القبيل، مسكن متواضع، وخبز إن توافر فإدام غير متوافر، وملبس لا يراعى فيها إلا أن يستر الجسم ولا يلفت النظر، وصحة ترك البت فيها للقضاء والقدر.
ولكن «عم مصباح» والد عبد الله، رجل جاد في عمله، قنوع بكسبه، مستقيم - بالضرورة - في حياته، من بيته إلى مخبزه إلى مسجده. أرسل ابنه إلى الكتاب على باب حارته كما يفعل الناس من مثل طبقته، يرسلون أولادهم إلى الكتاب زمنا ما، فإذا اشتد متنهم وقوي جسمهم أخذوهم إلى دكاكينهم في مثل صناعتهم التي تتوارث كما يتوارث المال.
ولكن عبد الله تفوق في الكتاب، وظهرت عليه ملامح الذكاء، فأراد أن يستمر في تعلمه، ولم يمانعه أبوه، وكانت الطريقة المعبدة لذلك أن يرسل الوالد ابنه إلى الأزهر، ولكن أين مال الأسرة الذي يحتمل ذلك؟!
على أنه في الإسكندرية - قريبا من بيتهم - مسجد هو صورة مصغرة من الأزهر يدرس فيه المشايخ ما يدرس في الأزهر وعلى نمطه، وذلك هو مسجد الشيخ إبراهيم باشا.
فدرس فيه عبد الله نديم ما شاء الله أن يدرس، ولكنه كان تلميذا خائبا في هذه الدراسة، لا يصبر على جفافها، ولا يقدر على حل ألغازها، ولا يتحمل العناء في تفهم كتب نحوها وفقهها، فكان لا يواظب على درسه ولا يبدي به اهتماما.
وحبب إليه نوع من الدراسة غير منظم، يوافق مزاجه، ويناسب استعداده، وهو أن يصاحب الناشئين في الأدب ويغشى مجالسهم ومجالس أساتذتهم، وما كان للأدب درس منظم ولا هو يعد علما ولا فنا، وإنما هو هواية كذي الصوت الجميل يهوى الغناء ويقلد فيه من سبقه، ولا درس ولا فن، ومثل هذا ينظر إليه من أهل العلم بالنحو والفقه نظرة استخفاف وازدراء؛ وقد عهدنا هذا في أيام دراستنا بالأزهر، أيام كان الشيخ سيد المرصفي يحلق حلقة لدراسة الأدب، فكان هذا عجبا من العجب، ينظر طلاب الفقه والنحو ومشايخهم إلى حلقته شزرا.
كان عبد الله نديم يغشى هذه المجالس الأدبية التي ليس لها منهج؛ فيسمع شعر الشاعرين وزجل الزجالين، ونوادر المتماجنين، وقصائد الراوين، فيصغي إلى كل ذلك في فهم كأنه كله آذان، ويدرك من غير وعي أن هذا بابه وهذا فنه، وأنه إنما خلق لذلك لا للنحو ولا للصرف، فاشتاقت نفسه أن يسلك هذا المسلك ويسير في هذا الطريق، وقد منح حافظة لاقطة، وقدرة على التقليد فائقة، فأخذ يحاكي بعد ما اختزن، ويغني بعد ما سمع، فطورا يوفق فيستدعي ذلك إعجاب أمثاله، وطورا يخذل فيستخرج ضحك أقرانه، ومن كل ذلك كان يتعلم.
وإلى جانب ذلك تعلم درسا في منتهى القيمة، درسا تعلمه حافظ ولم يتعلمه شوقي، وتعلمه بيرم التونسي ولم يتعلمه توفيق الحكيم؛ درسا قل أن يفقهه الأدباء مع عظيم خطره وكبير أثره، ذلك هو أن نشأته في صميم الأحياء الشعبية مع رفاهة حسه، ويقظة نفسه، وفقره وبؤسه، علمته أن يحيط إحاطة واسعة بلغة الشعب وأدبه، من أمثال وحكايات ووجوه معاملات وصنوف تصرفات، فرسم ذلك كله في نفسه لوحات كان لها أكبر الأثر في حياته الأدبية المستقلة، والنفس الحساسة الفنانة تختزن حتى حفيف أوراق الأشجار، وهفهفة الأغصان، ودبيب النعال، وحلاوة البسمات، وأدق مجالي الجمال والقبح، ثم تعرف كيف تستخدم ذلك في فنها متى آن أوانه.
ولكن مرحى بذلك كله، تبا للحياة المادية، هل يكسب من ذلك «عبد الله نديم» قرشا، وهل يستطيع «عم مصباح» أن يحتمل هذا الهذر طويلا؟ لقد احتمل الإنفاق عليه في الكتاب؛ لأنه طفل، والكتاب خير من البيت، واحتمله يدرس في «جامع الشيخ»؛ لأنه كان يرجو في ابنه أن يكون شيخا معمما، وعالما مطمطما، يتقرب إلى الله بتقبيل يده والتمسح بثوبه، فأما هذا اللغو الفارغ الذي يسمى شعرا ونثرا فهو عبادة الشيطان لا عبادة الله، ولست أتقرب إلى الله بالإنفاق على عبدة الشياطين.
لقد نفض أبوه يده منه، فأخذ عبد الله نديم يبحث عن وجه للكسب، فاتجه اتجاها غريبا، هو أن يتعلم فن الإشارات التلغرافية ثم يتكسب منه، وكذلك كان. فتعلمه واستخدم بمكتب التلغراف ببنها.
ثم نقل إلى مكتب القصر العالي حيث تسكن والدة الخديوي إسماعيل، وقد كان قصرا من أفخم القصور، يقع على النيل فيما يسمى الآن «جاردن سيتي»، خدم وحشم وموسيقى وطرب، وما شئت من ألوان النعيم والترف؛ وقد تعلم منه عبد الله نديم كيف يعيش الأمراء والسادة، كما تعلم في بيته وحارته في الإسكندرية كيف يعيش الفقراء والعبيد.
وعاد إليه في القاهرة شوقه إلى الأدب ومجالس الأدباء، وكان حظ القاهرة في ذلك أوفى؛ ففيها - مثلا - مجلس محمود سامي البارودي، وكان مجلسا عامرا يسمر فيه السمر اللذيذ؛ فأدب قديم يعرض، وأدب حديث ينشد، وعرض للمعنى الواحد صيغ صياغة مختلفة، ونقد قيم لهذا ولذاك، يتخلله نوادر فكهة، وأحاديث في الأدب حلوة، اتصل عبد الله نديم بهذا المجلس وأمثاله، وتوثقت الصلة بينه وبين كثير من أدباء مصر إذ ذاك، وأخصهم سبعة أولع بهم واستفاد من معارفهم وأدبهم: شاعر مصر محمود سامي البارودي؛ وشيخ الأدباء عبد الله باشا فكري، والسيد علي أبو النصر البليغ الشهير؛ ومحمود صفوت الساعاتي، الواسع الاطلاع، الكثير المحفوظ، المتفنن في الطرائف الأدبية؛ والشيخ أحمد الزرقاني الكاتب الأديب؛ ومحمد بك سعيد بن جعفر باشا مظهر الشاعر الثائر؛ وعبد العزيز بك حافظ عاشق الأدب والأدباء، الكريم الوفي.
وكان الذي أرشده إلى هؤلاء الأدباء وعرفه بهم، وأحكم الصلة بينه وبينهم، الشيخ أحمد وهبي أحد المولعين بالشعر، الناظمين له، والمحرر بالوقائع المصرية في بعض أيامه.
فأتم على هؤلاء وأمثالهم دراسته، وشرب من منهلهم وارتوى من ينابيعهم، فهو في النهار تلغرافي، يتقبل الإشارات ويرسلها، وبالليل أديب يتقبل نماذج الأدب ويحاكيها.
ولكنه لم يمهله الحظ، فقد غلط في عمله في القصر العالي غلطة سببت غضب خليل أغا عليه؛ ومن خليل أغا؟ هو كبير أغوات الوالدة (أم إسماعيل)، وكان القصر مملوءا بالأغوات، يقومون بشئون القصر، ويستقبلون المدعوات ويصحبونهن إلى باب الحريم؛ ونال كبيرهم خليل أغا من النفوذ ما لم ينله ناظر النظار ولا الأمراء والوجهاء، لخطوته عند الخديو إسماعيل ووالدته.
إشارته حكم، وطاعته غنم، يخضع له أكبر كبير، ويسعى لخدمته أعظم عظيم، رأيه نافذ في الدواوين والمصالح، يتحكم في مصر والسودان، ويأتمر بأمره كبار الموظفين والأعيان. حاز الثروة الضخمة والجاه العريض، كأنه كافور الإخشيدي في أيامه، حتى إنه لما عقد عقد زواج الأنجال في القصر العالي حضره النظار والعلماء وكبار الأعيان، فكان يرأس الجميع «خليل أغا»؛ كان من خصاله أنه يذبح ويسبح ، ويغصب ويبني مدرسة.
فمن عبد الله نديم إذا غضب عليه خليل أغا العظيم؟! إذا غضب عليه غير خليل أغا فصل من وظيفته، ولكنه إذا غضب عليه خليل أغا ضرب وطرد، وضاقت عليه الأرض بما رحبت.
سدت في وجهه أبواب الرزق في القاهرة كما سدت في الإسكندرية، وانتهى به الأمر إلى أن ينزل على عمدة من عمد الدقهلية يقيم عنده ويعلم أولاده؛ ثم ما لبث أن تخاصم مع العمدة. فأما العمدة فيرى أنه آكله وأسكنه مقابل تعليم أولاده، وأما عبد الله نديم فيرى أن هذا حق الضيف ويبقى له أجر التعليم، وقد قدره بثلاثين جنيها. واختلفت وجهة نظر، وتشادا ثم تسابا، وغلى مرجل عبد الله نديم. فكان ذلك نعمة على أدبه إذ انفجر المرجل، وتدفق عبد الله نديم يصوغ في هجاء العمدة أدبا لاذعا، تدفعه عاطفة حادة، فعرف نفسه أديبا، وعرفه من حوله لسنا يملك ناصية القول.
واتصل أمره بعين من أعيان المنصورة ذي مروءة، فاستدعاه وأكرمه، وفتح له دكانا يبيع فيه المناديل وما إليها، فاتخذ دكانه متجرا للمناديل ومتجرا للأدب، يجتمع فيه بعض أصحابه يتذاكرون الأدب، ويتناشدون الأشعار، ويتبادلون النوادر، وبين هذا وذاك تأتي شارية لمنديل، أو شار «لعصابة».
وكانت هذه العادة فاشية في المدن، فقد يكون التاجر ذا ثقافة فقهية أو أدبية، فيتخذ أصحابه من دكانه مكانا للبحث في الفقه أو الحديث في الأدب، إذ لم تكن قد غزتنا المدينة الأوربية فعلمتنا التخصص، وأن مكان التجارة للتجارة فقط، وأما الحديث في العلم والأدب فله مكان آخر. وقد أدركنا في أول زماننا شيئا من هذا، فكانت بعض الدكاكين مدارس، وخاصة في الأدب لأن الأدب لم يكن يدر رزقا، وإنما هو فن للمتعة. وكثير من أدباء عصر عبد الله نديم كان من هذا الطراز، فحسن أفندي عبد الباسط الأديب الشاعر الهجاء، كان في بعض أيامه يفتح دكان عطارة في الزقازيق، ويجتمع به في دكانه أدباء الزقازيق وظرفاؤها، والشيخ أحمد وهبي الشاعر الأديب كان له دكان طرابيش بالغورية، وكانت مجتمع الأدباء والشعراء . ولكن أكثر هؤلاء لم ينجحوا في تجارتهم؛ فالأديب فنان، والفنان - في الغالب - سمح، يقدر الذوق الفني أكثر مما يقدر الدرهم والدينار، والتجارة تحتاج إلى الضبط والدقة، والعناية بالإيراد والصرف؛ والفنان - عادة - محلول لا تطيق نفسه القيود والحدود. على كل حال وجد عبد الله نديم بعد برهة دكانه وليس فيها مناديل ولا جوارب، ولكن جماعة يتناشدون الأشعار، ويستهلكون ولا يغلون، فأغلق دكانه وطوف بالبلاد ينزل ضيفا على هواة الأدب؛ إلى أن نزل بطنطا، وصادف مولد السيد، فكانت له حادثة ظريفة لفتت إليه الأنظار وشهرته بين الناس.
وكانت البيوت أعظم شأنا من الدكاكين في أنها مجتمع الأصدقاء من ذوي العلم والفن، يسمرون فيها السمر اللذيذ ويتحادثون الحديث الظريف، هذا بيته منتدى الأدباء، وهذا بيته مجمع الفقهاء، وهكذا، فيكاد كل رجل يعرف مكانه من هذه البيوت حسب ذوقه وميله، ويكثر ذلك في طبقة الأوساط والأغنياء من ذوي الميل العلمي والفني، وأدركت في حارتنا المتواضعة ثلاثة بيوت من هذا القبيل، كان صاحب أحدها قاضيا شرعيا كبيرا، فكان بيته منتدى الفقهاء والعلماء يتسامرون عنده في الدين والفقه؛ والثاني: موظفا ظريفا يسمر عنده أصحابه في الأخبار والفكاهات، ليلة يدعون مقرئا جميل الصوت، وأحيانا فكها حسن الحديث؛ والثالث: دفافا يضرب على الدف في الأفراح، فكان عنده كثير من هواة الآلات الموسيقية، يحيون عنده الليالي الملاح حتى الصباح. فما بالك بالموسرين إذا شغفوا بأدب أو علم أو فن، وكانوا كراما يفتحون بيوتهم للهواة من أمثالهم، يجدون فيها الطعام الشهي والفن الشهي؟!
كان بيت شاهين باشا كنج بطنطا - وهو مفتش الوجه البحري إذ ذاك - من هذا القبيل، كرم حاتمي، وذوق أدبي، وظرف نواسي، فتعرف به عبد الله نديم، فوجد فيه شاهين باشا قبح منظر، ولكن طلاقة لسان، وخفة روح، وسرعة بديهة، فغطى ذلك على قبح منظره، واتخذه له نديما.
2
كان مرة يجلس في قهوة أيام المولد الأحمدي سنة (1294ه) ومعه طائفة من أصحابه، منهم السيد علي أبو النصر الشاعر، والشيخ أحمد أبو الفرج الدمنهوري الأديب الماجن، فطلع عليهم اثنان من «الأدباتية».
والأدباتية طائفة من المتسولين يستجدون بأدبهم العامي، وطلاقة لسانهم في الشعر، وحضور بديهتهم؛ عرفوا بالإلحاح في الطلب، فإذا رددتهم أي رد أخذوا كلمتك على البديهة، وصاغوا منها شعرا يدل على استمرارهم في طلبهم، واستغواء ممدوحهم، وقد جمعوا إلى طلاقة لسانهم وحضور بديهتهم منظرهم المضحك في ملبسهم وحركاتهم، فزر خارج العمامة، وطبلة تحت الإبط، وحركات يدور معها زر العمامة كأنه نحلة، وتحريك لعضلات وجوههم كأنهم قردة، وهكذا. وسموا«أدباتية» جمع سخرية لأديب. فمرا على الحاضرين حتى وصلا إلى عبد الله نديم، فقال أحدهما:
أنعم بقرشك يا جندي
وإلا اكسنا امال يا أفندي
لحسن أنا وحياتك عندي
بقى لي شهرين طول جعان
فأجابه عبد الله نديم على البديهة:
أما الفلوس أنا مديشي
وانت تقول: ما مشيشي
يطلع علي حشيشي
أقوم أملص لك لودان
فرد «الأدباتي»، ورد عبد الله نديم، وظلا كذلك نحو ساعة، ثم غلب الأدباتي فانصرف مهزوما.
ونقل السيد علي أبو النصر القصة إلى شاهين باشا كنج، فاستطرفها جدا، وخطرت له فكرة طريفة أيضا، أن يقيم حفلا عاما، يدعو فيه كبار الأدباتية والزجالين ويدخلون في مساجلة مع عبد الله نديم، فيكون منظرا لطيفا، ومحفلا ظريفا. ففعل، ونصب سرادقا أمام بيته، وأحضر رؤساء هذا الفن، وشرط عليهم أنهم إن غلبوا كافأهم، وإن غلبوا ضربهم، فرضوا. واستمرت المساجلة نحو ثلاث ساعات، غلب النديم، فكانت الحادثة سبب شهرته بين الأدباء والظرفاء.
لقد أخذ بعضهم عليه - فيما بعد - هذا الحادث، وعيره به، وقالوا: إنه رضي أن يقف موقفا يساجل فيه المتسولين، وأن يكون «أدباتيا» مثلهم، ينازلهم ويغالبهم على ملأ من الناس، فمثله مثل المصارعين أمام «الزفة»، ولا يرضى لنفسه هذا الموقف إلا وضيع النفس ساقط الهمة.
والحق أن وضع المسألة هذا الوضع فيه كثير من التزمت والتعنت، كالذي تعرض على مسامعه الفكاهة الحلوة فينتقد فيها خطأ نحويا أو لفظا لغويا، وكمن ينتقد الشيخ الوقور على ما كان منه أيام الصبا، والغني الواسع الثراء على ما كان منه أيام البؤس والشقاء؛ فالمسألة لم تعد أن تكون طرفة لطيفة، وفكاهة ظريفة، وقوانين الظرف تبيح من البحبحة في مجالسه ما لا تبيحه في مجالس الجد والوقار.
أخيرا عاد إلى مسقط رأسه بالإسكندرية سنة (1879م) في نحو الخامسة والثلاثين، وهو أكثر خبرة بالدنيا فيما لقي من عظماء ووجهاء وأدباء، وفيما رأى وسمع وعمل في القصر العالي أيام كان موظفا في تلغرافه، وفي التجارة أيام تاجر وأفلس، وبأخلاق الفلاحين أيام كان يعلم أولاد أحد «عمدهم»؛ ولكنه دخلها كما خرج منها صفر اليدين.
عاد فرأى في الإسكندرية منظرا جديدا لم يكن أيام كان بها، كانت المجالس الأدبية يوم فارقها تتحدث في غزل أبي نواس، ووصف البحتري، وهجاء ابن الرومي ، ومديح الشعراء في إسماعيل، وفكاهات الشيخ علي الليثي؛ فإذا انتقلوا من ذلك فإلى من عارض شعر هؤلاء من المحدثين، وما أنشأه الناشئون من سمار المجلس في مثل هذه الأغراض؛ ولما عاد إليها وجد المجالس تتحدث في نقد إسماعيل لإسرافه وتصرفه، وفي الدول وتدخلها، ورأى جمعية سرية تسمى «مصر الفتاة» يجتمع أعضاؤها فينقدون هذا كله في صراحة حماسة؛ والأدب يتحول فيأخذ شكل الكلام في الأمة ومصالحها، وآلامها وآمالها، ويحتل ذلك مكان غزل أبي نواس، وشعر صريع الغواني؛ والنفوس بفضل تعاليم «جمال الدين الأفغاني» وصحبه ثائرة تتطلع إلى نوع من الأدب غير الذي كان، وتجد غذاءها في الصحف السياسية والمقالات النقدية؛ فيشتغل في الصحافة من هذا النوع «أديب إسحاق»، و«سليم نقاش» في جريدتيهما «مصر» و«التجارة»، ويمدهما جمال الدين وتلاميذه بمقالاتهم وإرشاداتهم.
فأعد عبد الله نديم نفسه للأدب الجديد والمطلب الجديد وانغمس في هذا التيار، وحول قلمه في هذا الاتجاه، يمد هذه الصحف بمقالاته في مثل هذه الموضوعات، فلقي من النجاح ما لفت إليه الأنظار. وكان له فضل كبير في إدراك أن الكتابة في الموضوعات السياسية إنما يناسبها أسلوب متدفق سريع مرسل لا يقيده السجع إلا قليلا، لينسجم وحركات النفس المتحمسة الثائرة.
وفكر مع بعض أصحابه من أعضاء جمعية «مصر الفتاة» أن يحولوها من جمعية سرية إلى جمعية علنية، تعمل جهارا في الأعمال المشروعة، وجد هو وصحبه يجمعون المال لها من أعيان الإسكندرية، وسموها «الجمعية الخيرية الإسلامية» (وهي غير الجمعية القائمة الآن بهذا الاسم). وكان من أهم أغراضها إنشاء مدرسة تعلم الناشئة على نمط غير النمط الجاف الذي تسير عليه مدارس الحكومة إذ ذاك، فيضيفون إلى تعليم مبادئ العلوم بث روح الوطنية والشعور القومي في الأمة، وقد كان هذا غرضا جديدا دعا إليه الشعور القومي الذي كان في طور التكون.
وتم ذلك كله، فجمع المال، وأنشئت المدرسة، وجعل عبد الله نديم مديرها، وافتتحها بخطبة رن صداها في الثغر، وكان ذلك في آخر أيام إسماعيل، وأقبل عليها كثير من أبناء الفقراء والأيتام ، ووضع لها برنامج يحقق الغرض، وتكفل هو بتعليم الإنشاء فيها والأدب، وأخذ يمرن الطلبة على الخطابة والتمثيل، وعلى الجملة نفخ فيها من روحه، ولعلها أول جمعية مصرية إسلامية في مصر أسست لمثل هذا الغرض.
ثم وثق الصلة بين المدرسة والقصر، وكان الخديوي إسماعيل قد عزل وحل محله الخديوي توفيق، فتقرب النديم إليه، واستزاره المدرسة، فزارها، ورجاه أن تنسب الرياسة لولي عهده «عباس» فقبل. وأغرم بتعليم التلاميذ الخطابة، فكان ينتهز كل فرصة لإقامة الحفلات يخطب فيها، ويحضر الخطب لتلاميذه ليخطبوها، ثم يمرنهم أن ينشئوا الخطب بأنفسهم، ويصلح خطأها ويرشدهم، فأسس بذلك نخبة يحسنون التحرير، ويحسنون القول، ولم يكتف بذلك بل خرج بالمدرسة إلى ميدان الحياة العامة، فكان يحضر بعض الروايات التمثيلية في نقد بعض العيوب الاجتماعية، ويمثلها هو وتلاميذه في بعض الملاهي العامة، من ذلك أنه أنشأ روايتين اسمهما «الوطن وطالع التوفيق»، و«العرب»، ومثلهما في «تياترو زيزينيا»، حضرهما الخديوي توفيق، ونجح فيهما نجاحا أعلى ذكره.
ولكن ظهر فساد في الجمعية نسبوه إليه، ففصل من المدرسة ومن الجمعية.
عند ذاك اتجه إلى إنشاء صحيفة، وحبب إليه ذلك سابقة اتصاله بصحيفتي أديب إسحاق وسليم نقاش، ومرانه على الكتابة فيهما، وشعوره بأن الناس أعجبوا بما كتب، وأنه كان يكتب فيستغل أصحاب الصحف مقالاته مادة ومعنى، فلا يؤجرونه على ما كتب. وكثيرا ما يضنون عليه حتى بذكر اسمه في ذيل مقالاته، بل يتركون القارئ يفهم أنها لهم ومن إنشائهم.
فأخرج صحيفة سماها «التنكيت والتبكيت»، وفي هذا الاسم دلالة على غرضه وأسلوبه، فهو يرمي إلي تأنيب المصريين على ما وصلوا إليه، في أسلوب قد يكون لاذعا وقد يكون ضاحكا.
وظهر العدد الأول منها في (6 يونيه سنة 1881)، ودعا فيه الكتاب أن يوافوه بمقالاتهم ونتاج قرائحهم على النهج الذي رسمه: «كونوا معي في المشرب الذي التزمته والمذهب الذي انتحلته، أفكار تخيلية، وفوائد تاريخية، وأمثال أدبية، وتبكيت ينادي بقبح الجهالة، وذم الخرافات؛ لنتعاون بهذه الخدمة على محو ما صرنا به مثلة في الوجود، من ركوب متن الغواية، واتباع الهوى اللذين أضلانا سواء السبيل».
وفي الحق أن هذه الصحيفة كانت عجبا في موضوعاتها وأسلوبها.
انظر العدد الأول، تجد تنكيتا وتبكيتا لأكبر المصائب التي كان يحسها ذلك العصر: مقال عنوانه «مجلس طبي لمصاب بالأفرنجي»، وهي قصة شاب صحيح البنية، قوي الأعصاب، جميل الصورة، لطيف الشكل، في رقة ألفاظ وعذوبة كلام، وفي عزة ومنعة لا يشاركه فيهما مشارك، يلتف حوله أهله يعززونه ويؤازرونه حتى لا تمتد إليه يد عدو، ولا حيل محتال. وبينا هو في ذلك تسلل إليه أحد الماكرين يتظاهر بالصلاح والتقوى، ويضمر الختل والغدر، فأسلمه أهله إليه انخداعا به. فعرضه هذا الماكر على الأسواق يريه من الغواني من تعارض الشمس بحسنها، وتكسف البدر بنورها، فمانع حينا، ولكنه رأى أهل بيته قد وقعوا في مثل هذه الغواية، وانغمسوا في مثل هذه الضلالة، فسار سيرهم، وترك النفار والإباء وسار في الطريق الذي رسمه المنافق الخادع، فما سار فيه حتى أصيب بالداء الإفرنجي «الزهري» فاصفر وجهه، وارتخت أعضاؤه، وذهبت بهجته، وغارت عيناه، وتشوه وجهه، وتبدلت محاسنه بقبائح تنفر منها الطباع، وتمكن الداء منه وسرى في دمه وعروقه، فصار يقلب طرفه لعله يجد من قومه من ينقذه من مرضه.
واجتمع الأطباء من قومه يفحصون الجسم، ويشخصون مرضه، ويقفون على أصله، ويركبون الدواء ليقف سريان الداء، وتعلق بهم أهل المريض يسألونهم الإسراع في معالجته والاجتهاد فى دفع مصابه، فطمأنهم الأطباء ونصحوهم بالهدوء والتحرز ممن كانوا السبب في الداء، حتى لا يفسدوا العلاج؛ وابتدءوا يعملون بمشورة الأطباء ويبذلون الجهد في معالجته.
وواضح أن هذه قصة رمزية، أراد أن يصور فيها شعور الناس في هذه الفترة بعد ما كان من الإسراف في عهد إسماعيل، ووقوع مصر في الديون الباهظة، وتدخل الدول الأجنبية، من مراقبة ثنائية وإنشاء صندوق الدين، وما إلى ذلك، كما يصور بها ألم الناس من هذا المرض الإفرنجي، وأملهم في النجاة منه بسعي عقلائهم، وتفكير أولي الرأي فيهم. كل ذلك في أسلوب روائي مفهوم.
قد كانت هذه المسألة هي صميم المسألة المصرية، ومشكلتها الكبرى ، فبدأ بها على هذا النحو، وعالجها هذا العلاج؛ وكان بارعا في التورية بكلمة «الداء الإفرنجي».
ويلي ذلك مقال في «عربي تفرنج»، يصف فيه شابا من صميم الفلاحين، تعلم في مصر، ثم في أوروبا، وعاد إلى بلاده يسفه أباه لما قابله على المحطة وقبله، كيف يقبله، ويطالبه أن يسلم عليه بيديه فقط، ويكتفي بأن يقول له: «بن آريفيه»، وينسى لغته، حتى اسم البصل فهو لا يعرف إلا أن اسمه «أونيون»، ويختم هذا بالمغزى من القصة، وهو أن لا أمل في مثل هؤلاء إلا إذا حافظوا على لغة قومهم وعاداتهم، وصرفوا علومهم في تقدم بلادهم.
ثم يقص قصة موسرين اجتمعوا في بيت أحدهم، دخل عليهم فوجدهم ساهمين لا يتكلمون ولا يتحركون، فظنهم يفكرون في أمر خطير شغل أذهانهم، وعقد لسانهم، كتفكيرهم في تقدم الصنائع في أوروبا، وكيف يفعل ذلك في مصر، أو يفكرون فيما يزيد ثروتهم، ويضمن التقدم في عملهم؛ ثم يتبين بعد ذلك أنهم إنما اجتمعوا لتعاطي الكيف، وأخذ «المنزول» ليكون الواحد «مبسوطا» لا يسأل عن الدنيا وما فيها، فإذا «ونن» قام إلى مكان نومه، وقضى ليلة سعيدة - وقال: ما لنا وللدنيا وما جرى فيها، وما لنا وللصحف والتلغرافات ونحن كلنا بحمد الله في غنى عظيم، عندنا الخدم الذين يقومون بأعمالنا، وقد خلف لنا آباؤنا من المال ما لا تفنيه الأيام - فلا نخرج من بيوتنا إلا للمسامرات بالمضحكات والنكات اللطيفات.
ثم قصة ترمي إلى نقد ما كان يجري بين العامة من اجتماعهم في القهوة، وسماعهم للقصاص «الشاعر»، وانقسامهم إلى معسكرين: متعصب لعنترة، ومتعصب لزغبة، وما كان من أحدهم - وقد ختم القصاص الليلة بوقوع عنترة أسيرا - إذ ذهب إلى ابنه وأيقظه من نومه وأمره أن يقرأ في الكتاب حتى يخلص عنترة من الأسر، وإلا مات كمدا، فلما لم يطعه ابنه، وأفهمه أن هذا تخريف في تخريف، نزل عليه بعصاه حتى أدماه. والجنون فنون.
ويلي هذه قصة تمثل الفلاح الجاهل، والمرابي الماكر، إذ أراد الفلاح أن يقترض منه مائة جنيه، فأعطاه سبعين، وكتب عليه «كمبيالة بمائة وعشرين». وحسبها كما يأتي: المائة فائدتها عشرون، وتخصم من المائة فيكون الباقي سبعين، وتضم الفائدة فيكون عليه مائة وعشرون؛ ويقتنع الفلاح بذلك لجهله بأبسط مسائل الحساب، ثم يقدم الفلاح للمرابي قطنا وقمحا ثمنهما الحقيقي 125 جنيها، يحسبهما المرابي بأربعين، ويغالطه أغلاطا مضاعفة حتى يجعله مدينا بمائتي جنيه وعشرة، كل ذلك والفلاح في غفلة لا يدري ما يصنع به - فإذا عوتب المرابي على ذلك قال: ماذا أصنع! إن الفلاح حمار. وأنا أريد أن أكون غنيا كبيرا في خمس سنين!
ثم قصة غني كبير بنى بيتا فخما، وأثثه أثاثا بديعا، وكان من أثاثه مكتبة كبيرة، فلما أتم ذلك كله عرضه على الزائرين، فسأله أحدهم عن المكتبة وما تحوي؛ ليعرف أي نوع من العلوم والفنون يهوى، فقال الغني صاحب البيت: لقد دخلت بيت فلان وفلان فرأيت في مضيفة كل منهم خزانة كتب، عليها ستارة خضراء وبجانبها منفضة من الريش، والخادم كل يوم ينفضها ويمسح الزجاج والخزانة، فعلمت أن هذا طراز جديد في بناء البيوت وتأثيثها، فقلدتهم في ذلك، ولا علم لي بعلم أو فن. «وهكذا أصبح الكل نائما في غفلة التقليد». •••
نعم هذا كله في العدد الأول من صحيفة «التنكيت والتبكيت»، نقد للسياسة العامة للبلد، ونقد للعيوب الاجتماعية الخاصة. كل ذلك في أسلوب يسترعي الانتباه. فقد التزم اللغة البسيطة السهلة عن تفكير وروية، فقال في فاتحتها: إنه لا يريد منها أن تكون منمقة بمجازات واستعارات، ولا مزخرفة بتورية واستخدام، ولا مفتخرة بفخامة لفظ وبلاغة عبارة، ولا معربة عن غزارة علم وتوقد ذكاء؛ ولكن أحاديث تعودناها، ولغة ألفنا المسامرة بها، ولا تلجئ إلى قاموس الفيروز آبادي، ولا تلزم مراجعة التاريخ، ولا نظر الجغرافيا، ولا تضطر لترجمان يعبر عن موضوعها، ولا شيخ يفسر معانيها؛ وإنما هي في مجلسك كصاحب يكلمك بما تعلم، وفي بيتك كخادم يطلب منك ما تقدر عليه، و«نديم» يسامرك بما تحب وتهوى.
ثم هو يدرك أن في الناس خاصة وعامة، وكل يحب أن يقصد إلى تغذيته بالأدب، وإشعاره بوجوه النقد؛ لذلك يختار موضوعات الخاصة فيكتبها باللغة الفصحى كموضوع «الداء الإفرنجي»، فهو موضوع دقيق لا يقدر قدره إلا الخاصة، أما الفلاح والمرابي وسماعو القصاص فمكتوبة للعامة، فيجب أن تكتب بلغتهم العامية. وهو في اللغة العامية ماهر كل المهارة، يعرف أمثالهم وأنواع كلامهم، ويضع على لسان الخادم والسيد، والمرأة والرجل، والفقير والغني، والماكر والمغفل، ما يليق به في دقة وإحكام وظرف.
ثم هو قد فطن لشيء جليل القدر، وهو أن التعليم والنقد من طريق القصص أجذب للنفس وأفعل في النقد، فأكثر منه بل كاد يلتزمه.
لذلك كله نجح في صحيفته، ووصل نداؤها إلى أكبر عدد ممكن، فمن كان قارئا قرأ، ومن لم يكن قارئا سمع ففهم.
ولم يكتف بذلك، بل نراه في عدد تال يلتفت التفاتة لها خطرها في الإصلاح السياسي والاجتماعي، وهي أن من أهم أسباب غفلة الشرق ضعف الخطابة، وانحصارها - تقريبا - في خطب المساجد، وهي خطب لا تمس الحياة الواقعة بحال من الأحوال، وإنما هي عبارات دينية محفوظة، ومعان متكررة مألوفة، لا تحرك قلبا ولا تضيء حياة.
فكتب مقالا قويا في قيمة الخطابة وأثرها في تاريخ الإسلام، ودعا إلى أن يحضر خطب المساجد أعرف الناس بشؤون الحياة وأقدرهم على التأثير، وأن تشرح هذه الخطب الموقف الحاضر في وضوح، وتبين الأخطار المحيطة بالأمة في جلاء، وأن يتبرع القادرون بقدر من المال يخصص لهذا الغرض، ويتفقوا مع ديوان الأوقاف ليسمح بإلقاء هذه الخطب في المساجد ثم تطبع وتنشر في أنحاء البلاد؛ ليصل صداها إلى كل قرية وبلدة؛ وأعلن استعداده للاشتراك في إعدادها، ووضع خطبة نموذجية توضح غرضه. تتضمن المحافظة على حقوق البلاد، والنهي عن الظلم والبغي، والدعوة إلى الائتلاف لمواجهة الأخطار التي تظهر دلائلها في الأفق، والاتحاد مع المواطنين من غير نظر إلى اختلاف الدين، والتذكير بمجد مصر السابق، والالتفاف حول الخليفة والخديوي، والتحذير من تمكن الأجنبي من وضع يده على سياسة البلاد، والتحرز من إتيان عمل يتخذه وسيلة لتدخله، ومعاملة النزلاء الأجانب بالحسنى، من حفظ حقوق تجارتهم، وعدم الإساءة إليهم .
هذه هي المعاني التي رأى أن الحاجة ماسة إليها في ذلك الوقت (في أول حكم الخديوي توفيق قبيل الثورة العرابية)، صاغها صياغة دينية تناسب صلاة الجمعة، فبدأها بالحمد لله، والثناء على رسوله
صلى الله عليه وسلم
وختمها بالحديث الشريف: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا». - وقد حقق «الراديو» أخيرا فكرة عبد الله نديم في إذاعة الخطبة شكلا، ولكن لما تتحقق فكرته موضوعا. وانتهت هذه الصحيفة على هذا الوضع.
3
لم يكن في مصر إلى أواخر عهد إسماعيل رأي عام يشعر بظلم، وإن شعر فلا ينطق؛ لأن عنف الاستبداد أمات الشعور وأخرس الألسن؛ حتى تدخلت الدول الأجنبية في شؤون مصر المالية، فبدأ الشعور يتنبه، وغذاه الخديوي إسماعيل نفسه وجرأه؛ لإحساسه بثقل التدخل وخشيته من عاقبته؛ فأول معارضة من مجلس شورى النواب للحكومة كانت بإيعاز منه، ولولا ذلك لم يجرؤ، ومظاهرة الضباط ومهاجمتهم لنظارة المالية لتأخير رواتبهم كانت بتدبيره؛ ليتخلص من وزارة نوبار التي تمالئ الأجانب في هذا التدخل؛ واجتماع أعيان البلاد في دار السيد البكري، ووضعهم اللائحة الوطنية التي تعهدوا فيها بوفاء ديون أوروبا وضمانها وعدم تدخل ممثليها في شؤون البلاد كانت فكرة بثها الخديوي في أذهانهم؛ وكان هذا أول ما أشعر الناس بقوتهم، وحاجة الحاكم إليهم، ونبه الرأي العام إلى أنه يستطيع أن يقف الظلم ويطالب بالحقوق، وأن من حقه مراقبة الولاة والحكام ورفع صوته بنقدهم؛ وهذا الشعور إذا وجد في أمة لا بد له من قادة يشعرون شعور الناس، ويصوغونه صياغة قوية يلهبون بها شعور من شعر، وينهبون بها من لم يشعر، فكان ذلك في السيد جمال الدين ومدرسته، وجاء الخديوي توفيق ونواة الرأي العام قد غرست، وتتابع الأحداث الخطيرة يغذيها وينميها، والنفوس مستبشرة خيرا بتوليته، فلم يكن مسرفا ولا مستبدا، وكان سمحا رحيما؛ وكان قبل عزل إسماعيل يتصل بالسيد جمال الدين ويحبذ آراءه في الإصلاح، فلما تولى قربه إليه، وقال له: أنت موضع أملي في مصر، ودعا شريف باشا لتشكيل الوزارة، «وصرح برغبته في تحقيق آمال الأمة، وإخراجها من الحالة السيئة التي هي فيها بالاقتصاد في نفقات الحكومة، والاستقامة في الوظائف العامة، وإصلاح القضاء والإدارة، وتوسيع نظام شورى القوانين، وإصلاح المحاكم والمجالس، والسعي لتعميم التربية والتعليم، وتوسيع دائرة الزراعة والتجارة، ومنح الحرية للعاملين في أعمالهم».
ففرح الناس وهللوا لهذه الوعود القيمة، وتفتحت آمالهم، ولكن الحكم الشوري لم يرض طوائف كثيرة. لم يرض الحاشية، وكان السيد جمال الدين أشار على الخديوي توفيق بتغيير حاشية إسماعيل، فأغضبهم عليه؛ قال الشيخ محمد عبده: «ووكيل دولة فرنسا أخذ يسعى في إقامة الموانع دون إعطاء حق النظر في تصحيح «الميزانية»، وتقرير الأمور المالية، ودعا وكيل إنجلترا إلى مساعدته في إقناع الخديوي بضرر هذه الأوضاع الجديدة». فغير رأي الخديوي توفيق من ذلك كله، فاستقال شريف باشا، ونفي السيد جمال الدين، وأخذت الأمور مجرى آخر كان سببا من أسباب الثورة.
ثم جاءت وزارة رياض باشا بعد وزارة شريف. وفي تاريخ مصر الحديث كان شريف باشا دائما رمز الحكم الشوري، ورياض باشا رمز الحكم الاستبدادي، وكلاهما كان يلتف حوله كثير من الخاصة؛ فحول شريف جماعة ترى أن الحكم الشوري هو الوسيلة الوحيدة لإنقاذ البلاد من الفوضى، والأمل الوحيد في وقف كل سلطة عند حدها، والحماية الوحيدة من استبداد الخديوي أو الأجانب، والباعث الوحيد للأمن والحرية في نفوس الأفراد، وحول رياض جماعة ترى أن الحكم الشوري لا يصلح إلا إذا نضجت الأمة وعرفت شؤونها ومجاري السياسة حق معرفتها، ورزقت من الشجاعة في القول والجد في العمل قدرا صالحا، وإلا كان الحكم الشوري نقمة، والأمة لم تبلغ هذا الحد. وكان الجدال والنزاع يدوران على الفكرتين في الصحف والمجالس. وعلى كل حال فقد كان هذا درسا لتنوير الرأي العام في السياسة وتفتيح الأذهان للنظر في المسائل العامة.
وكانت شخصية رياض شخصية معقدة، ذكي، خبير بالإدارة، قوي العزيمة، صبور على العمل لا يمل، معتد بنفسه، لا يرى بجانب رأيه رأيا، إذا وثق بشخص لم يسمع فيه قول قائل، وإذا أساء الظن بإنسان فإلى النهاية، نزيه، يحب الخير لمصر، ولكن حسبما يرى هو وبالطريقة التي يراها، قليل الثقة بالمصريين - على العموم - ممتلئ عقيدة بأنهم مملوءون عيوبا، كبير التعظيم للأجانب، معتقد في قوتهم، يرى أنه لا يستطيع الحكم إلا بالاعتماد عليهم أو على أقواهم، لا يرى بأسا من إغضاب الخديو وإغضاب الأمة في سبيل إرضائهم، ومع ذلك يبذل أقصى جهده في أن ينال منهم أقصى ما يستطيع - برضاهم - لخير أمته - شديد الحب للحكم لا يعتزله إلا مكرها. فكانت أخلاقه هذه من عوامل التمهيد للثورة العرابية.
ألغى السخرة العامة، كإقامة الجسور على النيل، وحفر الترع من غير أجر؛ والسخرة الخاصة، كعمل الفلاحين في أرض سيدهم من غير مقابل، ونفذ ذلك في غير هوادة، فأغضب بذلك الأعيان؛ وأعطى السلطة العامة للمديرين، فأساءوا السيرة، وضيق على الصحف، وعطل بعضها، فعملوا سرا بعد أن كانوا يعملون جهرا، وسافر بعضهم إلى أوروبا يصدر الجرائد في الطعن عليه؛ وعارض الخديو في منحه الرتب والنياشين لمن يراهم أهلا، كما عارضه في كثير من رغباته، فغضب عليه، وعاقب المدير الذي سخر الأهالي في حفر ترعة خاصة بالخديو. وتصرف ناظر الحربية فى وزارته تصرفات أغضبت رجال الجيش المصريين، فطلب عرابي وأصحابه تشكيل مجلس عسكري لتحقيق الشكايات، فمال رياض إلى إجابة مطلبهم؛ ولكن أشيع عنه أنه هو الذي يمانع في ذلك، فغضبوا عليه - كل ذلك وهو لا يريد أن يتخلى عن الحكم.
تبلبلت الأفكار واضطربت، وكلها تتفق في وجوب تغيير الحال، وإن اختلفت أسباب كل طائفة، فالأعيان يحبون رجوع سلطتهم في تسخير الناس، والضباط يريدون العدل بينهم وبين الشراكسة؛ وبعض ذوي الرأي يرون أن هذا كله تأييد لوجهة نظرهم في أنه لا يصلح الأمور إلا نظام الشورى، والخديو ناقم على رياض، وبعض الأجانب لا يسرهم ما قام به رياض من ضبط الأمور المالية؛ كل هذا هيأ للثورة العرابية.
وتطورت مطالب العرابيين من عدل بين الضباط إلى تغيير الحكومة من نظام استبدادي إلى نظام شوري، إلى التهييج على الخديو توفيق، إلى المناداة بعزله لالتجائه إلى الدول لحمايته، إلى الدعوة للجهاد في سبيل صد المغيرين ، واتسعت الحركة، من حركة بين الجند والضباط إلى حركة وطنية واسعة تشمل العلماء والأعيان والتجار والزراع وغيرهم، واندس وسط الحركة من يعمل لصالح أمير ليحل محل الخديو توفيق؛ فجامعة تعمل لصالح البرنس حليم بن محمد علي، ومن هؤلاء صاحب جريدة «أبو نضارة»، ومنهم من يعمل لحساب الخديو إسماعيل لإعادته، ومن هؤلاء راتب باشا السردار، وهكذا.
في هذا الجو الذي صورناه صورة صغيرة جدا عمل عبد الله نديم، واختصه العرابيون فكان خطيب الثورة وكاتبها ومشعلها. اتخذ جريدة «الطائف» بدل «التنكيت والتبكيت»، ونقل مكانها من الإسكندرية إلى القاهرة، وبدأها عنيفة قوية، تنقد تصرفات الخديو إسماعيل في جرأة بالغة، كيف أسرف، وكيف استولى على الأراضي، وتشرح بؤس الفلاحين في السخرة - في أيامه - والعذاب المهين الذي يلقونه من الرؤساء، وما شاهده بنفسه من أحداث، وكيف يخر الناس قتلى من الجوع والبؤس، والإعياء والضرب، وكل رئيس يريد أن ينال حظوة رئيسه الأعلى بالمغالاة في التعذيب.
1
وكان عبد الله نديم في هذه الصحيفة يعبر عن آراء النواب في ضرورة الإصلاح عن طريق الحكم النيابي. وكتب سلطان باشا رئيس النواب إلى إدارة المطبوعات، أن تعتبر جريدة «الطائف» لسان النواب المعبر عن أفكارهم، فاعترفت الإدارة بذلك، ونشر هذا رسميا بأمر نظارة الداخلية؛ ولكن لما رأت إدارة المطبوعات عنفه وتهييجه عطلته شهرا.
أصبح «الطائف» في الثورة العرابية لسان الدعاية لها، يذم من عاداها، ويشجع من والاها، ويلقب «عرابي» بحامي حمى الديار المصرية؛ ويتطور بتطورها، فينقد الأوربيين وتصرفاتهم، وينقد الخديو توفيق لارتمائه في أحضانهم، في أسلوب لاذع، وتهكم ساخر. فإذا كانت الحرب نقل جريدة «الطائف» إلى المعسكر يحرض الجنود على القتال، ويحرض الشعب على تقديم المؤونة، وينشر خبر التبرعات، وكلما اشتد الأمر اشتد في تهييجه. وقلت صفحاته لاشتداد الظروف من أربع إلى اثنتين إلى واحدة؛ وهو يهرج في أخبار الحرب فيقلب أخبار هزيمة المصريين إلى أخبار انتصار، وانتصار الإنجليز إلى أخبار هزيمة؛ وظل كذلك حتى تمت الهزيمة، وتم التسليم. هذا عمله في الصحافة، وإلى جانب ذلك كان عمله في الخطابة .
فقد طاف في كل مجتمع يخطب؛ وأعطى من ذلاقة اللسان ما يستدعي العجب، فما هو إلا أن يحرك لسانه حتى يتدفق وتنهال عليه المعاني والألفاظ انهيالا. وقد نشر في البلاد فن الخطابة، وعلم كثيرا من الناشئة أن يخطبوا في المحافل؛ وأعطى لهم المثل بمقدرته وكفايته. بدأ ذلك أيام كان يعلم الإنشاء والأدب في مدرسة الجمعية الخيرية في الإسكندرية.
فلما أعلن الدستور في أول عهد توفيق (7 فبراير سنة 1882)، سرت في النفوس هزة فرح لا تقدر؛ وأمل الناس أن الحكم النيابي سيصلح كل مفاسد الماضي، ويرسم كل وسائل السعادة للحاضر والمستقبل - واشتاق الناس أن يسمعوا الكلام الكثير في هذا الموضوع؛ فكان عبد الله نديم وجوقته هم الذين يغنون للناس بآمالهم؛ فأقيمت الحفلة تلو الحفلة يدعى إليها النديم هو وصحبه ليخطبوا، والنديم هو قطب الرحى؛ يخطب أولا، وكلما خطب خطيب وتناول موضوعا قام النديم بعده يعقب عليه، ويتخذ من كلامه موضوعا يطنب فيه؛ وفي هذه الحفلات يحضر النظار وكبار الضباط والعلماء والنواب والأعيان؛ فتطرب نفوسهم لهذا طربهم من عبده الحمولي ومحمد عثمان.
هذه حفلة تقيمها جمعية المقاصد يفتتحها «النديم» بقصيدة، ثم يشكر الجمعية على احتفالها بالدستور، ويتلوه إبراهيم اللقاني فيبين الفرق بين عهد الاستبداد وعهد الشورى، فيعقبه النديم يكمل موضوع الفروق بين العهدين، ثم يقوم الشاب مصطفى ماهر - باشا فيما بعد - فيتكلم في الحث على الاجتهاد في العلوم والفنون، ويستحث الأغنياء على إنشاء بنك أهلي يحمي الأهالي من استغلال المرابين، ويختم ذلك بالدعوة إلى الألفة والاتحاد، فيقوم بعده النديم يتكلم في هذا الموضوع، ثم يقوم الشيخ محمد عبده فيبين مزايا الحكومة النيابية؛ ويطالب بوجوب أن يكون النواب من المتعلمين؛ ويحث على تعميم التعليم، وعلى احترام حرية القول والكتابة، وسن القوانين المبينة لحقوق الأفراد وواجباتهم، ويقوم «النديم» بعده معقبا على قوله، ثم يقوم أديب إسحاق فيتكلم في شعور النواب وتضامنهم مع النظار في كل ما يجلب الخير للبلاد، ويتلوه النديم؛ ثم يقوم فتح الله أفندي صبري (فتحي باشا زغلول)، فيخطب في الحث على الاتحاد والثبات، وينتهي هذا الاجتماع.
وتتكرر أمثال هذه الاجتماعات، وتقال فيها مثل هذه الخطب، ويقوم بالدعوة إليها كبراء البلد كأحمد محمود، وإبراهيم الوكيل، وأحمد أباظة، وأحمد يكن، ومحمد طاهر، وكلها على غرار الحفلات السابقة، عمادها عبد الله نديم وإن اختلفت بعض الموضوعات، كدعوة إبراهيم اللقاني إلى التمسك بأسباب القوة والاتحاد، والحث على مجانبة الخوف والجبن؛ وخطبة فتحي زغلول في الأخذ بالمبادئ التي تمدن البلاد، والدعوة إلى إنشاء جمعية تفتح مدارس ليلية يتعلم فيها من لم يسمح له عمله بالتعليم.
ويدعى عبد الله نديم إلى حفلة في الإسكندرية على هذا الطراز. وكل هذه الحفلات توصف في جريدة الوقائع المصرية، ويذكر فيها خلاصة ما دار فيها من خطب فتنتشر في البلاد.
فلما عطل الدستور، وتطورت الأمور، وكانت الثورة العرابية، تحولت خطب عبد الله نديم إلى موضوع الثورة، وكان يخطب في كل مجتمع: في الأزهر وطلبته، والجيش وجنوده، وفي حفلات «الأفراح»، فما يكون مجتمع لغرض من الأغراض إلا ويطلع عليهم عبد الله نديم وجماعة من ناشئته يعتلون المكان العالي ويخطبون في موضوعات الثورة، حتى كان إذا سئل محمد عثمان «المغني» أين تغني الليلة؟ يقول: «في الفرح الفلاني مع عبد الله نديم»، وهو في هذا الموقف لا يتحرج من التهريج فيقول مثلا في بعض خطبه: إن طوابي الإسكندرية إذا أطلقت مدافعها يبلغ مرماها جزيرة قبرص من هذا الجانب، ومدافع الأستانة إذا أطلقت تبلغ هذه الجزيرة من الجانب الآخر، فكيفما جالت الأساطيل الإنكليزية فهي تحت رحمة مدافعنا، فيصفق الناس. ويخطب «فتحي زغلول» فيقول النديم: ألا تعجبون لما أبدى هذا التلميذ في خطبه من العلم والبيان والتفنن في المواضيع، مع أن جلادستون خطيب إنجلترا لا يتناول إلا موضوعا واحدا؟! ويخطب مصطفى ماهر فيقول النديم: «أشهدكم أيها الناس أن أمة يكون هذا مقدار استعداد التلميذ فيها لا يغلبها أحد في أمرها».
على كل حال كان عبد الله نديم لسان الأمة في عهده بخطبه، وقلمها بصحفه، ينتقل في الأقاليم ولا يكل ولا يمل، نشر آراءه ومشاعره في أكبر عدد ممكن من الأمة، وساعد على نمو رأي عام مصري يؤمن بالحكم الشوري، ويتطلع إلى الإصلاح في الأمور الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. فإن كان السيد جمال الدين رسول الخاصة في هذه المعاني، فعبد الله نديم كان رسول العامة، قطر المعاني التي يدعو إليها جمال الدين إلى الشعب، وأوصلها إلى التاجر في متجره، والفلاح في كوخه، والتلميذ في مدرسته. كان السيد جمال الدين بحكم أرستقراطيته في نشأته وثقافته، والوسط الذي يحيط به، ولغته في كلامه وكتابته، معلم الخاصة، وكان عبد الله نديم بحكم ديمقراطيته في النشأة والعلم والوسط واللغة معلم العامة.
لسنا الآن بصدد الحكم على الثورة العرابية وما نفعت وما أضرت، والمسئولين عنها، والمآخذ عليها، وكل ما يعنينا الآن أن نقول: إنه إذا تبخرت أقواله التي دعت إليها فورة الثورة وتبخرت أنواع تهريجه وتهويشه، بقي لنا جانب كبير من جوانب نفع عبد الله نديم في هذه الحركة، وهو إيقاظ الشعور في الشعب وبحقهم في الشكوى من الظلم، والمطالبة بالعدل، وإفهامهم أن الحاكم يجب أن يكون مسئولا أمامهم، وأن هناك نوعا جديدا من الحكم غير الذي ألفوه: من رجوع الأمور كلها إلى إرادة الحاكم يفعل ما يشاء، ولا يسأل عما يفعل، وهذا النوع الجديد هو حكم البلاد نفسها بنفسها ممثلا في نوابها، وأن مصر للمصريين لا للدولة العلية، ولا لأية دولة أجنبية، وهذه معان قد كانت عند خاصة الخاصة ، فنشرتها الثورة وعبد الله نديم في العامة.
ولئن أخفقت الثورة فيقظة الرأي العام - إلى حد ما - وشعوره بنفسه، وتنبهه إلى حالته الاجتماعية والسياسية لم يخفق، ويتجلى ذلك على الأخص إذا قورن بينه وبين حالته من قبل.
4
انتهت الثورة العرابية بالفشل والهزيمة المنكرة، وكانت الهزيمة الخلقية أقسى من الهزيمة الحربية؛ فقد ذل أكثر قواد الحركة، وتحول عنهم أكثر من يناصرهم، وبدأت السعايات تدب، وكل من كانت له خصومة مالية أو عائلية سعى في الإيقاع بخصمه، باتهامه بعمل من أعمال الثورة، وامتلأت المجالس المشكلة للنظر في الدعاوى والتهم، وأخذ كثير ممن اشتركوا في الحركة يتبرءون مما قالوا وما فعلوا. ولئن استطاع كثير منهم أو حاول تبرئة نفسه، فعبد الله نديم ليس بمستطيع شيئا من ذلك، فخطبه لا ينساها أحد، وأقواله مسجلة عليه في جريدة «الطائف»، فلا بد إذا حوكم أن يحكم عليه بأشد العقوبات التي ستوقع على الزعماء، وكان أغلب الظن أنها الإعدام.
لقد فكر عرابي هو ومن معه أن يطلبوا العفو من الخديو، وكتبوا رسالة وبعثوها مع وفد إلى الإسكندرية لتقديمها إليه، ثم بدا لهم أن يغيروا بعض نصوصها، فبعثوا بصيغة أخرى مع عبد الله نديم؛ فلما وصل إلى كفر الدوار علم أن الخديو رفض العريضة الأولى، وأمر بالقبض على بعض رجالها، فعاد «النديم» إلى القاهرة وأيقن بالهلاك، فأعد العدة للهرب والاختفاء، وإذا به «فص ملح وذاب». تجد الحكومة وتضع له الأرصاد، وتوجه كل قوة للبحث عنه؛ ويبعث كل من سلطان باشا ورياض باشا منشورا لرجال الإدارة بالجد والنشاط للعثور عليه، وتعلن مكافأة ألف جنيه لمن يرشد عنه، والعقوبة القصوى لمن يخفيه، فيذهب كل ذلك سدى نحو عشرة أعوام، وهو في كل أموره يحتال حيلا أين منها حيل أبي زيد السروجي في مقامات الحريري، ويمثل روايات أين منها الروايات البوليسية المعروفة.
لقد أعيا الحكومة أمره، فأصدرت عليه حكما غيابيا بالنفي المؤبد من القطر المصري. ها هو أول أمره يذهب إلى بولاق ويختفي عند صديق له وفي أياما، حتى يخف عنه الطلب، فيخرج وقد لبس «زعبوطا» أحمر، واعتم بعمامة حمراء، وربط عينيه بمنديل وأطال لحيته، وأمسك بيده عكازا طويلا، وتصنع أنه من مشايخ الطرق ونزل في سفينة مع خادمه إلى بنها، فلم يفطن له أحد.
وجزع خادمه وكان أميا، وأراد أن يرجع إلى أهله، فأيقن «النديم» أنه إذا عاد انكشف أمره، فأخذ يقرأ الجريدة يوما، ثم فزع قائلا: «لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم»، فسأله الخادم عما أفزعه، فقال «النديم»: إن الحكومة قد جعلت لمن يرشد عني ألف جنيه، ولمن يأتيها برأسك خمسة آلاف. فخاف الخادم، وأخذ يبالغ في التنكر أكثر من سيده، واستراح من هذا الباب، وظل معه طول مدة الاختفاء، وقال هو عن نفسه في هذه الفترة: «خرجت من مصر مختفيا فدرت في البلاد متنكرا، أدخل كل بلد بلباس مخصوص، وأتكلم في كل قرية بلسان يوافق دعواي التي أدعيها، من قولي: إني مغربي أو يمني أو مدني أو فيومي أو شرقاوي أو نجدي؛ وأصلح لحيتي إصلاحا يوافق الدعوى أيضا؛ فأطيلها في مكان عند دعوى المشيخة، وأقصرها في آخر عند دعوى السياحة - مثلا - وأبيضها في بلد، وأحمرها في قرية، وأسودها في عزبة». فأحيانا كان اسمه الشيخ يوسف المدني، وأحيانا الشيخ محمد الفيومي، وأحيانا سي الحاج علي المغربي، وهكذا، وأحيانا كان يجتمع بمن يعرفهم فكانوا يعجبون لأن المقدرة مقدرة النديم، ولكن يختلف في الشكل والصوت واللهجة، فيقولون: «سبحان الله جل من لا شبيه له».
وساعد على نجاحه في هذا الاختفاء أمور، منها: مهارته في حيله، وإتقانه لما يدعي؛ فإذا ادعى أنه مغربي تكلم بلسان مغربي محكم، أو مدني فكذلك. ادعى مرة - وهو في القرشية - أنه عالم يمني، وذاعت شهرته في العلم والأدب حتى بلغت القاهرة، فأرسل إليه رياض باشا «سعد زغلول»؛ ليسأله عن معنى مثل ورد ذكره في بعض الجرائد ولم يفهم معناه، فقابله على أنه عالم يمني وفسره له.
2
وكان من مهارته في اختفائه أنه رأى جد الحكومة في طلبه، فاستعان برجل من الفرنسيين يعرفه ويثق به فأشاع عنه أن النديم هرب إلى «ليفورنو» في إيطاليا، ونقلت هذا الخبر جريدة الأهرام، وصدق الناس ذلك، وعنفت الحكومة رجال الضبط على إهمالهم حتى تمكن من الخروج، فخف عنه الطلب، ولم يكن كل ذلك إلا خدعة. وكتب صاحب جريدة المحروسة مرة بعد اختفائه بسنتين: «إنه قد تعددت الأقوال في مقر عبد الله نديم، فمن قائل: إنه التجأ إلى البلاد الإيطالية، ومن قائل: إنه فر إلى طرابلس الغرب، ومن زاعم أنه أتى السودان واتصل بالمهدي وصار له نديما، وقال قوم: إنه سارع في السفر إلى «سيلان» للاجتماع بعرابي. والحقيقة فيما نعلم أنه أتى باريس في الأيام الأخيرة ، ونشر فيها مقالة أتى فيها على ذكر الحرب العرابية، وندد بالمصريين، ونسب إليهم الضعف والجبن» ... إلخ.
ومنها عطف بعض الناس عليه، وإيمانهم بأن المروءة تقضي عليهم - وقد نزل بساحتهم - أن يخفوا أمره إذا علموا، وأن يساعدوه على الاختفاء مهما أغروا بالمال، كالذي كان من عمدة «العتوة» بمديرية الغربية، وهو الشيخ محمد الهمشري، فقد نزل عنده وعرفه بنفسه، فأكرم مثواه، وأقامه في داره ثلاث سنوات ونيفا، في مكان منعزل له باب خاص، وزوجه، وزوج خادمه، فلما توفي دعت زوجته أكبر أولادها، وقالت له: هل تطمع في المكافأة أم تكون كأبيك شهما تحفظ الجار وتحمي اللاجئ؟ فوعدها بأن يكون كأبيه في حفظه، ووفى بذلك، حتى أحس «النديم» بوشاية واش، فخرج من عندهم حامدا مروءتهم.
وصادفه مرة مأمور مركز شركسي، والنديم في تنقله بين البلاد، فعرفه، فصرف جنده ثم اختلى به، وقال: لا ضرورة لتنكرك فقد عرفتك، وأعطاه ما معه من نقود ورسم له خطة السير في طريقه حتى لا يضبط.
وكان في أول أمره شديد الحنين لأبيه وأمه وأخيه، لا يعرف ما صاروا إليه، شديد الشوق لمعرفة كتبه وتآليفه وأوراقه التي تركها في بيته بالإسكندرية، ماذا آل إليه أمرها، ثم وسط الصديق الفرنسي أن يتعرف كل ذلك ويأتيه بالأخبار، فعرف الفرنسي أن أسرته تشتتت والناس تنكروا لهم، والأرصاد وضعت حولهم، وأن أباه يقيم عند قريبة له في الريف وأن كتبه وتآليفه التي أنفق فيها تسعة عشر عاما، عندما ضربت الإسكندرية وهاجر منها أهلها وضعها أبوه في ثلاث صناديق كبار، وشحنها في عربة من عربات السكك الحديدية، فلما وصلت إلى كفر الزيات ازدحم على القطار المسافرون من المهاجرين ازدحاما هائلا، فلم يسع رجال المحطة إلا أن يرموا جميع ما بالعربة في النيل، ومنها هذه الصناديق الثلاثة وفيها كل ثروته العقلية.
ثم لما هدأت الأحوال وخف عنه الطلب كان يتصل بأبيه وأخيه اتصالا منتظما. وتأتي عليه أزمات ثم تنفرج، فهذا عيد الأضحى وهو في «برية المندرة» يسكن وسط الغيطان، لا يساكنه أحد إلا زوجته ، ولا يجد القوت الضروري، ويأتيه خادمه الذي يسكن بعيدا عنه يشكو له البؤس والفقر وعدم القوت في يوم العيد، فما هو إلا أن يبعث له رجل من أهل البر والمروءة بما يملأ بيته قمحا وعسلا وسمنا وشيتا وبفتة حتى القصب واليوسف أفندي، والأطلس والحرير للبس زوجته، ويبعث شيئا من ذلك للخادم وزوجته ... وأتيح له من الفراغ ما مكنه من إكمال نفسه بالدراسة والتأليف، فكان إذا اطمأن في قرية قرأ ما تصل إليه يده من الكتب، وكانت مكتبته في هذه الأيام مكتبة خفيفة يسهل حملها إذا دعا داعي الرحيل السريع: فكانت تفسير القرآن لأبي السعود، وقاموس الفيروز أبادي، و«الوافي» في المسألة الشرقية لأمين شميل، وجغرافية ملطبرون الذي ترجمه الشيخ رفاعة. وألف فيما يعن له في الدين والأدب والتاريخ، فكان هذا نعمة عليه لم يستطعها في أيامه الأولى. كتب لصديق له في هذه الفترة يقول: «إن سألت عني فأنا بخير وعافية، وحالة رائقة صافية، لا أشغل فكري بما يأتي به الليل إذا كنت بالنهار، ولا أتعب ذهني بتوالي الخطوب والأكدار، ولا أتألم من طول المدة ووقع الشدة؛ لاعتقادي أن لكل شدة مدة متى انتهت جفت الأوحال، وحسنت الحال؛ فتراني فكري كليمي، وقلمي نديمي - تارة أشتغل بكتابة فصول في علم الأصول، وأجمع عقائد أهل السنة، بما تعظم بها لله المنة، وحينا أشتغل بنظم فرائد في صورة قصائد، ووقتا أكتب رسائل مؤتلفة في فنون مختلفة، وآونة أكتب في التصوف والسلوك، وسير الأخبار والملوك، وزمنا أكتب في العادات والأخلاق وجغرافية الآفاق، ومرة أطوف الأكوان على سفينة تاريخ الزمان، ويوما أشتغل بشرح أنواع البديع في مدح الشفيع - وقد تم لي الآن عشرون مؤلفا بين صغير وكبير؛ فانظر إلى آثار رحمة الله اللطيف الخبير، كيف جعل أيام المحنة وسيلة للمنحة والمنة، أتراني كنت أكتب هذه العلوم في ذلك الوقت المعلوم، وقد كنت أشغل من مرضعة اثنين، وفي حجرها ثالث على كتفها رابع، وأتعب من مربي عشرة وليس له تابع، أشتغل بعض النهار بتحرير الجورنال، وأقضى ليلي في دراسة الأحوال، مشتغلا بمجالس الجمعيات الخيرية ومدارسها التعليمية، وزيارة الإخوان ومراقبة أبناء الزمان، وقد نسيت الأهل والعيلة، وربما نسيت الطعام يوما وليلة، فكنت كآلة يحركها البخار، لا سكون له ما دام الماء والنار، فمتى كنت أنظر للمخلفات وأكتب هذه المؤلفات؟
ولو أن نار مصيبتي
في الغير أصلاه الزفير
لكنها في ساحة
من فوقها جو مطير
هو صدق إيماني وص
بري للقضاء بلا نكير
ووقوف جيش عزيمتي
في باب مولاي البصير
وكان في رحلته برا بخادمه «حسين» الذي غير اسمه فسماه «صالحا»، وزوجه، وعلمه القراءة والكتابة، وحفظه جملة سور من القرآن، وعلمه مبادئ الفقه والتوحيد، واتخذه صاحبا.
وتواردت عليه أيام بؤس ومحن يشيب منها الوليد، تغضب عليه زوجته وتلطمه على فمه حتى تكاد تسقط ثناياه، وربما رأى - مع هذه الحال - أن إظهار نفسه للحكومة أهون عليه، ثم يترضاها ويصالحها، وأحيانا تتخاصم زوجته مع زوجة خادمه وتشتد الشحناء، وتهدده كلتاهما بأن تفضح أمره، فيتدارك كل ذلك بحيلة، وأحيانا يشعر بالخطر يهدده فيشتد في الحذر والاختفاء، حتى لقد اختفى مرة في قاعة مظلمة لا يتوصل إليها إلا من سرداب طويل مظلم، يرشح الماء من أرضها لقربها من ترعة، ولا يتمكن من القراءة والكتابة إلا على مصباح صغير يضاء بالجاز يملأ الحجرة دخانا، ويستمر فيها نحو تسعة أشهر، وأحيانا يبلغ به سوء الحال مع الرغبة الشديدة في الكتابة أن يصنع الحبر من هباب الفرن، ويضيف إليه بعض قرظ السنط، ويتخذ أقلامه من الحجناء. وهو على كل ذلك صبور، يعزيه أن يجد من أهل المروءة ما يخفف كربه، ويضمد جرحه، «فمحمد معبد» الحلاق «بشباس الشهداء» يؤويه في بيته، ويغمره بفضله، وينفق عليه ما يحرم منه أسرته، و«أحمد جودة» الفلاح بالبكاتوش يصاحبه في انتقالاته في الظلام الحالك، ويعرض نفسه من أجله للمخاطر.
لشد ما أتعب نفسه في اختفائه، وأتعب الناس معه، ولكن ما أكثر ما أمتعهم أيضا بأحاديثه وفكاهاته ووعظه وسمره.
وأخيرا نزل «بالجميزة»، فعرفه عمدتها وكتم أمره، ولكن رجلا كان اسمه حسن الفرارجي - كان جنديا ثم استخدم جاسوسا - عرفه، فكتب إلى السراي وإلى الداخلية، فأمرت بالقبض عليه، وذهب وكيل حكمدار الغربية ومعه قوة من الجند فالتفوا حول البلدة، وأراد «النديم» الهرب بحيله القديمة فلم يستطع، فاستسلم. وكان من حسن حظه أنهم لم ينتهوا إلى أوراقه، وكان في بعضها هجاء شديد في الخديو توفيق لو اطلعوا عليها لتغير مجرى حياته. وكان القبض عليه في صفر سنة (1309ه)، واختفاؤه في ذي القعدة سنة (1299ه). وأرسل إلى طنطا للتحقيق معه، وكان وكيل النيابة إذ ذاك قاسم بك أمين، فأحسن معاملته، وأمر بأن ينظف مكانه في السجن، ويضاء كما يريد، وأن يمكن من شرب القهوة والدخان كما يشاء، وأمده بالمال من عنده، وكان هم التحقيق متجها إلى معرفة من آواه، وهل كانوا يعرفونه أو لا يعرفونه، وعلى الأخص المنشاوي باشا - وقد نزل عنده أياما - فقد ضيقوا على النديم كثيرا ليقر بأنه كان يعرفه، حرصا منهم على وجود منفذ لمعاقبة المنشاوي، ولكنه أنكر كل الإنكار أن يكون أحد ممن آواه يعرف حقيقته. ثم صدر أمر الخديو توفيق بالعفو عنه وإبعاده عن مصر إلى أي جهة شاء. فاختار يافا ونزل بها، فأكرمه أهلها واتخذ بها دارا جعلها منتدى للأدباء والعلماء، وطوف في فلسطين يشاهد آثارها ويحج إلى مزاراتها، ويجتلي حسن طبيعتها.
ثم مات توفيق وتولى عباس، فعفا عنه، وسمح له بالعودة إلى مصر سنة (1892)، فعاد وفكر طويلا فيما يفعل وأين يتجه، وتردد بين مصر والإسكندرية، وأخيرا عين اتجاهه، وقرر أن ينشئ بالقاهرة مجلة «الأستاذ»، فكانت صفحة جديدة في باب جهاده.
5
كانت الظروف التي تولى فيها الخديوي عباس ظروفا دقيقة، شاب ناشئ في الثامنة عشرة من عمره، دعي من (فينا) حيث يتعلم ليتولى الحكم في مصر، ومصر قد انتهت ثورتها العرابية واطمأن الإنجليز إلى احتلالها، ووضعوا أسس نظامها، وتمكنوا من وضع أيديهم على كل شأن من شؤونها، وعباس الشاب قد بث في نفسه آراء الاستقلال والشعور بالوطنية والعزم على العمل لاسترداد مصر ما فقدت؛ وهو يعيب على جده إسماعيل إسرافه، ويعيب على أبيه توفيق استسلامه، وعلى رجال المعية ضعفهم، وشباب الأمة يبلغه هذا الشعور فيجاوبه، فيتوجه الخديوي لصلاة الجمعة في المسجد الحسيني فيقابله الشعب في حماسة، و«يتقدم الطلبة وغيرهم من المحتشدين - بالسكة الجديدة - نحو العربة الخديوية، ويقصون جيادها ويجرونها بأنفسهم»، ويغير الخديوي رجال المعية بغيرهم ممن هم أقرب إلى نفسه ومبادئه.
وفي ذلك الوقت كانت فرنسا تشعر بخطئها في سياستها الماضية التي آلت إلى ضعف نفوذها في مصر، وأخذت تبحث عن طريقة لاسترداد بعض ما فقدت، فرأت أن يكون من هذه السبيل الالتفاف حول «عباس».
وتركيا كذلك تأسف هذا الأسف، وتتجه هذا الاتجاه - وكل هؤلاء وهؤلاء يعتمدون على وعد إنجلترا بالجلاء عند صلاح الأمور.
والحكومة الإنجليزية تلوح في البرلمان الإنجليزي من طرف خفي بالنصح لعباس أن يتتبع سياسة والده في مسالمة الإنجليز والتحالف معهم.
وأخذ الخديو عباس يتصل بالشعب ويوسع نفوذه من طريق الرحلات في المديريات، ومقابلة الأعيان والعلماء، وزيارة المعاهد والمدارس، كما أخذ يميل إلى مباشرة الأعمال بنفسه بالاتصال بالمديرين، وتكليفه الأخصائيين بكتابة التقارير عن نظم التعليم والجيش وغير ذلك؛ فبدا بعد ذلك ومن أجل ذلك شيء من الجفاء بينه وبين اللورد كرومر، وتسرب بعد ذلك إلى الشعب.
عند ذلك بدأت تظهر في البلد تيارات مختلفة، وبدأت توضع بذور الأحزاب المختلفة، وبدأت تتجلى بوضوح اتجاهات الصحف المختلفة.
هذه تؤيد الحركة الوطنية وتناصر الميول الخديوية، إما عن إخلاص، وإما رغبة في الاستفادة، وإما خدمة للسياسة الفرنسية، وهذه تؤيد السياسة الإنجليزية، إما رغبة في الاستفادة وإما عن عقيدة أيضا.
وظهر أثر ذلك في الجدل في المجالس والمناظرة في الصحف.
في هذا الأفق المملوء بالسحب، ظهر «عبد الله نديم» ثانية، وقد سمح له الخديوي عباس بدخول مصر، فمكث قليلا يتعرف الأحوال، ويدرس ما فاته من شؤون مصر مدة غيابه، ثم صح عزمه على تحديد الغرض وإنشاء جريدة «الأستاذ»، قال عنها: «إنها جريدة علمية تهذيبية فكاهية»، تصدر يوم الثلاثاء من كل أسبوع، وظهر العدد الأول منها في (أول صفر سنة 1310ه-23 أغسطس سنة 1892)، يتولى هو تحريرها، ويتولى أخوه إدارتها؛ وقد كتب في أول عدد منها: إنها لا تتعرض للسياسة العملية الإدارية، أما السياسة من حيث هي فن فإنها تدخل في موضوعها العلمي.
وكانت في أول أمرها تعد امتدادا لجريدته «التبكيت والتنكيت» من حيث موضوعها وأسلوبها، فهي تعنى أكثر ما تعنى بنقد العيوب الاجتماعية في المجتمع المصري، وفيها مقال أو نحو ذلك في شؤون الإصلاح السياسي من وجهة عامة، ثم هي تحرر باللغة العربية الفصحى في المقالات السياسية الإصلاحية، وباللغة العامية في الموضوعات الاجتماعية.
والمطلع على ما كتبه في هذا العهد يرى أنه بعد رجوعه من مخبئه قد فوجئ بموجة من الانحلال الخلقي في البلاد: فإفراط لم يكن معهودا من قبل في شرب الخمور، وعدم اكتراث الشاربين بنقد الناقدين وعيب العيابين، وانتشار الخمارات في المدن والبلاد والقرى، وابتزاز الأروام للأموال عن طريقها - وشعور النساء بالحرية، فهن يكثرن من الخروج في الشوارع متبرجات بزينتهن، ثم الحشيش والمعاجين والإفراط فيها والاحتفاء بمجالسها؛ ثم استعمال كلمة الحرية وسيلة للانهماك في اللذات والشهوات، وأعجب من ذلك السقوط في تقليد المصري للأوربي تقليدا أعمى في لي لسانه بالقول، والتشدق باستخدامه كلمات أجنبية في أثناء حديثه بالعربية، ولبس الضيق المحبوك من الثياب الإفرنجية؛ فنقد كل ذلك في أسلوب قوي جريء واتهم الأوربيين بتشجيعهم هذه الأمور حتى يسقط الشرق وتنحل أخلاقه، ونقد كذلك مناهج التعليم في البلاد، وخلوها من بث الروح القومية والعصبية المصرية، وحث أبناء البلاد على إنشاء الجمعيات الخيرية التي تسد هذا النقص، ونحو ذلك.
وعجب مما رأى من أن كثيرا من أولي الرأي في الأمة أصابتهم الدهشة والرعب من الاحتلال، فانطووا على أنفسهم، ولزموا دورهم، فإن تكلموا في الشؤون العامة فمن وراء حجاب، وتركوا الناس مبلبلة أفكارهم، مضطربة نفوسهم، لا يعرفون أين يتجهون، فدعا إلى خروج ذوي الرأي من عزلتهم، واختلاطهم بالرأي العام في المجامع العامة يخطبون فيهم، ويشرحون ما حدث وما يحدث، حتى يكونوا على بصيرة من أمرهم.
في كل ذلك كتب «عبد الله نديم» في الأعداد الأولى من «الأستاذ» - ووجد النفوس مستعدة لهذه الدعوات كأنها حائرة تنتظر الدليل، ضالة تلتمس الهادي؛ فانتشر «الأستاذ» انتشارا فاق ما كان يتوقع، فقد كان يطبع منه حول ثلاثة آلاف، كأكبر جريدة يومية إذ ذاك، وأعيد طبع الأعداد الأولى منه.
وقد حاول مرة أن يحرر الجريدة كلها باللغة العربية الفصحى، فأتته رسائل الاحتجاج الكثيرة تذكر له خطأه؛ لأن المرأة تسمع مقالاته في بيتها، والعامي يسمعها وهو في مصنعه ومتجره، والفلاح في حقله، وكلهم يستفيد من نقده، وكثير يتعظ بنصحه؛ فنزل على رأيهم، وأعادها كما كانت عربية فصيحة في بعضها، عامية في بعضها.
ثم نرى نغمته تعلو شيئا فشيئا في الميدان السياسي، ومناصرة الحركة الوطنية، ومؤازرة الخديو عباس، ومناهضة الاحتلال، حتى نراه في العدد الصادر في 17 يناير سنة 1893 يظهر قويا واضحا في هذا الاتجاه الوطني، ويفتتح العدد بمقال جريء عنوانه: «لو كنتم مثلنا لفعلتم فعلنا»، وهي كلمة كانت تتردد في بعض الصحف الأوربية يخاطبون بها الشرقيين، ويقع المقال في ست وعشرين صفحة من أقوى ما يكتب، يصف فيها حالة الغرب وحالة الشرق ووسائل الاستعمار، وما إلى ذلك، ويندد بالغربيين في أساليبهم، وبالشرقيين في غفلتهم، ويشرح ما تفعل الأمم الغربية لرقيها، وما تنشره في أمم الشرق لانحلالها، وما يفعله المصريون في تخاذلهم وتواكلهم، ويدعو إلى الالتفاف حول الخديوي ومطالبته بالمحافظة على حقوقه الشرقية، ويختم المقال بقوله: «وبالجملة فقد بلغ السيل الزبى - فإن رفأنا هذا الخرق، وشددنا أزر بعضنا، وجمعنا الكلمة الشرقية، مصرية وشامية وعربية وتركية، أمكننا أن نقول لأوربا: نحن نحن، وأنتم أنتم، وإن بقينا على هذا التضاد والتخاذل واللياذ بالأجنبي فريقا بعد فريق، حق لأوربا أن تطردنا من بلادنا، وتصدق في قولها: «لو كنتم مثلنا لفعلتم فعلنا».
واستمر على هذه النغمة كذلك في الأعداد التالية. والمطلع على الحوادث التي كانت تجري في تلك الأيام، يرى أن علو هذه النغمة كانت صدى لما يحدث من أزمات. ففي هذه الأيام بعينها اشتد الجفاء بين الخديو عباس واللورد كرومر؛ ففي 15 يناير سنة 1893 أقال الخديو مصطفى باشا فهمي ، منتهزا فرصة مرضه، وعهد إلى حسين فخري باشا بتشكيل الوزارة، فعارض اللورد كرومر في أن تعين الوزارة من غير أخذ رأيه، واشتد الأخذ والرد، وأنذرت إنجلترا الخديوي إنذارا شديدا، وانتهت المسألة باستقالة حسين فخري وتعيين رياض باشا حسبما أشار اللورد كرومر. وانتشر الخبر في الشعب، فأقبلت الوفود على الخديوي في 18 يناير تلقي الخطب في تأييده في موقفه، وظهر أثر ذلك واضحا في الجرائد التي تناصر الحركة الوطنية، فكان هذا هو السبب فيما نرى من حرارة مقالات النديم في تلك الأيام وما بعدها، ومناصرته للخديو، ومنازلته للجرائد المخالفة في قوة ووضوح.
وهو - مع هذا - يتوسع في اقتراحات الإصلاحات الاجتماعية، فينقد علماء الأزهر في انزوائهم وعدم معرفتهم بالدنيا وما يجري فيها، ويضع برنامجا واسعا لإصلاح الأزهر، والزراعة في مصر وتأخرها، ووجوب إصلاحها على أساس علمي صحيح، وفوضى اللغة العربية، ووجوب إنشاء مجمع يحفظ كيانها ويكمل نقصها، والخرافات والأوهام، والطرق الصوفية وما يجري فيها من مخاز وعيوب ... إلخ.
ثم علت نغمته طبقة أخرى، فأخذ ينقد الإنجليز صراحة في سياستهم في الهند ومصر، ويسب من يلوذ بهم، ويهيج الناس على المبشرين وطرق التبشير، ويقول: إن السياسة تؤيدهم وتلعب ألاعيبها من ورائهم، فتألبت عليه الجرائد المخالفة له في مذهبه من إنجليزية وعربية وحذرت منه، وقالت: إنه يعد البلاد لفتنة بين المسلمين وغيرهم ، وبين المصريين بعضهم وبعض، ويحرك الضغائن بين المصريين والأجانب، ويهيئ لثورة كالثورة العرابية، ونصحت أولي الأمر من الإنجليز أن يأخذوا حذرهم منه، وإلا ساءت العاقبة. وشهرت به بعض الجرائد الإنجليزية كالتيمس، والديلي نيوز، وقالت: إنه متعصب للدين، مقبح لجميع أعمال الأوربيين، وإنه ثوري مهيج، وأيدتها المقطم، ودافع عنه المؤيد والأهرام والوطن وبعض الجرائد الفرنسية؛ ولم يأل هو جهدا في منازلة خصومه والتشهير بهم، وإعلان عدم المبالاة بما يجري له، فقد لاقى في العذاب ألوانا أيام اختفائه، فكل ما سيناله هين بالقياس إلى ما لقي، وأعاد نشر قصيدة له في ذلك كان قد أنشأها في مخبئه منها:
إذا ما الدهر صافانا مرضنا
فإن عدنا إلى خطب شفينا
لنا جلد على جلد يقينا
فإن زاد البلاد زدنا يقينا
إذا ما المجد نادانا أجبنا
فيظهر حين ينظرنا حنينا
يغنينا فيلهينا التغني
عن الباكي وينسينا الحزينا
ولسنا الساخطين إذا رزئنا
نعم يلقى القضا قلبا رزينا
إذا طاش الزمان بنا حلمنا
ولكنا نهينا أن نهينا
وأخيرا طلب اللورد كرومر من الخديو عباس نفيه فأطاع، ولم يستطع أن يحمي من كان يحميه، وودع «الأستاذ» قراءه في آخر عدد منه صدر في 13 يونيه سنة 1893. فكان عمره أقل من عام؛ ولم يذكر في وداعه السبب الحقيقي الذي من أجله أغلق «الأستاذ» ونفي صاحبه، بل قال: إن سبب ذلك المرض وحاجته إلى الاستشفاء؛ وقال في آخر وداعه: وما خلقت الرجال إلا لمصابرة الأهوال، والعاقل يتلذذ بما يراه في فصول تاريخه من العظم والجلالة، وإن كان المبدأ صعوبة وكدرا في أعين الواقفين عند الظواهر، وعلى هذا فإني أودع إخواني قائلا:
أودعكم والله يعلم أنني
أحب لقاكم والخلود إليكم
وما عن قلى كان الرحيل وإنما
دواع تعدت فالسلام عليكم
وكان ينشر ملحقا «للأستاذ» صفحات من كتاب ألفه وهو في المخبأ اسمه «كان ويكون»، جمع فيما بعد ولم يتم - مع الأسف - نشره. كان يريد من تدوينه عرض خلاصة أفكاره الدينية واللغوية والسياسية والأدبية والتاريخية والإنسانية، ملتزما فيه حرية الفكر، وعدم التعصب لدين أو جنس، ذاكرا فيه ما شاهده في مصر من أحداث، مبينا ما وراءها من علل.
ووضعه على نمط قصصي، إذ كان له صديق فرنسي أتى من باريس قبيل الثورة العرابية، وتعلم العربية والتركية، وأقام في مصر متتبعا حوادثها، وعرف عبد الله نديم في الإسكندرية سنة 1292 هجرية وتوثقت بينهما الصلة، وكان له عزبة قريبة من البلدة التي اختبأ فيها «النديم»، فاتصل به في مخبئه. وكان الفرنسي يزوره ويخدمه في قضاء أغراضه، وكثيرا ما يدور الحديث بينهما في الدين والسياسة، فبنى كتابه «كان ويكون» على هذا، ودون فيه ما كان يدور بينهما من حديث وجدل، وأكثر ما نشر كان في أصول الأديان، وتاريخ اليهودية والمسيحية والإسلام، يتخلل ذلك بعض أخبار عن أحواله في مخبئه، وبعض نظرات سياسية. ومما يؤسف له أن إقفال جريدة «الأستاذ» حال بينه وبين نشر القسم السياسي والتاريخ المصري من الكتاب؛ وما نشر عنه يدل على نظر عميق واطلاع واسع، وسماحة دينية لطيفة، وعاطفة جياشة بحب الخير لمصر والشرقيين.
6
خرج «النديم» إلى يافا، حيث كان قبل العفو عنه، ورتبت له الحكومة المصرية خمسة وعشرين جنيها شهريا يعيش بها، على شرط ألا يكتب شيئا في الجرائد يتصل بسياسية مصر.
وما لبث أربعة أشهر في يافا حتى وشى به الوشاة بأنه يطعن في سياسة الدولة العلية ويلمز السلطان، فصدر الأمر بإبعاده أيضا.
فها هو يذرع الأرض لا يعرف أين يستقر، فلا مصر تقبله ولا أي أرض من أراضي الدولة العثمانية تحله، ونزل بالإسكندرية أياما حتى تحل مشكلته.
وقد كان كثير من أحرار العثمانيين إذ ذاك قد سافروا إلى أوروبا ومصر، وأنشئوا الجرائد يطالبون بالدستور وبإصلاح الدولة، وينقدون السلطان نقدا مرا، فكان من سياسة عبد الحميد في بعض الأوقات أن يسترضي هؤلاء الناقمين، ويحبب إليهم الإقامة في الأستانة تحت سمعه وبصره، ويجري عليهم الرزق الواسع، ويسند إليهم بعض المناصب فيتقي أذاهم ويستجلب رضاهم، فاحتشد في الأستانة من أرباب العلم واللسان عدد كبير، منهم السيد جمال الدين الأفغاني وغيره من أدباء الترك وشعرائها وساستها، فكان أن الغازي مختار باشا أشار على الدولة العلية أن تعامل عبد الله نديم هذه المعاملة فقبلت. وسافر إلى الأستانة، وصدرت الإرادة السلطانية بتعيينه مفتشا للمطبوعات بالباب العالي بمرتب 45 جنيها مجيديا، مضافة إلى الخمسة والعشرين التي يتقاضاها من مصر - ينفق كل ذلك على نفسه وإخوانه، ومن يبره من أهله وأقاربه، ومن أيام المنصورة عرف بأنه صناع القلم واللسان، أخرق اليد.
دخل الأستانة، فدخل القفص الذي دخل في مثله جمال الدين الأفغاني، وغاية الأمر أن قفص جمال الدين ضيق من ذهب، وقفص النديم واسع من حديد، يختلفان بمقدار الخطر من كل منهما ومكانته وحسبه ونسبه، فالسيد جمال الدين يخصص له بيت فخم، ويجعل تحت أمره عربة وخدم وحشم، ويجرى عليه 75 ليرة في الشهر، وتعرض عليه مشيخة الإسلام فيأبى، وعبد الله نديم يعين مفتشا للمطبوعات بخمسة وأربعين ليرة، ولا بيت ولا خدم - ولا غرو؛ فالسيد جمال الدين سيد في طبعه وحسبه ونسبه، كان يعد نفسه قرينا للشاه والسطان، لا يقل عنهما إلا بما شاء القدر من تحليتهما بالملك وعطله منه، وعبد الله نديم يرى أنه من الشعب وابن الشعب وخادمه، لا يمتاز إلا بما منحه الله من ذكاء ولسن. إذا دعا السيد جمال الدين إلى الإصلاح شعر بأنه يخطب الناس من أعلى مكان يشرف عليهم، وهو غضوب وقور؛ وإذا دعا «النديم» شعر بأنه واقف في وسطهم يضحك لهم ويضحك منهم ويصلحهم. ولهذا كان جمال الدين جليلا يسمع لقوله في رهبة وخشية، وينصح الناس وكأنه يضربهم بالسياط، وكان النديم محبوبا يقابل بالابتسام، ويقبل قوله في فرح ومرح؛ ولذلك كان أسف الناس في مصر على فراق النديم أكثر من أسفهم على فراق جمال الدين؛ لأن سؤدد جمال الدين في الخاصة وسؤدد النديم في العامة.
وعجيب أن يقبل «النديم» «وظيفة» مفتش للمطبوعات وهو الذي كان يتعب دائما إدارة المطبوعات؛ وأن يرضى أن يتحكم في الصف، وهو الذي كان يأبى أن يتحكم فيه أحد؛ وأن يرضى أن يكون أداة لتقييد الحرية، بعد أن كان داعية لتأييد الحريه!! ولكن يخفف من هذا أن «الوظيفة» كانت صورة محضة، وكان الغرض منها أن يمنح الخمس والأربعين ليرة في مظهر غير وضيع.
ها هو في الأستانة قد عطلت كل مواهبه؛ فلا خطابة ولا كتابة، ولا تهييج ولا تحميس، وهو في وسط يكاد يختنق منه، لا يفرج عنه إلا مجلس السيد جمال الدين، يحادثه ويسامره، وكل يشكو إلى صاحبه قفصه.
ولكن أنى لصاحب هذا اللسان أن يهدأ؟!
لقد وقع في الخصومة مع أبي الهدى الصيادي، كما وقع فيها معه السيد جمال الدين؛ ولكن السيد عف اللسان في الخصومة الشخصية، أما «النديم» فويل لمن عاداه.
كان أبو الهدى عجبا من العجب، إذا أرخت الدولة العثمانية في عهد عبد الحميد احتل كثيرا من صفحات تاريخها، وكان مستترا وراء الصفحات الباقية، يرون اسمه في كل أنحاء المملكة من مصر وسوريا والعراق وتونس والجزائر، ويتقرب إليه الولاة في حل كل عظيمة - أثبت به القدر أنه على كل شيء قدير.
سوري من حلب، فقير المال والحسب، دفعته المقادير إلى الأستانة، وكان ماهرا ذكيا وسيم المحيا، ماضي العزيمة، قادرا على معرفة نفوس الناس ومن أين تؤتى، فتغلب على عقل السلطان عبد الحميد بأحلامه وتفسيراته، والطرق ومشيختها، فربط نسبه بأعلى نسب، فهو قرشي هاشمي علوي، وهو في الطريقة رفاعي له الأتباع الكثيرون، لا يعبأ بالمال يأتيه على كثرة فينفقه ويستدين؛ لأن عز الجاه والسلطة عنده أقوى من عز المال.
له أعين تأتي له بكل الأخبار، فيستغلها أمهر استغلال. لم يقف عند الدين والولاية والصوفية، بل مد نفوذه إلى الشؤون السياسية والإدارية والعسكرية. يحلم فلا حد لحلمه، ويبطش فلا حد لبطشه. سمي «مستشار الملك»، «وحامي العثمانيين» و«سيد العرب» استمال كثيرا من الأمراء والوجهاء والأعيان والعلماء والأدباء. فكانوا عونا له على كل ما أراد. يبطش بهم حين يريد البطش، ويؤلف بهم الكتب حين يريد شهرة العلم. وينظم بهم القصائد حين يريد الأدب والشعر، إلى كرم وسماحة وحسن حديث.
الدنيا كلها يجب أن تسخر لشخصه، وأن تخضع لأمره. والحق ما أتى من طريقه، والباطل ما أتى من طريق غيره - عدو كل إصلاح، وخصيم كل حر.
كم له من ضحايا في السجون، وفي أعماق البحار، وفي ذل الفقر، وفي بؤس المنفى. تتملقه الأمراء، وتهابه العظماء، وكم أنفذ أمره وأبطل أمر السلطان.
وكم تدلل على عبد الحميد فاسترضاه، وبالغ في المطالب فأوفاه!!
هذا أبو الهدى الصيادي الذي لم يتحرز عبد الله نديم أن يخاصمه وينازله، ويطلق فيه لسانه. ووضع فيه كتابا سماه «المسامير». لم ينشر في حياته، وهو كتاب لا يشرف الصيادي ولا عبد الله نديم؛ لأنه استعمل فيه أسلوبا أشبه بأسلوب المرأة «الغجرية» في أحط الحارات، هو أسلوب أقذر من أسلوب جريدة «حمارة منيتي»، و«السيف»، و«الصاعقة». وما إلى ذلك من الجرائد المقذعة في الهجاء، والتي حمدنا الله على الخلاص منها برقي ذوقنا. فسامحه الله فيما فعل.
وبلغ أبا الهدى أمر هذا الكتاب، فأبلغ السلطان عبد الحميد أن فيه أيضا هجاء له، فبحث عنه طويلا من غير جدوى، واستطاع «جورج كرتشي»، الذي كان متصلا بالسيد جمال الدين و«النديم»، أن يحتفظ به ويخفيه ويفر به إلى مصر، ثم يطبعه.
لم تطل حياة «النديم» في الأستانة طويلا، فقد أصيب بالسل، واشتدت عليه العلة، فمات في العاشر من أكتوبر سنة (1896م)، واحتفل بجنازته احتفالا كبيرا مشى فيه السيد جمال الدين - الذي لحقه إلى ربه بعد أشهر - ودفن في مدفن يحيى أفندي في «باشكطاش»، وكانت أمه وأخوه قد علما بشدة مرضه، فسافرا إليه، ولكن لم يدركاه إلا ميتا، ووجدوا متاعه وأثاثه وكل شيء له قد نهب؛ فعادا وليس في يدهما إلا الحزن والأسى.
مات في نحو الرابعة والخمسين من عمره، فلم يكن بالعمر الطويل، ولكنه عمر عريض، فطالما غذى الناس بقلمه، وهيجهم بأفكاره، وأضحكهم وأبكاهم، وخير رجال الشرطة، وأقلق بال رجال السياسة، ونازل خصومه من رجال الصحافة، فنال منهم أكثر مما نالوا منه، ولم يهدأ له لسان ولا قلم حيث حل، ولا على أي حال كان؛ حتى هدأه الموت الذي يهدئ كل ثائر.
مهما أخذ عليه فقد كان عظيما!!!
فتح للناس في جريدته «التبكيت والتنكيت» و«الأستاذ» أبوابا من الإصلاح الاجتماعي كانت مغلقة في التعليم والزراعة، واللغة والصناعة، والانحلال الخلقي، وما إلى ذلك، فسار المصلحون على أثره.
وكانت الجرائد المعروفة في عهده «المقطم»، و«الأهرام»، و«المؤيد»، و«النيل»، وكان لها ثلاثة اتجاهات: منها ما يسالم الاحتلال ويؤيده، ومنها ما يؤيد الحركة الوطنية ومن ورائها السياسة الفرنسية؛ ومنها ما يؤيد الحركة الوطنية والنزعة الإسلامية والارتباط بالدولة العثمانية، وكل منها يعرض وجهة نظره في شيء من الهدوء والرزانة والوقار. فلما طلع «الأستاذ» دعا إلى أن مصر للمصريين، لا لتركيا ولا للأوروبيين، وناصر الحركة الوطنية والالتفاف حول الخديو أمير البلاد، ودعا الذين غلبهم الخوف بعد الاحتلال أن يبرزوا من مكامنهم ويمسحوا الخوف عنهم، ويتصلوا بالجمهور ليوقظوه، ودعا إلى تأليف الأحزاب حتى يكون لكل جريدة حزبها، ولكل حزب برنامجه. ولم يسلك سبيل الهدوء كما سلكه معاصروه، بل زاد في الطنبور نغمة، وزادت النغمة حدة، والحدة منه استتبعت الحدة من الجرائد الأخرى، والغضب يبعث الغضب؛ والصوت العالي ينبه الأفكار، ويوقظ النائم، فكان في الجرائد لون جديد شديد قوي، يميز بعضها عن بعض في وضوح وجلاء. وكانت هذه الحدة وهذا الجدل المتتابع في المسائل العامة أكبر موقظ للرأي العام النائم يفهمه موقفه وما يضره وما ينفعه، وأي غاية يريد منه هؤلاء وهؤلاء، ومواطن ضعفه، وكيف السبيل إلى قوته، وللنديم الفضل الكبير في ذلك.
وكانت جريدة «الأستاذ» هي الأستاذ لمصطفى كامل، تعلم منها الاتجاه والنغمة، وإن اختلفا من حيث الثقافة والأسلوب بحكم الزمن والأحداث والظروف.
نعم كان في «النديم» شيء من التهريج كالذي رأينا قبل. وكان من تهريجه أنه كان في أول أمره يرتدي الثياب الإفرنجية، فلما ظهر بعد الاختفاء لبس الجبة والقفطان، واعتم بعمامة خضراء، وادعى أنه شريف إدريسي ينتسب إلى الحسن بن علي، وكثير من الواقفين على الحقيقة ينكر ذلك،وربما دعاه إلى هذا شعوره بمركب النقص، من حيث نشأته الفقيرة المتواضعة، وما مرن عليه من التصنع أيام الاستخفاء، وحالة الوسط الذي عاش فيه من أنه لا يمجد إلا ذا الثراء أو ذا الحسب - ومع هذا فالعظيم يقدر بكله لا ببعضه.
كانت عظمته في ذكائه وقوة لسنه. قال فيه المرحوم أحمد باشا تيمور: «كان شهي الحديث، حلو الفكاهة، إذا أوجز ود المحدث أنه لم يوجز. لقيته مرة في آخر إقاماته بمصر فرأيت رجلا في ذكاء إياس، وفصاحة سحبان، وقبح الجاحظ. أما شعره فأقل من نثره، ونثره أقل من لسانه، ولسانه الغاية القصوى في عصرنا هذا».
وكان السيد جمال الدين يعجب بقوة حجته في المناظرة والجدل، وسرعة بديهته، وشدة عارضته، ووضوح دليله، ووضعه الألفاظ وضعا محكما بإزاء معانيها إن خطب أو كتب.
ثم هو شجاع لا يخاف؛ يلذه مواجهة العظماء ومنازلة الكبراء في غير خوف ولا وجل، إلى تواضع مع العامة ومضاحكتهم ومؤانستهم وملاطفتهم، لا يعبأ بالقوة ولا يخاف البطش، فإذا نازل أحدا وسلط عليه لسانه كانت الكارثة.
نازل الخديو توفيق والاحتلال، وأبا الهدى الصيادي، ولكل جاهه وسلطانه الذي أذل أعناق الكثيرين، كل ذلك وهو فقير يعيش من يده إلى فمه، ما أتاه أتلفه، وما وصل إلى يده بدده، معتمدا على ربه الذي يرزقه كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا.
ضعيف الجسم كثير العلل، وربما كان ذلك هو السبب في موت أولاده جميعا في طفولتهم، فقد رزق قبل الاختفاء بمحمد، وعثمان، وإلياس، وفاطمة وعائشة، وسكينة وخديجة. كما رزق أيام الاختفاء بحفصة، وريا. وكلهم لم يعش طويلا. ومع هذا فهو - على مرضه - دائب العمل دائم الحركة.
لا يعتريه كلل ولا ملل. يود أن يخلد اسمه بالعمل، بعد أن حرم تخليد اسمه بالولد.
أعد نفسه بالخبرة والتجربة في كل شيء حوله. فكان كما حدث عن نفسه: «أخذت عن العلماء، وجالست الأدباء، وخالطت الأمراء، وداخلت الحكام، وعاشرت أعيان البلاد، وامتزجت برجال الصناعة والفلاحة والمهن الصغيرة، وأدركت ما هم فيه من جهالة، ومم يتألمون، وماذا يرجون. وخالطت كثيرا من متفرنجة الشرقيين، وألممت بما انطبع في صدروهم من أشعة الغربيين. وصاحبت جما من أفاضل الشرقيين المتعلمين في الغرب، ممن ثبتت أقدامهم في وظيفتهم. وعرفت كثيرا من الغربيين ورأيت أفكارهم عالية أو سافلة فيما يختص بالشرقيين، والغاية المقصودة لهم، واختلطت بأكابر التجار، وسبرت ما هم عليه من السير في المعاملة أو السياسة. وامتزجت بلفيف من الأجناس المتباينة جنسا ووطنا ودينا، واشتغلت بقراءة كتب الأديان على اختلافها، والحكمة والتاريخ والأدب، وتعلقت بمطالعة الجرائد مدة، واستخدمت في الحكومة المصرية زمنا. واتجرت برهة. وفلحت حينا. وخدمت الأفكار بالتدريس وقتا، وبالخطابة والجرائد آونة - واتخذت هذه المتاعب وسائل لهذا المقصد الذي وصلت إليه بعناء كساني نحول الشيخوخة في زمن بضاضة الصبا، وتوجني بتاج الهرم الأبيض بدل صبغة الشباب السوداء، فصورتي تريك هيئة أبناء السبعين، وحقيقتي لم تشهد من الأعوام إلا تسعة وثلاثين».
وربما كان أعظم شيء فيه ثباته على مبدئه، باع نفسه لأمته حسبما يعتقد الخير لها، ولم يتحول عن ذلك على كثرة من تحول في مثل مواقفه. هؤلاء زعماء الثورة العرابية حاولوا أول أمرهم أن ينكروا ما فعلوا. فلما لم ينفعهم إنكارهم وعوقبوا عادوا وخضعوا، وعاشوا في مسالمة ومهاودة. أما هو فلم ينكر ما قال، ولقي في مخبئه الأهوال. وكان جديرا بمن لقي ذلك كله أن يهدأ، وإذا هدأ فلا لوم عليه. ولكنه ظل يجاهد، وينفى فيجاهد، ويعفى عنه فيجاهد، ويحذر فلا يحذر، ويطمع فلا يطمع، حتى لقي مولاه. رحمه الله.
زعماء الإصلاح الإسلامي في العصر الحديث: السيد عبد الرحمن الكواكبي
1265-1320ه / 1848-1920م
1
من بيت في «حلب» يعتز بنسبه وحسبه وعلمه وجاهه وماله؛ فأسرة الكواكبي كانت فيها نقابة الأشراف في حلب، ولها مدرسة تسمى المدرسة الكواكبية، وأبوه أحد المدرسين في الجامع الأموي بحلب والمدرسة الكواكبية فيها.
تعاون على تربيته بيته وما في تقاليده من عزة وإباء وشمم وأنفة من الصغائر، وخالة له تعهدته بعد وفاة والدته وهو صغير، وكانت من نوادر النساء في الشرق، عرفت بالأدب والكياسة وكبر العقل. وقبل ذلك، فطرته التي فطر عليها من ميل إلى الحق، وحب الخير والاستجابة للتربية الصالحة.
كل هذا جعل منه رجلا يستعصي على ناقد الأخلاق نقده. مؤدب اللسان حتى لا تؤخذ عليه هفوة، يزن الكلمة قبل أن ينطق بها وزنا دقيقا، حتى لو ألقي عليه السلام لفكر في الإجابة؟ متزن في حديثه، إذا قاطعه أحد سكت وانتظر حتى يتم حديثه، ثم يصل ما انقطع من كلامه، فيؤدب بذلك محدثه، نزيه النفس لا يخدعها مطمع ولا يغريها منصب، شجاع فيما يقول ويفعل، مهما جرت عليه شجاعته من سجن وضياع مال وتشريد، وهو - مع أنفته وعزته وصلفه على الكبراء - متواضع للبائسين والفقراء، يقف دائما بجانب الضعفاء، يشع على من يجالسه الاتزان والتفكير الهادئ، وحب الحق ونصرة المبدأ، والتضحية للفضيلة.
تعلم كما كان يتعلم ناشئة زمانه الدينيون ، لغة عربية ودين في مدرسة أسرته بحلب - «المدرسة الكواكبية» - وكانت مدرسة تسير على الطريقة الأزهرية فيما يقرأ من كتب، وما يتبع من منهج، ولكنه أكمل نفسه بقراءته بعض العلوم الرياضية والطبيعية، وأحضر له والده من علمه الفارسية والتركية، وطالع بنفسه كثيرا من الكتب التاريخية، وعني بدراسة قوانين الدولة العثمانية.
فلما أتم دراسته انغمس في الحياة العملية، وتنوعت أعماله، وتباينت اتجاهاته: فمن محرر لجرية رسمية، إلى رئيس كتاب المحكمة الشرعية، إلى قاض شرعي في بلدة من البلاد السورية، إلى رئيس البلدية. ثم هو بين الحين والحين يعتزل الوظائف الحكومية فينشئ لنفسه جريدة في «حلب» اسمها الشهباء، أو يشتغل بالأعمال التجارية، أو يقوم بمشروعات عمرانية، ومن كل ذلك يستفيد خبرة وتجربة بالحياة. وفي كل الأعمال الحكومية والحرة يصطدم بنظام الدولة، وباستبداد الحكام وفساد رجال الإدارة، فينازلهم وينازلونه، ويحاربهم ويحاربونه، وينتصر عليهم حينا، وينتصرون عليه حينا، وسلاحه دائما النزاهة والعدل والاستقامة، وسلاحهم دائما الدسائس والاتهام بخروجه على النظام، ودعوته للشغب، وما شاكل ذلك مما هو من عادة الظالمين. وكانت البلاد التي يعيش فيها موبوءة بحكم «عبد الحميد» لا يستطيع أن يعيش فيها حر صريح، ولا ينجح فيها تاجر نزيه، ولا موظف جريء مستقيم، وهذا النوع من الحكم عدو كل كفاية، وقاتل كل نبوغ!!
ارتفع شأنه في بلده ، فكان يقصده أصحاب الحاجات لقضائها، والمشاكل لحلها، ورجال الحكومة أنفسهم يستشيرونه فيما غمض عليهم ويعتمدون على رأيه، وهو في كل هذا جريء فيما يقول؛ لا يقر ظالما على ظلمه، ولا يسالم جائرا لمنصبه أو جاهه. من أجل هذا غاضب «عارف باشا» والي «حلب»، وأخذ يعدد عليه سيئاته وينقم عليه تصرفاته، ويحرض الناس على رفع صوتهم معه بالشكوى منه لرؤسائه في الأستانة. فانتقم «عارف باشا» لنفسه، فزور على «الكواكبي» أوراقا، واتهمه بأنه يسعى لتسليم «حلب» لدولة أجنبية، وحبسه وطلب محاكمته؛ فبذل الكواكبي ورجاله جهدا كبيرا ليحاكم في ولاية غير ولاية «حلب»؛ وحوكم في بيروت فحكم ببراءته، وظهرت خيانة الوالي ومكايده فعزل.
وكان من أعداء «الكواكبي» أيضا «أبو الهدى الصيادي»، الذي سبق وصفه في ترجمة «عبد الله نديم»، لأن «الكواكبي» أبى الاعتراف بصحة نسبه، ولاعتداء «أبي الهدى» على بيتهم بأخذ نقابة الأشراف لنفسه منهم، فكان «أبو الهدى» أيضا يدس له، ويغري ولاة الأمر به.
فكان من نتيجة محاكمته على التهمة التي اتهمه بها «عارف باشا»، ومن معاكسة «أبي الهدى» وأعوانه له حتى في تجارته، أن خسر ألوف الجنيهات من ماله، فاحتمل ذلك بنفس قوية لا تجزع ولا تتحول.
وأنصع صفحة في تاريخ حياته قوة شعوره بفساد حال المسلمين، وتخصيص جزء كبير من حياته في تعرف أحوالهم في جميع أقطار الأرض، وتشخيص أمراضهم وتلمس العلاج لهم، فعكف على مطالعة تاريخهم في ماضيهم وحاضرهم، وما كتبه الكتاب المحدثون في ذلك في الكتب والمجلات والجرائد، ودرس أحوال المسلمين في المملكة العثمانية. ثم رحل إلى كثير من بلاد المسلمين، فساح في سواحل إفريقية الشرقية، وسواحل آسيا الغربية، ودخل بلاد العرب وجال فيها، واجتمع برؤساء قبائلها، ونزل بالهند وعرف حالها. وفي كل بلد ينزلها يدرس حالتها الاجتماعية والاقتصادية، وحالتها الزراعية، ونوع تربتها وما فيها من معادن ونحو ذلك، دراسة دقيقة عميقة. ونزل مصر وأقام بها، وكان في نيته رحلة أخرى إلى بلاد المغرب يتم فيها دراسته، ولكنه عاجلته منيته.
أخرج نتيجة دراسته في مقالات كتبت في المجلات والجرائد، ثم جمعت في كتابين: اسم أحدهما «طبائع الاستبداد»، والآخر «أم القرى»: الأول في نقد الحكومات الإسلامية، والثاني في نقد الشعوب الإسلامية غالبا.
لقد كان الحديث في مثل هذه الموضوعات التي مسها «الكواكبي» في «طبائع الاستبداد» و«أم القرى» من الموضوعات المحرمة، لأنها تمس نظام الحكم من قريب، وتفهم الشعوب حقوقهم وواجباتهم، وتقفهم على مناحي الظلم والعدل، وتهيئهم للمطالبة بالحقوق إذا سلبت، والقيام بالواجبات إذا أهملت، وهذا أبغض شيء لدى الحاكم المستبد. لذلك رأينا الشرق من بعد ابن خلدون أغلق هذا الباب، ولم يفتحه أي باحث بعده، وصار كتاب ابن خلدون مقدمة بلا نتيجة. والعلوم التي حوفظ عليها واستمرت دراستها، هي علم النحو والصرف واللغة والفقه ؛ لأنها لا تمس الحاكم من قريب ولا بعيد، ولا تفهم الناس أين هم من حاكمهم وأين حاكمهم منهم. والأدب مداح للملوك والحكام، يجعل ظلمهم عدلا وفسادهم صلاحا، فإذا أعطاهم الحاكم قليلا مما سلبه منهم هللوا وكبروا، وعجبوا من هذا الكرم الحاتمي، والسخاء الذي لا نظير له، وإذا تبسم بسمة أشرقت الشمس، وإذا عبس عبسة اكفهر الجو! وهكذا. كان الحاكم هو كل شيء في الأمة، حتى المؤرخون لا يؤرخون إلا شخصه في حياته وأعماله وحروبه وزوجاته وأولاده. أما الشعب فلا شيء، إلا أن يكون مزرعة للحكام، وأحب علم إلى الحكام وأدعاهم لنصرته هو ما لا يتصل بالحكم ونظامه، ورجال الدين المقربون هم الذين يستطيعون أن يولدوا المعاني من مثل «السلطان ظل الله في أرضه» و«من أطاع الأمير فقد أطاعني، ومن عصاه فقد عصاني». أما علم الاجتماع فلم يعرفه الشرق بعد ابن خلدون بتاتا.
كان هذا في الشرق، على حين أن الغربيين بدءوا بعد ابن خلدون يبحثون في المجتمعات بحثا واسعا، يتعرفون علل الجماعات وأمراضها، وأنواع الحكومات ومزايا كل شكل وعيوبه، ويتحررون من القيود، ولا يعبئون بالتضحيات في سبيل الحريات، ويبني لاحقهم على ما وصل إليه سابقهم.
وبلغ الضيق في الشرق منتهاه في عهد السلطان عبد الحميد، ولكن شدة الضغط تولد الانفجار، والقسوة تعلم الحيلة ، وتوالي الاضطهاد يولد البغضاء، فكثرت في هذا العهد الجمعيات السرية تعمل لتحرير البلاد العثمانية من الظلم، وتعمل لوضع نظام ديمقراطي لا يكون فيه السلطان الحاكم بأمره، وفر كثير من العثمانيين إلى أوربا يدرسون نظام الحكم الأوربي وما وصلت إليه أوربا من البحوث الاجتماعية، وأخذوا يكتبون في ذلك في جرائدهم ومجلاتهم التي يحررونها خارج الحدود العثمانية، ومنها تتسرب إلى البلاد نفسها. وأخذت مصر بعد انفصالها من حكم العثمانيين تؤوي الأحرار، وتؤيد القول في نقد نظام الحكم، وظهرت في الجرائد والمجلات مقالات بالعربية في تشريح أحوال الجماعات وأصول الحكومات وترجم إلى العربية «أصول النواميس والشرائع» لمونتسكيو. وبدأت موجات البحث الاجتماعي في أوربا تصل إلى الشرق عن طريق الترجمة وطريق المثقفين في أوربا.
في هذا الوسط طلع الكواكبي، وكان ظهوره بكتابيه جرأة كبيرة. لقد استفاد مما نقل عن الغرب، ولم يكن يعرف لغة أوربية، إنما يعرف العربية والتركية والفارسية؛ فاستفاد مما نقل إليها، ومما كان يترجم له في هذا الباب خاصة. وقد ظهر أثر هذا الاقتباس في كتابه «طبائع الاستبداد». أما كتابه «أم القرى» فبحث مبتكر، وهو يدل على كبر عقله وقوة تفكيره، وسعة اطلاعه، وصدق غيرته على العالم الإسلامي.
أما كتاب «طبائع الاستبداد»، فقد نشره - أولا - مقالات في بعض الصحف عندما كان في مصر سنة (1318ه)، ثم جمعها في كتاب وقال في أوله: «إني نشرت في بعض الصحف أبحاثا علمية سياسية في طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، منها ما درسته، ومنها ما اقتبسته غير قاصد بها ظالما بعينه، ولا حكومة مخصصة، إنما أردت بذلك تنبيه الغافلين لمورد الداء الدفين، عسى أن يعرف الشرقيون أنهم المتسببون لما هم فيه، فلا يعتبون على الأغيار، ولا على الأقدار ... ثم أضفت إليها بعض زيادات، وحولتها إلى هيئة الكتاب».
وقد اقتبس فيه كثيرا من أقوال «ألفيري»، ولا أعرف كيف وصلت إليه، وألفيري “Alfieri Vittoria” ، كاتب إيطالي عاش من سنة (1749-1803م)، من بيت نبيل، وقد ساح في أوربا نحو سبع سنوات، ودرس كتب فولتير وروسو ومنتسكيو، وتشبع بآرائهم الحرة، وتعشق الحرية وكره الاستبداد أشد الكره، ووجه أدبه للتغني بالحرية ومناهضة الاستبداد، ينطق بذلك أبطال رواياته ويبثه في كتاباته؛ ولكن الكواكبي هضمها وعدلها بما يناسب البيئة الشرقية والعقلية الإسلامية، وزاد عليها من تجاربه وآرائه.
2
وكتاب «طبائع الاستبداد» يدور حول تعريف الاستبداد بأنه «صفة للحكومة المطلقة العنان، التي تتصرف في شئون الرعية كما تشاء بلا خشية حساب ولا عقاب». ويأتي هذا من كون الحكومة مطلقة التصرف لا يقيدها قانون ولا إرادة أمة، أو أنها مقيدة بنوع من ذلك، ولكنها تملك بنفوذها إبطال هذه القيود والسير على ما تهوى. والحكومات ميالة بطبعها إلى الاستبداد، لا يصدها عنه إلا وضعها تحت المراقبة الشديدة ومحاسبتها محاسبة لا تسامح فيها، وإلا قوة الرأي وعظمة سلطانه .
والمستبد يتحكم في شئون الناس بإرادته لا بإرادتهم، ويحكم بهواه لا بشريعتهم، ويعلم من نفسه أنه الغاصب المعتدي، فيضع كعب رجله على أفواه الملايين من الناس، يسدها عن النطق بالحق ومطالبتها به.
والمستبد عدو الحق، وعدو الحرية وقاتلها.
والمستبد يود أن تكون رعيته بقرا تحلب، وكلابا تتذلل وتتملق، وعلى الرعية أن تدرك ذلك فتعرف مقامها منه: هل خلقت خادمة له، أو هي جاءت به ليخدمها فاستخدمها؟ والرعية العاقلة مستعدة لأن تقف في وجه الظالم المستبد، تقول له: لا أريد الشر، ثم هي مستعدة لأن تتبع القول بالعمل؛ فإن الظالم إذا رأى المظلوم يحمل سيفا لم يجرؤ على ظلمه.
وقد بحث بحثا مستفيضا في علاقة الاستبداد بالدين، ونقل عن الفرنج رأيهم في أن الاستبداد في السياسة متولد من الاستبداد في الدين أو مساير له. فكثير من الأديان تبث في نفوس الناس الخشية من قوة عظيمة لا تدرك كنهها العقول، وتهددهم بالعذاب بعد الممات تهديدا ترتعد منه الفرائص، ثم تفتح بابا للخلاص والنجاة بالالتجاء إلى الأحبار والقسس والمشايخ، بالذلة لهم، والاعتراف أمامهم، وطلب الغفران منهم. والمستبدون السياسيون يتبعون هذه الطريقة، فيسترهبون الناس بالتعالي والتعاظم، ويذلونهم بالقهر والقوة وسلب الأموال، حتى لا يجدوا ملجأ إلا التزلف لهم وتملقهم! وعوام الناس يختلط عليهم في أذهانهم الإله المعبود والمستبدون من الحكام، فيتشابه عندهم استحقاق التعظيم، وتنزههم عن سؤالهم عما يفعلون، ولا يرون لهم حقا في مراقبتهم على أعمالهم، كما أنه ليس لهم حق في مراقبة الله فيما يفعل!! ولهذا خلعوا على المستبد صفات الله كولي النعم، والعظيم الشأن، والجليل القدر، وما إلى ذلك! وما من مستبد سياسي إلا ويتخذ له صفة قدسية يشارك فيها الله أو تربطه برباط مع الله ولا أقل من أن يتخذ بطانة من أهل الدين يعينونه على ظلم الناس باسم الله!!
ولقد رأى «الكواكبي» أن الإسلام في جوهره الأصلي لا ينطبق عليه هذا القول، فهو مبني على قواعد الحرية السياسية متوسطة بين الديمقراطية والأرستقراطية، فهو مؤسس على أصول ديمقراطية (أي: المراعاة التامة للمصلحة العامة)، وعلى شورى أرستقراطية، أي: شورى الخواص، وهم أهل الحل والعقد.
فالقرآن مملوء بتعاليم تقضي بإماتة الاستبداد، والتمسك بالعدل، والخضوع لنظام الشورى من مثل:
وشاورهم في الأمر ،
وأمرهم شورى بينهم
حتى في القصص من مثل:
ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون . ومظهر هذا كان في أيام النبي
صلى الله عليه وسلم
والخلفاء الراشدين. ثم لا يعرف الإسلام سلطة دينية، ولا اعترافا، ولا بيع غفران، ولا منزلة خاصة لرجال الدين، ولكن دخل عليه من الفساد ما دخل على كل دين، فتفرقت كلمة المسلمين وانقسموا شيعا، وتحول الحكم من نظام شوري إلى استبدادي، فصغرت نفوس الناس وخفت صوتهم، وأضاعوا مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو المبدأ الذي به يراقب أولو الأمر في الأمة، فصار أمر المسلمين إلى ما نرى.
ولم يتعرض «المؤلف» للرد على الشطر الأول، وهو ما يوحيه تصوير الله بالقوة والعظمة والسيطرة من خضوع النفوس للمستبد، وعندي أن الإسلام بجعله «لا إله إلا الله» محور الدين، تتكرر في كل أذان وفي كل مناسبة، كان كفيلا أن يذكر النفوس دائما بأن العزة لله وحده، وأن النفوس لا يصح أن تخضع لأحد سواه، وأن هذه الكلمة توحي بالضعف أمام الله والقوة أمام من سواه كائنا من كان. ولكن بتوالي القرون، ودخول الدخيل من العقائد، أصبحت «لا إله إلا الله» عند أكثر المسلمين كلمة جوفاء لا روح فيها، تبعث الضعف ولا تبعث القوة، وتبيح أن يشرك مع الله الحاكم المستبد والرئيس المستبد، بل والمال والجاه والمنصب، فكل هذه وأمثالها أصبحت آلهة مع الله، وفقد المدلول الحق ل «لا إله إلا الله»!! •••
ثم أبان الحاكم المستبد يخشى العلم؛ لأن العلم نور، وهو يريد أن تعيش الرعية في الظلام؛ لأن الجهل يمكنه من بسط سلطانه، وأعرف أن حاكما مستبدا شرقيا كان له مرب سويسري، فقال له يوما بعد أن تأمر: ليتك تعنى بتربية الشعب وتعليمه! فقال الأمير: «كلا! إني إن علمته صعب علي حكمه»!
والحاكم المستبد لا يخشى علوم اللغة والأدب، ولا علوم الدين المتعلقة بالمعاد، بل هو يستخدم العلماء من هذا القبيل لتأييده في استبداده، بسد أفواههم بلقيمات من فتات مائدته، إنما ترتعد فرائصه من الفلسفة العقلية، ودراسة حقوق الأمم، وعلوم السياسة والاجتماع، والتاريخ المفصل، والقدرة على الخطابة الأدبية، ونحو ذلك من العلوم التي تنير الدنيا وتثير النفوس على الظالم، وتعرف الإنسان ما هو الإنسان، وما هي حقوقه، وكيف يطلبها، وكيف ينالها، وكيف يحفظها؛ فإن المستبد سارق، والعلماء من هذا القبيل يكشفون السرقة.
ولذلك يكون الحاكم المستبد وهؤلاء العلماء في صراع دائم، العلماء يحاولون الإنارة، والمستبد يحاول إطفاءها، وكلاهما يحاول كسب عامة الشعب، فالمستبد يخيفهم ليستسلموا، وهؤلاء العلماء يثيرونهم ليقولوا ويفعلوا.
والحاكم المستبد تسره غفلة الشعب لأنه يتمكن بغفلتهم من الصولة عليهم؛ يغضب أموالهم فيحمدونه على إبقاء حياتهم، ويضرب بعضهم ببعض فيصفونه بحسن السياسة والكياسة، ويسرف في إنفاق أموالهم فيقولون: إنه كريم، ويقتلهم ولا يمثل بهم فيقولون: إنه رحيم، وإن نقم عليه بعض الأباة، قاتلهم كأنهم بغاة!!
والحاكم المستبد يخاف رعيته، كما تخافه رعيته، بل خوفه منهم أشد؛ لأنه يخافهم عن علم، وهم يخافونه عن جهل. وقد اعتاد المؤرخون المحققون قياس درجة استبداد الحاكم بمقدار حذره، ودرجة عدله بمقدار طمأنينته، كما يستدلون على عراقة الاستبداد في الأمة بفخفخة الحكام، وإمعانهم في الترف، وكثرة الحجاب، ودقة نظام المقابلات. ومن دلائل تغلغل الاستبداد في الأمة استكناه لغتها، فإن كثرت فيها ألفاظ التعظيم وعبارات الخضوع، كاللغة الفارسية، دلت على تاريخها القديم في الاستبداد، وإن قلت كالعربية قبل امتزاجها بغيرها دلت على الحرية.
وعلى الجملة فأخوف ما يخافه المستبد من العلم العلم الذي يعلم أن الحرية أفضل من الحياة، والشرف أعز من المنصب والمال، والحقوق وكيف تحفظ، والظلم وكيف يرفع، والإنسانية وقيمتها، والعبودية وضررها.
وقد كان «الكواكبي» في كل هذا يقرأ نتاج القرائح التي كتبت في الاستبداد، وينظر إلى الدولة العثمانية في عهده ويستملي منها آراءه وأحكامه. •••
ثم عرض للاستبداد والمجد، ويعني بالمجد رغبة الإنسان أن تكون له منزلة حب واحترام في قلوب الناس، وهو مطلب طبيعي شريف، ويبلغ عند بعض الأفراد درجة تجعلهم يتساءلون أيهما أقوى: الحرص على المجد أم الحرص على الحياة؟ و«الكواكبي» من قبيل من يرى الحرص على المجد أقوى وأوجب من الحرص على الحياة؛ ولذلك عاب على ابن خلدون رأيه في تقديم الحرص على الحياة، عندما نقد (ابن خلدون) الإمام الحسين بن علي وأمثاله، وقال: إنهم يعرضون أنفسهم للموت بخروجهم في فئة قليلة على الخليفة ذي السلطان والعدد والعدد، فيلقون بأنفسهم في التهلكة. فقال «الكواكبي»: إنهم معذورون؛ لأنهم يفضلون الموت كراما على حياة الذل التي كان يحياها ابن خلدون، وهم في ذلك ككرام سباع الطير والوحوش التي تأبى التناسل في أقفاص الأسر، وتحاول الانتحار تخلصا من قيود الذل - وغضبة الكواكبي على ابن خلدون سببها عصبيته لأهل البيت؛ إذ كان من الأشراف، وفيه نزعة لحب المجد ولو كان فيه فقد الحياة؛ فابن خلدون يتحدث بالعقل، والكواكبي يتحدث بالعاطفة.
والمجد أنواع: «مجد الكرم» وهو بذل المال في سبيل المصلحة العامة، وهو أضعف أنواع المجد، و«مجد العلم» وهو نشر العلم النافع رغم عوائق السلطات، و«مجد النبالة» وهو بذل النفس بالتعرض للمشاق والأخطار في سبيل نصرة الحق، وهذا أعلى المجد. ويقابل المجد التمجد، أي: المجد الكاذب، وهو أن يكون الإنسان مستبدا صغيرا في كنف المستبد الأعظم، وهذا يزدهر في الحكومات المستبدة؛ لأن الحكومات الحرة تحافظ على التساوي بين الأفراد ولا تخالف ذلك، ولا تميز بعض الأفراد إلا بخدمة عامة للأمة أو عمل عظيم يوفق إليه. أما في الحكومات المستبدة فالمتمجدون أعداء للعدل أنصار للظلم، ينتخبهم المستبد الأعظم ليقوي بهم سلطانه، ويختارهم من ضعاف النفوس ويستغويهم بالمناصب والمراتب، وأكثر ما يعتمد على العريقين في التمجد، الوارثين من آبائهم وأجدادهم مرض الاستبداد؛ ومن هنا ظهرت في الأمم نغمة التمجد بالأصالة والأنساب. والحكومة المستبدة يظهر استبدادها في كل فروعها، من المستبد الأعظم إلى الشرطي، إلى الفراش، إلى كناس الشارع، ولا يكون كل صنف من هؤلاء إلا من أسفل طبقته؛ لأنه لا يهمهم المجد باستجلاب محبة الناس، إنما يهمهم التمجد باكتساب ثقة رئيسهم المستبد. والوزير في الحكومة الاستبدادية وزير المستبد الأعظم لا وزير الأمة، وكذلك من تحته من أعوانه، فالهيئة كلها تتمجد ولا تمجد، وكلهم شركاء في جريمة الضغط على الأمة وظلمها. والاستبداد يقتل المجد ويحيي التمجد!
وهذا حق، فالحكومة المستبدة تقتل في النفوس العزة الحقيقية بالمفاخرة بالأعمال النافعة، وتخلق نوعا من السيادة الكاذبة، وتجعل أولي الأمر سلسلة تبدأ من المستبد الأعظم إلى الشرطي في الشارع، كل يخنع لمن فوقه ويستبد بمن تحته، وعلى العكس من ذلك الحكومة الديمقراطية ديمقراطية صحيحة، فهي تشعر كل شخص في الدولة بالعزة التي يحميها العدل، وبأن له نصيبا في حكم بلاده، وصوتا مسموعا فيما يجب أن يعمل وما يجب أن يترك، وأن حكومته ليست قائمة إلا برأيه ورأي أمثاله، إن شعروا يوما بجورها أسقطوها؛ سلطة الرأي العام فيها فوق سلطان الحكومة والبرلمان وكل سلطان. •••
ثم عرض للاستبداد والمال، ويعني بذلك الحكومة الاستبدادية، وأثرها في الثروة أو الحالة الاقتصادية في البلاد. وهو في هذا الموضوع يرى الخير في نوع معتدل من الاشتراكية، نعم لا ينبغي أن يتساوى العالم الذي أنفق زهرة حياته في تحصيل العلم النافع، أو الصانع الماهر في صنعة مفيدة، وذلك الجاهل الخامل النائم في ظل الحائط، ولكن العدالة تقضي أن يأخذ الراقي بيد السافل فيقربه من منزلته، ويقاربه في معيشته. وقد مال الإسلام إلى هذا النوع ففرض 2,5٪ من رءوس الأموال تعطى للفقراء وذوي الحاجة، وحرم الربا؛ لأنه وإن أجازه الاقتصاديون لأسباب معقولة اقتصاديا - للقيام بالأعمال الكبيرة؛ ولأن الأموال المتداولة في السوق لا تكفي للتداول، فكيف إذا أمسك المكتنزون قسما منها، ولأن كثيرا من القادرين على العمل لا يجدون رءوس المال - فإن الدين ورجال الأخلاق ينظرون إليه من حيث ضرره الأخلاقي؛ لأنه متى انتشر قسم الناس إلى عبيد وأسياد، وكان سببا في ضياع استقلال الأمم الضعيفة.
والحكومة الاستبدادية سبب في اختلال نظام الثروة، فهي تجعل رجال السياسة والدين ومن يلحق بهم يتمتعون بحظ عظيم من مال الدولة، مع أن عددهم لا يتجاوز الواحد في المائة، وهي تخصص المال الكثير لترف المستبد وسرفه؛ وتغدق على صنائعها ومن يستخدم لتحصيل شهواتها ومن يعينها على طغيانها، وسائر أفراد الشعب في شقاء وفقر وبؤس!
والحكومات العادلة تعمل على تقريب المسافات بين أفراد الشعب، فلا غنى مفرط ولا فقر مفرط. وهذه حكومة الصين المعدودة غير متمدنة لا تجيز للشخص الواحد أن يملك أكثر من خمسة أفدنة، وروسيا وضعت لبعض ولاياتها قانونا أشبه بهذا، ومنعت سماع دعوى دين غير مسجل على فلاح، ولم تأذن لفلاح أن يستدين أكثر من خمسمائة فرنك. وحكومات الشرق إذا لم تعالج الفروق الكبيرة بين سادتها وعبيدها ساء مصيرها.
ثم الحكومات المستبدة تيسر للسفلة طرق الغنى بالسرقة والتعدي على الحقوق العامة، ويكفي أحدهم أن يتصل بباب أحد المستبدين ويتقرب من أعتابه، ويتوسل إلى ذلك بالتملق وشهادة الزور وخدمة الشهوات والتجسس؛ ليسهل له الحصول على الثروة الطائلة من دم الشعب.
هذه صورة سينمائية لكتاب «طبائع الاستبداد». ولو أنسئ في عمر «الكواكبي» حتى يرى النظريات الاقتصادية الحديثة، وتطور النظم السياسية، والدولة الشيوعية، وحركات العمال أمام استبداد رءوس الأموال، وعلاقة الغرب بالشرق، وما اخترع الدكتاتوريون في أوربا من نظريات أرغموا العلم إرغاما على أن يؤيدها، ونحو ذلك من أوضاع، لكان له من كل ذلك مادة خصبة يبدع فيها فوق ما أبدع.
3
عرض «الكواكبي» بعد ذلك لأثر الاستبداد في فساد الأخلاق؛ فالاستبداد يتصرف في أكثر الميول الطبيعية والأخلاق الفاضلة فيضعفها أو يفسدها؛ فهو يفقد الإنسان عاطفة الحب، فهو لا يحب قومه لأنهم عون الاستبداد عليه، ولا يحب وطنه لأنه يشقى فيه، وهو ضعيف الحب لأسرته لأنه ليس سعيدا فيها، وهو لا يركن إلى صديقه لأنه قد يأتي عليه يوم يكون فيه عونا على الاستبداد ومصدر شر له.
الإنسان في ظل الاستبداد لا ينعم بلذة العزة والشمم والرجولة، فلا يذوق إلا اللذة البهيمية لأنه لا يعرف غيرها.
والاستبداد يلعب بالأخلاق، فيجعل من الفضائل رذائل، ومن الرذائل فضائل: فيسمي النصح فضولا، والشهامة تجبرا، والحمية طيشا، والإنسانية حمقا ، والرحمة مرضا، كما يسمي النفاق سياسة، والتحايل كياسة، والدناءة لطفا، والنذالة دماثة وظرفا.
والاستبداد أفسد عقول المؤرخين، فسموا الجبابرة الفاتحين عظماء أجلاء، مع أنه لم يصدر عنهم إلا الإسراف في القتل والتخريب، ثم شادوا بذكر السلف تملقا للخلف.
والاستبداد يفقد الثبات في الخلق، فقد يكون الرجل شجاعا كريما فيصبح بعوامل الاستبداد جبانا بخيلا. ولا أخلاق ما لم تكن ثابتة مطردة!
وأقل ما يؤثر الاستبداد في أخلاق الناس أنه يرغم الأخيار منهم على ألفة الرياء والنفاق، ويعين الأشرار على فجورهم آمنين حتى من الانتقاد والفضيحة؛ لأن أكثر أعمالهم تظل مستورة لا يجرؤ الناس على قول الحق أمامهم خوف العقبى.
وأقوى ضابط للأخلاق النهي عن المنكر بالنصيحة والتوبيخ وما إلى ذلك، وهو في عهد الاستبداد غير مقدور لغير ذوي المنعة، وقليل ما هم، ويصبح الوعظ والإرشاد ملقا ورياء.
في الحكومات التي نجت من الاستبداد أطلقت حرية الخطابة والتأليف والمطبوعات، ورأت أن الفوضى في ذلك خير من تحديد الحرية؛ لأنه متى وضعت القيود نفذ منها الحكام، وتوسعوا فيها حتى خلقوا منها سلسلة من حديد يخنقون بها الحرية.
والاستبداد يفقد الناس ثقة بعضهم ببعض، ويحل الخوف محل الثقة، فيقل التعاون بين الأفراد، والتعاون حياة الأمم.
والأنبياء سلكوا في تكوين الأخلاق مسلكا خاصا، فبدءوا بفك العقول من تعظيم غير الله، وذلك بتقوية الإيمان المفطور عليه الإنسان، ثم جهدوا في تنوير العقول بمبادئ الحكمة، وتعريف الإنسان كيف يملك إرادته وحريته في أفكاره، وبذلك هدموا حصون الاستبداد. ثم أبانوا أنه مكلف بقانون الإنسانية واتباع المبادئ التي ترقيه وترقي جنسه - وكذلك فعل السياسيون الأقدمون من الحكماء.
أما الغربيون المحدثون، فوضعوا الأخلاق غير مرتكزة على الدين، ولكن على ما أودع في فطرة الإنسان من ضمير وحب للنظام، ساعدهم على ذلك انتشار العلم عندهم والرغبة في التقدم، واستعانوا على ذلك بالوطنية.
ثم وازن بين أثر التربيتين فقال: إن الغربي مادي الحياة، قوي النفس، مضبوط المعاملة، حريص على الاستئثار، حريص على الانتقام. والشرقي غير مادي، يغلب عليه ضعف القلب وسلطان الحب والإصغاء للوجدان، والرحمة ولو في غير موضعها. وقد نجح الغربيون المحدثون في محاربة الاستبداد، واستباحوا التدابير القاسية لمحو الظلم والاعتساف، فنالوا ما أرادوا من تحرير الأفكار وتهذيب الأخلاق وجعل الإنسان إنسانا، وما أحوج الشرقيين إلى حكماء لا يبالون بغوغاء العلماء الأغبياء والرؤساء القساة، يجددون النظر في الدين فيعيدون إليه النواقص المعطلة، ويهذبونه من الزوائد الباطلة، فيملكون الإنسان إرادته وحريته وإنسانيته. •••
ثم عرض للاستبداد يفسد التربية - والتربية تنمية الاستعداد جسما ونفسا وعقلا، وهي قادرة أن تبلغ بالإنسان أعلى حد من الرقي لو صلحت.
والحكومات العادلة تعنى بتربية الأمة من وقت تكون الجنين، بل قبله، بسن قوانين للزواج الصالح، ثم بالعناية بالقابلات الأطباء، ثم بفتح بيوت اللقطاء، ثم بإنشاء المكاتب والمدارس وتنظيم خططها متدرجة إلى أعلى مرتبة، ثم تسهيل الاجتماعات، والإشراف على المراسح، ثم تشجيع النوادي وإنشاء المكتبات، وإعلام شأن النوابغ بإقامة النصب ونحوها، ثم بتنمية المشاعر القوية بشتى أنواعها، وتيسير الأعمال وغير ذلك.
أما الحياة في الحكومات المستبدة فمجرد نماء يشبه نماء الأشجار الطبيعية في الغابات والأحراش، يسطو عليها الغرق والحرق، وتحطمها العواصف، والأيدي القواصف.
في الحكومة العادلة يعيش الإنسان حرا نشيطا، يسره النجاح ولا تقبضه الخيبة؛ وفي الحكومة المستبدة يعيش خاملا خامدا، ضائع القصد حائرا.
الأسير المعذب يسلي نفسه بالسعادة الأخروية، ويبعد عن فكره أن الدنيا عنوان الآخرة، وقد جنى على المسلمين علماؤهم، فأفهموهم أن الدنيا سجن المؤمن، وأن المؤمن مصاب، وإذا أحب الله عبدا ابتلاه، وهكذا مما ابتدعوه؛ ويتغافلون عن حديث: «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا»، وحديث معناه: «إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم غرسة فليغرسها!»، وكل هذه المثبطات تحول الأذهان عن معرفة أسباب الشقاء إلى إلقائها على عاتق القضاء والقدر.
وقد أحكموا هذه المكيدة باختراع الأحاديث التي تجعل الخضوع للحاكم دينا. وعلى الجملة فالتربية الصحيحة لا تمكن في ظل الاستبداد! •••
ثم الاستبداد - على الإجمال - يمنع الترقي. والترقي الحيوي الذي يسعى إليه الإنسان هو - أولا - الترقي في الجسم صحة وتلذذا، ثم الترقي في الاجتماع بالعائلة والعشيرة، ثم الترقي في القوة بالعلم والمال، ثم الترقي في الملكات بالخصال والمفاخر. وهناك نوع آخر هو الترقي الروحي، وهو الاعتقاد بأن وراء هذه الحياة حياة أخرى تترقى إليها على سلم الرحمة والإحسان - والاستبداد بالأمة عدو ذلك كله؛ بل هو يحول الميل الطبيعي فيها إلى طلب التسفل، حتى لو دفعت إلى الرفعة لأبت وتألمت كما يتألم الأجهر من النور! وعندئذ يكون الاستبداد كالعلق، يمتص دم الأمة فلا ينفك عنها حتى تموت ويموت هو بموتها. والاستبداد يجعل الأمة منحطة في الإحساس، منحطة في الإدراك، منحطة في الأخلاق. وهو يضغط عليها فتكون كدود تحت صخرة؛ والمشفقون عليها يجب أن يسعوا في رفع الصخرة ولو حتا بالأظافر ذرة بعد ذرة!!
وهنا ضرب مثلا يصح أن يخطب به الخطباء في الناس ليستيقظوا؛ فوضع خطبة نموذجية لتنبيه المشاعر. وقال: إن الرقي الذي ينشده في ظل العدل هو أن يكون الشخص أمينا على جسمه وحياته بحراسة الحكومة التي لا تغفل عن المحافظة عليه، أمينا على ملذاته الجسمية والفكرية باعتناء الحكومة بإيجاد أسبابها، أمينا على حريته فلا يعتدى عليها، أمينا على نفوذه كأنه سلطان عزيز، فلا يمانع في تنفيذ مقاصده النافعة، أمينا على ماله وشرفه، وما منحته الطبيعية من مزايا، فما لم تتحقق هذه فالحكومة مستبدة ليست صالحة لترقي شعبها.
وأخيرا: ما وسائل التخلص من الاستبداد؟ هو يرى أن الاستبداد لا يقاوم بالقوة، إنما يقاوم باللين وبالتدريج؛ ببث الشعور بالظلم، وهذا يكون بالتعليم والتحمس؛ ذلك لأن الاستبداد محفوف بأنواع القوات: كقوة الجند، وقوة المال، وقوة رجال الدين، وقوة الأغنياء، فإذا قوبل بالقوة كانت فتنة تحصد الناس! وإنما الواجب المقاومة بالحكمة في توجيه الأفكار نحو تأسيس العدالة. والاستبداد - مع اعتماده على هذه القوات كلها - يضعف أمام الوسائل المتحكمة في قلبه، كما قيل: كم من جبار عنيد جندله مظلوم صغير!!
ويجب قبل مقاومة الاستبداد تهيئة ما يحل محله، ومعرفة الغاية معرفة دقيقة واضحة. ومتى وضحت الغاية المرسومة يجب السعي في إقناع الناس بها، واستجلاب رضاهم عنها وحملهم على النداء بها، ويجب أن ينشر ذلك في كل الطبقات حتى يصبح عقيدة، فيتلهفون جميعا على نيل الحرية وتحقيق المثل الذي ينشدونه؛ عندئذ لا يسع المستبد إلا الإجابة طوعا أو كرها.
وقد حدد في ثنايا كتابه ماذا يقصد بالحكومة المستبدة، فقال: إنها تشمل حكومة الحاكم الفرد المطلق، كما تشمل حكومة الجمع ولو منتخبا إذا استبد، بل قد يكون هذا الحكم أضر من استبداد الفرد. ويدخل في أنواع الاستبداد أنواع الاستعمار، فالمستعمر تاجر لا يرى إلا مصلحته. ولا عبرة بأسماء أنواع الحكومات، إنما العبرة بحقيقتها، وكل أمة فيها لون من ألوان الاستبداد، ولكنها تختلف فيه كمية وكيفية، فبعضها يمسه الاستبداد مسا خفيفا، وبعضها تغرق فيه من قدمها إلى مفرق رأسها. والغرب سبق إلى تقدير معنى الحرية والعدالة، ولكنه لا يأخذ بيد الشرق، بل يستغله لمصلحته. وواجب الغرب أن يرعى للشرق سابق فضه، فيأخذ بيده ليخرجه إلى أرض الحياة، ويعامله معاملة الأخ لأخيه لا السيد لعبده؛ ليتعاونا بعد على السير بالإنسانية.
وبهذا ينتهي الكتاب، وهو فيه قوي مخلص، مملوء غيرة وأسفا، وتلهفا على رفع نير الاستبداد عن الشرق، وهو إن استمد الفكرة من الغرب، فهو يبسطها ويعدلها ويعنى بتطبيقها. وقد يؤخذ عليه حصر نفسه قي دائرة النظريات. وكان الكتاب يكون أوقع في النفس لو ملأه بالشواهد، وما رأى وسمع من أحداث، وهو معروف بسعة الاطلاع، فلو قرن النظريات بالشواهد لكان كتابه أكثر فائدة وأعم نفعا، ولكن يظهر أن قد منعه من ذلك أنه أراد أن يستتر فأخفى اسمه ولم يضعه على الكتاب. وقال في مقدمة الكتاب: إنه لم يقصد ظالما بعينه ولا حكومة مخصوصة، وهو لو أتى بالشواهد لدل على الحكومة التي يقصدها. وما كان في ذلك من ضرر، بل كان فيه كل النفع، ولكن الأمور تقدر بأوقاتها وظروفها، وهو فيما اكتنفه من ظروف كان في عرضه النظريات فقط شجاعا جريئا.
4
أما كتابه الثاني «أم القرى» فأدل على الابتكار وأوضح في إظهار الشخصية. يقف فيه من المسلمين موقف الطبيب من المريض، يفحص داءه ويتعرف أسبابه، ويصف علاجه في أسلوب قصصي جذاب. تحدث فيه عن جمعية من المسلمين عقدت في مكة حضرها ممثل أو أكثر لكل قطر إسلامي؛ فعضو شامي، وعضو إسكندري، ومصري ومقدسي ويمني وبصري ونجدي ومدني ومكي وتونسي وفاسي وإنجليزي ورومي وكردي وتبريزي وتتري وقازاني وتركي وأفغاني وهندي وسندي وصيني. وأسندت رياسة الجمعية للعضو المكي، والسكرتارية للسيد الفراتي - ويعني به الكواكبي نفسه - واجتمعوا كلهم قبيل الحج في مكان متطرف في مكة يتداولون في حال المسلمين. وكان أول اجتماع لهم في 15 ذي القعدة سنة (1316ه).
فهل كانت هذه الجمعية حقيقية أو من نسج خياله؟ يقول هو: إن لها أصلا من الحقيقة، وإن الخيال تممها، فهل هذا صحيح، أو هو من قبيل تأييد الخيال كما يفعل كثير من الروائيين؟ أرجح الرأي الثاني.
على كل حال انعقدت الجمعية - فيما يقول - ووضع الرئيس منهج البحث، وهو الكتمان؛ لأنه أدعى إلى إفضاء كل بما في نفسه في صراحة، وتناسي الاختلاف في المذاهب، فلا سني وشيعي، ولا شافعي وحنفي، فالكل مسلم. ثم التحرر من اليأس في الإصلاح، فهذه أمم كثيرة كالرومان واليونان واليابان، استرجعت مجدها بعد تمام ضعفها، خصوصا وأن الظواهر كلها تدل على أن الزمان قد استدار، وبدأت تظهر أعراض الصحة على المسلمين، ومن أعظم الظواهر انعقاد مثل هذه الجمعية. ووضع برنامج المؤتمر، وهو يتلخص في بحث موضع الداء في المسلمين وأعراضه وجراثيمه ودوائه وكيفية استعماله ... إلخ.
قال الرئيس: إن أوضح عرض من أعراض مرض المسلمين فتورهم، وهو فتور عام شامل لجميع المسلمين في جميع أقطار الأرض، لا يسلم منه إلا أفراد شواذ، حتى لا يكاد يوجد إقليمان متجاوران، أو ناحيتان في إقليم، أو قريتان في ناحية، أو بيتان في قرية، أهل أحدهما مسلمون والآخر غير مسلمين، إلا والمسلمون أقل من جيرانهم نشاطا وانتظاما، وأقل إتقانا من نظرائهم في كل فن وصنعة، مع أن المسلمين في جميع الحواضر متميزون عن غيرهم من جيرانهم في المزايا الأخلاقية، مثل الأمانة والشجاعة والسخاء، حتى توهم كثير من الحكماء أن الإسلام والنظام لا يجتمعان! فما هو السبب ؟
وقد لفت نظره العضو الهندي في أنه مع تسليمه بما قال الرئيس، يود أن يستثني بعض حالات فيها المسلمون خير من جيرانهم، كبعض الوثنيين في الهند، والصابئة في العراق، فوافقه الرئيس وشكره على دقة ملاحظته.
ثم أخذوا - بعد التسليم بوجود العرض - يبحثون في الأسباب. وذهبوا في ذلك كل مذهب؛ فالشامي رأى أن سبب الفتور يرجع إلى ما أصاب المسلمين من عقيدة جبرية، فهذه العقيدة في القضاء والقدر على هذا النحو آلت إلى الزهد في الدنيا، والقناعة باليسير والكفاف من الرزق، وإماتة المطالب النفسية كحب المجد والرياسة والإقدام على عظائم الأمور، فأصبح المسلم كميت قبل أن يموت. والعقيدة بهذا الشكل مثبطة معطلة لا يرضاها عقل، ولم يأت بها شرع.
والمقدسي رأى أن السبب تحول نوع السياسة الإسلامية من ديمقراطية إلى استبدادية، فأفسدت العقول وأماتت الأخلاق.
ورأى التونسي أن بعض الأمم الأوربية محكومة بحكومة استبدادية ولم يمنع ذلك من تقدمها، وإنما السبب في نظرة الأمراء المترفون الذين لم يرعوا للأمة حقوقها.
وقال الرومي: إن تحميل الأمراء التبعة كلها غير سديد، فما هم إلا نفر قليل من الأمة. والسبب الحقيقي في نظره فقدان المسلمين الحرية. بجميع أنواعها؛ من حرية تعليم، وحرية خطابة، وحرية البحث العلمي؛ فبفقد الحرية تفقد الآمال، وتبطل الأعمال، وتموت النفوس، وتختل القوانين، وتسأم الأمة حياتها فيستولى عليه الفتور.
ورأى التبريزي أن السبب ترك المسلمين أصل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فاسترسل الأمراء في أهوائهم، وعدمت المراقبة عليهم.
وقال الفاسي: إن السبب هو إهمال الناس الاهتمام بالدين، حتى لم يبق له أثر إلا على رءوس الألسن، وأمراؤهم مثلهم لا يتراءون بالدين إلا بقصد تمكين سلطانهم على البسطاء من الأمة، هذا إلى ظلمهم وجورهم. وقد كان المسلمون أعزاء يوم توثقت بينهم الرابطة الدينية، فلما انحلت ضاعت الأخلاق ففتروا وخمدوا.
أجاب المدني بأن فقد الرابطة الدينية والوحدة الخلقية لا يكفيان سببا لهذا الفتور العام. وعنده إن السبب تدليس رجال الدين وغلاة المتصوفين الذين لونوا الدين بلون سيئ فأضاعوه وأضاعوا أهله؛ وذلك أن العلماء العاملين أهل لكل تجلة واحترام، فلما حسدهم من لا يستحق هذه المنزلة سلكوا مسلك الزاهدين. ومن العادة أن يلجأ ضعيف المقدرة إلى التصوف كما يلجأ فاقد المجد إلى الكبر، وقليل المال إلى التظاهر بزينة اللباس والأثاث، فأفسد هؤلاء الدين بما أدخلوا فيه مما ليس منه، كالعلم اللدني، وترتيب المقامات، ووراثة السر، والرهبنة، والتظاهر بالعفة، والتبرك بالآثار، والكرامة على الله، والتصرف في القدر، فسحروا عقول الجهلاء، واختلبوا قلوب الضعفاء كالنساء، والنساء بذرن هذه البذور الضارة في أبنائهن فماتت النفوس وخرفت العقول. وهؤلاء المدلسون وجدوا في بغداد ومصر والشام وتلمسان وغمروا السوق في الأستانة، وسرى من هذه العواصم إلى جميع الآفاق فأصبح المرض عاما.
وانضم «الرومي» إلى هذا الرأي وزاده إيضاحا، فقال: إن داءنا الدفين دخول ديننا تحت ولاية العلماء الرسميين والجهال المتعممين؛ وبلغ أمرهم في البلاد العثمانية أن صارت الألقاب العلمية منحة رسمية تعطى للجهال حتى للأميين والأطفال (كمشيخة الطرق عندنا) فقد يكون طفلا ويمنح بالوراثة لقب «أعلم العلماء المحققين»، ثم «أفضل الفضلاء المدققين» ثم وثم حتى يوصف بأنه «أعلم العلماء المتبحرين، وأفضل الفضلاء المتورعين، وينبوع الفضل واليقين»، وأكثرهم لا يحسنون حتى قراءة ألقابهم. وطبيعي أن هؤلاء يقابلون السلطان بالمثل؛ فهو صاحب العظمة والإجلال، المنزه عن النظير والمثال، مهبط الإلهامات، ومصدر الكرامات ، سلطان السلاطين، ومالك رقاب العالمين. وأصبح التدريس والإرشاد والوعظ والخطابة والإمامة وسائر الخدم الدينية سلعا تباع وتشترى، وتوهب وتورث. وتسلط هؤلاء المتعممون على المجالس والإدارات، واتخذ الأمراء من ذلك وسيلة يعتذرون بها عند الدول الأجنبية بان الرأي العام - وعلى رأسه المعممون - لا يقبلون الإصلاح المدني.
أجاب الكردي بأن هذا الداء خاص ببعض الولايات، ولكن عرض الفتور عام في الولايات الإسلامية التي فيها هذا الشأن وغيره، فلا بد أن يكون السبب شيئا أعم من ذلك. وعندي أن السبب هو أن المسلمين أصيبوا باقتصارهم على العلوم الدينية، وإهمالهم العلوم الدنيوية كالرياضة والطبيعة والكيمياء، على حين أن هذه العلوم نمت في الغرب وترقت وظهر لها ثمرات عظيمة في كافة الشؤون المادية والأدبية ، حتى صارت عندهم كالشمس لا حياة لهم إلا بنورها، وأصبح المسلمون في أشد الحاجة إليها في جميع أمورهم؛ من تربية الطفل إلى سياسة الدولة، ومن عمل الإبرة إلى عمل المدافع والبوارج، ومن استخدام اليد إلى استخدام الأسلاك والبخار - فابتعاد المسلمين إلى الآن عن هذه العلوم النافعة الحيوية، جعلهم أحط من غيرهم من الأمم، وكلما تمادت الأيام بعدت النسبة بينهم وبين جيرانهم.
أجاب الإسكندري: إن هذا يصلح سببا، ولكن ليس كل السبب؛ لأن فقد العلوم لا يصلح سببا لفقد الإحساس الشريف والأخلاق العالية. وإنما السبب نومنا ويأسنا.
قال التتري: إن هذه شكاية حال لا شرح أسباب. إنما السبب عندي فقدان القادة والزعماء، فلا أمير حازم يسوق الأمة طوعا أو كرها إلى الرشاد، ولا زعيم مخلص تنقاد له الأمراء والناس، ولا رأي عام يجمع الناس على غرض نبيل.
والأفغاني يرى أن سبب الفتور الفقر، وهو قائد كل شر، ورائد كل فساد؛ فمنه الجهل، ومنه الانحطاط الخلقي، ومنه تشتت الآراء حتى في الدين؛ فليس ينقصنا عن الأمم الحية إلا القوة المالية. ولكن المال لا يأتي إلا بالعلوم والفنون العالية، وهذه لا تنتشر في الأمة إلا بالمال. وبهذا تحدث مشكلة الدور، ويجب أن نبحث عن حلها.
أجاب المسلم الإنجليزي: إن الفقر في المملكة الإسلامية ليس طبيعيا؛ فهي بلاد غنية، لو نفذت تعاليم الإسلام من تحصيل الزكاة والكفارات وما إلى ذلك، وصرفت في وجوهها لخفت وطأة الفقر. وإنما سبب الفتور في نظره فقد الاجتماعات والمفاوضات وتبادل الآراء، فنسي المسلمون حكمة تشريع الجمعة والجماعة والحج، وصارت الخطب التي تلقى تافهة لا قيمة لها، وكان الغرض منها التحدث في الأحوال الطارئة. وبلغ من سوء رأيهم أنهم عدوا التحدث في الأمور العامة فضولا، والكلام فيها في المساجد لغوا، فلما انعدم الكلام في المصالح العامة أصبح كل شخص لا يهتم إلا بنفسه ولا اهتمام له بالصالح العام ولا بغير ذلك من الشؤون، حتى لو بلغهم خبر تخريب الكعبة - لا قدر الله - ما زادوا عن أن يقطبوا جبينهم لحظة وينتهي الأمر. والأمم الحية في الوقت الحاضر تهيئ الفرص للاجتماعات ومبادلة الآراء ما أمكن، بكثرة النوادي والمجتمعات، وتنظيم الرحلات والسياحات، وكثرة الخطب والمحاضرات حتى في المتنزهات، وعقد المؤتمرات للمناسبات، وتذكيرهم بتاريخهم وأهم أحداثهم، وبثهم في الأغاني والأناشيد ما يبعث حب البلاد والحرية ويحمس للخير العام.
ورأى الصيني أن السبب هو تكبر الأمراء وميلهم للعلماء المتملقين المنافقين، الذين يتصاغرون لديهم، ويتذللون لهم، ويحرفون أحكام الدين ليوفقوها على أهوائهم، فماذا يرجى من علماء دين يشترون بدينهم دنياهم، ويقبلون يد الأمير لتقبل العامة أيديهم، ويحقرون أنفسهم للعظماء ليتعاظموا على ألوف من الضعفاء، فأفضل الجهاد عند الله الحط من قدر العلماء المنافقين عند العامة، وتحويل وجهتهم لاحترام العلماء العاملين. وعندنا في الصين رجال حكماء نبلاء، لهم نوع من السيادة حتى على العلماء، وهؤلاء هم الذين يسمون في الإسلام أهل الحل والعقد، وهم خواص الطبقة العليا في الأمة الذين أمر الله نبيه بمشاورتهم. وتاريخ المسلمين يدل على ارتباط القوة والضعف بمنزلة أهل الحل والعقد في الأمة. والخلاصة أن سبب الفتور استحكام الاستبداد في الأمراء، وانعدام أهل الحل والعقد من الأمة.
وقال «النجدي»: إن سبب فتور المسلمين الدين الحاضر نفسه، بدليل التلازم؛ فالدين الحاضر ليس دين السلف. إن الدين الحاضر ترك إعداد القوة بالعلم والمال والجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة الحدود، وإيتاء الزكاة إلى غير ذلك مما بينه إخواننا. قد يقول قائل: إن كل دين دخل عليه التغيير ولم يؤثر في أهله الفتور، بل قال كثير من رجال الغرب: إنهم ما أخذوا في الترقي إلا بعد فصلهم الدين عن شؤون الحياة الدنيا. والجواب: أن كل أمة لا بد لها من نظام ثابت تسير عليه ويلائم نفسها وبيئتها وعلاقاتها التجارية والسياسية، والقانون الطبيعي الذي يتفق والطبيعة البشرية هو إذعانه لقوة غالبة هو الله الذي يوحي به الإلهام الفطري. ولهذه الفطرة علاقة عظمى بتنظيم شؤون حياته، وهي أقوى وأفضل وازع - وكل الأديان راجعة إلى أصل صحيح واحد، فإذا تغير أو فسد فسد الناس لاختلال هذا الوازع، قال تعالى:
ومن أعرض عن ذكرى فإن له معيشة ضنكا . و«الأمة كلما قربت من الأصل الصحيح والمبادئ الصحيحة قربت من الكمال».
وهنا أعلن الرئيس أن البحث في أعراض الداء وأسبابه قد نضج أو كاد، فيكتفي فيه بهذا القدر، ويجب نقل البحث إلى موضوع آخر. قال: وكلمة أخينا النجدي تلهمنا الموضوع الآتي الذي نبحثه، وهو: ما هو الإسلام الصحيح؟
5
بعد هذا انتقل بحث المؤتمر إلى «تحديد الإسلام الصحيح» وما دخل عليه من تغيير. وقد أفاض في ذلك العضو النجدي، فقال: «إن الإيمان بالله أمر فطري في البشر، وحاجتهم إلى الرسل لإرشادهم إلى كيفية الإيمان، ويختلف الناس في تصور الله. والعقول البشرية مهما قويت واتسعت لا تتحمل إدراك صفات الله الأزلية المجردة عن المادة والزمان والمكان، فاحتاجت إلى من يرشدها».
وأساس الإسلام جملتان: «لا إله إلا الله»، و«محمد رسول الله»، وثمرة الإيمان بالأولى عتق العقول من الأسر؛ وثمرة الثانية الاهتداء بمحمد في تعاليمه التي تحول بين المرء ونزوعه إلى الشرك.
ولكن إدراك التوحيد والاحتفاظ به عسير على النفس، فسرعان ما تخرج منه إلى الشرك. والشرك على أنواع ثلاثة: «شرك في الذات» وذلك في عقيدة الحلول؛ و«شرك في الملك» كاعتقاد الناس أن في بعض المخلوقات المشاركة في تدبير شؤون الكون؛ و«شرك في الصفات» بإسباغ صفات الكمال على بعض المخلوقات.
وقد فشا في المسلمين هذا الشرك؛ كتعظيم القبور، وبناء المساجد والمشاهد عليها، والطواف بها والإسراج لها والتذلل؛ كدعوى أن هناك علما يسمى علم الباطن خص به بعض الناس، واتخاذ الدين لهوا ولعبا بالتغني والرقص، ولبس الأخضر والأحمر، واستخدام الجنة والشياطين، فكل هذه وأمثالها شرك محض أو مظنة إشراك.
وعرض الإسلام غير الشرك أمران خطيران، وهما: التشدد في الدين بعد ما كان يسيرا سهلا، فكانت كل فرقة تأتي تزيد في هذا التشدد حتى صار عسيرا صعبا، والأمر الثاني تشويش الدين بكثرة المذاهب والشيع وطرق التصوف.
وقد لاحظ الرئيس أن عضوين من الأعضاء لم يتحدثا، فرغب أن يسمع صوتهما، وهما العضو السندي والعضو القازاني؛ فأما السندي فقد تكلم في التصوف وما دعا إليه، وما فيه من حق وما فيه من باطل، وأما القازاني فقص عليهم قصة جرت بين مسيحي روسي أسلم ومفتي قازان، وتدور حول دعوة المفتي إلى تقليد السلف والاقتصار على ما قالوا، ودعوة الروسي المسلم إلى ضرورة الاجتهاد وعدم التقليد، وحكى ما جرى بينهما من حجج وأدلة، وأخيرا انتصر المسلم الروسي المستشرق على المفتي، فاقتنع بأن التقليد ضار حمل عليه الكسل، وأن الاجتهاد واجب ولكن يحتاج القيام به إلى جد وعناء.
ثم دعا الرئيس السيد الفراتي السكرتير، وهو «الكواكبي»، لتلخيص المحاضر السابقة للمؤتمر وتعداد أسباب فتور المسلمين، وكلفه أن يزيد عليها من الأسباب ما يراه إن وجد غير ما ذكره الأعضاء؛ فلخص أسباب فتور المسلمين في: (1)
أسباب دينية أهمها:
عقيدة الجبر، ونشر ما يدعو إلى التزهيد في الدنيا، وترك السعي والعمل، واختلاف المسلمين فرقا وشيعا، وإضاعة سماحة الدين، وتشديد الفقهاء المتأخرين، وإدخالهم في تعاليمه الخرافات والأوهام، وعدم المطابقة بين القول والعمل في الدين، وتهوين غلاة الصوفية شأن الدين وجعله لهوا ولعبا، والتوسع في تأويل النصوص، والتحايل على التحرر من الواجبات، وإيهام الدجالين أن في الدين أمورا سرية، واعتقاد منافاة العلوم الحكمية والعقلية للدين، وتطرق الشر إلى عقيدة التوحيد، وتهاون العلماء في تأييدها ، والغفلة عن حكمة الجماعة والجمعة والحج. (2)
وأسباب سياسية أهمها:
السياسة الخالية من المسئولية، وحرمان الأمة من حرية القول والعمل، وفقدانها الأمن والأمل، وفقد العدل والتساوي في الحقوق بين طبقات الأمة، وميل الأمراء للعلماء المدلسين، واعتبار العلم صدقة يحسن بها الأمراء على الخاصة، وإبعادهم للناصحين وتقريبهم المتملقين. (3)
وأسباب أخلاقية:
من الاستغراق في الجهل والارتياح إليه، واستيلاء اليأس على النفوس، والإخلاد إلى الخمول، وفساد التعليم، وفساد النظام المالي، وإهمال طلب الحقوق العامة جبنا، وتفضيل الوظائف على الصنائع، والتباعد عن المداولات في الشئون العامة.
وقد زاد السكرتير أشياء على ما سبق، أهمها: الغفلة عن تنظيم شؤون الحياة، وعدم توزيع الأعمال توزيعا عادلا، وعدم العناية بتعليم النساء وتهذيبهن، وسقوط الهمة وانتشار داء التواكل .
ولم يرض المؤتمر بالاكتفاء بالبحث في الأمراض وعلاجها، بل اقترح إنشاء جمعية دائمة تعنى بإصلاح المسلمين، وتشرف على تنفيذ برنامجها في الإصلاح، وهذه الجمعية تؤلف من مائة عضو: عشرة عاملون، وعشرة مستشارون، وثمانون فخريون، ولا عدد للأعضاء المساعدين المحتسبين، واشترط في الأعضاء العاملين شروطا دقيقة من العفة والأمانة والإخلاص وسعة العلم والقدرة على التأثير، وإمكان التفرغ للعمل لأغراض المؤتمر، وجعل مركزها في مكة، ولها شعب في الأستانة ومصر وعدن والشام وطهران وتفليس وكابل وكلكتا وسنغافورة وتونس ومراكش وغيرها، والجمعية لا تكون تابعة لحكومة ما، ولا تتقيد بمذهب ديني خاص، ويكون شعارها: «لا نعبد إلا الله»، ويكون من أهم أغراضها تعميم التعليم بين المسلمين، والترغيب في العلوم والفنون النافعة، وإيجاد المدارس العالية يتخصص كل منها للتوسع في فرع من فروع العلم، وتوحيد أصول التعليم، ووضع مناهج للرقي بالأخلاق وتنفيذها، وإنشاء مجلة شهرية للجمعية لتأييد أغراضها ... إلخ إلخ.
وقد اتفقوا على أن يكون مركز الجمعية المؤقت هو مصر، لتقدمها في العلم والحرية، ولأنها أسبق الأمم الإسلامية في ذلك.
وأخيرا تعرض الكواكبي للنزاع القائم بين الترك والعرب في زمنه، وناصر العرب على الترك، ورأى أنهم أصلح للأخذ بزمام الدولة، ووضع مشروعا لنظام الحكم بينه وأوضحه. وانفض المؤتمر بعد أن اجتمع اثني عشر اجتماعا وصل فيها إلى النتائج الآتية: (1)
المسلمون في حالة فتور عام. (2)
يجب تدارك هذا الفتور. (3)
أسباب الفتور. (4)
جرثومة الداء الجهل. (5)
الدواء تنوير الأفكار بالتعليم، وإيقاظ الشرق للترقي وخصوصا في الناشئة. (6)
تأسيس الجمعيات التي تقوم بهذا العلاج. (7)
المكلفون بذلك كل قادر على عمل، وخاصة نجباء الأمة من السراة والعلماء. (8)
تشكيل الجمعية الكبرى لهذا الغرض، ولتسم «جمعية تعليم الموحدين».
هذه نظرة الطائر إلى هذه الرواية العظيمة العميقة المفيدة، وهذا تفكير «الكواكبي» من نحو نصف قرن يشف عن سعة اطلاع وصدق إخلاص، وسمو فكر وبعد نظر، وشجاعة وصراحة!! فإذا نحن اطلعنا على ما كان يكتب قبله في المجلات والصحف في مثل هذه الموضوعات رأيناها كانت أقرب إلى موضوعات إنشائية جوفاء، فنقلها هو إلى بحوث علمية عملية، يحلل ويذكر العرض وسبب الداء وعلاجه في صبر وأناة واستقصاء.
كتاب «أم القرى» رواية جدية ليس فيها غرام وغزل، بل فيها غرام بالعالم الإسلامي يعاني في سبيله ما يعاني المحب الهائم، ويود من صميم قلبه أن يصل محبوبه إلى أعلى درجات الكمال، ويضحي من أجله بماله الذي ضيعه عليه الظلمة لتمسكه بالحق، ويضحي بوطنه فيهجره؛ لأنه لم يستطع أن يجهر برأيه في حلب فجهر به في مصر، ولا بأس، فكل بلد إسلامي وطنه - كان يحب التخصص، وأن كل قادر يحصر نفسه في فرع من فروع العلم أو الفن حتى يتقنه؛ حتى وضع ذلك في نظام المدارس التي كان يتمنى إنشاءها. فطبق ذلك على نفسه، فلم يوزع نفسه بين فقه ولغة، وما إلى ذلك، إنما وهب نفسه لإصلاح المسلمين، فدرس التاريخ الإسلامي في دقة وإمعان يتعرف فيه الأسباب والنتائج، كما تدل عليه كتابته، وساح في البلاد الإسلامية سياحة فاحصة منقبة، درس كل قطر إسلامي ومزاياه وعيوبه، حتى إنه لما وضع روايته «أم القرى» أنطق كل عضو بعقلية قطره: النجدي يشكو من ضياع الدين، والرومي يشكو من ضياع الحرية وسلطة المتعممين، والإسكندري يشكو ضعف الأخلاق، والإنجليزي ينعي على المسلمين عدم المجتمعات وتبادل الرأي بالخطب والمحاضرات ونحو ذلك.
اكتوى السيد جمال الدين الأفغاني من السياسة الأوربية ولعبها بالمسلمين، فصب عليها جام غضبه، واستغرقت حملته على السياسة الإنجليزية أكبر قسم في العروة الوثقى، واكتوى الكواكبي بالسياسة العثمانية فكانت موضوع نقده. نظر الأفغاني إلى البيئة الخارجية للمسلمين فدعاهم إلى أن يناهضوها؛ ونظر الكواكبي إلى نفس المسلمين فدعا إلى إصلاحها، فإنها إن صلحت لم تستطع السياسة الخارجية أن تلعب بهم. ولذلك كانت معالجة الأفغاني للمسائل معالجة تأثر، تخرج من فمه الأقوال نارا حامية، ومعالجة «الكواكبي» معالجة طبيب يفحص المرض في هدوء، ويكتب الدواء في أناة: الأفغاني غاضب، والكواكبي مشفق، الأفغاني داع إلى السيف، والكواكبي داع إلى المدرسة. ولعل هذا يرجع أيضا إلى اختلاف المزاج، فالأفغاني حاد الذكاء حاد الطبع، والكواكبي رزين الذكاء هادئ الطبع ، إذا وضعت أمامهما عقبة تخطاها «الأفغاني» قبل، وتخطاها «الكواكبي» بعد، ولكن من خير نقطة تتخطى؛ فلا عجب أن كان للأفغاني دوي المدافع، وكان للكواكبي خرير الماء، يعمل في بطء حتى يفتت الصخر!
لو مكن له معرفة لغة أجنبية، ووقف على ما وصلت إليه بحوث علم الاجتماع الحديث، لكان له منبع فياض إلى جانب غزارة فكره.
وبينما الناس يعجبون بما ينشره من مقالات إصلاحية في المجلات والجرائد، ومجلس الفضلاء في مصر عامر بحديثه وجدله ودفاعه المؤدب عن آرائه، إذا بالصحف المصرية تطلع بنبأ موته الفجائي يوم 6 من ربيع الأول سنة (1320)، فأسف عليه كل من كان محبا لإصلاح المسلمين، وبكى إخوانه الذين كانوا يرون فيه رجلا نبيل الخلق، سامي المقصد، عف اللسان، نقي الضمير. فرحمه الله!!
زعماء الإصلاح الإسلامي في العصر الحديث: خير الدين باشا التونسي
(حوالي سنة 1225 إلى سنة 1307ه) نحو (1810-1879م)
1
عقل فرأى نفسه في الأستانة في أسرة غير أسرته، في بيت تحسين بك نقيب الأشراف، ليست سيدة البيت له أما ولا تحسين بك أبا ولا أبناء البيت إخوة، وإنما يسمع همسا أنه عبد مملوك على معنى غامض لم يفهمه أولا - أين ولد؟ وأين أسرته؟ وكيف أتى إلى هذا البيت؟ سؤال محير كسؤال ابن الشبل البغدادي:
فماذا الامتنان على وجود
لغير الموجدين به الخيار
وكانت أنعما لو أن كونا
نخير قبله أو نستشار
وقول أبي العلاء:
ما باختياري ميلادي ولا هرمي
ولا حياتي، فهل لي بعد تخيير؟
ونظر فرأى تحسين بك يوما يعرضه على رجل يفحصه كما تفحص السلعة، ويصعد فيه نظره ويصوب، ويختبره من فرقه إلى قدمه، ثم يدفع مالا في يد تحسين، وينتقل هو إلى يده، وهذا يركبه مركبا يبحر به إلى تونس، وإذا به في بيت جديد هو بيت أحمد باي، باي تونس!! ما هذا الغموض كله؟
تكشف له البحث بعد ذلك عن مأساة؛ فهو شركسي الأصل، من أسرة أباظة، خطف وهو طفل على أثر غارة أو فتنة أو هجرة، وبيع رقيقا في سوق الأستانة، فاشتراه تحسين بك، وهذا باعه إلى أحد وكلاء باي تونس الذي أنفذه لشراء السراري والعبيد.
مأساة تبعث الأسى والحزن العميق، قد حرمته أن يتذوق عطف أبيه وأمه وينعم بحريته وهي لا يعوضها شيء في الوجود، حتى لو نعم في قصر تحسين بك أو قصر باي تونس فما هذا النعيم؟
وبيت تخفق الأرواح فيه
أحب إلي من قصر منيف
وكل أكل فاخر وملبس باهر ونعيم باذخ لا يساوي شيئا بجانب نظرة ينظرها تحسين وأهله وباي تونس وبلاطه إلى هذا الفتى على أنه عبد رقيق اشتري بدنانير معدودة.
كان هذا كل ما وصل إلى علمه عن طريق اليقين، ورجح عنده فيما بعد أن له أخا في مصر يشغل منصبا كبيرا في الدولة المصرية، ويمتلك ثروة طائلة، فأبت على خير الدين كرامته وإباؤه وظنونه - وما قد يعقب ذلك من تفسيرات تؤلمه - أن يكاتبه ويخبره، وفضل أن يحتفظ بذلك السر لنفسه وأقرب الناس إليه. •••
ومن قديم عرف الشراكسة في العالم الإسلامي، وهم قبائل بدوية تسكن البقعة الشمالية الغربية من بحر قزوين وجزءا من ساحل البحر الأسود، وكان عددهم كبيرا، فلما احتلت روسيا أخيرا بلادهم تفرق كثير منهم في تركيا وآسيا الصغرى، وقد انتشر الإسلام بينهم وكاد يعمهم من نحو ثلاثة قرون.
وفي الشراكسة فضائل البداوة من الشجاعة والكرم، ويمتازون بالنظافة والجمال، عرف عنهم ذلك، فكان الصغار والفتيان والفتيات يخطفون أو يباعون، ويصدرون إلى المملكة الإسلامية في عهد العصر العباسي الأول.
ولا تنسى مصر أنها حكمت بدولة المماليك الشراكسة من (سنة 724ه إلى سنة 923ه)، فاقتنى منهم سلاطين مصر عددا وافرا واستخدموهم في أعلى مناصب الدولة، وعهدوا إليهم بالشؤون الحربية، فأمسكوا بزمام الحصون والقلاع وعرفوا بالإخاء ومعاونة بعضهم بعضا، فلما أتيحت لهم الفرصة تغلبوا على الدولة وملكوا على البلاد أولهم السلطان برقوق، وظل الحكم فيهم إلى أن انهزم طومان باي أمام السلطان سليم، وكان مع طومان باي هذا أربعون ألف شركسي ذابوا كلهم وذووهم ومن أتى بعدهم في الأمة المصرية، فكانوا عنصرا من عناصر دمها. كما لا ننسى أن من أهم أسباب الثورة العرابية أول أمرها اعتقاد الضباط المصريين أنهم مغبونون إذا قيسوا بالضباط الشراكسة لترقيتهم دونهم. •••
كانت تونس حين حمل إليها خير الدين كسائر بلاد الشرق، مقرا لحضارة قد هرمت، وذهبت روحها ولم يبق إلا رسمها.
الحياة العلمية فيها أشبه بما كان في مصر قبيل عهد محمد علي، كتاتيب بدائية منتشرة في القرى والمدن، غايتها تحفيظ القرآن، وقلما يبلغون هذه الغاية، ويستطيع التلميذ بفضل مناهج الدراسة فيها أن يقضي عشر سنين وأكثر من غير أن يحسن القراءة والكتابة، وكل ما يبلغه النجيب منهم أن يحفظ القرآن أو بعضه.
وعلى رأس هذه الكتاتيب جامع الزيتونة، وهو صورة مصغرة من الأزهر في ذلك العهد، تقرأ فيه علوم الدين من تفسير وحديث وفقه وعقائد، وعلوم اللغة من نحو وصرف ومعان وبيان، في كتب مقررة لها متون وشروح وحواش، ويقضى الوقت في تفهم تعبيراتها وإيراد الاعتراضات عليها والإجابة عنها؛ فالعلم شكل علم ولا علم، والنتاج جدل لا حقائق، والناجح في الامتحان الذي يستحق أن يسمى «عالما» أقدرهم على الجدل وحفظ المصطلحات الشكلية. أما الجميع فسواء في عدم التحصيل؛ إذا مسوا الحياة الخارجية فالمناقشة العنيفة في أن شرب الدخان حلال أو حرام، والغيبة أشد حرمة أم سماع الآلات الموسيقية، و«خيال الظل » تجوز رؤيته أو لا تجوز؟ وجزء كبير من السكان بدو لا يعرفون من الإسلام إلا الشهادتين، ولا يصل إليهم شيء من علم إلا في بعض أماكن أنشأ فيها الصوفية زوايا تعلم الناس شيئا من الدين، وللجاليات الأجنبية من فرنسية وإيطالية وإنجليزية مدارس تعلم أبناءها وقليلا من أبناء البلاد اللغات والجغرافيا والتاريخ والحساب والجبر والهندسة، فتخرج من هم أقدر على فهم الحياة، فإذا انغمسوا فيها تحولت مالية البلاد إلى أيديهم.
عماد أهلها الفلاحة، وآلاتها وأساليبها هي بعينها ما كانت عليه في القرون الأولى قبل الإسلام وقبل الرومان، وساهم بعض الأوروبيين في الزراعة، فطعموا الأشجار، وبخروها ولقحوها، فدرت عليهم من الأرباح ما لم ينله سكان البلاد. ثم قبض هؤلاء الأجانب على الأسواق الخارجية، وخاصة في أكبر غلة للبلاد، وهي زيت الزيتون، فمن ناحية أنشأوا المعاصر تدار بالبخار، ومن ناحية وضعوا أيديهم على ما ينتجونه وما ينتجه الأهالي، واحتكروا التجارة إلى الخارج إلا القليل النادر من أهل البلاد. وكان التونسيون يصنعون نوعا من النسيج اسمه «الشاشية»، وكانت مصانعها كثيرة، وكانت مصدر رزق الكثير منهم، ولكنها كانت تصنع بالآلات القديمة، فلما تقدمت الصناعة في أوربا، وكانت الآلات تدار بالبخار وتنتج نتاجا كثيرا حتى من الشاش هذا، رخص سعره، وأصيبت الصناعة في تونس بضربة قاضية حتى لم يبق من مصانعها التي تبلغ الألف غير ثلاثين؛ وناهيك بما يجره ذلك من الفقر والخراب، كما زاحمت «الجزمة» «البلغة» وقضت عليها، واختل الميزان التجاري فكثر الوارد وقل الصادر، وتغلب الفرنساويون والإيطاليون على السوق وأمسكوا بزمامه.
وكان مما أضعف التجارة سوء أدوات النقل وفساد الطرق، فهم ينقلون غلاتهم على الإبل والخيل والبغال ونوع من العربات البدائية، وتنقل القبائل البدوية غلاتها في قوافل، فإذا كان الشتاء وأمطرت السماء تشعثت الطرق فتعطلت الحركة.
وأما إدارة البلاد ففوضى أي فوضى؛ والحاكم حاكم بأمره، وأحب الناس إليه من يجمع له المال من حله وحرامه، ولا ضبط في دخل ولا خرج، والعدل والظلم متروكان للمصادفات، فإن تولى بعض الأمور عادل عدل، وكان العدل موقوتا بحياته - وقلما يكون - ونظام القضاء والجيش والإدارة والضرائب وجباية المال وإنفاقه على النمط العتيق البالي، وكثير من الأمور تنفذ بالأوامر الشفوية، لا مرجع ولا يمكن الحساب عليها.
وكانت تونس إذ ذاك تحت حكم البايات، والباي في تونس لقب كالخديوي في مصر، وكان الباي يتبع الدولة العثمانية تبعية ضعيفة، فيساعدها في حروبها ويحمل إليها مقدارا من المال وكثيرا من الهدايا. وإذا حدث مشكل دولي في تونس تدخلت الدولة العثمانية لفض النزاع وأرسلت مندوبا من قبلها؛ ليشرف على الحل ونحو ذلك. أما فيما عدا هذا فولاية تونس شبه مستقلة والباي حر التصرف.
ولكن فرنسا كانت قد استولت على جارتها «الجزائر»، ووضعت نصب عينيها إضعاف علاقة تونس بالدولة العثمانية شيئا فشيئا، وتوثيق علاقاتها هي بها شيئا فشيئا، وانتهاز الفرص للتغلب عليه نهائيا.
وكان باي تونس الذي ملك خير الدين هو الباي أحمد باشا الذي كان واليا من (1253 إلى 1271ه)، وقد أنعم عليه السلطان محمود بالخلعة السنية ورتبة المشيرية. ونحن نعلم أنه في عهد السلطان محمود هذا ألجأته الظروف القاسية، وضغط أوربا ومطالبها وضعف حال دولته الداخلية، إلى أن يجتهد في تنظيم الدولة على أسس جديدة يقتبس فيها من نظم أوربا وقوانينها وإداراتها. وكان مما فعل أن أرسل إلى الباي أحمد هذا يطلب إليه أن يدخل الأنظمة الحديثة في تونس وخاصة في الجيش، فطلب الباي الإمهال قليلا والتدرج في التغيير بسبب عادات البلاد وتقاليدها وعقليتها، ثم أخذ فعلا في تنظيم الجيش. •••
في هذه البيئة كلها التي وصفناها وصفا موجزا جدا وضع الشاب خير الدين قدمه في تونس.
2
تربى في قصر الباي أحمد - وكان من حسنات الباي أن اهتم بتعليمه ليعده رجلا من رجاله، والتعليم كله في تونس كان مصبوغا بالصبغة الدينية، فكان البرنامج الذي أعد له أن يتعلم القراءة والكتابة، ويحفظ ما استطاع من القرآن ويجوده، وشيئا من الفقه والتوحيد، فتقدم في كل ما تعلمه، وأخذ هو بعد ذلك يتوسع في العلوم الشرعية بمخالطة العلماء والاستفادة منهم، وعلماء اللغة والمران على الكتابة ومطالعة كتب التاريخ.
وعرف في أوساطه بالتدين ومحافظته على أداء الشعائر وتوقير الشريعة ورجالها، وإلى ذلك نزع إلى تعلم الفرنسية فأحسن تعلمها، فكان يجيد العربية والفرنسية والتركية.
وحدث أن الدولة العثمانية كانت قد اتجهت إلى تنظيم شؤونها وخاصة جيوشها - كما أشرنا قبل - وكتبت إلى ولاياتها بذلك، ومنها تونس، فأخذ الباي ينظم جيشه؛ وكتب إلى فرنسا يسألها المعونة في ذلك، فأرسلت إليه بعثة من الضباط الفرنسيين وعلى رأسها القومندان كامبنون الذي صار فيما بعد وزيرا للحربية الفرنسية في حكومة جامبتا.
فالتحق خير الدين بالجيش التونسي يتعلم من هذه البعثة، ومن ذلك الحين دخل في السلك العسكري، وكان هذا يوافق مزاجه الشركسي، فكان رئيسا لفرقة من الفرسان، وما زال يرقى حتى كان أميرا للواء الخيالة سنة (1266).
أفادته التربية الأولى أن يكون متدينا مثقفا مطلعا على أحداث الماضي قريبا من نفوس العلماء وخاصة الشعب، وأفادته التربية الثانية حب النظام وقوة الحزم وسرعة البت والصلابة في الرأي.
ثم اضطرته الظروف بعد إلى مزاولة الأمور السياسية والانغماس فيها. قد كان في أيامه هذه ثلاث شخصيات مشهورة، هي التي تدير دفة الحكم وتظهر على المسرح: الباي أحمد باشا، ومصطفى خزنة دار، ومحمود بن عياد. فالباي أحمد - مولى خير الدين - وال طموح يحب رقي بلاده، فيأخذ في تنظيم الجيش ويشجع نشر العلم، ويخصص المرتبات للعلماء، ويؤسس مكتبة فخمة في جامع الزيتونة، ويعيد تنظيم الإدارة الحكومية على أسس حديثة بتحديد الاختصاص، ولكن فيه إسراف وإفراط في الترف وقلة نظر للعواقب وخضوع لبعض الظالمين الماليين من رجال دولته؛ لحاجته إليهم فيما يسرف من مال، ونقطة الضعف هذه جعلته يتغاضى عما يأتون من مفاسد خطيرة.
ومصطفى خزنه دار وزير العمالة «المالية والداخلية» رجل مغربي الأصل جاء تونس وسنه دون العشر، فرباه أحمد باشا كما ربى خير الدين، وارتقى في الوظائف حتى صار وزيرا، وهو شخصية غريبة، لين بشوش، لا يقول لا لمن طلب منه شيئا ولو مستحيلا، يرضى بالوعد ظاهرا ويضمر عدم الوفاء باطنا، عف اللسان، «متدروش» يحافظ على الصلوات ويقرأ الأوراد ويقوم الثلث الأخير من الليل، وهو مع ذلك شره في جمع المال، لا يتورع عن السرقة والغضب ومشاركة السارقين والغاصبين. تولى الوزارة نحو خمسة وثلاثين عاما أثقل فيها كاهل الشعب بالضرائب والمغانم والمظالم، يفعل ذلك كله نهارا ويتهجد ليلا، يختلس المال ويعمر المساجد.
بدأ حياته سمحا كريما وختمها بخيلا شحيحا، زوج بنته من خير الدين لما تنبأ له بمستقبل باهر، وبسط سلطانه على الباي أحمد بحيله وأساليبه، غشى بصره فلم يعد يرى ظلمه وفساده، وحارب بكل قوته من تقرب إلى الباي أو من مال إليه الباي، حتى يضمن دوام نفوذه؛ يحبذ للوالي كثرة الإنفاق في الإصلاح وغير الإصلاح، ويشجعه على الإمعان في الترف والإفاضة في البذل، حتى يأسره بحاجته إليه وحتى يتخذ من كل ذلك وسائل لاستنزاف مال الشعب، بعضه له وبعضه للوالي.
ومحمود بن عياد يد مصطفى خزنه دار التي يقبض بها ويسرق بها ويستغل بها، وشريكه في المغانم والمظالم، وظيفته جمع الضرائب على اختلاف أنواعها، وشراء جميع ما تحتاجه الحكومة وما يحتاجه الوالي، وظل على هذا عشرين عاما؛ ذكي خبيث ماهر، يغالي في الضرائب ويتخذ كل الحيل حتى لاتصل مظالمه إلى سمع الوالي، فإذا وصلت احتال حتى ترفض، استطاع أن يجمع من الثروة من هذه الأبواب ثمانين مليونا.
رأى من بعيد أن الشعب بدأ يعلو أنينه وأنه يوشك أن يفتضح هو وشريكه، فهربا أموالهما إلى فرنسا، وادعى ابن عياد المرض وزعم أنه مسافر إلى باريس للتداوي، فلما وصل إليها أعلن عدم العودة، وطلب أن يتجنس بالجنسية الفرنسية، فأجيب إلى طلبه.
ومع هذا كله فقد بلغ من «فجره» أن ادعى على الحكومة التونسية أن له مبالغ طائلة قبلها (60 مليون قرش تونسي = 40 مليون فرنك) نظير مشتريات اشتراها لها لم تدفع ثمنها، وأخذت المسألة دورا خطيرا، إذ أصبح المدعي فرنسي الجنسية تحميه حكومة فرنسا وتطالب بحقوقه. هنا اتجه الباي أحمد إلى خير الدين ليذهب إلى باريس ويخاصم ابن عياد، ويبين فساد زعمه ويثبت أن عليه - لا له - ديونا يطالبه بها، وكانت قضية هامة لو حكم فيها لابن عياد لوقعت تونس في الإفلاس، وزاد من خطرها ما كان تحت يده من مكاتيب ومستندات رسمية دبرها هذا الماكر تدبيرا محكما.
وظلت هذه القضية في باريس أكثر من ثلاث سنوات من سن (1269-1273)، وخير الدين فيها يرافع ويدافع، وابن عياد يملأ فرنسا دويا، ويساعده على ذلك ما ينفقه عن سعة ويشتري الدور والأملاك في فرنسا، وعلى خير الدين أن يقاوم كل هذا.
وأخيرا كلفت لجنة القضايا بوزارة الخارجية الفرنسية دراسة هذا الخلاف ورفع تقرير عنه، وشكلت لجنة تحكيم يرأسها الإمبراطور نابليون الثالث، وأصدرت حكمها وهو يقضي بتخفيض مطالب ابن عياد من ستين مليون قرش إلى خمسة ملايين، كما ألزمته بأن يدفع للحكومة التونسية 14 مليون قرش في ذمته لها، ودفع مبالغ أخرى، فكان مكسب تونس من هذه القضية نحو 24 مليون فرنك. وفوق ذلك قام خير الدين في هذه السفرة بأعمال أخرى، أهمها أنه لما حدثت حرب القرم (1270ه / 1853م) أرسل الباي أحمد لمساعدة الدولة العثمانية 14 ألف جندي بأدواتهم الحربية وأسطولا من سبع قطع، وهذا أثقل كاهل تونس، فأرسل الباي إلى خير الدين بباريس مجوهرات لبيعها وفوضه في أمر ثمنها، فلم يقبل خير الدين هذا التفويض، وظل يراجع الباي فيما يعرض من ثمن حتى أنكر عليه كثرة الاستشارة وأمره بالبيع فورا فباع.
ولم يكف ثمن هذه المجوهرات، فكلفه الباي أن يعقد قرضا من فرنسا، وكانت هذه مسألة خطيرة لم يستطع ضمير خير الدين أن يحتملها؛ لا سيما وأن الباي قد أصيب بالشلل وقربت منيته، فماطل وماطل، وأخذ يبعث بالاستفهام تلو الاستفهام حتى مات الباي ولم يتم عقد القرض، فكانت محمدة من محامده حمدها له أهل تونس والباي الجديد المشير محمد باشا، وأنعم عليه برتبة فريق سنة (1272).
أفاده بقاؤه في باريس هذه المدة اطلاعا على الدنيا الجديدة ومعرفة بنظمها واحتكاكا برجال السياسة وفهما لأغراضهم، ووضع عينه على أسباب رقي الأمم وقارن بينها وبين تونس، لم تأخرت وكيف ترتقي، مما كان له أثر كبير في حياته المستقبلة، كما أفادته علو شأنه في أمته وثقتها به وأملها فيه.
ومما يؤسف له أنه بعد هذه الفضائح كلها بقي مصطفى خزنه دار، المغتصب الكبير وصهر خير الدين في منصبه في الوزارة.
عاد خير الدين إلى تونس فعينه الباي محمد باشا وزيرا للحربية سنة (1273)، وظل في هذا المنصب إلى سنة (1279)، وفي هذه الفترة قام بإصلاحات كثيرة، فأصلح ميناء «حلق الوادي» وهو أعظم ميناء لتونس، وأمر بأن يقيد كل شيء في وزارته، وكان هذا النظام أول ما أدخل في تونس.
وأنشأ مصنعا بخاريا لبناء السفن وإصلاحها، ووسع الطرق ونظمها. ولكن أهم من ذلك كله أن الدولة العثمانية وولاياتها التابعة لها والمرتبطة بها - ومنها تونس - مالت إلى اقتباس النظام النيابي تحت تأثير الضغط الأوربي وظهور فساد الحكم الاستبدادي، وميل خواص الشعوب الشرقية إلى إصلاح الحال وإدخال النظم الحديثة - فكان خير الدين العقل المنظم لهذه الحركة، ومن له النصيب الأكبر في وضع القوانين لمجلس شورى منتخب.
وصدر الأمر به سنة (1277)، وانتخب أعضاء المجلس، وكان خير الدين الرئيس الفعلي له بجانب وزارته للحربية.
ولكن هذا المجلس اصطدم بطائفتين لهما خطرهما: فرجال الدين لم يرضوا عنه؛ لأن بعض أحكام القانون سياسية لا شرعية؛ ولأن القانون يقضي بالحكم بالأغلبية، وقد ترى الأغلبية ما لا يرتضي الدين. وأصحاب السلطان من الوالي ومصطفى خزنة دار لم يرضيا عنه في باطن نفوسهما؛ لأنه يسلبهما سلطانهما، فأراد خير الدين أن يكون السلطان الحق للمجلس، وأرادا أن يكون المجلس ستارا شرعيا لتسلطهما وأداة طيعة لتنفيذ أغراضهما، أراده حقيقة وأراده لعبة. أراد من كل عضو أن يقول ما يعتقد في صدق وإخلاص وجرأة، وأراداه من كل عضو أن يتحسس رأيهما فيعبر عنه، فكان النزاع وكان الخصام. عرض على المجلس رغبة شركة فرنسية بأن تقوم بمد ماء زغوان إلى قرطاجنة، ثم يوصل إلى المرسى والحاضرة، وفي هذا المشروع فوائد ومضار. وتجادل الأعضاء فيه، منهم من يحبذه لفوائده، وبعضهم يرفضه خوفا من تغلغل النفوذ الفرنسي ورغبة منهم أن يدبروا الأمر لتقوم بالمشروع الحكومة التونسية نفسها، واشتد الجدل ومالت الأغلبية إلى الرفض، وهنا قال الوالي: لقد وعدت قنصل فرنسا وعدا قاطعا بالموافقة على المشروع. فكان خير الدين جريئا إذ قال: فلم جمعتنا إذا لتأخذ رأينا، وكان يكفي سماع هذا الخبر من سيادتكم؟!
وأرادوا أن يصرف فاضل الأوقاف على الإصلاحات العسكرية، واستندوا إلى فتوى من أحد العلماء المالكية، فعارض خير الدين في هذا وأوضح وجهة نظره بأن الشؤون العسكرية لها مخصصات في مالية الدولة، ولا يصح أن تمتد الأيدي إلى فاضل الأوقاف إلا إذا عجزت مالية الدولة واستنفدت في وجوهها العادلة، أما إذا كانت تبعثر هنا وهناك ويصرف منها على الترف والشهوات فلا يصح أن تمتد الأيدي إلى فاضل الأوقاف.
وناحية ثالثة لم يكن يرضيها النظام الشوري وإقامة العدل، وهي الحكومة الفرنسية إذ ذاك؛ لأن شمول العدل والنظام الشوري واستقرار الأمور يضيع على فرنسا مطمحها في الاستيلاء على البلاد، فكان ممثلو فرنسا يحرضون الباي على التلاعب بالمجلس الشوري. ولما حضر نابليون الثالث إلى الجزائر وتوجه إليه باي تونس، وقدم له نسخة من قانون الشورى الذي وضعه، قبلها منه بالشكر ظاهرا، ونقدها أمام رجاله سرا، وقال: «إن العرب إذا استأنسوا بالعدالة والحرية لم نسترح معهم في الجزائر». وهكذا اتجهت سياسة فرنسا في هذه البلاد إلى التظاهر بتشجيع حركات الإصلاح والعمل سرا على إحباطها.
وهكذا كل يوم مشكلة وكل يوم نزاع، والإصلاح مستحيل مع هؤلاء، فاستقال وقال: «لقد حاولت أن أسير بالأمور في طريق العدالة والنزاهة والإخلاص فذهب كل مسعاي سدى، ولم أشأ أن أخدع وطني الذي تبناني بتمسكي بالمناصب، ورأيت أن الباي - وعلى الأخص وزيره الرهيب العظيم الجاه مصطفى خزنه دار - لا يلجآن إلى التشريعات الإصلاحية إلا لتبرير سيئاتهما تبريرا قانونيا، فقدمت استقالتي سنة (1279) من رياسة المجلس ومن وزارة الحربية، وعدت إلى حياتي الخاصة».
لم يشأ أن يثور بعد اعتزاله ولا أن يكون حزبا يناضل في سبيل تحقيق العدالة، فذلك ما لم يتفق ومزاجه ولم تتهيأ له البلاد، ثم هو تربطه بركني الاستبداد روابط تقيد حريته؛ فالباي مولاه، ومصطفى خزنه دار صهره، وموقف البلاد إزاء المطامع الأجنبية دقيق؛ لهذا كله اعتزل وسالم، ونفض يده من العمل الرسمي مع الإلحاح عليه في العودة، ولكنه لم يقطع علاقاته الشخصية بالباي والوزير، واستمر على هذه الحال تسع سنوات امتلأت بأمرين جديرين بالذكر: الأول: سفره سفيرا من الباي إلى ألمانيا وفرنسا وإنجلترا وإيطاليا والنمسا والسويد وهولندا والدانيمارك وبلجيكا في مهمة خاصة، فمكنته هذه ورحلته السابقة - كما يقول - من دراسة الأسس التي قامت عليها المدنية الغربية، وبنت عليها الأمم الكبرى قوتها ونفوذها. والثاني: تأليفه كتاب «أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك».
3
عكف خير الدين في أثناء اعتزاله الوزارة على وضع كتاب سماه «أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك»، وسميت ترجمته الفرنسية «الإصلاحات الضرورية للدول الإسلامية». وكان في ذهنه عند تأليفه أن يحذو حذو تاريخ ابن خلدون، يؤلفه بروح العصر، ومطالب العصر، فاشتمل أيضا على مقدمة وتاريخ. فأما المقدمة - فقد أراد منها البحث في حالة البلاد الإسلامية وأسباب انحطاطها بعد ازدهارها وكيفية إصلاحها.
وأما التاريخ فقد استعرض فيه حال الممالك الأوربية، لا من ناحية تعاقب ملوكها وتسلسل حروبها، ولكن من ناحية وصف كل دولة في إدارتها وجيوشها، ونظام الحكم فيها، وماليتها وكيفية ضبطها، وقوتها البرية والبحرية. وقد وصف - على هذا المنوال - الدولة العثمانية وفرنسا وإنجلترا وروسيا وألمانيا وإيطاليا وأسبانيا والبرتغال وهولندا والدانيمرك وبلجيكا وسويسرة واليونان، ثم وصف جغرافية أوربا الطبيعية ... إلخ، وكان أهم ما يقصد من ذلك أن يضع أمام القارئ العربي صورة لنهضة أوربا وأسبابها، وطريقة الحكم فيها حتى يقتبس المسلمون منها ما يصلح لهم وحتى يثير عندهم الرغبة في الاقتداء بهم والعمل على منوالهم، وقد أودع فيه خلاصة ما رأى في سياحاته وما قرأ وما فكر.
وأهم ما يعنينا الآن مقدمته التي تشرح حال المسلمين وحاجتهم إلى الإصلاح وطريقته؛ وهو فيها ينعي على المسلمين كراهيتهم الأخذ بأساليب المدنية الغربية في الإصلاح، واعتقادهم أن كل ما صدر عن أوروبا حرام، يعللون ذلك بعلل مختلفة كأن يقولوا: إنها مخالفة للشريعة الإسلامية، أو يقولوا: إنها إذا ناسبت الأمم الغربية فلا تناسب الأمم الشرقية؛ لأن كل أمة لها موقفها الاجتماعي وعقليتها وتاريخها، أو يقولوا: إن المدنية الغربية بطيئة الإجراءات وخاصة في طريقة القضاء، أو أن يقولوا: إن النظم الغربية تستلزم التوسع في الإدارة وتقسيم الأعمال وهذا يستلزم كثرة الوظائف والموظفين، وليس هناك مال يكفي لكل هذا، فلا بد إذا من فرض ضرائب جديدة، والبلاد فقيرة وأهلها لا يحتملون زيادة الضرائب. وقد وقف نفسه للرد على هذه المزاعم:
فأما الزعم الأول: فالتمسك بالدين لا يمنع من النظر فيما عند الأمم الأخرى، والأخذ بأحسنه فيما يتعلق بالمصالح الدنيوية؛ فليس بالناس يعرف الحق، ولكن بالحق يعرف الناس، والحكمة ضالة المؤمن يأخذها حيث يجدها، وسلمان الفارسي لما اقترح على النبي
صلى الله عليه وسلم
حفر خندق في غزوة الأحزاب أخذ برأيه ولم يكن ذلك معروفا عند العرب، والمسلمون الأولون أخذوا علوم اليونان ومنها المنطق واستفادوا منها، وقال الغزالي: من لا معرفة له بالمنطق لم يوثق بعلمه، وأبو بكر الصديق قال لخالد عند إرساله لقتال أهل الردة في اليمامة: «إذا لا قيت القوم فقاتلهم بالسلاح الذي يقاتلونك به، السهم للسهم والرمح للرمح والسيف للسيف»، ولو أدرك هذا الزمان لقال: المدفع للمدفع والبارجة للبارجة والمدرعة للمدرعة. ولا يمكن الاستعداد لمنازلتهم بمثل سلاحهم إلا بالعلم وأسباب العمران. ثم نقول لهؤلاء الذين لا يستحسنون ما تأتي به المدنية الغربية: لماذا تنكرونها فقط في التنظيم ونتائجه والإدارة وضبطها والعدل وإقامته، ولا تنكرونها فيما يتنافسون فيه من الملابس والأثاث والمخترعات وأسباب الترف؟! فالذين صنعوا أدوات الزينة والنعيم هم الذين صنعوا الأسلحة واخترعوا العلوم والمعارف. أنفتح الباب للأخذ منهم فيما لا ينفع ونغلقه أمام ما ينفع؟! أنصد عن الأخذ عنهم ونتركهم يستغلون زراعتنا ومواردنا وينعمون بها ثم نكتفي منها بفتات موائدهم؟ إنهم ما وصلوا إلى استغلالنا إلا بمعارفهم، ولم ترتق معارفهم إلا بالعدل والحرية، فكيف يسوغ لعاقل أن يصد عن ذلك ويغمض عينيه ولا يسمح به، استنادا على خرافات وأوهام؟ وقد قال بعض المؤلفين في السياسة الحربية: «إن الأمة التي لا تجاري جاراتها في معداتها الحربية ونظمها العسكرية، توشك أن تقع غنيمة في أيديهم»، وإنما خص النظم الحربية بالذكر؛ لأنها موضوع كتابه، وإلا فالحكم عام في كل مرافق الحياة. «ومن داوعي الأسف أن هذه النظرة إلى المدنية الغربية لا تزال تؤثر في بعض الأوساط في الأمم الإسلامية، وإن اختلفت درجتها في الإصغاء إلى هذه الدعوة؛ كالتخويف من تعليم المرأة، ومن الاستمداد من التشريع الحديث. ولعل هذا من الأسباب التي جعلت النصارى والمسلمين إذا اجتمعوا في قطر واحد كان النصارى أسبق إلى تشرب المدنية الغربية والاستفادة منها، ثم يأتي بعض الناس فينسبون ذلك إلى طبيعة الإسلام، والإسلام لا يمنع أن يقتبس الصالح من الأمر حيث كان وممن كان.
أما هؤلاء الذين يقولون: إن المدنية الغربية لا تناسب الأمم الإسلامية لموقفها الاجتماعي فنقول لهم: إن أوربا عندما بدأت نهضتها كانت أسوأ حالا منا، والأمة الإسلامية - كما يشهد المنصفون - لها نم عقليتها واستعدادها وسابق مدنيتها ما يمكنها من السير في المجال إذا أذكيت حريتها الكامنة؛ فالحرية والطموح غريزتان في المسلمين تأصلتا فيهم بتعاليم دينهم، غاية الأمر أنه من الواجب على القادة الذين يضعون أسس حريتهم، ونظم إدارتهم أن يراعوا ظروفهم وأن يقدموا لهم من ذلك ما يستطيعون هضمة، ثم يوسع هذا شيئا فشيئا بنمو أسباب التمدن.
أما القول ببطء الإجراءات، فإن كان سببه إعطاء الحوادث حقها من التأمل حتى يتضح عند الحاكم وجه الحق بالإفساح للمتخاصمين أن يدلوا بحججهم، فلا يصح أن يشكو منه جاهل أو متجاهل، وهذا خير ألف مرة مما يجري الآن من الإسراع في الحكم من غير تمحيص ومن غير إبداء أسباب، وإن كان سببه تقصير الموظفين أو قصورهم، فما على الحكومة إلا أن تختار الأكفاء وتدربهم، وكذلك الشأن في الأمور السياسية الكلية لا بأس من البطء فيها إذا كان البطء لتحري الصواب ومعرفة وجه الحق. ومع هذا فقد يحدث البطء والتحفظ أول الأمر، فإذا مرنت الأمة عليه أسرعت في شؤونها.
وأما الخوف من زيادة الضرائب فالأمر بالعكس؛ لأن الحكم الشوري يجعل الضرائب لا تفرض إلا حيث المصلحة وبرضا أهل الحل والعقد، على حين أن الحكم الاستبدادي يجعل فرض الضرائب شهوة من شهوات الحاكم المستبد. ثم إن تنظيم الدولة وشؤونها بضبط دخلها وخرجها يزيد في مصادرها فتنعم الأمة بماليتها، وإذا فرضت ضريبة؛ فلأنها تفيد أكثر مما تضر، لا كما هو حاصل الآن من وضع إيراد الدولة تحت تصرف الحكام يصرفون منه على شهواتهم من غير حساب، فإذا أسرفوا وأتلفوا لم يجدوا إلا باب فرض ضرائب جديدة.
الحق أن الأمم الإسلامية لا تصلح إلا بالنظام الشوري الذي يقيد الحاكم، وبأن نستمد من النظم الغربية والمدنية الحديثة ما يصلحنا. والحق - أيضا - أن الذين يقفون أمام هذه الدعوة إلى الإصلاح إما جهلة لا يعرفون كيف تقدم العالم وكيف أصلح عيوبه وأسس نظمه، ثم يدعوهم الجهل إلى الاستنامة لنظمهم المعيبة وطرقهم المعوجة، ويرون أن الإصلاح بدعة من بدع آخر الزمان، وإما قوم يعلمون وجوه الإصلاح ومزاياه، ولكنهم يرون أنها تسلبهم منافعهم الشخصية التي تتوافر لهم بالاستبداد والفوضى ولا تتوافر بالنظام، فيحاربونها تحت ستار ما يزعمون من أضرار وما يختلقون من أسباب، وهم في باطن أنفسهم يعرفون أنهم كاذبون.
إن العدل والحرية هما ركنا الدولة، وهما اللذان كانا في المملكة الإسلامية فأزهرت، ثم فقدا فذبلت، ولم يكونا في الدول الأوربية فانتابها الضعف والفساد، ثم كانا فصلح حالها، وليس جو أوربا أحسن الأجواء، ولا أرضها أصلح الأراضي، وإنما بلغ أهلها ما بلغوا بالتقدم في العلوم والصناعات واستخراج كنوز الأرض بعلوم الزراعة، وكسب المال بعلوم التجارة، وهذا كله لم يكن إلا وليدا للعدل والحرية، وهذه قوانين طبيعية لا تتخلف؛ عدل وحرية يتبعهما عمران، وظلم واستبداد يتبعهما خراب.
ثم إن العدل والحرية يجب أن يوضع لهما من النظم ما يضمن وجودهما ودوامهما. وليس هناك ضمان إلا بالمجالس النيابية، فقد يكون في الملوك من يحسن تصرفه بدون مشورة، ولكن يكون ذلك موقوتا بوقته، يزول بزواله؛ فوجب أن يحاط بأهل الحل والعقد، يشاركونه في كليات السياسة، ويكون الوزراء مسئولين أمامهم. وكل ما أصاب الأمم الإسلامية إنما أصابها من ترك الأمر فيها إلى مشيئة حاكمها وخضوع الوزراء لإشاراته. وقد قال ابن العربي في الضرائب التي تؤخذ من الناس عند فراغ بيت المال: إنها يجب أن تؤخذ جهرا لا سرا، وتنفق بالعدل لا بالاستئثار، وبرأي الجماعة لا بالاستبداد.
وقد كنت أتحدث مع كبير من أعيان أوربا، فأسهب في مدح ملكه وتضلعه في أصول السياسة وصواب منهجه، فقلت: فلم إذا تخاصمونه في الحرية السياسية؟ فقال: من يضمن لنا بقاء استقامته واستقامة ذريته من بعده؟ وقد اقتبس بعد ذلك من أحد مؤرخي نابليون قوله: «إن نابليون أخطأ - مع عظمته - لاستبداده، ويجب على الأمة الفرنسية أن تتعلم من غلطاته. وإن ما ينبغي أن يستخلص من كل تاريخه أنه لا يليق بأي فرنسي أن يبذل حريته لأي أحد، كما لا ينبغي له الإفراط في حريته حتى تنتهك حرمتها».
وقد أيد خير الدين نظرته هذه بالرجوع إلى التاريخ، فاستشهد بالمملكة الإسلامية، بم تقدمت، وبم تراجعت، وبأوربا بم تأخرت وبم نهضت وبم نمت.
وحمل المسلمين تبعة تأخرهم، ولكنه لم يهمل نقد أوربا بإزاء الدول الإسلامية في تصرفاتها وخاصة في مسألة «الامتيازات الأجنبية» استنادا إلى عهود قديمة مضى وقتها، ولم تكتف بالعهود، بل توسعت في تفسيرها ما شاءت لها قوتها. وهذا كله مخالف للقانون الأساسي البديهي، وهو أن من دخل مملكة فلا بد أن يخضع لأحكامها. فإذا ادعى أن المملكة الإسلامية متأخرة في نظمها، فهناك من هم أكثر تأخرا منها، وأوربا لا تطلب امتيازات فيها. وإذا ادعى كراهية بعض عوام المسلمين للنصارى وحيفهم عليهم، أمكننا الادعاء بحق كراهية بعض النصارى للمسلمين وحيفهم عليهم، فلا مبرر إذا لهذه الامتيازات. يضاف إلى ذلك ما تقوم به بعض ممالك أوربا من وضع العراقيل في سبيل تنظيم الممالك الإسلامية لشؤونها، وإدخال وسائل الإصلاح التي تراها، وإيقاع الدول الإسلامية في حيرة بين مطالبة بالإصلاح وإعاقة للإصلاح.
ثم من أهم العوائق في تقدم المسلمين وجود طائفتين متعاندتين: رجال الدين يعلمون الشريعة ولا يعلمون الدنيا ، ويريدون أن يطبقوا أحكام الدين بحذافيره بقطع النظر عما جد واستحدث، ورجال سياسة يعرفون الدنيا ولا يعرفون الدين، ويريدون أن يطبقوا النظم الأوربية بحذافيرها من غير رجوع إلى الدين، فنقول للأولين: اعرفوا الدنيا، ونقول للآخرين: اعرفوا الدين. فاعتزال العلماء شؤون الدنيا ثم تحكمهم ضرر أي ضرر، وجهل رجال السياسة بأصول الدين ضرر مثله. والواجب امتزاج الطائفتين وتعاونهما. فهناك أصول الدين يجب أن تراعى، وهناك أمور لم ينص عليها تقتضيها مصالح الأمة يجب أن تقاس بمقياس المنفعة والمضرة ويعمل فيها العقل.
ثم أبان الأسس التي بنيت عليها المدنية الحديثة التي يمكن اقتباسها ونشرها في المملكة الإسلامية كالحرية بنوعيها، وهما الحرية الشخصية وهي «إطلاق التصرف للإنسان في نفسه وكسبه مع أمنه على نفسه وعرضه وماله ومساواته لأبناء جنسه في الحقوق والواجبات»، والحرية السياسة وهي المشاركة في نظام الحكم والمداخلة في اختيار الأصلح - ثم تأسيس القوانين بنوعيها، وهي قوانين الحقوق المرعية بين الدولة والرعية، وقوانين حقوق الأهالي فيما بينهم - ثم مسئولية الوزراء أمام الأمة في مجلسها الشوري ... إلخ.
وختم ذلك بإبداء رأيه في أن إيجاد هذه النظم من لوازم وقتنا، وكل من وقف في سبيلها عديم الأمانة والنصيحة لدولته ووطنه.
هذه زبدة ما في المقدمة التي تبلغ نحو مائة صفحة، ومنها نعرف وجهته في الإصلاح، ونعود بعد ذلك إلى متابعة حياته.
4
بعد أن ترك خير الدين الوزارة وتخلى عن الكفاح وانصرف إلى التأليف، خلا الجو لمصطفى خزنه دار، يثقل كاهل الشعب بمظالمه ومغانمه. والباي محمد الصادق باشا الذي تولى سنة (1276) رجل لين سهل ناعم، لا يحب أن يواجه صعوبة ولا يسمع بمشكلة، يسلم الأمور لوزيره ولا يسأله عما يفعل، ولا يهمه منه إلا أن يواليه بالمال الكثير الذي يصرفه في ترفه.
والمجلس النيابي الذي أنشئ وجد فيه مصطفى خزنه دار عائقا لتصرفاته واستبداده، فألغاه وألغى كل ما تبعه من نظم، وعادت الأمور إلى مجراها الأول، واسترد الوزير حريته في فرض الضرائب وطرق تحصيلها.
وما زال مصطفى خزنه دار يستنزف موارد البلاد حتى نضب معينها، فاتجه إلى أوربا يستدين منها، وفي أقل من سبع سنوات بلغ الدين (150 مليون فرنك).
ووقعت البلاد في شر محنة؛ فمن ناحية ثار الشعب من ضرائب تضاعفت، بل بلغت في بعض الأحيان ثلاثة أمثالها، إلى جور وفساد في التحصيل والتوزيع أسلم إلى الإفلاس، حتى بلغ الحال آخر الأمر أن لم يكن في خزانة الدولة مرتبات أسرة الباي ولا مرتبات الموظفين ورجال الجيش ولا فوائد الديون، وحتى اضطر أوساط الناس إلى إخراج نسائهم لجمع العشب وعروق الأشجار للاقتيات بها، ومن كان عنده قليل من المال أخفاه حتى لا يصادر، وتظاهر بالفقر، وكان يغلي القمح في الماء ليلا من غير طحن حتى لا يتهم بالرخاء، وفشا المرض والموت إلى أفظع حد. ومن ناحية أخرى تدخلت الدول الأوربية تريد المحافظة على ديونها. واقترحت فرنسا تشكيل لجنة مالية، ووافقتها إنجلترا وإيطاليا، وصدر مرسوم من الباي سنة (1286) بتشكيلها من فرنسيين وإنجليز وإيطاليين يرأسها موظف تونسي، وجعلت مهمتها توحيد الدين وتحديد الفوائد وإدارة المرافق التي خصصت لهذا الدين. وهكذا كانت رواية واحدة مثلت مرة في مصر ومرة في تونس، لم يختلف فيها إلا أشخاص الممثلين.
عند ذاك اتجه الباي إلى خير الدين يطلب منه أن يرأس اللجنة، فاعتذر،فألح عليه حتى قبل، وحمل مهمة شاقة في الداخل والخارج، ومنح لقب وزير، ومن الغريب أن الباي احتفظ بمنصب الوزير الأول لمصطفى خزنه دار، الذي أسلم البلاد للدمار! وليس لهذا سبب إلا ضعف الباي وشلله أمامه كما يشل العصفور أمام الثعبان.
واجه خير الدين مشاكل من أعسر الأمور، فاللجنة المالية المختلطة تريد أن تضع يدها على كل شيء في الدولة؛ لأن كل شيء متصل بالمال، حتى المعلم في المدرسة والقاضي في المحكمة، ولو فعلت لأضاعت استقلال البلاد بتاتا.
ومشكلة ثانية: وهي كيف ينقذ هذا الشعب بعدما احترق بالجوع والفقر والمرض وفقدان الثقة بالحكومة.
ومشكلة ثالثة: وهي بقاء مصطفى خزنه دار رئيسا للوزارة، وهو الشره في المال كشرهه في حب السلطة والجاه. ومن ذاق لذة ذلك لم يتنح عنه اختيارا، وهو بطبيعته وتاريخه عدو كل إصلاح، غيور ممن يشاركه جاهه. فأما المشكلة الأولى فاستطاع خير الدين - بالمفاوضات الطويلة مع اللجنة، ومع الدول - أن يحصر دائرة نفوذها في موارد محدودة وأن ينظم ميزانية الدولة، ويضمن للدائنين دفع الفوائد في حينها، إلى غير ذلك من وسائل تعهد بها ونفذها في ضبط وأمانة.
وأما المشكلة الثانية فقد رأى كثرة الضرائب قد أضاعت الزراعة وجعلت البلاد خرابا. ولم يزرع الناس، إذ كان نتاج زرعهم ليس لهم، وكان زارعهم وغير زارعهم يستويان في الفقر؟ فخفف من الضرائب، ونظم طرق تحصيلها، وأخذ بالشدة من تلاعب فيها، وشجع غرس الزيتون والنخيل، فأعفى كل من غرس منهما جديدا من الضرائب عليها مدة عشرين عاما، وأرجع من فر من الأهالي لكثرة مطالب الحكومة، وأسقط ما عليهم، وأمر بالنظر في شكايات من نكب من الناس على يد الحكومة السابقة ورد ظلامتهم، ووضع صندوقا كبيرا في ميدان تونس يضع فيه كل متظلم ظلامته وأعفاه من التصريح باسمه، وجعل مفتاح الصندوق معه، هو الذي يفتحه بنفسه، وهو الذي يقرأ الظلامات، ويوقع عليها بما يراه من تحقيق العدل.
وأما المشكلة الثالثة فقد ظل في نزال مع مصطفى خزنه دار حتى زادت فظائعه وانكشفت، وألح الناس بوجوب عزله، وسقط سقطه ضبطتها اللجنة المالية، فعزل من منصبه سنة (1290)، وأقام الناس لذلك من الزينات والأفراح في جميع بلدان القطر ما لم يسمع بمثله، وأصدر خير الدين قرارا بمحاكمته على ما اتهم به، فحوكم. والتزم بدفع خمسة وعشرين مليون فرنك.
وبذلك ختمت حياة مصطفى خزنه دار السياسية، وهي حياة تعد مأساة الأمة، من ناحية موت الضمير لرجل وكلت إليه شؤون البلاد في أوقات حرجة مليئة بالمطامع الدولية، ومن ناحية خنوع الشعب لهذا الرجل ومظالمه مدة تزيد على ثلاثين عاما، من غير أن يكون هناك رأي عام يزلزله وينحيه، وقوة الاحتمال في مثل هذه الأحوال رذيلة من أكبر ما تمنى به الشعوب.
من ذلك الحين كان خير الدين هو الوزير الأول، أطلقت يده فيما يرى من إصلاح ، ولا يغل يده إلا مطامع الدول.
تولى إصلاح القطر من جميع نواحيه، السياسية والزراعية والتعليمية والاقتصادية والمالية والإدارية والقضائية.
فسلك مع قناصل الدول مسلكا حازما صريحا، يصغي إلى طلباتهم المعقولة ويرفض غير المعقولة، مع ذكر الأسباب المفصلة للرفض، فلا يداهن ولا يرائي؛ ولذلك احترموه ولو خالفوه، وقد يضعون العقبات في سبيله باطنا، ولكنهم يجاملونه ظاهرا.
وقسم الأراضي الزراعية إلى مناطق، وتحرى اختيار الأمناء لجلب الضرائب. ومن سهل عليه دفع الضريبة نقدا فعل، أو محصولا فعل، ونكل بمن ثبتت عليه الخيانة من الجباة، ونظم العلاقات بين الملاك والمزارعين وبين الملاك والحكومة، وألغى الضرائب غير المعقولة وغير المستطاعة، وأبطل الحملات العسكرية لتحصيل الضرائب بالقوة؛ لأنها كثيرا ما كانت تؤول إلى أعمال السلب والنهب، فعادت للناس طمأنينتهم، وعاد للحكومة هيبتها واحترامها، وانصرف الناس إلى الزراعة بعد أن كانوا ينصرفون عنها. ولما ترك الحكم كانت مساحة الأرض المستغلة مليون هكتار، وكانت حين تسلم زمام الحكم ستين ألفا.
وفى التعليم أنشأ مدرسة عصرية تعلم فيها العلوم العربية والشرعية، وبجانبها الثقافة العصرية، مع تعليم اللغات التركية والفرنسية والإيطالية، وأصلح التعليم بجامع الزيتونة. وجمع الكتب المبعثرة في المساجد، وكون بها مكتبة كبيرة، ووهب له من عنده ألفا ومائة كتاب مخطوط، ونظمها تنظيما حديثا، وحسن مطبعة الدولة ووكل إليها نشر الكتب العلمية والأدبية، وأصلح إدارة «الرائد التونسي» وهي الصحيفة الرسمية للحكومة، وشجع على نشر المقالات فيها، وكان ينشر فيها أفكاره السياسية، وألزم الموظفين بقراءتها، والتفت إلى الناحية الاقتصادية، فنظم الجمرك ورفع ضريبة الاستيراد 5٪ وخفض ضريبة الإصدار، وأنشأ المخافر الجمركية لمنع التهريب، ونظم الوظائف الحكومية وعين مرتباتها، كما حدد مرتبات القصر، ووضع ميزانية الدولة على أساس صحيح، وضبط المكاتبات في الدواوين، وأنشأ السجلات للصادر والوارد ورتبها حتى يسهل الرجوع إليها.
وجد في إحياء الصناعات المغربية كالنقش على الجص والقباب، وكان يأتي بمهرة الصناع من البلاد، ويعهد إليهم بتعليم طائفة من الشبان.
ونظم الأوقاف وكانت فوضى في البيع والشراء وصرف الريع، وآلت أعيانها إلى الخراب، فجمعها في إدارة واحدة، وجعل عليها السيد محمد بيرم ومعه مجلس يعينه في تنظيمها.
ونظر فرأى الناحية التشريعية والقضائية في البلاد مضطربة، والأجانب لا يخضعون لقانون البلاد، وليس من السهل إقناعهم بالخضوع؛ إذ ليس في البلاد قانون، فكان لكل من المذهب الحنفي والمالكي قاض مطلق الحكم في الحوادث، وقد يحدث أن الحادثين المتشابهين يقضى فيهما قضاءان مختلفان. ومن المبادئ التي يدين بها الأجانب أن تكون القوانين معروفة قبل الأحداث، ليست مجالا للاجتهاد ولا التلاعب، فعهد خير الدين إلى إخصائيين بدراسة القوانين المعمول بها في الدولة العثمانية وفى مصر وفي أوربا، وأن يستخرجوا منها قانونا يناسب القطر التونسي، واستمرت اللجنة في عملها، ولكن خرج الوزير من الوزارة قبل أن يتم.
وهكذا نقل البلاد من حالة كرب وضيق وظلم وفوضى إلى حالة أمن ورخاء وضبط ونظام، ورقي في كل مرفق من مرافق الحياة، وكأنه بذلك كان يستملي نهضة مصر فيدخلها معدلة في بلاده.
أما المشاكل الدولية التي كانت أمامه فمعقدة مشتبكة ملتوية: فرنسا تنظر إلى تونس نظرة الصائد نشر شبكته، تحاول أن تجد من كل حادثة منفذا لتدخلها، فإذا لم تجد الحادثة خلقتها خلقا، وتدعي أن لها الحق فيما لها فيه حق وما ليس لها فيه حق، وتصطنع الرجال وتمنيهم المناصب الكبيرة حتى منصب الباي، إذا هم أعانوها وأفسحوا الطريق أمامها لبسط حمايتها. وإيطاليا ليست أقل من فرنسا مطمعا. ولما حدثت الحرب بين فرنسا وألمانيا سنة (1288ه/1871م)، وخرجت منها فرنسا منهزمة، اشتدت مطامع إيطاليا، وجدت في سعيها لتوسيع نفوذها، فكانت تونس مسرحا لتسابق الدولتين، كل تدبر دسائسها، وكل تشتري ذمم أنصارها، وكل توعز إلى جرائدها بما يتفق ومصلحتها.
وسط هذه المطامع والنذر بالخطر رأى خير الدين أن يضرب الدولتين بعضهما ببعض، وأن يقوي الصلة بين تونس والدولة العثمانية؛ لأن تونس لا تستطيع القيام بنفسها، فرسم خطة توثيق الصلات وتحديد العلاقات بينهما، وكانت علاقات غامضة غير محدودة، فسعى سعيا متواصلا، وخاطب الباب العالي في هذا الشأن وشرح له وجهة نظره، فأجيب إلى طلبه. وطلب الباب العالي إرسال مندوب إلى إستانبول للمفاوضة في هذا الأمر، فوقع الاختيار على خير الدين نفسه، فسافر وفاوض ونجح في استصدار فرمان يحدد هذه العلاقة، ويقرر أن تونس إيالة عثمانية ولواليها الحق في تولية المناصب الشرعية والعسكرية والملكية والمالية لمن يكون أهلا لها، وفي العزل عنها بمقتضى قوانين العدل، وفي إجراء المعاملات المعتادة مع الدول الأجنبية، ما عدا الأمور السياسية التي تمس حقوق الدولة العثمانية؛ كأصول السياسة والحرب وتغيير الحدود، كما تتضمن إقرار الوراثة في العائلة المالكة، مع المحافظة على الخطبة للسلطان وضرب السكة باسمه، وإجراء الأمور الداخلية في البلاد على قوانين الشرع ومراعاة قواعد العدل التي يقتضيها الوقت والحال، والتي تؤمن الناس في النفس والعرض والمال. وقد صدر هذا الفرمان سنة (1288)، واستقبله الأهالي بالسرور.
وأخذ الباب العالي على عاتقه السعي في موافقة الدول عليه، ولكن مشاكله واضطراب أموره الداخلية والخارجية حالا دون إتمامه، وأبت فرنسا الموافقة عليه؛ لأنه يعوقها عما تنويه لتونس.
هذه خطة خير الدين: إصلاح في الداخل في كل ناحية من نواحي الحياة الاجتماعية، وإصلاح في الخارج بربط البلاد بالدولة العثمانية ربطا وثيقا يناهض به أطماع فرنسا وإيطاليا. ولكن عودنا التاريخ ألا يأتي مصلح بمثل ما أتى به خير الدين إلا أوذي.
5
بعد أن سار شوطا بعيدا في طرق الإصلاح كانت تتجمع عناصر مختلفة تعاديه وتضع العراقيل في سبيله، وتشيع الأخبار عن خيانته وسوء قصده، وتفسر بالشر بعض ما يأتى من الخير، وتجسم بعض ما يرتكب من أخطاء، ولا بد لكل مصلح من أخطاء.
فالباي (محمد الصادق) كان مصطفى خزنه دار الناهب السارق الخائن أحب إليه من خير الدين النزيه العادل الحازم، فهذا لم يكن يعطيه من المال إلا ما تقرر له في الميزانية، وذاك يعطيه ما يشتهي ليأخذ لنفسه ما يشتهي، وهذا حازم لا يجيز من الأمر إلا ما وافق العدالة ومصلحة الشعب، وذاك يقبل الشفاعة والرجاء ولو على حساب العدالة ومصلحة الشعب؛ وهذا جاد خشن الملمس، وذاك ناعم هين لين، والأمراء المترفون يرضيهم المظهر ومن يجيب رغباتهم، أكثر مما يرضيهم المخبر ومن يقدر التبعات.
لذلك كرهه الباي وعاداه، ولكنه رأى تعلق الناس به فجاراه وداراه، وخالفه سرا ووافقه جهرا.
ثم هناك أعوان مصطفى خزنه دار الذين كانوا يأكلون من فتات مائدته، ويسرقون درهما إذا سرق ألفا، ويكسبون بالوساطة والشفاعة، وينهبون من الضرائب غير المضبوطة، قد رأوا خير الدين يسد في وجوههم الباب ويحصنه بالعدالة، ويضع من النظم ما يفقرهم ليغني الشعب - هؤلاء الذين لا يعجبهم النور وإنما يعجبهم الظلام قد كرهوه أيضا، وأخذوا يدسون له الدسائس وينصبون له الشباك.
وهؤلاء أيضا فئة اشترت ذممهم إيطاليا وفرنسا ومنتهم الأماني بالمناصب والمغانم إذا هم أعانوها في خطتها، ودبروا لها الاضطراب الذي يمكن من سلطانهما، وخلقوا الأحداث التي ترتكن عليها في تدخلهما.
وهذه فرنسا كرهت أشد الكره من خير الدين ما يقوم به من حركات لربط تونس بالدولة العلية ربطا محكما، فهي تريد عزلتها كما يرقب الذئب انفراد الشاة عن القطيع ليفترسها، حتى إنه في إحدى سفرات خير الدين إلى استانبول ركب السفينة من ميناء تونس، وقبل أن تقلع أعلن أن قادما أتى لزيارته، وإذا هذا القادم هو القومندان المساعد لبارجة فرنسية كانت راسية في الميناء، فسأله: هل يعتزم السفر؟ أجاب: نعم، فقال: إن قائده يرجو منه أن يؤخر سفره يومين أو ثلاثة حتى يتلقى القنصل التعليمات من باريس.
خير الدين :
أنت رجل عسكري مثلي تعلم أني لا أستطيع مخالفة أمر حكومتي إلا إذا خالفت واجبي، ولست أملك حرية الاختيار بين طاعتي للواجب، ومجاملتي لقائدك، وإذا فأنا راحل في الساعة التي حددتها.
الضابط :
في هذه الحالة أحذرك وأنذرك بأن قائدي - مع الأسف - سيمنعك بالقوة.
خير الدين :
كان الأولى أن تبدأ مهمتك بهذا الكلام، ولست في منزلة تجعلني أتلقى الأوامر من قائدك، ولست مغيرا قراري، والحكومة التونسية مطلقة الحرية في تصرفها. وسأمنحك الوقت الكافي للعودة إلى بارجتك وتبليغ قائدك ما قلت، وستقوم الباخرة في موعدها، وإذا كان قائدك سينفذ تهديده فإني أعرف كيف أقابله بالمثل وبالوسائل التى أملكها وأحمله تبعة ما يحدث .
وتحركت السفينة في المساء وطاردتها البارجة الفرنسية ترسل الإشارات بالوعيد، وتأمر بالوقوف من غير جدوى حتى الصباح، واستمر في طريقه، وعادت البارجة الفرنسية. كل هذه القوى تجمعت لمعاكسته في وزارته، وانتهزت الفرصة لاتهامه بما يسقط منزلته. وربما كان أهم ما وجه إليه من تهم أمران: اتهمه خصومه السياسيون بأنه منح امتيازا لشركة فرنسية بمد خط حديدي بين تونس والجزائر، وهو يعلم مطامع فرنسا ويعلم امتلاكها للجزائر، فمد هذا الخط يمكنها عند إرادتها احتلال تونس أن تغزوها من الجزائر. وفي ذلك خطر أي خطر، وقد أطنبوا في هذه التهمة، وأحكموا خطتهم وأرادوا أن يضربوا عصفورين بحجر؛ فمن ناحية يسيئون سمعته عند المواطنين والوطنيين، ومن ناحية يشوهون منزلته عند الدولة العثمانية التي تعتقد أنه رجلها يعمل لصالحها وصالح تونس بربط العلاقة الوثيقة بينهما.
وكان دفاع خير الدين وحزبه عن هذه التهمة أن لهذه المسألة تاريخا، وهو أنه في عهد وزارة مصطفى خزنه دار طلبت شركة إنجليزية مد خط حديدي بين تونس ومينائها «حلق الوادي»، فأجيبت إلى طلبها، وأنشأته فعلا ثم باعته إلى شركة إيطالية، وبعد مدة وجيزة طلبت شركة إنجليزية أخرى مد خط يسير من تونس إلى داخل البلاد حتى سوق العرب، ثم يمتد إلى «كيف» مركز الصناعة الزراعية في البلاد، وينتهي في منتصف الطريق بين ولاية تونس وحدود الجزائر، فمنحت الشركة الامتياز لأن الباي ومجلسه كانا متفقين على أن من مصلحة البلاد الإكثار من مد خطوط لتسهيل المواصلات، ولكن هذه الشركة لم تنجح في جمع رأس المال لهذا الخط، فطلبت مساهمة الحكومة بنسبة الربع في النفقات، فلم تجب إلى ذلك وطلبت مهلة بعد مهلة دون أن تبدأ في العمل، فسقط الامتياز من نفسه.
وفي وزارة خير الدين طلبت شركة فرنسية الإذن لها بمد خط بين تونس والجزائر، فرفض خير الدين بحجة أن المسألة تتصل بالحدود، والباب العالي وحده هو صاحب الحق - بمقتضى الفرمان - في التصرف في هذا الشأن، فلا يمكنه أن يتفق مع الشركة بدون استشارته، ورأت الشركة أن هذا يورطها ، وأقل ما فيه أن طلبها من الباب العالي ذلك اعتراف منها بسيادته على تونس، فعدلت مطالبها وطلبت أن تحل محل الشركة الإنجليزية في مشروعها بنفس الشروط، وهذا يجعل الأمر في يد الحكومة التونسية؛ لأنه لا يصل إلى الحدود، وعرض خير الدين الأمر على مجلس الوزراء، فأجاب طلب الشركة.
وبعد ثمانية أشهر من اعتزاله الحكم عرضت الشركة تكملة الخط إلى حدود الجزائر فأجيبت إلى طلبها.
قال خير الدين: إنه لم يسمح بمد الخط إلى الحدود، وبأنه لو لم يسمح لفرنسا بما سمح به لإنجلترا لنشأ عن ذلك مشكلة دولية لم يكن فيها موقفه قويا، ثم إن مد الخطوط الحديدية من مصالح الدول، ومن الخير أن تنشئها الدولة أو الأهالي، وليس ذلك في الإمكان، فالحكومة فقيرة تبتلع أكثر ميزانيتها فوائد الديون، والأهالي فقراء جهلاء أو أغنياء لا علم لهم بالشركات ولا قدرة لهم على إدارتها، فلم يبق إلا منحها للشركات الأجنبية أو عدم إنشائها بتاتا.
والحق أن مركز خير الدين فيه بعض الضعف. فتعديل الشركة مطلبها، واقتصارها على جزء من الطريق يفهم منه بالبداهة أنها تريد وضع رجلها في مركز تثب منه إلى الحدود كما حدث فعلا. فالحزم كان يقتضى المنع بتاتا؛ إذ من الواضح أنها جزأت مطلبها على دفعتين بعد أن طلبته دفعة واحدة، والنتيجة واحدة.
وكأنه أحس بضعف حجته هذه، فحاول أن يريح ضميره بعد سقوط تونس إذا قال: «على أن الفرنسيين عند غزوهم تونس أنزلوا قواتهم في طبرق وبنزرت، واجتازوا منهما الحدود إلى تونس دون أن يعتمدوا على السكة الحديدية المذكورة التي كانت في بداية إنشائها».
كما قال: إن إنشاء هذا الخط ليس هو الذي أضاع تونس، ولا عدم إنشائه كان يحميها؛ لأن مركز تونس لم يكن يحميه إلا الضمير الأوربي الذي كان يوجب المحافظة على وحدة الدولة العثمانية. وما دامت أوربا سمحت لفرنسا بالانقضاض على فريسة هينة كتونس فخط الحديد لا يقدم ولا يؤخر. وهذا ضرب من اليأس لا يصح أن يتسرب إلى نفس المصلح.
ونقده بعضهم بأنه أيام وزارته الثانية جاء فرأى قوانين الشورى ملغاة، فلم يعمل على إعادتها وإصلاح ما كان قد ظهر من عيوبها، بل حكم البلاد حكما استبداديا وإن كان عادلا، وهو هو الذي طالما مجد الشورى في كتاباته وفي مقدمة كتابه، وطالما قال: إن الحاكم الذي يحكم بأمره - وإن كان عادلا - ليس لعدله ضمان؛ إذ هو موقوت بوقته، فكان واجبا عليه وقد ملك زمام الأمر أن يعيد الحكم النيابي ويقويه في البلاد حتى يذيق الناس لذته ويفهموا فائدته.
وكانت حجته في الرد عليهم أن الحكم النيابي في المملكة الإسلامية لا يتيسر إلا بأحد أمرين: رغبة الملك أو الأمير في ذلك، أو قوة الرأي العام وثورته للمطالبة بهذا الحق رغم رغبة الملك أو الأمير، والأمران مفقودان في تونس؛ فالباي يكره الحكم النيابي ولا يطيقه، والرأي العام جاهل خاضع. وليس يفهم مزايا الحكم النيابي إلا أفراد معدودون ليس لرأيهم قوة التنفيذ. وهب أن الباي قبل النظام النيابي، أليس في إمكانه إلغاؤه كما حدث عند سنوح الفرصة، ما دامت الأمة ليس فيها من يحميه ويحرص عليه. والعالمون بالأمور يرون أن حجته في ذلك واهية، فعندما أسندت إليه الوزارة كان قويا، وكان الباي والناس يرون فيه المنقذ الوحيد لما آلت إليه الحال، فلو تشدد في عدم قبوله الحكم إلا بالنظام النيابي لاضطر الباي أن يجيبه إلى مطلبه، وفي مدته كان في إمكانه تدعيمه حتى يألفه الناس ويطمئنوا إليه ويشعروا أنه حاجة ضرورية من حاجاتهم.
وعلى الجملة فهذا خير الدين بما له وما عليه. حكم البلاد حكما استبداديا ولكنه عادل، وتولى أمر البلاد وهي فوضى في كل ناحية من نواحيها فعالجها بحزم وضبط وقوة، وقبض بيد من حديد على المفسدين والمتلاعبين، ودفع البلاد إلى الأمام بأقصى ما يستطيع من قوة، وعالج في كياسة التيارات السياسية في أحرج أوقاتها، ولكن كان شأنه في ذلك شأن كل مستبد عادل يزول فيزول بزواله كل إصلاح، وترجع الأمور إلى ما كانت عليه من اضطراب وفساد.
لقد سمع الباي إلى الوشاة فصد عنه ، وأوسع الطريق أمام الدساسين يدسون له ويشعيون الأراجيف حوله حتى بالمتناقضات، ففريق يقول: إنه يريد تسليم البلاد لفرنسا بدليل مسألة السكة الحديدية، وآخرون يقولون: إنه يريد تسليم البلاد للدولة العلية وسلبها استقلالها بدليل مساعيه المختلفة في هذا الطريق. وقد نصحه بعضهم في هذا الموقف بأن يشرك معه الوزراء في تصرفاته وتحمل المسئوليات معه، وأن يقسم الإدارة إلى أقسام ويجعل على كل قسم رئيسا يلقب بوزير يتحمل المسئولية في اختصاصه، ولا يرجع إليه هو إلا في الأمور الهامة، وبذلك توزع الأعباء والمسئوليات، ولكنه كان من الأشخاص الذين ضعفت ثقتهم بكل من حولهم وشك في كل الرجال الذين ناصروا العهد الماضي، ولم يؤمن إلا بالله ونفسه، فخشي إن هو فعل ذلك أن يتلاعب من يسند إليهم العمل فيما يتولونه، ويسببوا له من المشاكل أكثر مما يحلون، فرفض هذا وظل قابضا على زمام كل الأمور.
نجحت دسائس الدساسين فباعدوا بينه وبين الوالي، وزاد الأمر سوءا أن الدولة العثمانية كانت قد دخلت في حرب مع روسيا، وطلب الباب العالي المعونة من الولايات ومنها تونس، فتراخى الباي عن إجابة هذا الطلب، وتحمس خير الدين، ودعا الأهالي إلى التطوع، فتطوعوا، وأرسل ما تطوعوا به إلى الباب العالي، فازداد الباي نفورا منه لأنه لم يكن يسره الارتباط الوثيق بين تونس والدولة العثمانية.
وكان أخشى ما يخشاه الباي هياج الأهالي لعزله؛ لتعلقهم به وإظهار شعورهم نحوه في المناسبات المختلفة اعترافا منهم بجميله. فلما كثرت الإشاعات حوله انتهز الباي الفرصة وأشعره بعدم رضاه عنه، فقدم خير الدين استقالته، فقبلها الباي. وكان ذلك في سنة (1294)، وأمر الباي الموظفين بتجنبه حتى خاصة أصدقائه، وقد استأذن الوزراء الباي في زيارة خير الدين عقب استقالته فلم يأذن لهم، وأرصدت حول داره العيون، فكان في حقيقة الأمر معتقلا. ولما سئم هذا العيش استأذن في السفر إلى أوربا لمداواة أعصابه، فامتنع الباي أولا، ورضي أخيرا، ثم طلب العودة، على أن يؤمن على حريته الشخصية من غير أن يتدخل في الأمور السياسية، فلم يرد على طلبه بقبول ولا رفض، فحضر بنفسه من غير أمان، وضيق عليه أكثر مما كان.
6
قضى خير الدين - بعد اعتزاله الوزارة - أعواما سودا، فقد كان أشبه بسجين لا يزور ولا يزار، ولم يتجه إلى التأليف يتسلى به كما فعل في العهد الماضي، إذا كان في المرة الماضية شابا آملا، فأمسى في هذه المرة شيخا يائسا، يرى كل ما بناه من إصلاح وما وضعه من خطط يتهدم على يد الباي وأعوانه حجرا فحجرا، وفرنسا تتقدم للقضاء استقلال البلاد خطوة فخطوة، ثم إذا هو ضاق صدره مما يرى وتهدمت أعصابه مما يفكر سافر إلى أوربا يظن أن فيها سعة من ضيق، فإذا هي ضيق فوق ضيق، لا يلبث حتى يشعر بالحنين إلى بلاده. فعل هذا مرتين فكان يستشفي من داء بداء.
وأخيرا وصل إليه تلغراف من كبير الأمناء يأمره فيه بالحضور إلى الأستانة، فاطلع عليه الباي، فتردد في الإذن له، وشاور قناصل الدول، فأشاروا عليه بأن يسمح له، فسافر في رمضان سنة (1295)، وكان سفرا حزينا، تعطف عليه قلوب الناس ولا يتيسر لهم وداعه؛ لأن الباي أمر أن لا وداع، وترك أسرته وماله في حماية من لا يوثق بهم في الحماية، وقد كان له أملاك كثيرة، ثلاثة قصور أهداها إليه البايات المتعاقبة جزاء له على خدمته أيام رضاهم عنه، وغابة من شجر الزيتون أهداها إليه الباي أحمد، ومنزل كبير به مياه معدنية أهداه إليه الباي محمد، وضيعة كبيرة منحها له الباي محمد الصادق، وقد أراد أن يبيع كل هذه الأملاك لعزمه على الاستقرار في الأستانة، فعرضها على الحكومة التونسية فأبت شراءها، فأمر وكيله أن يلعن الأهالي التونسيين بخصم 10٪ من ثمنها، فلم يتقدم أحد خوفا من الباي ورجال حكومته، فلما اضطر إلى بيعها للفرنسيين بعد سنة من إعلانه نقدوه نقدا مرا، وفي هذا يخطر لي قول أبي العلاء:
عنب وخمر في الإناء وشارب
فمن الملوم: أعاصر أم حاسي؟
وصل إلى الأستانة، فوجد في انتظاره سليمان باشا مندوب السلطان عبد الحميد، وحمدي باشا كبير الأمناء، وعلي فؤاد بك السكرتير الأولى للسلطان، وتوجه إلى قصر يلدز وقيد اسمه، فدعي للمقابلة في نفس المساء، وتحدث معه السلطان طويلا، واستبقاه للعشاء معه ليكتنه كنهه ويزنه بموازينه.
وأمر السلطان فأعد له جناح في قصر من قصوره الكبيرة، وأرسل سليمان باشا إلى تونس ليعود بأسرة خير الدين.
وسرعان ما عين وزير دولة؛ فكان يدعى لحضور مجلس الوزراء عندما يجتمع لبحث المسائل الخطيرة، ولم يمض شهر حتى سمع من كبير الوزراء أن السلطان يرشحه لوزارة العدل، فرجا منه ورجا من كل من توسم فيه الجاه أن يسعى لعدم إتمام ذلك، فلم يفد شيئا، فذهب لمقابلة السلطان نفسه وتوسل إليه أن يعفيه من ذلك، فقبل رجاءه وأعفاه.
وكانت أكبر حجة له في الاعتذار أنه لا يستطيع خدمة البلاد - وخاصة عن طريق الوزارة - إلا إذا عاش فيها زمنا طويلا عرف أهلها ودرس شؤونها، وتعرف كنه أمورها ووجوه الإصلاح فيها.
هذا ما كان يقوله. وأما ما يبطنه فهو أنه يرى أيضا أن الدولة العثمانية أصبحت من المرض، بحيث لا يرجى لها علاج في وضعها الحاضر؛ ثم هو دائم الحنين لتونس، إذ صارت وطنه يأنس بها ويستوحش من فراقها، ويفضل أن يكون فردا آمنا فيها على وزير في غيرها.
هذا الذي كان يعتذر في إلحاح عن الوزارة يدعى إلى يلدز في الصباح المبكر يوم 4 ديسمبر سنة (1878م / 1295ه) ويقابل السلطان فيخبره أنه عين رئيسا للوزارة، ولما أراد أن يعتذر أبلغه أنه أمضى المرسوم ولم يعد في الإمكان إلغاؤه بحال. هذا خير الدين ينصب في أيام تواجه فيها الدولة العثمانية شدائد من أخطر الأمور وأشدها تعقيدا وارتباكا.
فتركيا في حرب مع الروس ومنهزمة أمامهم، وجيوش الروس تتقدم وتهدد العاصمة نفسها. والأسطول البريطاني في مياه البسفور، وحالة البلاد الداخلية من مالية واقتصادية ونفسية من أسوأ الحالات، حتى كان أصحاب المخابز يفضلون إغلاق مخابزهم على التعامل بنقود متدهورة تكاد تكون عديمة القيمة، و380000 مهاجر لا مورد لهم ولا معين، يزحفون على العاصمة، ومعاهدة سان ستيفانو التي عقدت في برلين سنة (1878) كانت طويلة الذيول تتطلب عقد معاهدة بين تركيا وروسيا في الأمور الخاصة بهما. وأبى الروس الجلاء عن أراضي الدولة العثمانية حتى تتم المعاهدة. وأبى الإنجليز سحب أسطولهم حتى تجلو الجيوش الروسية، ومشكلة قبرص معلقة، والحالة مرتبكة مع النمسا لاحتلالها البوسنة، ومشكلة الأرمن قائمة. في هذا الأتون المستعر وضع خير الدين ليطفئ النار، وأي قدرة تستطيع إطفاءها من غير حرائق؟! لقد كانت سياسته «إنقاذ ما يمكن إنقاذه».
فبذل كل ما يستطيع من رأي وجهد حتى كان الاتفاق مع روسيا، ووضعت ضمانات تكفل مصالح المسلمين في بلغاريا ورومللي الشرقي، وخفضت التعويضات الحربية تخفيضا كبيرا وانسحبت الجيوش الروسية إلى بلغاريا ورومللي، كما انسحب الأسطول البريطاني من بحر مرمرة، وسوي الخلاف بين تركيا النمسا بما حفظ لتركيا كثيرا من حقوقها. وحلت المشكلة التي استعصت على الحل نحو عشر سنوات ... إلخ إلخ، وبسياسته حقا أنقذه ما يمكن إنقاذه.
وفي أيام وزارته هذه كانت مشكلة مصر الكبرى في آخر عهد الخديو إسماعيل، فإنه لما اضطربت الحالة المالية والسياسية في مصر عزمت إنجلترا وفرنسا على التدخل في شؤونها تدخلا آخر جديدا، فأرسلتا إلى قنصليهما في مصر؛ ليطلبا من الخديو إسماعيل تنازله على العرش لأكبر أبنائه «توفيق»، فأبى إسماعيل محتجا بأن ذلك من حق الباب العالي وحده، ومؤملا أن يرفض هذا الباب العالي مطلب الدول. وزاد الأمر سوءا أن قنصلي ألمانيا والنمسا انضما في الرأي إلى قنصلي إنجلترا وفرنسا، فكانت هذه مشكلة جديدة أمام خير الدين في الأستانة؛ إن هو أجاب فقد سمح للدول الأوربية بالتدخل فيما ليس من حقها، وإن هو رفض خشي أن تتجمع هذه الدول وتصمم، وتفعل بالقوة أكثر مما تصل إليها بالمفاوضة، وتقطع العلاقة الباقية بين مصر والدول العثمانية، وتنتهز الفرصة السانحة، فتلتهم إحداها مصر والأخرى تونس ... إلخ.
حار خير الدين طويلا بين الرأيين هو ووزراؤه وسلطانه، أخيرا كان من رأيه أن يطأطئ الرأس قليلا أمام العاصفة، ويشير على السلطان بخلع إسماعيل، ولكن يجب أن يعمل شيئا آخر مع هذا، وهو أن يتلافى الأسباب التي جرت إلى هذا التدخل الأجنبي، فيسلب بعض الحقوق التي أعطيت لخديو مصر، كالاستدانة وعقد المعاهدات مع الدول الأجنبية، فينتهز فرصة عزل إسماعيل لتعديل فرمان مصر. ولكن أبت إنجلترا وفرنسا ذلك؛ لأن هذا يزيد في تبعية مصر للدولة العثمانية، ومن مصلحتهما أن تكون حقوق مصر أوسع وسلطتها أكبر للأيلولة المنتظرة.
وصدر الأمر بعزل إسماعيل، وكثر الأخذ والرد في مسألة تعديل الفرمان حتى خرج خير الدين من الوزارة، فأجابت الوزارة التي وليتها مطالب الدول في إصدار الفرمان المعتاد مع بعض التعديلات. •••
ثمانية أشهر قضاها رئيس وزارة كانت أعباؤها تساوي ثمانين عاما. ولولا ما عهد إليه من حل المشاكل ما بقي هذه الأشهر الثمانية، ففيه من الصفات ما لا يتفق ومزاج السلطان عبد الحميد؛ فهو حر الفكر، واسع النظر، متحمس في تحقيق الإصلاح ، مرهف الحس في العدالة وما يتعلق بها، يرى أنه وقد عين رئيسا للوزراء يجب أن يتحمل المسئولية، فيصرف الأمور كما يرى هو وزملاؤه ليتحمل نتائج رأيه؛ فأما أن يأمره السلطان ويتحمل هو المسئولية فليس حقا ولا عدلا. السلطان يريده عبدا مأمورا، وهو يريد نفسه حرا مسئولا؛ لهذا نفر منه السلطان كما نفر منه الباي من قبل.
وتألب عليه أيضا رجال الدين؛ إذ كره منهم ضيق عقلهم وتعرضهم لما ليس من شأنهم، وتدخلهم في أمور من السياسة لا يحسنونها، وكرهوا هم منه الوقوف أمامهم وضغطه عليهم.
لكل هذه عزل خير الدين بعد ثمانية أشهر في قسوة، وما كان أقرب المأتم من العرس، وأدرك عبد الحميد أن قد خابت فراسته فيه، وظل بعد ذلك نحو عشر سنين في مقاعد النظارة لا يمثل على المسرح شيئا. وكل ما يرى مآس لا ملهاة فيها.
ومات وهو في الأستانة في سنة (1889م / 1307ه) عن نحو سبعين عاما ودفن في جامع أيوب، وخلف تاريخا في الإصلاح حافلا، وكفاحا للفساد طويلا، وذنبه أنه لم يجد مواتيا من الشعب ولا مؤازرا من السلطان.
لقد كان مصلحا اجتماعيا وسياسيا من جنس مدحت باشا، غير أن الفرق بينهما كالفرق بين السيد جمال الدين والشيخ محمد عبده؛ فمدحت يصلح، فإن عجز عن الإصلاح ثار ودبر الانقلاب، وخير الدين يصلح فإن عجز عن الإصلاح رفع يديه إلى السماء وقال: «اللهم إني قد بلغت».
وكانت فضائله التي تكون شخصيته: الجرأة في قول الحق وعمله من غير خوف، وصلابته فيما يعتقده من غير انحناء، وحريته في تفكيره من غير جمود، وقوة كاهله على حمل الأعباء من غير تبرم. فرحمه الله.
لون من ألوان الفكاهة المصرية
امتاز المصريون بالفكاهة الحلوة يتفننون في صنعها، ويتذوقونها ويحتفلون بها. لماذا؟ لا أدري!
كما لا أدري لماذا كانت أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب أحسن الناس غناء دون ملايين المصريين.
ولماذا كانت القاهرة أقدر على هذا الفن من غيرها من مدن الشرق كله؟ لا أدري أيضا. وليست المسألة مسألة تقدم في المدنية والحضارة، فهناك في المدن الغربية ما يفوق مدينة القاهرة مدنية، ولكن لا يجاريها في النكتة. وفي العالم مدن صغيرة فاقت في ذلك المدن الكبيرة كما فاقت مدينة رشيد الصغيرة في ذلك مدينة طنطا الكبيرة.
والفكاهة أشكال وألوان؛ فهناك السخرية بالفكرة، والسخرية بالأشخاص، والتنكيت عن طريق التورية بالألفاظ ... إلخ ... إلخ.
ولوننا الذي نعرضه اليوم لون طريف، له تاريخ لطيف.
فقد حدث في القرن الماضي من سنة (1857) إلى سنة (1863) أن كان في القاهرة شابان موسران من أسرتين كبيرتين يعيشان عيشة بوهيمية، وهما - إلى استهتارهما ومرحهما وإفراطهما في الشراب - أديبان ظريفان، يقرآن الكثير من كتب الأدب، ويعرفان الشعراء معرفة دقيقة، ويتخيران الشعر الجيد يحفظانه ويرويانه، ولهما مجلس ظريف فيه الشراب وفيه الشعر وفيه الفكاهة، هما إبراهيم أفندي طاهر، وعبد الحميد بك نافع. فكان مما خطر لهما أن يستعرضا الأدباء والعلماء في عصرهما، ويخلعا على كل واحد منهما لقبا من ألقاب الأدباء القدماء يناسبه ويلبسه وينسجم معه.
وهي مهمة ليست باليسيرة، فلكل اسم وحيه ودلالته، ولا بد أن يتفق وحي اللقب مع الملقب به اتفاقا بارعا يقابله الجمهور بالضحك والاستحسان؛ فبعض الأسماء لو سمي به كناس كان مناسبا، ولكن لو سمي به أديب أو شاعر أو وزير لم يكن منسجما، وهكذا ... وبعض الأسماء يوحي بالظرف، وبعضها يوحي بالثقل، وبعضها يوحي بالذكاء، وبعضها يوحي بالغباء، وهكذا.
وأثار عملهما هذا ضجة في الأوساط الأدبية، فأشاع فيها الضحك والمرح حينا، والغضب والخصومة حينا، فكانت معركة حامية لطيفة. ونحن نذكر بعض ألقابهما:
كان في القاهرة «علي أغا الترجمان»، وكان عينا من الأعيان، فيه جلال ووقار، بعمامة نظيفة وشيبة ظريفة فسمياه «القاضي الفاضل».
وكان «عبد الله باشا فكري» أديبا ظريفا، رقيق اللفظ، عذب العبارة، سهلا في طباعه، يرسل الحديث على سجيته، والنكتة على فطرته، فسمياه «ابن سهل».
وكان له صديق اسمه «عبد الغني بك فكري» ضخم كبير الرأس، فسمياه «الأخطل». وعرض عليهما «محمود صفوت الساعاتي» الشاعر المشهور، وكان نحيفا قصيرا كثير اللفتات والحركات فسمياه «ديك الجن». وقد غاظه هذا اللقب لما شاع في الناس، وعمل قصائد هجاء في إبراهيم أفندي طاهر.
وكان الشيخ إبراهيم الدسوقي، الأديب المصحح في مطبعة بولاق، طويل القامة، قوي البنية، كبير الهامة، كثير الفكاهة، حلو السمر، يجلس عند الباب الأخضر لسيدنا الحسين ويسمر مع أصحابه، وله ضحكة عالية تسمع من آخر الشارع، فسمياه «مهيار الديلمي». والشيخ «محمد قطة العدوي»، أحد علماء الأزهر، وكبير مصححي المطبعة الأميرية، كان إذا درس تمايل يمينا وشمالا، فإذا قال بيت شعر مال يمينا عند المصراع الأول، ويسارا عند المصراع الثاني، فسمياه «أبو شادوف».
والسيد علي أبو النصر، والشيخ علي الليثي كانا نديمي الخديو إسماعيل، وكانا معروفين بالظرف والتنادر. وكان أبو النصر طويلا جدا، فسمياه «ابن العماد»، وسميا الشيخ علي الليثي «أبو دلامة» إذ كان فكها مضحكا، كما كان أبو دلامة للرشيد. وكان إبراهيم بك مرزوق أبي النفس شجاعا جريئا في قول الحق حتى نفي إلى الخرطوم ومات بها، وكان شاعرا قويا، فسمياه «أبا فراس».
ومحمود سامي البارودي، كان أيام هذه التسمية جميل المنظر، لطيف القد فسمياه «ابن رشيق».
ومحمد عثمان جلال الزجال كان أديبا ماجنا يملأ القاهرة فكاهة، فسمياه «الخليع البغدادي».
والسيد صالح بك مجدي كان شاعرا ، وكان لونه يميل إلى السواد، وفي عينه بعض حول فسمياه «الأحوص».
وإسماعيل أفندي الخربتاوي كان نحيف الجسم جدا من أكل الأفيون، وانحنت قامته وتقرنص، فسمياه «ابن قرناص».
والشيخ عثمان مدوخ صاحب التوشيحات والأزجال كان يمشي كأنه يتدحرج فسمياه «دعبل». والشيخ حسين المرصفي، كان كفيفا نحيفا يتهم بالزندقة، فلقباه «أبا العلاء المعري». ونسيبه الشيخ زين المرصفي كان قليل الكلام فسمياه «ابن السكيت».
ومصطفى كامل أفندي معلم اللغات الشرقية بخان الخليلي، كان قصير القامة، قصير الرجلين بهما اعوجاج فسمياه «العكوك».
والشيخ عبد الهادي الأبياري، كان يداخل الأغنياء ويحب الظهور ويتكلم دائما بنون التعظيم فيقول: قلنا وفعلنا ويضخم العين في نطقه، وأخيرا ولي القضاء في بلدته «برمة» وما حولها، وقد اشتهرت برمة بتفريخ الدجاج فسمياه «قاضي الدجاج».
ومحمد شرارة أفندي كان ينطق بالصاد فيها صفير، فقالا عليه: إنه أفصح من نطق بالصاد وسمياه «أبا الشيص».
وكان للشيخ محمد بخاتي لحية صفراء كبيرة قليلة العرض من بدايتها آخذة في العرض شيئا فشيئا إلى نهايتها، فسمياه «ابن مكانس».
وكان السيد أحمد الرشيدي إمام المعية أبيض اللون له هيبة ووقار غزير شعر الشارب كثيف اللحية يلبس فرجية واسعة؛ فسمياه «هرقل» ... إلخ ... إلخ.
ولما فرغا من منح الألقاب طلب كل منهما من صاحبه أن يلقبه، فلقب إبراهيم أفندي طاهر «بالشاب الظريف»، وعبد الحميد بك نافع «بالصاحب بن عباد» وهكذا ملآ مصر بعلمهما هذا مرحا وضحكا أيام كان الضحك رخيصا.
1
العالم الجديد
ظللنا طول أيام الحرب ننعم بالأحلام اللذيذة لعالم جديد تسود فيه العدالة الاجتماعية في كل أمة مهما صغرت، وكان يؤيد هذه الأحلام تقرير ميثاق الأطلنطي، والنداء بالحريات الأربع، والقول: بوجوب تأسيس نظام العالم على أساس خير من عصبة الأمم ... إلخ.
وكان من الناس في الشرق المتشائم الذي يرى أن مصير هذه النداءات كمصير عصبة الأمم في الحرب الماضية، والمتفائل الذي يرى أن العالم لقي من الكوارث ما لم يره من قبل، وتعلم درسا لم يتعلمه من قبل، فيستنفع به حتما في بناء عالم جديد أساسه العدالة والحرية والحق.
وها هو السلم قد أعلن وأخذ المتشائمون يفخرون بصدق رأيهم وبعد نظرهم؛ فها هي الأمم الصغيرة لا تسمع صوت العدالة يتردد كما كانت تسمعه من قبل، والدول الكبيرة تريد الاستئثار قي الحاضر والمستقبل كما استأثرت في الماضي.
وصح ما كان يقوله العارفون من أن مشاكل السلم أعقد من مشاكل الحرب، وبدأنا نسمع من جديد كلمات جديدة ذات معان قديمة من «وصاية» و«حضانة»، ونسمع أن هناك أمما لا تستطيع السير بنفسها وحمل عبئها والاشتراك في بناء المدنية، فيجب أن يأخذ بيدها من يرشدها إلى الطريق ... إلخ إلخ. •••
الحق أن المشاكل لا تحل، والعالم لا يهدأ، حتى تتغير عقلية الشعوب الكبيرة وعلى الأخص قادتها؛ فالفرد لم يرق إلا يوم تعلم أن الأنانية مفسدة له وأن سعادته مرتبطة بالإيثار، وعلى هذا الإيثار تأسست الأسرة السعيدة والأمة السعيدة. وما يفسد العالم والأمة هو الأنانية في ثوب الوطنية، ونظرة الأمم الكبيرة بعضها إلى بعض، ونظرة الأمم الكبيرة إلى الأمم الصغيرة نظرة ملؤها الأنانية، فهي تريد أن تسود وأن تتحكم وأن تعلو.
وهذا هو أساس الفساد، ولا يصلح هذا الفساد إلا أن يسود القادة شعور بالجمعية البشرية كلها لا بأمتهم وحدها، وأن العدالة حق لغيرهم كما هي حق لهم، وأن العالم وحدة أجزاؤه أفراد أسرة، وأن كل خلاف يحل على هذا الأساس لا على أساس المصلحة الذاتية للأمم، وأن الأمم الكبيرة والصغيرة مسألة عدد وقوة ومساحات. أما في الحقوق والواجبات فلا صغير ولا كبير ولا شرق ولا غرب ولا أسود ولا أبيض، وبدون هذا تبقى الحرب، وتبقى المشاكل، ويبقى اضطراب العالم.
ليس لفشل عصبة الأمم من سبب إلا هذه الأنانية، ونظر بعض الأمم الكبيرة لنفسها فقط دون غيرها، ومحاولة قادتها الفوز باسم الوطنية.
وليس للحروب المتتابعة من علة إلا التسابق في سبيل السيادة والملكية، والغنم في الأسواق الاقتصادية، والنظر إلى الأمور نظرة الأسود الكواسر إلى فريسة تقتنص، وغنيمة تنتهب، مع الأنانية الجشعة، والطمع في الخير العاجل.
خذ - مثلا - حوادث سوريا الدامية: ما أساسها ؟ أساسها أن الجنرال ديجول ورجاله يريدون أن يحتفظوا بمركزهم القديم في سوريا ولبنان، ويقدموا لقومهم عملا عظيما هو أنهم استطاعوا رغم هزيمتهم في الحرب العالمية أن يستعيدوا مجدهم في هذه البلاد. وهي نعرة صحيحة إذا قيست بمقياس الوطنية الضيقة الأفق، وهي مثل النظرات الضيقة التي سببت الحروب بين الأمم. ولكن انظر إلى الأمر في أفق واسع: لماذا لا يكون للسوريين واللبنانيين حرية كالحرية التي لفرنسا؟ لماذا لا ينعمون أو يشقون في بلادهم وأرضهم وعلى يد رجالهم كما يود الفرنسيون ذلك في بلادهم؟ وإذا كانت الوطنية فضيلة للفرنسي فلم لا تكون فضيلة للسوري واللبناني؟ لا فرق إلا أن الفرنسي عنده مدافع ليست للسوري. أفهذا مبرر صحيح لعالم يريد أن يؤسس أموره على العدالة؟ أليس هذا رجوعا إلى تحكيم القوة، ومعنى ذلك الحرب المستمرة؟ إن كان ذلك فلم يخدعوننا في أيام الحرب بما لا ينفذون في أيام السلم؟ أليس مآل هذا أن الشعوب في الأزمات المستقبلة لا تصدق ما يقال، ولا تخدع بما يقال، وتكون حرة بعد في تصرفاتها؟
وفي نظير ماذا هذا الذي حدث؟
الإجابة عن هذا السؤال كالسؤال الذي يسأل: لم كانت هذه الحرب العالمية؟ وأي شيء كسبناه منها؟ وهل شيء كائنا ما كان يساوي الأرواح التي أزهقت والخراب الذي حدث؟ أمن أجل حفنة من الموظفين الفرنسيين في سوريا وسلع فرنسية تباع فيها، ومظهر نفوذ كاذبة تضاع حرية أمة وتسفك الدماء ويخرب البناء، وتنطوي النفوس على الحزازات؟
كل هذه المظاهر وأمثالها مظاهر عقلية قديمة لا تصلح لبناء العالم الجديد. والمصيبة العظمى أن الغرائز البدائية تتكلم ويسمع لها، والعقل لا يتكلم ولا يسمع له!
إن العالم الجديد يريد عقلية على غير هذا الطراز البالي. إن عقلية الفرد ارتقت ولكن عقلية الأمم لا تزال بدائية. كانت عقلية الفرد أنانية فما زالت ترقى حتى رأيناها في أسمى صورها عند بذلها النفس في الخدمة الاجتماعية، والتضحية العامة للأمة والإنسانية، فرأينا الفرد يضحي بنفسه لأسرته ولأمته، ورأينا الفرد يضحي بنفسه للإصلاح الاجتماعي، وللحقيقة يتعشقها، وللبحث عما يخفف آلام الإنسانية ونحو ذلك. هذا كله في عقلية الفرد، أما عقلية الأمم فلم ترتق هذا الارتقاء، بل لا تزال في طور الأنانية كما كان الفرد قديما، فالأمم تحارب دفاعا عن نفسها أو للاستيلاء على غيرها، وتنظر إلى أحداث العالم من حيث نتيجتها في نفسها لا من حيث الحق ولا من حيث العدل ولا من حيث المصلحة الإنسانية العامة، وكل هذه المعاني الأنانية تبلورت فيما يسمى الوطنية، ومصداق ذلك الحروب كلها. فأسبابها إما دفاع الأمة عن كيانها أو رغبتها في توسيع ملكها، وهذه أنانية كأنانية الفرد البدائي في دفاعه عن نفسه وهجومه لجر مغنم لشخصه. أما حرب تقوم انتصارا لضعيف اعتدي عليه أو لحق أهين أو لتحقيق عدالة إنسانية فهذا ما لم نره من الأمم بعد، وهذه هي العقلية الجديدة التي ننشدها في العالم الجديد.
نريد في العالم الجديد عقلية للأمم تشبه عقلية الفرد الراقي، والفرد المضحي، والفرد الذي يعشق الحق ويبذل نفسه دفاعا عنه.
هذه العقلية الجديدة يكون أساسها عند الأمم الخدمة الاجتماعية والتضحية والنظرة الواسعة، هي عقلية تقيس الأمور بالحق العام والعدل الواسع، إذا نظرت إلى الشئون الاقتصادية نظرت إليها نظرة عالمية؛ فالتجارة حرة، والأسواق حرة، والصناعة حرة، وليس يحكمها إلا قانون تنازع البقاء وبقاء الأصلح. أما أن تنظر الأمة إلى نفسها تريد أن تربح هي ويخسر كل الناس فعقلية قديمة كعقلية الفرد يريد أن يغتني الغنى المفرط ولو كان غيره في فقر مدقع. كذلك الشأن في الشؤون السياسية، فالعقلية الجديدة تقول: إذا ظلمت سوريا أو ظلمت مصر أو ظلمت العراق، تحركت الأمم القوية تطالب بالعدالة وتنصر الضعيف المظلوم، وتقتص من القوي الظالم، فلا عبرة عندها بقوة ولا ضعف، إنما العبرة عندها بالحق والحق وحده، شأنها في ذلك شأن القاضي العادل لا يعبأ بفقر الخصم وغناه وجاهه وعدم جاهه، إنما يعبأ بالحق يقضي به. في العقلية القديمة يكون نظر كل أمة إلى نفسها فقط؛ ولذلك ترى العالم قلقا مضطربا مملوءا بالنشاز، والعقلية الجديدة التي نريدها عقلية يكون النظر فيها إلى العالم ككل، ونتيجة ذلك الانسجام بين أجزاء العالم ونغماته، فلا نسمع فيه نشازا، وإن كان قضي عليه في الحال؛ فالانسجام في الأسواق وفي العمل وفي الزراعة والصناعة والسياسة وكل مرفق من مرافق الحياة. العقلية القديمة صيد في الماء العكر، والعقلية المنشودة تعاون في الإنتاج المشروع واستخدام العلم في تحصيل الخير للناس جميعا.
إن شرور هذه الحرب وويلاتها التي لا حصر لها نتيجة هذه العقلية البالية، وستبقى تنتج هذه الشرور وأضعاف أضعاف ما لم تتغير. إنها عقلية لا روح لها ولا قلب، تستبعد الضعيف وتعبد القوة والمال.
إن العالم لا يرقى إلا برقي الأمم، والأمم لا ترقى إلا بسلوك نفس الطريق الذي سلكه الفرد. لقد كان الفرد منحطا يوم كان طماعا منافقا أنانيا ماديا، ولم يرتق من الأفراد إلا من استطاع محاربة الطمع والنفاق والأنانية، فصار سمحا صريحا مؤثرا مضحيا واسع النظر واسع القلب. فكذلك الأمم لا ترقى إلا عن هذا الطريق وعندئذ فقط يولد العالم الجديد.
إن الذي يعوق ولادة هذا العالم الجديد الزعماء الذين بيدهم زمام الأمور، وقد يبست عقولهم من طول إلفها للأنماط القديمة. ولكن العالم لا تقف أمامه الحواجز، فهو يسير رغما عنهم، بل ويكتسحهم، والمستقبل للعقول المرنة التي تدرك سير الزمن فتؤقلم نفسها وفقا لمقتضياته.
ليست هذه الحرب إلا إنذارا بأن العالم القديم لم يعد صالحا، فإن أدرك الزعماء سر إشارته، وإلا فسيكرر الإنذار تلو الإنذار، وكل إنذار يكون أشد مما قبله حتى يعمل الناس بإشارة الزمان، ويعتنقوا العقلية الجديدة التي غايتها وحدة العالم في كل مرافقه والنظرة العالمية لا النظرة القومية.
أغنى الناس ...
أما في نظر مصلحة الضرائب وعند الصرافين، وفي حساب البنوك فأغنى الناس أكبرهم رصيدا، وأكثرهم دخلا وأعظمهم «ورد مال».
ومن أجل هذا يعد أثرياء الحرب من أغنى الناس؛ فهذا مورد بضائع للمراكب كسب مئات الآلاف، وهذا متعهد أنفار أصبحت ثروته تعد بالأرقام الأربعة أو الخمسة، وهذا يقدم للجيش بعض المؤن وأنواع الأغذية قفز دفعة واحدة من فقر مدقع إلى ثراء واسع.
فهؤلاء جميعا وأمثالهم يعدون من أغنياء الناس في نظر الإحصاء، وفي نظر علماء الاقتصاد وفي نظر من يعولون على الدفاتر والسجلات.
ولكن بجانب هؤلاء العدادين قوم آخرون يسمون الأخلاقيين أو الفلاسفة، لا يقدرون المال بعدده ولكن بقيمته، ولا يقدرونه بالقدرة على الشراء ولكن بقدرته على الإسعاد، ولا يقدرونه بالرصيد ولكن بمقدار الانتفاع به، فقد تكون ألف جنيه في يد رجل مصدر شقائه، وعشرة جنيهات في يد رجل آخر مصدر سعادته، فهم يعدون الثاني ذا العشرة أغنى من الأول ذي الألف.
وقد يعد بعض الناس هؤلاء الأخلاقيين أو الفلاسفة طائفة من الخيالين أو المغفلين، ولكن - مع الأسف - نظرتهم هي الصادقة، على الأقل في نظري.
فكم من ثري حرب تدفق المال على يديه من غير حساب، وضعف عقله من غير حساب أيضا، فكان المال في يده ليس إلا وسيلة لأن يلهو من غير قيد ولا شرط، ويسرف في الخمر والنساء والقمار؟ فيفقد أسرته وأولاده ونفسه وصحته، ويكسب شهوة وقتية سريعة الزوال، وهذا هو كل نتيجة الثروة، أو أن يشيد قصرا فخما ويزينه بالأثاث الفاخر والخدم والحشم، ويتزوج زوجة جديدة مناسبة للقصر الجديد، ويقيم الولائم تزخر بالمأكول والمشروب، ولكن كل هذا طلاء ظاهر، ولا ذوق يتذوق جمال القصر وأثاثه، ولا عقل يستمتع بهذا النعيم، وإنما هو مظهر ورياء ونعيم كنعيم البهيم، ولذة كنار الهشيم، تشتعل سريعا وتنطفئ سريعا؛ وآخر من أثرياء الحرب رأى المال يتكاثر عليه فجن به جنونه، ونما عنده الحرص والطمع إلى درجة الشره، وانقلب المال في نظره من وسيلة للسعادة إلى مقصد يطلب لذاته. فأصبحت حياته كلها موجهة إلى جمع المال وادخاره وكنزه، فعاش في الواقع هو وأهله أفقر مما كانوا قبل أن يغتني، ولم يزد عليه إلا أعباء المال الثقيلة والتفكير العنيف في كيفية استغلاله والمحافظة عليه. وغير هؤلاء أشكال وألوان كلهم في الشقاء سواء.
من أجل هذا جاء هؤلاء الأخلاقيون والفلاسفة (المغفلون!) وقوموا المال تقويما آخر بمعناه لا بعدده، وبكيفيته لا بكميته، وهؤلاء إذا سألتهم عن أغنى الناس أجابوا إجابة أخرى تختلف عن الإجابة الأولى كل الاختلاف. قالوا: أغنى الناس من منح الصحة في جسمه وعقله ونفسه - واستطاع أن يكون حوله أسرة يسعد بها وتسعد به، ويعرف كيف يسعد في أسرته إذا نال الضروري من المال أو تدفق عليه المال، عنده من المرونة ما يستطيع بها أن يكيف نفسه حسب ظروفه المحيطة به، لا يغرقه الحزن فيختنق منه، ولا يطغيه السرور فينسى ما يجب عليه، ذو عقل مثقف يجد اللذة في المعاني كما يجد اللذة في المادة، يرى من ضرورات الحياة أن يكون في بيته مكتبة لغذاء عقله وعقل أسرته كما في بيته «مطبخ» لتغذية معدته وعدة أسرته، فإن حرم الكتاب كان كمن حرم الطعام، له وجبة عقلية كما له وجبة غذائية؛ لذلك لا يستوحش من الوحدة إذا كانت ؛ لأن بين يديه عقولا كثيرة تحدثه، ولا يسأم من الجمعية إذا كانت؛ لأن عقله يجد فيها مادة لتفكيره وغذائه. عقله الواسع ونفسه الواسعة يوسعان عليه دنياه فلا يشعر بضيق كالذي يشعر به من قصر نفسه على اللذائذ المادية؛ لأن اللذائذ المادية قصيرة الوقت داعية السأم والملل؛ لقلة تنوعها وزهادة للنفس منها إذا أفرط فيها كما تزهد الحلوى إذا كثر سكرها.
قد منح - إلى عقله الراقي - ذوقا راقيا يدرك الجمال ويسر به وتتفتح نفسه له، يعشق الورد الجميل والبحر الجميل والمنظر الطبيعي الجميل وكل شيء جميل، ويرى أن حاسة الجمال حاسة سادسة من فقدها كان كمن فقد بصره الذي يبصر به، وسمعه الذي يسمع به، فكان هذا مصدر متعة كبيرة في حياته.
ينظر إلى الدنيا نظرة اطمئنان، لا جازعا على ما فات، ولا شديد التطلع لما هو آت، ولا مزهوا بما كان في يده، يعمل ما استطاع لتحسين حالته، وللخير الذي ينشده، وللرقي الذي يصبو إليه، ولكن إذا بذل كل جهده في اطمئنان، فلا عليه بعد ذلك أن تكون النتيجة ما تكون.
وهو فوق سعة عقله ورقة ذوقه وطمأنينة نفسه قد منح شيئا أهم من ذلك هو سعة قلبه. وسعة القلب معناها قلب يشع بالحب على كل شيء، ويشع كل شيء عليه حبا، فهو كما وصفه ابن المعتز:
قلبي وثاب إلى ذا وذا
ليس يرى شيئا فيأباه
يهيم بالحسن كما ينبغي
ويرحم القبح فيهواه
يحب الجار والصديق والطفل والحيوان، والجنس غير جنسه، والأمة غير أمته، فهو كما يقول الصوفية: «أحبوا الله فأحبوا ما خلق»، حتى الأعداء فهمهم فرحمهم فأحبهم.
في هذا القلب الواسع مكان لكل رأي ولو خالف رأيه، ولكل نظرة ولو خالفت نظرته، وفيه مكان للغد كما فيه مكان لليوم، ولكن ليس فيه مكان للخوف؛ فهو مميت كالسم، وليس فيه مكان للشك فهو مظلم كالليل.
ضيق القلب يستوجب الحرب، وسعة القلب تستوجب السلم.
ضيق القلب يستنزف الدموع وسعة القلب تجففها.
إن ثري الحرب وأمثاله من الأثرياء ممن منحوا مالا ولم يمنحوا عقلا ولا ذوقا ولا قلبا، يعيشون في أكواخ من أنفسهم ولو سكنوا في أفخم القصور، ويعيشون في ظلمة من قلوبهم ولو أضيئت مساكنهم بأقوى الأضواء.
فقيراط من رقي عقل ورقة ذوق وسعة قلب، خير من فدان من ثراء الحرب.
اصنع حياتك
كل إنسان في هذه الحياة قادر - إلى حد ما - أن يصنع حياته؛ فقيرة أو غنية، خصبة أو مجدبة، سعيدة أو شقية، باسمة أو عابسة ... نعم إن للوراثة والبيئة دخلا في تحديد حياته، فهو - إلى درجة كبيرة - ذكي أو غني بالوراثة، قوي الأعصاب أو ضعيفها بالوراثة، وهو ناشئ في وسط فقير أو غني بالبيئة، معتاد عادات حسنة أو سيئة بالبيئة وهكذا، ولكن إرادة الإنسان وعزمه وهمته وتربيته نفسه قادرة قدرة كبيرة على التغلب على عقبات الوراثة والبيئة. نعم إنك لا تقدر أن تكون في الذكاء قوة مائة إذا خلقت وذكاؤك قوة عشرين، ولكنك قادر أن تستعمل ذكاءك المحدود خير استعمال حتى يفيد فائدة أكثر ممن ذكاؤه مائة إذا أهمل، كمصباح الكهرباء إذا نظف، وكانت قوته عشرين شمعة كان خيرا من مصباح قوته خمسون إذا علته الأتربة وأهمل شأنه؛ ونعم إنك لا تقدر أن تساير أبناء الأغنياء في ملبسهم ومأكلهم ومركبهم، ولكنك تستطيع أن تعيش عيشة نظيفة وصحية بدخلك القليل حتى تفوق الغني في مظهره البراق إذا لم يسر على قوانين العقل والصحة، وهكذا.
إذن فالوراثة والبيئة لا تعوقان الإنسان عن إسعاد حياته إذا منح الهمة وقوة الإرادة والتفكير الصحيح، ومجال القول في ذلك فسيح، ولكني أقتصر هنا على بعض هذه المبادئ.
أول نصيحة لك ألا تيأس، وأن تتوقع الخير في مستقبلك، ولا تقطب وجهك زاعما أن الخير منحه غيرك وليس منه نصيب، ووسع أفقك واعتقد أن العناية الإلهية لن تحرمك الخير في مستقبلك، فاعتقادك أن لا مستقبل لك ولا أمل في حياتك، وأن لا خير ينتظرك سم قاتل يضني الإنسان حتى يميته - وعلى العكس من ذلك توقعه الخير وأمله في الحياة يوسع أفقه، ويحمله على أن يوسع معارفه في الحياة، وعلى الجد فيما اختاره لنفسه من صنوف العيش، وعلى استعمال المادة التي في يده خير استعمال.
لا تتعلل بأنك لست نابغة، ولا أن الظروف لا تواتيك ونحو ذلك؛ فالعالم لا يحتاج إلى النوابغ وحدهم، والنجاح ليس مقصورا على النابغين وحدهم، وبذرة الجوافة ليس من حقها أن تطمح في أن تكون شجرة مانجو أو شجرة تفاح، ولكن ما ضرها أن تكون شجرة جوافة حلوة لذيذة، والحياة تتطلب الجوافة كما تتطلب المانجو والتفاح؟
إن كثيرا من الشبان يعتقدون أن هناك من منحوا قدرة على التفوق من غير جهد، وعلى الإتيان بالعجائب من غير مشقة، وعلى قلب التراب ذهبا بعصا سحرية، ولكن كل هذه أفكار عائقة عن العمل وعن النجاح.
كل من ساروا في طريق العمل بدءوا حياتهم بنوع من الغموض والشك والظلام، ولكن من نجح منهم إنما نجح؛ لأنه بعد أن بدأ حياته أحس أن في يده مصباحا من نفسه يضيء له الطريق ويستحثه على السير، وكلما تقدم إلى الأمام خطوة استحثه عزمه على متابعة الخطى في غير خوف ولا ملل، ومتى أراه مصباحه أنه سائر على هدى وعلى صراط مستقيم لم يتشكك في سيره، ولم يتعجل النجاح ، واستمر في طريقه حتى يبلغ الغاية.
وخير وسيلة للنجاح في الحياة أن يكون للشاب مثل أعلى عظيم يطمح إليه وينشده، ويضعه دائما نصب عينيه، ويسعى دائما في الوصول إليه: أن يكون عالما عظيما أو تاجرا عظيما أو صانعا عظيما أو سياسيا عظيما، فمن قنع بالدون لم يصل إلا إلى الدون. ونحن نشاهد في حياتنا العادية أن من عزم أن يسير ميلا واحدا أحس التعب عند الفراغ منه، ولكن من عزم أن يسير خمسة أميال قطع ميلا وميلين وثلاثة من غير تعب؛ لأن غرضه أوسع وهمته المدخرة أكبر.
إنا نشاهد أن كل من رسم لنفسه غرضا يسعى إليه، وأخلص له واستوحاه واجتهد في الوصول إليه نجح في حياته، ولو لم يدرك الغاية كلها أدرك جانبا عظيما منها.
أكبر أسباب فشلنا أننا نخلق لأنفسنا أعذارا وأوهاما وعوائق حتى تكون لنا سدا كبيرا كسد الصين؛ حجارته أحيانا سوء الظن، وأحيانا تخذيل النفس، وأحيانا الشك في النتيجة، وأحيانا الخوف من الفشل، وأحيانا الكسل، إلى غير ذلك من أسباب، ولا تزال هذه الأحجار تتراكم حتى يحجب السور الشمس عن أعيننا، فلا نرى خيرا ولا نرى غاية.
ليس الإنسان إلا بذرة أو نبتة تسعى دائما للخروج إلى الشمس والهواء الطلق، وثمرتها إنما تثمر بحظها من هذين، وبذرة الإنسان يقضى عليها بهذه العوائق التي ذكرنا فلا تثمر.
إن هذا المثل الأعلى الذي يجب أن ينشده الشباب يجب ألا يكون المال وحده لو من طريق التحايل والمكر، واستغلال الآخرين لمصلحته وابتزاز الضعفاء لشخصه، فتلك وسيلة من الوسائل الحقيرة، والنجاح المؤسس على هذا نجاح حقير رخيص؛ إنما النجاح الحق أن يجمع - إلى نجاحه في عمله - نبله في خلقه وصدقه وأمانته في نفسه وعطفه وتسامحه وبره بالضعفاء وذوي الحاجة، فلم يخلق الناس حوله ليكونوا مادة لاستغلاله، إنما خلقوا ليتبادل معهم المنافع والخير العام.
إن مما يؤسف له أن نرى الآن موجة تطغى على الناس أن يقيسوا نجاح الشخص بما حصله من مال؛ فالموظف مقدار نجاحه الدرجة التي نالها، والتاجر ما كسب في تجارته من غير سؤال دقيق عن الوسائل التي استخدمها في حصوله على هذه الدرجة، ووصوله إلى هذا المال، أبالملق والخداع والحيل وقول الزور والبهتان وضياع المبادئ أم بغير ذلك؟ أبالتلاعب في التجارة واستغلال الضعفاء، وانتهاز الفرص أم بغير ذلك؟ إن كان الأول فليس في الحقيق نجاحا، إنما هو نجاح إذا سمينا السارق لا يضبط بجريمته ناجحا. فالحصول على المال والدرجة وحده لا يكفي ما لم نقف طويلا ونتساءل عن الوسائل التي استخدمها في الحصول على غرضه؛ أوسائل شريفة؟ فذلك النجاح، أو وضيعة؟ فلا نجاح. بل إن الشخص إذا رسم مثله الأعلى في النجاح مع الأخلاق، وسار عليها ثم لم يصل إلى غايته ولم يدرك بغيته خير ألف مرة للمجتمع ممن جعل كل غرضه المال مهما تخطى في سبيل ذلك رقاب الناس .
ليس الإنسان حيوانا آكلا شاربا فحسب حتى يقدر نجاحه بمقدار ما يحصل من مال يأكل به أفخم الأكل، ويشرب به أعذب الشراب، إنما الإنسان فوق ذلك إنسان يستمتع بحب الخير، وإدراك جمال الدنيا وجمال الأفعال ويشعر بالسمو.
إن الغنى إذا طلب يجب أن يطلب بجانبه غنى النفس، وتسليحها بحب الخير والعمل للخير. وما قيمة أموال تكدس وذهب وأوراق مالية تجمع إذا صحبها فقر النفس؟ إن غنى النفس في حب التسامي وحب الخير وحب الرحمة وحب تقديم الخير والأخذ بيد الضعيف وذوي الحاجة. هذا هو الغنى الدائم، أما غنى المال فغنى بائد.
لست أريد أن أثبط الشباب عن الرغبة في النجاح المادي من رغبة في وظيفة راقية، أو تجارة ناجحة أو عمل يدر الربح، فذلك مطلب مشروع، ويجب أن يكون، ويجب أن يحارب الزهادة في الحياة، والرضا بالدون من العيش، والميل إلى الكسل والخمول، والارتكان على الحظ والقدر. إنما الذي نريد أن نقوله إن ذلك لا يكفي ما لم يدعم بالخلق، ولا يصح مطلقا أن تطغى الرغبة في المال على الرغبة في الخلق والسمو النفسي ومحاسبة النفس على الوسائل التي نحصل بها المال.
ومن أهم الأمور في تكوين حياتك وصنعها ثقتك بنفسك، واعتقادك فيها أنها صالحة للحياة قابلة للنجاح. ولا أضر على الإنسان من احتقاره نفسه واعتقاده عجزه. وبعض الناس مصابون بهذا المرض، يعتقدون في أنفسهم أنهم لا شيء وأن لا قيمة لهم، وأن لا أمل في نجاحهم؛ إما لأنهم ولدوا فقراء؛ وإما لأنهم ليسوا من بيوت كبيرة، وهذا أكبر خطأ يرتكبونه نحو أنفسهم - ومن المسئولين عن هذا خطباء المساجد والوعاظ؛ فإنهم يجتهدون أن يحقر الإنسان من نفسه ويعتقد أنه لا شيء، مع أن الأمة لا تحيا ولا تتقدم إلا إذا وثق أفرادها بأنفسهم. والقرآن نفسه بث روح الثقة بالنفس والاعتزاز بالأمة فقال:
كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله .
وضعف الثقة بالنفس يقتل طموحها ويقتل استقلالها ويفقدها حياتها. ومن طبيعة الناس أنهم يحتقرون من احتقر نفسه، ويدوسون بأقدامهم من استذل، ومن عادتهم أن يحترموا من احترم نفسه، ويثقوا بمن وثق بها ويعاملوا معاملة الإنسان من تذكر دائما أنه إنسان، غاية الأمر أن الإنسان كثيرا ما يخلط بين الثقة بالنفس واحترامها وبين الكبر والغرور. الثقة بالنفس اعتقادك بقدرتك على ما تتحمله من أعباء وما تلتزمه من واجب، ومعرفتك الصحيحة بنفسك ونواحيها الجيدة، والكبر والغرور تعظيم نفسك أكثر مما تستحق، والمطالبة بالجزاء من غير عمل، وخداع الناس بالمظاهر الكاذبة من غير أن تكون لك قيمة حقيقية.
ثقتك بنفسك واحترامك لها من غير كبر وغرور أحسن تأمين على الحياة ضد الوقوف في المواقف الخسيسة، وضد أعمال النذالة.
بعد أن يكون لك مثل أعلى تنشده وتعمل للوصول إليه، وبعد الثقة بنفسك واحترامها، اجتهد أن تبسم للحياة؛ فالابتسام للحياة خير دواء للعقل وخير علاج لاحتمال المتاعب إن أعيته، والابتسام للحياة يضيئها، فإن رأيت عابسا فلا بد أن يكون هناك من أخطأ في تربيته من آبائه أو مدرسيه. وقد أرتنا التجربة أن الفرحين المستبشرين الباسمين للحياة خير الناس صحة، وأقدرهم على الجد في العمل وأقربهم إلى النجاح وأكثرهم استفادة وسعادة مما في يدهم ولو قليلا. ومن أكبر النعم على الإنسان أن يعتاد النظر إلى الجانب المشرق في الحياة لا الجانب الظلم منها. إن العمل الشاق العسير يخف حمله بالطبع الراضي والنفس الفرحة. قيل لشيخ هرم: إنك في ظل السبعين من السنين، قال: لا، ولكني في الجانب المشمس من الحياة. إن الباسم للحياة يرى الجانب المشمس منها، والمتشائم لا يرى إلا الجانب المظلم، فعود نفسك هذه العادة، وانثر الأزهار باسما على كل من عاملته، ولا تنظر للحياة من خلال نظارة معتمة.
توسيع أفقك وتحديد مثلك عاليا وطموحك أن تكون عظيما، ثم ثقتك بنفسك واحترامك لها في غير كبرياء وغرور، ثم تفاؤلك وابتسامك وسرورك هي الخيوط التي يجب أن تنسج منها حياتك، وما أحسنه من نسيج، إنك إن فعلت كان ذلك خيرا لك ولأمتك، وكان ذلك نجاحا عظيما ولو لم تكسب مالا كثيرا ، فما قيمة المال إذا لم تكن سعادة؟ وما قيمة النجاح إذا لم يكن خلق؟ وما قيمة الدنيا إذا عبست في وجهها دائما؟
الرأي العام
الرأي العام رأي الأمة، رأي الشعب، رأي الجمهور، فإذا كان أغلب الناس يرى الدخول في الحرب أو عدمه قلنا: إن هذا هو الرأي العام للأمة، وإذا كان الناس يرون أن نظام التموين في البلاد صالح أو غير صالح قلنا: إن هذا هو الرأي العام للأمة، وإذا كان الناس يمجدون شخصا سياسيا أو يحتقرونه قلنا: إن الرأي العام يمجده أو يحتقره. وللرأي العام هذا سلطان كبير وخاصة في الحكومات الديمقراطية، فكل حكومة تعتمد على الرأي العام الممثل في البرلمان في بقائها في كراسي الحكم، وكل رجل يقوم بعمل عام كمدير السكة الحديدية أو التلغرافات أو مدير بنك أو نحو ذلك يعتمد على الرأي العام والثقة به، وإلا ما بقي في مركزه. فلو غضب جمهور الناس على مدير بنك أو مدير مصلحة أو أي قائم بعمل عام كان من الصعب أن يستمر في عمله في الحكومات الديمقراطية، بل كثير من الأعمال الحرة أيضا محتاج لرضا الرأي العام عنه كالصحافة وكالأدباء وأصحاب الشركات وغيرهم، لا بد لنجاحهم في الحياة من رضا الرأي العام عنهم.
والسبب في هذا أن للرأي العام سلطانا كبيرا، يستطيع أن يرفع وأن ينخفض، وأن يولي وأن يعزل، ذلك لأن الناس في طبعهم رغبتهم في رضا من حولهم عنهم، وخوفهم من سخط الناس عليهم؛ فنحن في كل حياتنا اليومية نراعي رغبات الناس كما نراعي رغباتنا، نلبس ما يعجب الناس ونخشى أن نخرج من البيت من غير طربوش، ومن غير رباط رقبة خوفا من نقد الناس، ونقيم الأفراح والمآتم إرضاء للناس، ونجتهد في كل أعمالنا أن نرعى خواطر الناس، ونتجنب الأعمال التي تجعلهم يسيئون الرأي فينا. وما الملق والرياء والنفاق إلا وسائل مصطنعة للتحبب إلى الناس، وكسب رضاهم عن طريق الخداع. والرأي العام يتسلط على الناس ويوجههم ويخيفهم أكثر مما يفعل القانون.
وهذا الرأي العام شأنه شأن رأي الفرد؛ قد يكون قويا وقد يكون ضعيفا، وقد يكون راقيا وقد يكون منحطا، وقد يكون جاهلا وقد يكون مثقفا.
هناك رأي عام ضعيف مريض جاهل لا يمقت الكذب ولا الكاذب، ولا يكره الظلم ولا الظالم، وحينئذ ينتشر الكذب والظلم في الأمة؛ لأن الكاذب أو الظالم لا يردعه الاحتقار من الرأي العام. الأمة التي تحترم الظالم ولا تسمعه كلمة سوء ولا تزدريه ولا تشعره بكراهيتها له، رأيها العام ضعيف مريض، وهي تستحق ما يجري عليها من ظلم، والأمة التي تكره الظلم وتعبر عن كراهيتها باحتقار الظالم وإهانته، أمة ذات رأي عام قوي لا يمكن أن يستقر فيها الظلم.
تصوروا قرية عددها خمسة آلاف نفس - مثلا - إن كانوا يخضعون لظلم العمدة، ولا يقولون له كلمة تدل على كرههم لظلمه ولشخصه، ويرونه يرتشي ثم يسكتون عنه، ويرونه يسلب الضعيف حقه ثم هو يسمع كلمات المدح والثناء؛ فهذا رأي عام ضربت عليه الذلة والمسكنة. وأي شيء يردع العمدة عن استمراره في ظلمه ورشوته؟ وتصوروا هذه القرية لا تقر ظلم العمدة، وإذا ظلم قالوا له: أنت ظلمت، واحتقروه لظلمه وسمع منهم كلمة الذم والكراهية، إنه سوف يعدل عن ظلمه، وإذا استمر لا يمكن أن يبقى عمدة مع كراهية أهل البلدة له إذا كانت هذه الكراهة مصحوبة بصراحة.
وكذلك شأن العمد مع المأمورين، والمأمورين مع المديرين، والناس مع الحكومة، لا يبقى الظلم مع قوة الرأي العام، وهذا معنى الحديث: «كما تكونوا يولى عليكم».
الرأي العام إذا كان مغفلا جاهلا استطاع المهرجون أن يضحكوا من عقله، والمزيفون أن يخدعوه بألاعيبهم وحيلهم كما يخدع «الحاوي» المتفرجين، وكما يخدع الماكر الأطفال. ولكن إذا كان الرأي العام متنورا قاس الأشياء بالمنطق السليم، ووزن الرجال بأعمالهم النافعة لا بأقوالهم المهرجة.
الرأي العام الجاهل يخدع بكثرة الكلام، وكثرة الوعود، وبالملق، والرأي العام المتنور، إنما يقوم الساسة والقادة بعملهم ونفعهم وجدهم لا هزلهم.
الرأي العام الجاهل فاسد التقويم يقوم الرجل بملابسه وبغناه وبمظهره، ويقوم الأشياء بظواهرها. والرأي العام المتنور يحسن تقويم الرجال والأشياء فيقومها بحقيقتها. والرأي العام الجاهل يتنازع على المسائل الحزبية والمسائل التافهة حتى في أحرج الأوقات. والرأي العام المستنير يعرف كيف يدفن خصوماته، وينسى أحقاده عندما يجد الجد مراعاة للمصلحة العامة. هذا الرأي العام شأنه شأن الفرد، فرأي الفرد قد يكون ضعيفا فيقوى، وقد يكون جاهلا فيستنير، وقد يكون مريضا فيصح. هذا هو الطفل آراؤه سطحية فإذا تعلم وجرب ارتقى عقله وصح حكمه على الأشياء.
كذلك الرأي العام الجاهل يمكن ترقيته وإنارته. ووسائل ترقيته أمور: أهمها تعليمه وتثقيفه ومكافحة الأمية عنده؛ لأن الرأي العام هو مجموع رأي الأفراد في الأمة. ومن غير شك رأي الجهلاء أقل شأنا من رأي المتعلمين، ولا شيء أضر على الرأي العام من الجهل. فإذا كان في الأمة نحو ثمانين في المائة لا يقرءون ولا يكتبون كان الرأي العام فيها ضعيفا غير مستنير، يعيش في أفق ضيق ويفهم الأمور فهما سقيما، ولا يستطيع أن يبدي رأيا صالحا في حياته الخاصة فضلا عن الحياة العامة، ولا يتجلى فيه الشعور بالقوة والكرامة؛ لأن العلم هو مبعثهما. الأمي لا يستطيع أن يستنير بكتاب ولا بصحافة ولا يتصل بالأمة وشؤونها إلا من طريق ضيق فاسد كالإشاعات والروايات الكاذبة؛ ولذلك كان من السهل أن يضلل وأن يستهوى وأن يغرر به؛ فإذا أردنا تنوير الرأي العام فلا بد أولا من مكافحة أميته، وليست مكافحة الأمية معناها تعليمه القراءة والكتابة فقط، بل تثقيفه أيضا بالقدر الضروري من الثقافة في الشؤون العامة الصحية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية. وكلما قل الأميون والجاهلون في أمة، صلح الرأي العام.
كذلك من أهم وسائل إصلاح الرأي العام الصحافة من جرائد ومجلات مصورة وغير مصورة، سياسية وغير سياسية، ففي يد الصحافة سلطة كبيرة على الرأي العام وتوجيهه، فهي تستطيع أن تمده بالمبادئ المستقيمة والمعلومات القيمة، وتحسين الحسن وتقبيح القبيح، وتشجيع الخير وتثبيط الشر، كما أنها إذا ساءت أفسدت الرأي العام بما تنشر من مهاترات شخصية أو توسيع الخلافات الحزبية أو تشجيع الظلم أو استغلال الغرائز الجنسية للمصلحة التجارية أو نحو ذلك - فالصحافة السليمة ترقي الرأي العام، والصحافة المنحطة تفسده - ولكن مع الأسف حتى الصحافة الصالحة تصطدم بالأمية؛ لأن الأمية لا تستطيع أن تستفيد من الصحافة؛ ولذلك كان تأثير الصحافة عظيما جدا في الأمم القارئة ضعيفا في الأمم الأمية.
ومن وسائل ترقية الرأي العام الإذاعة؛ ففي يدها إذا صلحت أن تذيع آراء المحاضرين القيمة بلغة سهلة يشترك في فهمها كل الناس، وفي الموضوعات المناسبة للجمهور في الأخلاق والصحافة وكافة شئون الحياة - وهي أقدر على ذلك من الصحافة؛ لأن لكل إنسان أذنا تسمع، ولكن ليس لكل إنسان عين تقرأ. بل هي كذلك ترقي الذوق العام بموسيقاها وأغانيها، ولكن إذا نزلت الإذاعة إلى مجرد ما يعجب الجمهور من غير أن تأخذه بيده وترقى به، أو فهمت رسالتها على أنها شركة تجارية أو هيئة للدعاية أو نحو ذلك لم تحقق الغرض منها. فإن رسالتها الحقة التي يجب أن تكون هي تنوير الرأي العام، وترقية الذوق العام والقيام بما تقوم به مدرسة شعبية لتثقيف أكبر عدد ممكن من الشعب.
كذلك يقوى الرأي العام أو يضعف بكل ما يحيط به من بيئة اجتماعية. فالخطب في المساجد وأقوال الوعاظ والمرشدين تصلح الرأي العام إذا صلحت، وتفسده إذا فسدت. والإدارة التي تحيط بالناس من عمدة ومأمور ومدير وبوليس وقضاء وأداة حكومية، كلها تصلح الرأي العام بمقدار ما تنشره من عدالة، فإذا فسدت أفسدته - كذلك البيئة الاقتصادية، فانتشار الفقر يمرض الرأي العام ويضعفه، والفروق الكبيرة بين الطبقات تجعل سواد الناس متخلقين بأخلاق العبيد. ولا شيء يفسد الرأي العام كوقوعه في أسر الفقر وأسر الرق والذل والعبودية.
إن الرأي العام أكبر سلطان في الأمة، ولا يتم إصلاح حقيقي بدونه، وكل إصلاح من غير اعتماد عليه موقوت وعرضة للزوال. وكل نظام وكل تشريع مهما كان صالحا لا ضمان له ما لم يدعم بالرأي العام.
الرقي العقلي
1
مر على الإنسان دور كان يعتقد فيه أن الأشجار والبحار والأنهار والسماء والأرض مشخصات، لها إرادة ترضى وتغضب وتعطي وتحرم ونحو ذلك - ولا يزال إلى الآن بعض المتوحشين إذا رأوا شجرة كانت تثمر ثم لم تثمر اعتقدوا أنها غاضبة، فاجتهدوا أن يسترضوها، فعلقوا عليها أنواعا من الزينة، وقدموا إليه نوعا من الطعام والشراب حتى ترضى وتثمر.
ويحكون أن أحد الملوك الأقدمين أمر أن يقدم إلى البحر شيء من النبيذ ليسترضيه حتى إذا ركب البحر ركبه في أمان، ولما اعتدى البحر مرة على مراكبه أمر جنوده فجلدوه ثلثمائة جلدة.
وهكذا نجد بقايا هذه العقيدة عند الأمم المتحضرة اليوم، فنجد شجرة من الأشجار يتبرك بها لاعتقادهم قدرتها على النفع والضرر، ونجد «بوابة المتولي» في القاهرة تعلق عليها الخرق والشعور لتمنح البركة لأصحابها، وكذلك نرى عقائد الناس في الخرز و«طاسة الخضة» ونحو ذلك - كل هذا بقايا من عقائد الإنسان الهمجي يوم كان يشخص الأشياء وينسب لها قدرة وإرادة.
كذلك كانوا يعتقدون أن السماء إله من الآلهة؛ تغضب وترضى، وتصادق الإنسان أحيانا وتعاديه أحيانا، فالعواصف الشديدة والمطر الغزير عند عدم الحاجة إليه والرعد والبرق علامة من علامات غضب السماء، وكذلك خسوف الشمس وكسوف القمر، ولذلك يلجئون إلى المعابد يستغفرون مما فعلوا، ويهللون للشمس والقمر حتى يزول الخسوف والكسوف، ويبتهلون إلى السماء أن ترفع عنهم غضبها . وكان عند اليونان والرومان «جوبيتر» «وزيوس» هو إله السماء الذي يغضب ويرضى، ويثيب بالجو الجميل والصحو والهواء العليل، ويعاقب بالرعد والبرق والعواصف.
ومن هذا القبيل الخرافة المصرية المشهورة، وهي أن قدماء المصريين كانوا يقدمون للنيل عروسا كل عام حتى يرضى ويفيض، وإلا غضب ومنع فيضانه.
والناس في الغرب والشرق كانوا يعتقدون في السحر وفي السحرة، وأن لهم قدرة فائقة على إيقاع الشر بالناس وإغراق المراكب في البحار، وتحويل الإنسان إلى كلب أو قرد. وفي سنة 1510 قبض على خمسمائة شخص في جنيف في سويسرا وقتلوا بدعوى أنهم سحرة. ولا يحصى عدد من قتل بأسبانيا في أثناء محاكم التفتيش لاتهامهم بأنهم يسحرون، وكثيرا ما رموهم في البحر ليغرقوهم، فإذا أبدوا مهارة في العوم استدلوا بذلك على أنهم سحرة، وأحيانا كانوا يسيرونهم على حديد محمي، فإذا مهروا في السير عليه قتلوا لأن هذا دليل السحر، وإذا خابوا ماتوا بالنار. وهكذا كانوا يعتقدون أن أكثر أمراض الناس وفساد الزراعة وحوادث الطبيعة من زلازل وبراكين وعواصف كلها من علم السحر أو من غضب الآلهة.
وأخيرا جدا في القرن السادس عشر والسابع عشر أخذ العقل يرتقي، وبدأ يقضي على هذه الخرافات.
فبدأ العلماء - مثلا يؤلفون الكتب الزراعية يبينون فيها أن فساد الزراعة إذا حدث، فإنما يحدث لأسباب طبيعية تتعلق بطبيعة الأرض أو الجو أو الحشرات أو نحو ذلك، وبدءوا لا يخشون البحار ولا يرون فيها جنا ولا عفاريت، وأن حدوث ما يحدث لعوامل طبيعية ينبغي تحديدها والاجتهاد في التغلب عليها، وأن الأمراض لها أسباب معقولة تعالج بالأطباء والعقاقير والعمليات الجراحية. وعلى العموم بدأ الناس يعتقدون أن العالم مسير بقوانين طبيعية سنها خالق الكون، وأن الإنسان يستطيع أن يفهمها، وأن يسخرها لمصلحته إذا هو فهمها وأطاعها بعد أن يكتشفها.
وبدأ الناس يتحررون من الآراء الخرافية، ويبنون حياتهم على العلم وربط السبب بالمسبب. فمعرفة الأرض وطبيعتها والحشرات والأغذية يتصل لا محالة بالمحصول. ومن يوم أن تقدم العلم الزراعي زاد محصول الأرض وتضاعف، والبلاد المتأخرة في العلم لا زالت أرضها لا تنتج ما ينبغي؛ لأنها لا تزال على عقائدها الأولى في التخريف والجهل.
وقد قرأت أن عالما زراعيا عين مديرا لمقاطعة، فوجد أهلها فقراء بؤساء لا يجدون من الغذاء ما يكفيهم؛ لأنهم اعتادوا أن يزرعوا الأرض سنة ويتركوها سنة، فأبان لهم أن ليس من المصلحة ولا من الضروري تركها بورا سنة، وإنما يمكنهم أن يزرعوها كل سنة ويحسنوا الأرض بتغيير نوع ما يزرع، وبهذا تحسن الأرض ويزيد المحصول، ففعلوا، وقد تركهم بعد إقامته بينهم سنين وقد تضاعفت ثروتهم وحسن حالهم، ووجدوا ما يأكلون ووجد بينهم أغنياء يزيد المال عن حاجتهم.
وهكذا يمكن العلم أن يحسن المحصول، وأن يزيد الثروة وأن يزيل الفقر والبؤس. خذ مثلا آخر: كان عند عامة الناس طب يسمى طب «الركة»، وكان مبنيا على الخرافات والأوهام، فكان من يصاب بالرمد يصفون له أن يعلق على عينه قطعة لحم حمراء تتعفن بعد قليل فتكون سببا لجراثيم ضارة. وكثير من الأمراض في الأرياف كانوا يعللونها بأنها من الحسد حتى الحميات! ويأتون بامرأة عجوز تشعل نارا وترمي فيها قطعة من الشب و«الفسوخ»، فإذا تبخرت مائيتها تأخذ قطعة الشب أشكالا مختلفة، فتقول العجوز: إنها صورة المرأة أو الرجل الذي حسد، وهكذا ... وهكذا. وكم ضاع بسبب طب الركة هذا من نفوس ومن عيون؛ لأن النتيجة لا تعالج بسببها، وإنما تعالج بالخرافات والأوهام. فلما تقدم العلم بحث في كل شيء عن سببه، وعولج السبب كما يدل عليه العلم، فإذا كانت حمى حلل الدم ليعرف نوع الحمى، ثم وصف ما اكتشفه العلم في العلاج، ولا يزال العلم يتقدم لأنه ليس إلا في مفتتح حياته.
خذ مثلا ثالثا - كان البحر مرعبا مفزعا وكم ذهبت فيه من ضحايا، وكان الإنسان أمامه جاهلا لا يعرف قوانينه ولا التوقي من أضراره، وكان أكثر ما يصاب به قوارب صيادي السمك؛ إذ يخرجون إلى عرض البحر فتهب العواصف الشديدة فتغرقهم بمراكبهم، وأخيرا تقدم العلم واكتشف علم اسمه «المترولوجي» يمكن به أن تعرف حالة الجو وتعرف العاصفة قبل حدوثها بساعات، فتصدر الإنذارات للقوارب بأن تلجأ إلى أماكن تقيها العاصفة، كما اكتشفت قوانين أخرى تقي المراكب شر الأضرار الجوية، وتؤمنها قدر الإمكان مما كان ينزل بها من أحداث.
وهكذا كلما رقي في ناحية من النواحي استخدم العلم مكان الخرافات والأوهام، وحبس الأرواح الشريرة التي كان يخلقها بنفسه من نفسه في قمقم وقضى عليها، ونظر إلى الطبيعة نظرة حب وهدوء واسترشاد.
كم من الأضرار أصابت الناس من الاعتقاد بالجن والعفاريت، ومن الحسد والسحر ومن الزار والأحجبة وساعات النحس وساعات الوفق والطوالع والتنجيم. إن العقل إذا ضعف اعتقد في هذه الأمور، وأسند إليها كل ما يحدث من شفاء ومرض وغنى وفقر ومنافع ومصائب. ولكنه إذا قوي ورقي أنكر كل هذه الأمور، وأسندها إلى أسبابها الصحيحة، والشأن في ذلك شأن الطفل يؤمن بالعفاريت والسحر والقصص المبينة على الخيالات، فإذا كبر عقله أدرك أن هذه كلها أوهام وأن الأمور بأسبابها. إن أردت النجاح فذاكر دروسك، وإن أردت النجاح في التجارة فاستعد لها بوسائلها من اقتصاد وضبط للدخل والخرج، وإن أردت الشفاء فاعرف المرض وحلل الدم وامح أسبابه، وإن أردت أي شيء فأت له من بابه بتعرف أسبابه.
2
إن العقل في الأمم وفي العصور المختلفة ينمو كما ينمو الطفل، ويمر بمراحل كما يمر عقل الطفل، فالإنسان في عهده الأول - كما قلنا - كانت حياته كلها خاضعة للخرافات والأوهام، فكان يعتقد في أعمال الجن والعفاريت، ويشكل حياته كلها على مقتضاها، ويفسر الرعد والبرق والخسوف والكسوف تفسيرا يناسب عقله من أنها من غضب الآلهة أو نحو ذلك، ويعتقد أن حياة الإنسان في الأرض خاضعة لأحكام النجوم. فالشخص سعيد لأنه ولد في طالع سعيد؛ وشقي لأنه ولد في طالع شقي، والحرب والسلم والغنى والفقر والموت والحياة وسعادة الزوجية وشقاؤها كلها كانوا يعتقدون أنها من أعمال الكواكب، وكانوا يعتقدون أن نجاح الزرع وعدم نجاحه راجع إلى غضب الأولياء والقديسين أو نحو ذلك.
والأمم المتأخرة في العقل تبني أعمالها على هذا التخريف، فتنذر النذور للأولياء لشفاء الأمراض ونجاح الزرع، وتعلق الأحجبة للحماية من العين، وتتمسح بالأضرحة لقضاء الحاجات، ونحو ذلك.
فإذا ارتقى العقل في الأمة بنت أعمالها على قانون السبب والمسبب، وفهمت أن خلق هذا الكون وجعله يسير على قوانين محكمة منظمة. من أراد المسبب يجب أن يقوم بالأسباب، فيصبح علم الطب مكان طب الركة، وقوانين الزراعة مكان الزراعة بالبركة، وتؤسس التجارة على قوانين الاقتصاد مكان التجارة اعتمادا على الخط والبخت.
وكلما قوي العلم والمعرفة في أمة قتلت الخرافات والأوهام.
الأمم الضعيفة العقل تبني كل حياتها على الخرافات والأوهام، فإذا ساءت العلاقة بين الزوج وزوجته - مثلا - عملت له «الشبشبة» حتى يحبها ولا يحب غيرها، وإذا مرض الطفل أرسل إلى الشيخ أو الشيخة ليعزم له، وإذا حدث ما يهمهم ذهبوا إلى قارئ الكف أو ضارب الودع أو ضارب الرمل، وإذا حدث أي شيء سيئ عللوه بالحسد، واعتمدوا في الغنى على «فتح الكنز» وهكذا.
والأمة الراقية العقل تربي أطفالها على ما عرفه العلم من العناية بالشؤون الصحية والتربية النفسية، وتسير في تربيته جسميا وعقليا وخلقيا على ما اكتشفه العلم من القوانين، والأمة الراقية العقل تسير في زراعتها حسبما اكتشفه العلم من دراسة نوع الأرض وما يصلح لها وما لا يصلح، ونوع الزراعة التي تناسبها، والآلات والأدوات الحديثة التي اكتشفها العلم، ونظام الري الذي اهتدى إليه العلم، وهكذا.
والأمم الراقية العقل تسير في تجارتها على ما عرفه العلم من نظريات اقتصادية، ومعرفة بحاصلات البلاد، وكيفية التصدير والتوريد، ونظام الدفاتر في الدخل والخرج، وضبط المعاملات وكيفية استجلاب الزبائن ومعاملتهم.
والأمم الراقية العقل تسير في السياسة على حسب العلم، سواء في ذلك أمورها الداخلية أو الخارجية. فقبل أن تقدم على مشروع تدرسه درسا دقيقا وتعرف نتائجه وكيف تتقي عيوبه وتنتفع بمزاياه. وإذا عرض عليها أمر خارجي درسته وتبينت الغرض منه، وهل نفعه لها أكبر من ضرره أم ضرره أكبر من نفعه، وتسلح الدارسون له بالعلم الواسع بشؤون الدول والاتجاهات السياسية وهكذا. في الأمم الضعيفة العقل يربي الطفل حيثما اتفق، ويزرع حيثما اتفق، ويتاجر حيثما اتفق، وهي تسوس الناس حيثما اتفق. وفي الأمم الراقية كل شيء بالعلم وبالدرس وبالعقل، من أصغر شيء إلى أكبر شيء. وليس فرق بين الأمم الراقية والأمم المنحطة إلا العلم، واستخدامه والخضوع له في الحياة أو عدم ذلك.
ونتائج ذلك واضحة جلية لا تحتاج إلى برهان، فلو أخذت مائة طفل وربيتهم على الأسس العلمية في مأكلهم وملبسهم والعناية بصحتهم وعقلهم وخلقهم، وأخذت مائة طفل أخرى وربيتهم حسبما اتفق في بدنهم وعقلهم وخلقهم، لرأيت النتيجة واضحة كل الوضوح. فنسبة الوفيات في الأولين أقل منها في الآخرين حتما، وصحة الأولين أحسن حتما، وعقلهم أنظف وأرقى، وخلقهم أسمى حتما.
ولو أخذت مائة فدان وأجريت عليها كل ما وصل إليه العلم الحديث من ري وصرف وتغذية وآلات ومواعيد ووقاية، وأخذت مائة فدان أخرى زرعتها حيثما اتفق على النمط القديم، كانت غلة الأولى أضعاف غلة الثانية وأجود.
وهكذا الشأن في تجارة على أساس العلم وتجارة على البركة - وسياسة مبنية على العلم الواسع والعقل المجرب، وسياسة مبنية على الهوى والشهوات وحيثما اتفق - وأسرة تبني حياتها على العلم والعقل، وأسرة تبني حياتها على الأوهام.
تأسيس الحياة على العلم يزيد في صحتها وفي إنتاجها وفي إسعادها، وتأسيس الحياة على الخرافات والأوهام يضعف صحتها ويزيد أمراضها، ويكثر شقاءها ويشل حركتها. ولا شيء أنفع للأمة من العمل على ترقية عقلها حتى يقتل العلم خرافتها وأوهامها.
الشرف
في الحرب الروسية اليابانية الماضية أخذ بعض الضباط أسرى ووضعوا في مكان وأخذ منهم كلمة ألا يهربوا، ولم يوضع عليهم حراس اكتفاء بوعدهم وكلمتهم. فما الذي منعهم أن يفروا أو يهربوا؟ كلمة الشرف.
ومن حكايات العرب المشهورة أن حصن بن زرارة لما ضاقت المعيشة به وبقومه رحل إلى كسرى، فشكا إليه ما أصابهم من الجهد في أموالهم وفي نفوسهم، وطلب إليه أن يأذن له ولقومه أن ينزلوا في البلاد المتاخمة لفارس لخصبها، فقال كسرى: إن العرب فيهم غدر فإذا أذنت لهم عاثوا في الأرض وأغاروا. فقال: أنا ضامن لهم، قال كسرى: فمن لي أن تفي أنت؟ قال : أرهنك قوسي. فلما جاء بها ضحك من حول الملك لتفاهة القوس وحقارتها. ولكن كسرى كان عارفا بالرجل وبعادات العرب، فقبل منهم القوس رهنا. فما الذي حمله على قبول قوسه الحقير؟ لأنه انضم إلى رهن القوس ذمة الرجل ووعده وكلمته، وقد بر بوعده، وهذا هو الشرف.
فالشرف في أبسط أشكاله أن يحافظ الطفل والشاب والرجل والمرأة على الكلمة تصدر منهم كأنها «عقد»، سواء في ذلك اللسان أو التوقيع بالقلم، والفرق بينهما أن التوقيع على العقد يلزم به القانون، والنطق بالكلمة يلزم به الشرف.
وهناك مظاهر للشرف في كل عمل يعمله الإنسان. فالأطفال في أعمالهم قد يغشون فلا يكون لهم شرف، وقد يكونون أمناء فلهم الشرف. والبائع قد يغش في الكيل والميزان فلا شرف له، وقد يكون أمينا فهو شريف. ورئيس الوزارة قد يحترم كلمته ويحافظ على بلاده، ويحفظ سمعتها فيكون شريفا، وقد لا يقوم بذلك فلا يكون شريفا، وهكذا.
وهناك نوع آخر من الشرف وهو حماية الضعفاء. فالدنيا مملوءة بالضعفاء؛ كالفلاح المسكين الذي لا يجد ما يأكل، والصانع الذي حدثت له إصابة منعته من العمل، والمريض الذي لا يجد ما يتداوى به، والأسرة التي مات ربها ولا عائل لها، والتلميذ النابغة لا يجد وسيلة لتعليمه، وهكذا وكل هؤلاء ضعفاء، وكل هؤلاء يحتاجون إلى المعونة لسد حاجتهم. فمساعدتهم وسد عوزهم والأخذ بيدهم ضرب من ضروب الشرف، فشريف من ينزل عن بعض ماله لمساعدة هؤلاء المنكوبين، وشرفاء من يؤسسون جمعيات ينفقون عليها من مالهم وعقولهم ونشاطهم لرفع البؤس عن البائسين.
وهناك أنواع أخرى صغيرة من أنواع الشرف، إذا كان أمامك خطاب لآخر تستطيع أن تقرأه، ولكن رأيت من الواجب ألا تقرأه؛ لأنك لا تملكه فهذا شرف. وإذا اؤتمنت على سر فلم تبح به فهذا شرف، وإذا ضغطت عليك الحوادث لتسير سيرا معوجا لا يتناسب والخلق السامي، فأبيت إلا أداء الواجب مهما ضحيت في سبيله فهذا شرف، وإذا كانت كلمة الحق تهددك في منصبك أو مالك فقلتها ولم تبال بالعواقب فهذا شرف.
إذا فيجمع الشرف كلمة واحدة هي أن تحافظ عل الكلمة تصدر منك، وعلى واجبك تؤديه على الرغم من كل شيء.
وللشريف مكافأتان؛ مكافأة يكافئه بها الناس، ومكافأة يكافئ بها نفسه. فمكافأة الناس كالأوسمة والرتب وبعض المناصب والمكافآت المالية، والدرجات الجامعية وإقامة الخطب والهتافات إذا منحت كل هذه لرجل شريف لأداء عمل شريف.
وهناك مكافأة أهم من هذه وهي مكافأة الشريف نفسه برضا ضميره لأداء واجبه، هي راحة نفسه وسرورها باحتمال المشقة لعمل ما كان ينبغي أن يعمل، ولذة هذا الشعور تفوق كل لذة.
كان الجنرال «غوردون» قائد حملة في الصين فلما انتهت مهمته كتب يقول: «إني أعلم أني سوف أترك الصين فقيرة كما دخلتها، ولكن ضميري مرتاح؛ لأني استطعت أن أنجي نحو مائة ألف نفس من الموت، وهذا كل عزائي». ولما منح ألقاب الشرف على عمله قال: إن هذه الألقاب والنعوت كلها لا تساوي عندي «بنسين»، ولما منحه إمبراطور الصين ميدالية ذهبية صهرها، وباعها وتصدق بثمنها على فقراء الصين.
الطفل الشريف يأبى أن يعمل عملا يسيء سمعته أو فصله أو مدرسته أو حزبه في مدرسته. والرجل الشريف يأبى أن يعمل عملا يضر بأسرته أو حزبه أو أمته، والمرأة الشريفة تأبى أن تأتي عملا يضر بأسرتها أو أمتها. بل أكثر من ذلك أن الرجل الشريف أو المرأة الشريفة عنده شعور قوي يدفعه للإعجاب بمن يأتي بعمل يشرف أسرته أو أمته. ويتجلى هذا الشعور بالقول وبالتبرع وبالتكريم، كما أن هذا الشعور القوي يدفعه إلى السخط الشديد على من يرتكب عملا نذلا يحط من شأن أسرته أو أمته، ويترجم هذا الشعور بالقول والعمل.
وكما أن هناك جنيها صحيحا وجنيها مزيفا، وعقد بيع صحيحا وعقدا مزيفا، كذلك هناك شريف صحيح وشريف مزيف، فكل الأنواع التي ذكرتها من المحافظة على الكلمة ومساعدة الضعفاء وقول الحق في صراحة، وأداء الواجب في أمانة ودفع السوء عن الأسرة والوطن، وجلب الخير لهما، كل هذه أنواع من الشرف الصحيح. أما الشرف المزيف فأنواع كذلك، كالشرف بالغنى الذي لا ينفع الغني به أمته وقومه، فاحترم الناس للغني لأن عنده ألف فدان وأقل أو أكثر احترام خاطئ، وتعاظم الغني لأن عنده هذه الأطيان شرف مزيف. إنما يكون شريفا صحيحا يوم يفخر أنه استخدم غناه في مصلحة قومه فساهم في أعمال الخير، وتبرع لرفع البؤس عمن كانوا سبب غناه، وخفف بماله بؤس البائسين وعوز المحتاجين.
كذلك من الشرف المزيف الفخر بالمنصب كأن يكون وزيرا أو مديرا أو في الدرجة الأولى أو الثانية، فهذا الفخر إن لم يقترن بالعمل النافع شرف مزيف. وواجب الأمة العاقلة أن تزن الأمور بميزان صحيح، فلا تبذل من الاحترام والتوقير والإجلال لغني أو وزير أو مدير إلا بمقدار ما يسدي للأمة بماله ومنصبه من خير. ولو عقل الناس لاحترموا كناسا في الشارع يؤدي واجبه أكثر مما يحترمون وزيرا لم يؤد واجبه بل أضاع واجبه.
كذلك من ضروب لشرف المزيف الفخر بالحسب والنسب، فهو من أسرة فلان ومن بيت فلان ونسيب فلان وابن فلان وحفيد فلان، فكل هذا لا قيمة له في الشرف ما لم يدعم بالعمل النافع. ورجل عصامي نشأ من بيت فقير وكان أبوه نجارا أو حدادا، ثم أتى بعمل جليل خير من الحسيب النسيب لا يأتي عملا أو يأتي ما يشين.
ومثل هذا من الشرف المزيف: الأمة تفتخر بماضيها ولا تعمل لحاضرها ومستقبلها. والشاعر العربي يقول:
إذا أنت لم تحم القديم بحادث
من المجد لم ينفعك ما كان من قبل
فالذي يشرف بماله أو بمنصبه أو نسبه أو تاريخه شريف مزيف ما لم يأت بأعمال شريفة من نفسه.
الشريف يحترم نفسه فلا يعمل الدنيء من الأعمال، ولو أمن أن يطلع عليه أحد، ويخاف من ضميره أكثر مما يخاف من غيره، ويترفع عن الصغائر ويحرم نفسه من بعض المباح لأنه يرى نفسه أرفع من أن تأتي بمواضع الشبه. والشريف يسمو إلى الغرض النبيل، ولا يهدأ ضميره حتى يناله أو يقرب منه.
لقد أخذت اللغة الإنجليزية من اللغة العربية كلمة «شريف»، واستعملتها في بعض المناصب الرفيعة، وسمت بعض المحاكم «محكمة الشرفاء»، فهل يعتز العرب بهذه الكلمة، ويتخذونها أساسا لأفعالهم كما تأصلت في لغتهم؟ أرجو ذلك.
قصة محتال
قرأت منذ أيام عن رجل من الأعيان استغفله دجال وأوهمه أن في بيته كنزا لا يفتح إلا على وجه ابنته، ثم غافله وأخذ بنته وماله وهرب بهما. والاستغفال داء قديم عرف في كل العصور وعند كل الأمم، ولكن قل اليوم بانتشار العلم وتعلم الناس، وكلما كانت الأمة أجهل كانت مرتعا خصبا للمغفلين والمستغفلين، وكلما زادت ثقافة الشعوب آمنت بأن المسببات لا بد لها من أسبابها، وأن الدنيا قائمة على قوانين طبيعية لا تتخلف، فلم يستسلموا للدجالين والمحتالين.
وللدجالين فراسة قوية مهروا فيها كل المهارة، فهم ينظرون إلى الشخص فيعرفون مقدار ذكائه أو غفلته، وهل هو ممن يضحك عليه أولا، ومن أي ناحية هو مغفل، ثم ينصبون شباكهم حسبما أدتهم فراستهم.
ولهؤلاء الدجالين طرق مختلفة لا عداد لها. فضرب بالرمل، والكنوز المخبوءة في البيوت التي تحرسها العفاريت ولا تفتح إلا بالبخور والعزائم، والمشايخ الذين يأكلون النار والحيات، والذين يقرءون الكف وينبئون بالمستقبل، والذين يزعمون أنهم يؤاخون الجن والعفاريت فيفضون إليهم بالأسرار، والذين يقرءون «الكوتشينة»، ونحو ذلك من ضروب لا تحصى.
والمغفلون أنواع والمستغفلون أنواع، فهناك من يسهل استغفالهم لسذاجتهم وضعف عقلهم، ومنهم من يصعب استغفاله لقوة عقله، ولكنه يرزق بمن هو أقوى منه عقلا وأوسع حيلة فلا يزال به حتى يستغفله.
وكان من أهم طرق الاستغفال في العصر الماضي، ولا يزال دعوى القدرة على قلب الرصاص والحديد والنحاس وجميع المعادن ذهبا بطريق الكيمياء، وقد شغلت هذه المسألة عقول الناس زمنا طويلا وجرى فيها الجدل الطويل: هل هذا ممكن أو ليس بممكن؟ وكم أضاع كثير من الناس أموالهم وأعمارهم في سبيل التجارب التي يجربونها؛ ليحصلوا من الرصاص أو نحوه على ذهب، وكم في دار الكتب من كتب في هذا الموضوع لا يزال بعض الناس يطلبها ليقرأها، وقصتنا هذه تدور حول هذا الموضوع، وخلاصتها:
أن السلطان الملك العادل نور الدين زنكي - ذلك الملك العظيم الذي ربى صلاح الدين وفتح به مصر، والذي مد سلطانه على مملكة واسعة، فملك الموصل وديار الجزيرة والشام ومصر واليمن وخطب له بالحرمين، والذي دوخ الصليبيين وعلم صلاح الدين أن يتم في حروبهم ما بدأ هو به، والذي له المآثر الحميدة في العدل وحسن السيرة. هذا السلطان مع كبر عقله وقوة نفسه استطاع محتال أن يضحك عليه، وينصب له شبكته حتى يقع فيها - كما يحكون.
ذلك أن رجلا عجميا أتى إلى دمشق حيث يقيم نور الدين وكان معه ألف دينار، فبردها وجعلها ناعمة كالتراب، ثم خلطها ببعض العقاقير وعجن الجميع بغراء السمك، ثم قطعها حبوبا كالحمصة وجففها، ثم لبس لبس الصوفية وتزيى بزي الصالحين، ووضع هذه الحبوب في مخلاة وأتى إلى دكان من دكاكين العطارين وقال له: أتشتري مني هذا؟
قال العطار: فما هو؟
قال الصوفي: إنه نوع من الدواء يسمى «طبرمك» ينفع من السموم، ويشفي كثيرا من العلل ويدخل في جميع الأدوية التي تعدل المزاج وله نفع عظيم، ولولا أني شديد الحاجة إلى المال ما بعته، ولو كان أحد يعرف قدره لدفع فيه وزنه ذهبا.
قال العطار: فبكم تبيعه؟
قال الصوفي: بعشرة دراهم.
وما زالا يتماسكان حتى باعه له بخمسة دراهم.
إلى هنا منظر غريب، رجل يبيع في الحقيقة ألف جنيه بعشرة قروش، فما غرضه من ذلك؟ هذا أول فصل في الرواية.
ثم خلع لبس الصوفية ولبس لبس الوجهاء واستأجر دارا فخمة، وكان إذا سار يتبعه مملوك وجيه، وتصرف تصرف الوجهاء حتى لفت إليه الأنظار، وتعرف ببعض العظماء ودعاهم إلى بيته يقيم لهم الولائم ويسمعهم الغناء وينفق عن سعة، فتساءلوا عن سر غناه، فقال لهم: إنه علم سر الكيمياء، واستطاع أن يحول المعادن إلى ذهب؛ ولذلك هو ينفق عن سعة، فدعوه إلى أن يعمل لهم شيئا من هذا القبيل فأبى، وقال: أنا لست محتاجا إلى أحد بفضل ما وهبني الله من العلم، وأنا قد حلفت بالله ألا أعمل هذا العمل إلا لملك، على شرط أن ينفق الذهب الذي أعمله في سبيل الله ومحاربة الصليبيين.
وانتقل الخبر حتى وصل إلى الوزير، فاستدعاه وطلب منه أن يعمل له ذهبا فأعاد عليه قوله. ففكر الوزير وقال: والله هذه فكرة جميلة وفي عمله سعادة للمسلمين، فالصليبيون يغزوننا، ونحن أحوج ما نكون إلى المال نعد به العدة للقتال، ونجهز به الجند، ومن ملك المال والجند كانت له الغلبة، فلم لا ننتفع بعلمه ونحضر له المعادن، فيحولها إلى ذهب فنكون أغنى دولة وأقدرها على القتال؟
فسأله هل يخبر السلطان بذلك؟ قال: نعم.
وبلغ الوزير الخبر للسلطان، فاستدعاه وسأله، فأعاد عليه ما قال. قال السلطان: ولكن كم سمعت من مثل هذه الأقوال ثم ظهر أنها كلها دجل، كم أضاع الناس أموالهم وأعمارهم في هذه السبيل من غير طائل، وما أكثر الدجالين والمحتالين في هذا الباب!
قال الرجل: نعم أيها الملك ما أكثر المحتالين ولكني لست أحدهم، ولو كنت محتالا ما احتلت على مثلك في عقله وسلطانه، ولاحتلت على غيرك من عامة الناس، ولما اشترطت أن ما أخرجه لا ينفق إلا في سبيل الله، ومع هذا فإني أعاهدك ألا أمس شيئا بيدي ولا أدع أحدا يمسه غيرك. وإنما أصف لك الأدوات تأمر بإحضارها وأقول لك: اصنع كذا واصنع كذا فتعمله بيدك حتى تثق من أن الأمر ليس دجلا وإنما هو الحقيقة.
قال السلطان: نتوكل على بركة الله.
فكتب الرجل قائمة بأسماء الأشياء التي يأمر السلطان بإحضارها، وكان منها «الطبرمك»، فدفع السلطان القائمة للأستاذ الدار وقال له: أحضر هذه الأشياء، فأحضرها جميعا إلا الطبرمك فلم يجده عند العطارين.
فقال الرجل: أفي دمشق كلها لا يوجد «الطبرمك»؟! هذا عجيب ولا يمكن أن يكون! قال السلطان: أما هناك شيء يقوم مقامه؟ قال الرجل: لا والله، ولكن ربما كان العطارون في دمشق يسمونه باسم آخر، فإذا شاء السلطان أمر المحتسب أن يذهب معي، ويفتش دكاكين العطارين ومعنا شهود عدول يشهدون على ما نعمل. ففعل السلطان ذلك.
وذهب المحتسب والشهود والرجل إلى دكاكين العطارين يفتشونها دكانا دكانا. وأخيرا ذهبوا إلى دكان العطار الذي كان قد اشترى من الدجال الحبوب، وأخذ الدجال يفتح علبة فعلبة حتى عثر على العلبة التي فيها الحبوب، فقال: هذا هو الطبرمك وتهلل وجهه فرحا، وقال: إن هذا السلطان سعيد وله حظ جميل وذلك من صالح المسلمين. وقال للمحتسب والشهود: اختموا عليه واذهبوا به إلى القلعة حيث يقيم السلطان، وسألوا العطار: بكم اشتريتها؟ قال: بخمسة دراهم. قال الدجال: هذه عشرة، ولا تضيع وقتك وتطلع إلى القلعة لقبض الثمن.
ورجعوا إلى السلطان فرحين ومعهم كل ما كتب في القائمة، ثم قعد السلطان وخادم له أمين في ناحية وجلس الرجل في ناحية أمامهما يقول: يزن مولانا من العقار الفلاني كذا ومن العقار الفلاني كذا، ثم قال: ومن الطبرمك مائة مثقال. ووضعت كلها في بوتقة وأحميت تحتها النار، ثم قال: اقلب البوتقة فنزلت سبيكة من الذهب الخالص لا شيء أحسن منه.
فلما نظر السلطان ذلك دهش أشد الدهش، وبعث بالسبيكة إلى الصاغة، فشهدوا جميعا بأنها ذهب خالص وأنهم مستعدون أن يشتروه بسعر الذهب.
ثم كررت هذه العملية عشر مرات، وفي كلها تنجح نجاحا باهرا، وبعد ذلك فرغ الطبرمك، فطلبوه في دكاكين العطارين فلم يجدوه.
قال السلطان: ماذا نعمل لإحضار الطبرمك؟
قال الرجل: إنه معدن موجود في مغارة في خراسان، فإذا أراد مولانا السلطان بعث من يحضر ما يشاء من هذه المغارة ولو كان ألف حمل جمل، وأنا عندي في بيتي بخراسان مقدار قنطار.
قال السلطان: ما لهذا الأمر غيرك، فتذهب أنت وتحضر منه مقدارا، فإذا منع مانع فأحضر القنطار الذي عندك.
قال: إن رأى السلطان أن يبعث غيري وأنا أبقى هنا كان أحسن؛ فإني قد طابت نفسي في دمشق.
قال السلطان: لا أحد لهذا الأمر غيرك، فأنت الذي تعرف المكان وتعرف الطبرمك.
فأطاع الرجل، وزوده السلطان بزاد ومال يساوي آلاف الدنانير، وكتب له كتبا إلى سائر البلاد ليرعوه ويجيبوا مطالبه.
ثم انتظر السلطان طويلا عودته.
وحدث حادثة طريفة أن رجلا في دمشق كان يؤلف كتابا في هذه الأيام يذكر فيه أسماء المغفلين، فوضع اسم السلطان نور الدين في أول القائمة، وبلغ ذلك السلطان، فاستدعاه وسأله: ماذا رأيت من غفلتي؟ قال: حكاية العجمي.
قال السلطان: إنه ذهب ليحضر الطبرمك، وماذا في هذا؟
قال المؤلف: إذا أحضر الطبرمك محوت اسمك من هذا الكتاب.
ولم يجئ الطبرمك، ولم يمح الاسم إلى الآن.
فهل يعتبر المعتبرون فلا يستغفلون؟ أو أن الناس هم الناس ولكل زمان مغفلوه ...
العدالة الاجتماعية
العدالة والعدل بمعنى واحد - وقد كان الناس يفهمون العدل على أنه بين فرد وفرد، وقالوا: إنه هو إعطاء كل ذي حق حقه، فالغاضب والسارق ظالم؛ لأن كليهما يأخذ مال الغير ويمنعه حقه، والبائع الذي يكيل للمشتري أو يزن أقل مما اتفقا عليه ظالما؛ لأنه لم يعطه حقه.
ومن أجل هذا أقامت الدولة القضاء لمنع الظلم بين الأفراد وتحقيق العدل. وأحاطت القضاء بقوة التنفيذ حتى ينال كل ذي حق حقه، وأمرت القضاة ألا يتحيزوا بل يعطوا الحق لصاحب الحق من غير تفرقة بين غني وفقير ووجيه وغير وجيه وأبيض وأسود؛ ولذلك كان الرومان يمثلون آلهة العدل بامرأة معصوبة العينين ممسكة ميزانا ذا كفتين بإحدى يديها وباليد الأخرى سيفا. وعصب العينين رمز إلى أن القاضي يجب أن يعمى عن الاعتبارات التي تجعله يتحيز من غير حق كالغنى والجاه ونحو ذلك، ورمزوا بالميزان إلى أن القاضي يجب أن يزن لكل إنسان حقه بالدقة والضبط، وبالسيف إلى أنه يجب أن ينفذ العدل بالقوة إذا احتيج إليها.
ولما تقدم الناس في المدنية والشؤون الاجتماعية، أضافوا معنى جديدا إلى معنى العدالة وهو العدالة الاجتماعية، ويعنون بها واجب الدولة نحو أفراد الأمة؛ فكما أن الفرد قد يكون عادلا وقد يكون ظالما، فكذلك الدولة قد تكون عادلة وقد تكون ظالمة. فما هي الدولة أو الحكومة العادلة؟
الحكومة العادلة عدلا تاما هي التي يكون لها من النظم والقوانين والأعمال ما يمكن كل فرد من أفراد الأمة أن يرقي نفسه على قدر استعداده في دائرة عمله. فمثلا في الأمة طائفة من التجار يحتاجون في تجارتهم إلى تلغراف وبريد وسكك حديدية وأدوات نقل، وقدر كبير من الحرية في التعامل. فواجب الحكومة العادلة أن تحقق لهم ذلك. وفي الأمة طائفة من الفلاحين لا يمكن أن يرقوا أنفسهم إلا إذا حصلوا على وسائل العيش الضرورية، وأسست لهم النقابات لتمدهم وتقيهم من جشع التجار ونحو ذلك، وهكذا.
وفوق هذا وذاك لا يمكن لأية طائفة في الأمة سواء كانوا فلاحين أو تجارا أو صناعا أن يرقوا أنفسهم، إلا إذا حصلوا على حقوقهم الضرورية في الحياة، ومن أهم ذلك الوسائل الصحية، فلكل إنسان الحق على الدولة أن يشرب ماء نظيفا ويسكن مسكنا صحيا، ويجد الغذاء الصحي الضروري، إذا مرض أمكنه أن يعالج، فإن كان غنيا فبماله، وإن كان فقيرا فبمال الدولة؛ بما تنشئه من مستشفيات مجانية تسع كل المرضى الفقراء، وهكذا. فإن فعلت الدولة هذا فدولة عادلة، وإلا فظالمة .
وكذلك الشأن في التعليم. فمن حق كل فرد في الأمة أن يتعلم على قدر استعداده؛ لأنه لا يمكنه أن يرقي نفسه إلا إذا تعلم، ولا يمكن أن يحمي نفسه من جشع المرابين وظلم التجار والحكام إلا إذا تعلم، ولا يمكنه أن يفهم حقوقه ويطالب بها إلا إذا تعلم. فالدولة التي تنشر هذا التعليم إلى أقصى درجة ممكنة دولة عادلة، وإلا فظالمة - فإذا كان الفلاح لا يجد ما يأكل أكلا يقوم بحاجته، ومن أراد أن يتعلم لا يجد وسيلة لتعلمه فهذا ظلم اجتماعي، وإذا وجدا كل ذلك فهذه عدالة اجتماعية.
وقد نظر أفلاطون - وهو من فلاسفة اليونان الأقدمين - نظرة راقية جدا إلى العدالة الاجتماعية فقال: «إن خير دولة أو خير حكومة هي التي تضع كل فرد من أفراد الأمة في خير مكان يليق به حسب استعداده، ويستطيع أن يظهر فيه مواهبه، ثم تمده الدولة بجميع ما يحتاج إليه لأداء ما عهد إليه به». وهو مطلب عسير لم تستطع أية دولة - مهما رقيت - الوصول إليه إلى الآن. ولكن وصل كثير من الأمم الحية إلى بعض هذا؛ كضمان وسائل الصحة لكل الأفراد، وإفساح الطريق لذوي الكفايات أن يظهروا استعدادهم وكفايتهم بقطع النظر عن حسبهم ونسبهم.
كل فرد في الأمة له الحق على الدولة أن يجد ما يحفظ صحته من غذاء، ومن ماء صحي ومن مسكن صحي، وله الحق أن يتعلم حسب استعداده، وأن يرقي نفسه حسب استعداده، وعلى الدولة أن تحقق للأفراد كل ذلك وأن ترقيهم جسميا وعقليا وخلقيا إلى أقصى حد ممكن، فإن فعلت ذلك حققت العدالة الاجتماعية وإلا لا.
ولما ارتقت عقول الناس، وشعروا بضرورة العدالة الاجتماعية كان أول ما صدمهم أن رأوا أن أكبر عقبة في سبيل تحقيق العدالة هي توزيع الثروة في الأمة؛ إذ رأوا أنه توزيع غريب، فشخص يمتلك الملايين والألوف، وشخص لا يجد ما يأكل، مع أن الأول في كثير من الأحيان لا يعمل، والثاني يكد في العمل بنفسه وبزوجته وأولاده، ثم لا يحصل قوته وقوتهم. فمثل المجتمع والحالة هذه كمثل شخص مع ألف رغيف، وأراد أن يوزعها فأعطى رجلا أعزب لا أسرة له 999 رغيفا، وأعطى أسرة مكونة من أب وأم وثمانية أولاد رغيفا واحدا. أو كالمثل الذي ضربه القرآن الكريم في الخصوم الذين دخلوا على داود فقالوا:
خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط * إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال (أي: صاحب التسع والتسعين لصاحب الواحدة) أكفلنيها (أي: ملكنيها) وعزني في الخطاب أي: غلبني في الحجة) * قال (داود) لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض .
فالمجتمعات الحاضرة كصاحبي النعاج؛ رجل يملك تسعا وتسعين نعجة، ورجل يملك نعجة واحدة، ومع ذلك لا يريد صاحب التسع والتسعين أن يترك النعجة لصاحبها، بل يريد أن يستولى عليها - سيدة تملك مئات الفساتين وتحتفظ بأثمن الجواهر، وامرأة لا تملك ثوبا واحدا صالحا، ورجل يملك آلاف الأفدنة ثم يظلم الأجير التي لا تكاد تسد رمقه، وامرأة غنية تطعم كلبها وتنفق عليه في مأكله وملبسه واستحمامه ما يكفي لعائلة مكونة من عشرة أشخاص لا يجدون ما يأكلون، وهكذا من آلاف الأمثلة .
نظر الناس في الأمم المختلفة هذه النظرة، ثم رأوا أنهم كانوا يعتقدون أن الثروة وتوزيعها شيء جرى به القضاء والقدر، لا يمكن تغييره، كالجو لا يمكن التحكم فيه بجعل اليوم البارد حارا والحار باردا، وأن الغني كتب له الغنى فهو غني لا محالة، والفقير كتب عليه الفقر فهو فقير لا محالة، ولكن رؤي أن هذه الفكرة خاطئة؛ فالثروة خاضعة لإرادة الدولة وإرادة الأمة وإرادة الرأي العام، فالدولة تستطيع بما تسن من قوانين أن تأخذ من جيب الغني لتعطي الفقير، وأن تحد من غنى الغني وترفع من مستوى عيشة الفقير، وهذا يحدث بين أعيننا كل يوم، عندنا وعند جميع الأمم. فالثروة وتوزيعها ليست كالجو في خروجه عن إرادتنا، ولكن ككل شيء تحت إرادتنا، فنستطيع أن نتحكم في الثروة وتوزيعها توزيعا عادلا أو قريبا من العدالة.
ثم نظروا فرأوا أن الفقير لا يمكنه أن ينال حظه من العدالة الاجتماعية، إلا إذا نال قسطا من المال الكافي لغذائه وغذاء أسرته وتمريضهم إذا مرضوا، وتعليمهم إذا جهلوا. وأن الغني المفرط في الغنى يستطيع أن يحقق مطالبه وحقوقه بقسط من ماله، ويبقى بعد ذلك عنده مال كثير زائد عن مطالبه ومعطل لمطالب الآخرين، فيجب التدخل في هذا وتنظيم التوزيع تنظيما يحقق لأكبر عدد ممكن تحقيق العدالة الاجتماعية. هذه هي المسألة الكبرى التي شغلت الأذهان في كل أمة عندما فكروا في العدالة الاجتماعية، سواء في ذلك الأمم الاشتراكية والأمم الديمقراطية، وإن كانوا قد عالجوا هذه المشكلة بعلاجات مختلفة بعضها متطرف وبعضها معتدل.
فالأمم المعتدلة فرضت الضرائب التصاعدية على الأغنياء حتى كادت تجعل للغني حدا لا يتجاوزه، فإن زاد عن ذلك أخذته الدول وأنفقت منه على إصلاح حال الفقراء حتى يصلوا إلى مستوى لائق بالإنسانية، فأنفقت منه على التعليم المجاني وعلى خفض مستوى الأسعار وعلى بناء المساكن الصحية للعمال، وأعطتهم من المال المدخر أيام بطالتهم التي لا دخل لهم فيها. وهكذا رفعت مستوى الفقير وجعلت له حدا لا ينزل عنه، وحددت من غنى الغني وجعلت له حدا لا يتجاوزه، كل هذا طلبا لتحقيق العدالة الاجتماعية بالتدريج في الحدود المعقولة.
المدنية تحطم الأعصاب
1
ما أصدق اللغة الحية في تسجيل الأفكار الجديدة! فكما أن اللغة تضع الاسم لما يخترع من الآلات والأدوات بمجرد اختراعه، كذلك الشأن في المعاني المستحدثة.
ونجد في لغتنا الحديثة كثرة استعمال «تهدمت الأعصاب وتحطمت أعصابه وتوترت أعصابه»، ونحو ذلك مما لا نجده في كتبنا القديمة، كما أننا نجد اللغة العامية أكثرت من استعمال «النرفزة» أخذا من الكلمة الإفرنجية
Nervous
بمعنى عصبي المزاج. ولم يكن آباؤنا يستعملون هذه الكلمات ولا التعبيرات لأنهم لم يشعروا بتهدم الأعصاب، إنما تهدمت أعصابنا نحن بتكاليف المدنية وأعباء الحياة.
والسبب في هذا الشعور بتهدم الأعصاب كثرة تكاليف الحياة وزيادة أعبائها وتعدد مطالبها، وانتقال كثير من الكماليات إلى ضروريات مما لم يكن له نظير عند آبائنا وأجدادنا، تعقدت المدنية وتركبت وكثرت فيها المطالب، وشعر الإنسان بأنه لا بد أن يوفي هذه المطالب كلها، وطاقته محدودة وماليته محدودة، فينوء تحت هذه الأعباء ويشعر بتهدم أعصابه.
كان أكثر آبائنا إذا علموا أبناءهم فك الخط فهذا يكفي للحياة ولشغل الوظائف. أما الآن فالأب يحمل أعباء تربية أبنائه وبناته تعليما ابتدائيا وثانويا وعاليا، وماليته قد تكون محدودة فيرهق نفسه، وفي كل دور من أدوار التعليم مشاكل لا حد لها؛ هذا رسب في الامتحان، وهذا له ملحق، وهذا شب فلا يخضع لحكم آبائه، وهذا كان متأخرا في الترتيب فلا تقبله المدارس العالية أو الجامعة. والأسرة كلها من مشاكل من هذا القبيل لا تنتهي.
هذا باب واحد من أبواب الحياة.
وهذه ميزانية البيت معقدة مركبة، يحصل عليها النزاع في أول كل شهر وآخر كل شهر، الرزق محدود والمطالب غير محدودة. أقساط المدارس وغلاء المأكل وحاجة السيدة والأولاد إلى الملابس وحاجة الأب إلى مصاريف خاصة من أجرة انتقال وشرب دخان والماهية لا تكفي لكل ذلك، فينفق ما يستطيع من ماهيته والباقي ينفقه من أعصابه.
ويذهب الموظف إلى ديوانه فلا يزال يسمع من أخبار الدرجات والعلاوات ما يثير نفسه ويهيج مطامعه ، والويل لأعصابه إذا لم تتحقق أمانيه، ونظام كل شيء في الحياة مركب معقد، الزواج سلسلة متاعب في الخطبة والمهر والجهاز والعقد والحفلات - والتعليم سلسلة مشاكل، وإدارة الأموال سلسة مشاكل.
حتى الغني الذي عنده أكثر مما يكفيه متعب مهدم الأعصاب من إدارة أمواله؛ هذا سرقه وهذا أكل ماله، والقضايا ترفع في المحاكم، والقضية الواحدة تطول ويتفرع عن القضية عشر قضايا والمطالب عليه تتكاثر، مشاكل إدارة الأطيان والفلاحين وناظر الزراعة والآلات، ثم مشاكل بيته من السيارات والخدم، وواجبات حياته الاجتماعية من استقبالات وزيارات وحفلات ومصايف ومشات ومرض وعلاج، وما إلى ذلك مما لو رآه الفقير لحمد الله على الفقر.
كان أجدادنا أبسط عيشا وحياتهم أهدأ من آبائنا، وآباؤنا أبسط عيشا وأهدأ بالا منا، ونحن أحسن حالا من أبنائنا. حياتنا كلها زائطة متعبة، في المنزل من هذه المشاكل، وفي الشارع من السيارات والعربات وسرعة الحركة وكثرة الناس، في كل محل ضوضاء، فأين تهدأ الأعصاب؟
ولهذا كان تهدم الأعصاب في سكان المدن أكثر منه في سكان الريف، وبين من يحملون الأعباء الكثيرة والمسئوليات المتنوعة أكثر من ذوي المسئوليات القليلة، وهكذا.
ما هي أعراض تهدم الأعصاب؟
هي بيننا كثيرة وأشكالها متعددة: ضيق بالحياة وانقباض صدر منها، وشعور بأن الدنيا كلها سوداء في عينيه ليس فيها ما يسر، والمبالغة في تقدير ما يحزن، والمبالغة في تقليل قيمة ما يسر، فإذا أتاه في يوم واحد عشرة أخبار تسعة منها سارة وواحد منها محزن، لم يلتفت إلى التسعة السارة وعلق كل أهمية على الخبر المحزن، وبالغ فيه كأن أعصابه أوتار عود لا يوقع عليها إلا النغمات المحزنة، ثم ينتج عن ذلك غضب لأتفه الأشياء؛ فالكلمة التي كان يسمعها فيبتسم منا أو لا يعيرها أي التفات تصبح كلمة لها أهميتها، يثور منها ويقيم الدنيا من أجلها ولا يقعدها، حتى ليكاد يغضب ممن قال له: السلام عليكم أو نهارك سعيد!! ليس عنده شيء يتساهل فيه، يدقق في كل صغيرة، ويخلق سببا للنزاع والخصام، والأشياء التي كان يراها كل يوم ويضحك منها أو يسكت عليها تنقلب فجأة أشياء خطيرة لا يصح السكوت عليها ولا يصح أن تمر من غير نزاع وخصام، ثم الشك المؤلم في قيمة الحياة، فلا هو يؤمن بقيمة ماله إن كان غنيا ولا بقيمة وظيفته إن كان في وظيفة كبيرة، ولا بقيمة أولاده مهما كانوا ناجحين في حياتهم أو مدارسهم، بل ولا يؤمن بقيمة نفسه، ثم يلح به هذا الشك في الأشياء وقيمها إلى أن يصاب بالتردد فلا يبت ولا يقرر؛ لأنه شاك في نتيجة هذا ونتيجة ذاك، غير مؤمن بالشيء ولا بضده، وهذا الشك وهذا التردد وهذه الحيرة تضاعف من انقباض صدره وحدة غضبه وتبرمه بالدنيا، ثم يحيط به الخوف من كل جانب، فهو خائف على ثروته أن تضيع، وعلى أولاده أن يصابوا بأذى، وعلى زوجته أن تخونه أو على زوجها أن يخونها، وعلى سيارته أن تحدث لها حادثة وعلى الترام يركبه أن يصطدم، وقد يبلغ به هذا الخوف إلى درجة من السخافة بمكان حتى قد يخلق من خياله أشخاصا يتصور أنهم يدبرون له المكايد ويحيكون له الدسائس؛ ففلان إنما يسار فلانا في أمره، وفلانا قابل فلانا لتدبير مؤامرة له، وهكذا من أنواع السخافات التي لا تنتهي، حتى ليبلغ به الأمر أن يفسر حركات الناس وتصرفاتهم تفسيرا غريبا يتعلق بشخصه والحط منه والكيد له، وغير ذلك من الأشكال والألوان، كحب العزلة والابتعاد عن الناس، والانفراد في حجرة حتى في بيته بين أسرته وقلة الرغبة في الكلام، ونحو ذلك، وكما أن الجنون فنون، فكذلك الأعراض تهدم الأعصاب فنون.
ومن مصائب هذا المرض أن صاحبه غالبا لا يؤمن بأنه مريض، عكس الأمراض الجسمية؛ فمن مرض بمعدته يتألم منها، وإذا لم يهضم أدرك أن العيب في معدته لا في الأكل الذي أكله. أما متهدم الأعصاب فيرى أن الدنيا سوداء كما يراها ولا يؤمن بأن العيب عيبه هو، بل في كثير من الأحيان لا يذهب لطبيب أعصاب يداويه؛ لأنه مؤمن أنه ليس بمريض، وإذا أجبر على الذهاب إليه اعتقد أن المريض هو الطبيب.
أكثر ما يحدث هذا التهدم العصبي عند فشل الإنسان في الحياة فشلا فظيعا لسبب من الأسباب، أو تحميل الإنسان نفسه فوق طاقتها من تكاليف وأعباء، وعدم إعطائها حظها من الراحة والهدوء. ولو حللنا أكثر الأسباب التي تدعو إلى هذا التهدم وجدناها ترجع إلى سببين أساسيين: الجهل والخوف.
أما الجهل وعلاقته بتهديم الأعصاب فيتجلى في عدم فهم الإنسان مقدرته ومركزه وكفايته أمام المطالب الاجتماعية، كأن يضع نفسه فوق ما يستحق، فهو يريد أن يسخر المجتمع لخدمته، يريد أن يتزوج ويشغل أكبر وظيفة، وتريد هي أن تتزوج خير رجل وتلعب بالمال لعبا، ويريد هو أن يطفر في المناصب أو في الغنى طفرا. ويريد أن يكون له الجاه العريض والنجاح السريع، والدنيا لا تسير على هواه وحده، والمجتمع إنما يسير بقيود وشروط، فإذا هو لم يحقق مطامحه البعيدة عد نفسه فاشلا، فصدمه ذلك صدمة هدمت أعصابه. وأسعد الناس وأهدؤهم بالا من وزنوا أنفسهم وزنا صحيحا وعرفوا الدنيا التي حولهم معرفة صحيحة. عرفوا أنفسهم بعيوبها ومزاياها، وعرفوا الدنيا بعيوبها ومزاياها، وطلبوا من الدنيا فقط ما يتفق وطبيعة نفوسهم وما يتفق وطبيعة المجتمع الذي يعيشون فيه - ومما لا شك فيه أن العيب ليس كله راجعا إلى الشخص نفسه، فكثيرا ما تكون العيوب الكثيرة التي تهدم الأعصاب في المجتمع نفسه، كما إذا اختل فيه العدل الاجتماعي واختل فيه تقدير الكفايات، وكانت الرذائل تنجح فيه حيث تفشل الفضيلة، كذلك إذا كان المجتمع يرهق أرباب الأسر ولا يساعدهم في تخفيف الحياة عنهم بتسهيل وسائل التعليم ووسائل العيش؛ ولذلك كان المجتمع الفاسد الذي تسود فيه الفوضى والاضطراب محتاجا لكثير من المستشفيات لمتهدمي الأعصاب. إن جهل الأفراد بوزن نفوسهم وجهل أولي الأمر في تنظيم مجتمعهم هو أكبر سبب في تهديم أعصابهم. فتهدم الأعصاب ليس إلا نتيجة ارتباك في الحياة الخاصة أو الحياة العامة. وكثير من الناس يرون أنهم إما أن ينجحوا في الحياة مائة في المائة أو الخيبة المطلقة، على مبدأ الشاعر الذي يقول: «لنا الصدر دون العالمين أو القبر». ولكن طبيعة الحياة تأبى هذا، فليس في الدنيا ناجح مائة في المائة في كل شؤونها؛ فالمطالبة بهذا القدر وتنغيص النفس إذا لم يحدث ، والاتكاء على الأعصاب من أجل هذا المطلب المستحيل جهل بقوانين الطبيعة، ويكفي الإنسان طمأنينة وراحة بال أن ينجح بعض النجاح.
أما السبب الخطير الثاني في تهدم الأعصاب فهو الخوف وهو أشكال وأنواع: الخوف من الفشل، والخوف من الفقر، والخوف من الموت، والخوف من كلام الناس ... إلخ، وليس أدل على تهديم الخوف للأعصاب مما يحصل للناس في أثناء الحرب، فالخوف على أشكاله يهدم أعصاب الناس. وليس هناك أهدأ بالا وأصح أعصابا ممن استهان بالمخاوف وتشجع لمواجهة الصعاب ولتكن النتيجة ما تكون. ومن الحمق أن يجمع الإنسان على نفسه ألم الخوف من الشر قبل وقوعه وألم الشر عند وقوعه. فإذا كان لا بد من ألم فلكيف ألم الشر إذا وقع لا قبل أن يقع. وإذا كان أهم سبب لتهدم الأعصاب الجهل والخوف، فأهم علاج له العلم والشجاعة.
2
إن متاعب الحياة وتعقيد المدنية وإرهاق الناس بالمطالب سبب تحطيم أعصاب كثير من الناس، وربما كان ذلك في الشرق أكثر منه في الغرب. وذلك لأسباب عدة: منها فشو الفقر في الشرق، والمسافات البعيدة بين الطبقات وفشو الأمية. فالجهل كثيرا ما يكون السبب في تهدم الأعصاب، ثم عدم تنظيم الحياة الاجتماعية تنظيما مريحا، فأكثر البيوت لا راحة فيها من كثرة النزاع على توافه الأشياء، وضياع كثير من زمن الرجال في القهوات فرارا من البيت، وهي أمكنة مملوءة بالضوضاء، فاسدة الهواء، فاسدة المناظر، لا تسري حزنا ولا تفرج كربا. وليس هناك مجال للرجل المثقف ولا المرأة المثقفة ينعم فيه بالسعادة الهنيئة البريئة. فمحال اللهو لا تناسبهم، والاجتماعات العامة تضايقهم، ثم النظامات الاجتماعية لم تخفف عن الفقير فقره ولا المريض مرضه ولا رب الأسرة عبئه، ولا الفلاح ولا الصانع والعامل متاعبه، إلى كثير من أمثال ذلك.
لهذا كانت ضحايا تحطيم الأعصاب كثيرة العدد، وهو يتخذ أشكالا عديدة: منها غلبة الحزن على الشخص أو السوداء، تختلف الأسماء والمسمى واحد. ومصداق ذلك أن أكثر أغانينا حزينة؛ لأن نغماتها تنسجم مع النفس الحزينة، وأكثر كلامنا في عيوبنا لا مزايانا لأن ذلك يتفق وآلامنا، وأكثر احتفالاتنا في مظاهر الحزن لا في مظاهر السرور. فالمآتم والقرافة وذكرى الأربعين وذكرى الوفاة للعام الأول والثاني إلى غير ذلك، كلها تناسب النفوس الحزينة الضعيفة الأعصاب التي إن لم تجد محزنة خلقت محزنة، بل إن لم تجد سببا للحزن حزنت لتوقعها الحزن.
ومن مظاهر تحطيم الأعصاب أيضا هذا الغضب السريع الجامح والانفعال الشديد للشيء السخيف، وتحول الإنسان شعلة نار من الغضب ثم تحوله بعد ذلك سريعا إلى لوح من ثلج بارد، وسرعة التنقل من بكاء إلى ضحك، ومن سب إلى استعطاف، ومن زمجرة إلى ندم، ومن أسد إلى قط، ومن ماء إلى حجر، كل هذه أشكال من تحطم الأعصاب.
وقد يتخذ شكلا آخر هو شكل الخوف، خوف مبني على غير أساس، يخاف الفقر وعنده ما يكفيه، ويخاف المرض وصحته جيدة، ويخاف فساد الأولاد وهم صالحون، وسقوطهم في المدرسة وهم ناجحون، ويخاف من رؤسائه وهم عنه راضون أو من شياطين الإنس والجن أو من الترام أو من القطار، أو من خيالات لا وجود لها يخلقها هو ثم يخاف منها - هذا كذلك شكل من تحطم الأعصاب.
وشكل آخر هو حالات عقلية غريبة؛ كضعف الثقة بنفسه، فيعتقد أنه لا يصلح لعمل وأنه إذا عمل عملا فهو لا يستحق شيئا، أو يخشى الناس ويخشى الاجتماع، أو يشك في الناس ويعتقد أنهم كلهم أنجاس لا يرجى منهم خير، أو هو لا يكترث بشأن من شئون الحياة، ولو انطبقت السماء على الأرض، لا تهمه أسرة ولا تهمه وظيفة ولا تهمه أمة، هذا كذلك شكل من تحطم الأعصاب، وما أكثر الأشكال والألوان! وألوف وألوف من الناس فقدوا سعادتهم، وفي كثير من الأحيان سلبوا سعادة من يتصل بهم لا لسبب إلا ضعف أعصابهم، وما نشأ عن ذلك من سوء تصرفاتهم.
وتحطم الأعصاب ليس ضرره مقصورا على المريض وأسرته، بل هو عظيم الضرر للأمة كلها؛ فكيف يؤدي الشخص عمله في وظيفته أو متجره أو مصنعه إذا تحطمت نفسه من تحطم أعصابه؟ كيف يركز قوته في عمله، كيف يفكر تفكيرا صحيحا سليما، كيف يؤدي عمله إذا لم ينم النوم الكافي لضعف أعصابه؟ - كل محطم الأعصاب كارثة على نفسه وعلى أسرته وعلى أمته.
قد تكون الحالات العصبية وهما من الأوهام يتخيله المريض وليس به مرض، فهو يخلق المرض ولا يزال يلح في اعتقاد أنه مريض حتى ينمو المرض في نفسه، ولهذا اعتدنا من قديم أن نعالج الوهم بالوهم، كالزار والبخور والرقى وطب الركة ونحو ذلك؛ وقد تنجح هذه الأمور ولكن سبب نجاحها أنها أوهام تعالج أوهاما، كالذي قرأت مرة أن طبيبا عربيا - لا أذكر اسمه الآن - عرض عليه مريض يتوهم دائما أنه يحمل على رأسه جرة ، فإذا دخل بابا انحنى حتى لا يعوق الباب الجرة، وقد حار فيه الأطباء، فاتفق هذا الطبيب الماهر مع خادمه أن يحضر جرة، فإذا جاء هذا المريض غافله ووقف وراءه بالجرة من غير أن يراه ثم كسر الجرة، وأوهم المريض أنها هي الجرة التي كانت على رأسه، ففعل ذلك وشفي المريض، وهكذا عالج الوهم بالوهم. ولكن في بعض الأحيان يكون تحطم الأعصاب مرضا حقيقيا سببه مرض في الجسم، أو مرض في النفس. وكثير منا في حياته اليومية يرهق أعصابه فتكون النتيجة ما ذكرنا.
فمثلا قسط من الراحة لا بد منه للإنسان، وإن لبدنك عليك حقا، فإذا أنت أنهكته بالسهر أو بالعمل ولم تعطه حظه من الراحة كان من نتيجة ذلك تحطم الأعصاب، وانشغال البال بمطالب الحياة المادية والاجتماعية، والإفراط في ذلك ضرر يصيب الجسم لا محالة تظهر آثاره على مدى الزمان فتضعف الأعصاب.
وتحميل النفس أعباء كثيرة وهموما ثقيلة ومداومة التفكير فيها، كثيرا ما ينتج هذه النتيجة، وهكذا.
مثل أعصابنا كمثل أسلاك الكهرباء في بيوتنا، فإذا انطفأ النور فابحث عن سببه ثم عالجه بما يصلحه، فافحص حياتك هل تعتاد عادات سيئة في جسمك فتسهر أكثر مما يلزم، أو تتعب في العمل أكثر مما يلزم، أو ترتاح أكثر ما يلزم، أو تتغذى أقل أو أكثر مما يلزم، أو نحو ذلك، واسأل مثل هذه الأسئلة نحو نفسك: هل ترهقها بالفكر أو تحمل الهم، هل تحملها ما لا تطيق من اجتماعات وحفلات، هل تعرضها لكثير من الانفعالات؟ فإذا أنت وفقت إلى موضع الداء فعالج سلوكك كما تعالج سلوك الكهرباء، كل شيء بما يناسبه.
فأما الأعصاب المحطمة الناتجة من مرض جسمي، فاطلب علاجها من أطباء الأجسام، وأما الناتجة عن مرض النفس، فمع الأسف لم يلتفت الناس إليها كما التفتوا إلى مرض الجسم؛ ثم كانت النهضة الحديثة في أوربا فتقدم علم النفس كثيرا، وكان له أطباء وإن كانوا في أول مراحلهم.
غير أن هناك مفتاحا أستطيع أن أدلك عليه كمفتاح البيت يفتح أبواب الحجر كلها، هو التنفيس عن نفسك بالتفكير في غيرك. إن الناس ينقسمون - عادة - إلى قسمين: قسم يكثر التفكير في نفسه، وقسم يكثر التفكير فيما حوله، وأكثر المصابين في أعصابهم هم من الصنف الأول الذي يكثر التفكير في نفسه - فحول البخار المضغوط في نفسك إلى عمل خارجي؛ ولذلك ترى أن الناس الذين يشغلون وقتهم بعمل للخدمة العامة أو المصلحة العامة أقل الناس تعرضا لضعف الأعصاب، وأكثر النساء المصابات بهذا المرض نشأ مرضهن كذلك من قصر نظرهن على التفكير في أنفسهن وأولادهن وبيتهن، وعلاج ذلك عندهن تأليف جمعيات لمساعدة المرضى أو الفقراء أو البؤساء أو نحو ذلك مما يصرف ذهنهن عن إطالة التفكير في أنفسهن.
والدليل على ذلك أن المريض بأعصابه يكره المجتمعات، ويكره الصداقة إلا أن يفكر في نفسه؛ فالدواء لا بد أن يكون على عكس الداء كما تعالج الحرارة بالبرودة والبرودة بالحرارة.
فوسع نفسك واشغلها بعمل يعود بالخير على الناس، واهتم بأصدقائك وجيرانك واهتم بشيء يناسبك يكون له صلة بالعالم الخارجي، ومن أجل هذا نرى أن المتدينين من أقل الناس تعرضا لهذه الأمراض العصبية؛ لأنهم يفكرون في ربهم، ولأنهم يطيعونه في أمره بأن نحب الناس كما نحب أنفسنا؛ ولأنهم يأتمرون بأمره في الإحسان إلى الجار وإلى الفقير والإيثار على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة؛ كل هذا فيه خير علاج من المرض العصبي؛ لأنه ينقذ الإنسان من الاستغراق في التفكير في نفسه.
ومن أجل هذا أيضا كان من أشد الناس تعرضا لهذه الأمراض من لا عمل لهم لغناهم أو اعتمادهم على ما يأتيهم من معاش أو من ميراث، فيصبح الزمن عبئا ثقيلا على أنفسهم يحاولون أن يهربوا منه بلعب النرد أو الشطرنج أو نحو ذلك، وباقي الزمن لا يفكرون فيه إلا في أنفسهم، فيستولى عليهم الهم ويعتريهم ضعف الأعصاب. إن ضعف الأعصاب كثيرا ما يكون سببه نتيجة قوة مكبوتة كالبخار المضغوط، ففرج عن نفسك بفتح الصمام له وتوجيهه إلى عمل نافع؛ فالعمل والاهتمام بشأن من شؤون الناس وقلة تفكير الإنسان في نفسه خير دواء لمعالجة الأعصاب والشفاء من أمراضها.
أسس الحياة الطيبة
كل الناس يطلب الحياة الطيبة السعيدة ولكن أكثرهم لا يجدها؛ إما لأنه حرم وسائلها؛ وإما لأنه لم يعرف الطريق إليها.
كتبت إلي سيدة فاضلة تقول: إنها في رخاء في عيشها، فلديها المال الكافي للإنفاق في سخاء، وزوجها موظف كبير تدر عليه وظيفته المال الكافي، وأولادها في صحة ناجحون في مدارسهم، ومع ذلك فليست سعيدة لأنها تشعر بضيق لا تدري سببه، متوقعة في كل لحظة الشر وإن لم يكن. فابنها إذا غاب قليلا أوجست خيفة من غيابه، وزوجها إذا سافر توقعت الشر من سفره، وابنها إذا دخل الامتحان اضطربت خوفا من سقوطه، وهكذا لم ينفعها مالها ولا غنى زوجها ولا صحة أولادها، ولا وسائل الترف والرفاهية من الشقاء الذي هي فيه، وتسأل بعد ذلك عن وسائل الحياة الطيبة السعيدة.
يا سيدتي: أكثر الناس يخطئ فيفهم أن الغنى هو سبب السعادة، نعم إن الفقر سبب من أسباب الشقاء؛ فمن لم يجد ما يعوله ويعول أولاده فهو في شقاء، فالقدر الكافي من المال لسد الحاجات الضرورية وسيلة من وسائل الحياة السعيدة، ولكن الغنى ليس كل شيء في الحياة السعيدة، بل كثيرا ما يكون عائقا عن السعادة لأسباب بسيطة واضحة كل الوضوح؛ فالمال لا نستطيع أن نشتري به الصحة ولا الحب ولا الطمأنينة، ومن ركز غرضه في جمع المال لم يجد فرصة للترفيه عن نفسه في النواحي الأخرى، واللذائذ التي تنال بالغنى سريعة الزوال، والنفس أسرع إلى الملل منها، والغنى المفرط مشغلة تجعل الغني خادما للمال وليس المال خادمه، وأكثر الناس يخطئ في حقيقة بديهية وهي أن ليست السعادة أن يكون عندك شيء، ولكن أن تعمل شيئا، فالسعادة ليست في الملكية ولكن في العمل. إن مثل من يجمع المال قصدا للسعادة كمثل من يتسلح للعدو فيلبس دروعا ثقيلة، ويحمل أسلحة كثيرة حتى يثقل ذلك عليه فيمنعه من السير.
فغناك وغنى أسرتك - يا سيدتي - لا يخلق السعادة، ولكن يصلح أن يكون وسيلة من وسائلها.
تسألينني في آخر خطابك عن وسائل الحياة الطيبة فأرى أنها تقوم على أسس أربعة:
أولها: العمل:
وهو قدر لا بد منه للغني والفقير، والرجل والمرأة، وبدونه تصبح الحياة عبئا ثقيلا لا يطاق. إن العمل واجب من ناحية الأخلاق، فمن أكل من مال الأمة وجب أن يقدم لها أجر ما أكل. ومن سوء الحظ في المدنية الحاضرة والسابقة أن الجزاء فيها ليس متكافئا مع العمل، فالأمم كلها - مع الأسف - مملوءة بالأمثلة العديدة لأناس يعملون كثيرا، ويعملون عملا نافعا عظيما، ثم لا يكافئون على عملهم إلا بالقليل الذي يسد رمقهم، وبجانبهم من يعمل قليلا أو لا يعمل أصلا أو يعمل شرا ثم هو يكافأ على ذلك من غير حساب، وهذا عيب في المدنية يجب أن يعالج، ثم العمل واجب من الناحية النفسية، فالطبيعة نفسها فرضته فرضا؛ لأنها خلقت الإنسان اجتماعيا بطبعه، وحمت نفسها بالعمل، فمن لم يعمل عاقبته بالسآمة والملل والضجر لمخالفته قوانينها، وكلما كان العمل لنفع الناس كان جزاء الطبيعة عليه أوفى؛ لأنه يتمشى مع أغراضها مع بقاء المجتمع ورقيه، وعبرة ذلك في التاريخ نفسه، فهو لم يحفظ لنا أسماء الأغنياء والوزراء والمترفين بقدر ما حفظ لنا أسماء كبار العاملين الخيرين . بالأمس كنت أتحدث إلى صديق لي عن العالم الشهير «ابن حزم الأندلسي»، فكان مما قلته: إنه كان عالما كبيرا وأخلاقيا عظيما، وكان من بيت كبير فقد كان أبوه وزيرا. فقال: ما اسم أبيه؟ قلت: نسيت ذلك. قال: إن في ذلك لعبرة. لقد حفظت وحفظ أمثالك اسم العالم ونسيت ونسي أمثالك اسم الوزير الذي كان ذا جاه عريض - لا أحد يذكر الأغنياء حتى في عهدنا القريب كما يذكرون الشيخ محمد عبده وجمال الدين الأفغاني. إذا تكاسلت ولم تعمل فلا أحد يعاقبك، ولكن تعاقبك الطبيعة، فقد منحتك الطبيعة القدرة على العمل، فإذا لم تجد لها منفذا تحولت من العمل في الخارج إلى العمل في تحطيم النفس في الداخل، ثم آل ذلك إما إلى تهدم أعصاب أو نوع من السوداء أو الخلل أو الانتحار. فالحياة بلا عمل حياة ميتة. لست مخيرا في أن تعمل أو لا تعمل، فالطبيعة لم تمنحك هذا الاختيار، وكل اختيارك إنما هو في نوع العمل الذي يصلح لك وتصلح له. وإني لا أشك في أن الأغنياء الذين لا عمل لهم من أشقى الناس؛ ولذلك يبحثون عن اللذائذ الرخيصة يضيعون بها سأمهم، ولكن سرعان ما تنقضي لذائذهم. فخير أكلة ما أكلها الإنسان على جوع، وخير نوم ما نامه الإنسان بعد تعب. والراحة الدائمة في حاجة إلى إجازة أكثر من حاجة العمل إلى إجازة.
ولعل سأم السيدات وخصوصا المترفات اللائي اعتمدن في عمل البيت وتربية الطفل على الخدم والحشم سببه هذا، وهو الحياة بلا عمل ، وتلمس السعادة من طريق اللذائذ التافهة.
الأساس الثاني للحياة الطيبة:
الطبع الراضي، أو المزاج الفرح، أو الطبيعة المتفائلة. فنرى في الحياة وجوهها الباسمة وخيراتها الكثيرة فكثير من أسباب الشقاء يرجع إلى الطبع الساخط، الطبع الذي لا يرى في الحياة إلا مصائبها وشرورها وأحزانها، الطبع الذي يخلق من كل سرور بكاء ومن كل لذة ألما، ومن كل مسرة محزنة، الطبع الذي إذا أتيت له بعشرين تفاحة كلها جيدة ما عدا واحدة لا تقع عينه إلا على الفاسدة ، وإذا كان في بيته كل ما يسر لم يلتفت إليه وخلق الغضب من طبق كسر أو كرسي في غير موضعه، لا يعجبه من الروايات إلا الروايات المبكية، ولا من النغمات إلا النغمات الحزينة حتى أصبحت حياتهم نفسها رواية مبكية أو نغمة حزينة. الطبع الراضي متسامح في الصغائر، خالق للسعادة باش مستبشر، يتوقع الخير أكثر مما يتوقع الشر، يضحك حتى في الهزيمة وحتى عند الخسارة المادية. يرى أن مسرح الحياة كميدان لعب الكرة، يكسب اللاعب فيضحك، ويخسر فينتظر الغلبة.
الأساس الثالث:
أن يكون للإنسان غرض نبيل في حياته الاجتماعية، يشعر بأن هناك بائسين في ناحية من نواحيهم، فالدنيا مملوءة بآلام الناس من مرض وفقر، فإذا استطاع أن يشعر قلبه الرحمة فيعمل في جمعية تخفف الفقر أو تواسي المرضى أو تسعف المنكوبين أو نحو ذلك ، شعر بأن حياته غنية بعمل الخير فاغتبط وسعد، يسعد لمشاركة الخيرين في عملهم، ويسعد في شعوره بمحاولته إنقاذ البائسين في بؤسهم، وهذا عمل في متناول الرجال والنساء على السواء، فكل يستطيع أن يشترك في خدمة اجتماعية يقدمها فيشعر بالغبطة والسرور. ولا شيء يبعث على الضجر والسأم كمعيشة الإنسان لنفسه فقط. إن الأنانية وحب الذات خلق طفلي يصحب النفس الضيقة في دور الطفولة، فمن كبر ولا زال لا يحب إلا نفسه كان ذلك علامة طفولته وصغر نفسه. الأناني كثير السأم لأنه لا يشعر إلا بنفسه، ونفسه تدور حول نفسها. أما الذين يشعرون بغيرهم فيضيفون نفوسا إلى نفوسهم، وآفاقا إلى آفاقهم، ويجدون لأنفسهم أغذية مختلف من شعور الآخرين وآرائهم.
الأساس الرابع للحياة الطيبة:
أن يكون لك غرض في الحياة محدود، ثم يكون لك اهتمام في تحقيقه وتعاون مع من يشاركك في برنامجه، توسع ثقافتك فيما حددت من غرض، وتتعشقه حتى تتلذذ من العمل الذي يقرب من النجاح فيه - فحدد الغرض وارسم برنامجه ورتب خطواته، وأحبه وأحب العمل للوصول إليه تشعر بسعادة لا تقدر.
إن كثيرا من البؤساء في الحياة سبب بؤسهم أنهم يعيشون ولا يدركون لم يعيشون، وما وظيفتهم في الحياة وما غرضهم منها، فيكون كالسائر في الشارع بلا غرض، يتسكع هنا آنا وهنا آنا. فإذا رأيت رجلا متبرما من الحياة، ضيق الصدر، ملولا ضجرا يغلب عليه الحزن والكدر فاعلم أنه فقد عنصرا أو أساسا من عناصر الحياة الطيبة، فهو إما فارغ لا عمل له يعتمد على مال موروث أو مال يأتي من عمل غيره ويكتفي بهذا ويركن إلى البطالة، أو هو إنسان تعود أن يرى الحياة بمنظار أسود دائما فاستسلم لهذا ولم يقاومه، أو هو عاش لنفسه فقط فلم يشترك في عمل اجتماعي يشعره الرحمة والشفقة، وهي من النعم الكبرى على الإنسان، أو عاش بلا غرض كالريشة في الهواء لا يتحمس لعمل ولا ينظر إلى غاية.
هذه - يا سيدتي - هي أسباب الحياة الطيبة، وفقدانها أو فقدان واحد منها يجعلها حياة تعسة بغيضة.
فليختبر كل نفسه ليعرف موضع مرضه.
1
أحرقوا اللوائح!!
يحكى أن علي مبارك باشا، كان يوما من أيامه مديرا للأوقاف (أو كما نسميه اليوم وزير الأوقاف)، فدخل يوما مكتبه، فوجد عليه لوائح مكدسة، وهي لكثرتها وتعقدها لا تنهي أمرا ولا تنجز عملا.
ولاحظ أن هناك لوائح ناسخة ولوائح منسوخة ... ومادة في لائحة تناقض مادة في لائحة أخرى، ومادة في اللائحة القديمة والجديدة لا تتفق والعدالة ... والوزارة كلها من كتبتها إلى وزيرها مستعبدون للوائح ... قد وضعت في الأصل لتنظيم العمل، فإذا هي الآن تشل العمل.
فأمر كاتبه أن يحضر مساء يوم لأنه هو سيحضر، فلما كان الموعد حضر الكاتب وحضر الوزير، فأمره الباشا أن يحمل هذه اللوائح إلى حجرة خالية، ففعل، وذهب الباشا بنفسه إلى الحجرة وأخرج من جيبه عود كبريت، وأشعل منها عودا في اللوائح، ووقف يتلذذ من رؤية النار تلتهمها ... ثم عاد إلى مكتبه وقال: الآن نبدأ العمل «على نظافة!»
فما أحوجنا الآن إلى أن يتفق الوزراء على موعد يجتمعون فيه في وزارة المالية، ويأمر كل وزير أن ترسل كل لوائحه إليها، ويحدد موعد يعلن عنه في الصحف ويدعى إليه كبار الموظفين، وتكدس اللوائح كلها في فناء المالية، ويصب عليها عشر صفائح بنزين، ويخطب الوزراء خطبا رنانة تقابل بالتصفيق، ويكون موضوعها: توديع عهد استعباد اللوائح، واستقبال عهد الحرية والعقل والعدالة وإنجاز الأعمال!
ثم يتقدم وزير المالية، ويشعل الكبريت في اللوائح، فتنبعث منها نار جميلة، حارة كحرارة أنفاس المكروبين، ثم يهنئ بعضهم بعضا بعهد لا بطء فيه ولا تعقيد، تسير الأمور فيه سير البرق، ولا يقف فيه أمام الإصلاح شيء، فتقطع الأمة في سنة ما كانت تقطعه في مائة سنة. •••
بالأمس توالت علي ثلاث حوادث في ساعتين، كل حادثة مأساة مروعة.
أولاها:
أسرة أصيبت بكارثة عظمى لأن عائلها وقف عن عمله، ووقف مرتبه وظل موقوفا شهرا بعد شهر، لا يحاكم فتظهر جريمته أو براءته، ولا يصرف مرتبه، فلما ضاقت بالأسرة الحال - إذ لا مورد لها من الرزق غير المرتب الموقوف - حدثت الكارثة العظمى التي كان من ضحاياها روح بريئة!
والثانية:
أني وجدت في الوزارة كتابا قيما طبع منه خمسة آلاف نسخة، ووضع في الصناديق ولم ينتفع به أحد، ولم يعلن عنه، وظل كذلك نحو سنتين، وقد تكلفت كل نسخة منه نحو خمسة قروش، فاقترحت عرضها على المكاتب، وتسهيل شرائها وبيع النسخة بخمسة عشر قرشا يخصم منها 25٪ للمكاتب، حسب العادة الجارية. فاعترض علي بأن اللوائح المالية لا تجيز خصما للمكاتب إلا 7٪، والمكاتب لا تقبل ... والوزارة لا تقبل ... وليضع على الناس نفعهم من الكتاب، وليضع على الوزارة ثمن الكتاب احتراما للوائح.
فإن أراد أحد أن يشتري الكتاب من الوزارة، فهناك الطامة الكبرى؛ لأنه يجب عليه أن يقبل الأرض ويتقدم، ويقبل الأرض ويتأخر، ويملأ استمارة ويضيع يوما بطوله في سبيل الحصول على الكتاب!
والمأساة الثالثة:
موظف أحيل على المعاش من ستة أشهر ... وهو وأسرته لا مورد لهم غير مرتبه ... ورجله قد حفيت من السعي لتسوية معاشه ... ولما تتم التسوية!
أليس من المصادفات العجيبة، أن تتابع هذه المآسي الثلاث علي في وقت واحد؟ وكم صادف غيري من مآس من هذا القبيل قد ملأت حديث كل مجلس وصكت كل سمع؟ ما هذه العبودية للوائح؟
لقد وضعنا أنفسنا موضع الطفل وصيه اللوائح، ووضعنا الوزارات موضع الرجل السفيه تشرف عليه وزارة المالية ... وتركزت كل التصرفات في يد المشرف لا يمكن الإفلات منه. وبذلك مات كل مشروع للإصلاح ... وتجمدت كل حركة.
إن هذا التركيز له تاريخ قد تقادم عهده، وما كان صالحا للماضي لا يصلح اليوم والثوب الذي يناسب الطفل لا يناسب الرجل. قد كان هذا التركيز سببه ما وقعت فيه مصر من دين ثقيل، وما أوجب ذلك من تعيين المراقبين الأجنبيين على موارد الدولة، ووضع نظام يجعل كل تصرف لا بد فيه من إذن المشرفين على المالية حتى يحافظ على مصالح الدائنين من الأوربيين!
فلما جاء عهد الاحتلال انتقلت سلطة المراقبة الثنائية إلى وزارة المالية، فجعل لها الإشراف على كل الوزارات وجعل الإشراف فيها للمستشار المالي، وجعل له الحق في حضور مجلس النظار، ولكن الاحتلال قد زال ... والديون الأجنبية قد زالت، والطفل الصغير قد أصبح رجلا كبيرا، والأمة قد منحت الاستقلال، وأصبحت المالية تحت إشراف المصريين!
أفمن العدل أن يكون النظام الذي وضع لظرف خاص، باقيا مع زوال سببه؟ أو من الحق أن يظل الاستبعاد عن طريق المال في عهد الاستقلال؟
لو كان هذا النظام القائم المركز البطيء يحفظ على الدولة كل مليم، والنظام الموزع السريع يضيع على الدولة مليون جنيه أو مليونين لفضلت النظام الثاني لأنه أنفع للبلد، فسير وسائل الإصلاح، والسرعة في انجاز الأعمال، ووضع الثقة في الموظفين، وقضاء الناس مصالحهم في يسر وسهولة يساوي أكثر من مليونين!
أفلسنا في حاجة إلى علي مبارك آخر يحرق لنا اللوائح؟
في الأدب المصري الحديث
إن الناظر للأدب المصري الحديث (بالمعنى الواسع لكلمة الأدب) يرى أنه قد نبع من نبعين مختلفين كل الاختلاف، وتأثر بهما أشد الأثر، وأن الآثار الأدبية قد تصدر من هذا النبع أكثر من ذاك، وقد يكون العكس. هذان النبعان أو المصدران هما الثقافة الأجنبية، والثقافة العربية القديمة؛ فالنبع الأجنبي ظهر في مظاهر عدة، ظهر عندما اتجهت أوربا إلى استعمار الشرق سياسيا واقتصاديا، فاحتلال الفرنسيين ثم الإنجليز لمصر نقل أوربا إلينا وقدم لنا لونين من الحضارة؛ الفرنسية والإنجليزية؛ وموقع مصر هيأ لها أن تكون مباءة لطوائف الأمم الأخرى تمدنا ببقية الألوان من الحضارة، من أمريكية وألمانية وإيطالية إلى غير ذلك، نعم إن هذا الاستعمار وهذه الطوائف كلها كان غرضها الأساسي غرضا سياسيا واقتصاديا، ولكنها مع ذلك حملت معها علما وأدبا عملت على نشرهما عن قصد وعن غير قصد - فقد رأى بعضهم أن مما يخدم السياسة أن تنشر ثقافتها، فتكسب بذلك عطف أهلها؛ فرأى الفرنسيون - مثلا - أن نشر ثقافتهم في مصر يستتبع وجود طائفة مصرية تتثقف بثقافتها، وتتذوق ذوقها وتقرأ كتبها وتعصب لعاداتها وتقاليدها وهكذا. ومثل ذلك الأمم الأخرى. ثم فرضت اللغة الإنجليزية والفرنسية في المدارس على اختلاف أنواعها.
وكان من أثر هذا وجود طائفة كبيرة حذقت اللغات الأجنبية واطلعت على آدابها وتذوقته؛ فلما أخرجت إلينا أدبا عربيا كان أدبا فيه الأثران، الأثر العربي والأثر الأجنبي، وكما انتقلت أوربا إلينا على الشكل الذي رأينا، انتقلت طائفة أخرى منا إلى أوربا عن طريق البعوث ونحوها، وهؤلاء كانت ثقافتهم الأوربية أوسع وأعمق.
وأكثر المنتجين في الأدب عندنا هم من الطراز الذين تذوقوا الأدبين وتثقفوا الثقافتين، ومن لم يذق هذه الثقافة الأجنبية بأي شكل من أشكالها كان أكثر إنتاجه ضعيفا، أو على الأقل كان إنتاجا لفظيا أو شكليا أو غير مستساغ عند الجيل الحديث.
وكان من أثر انتشار الثقافة الأجنبية الصحافة العربية، وهي التي قطرت الثقافة إلى الشعب، كما كان من أثرها تعليم المرأة، وأخذها حظا عظيما من الثقافة حتى بدأت تساهم في الإنتاج، وإن كان إنتاجها لا يزال إلى الآن ضعيفا.
وكان من عمل الأوربيين أيضا في خدمة الأدب العربي حركة الاستشراق؛ فقد نشر المستشرقون أهم الكتب العربية في دقة وعناية، وعلمونا كيف ننشر الكتب في تحقيق وضبط، من مقابلة النسخ بعضها ببعض، ووضع فهارس وافية لها إلى غير ذلك.
وكانت لهم بجانب ذلك بحوث قيمة في الموضوعات الإسلامية والموضوعات الأدبية، كالذي يتمثل في تأليفهم لدائرة المعارف الإسلامية. نعم إن بعضهم - من غير شك - قد غلب عليه التعصب الديني في بحوثه، وبعضهم غلب عليه التعصب السياسي لأمته، وبعضهم وقع في أخطاء كبيرة منشؤها صعوبة تذوق روح اللغة وأدبها، ولكن هذا كله لا يذهب بفضل الكثير منهم، وخاصة من ناحية أننا استفدنا منهم طرق البحث وكيفية الاستفادة من النصوص.
يضاف إلى ذلك ما يعقدون من مؤتمرات، كمؤتمر المستشرقين الذي من مزاياه تعارف المستشرقين، ومعرفة النتائج التي وصلوا إليها ووضع الخطط للبحوث المستقبلية.
ومن ذلك إنشاء المجلات الشرقية كالمجلة الآسيوية ونحوها، وكان لهذا كله صدى كبير في الشرق عامة ومصر خاصة.
هذا - في إجمال تام - ملخص أثر الحركة الأوربية في مصر.
يقابل هذه الحركة حركة أخرى مصرية نشأت من الأزهر ودار العلوم؛ فهؤلاء نشروا تعليم اللغة العربية وآدابها في المدارس ، وقاموا بنشر الثقافة العربية بجانب الإنجليزية والفرنسية وغيرهما. ولكن هل نجحوا في عملهم؟ مما لا شك فيه أنهم نجحوا إلى حد ما؛ والذين ينشدون الكمال يرون نجاحهم كان محدودا؛ لأن أكثر تخرج على أيديهم لم يتذوقوا الأدب العربي كما ينبغي، ولم ينتجوا نتاجا عربيا كما ينبغي، فطلبة المدارس الذين يأخذون بالحظين معا من اللغة الأوربية واللغة العربية سرعان ما يميلون إلى اللغة الأجنبية، ويعكفون على دراسة أدبها، وقل من يعكف منهم على اللغة العربية وآدابها بعد تخرجه - قد تقول: إن السبب في هذا وفرة النتاج الأوربي وضعف المكتبة العربية، ولكنهم أيضا هم المسئولون عن هذا النقص، فقد مضت عليهم السنون الطويلة التي كانت تمكنهم من سد هذا النقص، وإيجاد الكتب التي تغذي الشعب في مراحله المختلفة، ولم يقوموا بهذه الرسالة على وجهها.
هذا إلى ما نراه من ضعف واضح في متخرجي المدارس المصرية في اللغة العربية من ناحية تعبيرهم، ومن ناحية أدائهم للمعاني التي في نفوسهم.
وكان من أثر هذه الحركة أيضا، حركة التأليف في الموضوعات القديمة، ونشر الكتب القديمة كما يفعل المستشرقون، بل قد زادوا عليهم، فمما نلاحظ ضعف حركة الاستشراق الأوربي وقلة ما تنشره، وكثرة ما ينشر في العالم العربي وخاصة مصر، وهو من ناحية الكمية يدعو إلى الإعجاب، ومن ناحية الكيفية يدعو إلى الأمل في المستقبل في الضبط والدقة.
ولا تزال الحركة الأدبية العربية القديمة تعمل عملها؛ فالكتب القديمة تقرأ في الأزهر ودار العلوم والجامعة؛ فتقرأ كتب النحو والصرف والأدب ودواوين الشعر ونحو ذلك فتغذي هذه الحركة وتنميها.
وهاتان الحركتان تتقاربان وتمتزجان وتؤثر كل منهما في الأخرى أثرا كبيرا أحيانا وضعيفا أحيانا، ويكاد يكون هذا الامتزاج ظاهرا في كل تعليم وكل نتاج أدبي؛ فالذين تثقفوا ثقافة أجنبية واسعة عميقة إذ أنتجوا نتاجا عربيا استخدموا العربية وهو عنصر عربي، وكثيرا ما كتبوا في موضوعات عربية أو مصرية حتى يكون لنتاجهم قيمة ذاتية، وتأثروا بالآداب الأجنبية في طريقة العرض وطريقة الفن. وكبار الأدباء متأثرون من غير شك بالثقافة الأجنبية في طريقة التحليل والعرض، ومتأثرون بالثقافة العربية في اللغة والأسلوب وموضوع الكتاب.
وغاية الأمر أن مقدار حظ الأدباء من الثقافتين يختلف؛ فمنهم من غلبت عليه النزعة الأجنبية حتى لا يكاد يبين بالعربية، ومنهم من غلبت عليه النزعة العربية، حتى ليكاد يكون نتاجه يحاكي بديع الزمان الهمذاني أو الجاحظ أو نحوهما من ذوي الأسلوب القديم. ولكل من الثقافتين الأجنبية والعربية مزاج خاص؛ فمزاج الثقافة الأجنبية حر أمام الدين وأمام المشاكل الاجتماعية والسياسية، وطبيعتها وثابة تعنى أكثر ما تعنى بالحياة الواقعية، وتجاري الزمن وتنظر للمستقبل. ومزاج الثقافة العربية القديمة المحافظة في الدين وفي الاجتماع وفي السياسة، وطبيعتها هادئة تعنى بالماضي أكثر من عنايتها بالمستقبل، وتعظم الماضي أكثر مما تعظم الحاضر. فخير أسلوب عندها أسلوب الجاحظ أو البديع، وخير كاتب من حافظ على التقاليد القديمة وهكذا.
وهذا هو ما يفسر لنا الصراع بين حركة الأزهر والجامعة - مثلا - والصراع بين المثقفين ثقافة شرقية بحتة والمثقفين ثقافة غربية بحتة، والصراع بين شيوخ الأدب والعلم وشبان الأدب والعلم.
ولكن مهما كانت طبيعة المزاجين مختلفة، فالزمان يعمل عمله في التقريب بينهما، وهو يعمل فيهما ما يعمله إذا صببت ماء حارا باردا، فالنتيجة مزاج من الحرارة والبرودة. فالمثقف ثقافة أجنبية يرى نفسه مضطرا - إلى حد ما - أن يجاري القديم حتى يفهم وحتى يقبل وحتى ينجح. والمثقف ثقافة عربية بحتة يقرأ الجرائد والكتب المترجمة والكتب المؤلفة على النمط الحديث فيتأثر بها، والأزهر نفسه رأى أن يجاري الجديد - إلى حد ما - فعمل مدارس ثانوية تشبه بعض الشبه المدارس الثانوية المدنية، واستعان برجال دار العلوم لأن فيهم جدة وبعث البعوث إلى أوربا لينقلوا إليه بعض جديد أوربا، وهكذا.
بل نحن في مدارسنا المصرية ننشئ الطلبة على مزيج من الثقافتين؛ فنعلم الجغرافيا والطبيعة والكيمياء والجبر والهندسة كما يتعلمها تماما الطالب الأوربي، ولا ننظر في الكيمياء إلى جابر بن حيان، ولا في الجغرافيا إلى معجم ياقوت، ولا في الطبيعة والرياضة إلى ابن الهيثم. ونعلم النحو والصرف كما خلفهما سيبويه، لا نختلف في شيء إلا في أسلوب التبسيط وضرب المثل.
وهاتان الحركتان، الحركة الأوربية والحركة العربية، وامتزاجهما على أشكال من المزج هو الذي يلقي الضوء على نتاجنا الأدبي على اختلاف أنواعه. فلنعرض لشيء من التفصيل والتمثيل. خذ لذلك مثلا أدبنا السياسي كشعر حافظ ، وخطب سعد ، ومقالات الصحف في الحركة الوطنية ... إلخ. فهي عربية قومية في لغتها ونزعتها؛ وهي غربية لأنها تحذو حذو الأجنبي في كيفية معالجة الموضوعات في الصحف وعلى ألسنة الخطباء ... إلخ. فذلك كله نتيجة المزاجين، نتيجة أن السياسة الأجنبية أرادت أن تطغى علينا وتفقدنا قوميتنا فتنبهت مشاعرنا، وهذا هو العنصر المصري. ولكن بجانب ذلك كان منا من تعلم من الأجنبي كيف يدافع عن بلاده، وكيف يكتب دفاعا عن الحرية، وكيف تعالج صحفهم ذلك، وكيف يعالجه خطباؤهم، فاستفدنا منهم، وهذا هو العنصر الأجنبي.
امتزج هذان العنصران فكان لنا أدب سياسي يتفق وموقعنا ويتفق وحياتنا، وما كان يكون ذلك لو لم يمتزج العنصران، ولعل محمد عبده وسعد زغلول خير من يمثل هذه الفكرة، وفيهما اجتمع العنصران وتآلفا.
ولننظر مثلا إلى الشعر الحديث ما شأنه؛ لقد كان قبيل البارودي منحطا منحلا، كان أغلبه نظما لا شعرا، يستعملونه في التهاني والتعازي وما شاكل ذلك في أسلوب منحط أو في الخلاعة والمجون في ألفاظ بذيئة.
فجاء البارودي وجدده، ولكن يخيل إلي أن تجديده لم يكن من نوع التجديد الذي نفهمه الآن من تطعيم الأدب العربي بالأدب الأجنبي، إنما كان تجديده من ناحية الرجوع بالشعر العربي لا إلى العصر القريب المنحط بل إلى العصر البعيد الراقي؛ فترسم آثار أبي نواس وأبي فراس والمتنبي والشريف الرضي من حيث الأغراض والمعاني وفحولة اللفظ. فلما جاء حافظ وشوقي وأضرابهما كان تجديدهم أوضح، ولكنهم مع هذا حظهم من القديم أكثر من حظهم من الجديد، فلما انتقلوا إلى جوار ربهم وقف الشعر ولم يتقدم كثيرا.
فما السبب في هذا؟
لقد قيل: إن الزمن ليس زمن شعر، وإن الشعر قد انحط في كل العالم لا في مصر وحدها؛ لأن الشعر وليد الخيال، وهذا العصر مادي لا خيالي، يريد أن يمس الواقع لا أن يحلق في الجو. وقيل: إن الأمم ارتقت فلم يعد الشعر صالحا لها؛ لأن الشعر كأحلام الطفولة وهو - عادة - يسبق الفلسفة والنثر الفني؛ فإذا اكتملت الأمة في عقلها خلفت الشعر وراءها، وفتحت عينها للعلم والفلسفة، والعالم الآن جاز دور الطفولة، فما حاجته إلى الشعر؟! وقيل غير ذلك من أسباب.
ولكني أرى أن أصح سبب في تأخر الشعر في مصر والعالم العربي هو ما أسلفنا من نظرية امتزاج الثقافتين.
ولتتميم هذه النظرية أرى أن الشيء الذي يكتب له النجاح هو ما بلغ قدرا صالحا من المزاجين يتفق وذوق الأمة.
وقد يكون هناك سبب آخر في نظري لضعف الشعر، وهو أن الشعر كمالي، والنثر ضروري؛ فحاجتنا إلى النثر كحاجتنا إلى الغذاء، إن لم يوجد الجيد كان لا بد لنا من الوسط أو أقل منه، أما حاجتنا إلى الشعر فكحاجتنا إلى طاقة الزهر على المائدة، إن لم تكن جميلة فمن الخير أن نستغنى عنها؛ لهذا قبلنا النثر الوسط فارتقى ولم نقبل الشعر الوسط فضعف.
فالشعر القديم كان مناسبا للذوق القديم، فلما تطور ذوق الأمة رأى أمامه شيئين مختلفين تمام الاختلاف وكلاهما غير صالح، وبتعبير أدق غير مناسب للذوق الجيل الحاضر. فأما أحد الشعرين فشعر على النمط القديم في أوزانه وقوافيه وأغراضه ومعانيه، وهذا لم يعد صالحا؛ لأن ذوق الأمة اجتاز هذا الطور. وشعر أمعن في تقليد الشعر الأفرنجي في معانيه وأسلوبه وصوره وأخيلته، فجاء نابيا عن الذوق الشرقي ولم تعجبه صياغته ولا ألف تعبيراته؛ كالشاطئ المجهول ومقابر الغجر ونحو ذلك.
وحيرتنا في الشعر كحيرتنا في الموسيقى. فالمثقفون لا ترضيهم الموسيقى القديمة؛ لأن آذانهم الموسيقية ارتقت، ولا ترضيهم الموسيقى الأوربية؛ لأنها لا توافق ذوقهم وقوميتهم، والعالم العربي الآن ينتظر نبيا جديدا في الشعر ونبيا جديدا في الموسيقى، ونجاح هذا النبي يتوقف على مقدار ما يحسن من المزج بين العنصرين، بقدرته على أن يقتبس من الجديد ما يناسب ومن القديم ما يناسب، ثم يكون في نفسه من الحرارة ما يستطيع بها أن ينضج الصنفين، ويكون منهما صنفا واحدا سائغا للسامعين والقارئين.
وهذا السبب الذي دعا إلى تأخر الشعر هو بعينه الذي دعا إلى نجاح النثر، وخاصة في بعض نواحيه كالمقالة؛ فالكتاب استطاعوا أن يتحرروا من كثير من قيود الماضي كالإغراق في المحسنات اللفظية والسجع ونحو ذلك، واقتبسوا من الغربيين محاسنهم كالتحليل الدقيق والبساطة في التعبير، وتمشوا في تعبيرهم وموضوعاتهم مع رقي عقلية المثقفين فنجحوا حيث لم ينجح الشاعر. أما الشعر فلم يتحرر تحرر النثر، فبحوره هي البحور القديمة مع أن البحور ليست إلا النغمات الموسيقية، وشعر حافظ وشوقي في المديح أضاعت قيمته الديمقراطية، وشعر حافظ في السياسة قد انتهي زمنه، والذين يجددون يأتون بصور غربية يزعمون أنها شرقية، ويأتون بصيغ غربية لا تستسيغها الأذواق العربية.
إن النثر جرى طلقا وتحرر من كثير من قيوده واستفاد الأدب الغربي أكثر مما استفاد الشعر، سواء في ذلك موضوعاته وأساليبه، ولم يبق ممن التزم النهج القديم إلا عدد قليل من الكتاب يعجب الناظر بكتابتهم نفس الإعجاب الذي يشعر به زائر دار الآثار.
على أن النثر الجديد لم يكن كله وليد الحركة الأجنبية، بل كان وليد الحركتين معا؛ فأساليب قادة الكتاب نتاج مطالعات في كتب الأقدمين ومطالعات في كتب الغربيين، ولكنهم نجحوا في التخير ومقدار التحرر. قرءوا ابن المقفع والأغاني وأمثالها وانطبعت في أذهانهم صور للأساليب الرائعة، ثم قرءوا الأدب الغربي فتشبعوا بموضوعاته وأساليبه أيضا ، واشتقوا منهما نمطا جديدا لا شرقيا خالصا ولا غربيا خالصا، بل هو شرقي غربي معا، وهذا هو السر في نجاحه
رأوا في النثر القديم جزالة في الأسلوب فاقتبسوا منها، ولكنهم رأوا فيه إيجازا قد يدعو في كثير من الأحيان إلى الغموض فأعرضوا عنه ومالوا إلى الوضوح، وكان أكثر قادة الكتاب في مصر صحفيين، فمالوا إلى الأطناب حتى يسدوا فراغ الصحف، ورأوا كثيرا من موضوعات الأدب القديم لا تناسب حياتنا الواقعية فقلوا الفرنجة فيما يكتبون من موضوعات، وحملتهم الظروف السياسية على أن يطيلوا في السياسة والحرية وحقوق الأفراد وحقوق الأمم، فكان من ذلك كله مران حسن لأقلامهم لم يتوافر للشعراء، ومران حسن لألسنتهم فنمت ناحية الخطابة.
وتنبه المصلحون إلى نواحي الضعف في الحياة المصرية والاجتماعية، فأخذوا يعالجونه بالمقالات ينشرونها في الصحف والمجلات وفي كتب خاصة، هذا يعالج شؤون المرأة، وهذا يعالج البؤس والشقاء، وهذا يعالج القيود التي كبلت بها الحرية، فأثر هذا كله أثرا صالحا في أن يكون للأدب الحديث موضوع بعد أن كان في العصور الوسطى جملة ألفاظ جوفاء.
وكان من أوضح آثار الحركة الأجنبية في الأدب المصري لحديث القصص والتمثيل؛ فلأدب الأوربي الحديث عماده القصص، وكان هذا القصص ضعيفا في اللغة العربية في مصر، ترفع عنه الأدب الأرستقراطي، ونعم به الأدب الشعبي، فقد كان الشعب ينعم بقصة أبي زيد الهلالي وسيف بن ذي يزن والظاهر بيبرس وألف ليلة وليلة، كما تنعم البيوت بحواديت العجائز ونحو ذلك. أما الأدب الأرستقراطي فكان يترفع عن ذلك ويتوقر، ويعدها هي والنكت من سقط المتاع لا يصح للسادة الأفاضل أن يقرءوها أو يؤلفوا فيها.
فكان من نتيجة الاطلاع على الأدب الغربي وتعرف منزلة القصة أن قلدهم كتابنا فبدءوا - أولا - يترجمون، ثم أخذوا يؤلفون ويجعلون الحياة المصرية موضوعا لرواياتهم ، وأنشئت بعض المجلات التي تقتصر على مثل هذا النوع من الأدب، ووجد الكتاب الذين يتخصصون لذلك.
وكذلك كان الشأن في التمثيل والروايات التمثيلية، فقد سارت في نفس هذا الطريق؛ فوجدت الروايات التمثيلية المترجمة والمقتبسة والمؤلفة، ووجد المسرح لعرض هذا النوع من القصص، ولا يزال هذا الامتزاج يعمل عمله ويسير في قوة حتى يبلغ الأدب العربي مبلغه اللائق به.
ويحق لنا بعد ذلك أن نتساءل: هل أدى الأدب العربي في مصر رسالته؟
إنما يؤدي الأدب رسالته في الأمة يوم يكون صوت حياتها ووصف ما فيها من أمل وألم، وغذاءها الروحي الذي يهبها العزاء والأمل، عقلائها وأذكيائها معروضة عرضا جميلا.
ليس الأدب هو الألفاظ الضخمة لا شيء وراءها، وليس أدبنا هو الأدب الجاهلي والأموي والعباسي والأندلسي، إلا أن تكون هذه وسائل فقط لإنتاج أدبنا الذي يمثل مشاعرنا، ليس أدبنا مدحا نتوسل إليه بامتطاء الإبل ونفتتحه بالغزل والنسيب، ونبكي فيه على أطلال الدمن والنؤى والأحجار، فهذا كله وأمثاله يصلح أن يكون دراسة علمية للأدب وليس هو الأدب، وليس الأدب وسيلة من وسائل اللهو والمجون كعادة قوم من الشعراء رأوا أن الشعر ليس إلا التغني بالخمر ونحوها، وليست صياغته إلا نوعا من العبث في البديع وأشكاله.
فهذا ليس هو الأدب الذي نقصده في عصرنا، ولا هو بالغذاء الذي ننشده. إنما نريد من الأدب وصف حياتنا الواقعية بآمالها وآلامها، كما يتصورها ذوو العقول والمشاعر منا معروضة عرضا جميلا جذابا.
نريد أدبا يتمثل في قصص لطيف يناسب الأطفال، وأدبا أرقى من ذلك يناسب الشعب يشرح له نواحي ضعفه ونواحي قوته، ويمثل له أسرته وحكومته وبؤسه وغناه، ويحبب إليه جمال الطبيعة في بلده، ويوضح له ما يعترض عصره من مشاكل اجتماعية واقتصادية وسياسية في أسلوب يناسب عقليته.
نريد أدبا يتغنى به الأطفال ويتغنى به الشعب إذا أراد الغناء، وينشده إن أراد أناشيد.
نريد أدبا مصريا في السينما وفي التمثيل، يعرض للحياة المصرية ويصفها ويحللها.
نريد أدبا في مكتبة عربية مصرية ضخمة كالسماط الممدود، فيه كل صنف حسبما يشتهي الآكل وحسب مقدرته على الهضم.
هذا هو ما نتصوره في الأدب، ويوم يكون ويساير هذه الرغبات كلها يقال حينئذ: إن الأدب المصري قد أدى رسالته.
أما وهو كما نراه اليوم فلا يزال في مفتتح الطريق، فلا الطفل يجد ما يغذيه، ولا الشعب يجد ما يصح أن يقرأه، ولا المغني يجد شيئا صالحا يغنيه، ولا الممثل يجد ما يصح أن يمثله، لا شيء من ذلك إلا أشياء في مستهل الحياة تصلح لمجة ولكن لا تصلح للإشباع.
فإن سئلنا عن العوائق التي تعوق السير السريع في هذا السبيل وجدناها في أمور، أهمها:
أن أدبنا إلى الآن أدب أرستقراطي، وأعني بأرستقراطيته أنه يكتب ويؤلف للطبقة المتعلمة وحدها، وهم عدد قليل بالنسبة للأمة، أما أكثر الشعب فلا يقرأ ولا يكتب، إن كان يقرأ ويكتب ففرق كبير بين لغته في البيت والشارع وحياته العامة وحياته الأدبية، فوجود لغتين للأمة: لغة أرستقراطية ولغة شعبية - إلى هذا الحد الذي نراه - يؤثر في الحياة الأدبية كثيرا، ويظهر ذلك من جهة أن القراء قليلون، وهذا لا يشجع على التأليف، ومن جهة أن الأديب لا يستطيع أن ينزل إلى الشعب ليفهمه؛ لأن هذا يضيع وقاره، ومن جهة أن الأديب لا يجد الألفاظ والتعابير التي تملأ أسلوبه حياة؛ لأن الكلمات والأساليب التي تستعمل في الحياة الواقعية تكتسب الحياة أكثر من الكلمات والأساليب التي يقتصر وجودها على الكتب.
ولست الآن بصدد بحث هذا المشكل وإيجاد الحلول له، فإنما أنا عارض فقط.
ومن الأسباب في هذا الضعف أن البرنامج الموضوع للأديب في تصورنا وعملنا برنامج ناقص؛ فبرنامج الأديب يجب أن يحوي دراسات في النفس والاجتماع واسعة، ودراسات لأدب أوربي واسع، ودراسات لأدب عربي واسع، ودراسات لحياتنا الشعبية الواقعية واسعة، وقل منا من ظفر بهذا البرنامج وأخذ به نفسه؛ لذلك جاء أكثر الإنتاج ناقصا من الناحية الفنية وناقصا من ناحية التحليل، وناقصا من ناحية عدم الإلمام إلماما كافيا بالموضوع الذي يتحدث فيه.
وسبب ثالث: وهو ضعف النقد الأدبي في مصر، وأنه ليس خاضعا لقواعد وأصول وتقدير صحيح بقدر ما هو خاضع للهوى.
وأيا ما كان، فلسنا يائسين ولا ناكرين لفضل الأدباء الحديثين، فنحن إذا نظرنا إلى حالتنا الأدبية من سنين وحالتنا اليوم اغتبطنا، فقد وجدت المقالة الراقية والقصة الراقية والكتب الطيبة في أكثر نواحي الأدب، وكل رجائنا أن يتتابع الجهد في الإنتاج، والجهد في القراءة والتحصيل، وتنظيم وسائل الإنتاج، وتنظيم وسائل القراءة.
وما قلناه عن الأدب المصري الحديث ينطبق كل الانطباق على الأدب العربي الحديث في الشرق كله.
ما الذي ألهمني الأدب؟
سؤال سئلته فكان الجواب عنه عسيرا؛ لأنه يحتاج إلى تحليل الإنسان نفسه، وعندي أن النفس كالعين ترى غيرها ولا ترى نفسها، وتستطيع أن ترى الأشياء الخارجية مباشرة، ولكن إذا أحبت أن ترى نفسها فلا بد من الاستعانة بغيرها كالمرآة، وكل ما في الأمر من فرق أن العين لا تنخدع فلا تزعم القدرة على رؤية نفسها مباشرة، والنفس تنخدع فتزعم أنها ترى نفسها وتقدرها وتزنها، وآية ذلك الانخداع أن الثقيل لا يدرك ثقل نفسه، بل ويحكم بخفتها وظرفها، والكذوب الخداع المرائي لا يشعر من نفسه بذلك، بل يرى أنه المخلص الصادق الأمين، وأغلب الناس يرى أنه الأحق بكل خير وكل نعيم وكل مسرات الحياة، ولذلك كانت معرفة الإنسان نفسه درجة ممتازة لم يرق إليها إلا الفلاسفة وأمثالهم، على شك مني في مقدرتهم.
وسبب ذلك على ما أرى أن طبيعة هذا الكون أن الشيء لا يدرك تمام الإدراك إلا عن بعد مناسب، فإذا زاد القرب منع صحة الإدراك، فالبناء الضخم لا تعرف قيمته ولا تحسن إدراك أجزائه ومجموعه إلا عن بعد مناسب، فإذا التصقت به لم تدركه، والعين قربت جدا من نفسها فلم تدرك نفسها، والنفس قربت جدا من نفسها فلم تدرك أيضا نفسها.
بل أرى أن النفس وقعت في سلسلة أخرى من الأغلاط لهذا السبب، فزعمت أنها تعرف نفسها، ثم لم تقف عند هذا الحد فجعلت إدراكها لنفسها مقياسا لإدراكها غيرها، فحكمت على أخلاق الناس ومعاملاتهم وتصرفاتهم متخذة إدراك النفس أساسا، وإذا كان الأساس واهيا فما بني عليه واه من غير شك.
ولكن كلام الإنسان عن نفسه مقبول ومستساغ إذا لم يتحدث عن طبيعة نفسه، واكتفى بذكر جزيئات وحوادث عرضت له، وذكر ما يشعر به نحوها من نفسه؛ إذ ذاك يتحدث عن أشياء هو أعرف الناس بها، وهي في الواقع أشياء خارجية لا داخلية، وهذه الأمور التي يذكرها تضيء للناس نفسه، ثم يتركهم يحكمون لها أو عليها، لا أن يتولى هو الحكم على نفسه ويشرحها.
في هذه الدائرة أستطيع إن أجيب بعض الإجابة عن هذا السؤال:
أعتقد أن من أهم ما كونني في الأدب أنني من صباي قد منحت عاطفة حادة، وهذه العاطفة أهم ركن من أركان الفن، فلا يتسنى لفنان مطلقا أن يكون فنانا حقا إلا إذا منح هذه العاطفة، وهي هبة إلهية من العسير الإجابة عن منشئها، ولم منحها هذا الشخص قوية وهذا ضعيفة، فإن نحن أرجعناها إلى الوراثة لم نحل هذا الإشكال؛ لأن قوانين الوراثة ليست أقل تعقيدا من قانون القدر. وكانت هذه العاطفة عندي حادة من ناحية الحزن لا من ناحية السرور، فأقل المحزنات يؤثر في أثرا كبيرا، وأكبر المفرحات لا يؤثر في أثرا بالغا، وهذه العاطفة على هذا الوضع صعب تعليلها، فلم أصب في صغري بموت عزيز علي ولم أفارق أهلي، وكنت في عيشة من عيشة الأوساط، لا يعوزنا الضروري من العيش، ولا ما نترفه به بعض الشيء، وكل ما يصح أن أعلل به هذا الحزن أن حياتنا البيتية كانت حياة جادة لا لهو فيها ولا لعب، وكانت حياة الطفولة عندي حياة متزمتة فيها كثير من الشدة، وقليل من اللين.
وكانت هذه العاطفة الحزينة القوية تبدو عندي في أشكال مختلفة، ومظاهر متعددة، فمن صغري كان يشجيني الغناء الحزين؛ فقد أسمع بائعا يغني على سلعته بنغمة محزنة، فأنقلب حزينا مهما كانت بواعث السرور حولي - ولا زلت أذكر وأنا في سن الثامنة أو التاسعة أني سمعت مداحا يتغنى بقصائد وأناشيد على الدف في نغمة محزنة، وكان ذلك بعد العشاء ، فتبعته مضطرا ناسيا نفسي من حارة إلى حارة حتى انقطع الرجل وانصرف، ورجعت إلى بيتي متأخرا متقبلا التأنيب والتهديد عن رضا وسرور.
وربما عددت من مظاهر هذه العاطفة الحادة في هذه السن التدين الحاد، من انهماك في الصلوات والأدعية والتهجد ونحو ذلك. •••
غذى هذه العاطفة من بعض نواحيها أبي - رحمة الله عليه -، فقد كان مغرما بحب المناظر الطبيعية وخاصة نهر النيل والأشجار والمزارع.
حرم أبي الريف، ولكن طبيعته كانت تحن إليه، فكان يخلق لنفسه ريفا، يخرج كل يوم خميس إلى المزارع في ضواحي القاهرة ويأخذني معه لنجلس تحت شجرة بين النيل والغيط، فنمضي فيه طول نهارنا، وكان هذا المنظر يسحر أبي دينيا فيقرأ القرآن ويبتهل ويصلي، ويدخل قلبي من ذلك كله شعور بجمال الطبيعة وعظمتها ممزوج بالدين ورهبته.
وأحيانا ينزل على بعض أصدقائه في الريف، فيمضي وأمضي معه أكثر الوقت في المزارع متأملا مبتهجا مبتهلا. •••
هذه ناحية. وهناك ناحية أخرى غذاها أبي - رحمة الله عليه- ، فقد كان من علماء الأزهر، وكان نادرا بين العلماء في حبه للأدب واقتنائه ما استطاع من كتبه، فكان في مكتبته أهم الكتب الأدبية واللغوية والتاريخية بجانب الكتب الأزهرية، وتكاد كل حجرة في بيتنا يكون فيها دولاب من كتب، وأحيانا دولاب قد صنع داخل الحائط، ثم يكثر المطالعة في هذه الكتب ويشركني معه بما أستطيع.
كانت هاتان الناحيتان نعمة علي من ناحية الأدب. فلما أخذ يعلمني كان يحفظني متون الأزهر كمتن الكنز في الفقه، والألفية في النحو، والتلخيص في البلاغة ... إلخ. ولكن بجانب ذلك أقرأني «فقه اللغة» مرتين، أحفظني بضع مقامات من مقامات الحريري، وبعض رسائل بديع الزمان الهمذاني، وقطعا من نهج البلاغة، فتأثرت بأسلوب هؤلاء كثيرا، فكنت أميل إلى السجع المتكلف، وكان هو يقرض الشعر أحيانا، وحاول أن يقرضنيه ففشل، فتركني، ورأيت مكتبة أبي عامرة بجانبي، فأخذت أقلب الكتب أتصفحها وتعشقت منها - على ما أذكر - كتاب «فاكهة الخلفاء»، وهو كتاب على نمط «كليلة ودمنة» مسجوع، وكتاب «سرح العيون في شرح رسالة ابن زيدون»، وكتاب «وفيات الأعيان» لابن خلكان، وبعض كتب التاريخ كالجبرتي وبدائع الزهور.
ولكنه لم يعودني الكتابة إلا في مناسبات قليلة.
حتى دخلت مدرسة القضاء، فكان من أهم ما نعنى به الكتابة، وأكبر شخصية أثرت في من هذه الناحية المرحوم عاطف باشا بركات ناظر المدرسة، لم يكن - رحمه الله - كاتبا ولا أديبا، ولكن كان فيه ميزات ثلاث تفيد الأدب، كان دقيقا بالغا في الدقة، فكان لا يرضى عن كتابة إلا أن يعبر صاحبها تعبيرا دقيقا، ويؤاخذ على كل صغيرة وكبيرة فيها، فإذا كان اللفظ أوسع من المعنى أو أضيق منه لم يعجبه وآخذ عليه، والميزة الثانية أنه كان يقدر المعنى أكثر مما يقدر اللفظ، فكان لا تعجبه العبارات الجوفاء ولا الاستعارات المتكلفة، وكثيرا ما اختلف مع أساتذة الأدب في هذا الشأن، فكان يقدر الدرجة بصفر على موضوع قدروا له درجة عالية، والعكس؛ لاختلاف جهة التقدير، والميزة الثالثة إعجابه الذي لا حد له بالمجيد في نظره، واشمئزازه الذي لا حد له من المسيء في نظره، فأعلن الإعجاب بطائفة وشجعهم على الكتابة. واذكر أن من حسن حظي مرة أن طلب إلى فرقتنا الكتابة في موضوع «أثر القرآن في العلوم العربية»، فكتبت موضوعي ولم يرق كثيرا أستاذ الأدب، ولكنه وقع في يد عاطف بك فسر منه، واقترح إعطائي نهاية الدرجة وناداني وأعلن سروره منه، وظل كلما أتت طائفة من العظماء لزيارة المدرسة كقاسم أمين وسعد زغلول والشيخ عبد الكريم سلمان طلب الورقة، وقرأها عليهم وحملهم على الإعجاب بها، ومن ذلك اليوم اعتقدت استعدادي للأدب، وكان ذلك في السنة الأولى من المدرسة. ومن ذلك الحين ظل أستاذ الأدب يغمرني بتشجيعه.
وتطلعت نفسي للكتابة في الصحف، فاخترت جريدة «المؤيد» لأكتب فيها، وكنت في السنة الثانية من مدرسة القضاء، وأول مقالة كتبتها كانت أثر انتقال سعد باشا من وزارة المعارف إلى وزارة الحقانية، فكتبت مقالة عنوانها «خطأ العقلاء» أبين فيها خطأ سعد باشا لتحوله من المعارف إلى الحقانية، فقرأها الشيخ علي يوسف ولم ينشرها؛ إما لأنه استسخفها؛ أو لأنه لم يشأ أن ينشر شيئا في هذا الباب، أو لأن كاتبها طالب غابت عنه كل الظروف المتعلقة بالموضوع فتعرض لما يجهله - على كل حال لم تنشر المقالة، وكانت هذه صدمة قوية في نفسي لم أحاول بعدها أن أكتب في الجرائد والمجلات، وأعتقد أنها لو نشرت لغيرت تاريخ حياتي الأدبية.
وكانت المرحلة الثانية في تاريخ حياتي الأدبية اتصالي بالأدب الإنجليزي، وكان سببه أني رأيت كثيرا ممن أجلهم من أساتذتي في مدرسة القضاء يعتمدون في تحضير دروسهم على اللغة الأجنبية، ويعرضون علينا معلومات خلابة لا نراها في الكتب العربية. فالمرحوم عاطف بك يدرس لنا الأخلاق من كتاب «مكنزي» ورسالة المنفعة لجون ستورت مل، والمرحوم علي بك فوزي يدرس لنا التاريخ ويعتمد في مصادره على الكتب الإنجليزية - وكان معنا طالب يعرف قليلا من اللغة الإنجليزية، فكان يقرأ في كتاب إنجليزي نظريات الهندسة قبل أن يلقيها الأستاذ، ويدعي تفوقه علينا ويدل بذلك. كل هذا شوقني إلى دراسة اللغة، ولكن لم أتمكن من البدء أيام الدراسة؛ لأن المدرسة كانت شاقة متعبة تستغرق دراستها كل أوقاتنا.
وأخيرا بعد أن تخرجت اتفقت مع صديقي المرحوم أحمد بك أمين المستشار في محكمة النقض على أن نعمل رحلة إلى مساجد القاهرة وبيوتها الأثرية، وكان إذ ذاك مدرسا بمدرسة القضاء، واتفقنا على أن نتلاقى في الصباح نقرأ ما كتبه علي باشا مبارك عن حي من الأحياء، وما فيه من مساجد وآثار، ونلتقي بعد العصر لنحقق ما قرأنا، وقضينا في هذا العمل ثلاثة أشهر الصيف، ففي يوم كنا نزور بيتا أثريا في «حوش قدم» وقد قصر في وصفه علي باشا مبارك، واستعان أحمد أمين بك على إكمال وصفه بكتاب ألماني مترجم إلى الإنجليزية وهو كتاب «بدكر»، فما كان مني إلا أن طلبت منه أن يدلني على خير طريق لتعلم الإنجليزية، فأشار علي بمدرسة «برليتز» فوافقته. وقبل أن نرجع إلى بيوتنا من هذه الجولة عرجنا على مدرسة «برليتز» في شارع عماد الدين، واتفقنا على عدد الدروس، ودفعت أجرة الشهر، وبذلت مجهودا شاقا في تعلمها، واستمررت على ذلك نحو سنتين، ثم رأيت أن المدرسة لم تعد بعد كافية في تعليمي.
فدلني صديق لي على مدرسة إنجليزية في ميدان الأزهار اسمها «مس بور»، رأيت هذه السيدة ذات شخصية عجيبة، فهي قوية حازمة راقية مثقفة ثقافة عالمية، تجيد الإنجليزية والفرنسية والألمانية، وأقامت في لندن وباريس وبرلين وأمريكا أزمانا طويلة، وعرفت أحوال هذه البلاد الاجتماعية عن قرب، وتقرأ أمهات الكتب وتنشر في التيمس مقالات جيدة، وهي بعد ذلك فنانة تجيد الرسم والتصوير، وتعلم ذلك لبعض أولاد الأسر المصرية الراقية كأولاد المرحوم عبد الخالق باشا ثروت.
وكانت تعيش عيشة فخمة من كسب يدها في مصر، فقد استأجرت بيتا خاليا في ميدان الأزهار وفرشته وأجرته غرفا، فكان يأتيها من ذلك ربح نحو الثلاثين جنيها، ثم ترسم صورا زيتية وتبيعها وتدرس لبعض أفراد قلائل وتكاتب التيمس بأجر، فكان لها من ذلك دخل واف لا تدخر منه شيئا، وإنما تعيش عن سعة، وتتصدق بالباقي عن سعة.
عطفت علي هذه السيدة عطفا شديدا، لا عطف معلمة أجنبية لشاب أجنبي، ولكن عطف أم على ولدها. لمست مني جوانب ضعف منشؤها تربيتي الخاصة، رأت شابا في لباس شيخ منكمشا خاملا، فكانت تقول لي: «تذكر دائما أنك شاب» تكررها علي مرارا كلما رأت مناسبة.
وكانت مفتونة بالأزهار أشكالا وألوانا، ففي كل ركن من أركان الحجرة أزهار، وفي وسط الحجرة أزهار، وكل يوم نوع جديد، وكان يؤلمها إذا دخلت عليها ألا أبدي إعجابي بالأزهار الجديدة وألا يكون أول حديثي عنها، ووصف شعوري نحوها، فكانت تكرر في شدة: «يجب أن يكون لك عين فنانة»، فأخذت أرضيها أول بكلمات إعجاب بالأزهار، ثم تحول ذلك إلى شعور حقيقي في القلب، وكذلك كان شأنها معي فيما تعرض علي من صور ترسمها، وكان لها من الناحية الأدبية ميل إلى الأدب الاجتماعي، وكان يظهر ذلك معي في اختيارها الكتب التي أقرؤها معها، فبدأت بإقرائي كتب اللورد «آفبري». وما زالت تترقى معي إلى أن قرأنا في السنة الرابعة، وهي في السنة الأخيرة معها كتاب «جمهورية أفلاطون»، فكنت أقرأ الفصل من الكتاب أمامها، ثم تأخذ هي في شرح نظريته، وتتبع ذلك بما طرأ على هذه النظرية من تغير، وكيف يعمل بهذه النظرية في فرنسا وإنجلترا وألمانيا وأمريكا إذا دعت الحال. ولعل هذا هو الذي خلق في الميل إلى الأدب الاجتماعي، فأكثر مكتبتي وكتاباتي من هذا القبيل.
أشعر أن قراءة الأدب الإنجليزي كان لها أثر كبير في نفسي من عدة نواح، فقد قوى في الميل إلى العناية بالمعنى أكثر من العناية باللفظ، حتى بالغت في ذلك، فكثيرا ما أستعمل ضمائر لا مرجع لها إلا في ذهني، ونحو ذلك مما سببه توافر قوتي على المعاني وتسلسلها دون إعطاء جانب اللفظ ما يستحقه من العناية.
كما استفدت من الأدب الإنجليزي الميل إلى البساطة في التعبير، والدخول على الموضوع من غير مقدمات طويلة، وكراهية التصنع، حتى ليعجبني أحيانا اللفظ العامي أو التعبير العامي، لا أجد مقابلة في اللغة الفصحى يغني غناءه، فأستعمله راضي النفس وإن كره اللغويون والمتشددون، وربما عددت مما أثر في من الأدب الإنجليزي مطالعات في بعض كتب
Ruskin ، فقد أثر في من ناحية مبدئه، وهو أن الفن ليس للفن، وإنما يجب أن يخضع للخلق وللصالح العام، ونظرته إلى الفن الراقي - ومنه الأدب - يجب أن يقوم بما يبعث من سمو وما يقوي من روحنا وإرادتنا.
كما أثرت في رسائل الكاتب الأمريكي
Emerson
من ناحية تفكيره المبتكر، وأسلوبه الذي يبعث الثورة، لكن بهدوء لا بعنف، وطريقته التي توعز أكثر مما تستقصي، وكتابته التي تنم عن خلق صاف طاهر.
هذه أهم العوامل العربية والأوربية التي رأيت أنها أثرت في وفي أدبي إن كان لي أدب. على أن من الحق أن يقال: إن وراء العوامل الظاهرة في تكوين كل أديب عوامل أخرى خفية قد تكون أبعد أثرا، وهو لا يلقي لها بالا، فقد تكون كلمة ألقيت لم يلتفت لقيمتها أي إنسان، ومع ذلك اختزنت في العقل الباطن للأديب وفعلت فعلها في خفاء، وكان لها نتائج قيمة جدا، وقد يكون منظر طبيعي أو منظر في سينما أو منظر في الحياة اليومية، أو كلمة في جريدة أو مجلة مرت على عين الأديب أو أذنه، وكانت في الظاهر ككل شيء غير ذي خطر يمر، ولكنها لظروف خاصة واستعداد خاص كانت كالبذرة الطيبة دفنت في خفاء وفي الظلماء، فلما آن أوانها خرجت شجرة يانعة مثمرة. وهذه هي الناحية التي يصعب على الأديب تحليلها.
في الهواء الطلق (1)
في الهواء الطلق (2)
في الهواء الطلق (3)
في الهواء الطلق (4)
في الهواء الطلق (5)
الشرق في محنته
في الحياة الروحية1
العيد المئوي
عبء الاستقلال
صفحة من التاريخ
لون من ألوان الفكاهة المصرية
في الأدب العربي (1)
في الأدب العربي (2)
في الأدب العربي (3)
في الأدب العربي (4)
في الأدب العربي (5)
في الأدب العربي (6)
أخلاق السادة
من الأقوال المأثورة: في الأدب الغربي والعربي
زعماء الإصلاح الإسلامي في العصر الحديث : الشيخ محمد عبده
الفكاهة في الأدب العربي
الاتجاهات الحديثة في دراسة اللغة1
موقف حرج
مشاكلنا اللغوية والأدبية
الذوق الأدبي
الزعامة والزعماء
أحاديث رمضان: في الحياة الروحية1
الإنسانية في الإسلام
مأساة
المجمع اللغوي1
الشيخ مصطفى عبد الرازق
الجدل العقيم
اختلاف القيم
الوصايا العشر
أبو سليمان المنطقي كما يصوره أبو حيان التوحيدي
تعقيل الإصلاح1
غفلة مزمنة
الجرائم العقلية
قادة الرأي
عام العنز
مثل رائع
في الهواء الطلق (1)
في الهواء الطلق (2)
في الهواء الطلق (3)
في الهواء الطلق (4)
في الهواء الطلق (5)
الشرق في محنته
في الحياة الروحية1
العيد المئوي
عبء الاستقلال
صفحة من التاريخ
لون من ألوان الفكاهة المصرية
في الأدب العربي (1)
في الأدب العربي (2)
في الأدب العربي (3)
في الأدب العربي (4)
في الأدب العربي (5)
في الأدب العربي (6)
أخلاق السادة
من الأقوال المأثورة: في الأدب الغربي والعربي
زعماء الإصلاح الإسلامي في العصر الحديث: الشيخ محمد عبده
الفكاهة في الأدب العربي
الاتجاهات الحديثة في دراسة اللغة1
موقف حرج
مشاكلنا اللغوية والأدبية
الذوق الأدبي
الزعامة والزعماء
أحاديث رمضان: في الحياة الروحية1
الإنسانية في الإسلام
مأساة
المجمع اللغوي1
الشيخ مصطفى عبد الرازق
الجدل العقيم
اختلاف القيم
الوصايا العشر
أبو سليمان المنطقي كما يصوره أبو حيان التوحيدي
تعقيل الإصلاح1
غفلة مزمنة
الجرائم العقلية
قادة الرأي
عام العنز
مثل رائع
فيض الخاطر (الجزء السابع)
فيض الخاطر (الجزء السابع)
مقالات أدبية واجتماعية
تأليف
أحمد أمين
في الهواء الطلق (1)
على شاطئ البحر جلست اليوم وحدي. واتجهت هذه المرة إلى التفكير فيما في البحر من الأحياء، كم من الملايين يولد في الساعة وكم من الملايين يموت، وكم مما تعجز عنه الأرقام حيي فيه ثم فني فيه؟
وانتقل ذهني إلى الإنسان، كان شأنه في البر شأن الحياة في البحر، فمنذ كان قبل التاريخ وبعد التاريخ، وملايين الملايين تحيا ثم تفنى.
وهذه الحرب أرخصت الحياة فكل يوم تحصد مئات الألوف حصدا، في البر وفي البحر من فعل الطائرات، ومن فعل الغواصات، ومن فعل سائر المدمرات.
ما الأرض بالنسبة لهذا العالم؟ وما حياة الإنسان كله بجانب هذه الحيوات كلها؟ وما حياتي أنا بجانب حياة الناس كلهم في الماضي والحاضر والمستقبل؟
ومع هذا فحياتي أهم شيء في الوجود في نظري وفي أعماق شعوري، وكذلك حياة كل إنسان أهم ما في الوجود في نظره وفي أعماق شعوره.
على هذه النظرة بني العالم الإنساني. ولو تغيرت هذه النظرة لتغير الكون، فالفضيلة والرذيلة، والإصلاح والإفساد، والنظم الاجتماعية والسياسية على اختلاف أنواعها، والأديان وقضاياها، والإقتصاد ومسائله، كلها تعالج بشتى الأشكال ما ركب في غرائزي من أني أهم ما في الوجود.
مهما حقر العالم من شأن حياة الفرد فأثبت الفلكي أن الأرض ليست إلا هنة في العالم، وأثبت عالم الحياة أن الإنسان ليس إلا حيوانا حقيرا نشأ وارتقى، والكيميائي أن جسم الإنسان يجري عليه كل ما يجري على مواد العالم، فسيظل الفرد هو الفرد، يرى ويشعر، ويسير في جميع شئونه على أنه أهم شيء في الوجود.
هل من مصلحة العالم أن يغير الفرد نظرته هذه فيرى أنه شيء كسائر الأشياء وإنسان كسائر الناس، وليس مركزا للدائرة، ولكنه نقطة على محيطها؟ سؤال سخيف! لأنه سواء كان الجواب إيجابا أو سلبا فسيظل الإنسان هو الإنسان يرى أنه أهم شيء في الوجود.
قد يعالج الفرد نفسه بعض الوقت، وقد يروض نفسه حينا على أن يرى نفسه كسائر النفوس وليس أهم من غيره في شيء، ولكن سرعان ما ينسى العلاج وينسى ما راض نفسه عليه ويعود سيرته الأولى.
ولكل إنسان دنيا خاصة، لا تساويها دنيا الآخرين؛ فدنياه أبوه وأمه وزوجته وأولاده وأقاربه وما يبعثون من ألم وسرور، وعمله الذي يقوم به وما يسبب من مشاكل، وماله وما يصل به من دخل وخرج، وأصدقاؤه وأعداؤه ونحو ذلك؛ هذه هي دنياه الصغرى التي تهمه في المنزلة الأولى، وعليها تقوم مسراته وأحزانه. فإذا ارتقى الإنسان بعض الشيء كان له دنيا أخرى تتسع بمقدار رقيه، بما يشغله من أحداث العالم وما يتصل بوطنيته وبدينه وثقافته ونحو ذلك؛ وهذه الدنيا الواسعة تتصل اتصالا وثيقا بدنياه الصغرى، فهو يرى حوادث الدنيا الكبرى من خلال دنياه الصغرى.
إذا حدثت حادثة في الصين فقلما تثير في اهتماما؛ لأنها لا تتصل بدنياي الصغرى، فإذا هي حدثت في شارعي كنت لها أكثر اهتماما، فإن هي حدثت لصديقي أو عدوي تضاعف اهتمامي، فإن هي حدثت في بيتي كانت في الصميم من نفسي، واقرأ أعمدة الوفيات في الجرائد والأخبار المحلية وغير المحلية فتوقع كلها على نفسي نغمات مختلفة، علوا وانخفاضا وغلظا ورقة، فكلما كان الخبر يمس نفسي الصغرى علت النغمة وعظم الأثر، ولذلك كانت الجريدة الناجحة هي التي تثير انفعال أكبر عدد ممكن، لأنها تغذي النفوس المختلفة والدنى المختلفة، دنيا التاجر ودنيا السياسي ودنيا العالم إلخ.
وما يؤثر في كثيرا يؤثر في آخر قليلا ولا يؤثر في ثالث مطلقا، وما يؤثر في اليوم كثيرا كان يؤثر في أمس قليلا، وسوف لا يؤثر في غدا مطلقا؛ لأنه كان يمس دنياي ثم سوف لا يمسها، كان فيها ثم خرج من حسابها.
وقيمة أعمالي في نظري غير قيمتها في نظرك، لأنها منبعثة عن دنياي لا دنياك، ومؤثرة في دنياي أكثر مما هي مؤثرة في دنياك، وما يغضبني غير ما يغضبك، وما يسرني غير ما يسرك، نوعا وكيفا ؛ لأن رأيي ومشاعري وشخصيتي ودنياي غير ذلك كله عندك، وأنا أعرف بالباعث لي على أعمالي أكثر مما تعرف.
وأنا وأنت وهو وهي نختلف في حكمنا على الأشياء ونتفق بمقدار ما بيننا من فروق وموافقات، في البواعث والرأي والمشاعر، وبعبارة أخرى بمقدار ما بيننا من فروق وموافقات، في البواعث والرأي والمشاعر، وبعبارة أخرى بمقدار ما تتشابه دنيانا أو تتخالف، فعند أغلب الناس وجوه شبه تنتج اتحاد رأي، ووجوه خلاف تنتج اختلاف رأي، ولا يمكن أن تجد اثنين قد اتحدت دنياهما.
في دنياي وفي دنيا كل إنسان متاعب كثيرة مختلفة الألوان، بعضها حقيقي وأكثرها وهمي، نحب أن تكون دنيانا الصغرى أحسن الدنى، وليس ذلك في الإمكان، فلو كانت دنياي أحسن الدنى لكانت دنياك بالطبيعة أقل منها شأنا، وهذا لا يرضيك، وتظن أن الله لك وحدك، ترجوه أن يمنحك أحسن الطيبات، ويدفع عنك كل الشرور، مع أن الله للجميع ولأرضك ولسمائك ولكل العوالم، وما أنت وعالمك والنظرة إلى العوالم قد تستلزم محوك من الوجود؟ نريد أن تكون دنيانا كما نحب أن نصنعها، وهذا علة كثير من المتاعب، ولكن كيف يمكننا أن نصنع دنيانا وليس فينا قدرة الخلق، ودنيانا مرتبطة كل الارتباط بدنيا غيرنا ومتأثرة بها وفاعلة ومنفعلة معها؟
إن كثيرا من المتاعب ليس سببها المتاعب نفسها، ولكن علتها النفس التي تنظر إلى الأشياء على أنها متاعب، ولا يمكن تغييرها حتى تغير نفسك، ولكن كيف ذلك ونحن المتاعب؟ إننا في دنيانا كالعصفور في القفص ندور فيه ونحن نحن والقفص القفص.
كثير منا يظن أنه فوق القدر وهو لا محالة تحت القدر، وما كان ميلادنا ولا دنيانا الصغرى ولا الكبرى باختيارنا، ولكن تفتحت أعيننا فوجدنا كذلك أنفسنا وكذلك دنيانا.
ولعل العلاج الوحيد للتغلب على هذه المتاعب الوهمية معرفة الإنسان نفسه ودنياه، فهو إن عرفها بعيوبها ومزاياها أمكنه تسييرها في الطريق الذي يناسبها، يواجه مواضع الضعف على أنها مواضع ضعف ومواضع القوة على أنها مواضع قوة، وقد يستطيع أن يسلك بمواضع الضعف مسلكا يضيع سوء نتائجها .
لقد اضطرت طائرة إلى النزول في الصحراء براكبيها الثلاثة في قليل من الطعام وقليل من الماء؛ فأما أحدهم فأخذ يفكر في دنياه من زوجة وأولاد وفيما ينتظره من موت، وكلما قل الزاد والماء تضاعف قلقه، وأخيرا مات. والثاني فكر في نفسه وحرمانها من لذائذها وفي قلة الطعام والشراب وشظف ما فيه من عيش، وتزايد الأمر به حتى جن، وأما الثالث فشغل نفسه بكتابة مذكرات عن حالتهم النفسية، وأخذ يحللها ويشرحها ويسلي نفسه بتدوين خطراته وملاحظاته، فنجا من الموت والجنون حتى ساق له القدر من أنقذه.
أكثر الناس يعمون عن نقط ضعفهم كما يعمى الطيار عن موضع الضعف في الطائرة، فيطير بها ويسقط، فإن هو عرف عيبها فإما ألا يطير وإما أن يتدارك العيب وإما أن يطير في حدود عيبه.
فلأواجه مواطن ضعفي وأخطائي كما هي، ولأعترف بها في صراحة بيني وبين نفسي، ثم لأرسم الطريق الذي يناسبها، ولأطمئن إلى ذلك، فلكل إنسان مواطن ضعفه. وليس من الضروري أن تكون مواطن الضعف علامة الرجل الضعيف، بل في كل قوي أيضا مواطن ضعف، فإن أمكنك معرفة أسبابها وإزالتها فبها ونعمت، وإلا فارض بما كان واستعمله خير استعمال.
لقد حدثت في حياتك أحداث في عهد الصبا والبلوغ والشباب كان لها أثر كبير في تكوين نفسك كما هي الآن، فإن تعسر عليك تغييرها فأحسن استخدامها.
ولا تأس على مواطن ضعفك، فالكهرباء قد تكون قوية فتحرق. ولو كانت أضعف لأدت الغرض، وقد تنفع الحصاة حيث لا ينفع الحجر، وقد ينفع الجدول ما لا ينفع البحر.
وهنا رفعت رأسي فرأيت غروب الشمس في البحر ومنظره الجليل الرائع، فتركت ما كنت فيه وفنيت في هذا الجلال الرائع.
في الهواء الطلق (2)
عدت فجلست جلستي على البحر ونفسي.
هذا هو البحر لست أرى إلا ظاهره، أمواج يلعب بها الهواء، وألوان تجمعت من صفرة الرمل وزرقة السماء، أما ما في باطنه من مملكة بل ممالك، من أسماك ووحوش ولؤلؤ ومرجان فلست أراها ولكني أعلمها.
وهذا هو الشأن في الرواية التمثيلية التي شهدتها أمس. رأيت الممثلين من رجال ونساء وشبان وكهول، وكلام يقال وأعمال تصدر، ولكن هذا هو الظاهر فقط، وراء هذا كله ما لم نره وهو الأهم، مؤلف يؤلف الرواية، ومخرج يعدها وممثلون يحفظون أدوارهم، ومناظر تعد، وأدوار توزع على اللائقين بها، وملقن يستعد أن يلقن من نسي ونحو ذلك من أمور باطنة ليس مظهر الرواية إلا انعكاسا لها.
وهكذا كل أمور الدنيا، ظواهر تستر البواطن.
فعد إلى نفسك تر أن كل أعمالك التي تظهر أمام الناس من خير وشر ليست إلا ظواهر كمظهر البحر ومظهر التمثيل، تنبعث من عوامل باطنة تجمعت في من يوم كنت حملا في بطن أمي.
لقد احترقت أختي الشابة من نار هبت فيها وأنا جنين، فغذيت بدم حزين، فلعله أثر في أثرا كبيرا إلى اليوم، أميل ما أكون إلى الحزن، تعجبني الأدوار الحزينة في الغناء، والمأساة دون الملهاة في التمثيل، وأسر للدمعة تسقط من عيني أكثر من الضحكة تظهر على فمي، وتهتز أعصابي لعوامل الحزن أكثر مما تهتز لعوامل السرور، وليس ببعد أن يكون كل هذا من أجل كوب من دم حزين كون جسمي في بدء التكوين.
ها أنا ذا خجول أتعثر في مشيتي إذا شعرت أن أحدا ينظر إلي، وأكره الاجتماعات والحفلات، وأن أمر بين قوم جلوس في مأتم أو حفل، وأحسب ألف حساب لكل ما يصدر مني من عمل أو تأليف خوف أن يأتي هزيلا يستخفه الناس. ولا أستطيع أن أنظر في وجه من يحدثني أو أحدثه وهكذا، ولا شك أن هذه عادة تكونت منذ الصبا أيام كان والدي رحمه الله يكثر من صيغ النهي «لا تقل هذا» «لا تفعل هذا» وأيام كان يعاقبني العقاب الشديد على الغلطة اليسيرة، أو حتى ما ليس غلطة من الصغار. كل هذا سلبني حرية العمل وسلسلني بقيود كانت نتيجتها هذا الخجل.
وهكذا لو تتبعت كل ما يصدر مني من عمل، وما أتصف به من صفات لسهل علي الرجوع بها إلى أحداث تجمعت في بطء وتدرج منذ الطفولة ، ونمتها أو أضعفتها حوادث الصبا والشباب والكهولة.
فكم في من صور رسمها كتاب سيدنا الأول بحدته وشدته، وكتاب سيدنا الثاني بلينه وفوضاه، ومن صور رسمها أبي وأمي وإخوتي، ومن صور رسمتها مدرسة والدة عباس باشا الأول بمدرستها في الرياضة الشديد القاسي ومدرسها في اللغة العربية اللين المرح، وتلاميذها المختلفي الأشكال والألوان كل هذه الصور وأمثالها اختفت في الوعي الباطن كما يختفي السمك في هذا البحر، ولكن لا تزال تعمل عملها في البواعث لي على العمل أو الترك وتنعكس صورها بأشكال شتى على أعمالي الظاهرة.
بل بعض هذه الصور غرقت في الأعماق، ولست أذكرها مهما أجهدت ذاكرتي في استحضارها، وهي مع ذلك تعمل عملها وتلعب دورها، وهذا يفسر ما يحدث مني ولا أدري كيف أتيته، وما أتجنب ولا أدري كيف تجنبته , وما لم أضع يدي على هذه الصور الغريقة في الأعماق وأخرجها إلى نور الشمس فلا يمكن العلاج ولا الإصلاح.
وإن الصور التي اختزنتها في حياتي لا تماثل أي صور اختزنها أي إنسان غيري، ولذلك كانت مشاعري وعقليتي وبواعثي وأغراضي ونظرتي إلى الدنيا وتقويمي للأشياء وحكمي لها أو عليها لا يشاركني فيها جميعا أي إنسان آخر في الوجود، وإنما يقرب مني في تفكيري ومشاعري من حاز في حياته صورا تشبه صوري؛ ومن أجل هذا اختلف الناس في الحق والباطل وتقدير الجميل والقبيح، وما يجب أن يعمل وما يجب أن يترك، واختلفت نفوسهم كما اختلفت وجوههم، وكأن كل إنسان أمة وحده.
وندر أن يمنح إنسان ما صحة كاملة في مشاعره وعقله كما ندر أن يمنح صحة كاملة في جسمه، بل لكل إنسان مواطن ضعف، هذا ضعيف الذاكرة، وهذا بليد الشعور وهذا حاد العاطفة. وهذا ضيف الإرادة، وهكذا من آلاف الأشكال والألوان. فإذا أضيف إلى ذلك اختلاف ما يختزنه الأشخاص في حياتهم من صور بسبب ما يعرض لهم من أحداث كان الاختلاف بينهم أتم وأوضح.
هذا كله يسلمنا إلى نتيجتين:
النتيجة الأولى:
أن كل إنسان له قانونه، وليس هناك قانون إصلاحي أخلاقي يسري في تفاصيله على الجميع، وأن لكل إنسان متاعبه الخاصة الناشئة من تاريخه الخاص لا يشاركه في كميتها وكيفيتها غيره، وأنه إن أريد معالجتها يجب أن نسير فيها سيرنا في طب الأجسام، فلا يمكن لطبيب أن يصف علاجا عاما لمرضى مختلفين، ولا يمكن أن يعالج المريض غيابيا، بل لا بد أن يضع يده على مكان المرض ويعرف أسبابه ثم يصف دواءه.
وأصعب الأمر في علاج النفس أنها في كثير من الأحيان تخدع نفسها وتغشها وتكذب عليها وتجتهد في إخفاء عيوبها عن نفسها لأنها تشعر بالنقيصة في الإقرار بعيبها حتى أمام نفسها، فما أصعب أن نضع أيدينا عليها من وراء حجبها، فقد يكون في باطن نفوسنا شعور بالكره لآبائنا أو أمهاتنا أو زوجاتنا لسبب من الأسباب، وواجب الوفاء يقضي بحبهم، فتتعقد المشاعر، وقد نحب أن نعمل أشياء والتقاليد الاجتماعية تأبى الإتيان بها، أو نحب أن نتجنب أعمالا والواجبات الاجتماعية ترى وجوب عملها ونحو ذلك، فتكتب في نفوسنا مشاعر قد لا ندركها في وعينا الظاهر.
لذلك كان من أهم النعم أن يرزق الإنسان صديقا يفضي إليه بمكامن نفسه، ثم يشجعه هذا الصديق أن يقول كل شيء من غير أن يظهر له شيئا من الاحتقار، وفي كثير من الأحيان يكون المانع من إظهار كوامن النفس ما اعتاده الإنسان من أنه لا يتكلم ولا يفكر إلا إذا مر الكلام والفكر على «الرقيب» يحجز منه ما شاء، فتبقى مواضع الداء كامنة لا تعرف، فإن هو خدر الرقيب حتى لا يحجز شيئا، ولم يخضع للمنطق، وترك نفسه على سجيتها تتحدث بما يخطر لها من غير رقيب ولا منطق، أعان ذلك على ظهور الصور المخزونة على حقيقتها، وأمكنه معرفة كوامن الداء فيها.
وأيا ما كان فلا تزال كلمة سقراط «اعرف نفسك» من أصعب الأوامر وأعقدها.
والنتيجة الثانية:
ما تشعرنا به هذه المقدمات من وجوب التسامح والعفو والمغفرة لما يصدر من غيرنا، فلهم فيما يأتون به عذرهم، فهو ليس إلا نتيجة طبيعية لما اختزنوه من صور أعماق نفوسهم ولو كنا مكانهم لفعلنا فعلهم.
وهنا هبت ريح قوية أطارت الأوراق من يدي فجريت وراءها أجمعها وعاد إلي وعيي بما حولي وبالبحر.
في الهواء الطلق (3)
وأخذنا القطار إلى المعادي ونزلنا نخترق الصحراء وفي الجو برودة، وفي الشمس دفء، وفي الحديث متاع.
جرى الحديث تباعا، من ازدحام القطار، إلى ويلات السلم بعد ويلات الحرب، إلى موقف الشرق والغرب، إلى ما كان من آمال في صلاح العالم بعد الحرب قد تبخرت، إلى العالم وتطوره، وهل هو في تقدم مستمر، أو في شقاء مستمر. وأخيرا حمي رأس صديقنا فاندفع في الكلام يشرح لنا رأيه في تطور المجتمع البشري قال: لقد كنت بالأمس أقرأ كتابا أمريكيا يشرح أن المجتمعات تجري في سيرها على قانون طبيعي لا يتخلف، وتمر بأدوار كما يمر الفرد، من طفولة إلى شباب إلى كهولة، وأن معرفة هذه القوانين أصبحت يسيرة بعد أن صارت الجمعيات البشرية على وجه الأرض في متناول البحث والدرس، وبعد أن تقدمت البحوث في المقارنات، فتخصصت طائفة من العلماء لبحث القانون المقارن، ونظام الحكومة المقارن إلخ، كل هذا كشف أحوال الناس في شتى نواحيهم، وجعلهم كتابا مفتوحا يستطيع منه العالم أن يعرف كيف تطور العالم في شتى نواحيه.
وخلاصة الرأي أن المجتمعات البشرية كما دل عليه البحث مرت في ثلاثة أدوار؛ ففي الدور الأول كانت حياة الناس تسيرها الغرائز والتكوين البيولوجي، ثم أسلمه هذا إلى الدور الثاني، وفيه لا يخضع الإنسان للغريزة وحدها بل حسب الهوى والأوهام، وحيثما اتفق، وكما توحي إليه الظروف الحاضرة، ويخبط في ذلك خبط عشواء، ثم يأتي الدور الثالث وفيه يتقيد سيره بالنظام والمنهج حسب العقل، مستفيدا من تجارب الماضي.
أ :
هذا كلام غامض.
ب :
لا أرى فيه غموضا، فلأوضحه بالأمثلة، فمثلا علاقة الرجل بالمرأة في الدور الأول كانت علاقة لا تخضع لشيء إلا للغريزة الجنسية والتكوين البيولوجي، وموقف المرأة في هذا موقف الرجل، ولم يكن هناك رباط زوجية محكم، ولا نظام أسرة وثيق؛ ثم خضعت هذه العلاقة في الدور الثاني للهوى وتغلب الرجل على المرأة وبعثت الغيرة والهوى على اختصاص المرأة بالرجل، وكان الزواج وتربية الأولاد والأمور المالية والاجتماعية تسير في الأسرة حيثما اتفق، ثم جاء الدور الثالث فخضعت الأسرة لحكم العقل والتجارب، فاقتصر الرجل على زواج امرأة واحدة لمصلحة الأسرة، ومنحت المرأة من الحقوق ما للرجل يحكم إنسانيتهما، ووضع نظام الأسرة على أساس مصلحة الأطفال، وربي الأبناء والبنات حسب قوانين العقل والتجارب، وهكذا.
وكذلك الشأن في الأمور الإقتصادية: كان الناس يعيشون جماعات، ويحصلون ما يأكلون وما يلبسون بالغريزة، ويقتسمون ما يحصلون، ولا تجد بينهم غنيا وفقيرا؛ لأن الأمر ليس إلا إشباع لغرائز، ثم يأتي الدور الثاني فيتداخل الهوى والشهوة وتحدث المصادفات. وحينئذ يكون الغني والفقر والتخمة والحرمان، ويستسلمون لذلك، ويعتقدون أنه من القدر، لا مجال للعقل والتفكير والضبط فيه، ثم يأتي الدور الثالث فيتدخل العقل وتنظم الأمور المالية، كفرض الضرائب على الأغنياء لمصلحة الفقراء، وكتوفير الحاجات الضرورية وضمانتها لعامة الشعب، وهكذا مما يقلل الفروق بين الطبقات؛ وعلى الجملة فهم يؤمنون أن الغنى والفقر من صنع الإنسان، وأن التنظيم العقلي قادر على رفع البؤس والحد من الترف.
وكذلك الأمر في الشئون السياسية.
ج :
ألم تشعروا بالتعب؟ فالمشي طال، والدم جرى في عروقنا، والجو ارتفعت حرارته، وشعرنا بالجوع.
أ :
إن هذا الحديث أنسانا التعب والجوع.
ج :
بل هذا الحديث زادنا تعبا وجوعا، ففي كل مرة أعزم على ألا أخرج معكم لثقل حديثكم وقلة ذوقكم، وفي كل مرة أنصحكم أن تنسجموا مع الجو، فتتحدثوا حديثا مرحا خفيفا يناسب هذا الصفاء ورقة الهواء، ولكن الشاعر يقول:
وتأبى الطباع على الناقل
وتلمسنا مكانا ظليلا فلم نجده إلا تحت صخرة في هضبة، فجلسنا وأخرجنا لفائفنا وأخذنا نأكل في نهم.
أ :
أكمل حديثك يا سيدي.
ج :
لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ب :
أقول وكذلك الشأن في السياسة؛ فالبدائيون لا سياسة عندهم إلا الخضوع للغرائز في مجتمعهم، ثم يأتي دور الهوى والشهوة والتخبط، فيظهر الحاكم المستبد وطبقة الأشراف وذوو الحسب والنسب المستبدون، فيكون الرق والعبودية، وتحكم القوي في الضعيف والغني في الفقير، والزعامة الطاغية يقابلها الاستسلام الخانع وهكذا، ثم يأتي دور العقل فيتحرر الناس من هذه العبودية، وتتأسس العلاقة بين الحاكم والمحكوم على الحرية والإخاء والحق والواجب، ويكون لكل رأيه ولكل عقيدته ولكل حريته في حدود المعقول.
ج :
اسمحوا لي أن أنام على حديثكم قليلا.
ب :
وحتى الأمر في الأخلاق والحياة العقلية على هذا النمط، فالأخلاق في حياة الأوائل أخلاق الغرائز، ولا يعاب شيء يروي الغرائز، ثم تكون الأخلاق المؤسسة على نظام الطبقات والاستبداد، والعزة في جانب والذل في جانب، والأخلاق التي يتحكم فيها العرف والتقاليد، ثم يأتي دور الأخلاق التي تتحرر من الطبقات ومن العبودية ومن التقاليد، والتي تؤسس على مصالح الكافة حسبما يهدي العقل في ضوء التجارب، والعلم عند البدائيين لا شيء إلا ما تهدي إليه الغريزة، ثم التقاليد والأوضاع والمأثور والعقائد المتحجرة والأنماط المرعية، وفي آخر هذا الدور يأتي الشك يتبعه العلم المؤسس على التجربة والعقل، والاتفاق على ما قام عليه البرهان، لا على ما توورث من الآباء.
والمثل الأعلى للأولين حياة تستجاب فيها الغرائز وتطاع فيها تقاليد القبيلة، وعند المتوسطين احترام نظام الطبقات والإيمان بالمأثور من غير برهان، وعند الأخيرين خلق أساسه العلم، وعلم أساسه التجربة والبرهان، والعظيم المبجل في الدور الأول القوي الغرائز، وفي الدور الثاني القديس والولي، وفي الدور الثالث العالم والمصلح.
أ :
أكل هذا قرأته في الكتاب؟
ب :
بل أخذت الفكرة واسترسلت في تطبيقها.
أ :
ما رأيك في الشرق وعلى أي درجة من السلم يقف؟
ب :
أظنه يرفع رجله اليمني إلى الدرجة الثالثة ولما تزل رجله اليسرى على الثانية.
ج (وصحا ج على القول الأخير فقال) :
ألا تزالون تهذون؟ مرحى بالدور الثالث دور العلم والتجربة العملية، الذي توج بالقنبلة الذرية، أما سمعتم قول الشاعر:
جفنه علم الغزل
ومن العلم ما قتل؟
هأ، هأ، هأ
ب :
أعدك أن ننظم رحلة في الأسبوع القادم يكون الحديث فيها كله ضحكا.
في الهواء الطلق (4)
وفينا بوعدنا وخرجنا هذا اليوم إلى القناطر الخيرية. هذا هو الربيع، هو موسم الحياة، ومحفل الجمال، ومعرض الألوان، تختال فيه الرياض بما لبست من ثياب ناضرة زاهية، وتترنح فيه الأغصان بما طربت من أغاني الطيور الصادحة، يروق العين بأزهاره البديعة وألوانه الجميلة، تجلى فيه الطبيعة كما تجلى العروس، فتختال وتتبرج، وتتعطر وتتأرج، وترفل في حللها وحليها بين مخطط وملون، ومدبج ومنمنم، ويروق السمع بأغاريد طيوره، وشجي بلابله، ويروق الشم بجمال عبيره، وعطر نسيمه، وهو فوق ذلك يروق النفس بكل ما فيه، فكل شيء فيه جميل، فهو حقا شباب الزمان ونموذج الجنان، وخلاصة العام، وصوفة الأيام، لوددت أن هذا الجمال كله تجمع في فم فقبلته، أو في كوب فشربته، أو في جسم فاحتضنته، فإن لم يكن، فوددت أن تذوب نفسي فيه فتسري في ماء أزهاره، أو تفنى في غناء أطياره. •••
ركبنا باخرة نيلية تشق عباب الماء، وعلى الجانبين المزارع المنبسطة، والأشجار الباسقة، والنخيل يفرع الجو إلى السماء، ويتعمم بأغصان يداعبها الهواء، والنسيم عليل يميل إلى البرودة، ننتقل إلى الشمس فندفأ، ثم إلى الظل فنبرد، ونظل ننعم بدفء من برد، وببرد من دفء.
ج :
هات وعدك أيها السيد (ب) فقد وعدتنا أن يكون حديثك كله اليوم ضحكا.
ب :
نعم وعدتك هذا، ولكن.
ج :
إني أكره «لكن» هذه.
ب :
لك الحق أن تكرهها، ولكن.
ج :
قلت إني أكره «لكن».
ب :
بالأمس ذكرت ما وعدت وقدرت تبعتي، فعكفت على مجموعة عندي من نوادر جحا، ثم عكفت على مجموعة من مجلة إنجليزية، وأخرى فرنسية فكاهية، أجمع لك منها نوادر مضحكة، ثم وجدتني أغرق في بحث عميق، في الفرق بين الفكاهة الشرقية والفكاهة الغربية، ومقدار استخدام الذكاء في النوعين، ومقدار اللعب بالألفاظ في إحداهما واللعب بالذكاء في الأخرى، والأدب المكشوف في ناحية والمستور في ناحية، وظللت أبحث حتى أنساني هذا البحث النوادر نفسها إلا أن تكون شاهدا، ثم رأيتني أمد يدي إلى كتب في علم النفس تبحث في الضحك وأسبابه. فوجدت العلماء يثيرون سؤالين: لم نضحك؟ وما وظيفة الضحك؟ وخرجت من هذه القراءات بنتائج قيمة. «فسبنسر » بحث في أسباب الضحك من ناحية فقال: إن الضحك قد ينشأ من لذة حادة كضحك السكران، وقد ينشأ من ألم حاد كضحك المصاب بالهستريا، وقد ينشأ من منظر فكه. ووظيفة الضحك إفراغ شحنة التعب العقلي بواسطة عضلات الوجه والصدر، وهو ينفس عن التعب العقلي كما تنفس أعمال القسوة عن الغضب، وكما ينفس البكاء عن الحزن.
وجاء «برجسون» فعالج الضحك من وجهة أخرى فبدأ حديثه بقوله: إذا داس رجل قشرة موز فزلقت رجله فلماذا نضحك؟ إنما نضحك؛ لأن الرجل مثل دور الجماد في خضوعه لقانون الجاذبية، ولم يحتفظ بمركزه من حيث هو إنسان، فالضحك عقوبة للسلوك السيء، أو الأعمال الآلية السخيفة، وأخذ «برجسون» من هذا المثال البسيط يطبق نظريته هذه على كل الأعمال المضحكة، حتى الحركات البهلوانية وإشارات الخطباء السمجين، والملح والنوادر.
أ :
يخيل إلي أن «برجسون» مبالغ في نظريته وتعميمها، وجعل سبب الضحك كله «عقوبة على عمل آلي سخيف»، فهناك الماجنون والمضحكون لا يرون أن ضحك الجمهور عقوبة لهم، بل هم يسرون لضحكه، ويجب أن نقرر أن هناك ضحك عقوبة، وضحك استحسان، ولماذ نضحك ممن زلقت رجله فتمدد على الأرض، ويصيبنا الرعب لا الضحك إذا انزلقت رجله من قمة جبل فتردى؟
ب :
لقد أدرك «برجسون» هذا فاشترط فيما يثير الضحك ألا يكون مما يثير انفعالا قويا كهذه الحالة.
وعلى كل حال فأنا أعرف ما قرأت وقد يكون فيه بعض النقد. واستمر يقول: وجاء «مكدوجل» فبحث في نظرية الضحك فقال إن للضحك وظيفتين وظيفة نفسية ووظيفة فسيولوجية، فمن الناحية النفسية هو يقف مجرى الفكر وتسلسله ويريحه من جهده، ومن الناحية الفسيولوجية يزيد في جريان الدم وسريانه إلى الرأس والمخ بتنشيطه للدورة الدموية، ويتبع ذلك ما نرى من أثر الفرح والسرور، أما ما يسبب ضحكنا فهو الأضرار الخفية التي تنزل بغيرنا فتثير عطفنا عليه، عطفا ممزوجا بشيء من الألم، فيأتي الضحك ليقطع تسلسل هذا الفكر الذي بدأ يتألم، فنحن لم نضحك؛ لأننا سررنا، بل إننا سررنا؛ لأننا ضحكنا.
أ :
لعلي أستخلص من هذه النظرية أن الضحك أتى لينفس عن ألم صغير وليبعد استمراره، وهذا صحيح في بعض الحالات حتى في الألم الصغير يلحقنا نحن، ولكنه لا يصح أن يكون سببا عاما، فبعض الألم الصغير يضحك وبعضه لا يضحك، فانزلاق الرجل قد يضحك، ووخزة بإبرة قد لا تضحك، على أن كثيرا مما يضحك ليس مما يسبب ألما لا صغيرا ولا كبيرا.
ب :
قلت: إني أعرض ولست أنقد، وجاء باحثون آخرون فعرضوا أيضا لمشكلة الضحك فالأستاذ «جريجوري» عني ببيان أن الضحك أنواع: فضحك انتصار، وضحك ازدراء، وضحك إعجاب إلخ، وكلها تنتج تنفيسا عن النفس، ومهما كان فإن الباحثين لم يستطيعوا إلى الآن أن يجدوا قانونا واحدا لكل أنواع الضحك.
أ :
يخيل إلي أن سبب خطئهم راجع إلى أنهم يريدون أن يرجعوا كل الأسباب إلى سبب واحد. وأنواع الضحك مختلفة جدا، فيصح أن تكون أسبابها مختلفة كذلك؛ فمثلهم كمثل من يحاول أن يرجع أسباب المرض المختلفة إلى سبب واحد مع أنه قد يكون سببه القلب وقد يكون سببه الأسنان.
ب :
هذا صحيح، وبعد أن فرغت من تصفح كتب علم النفس أمضيت ساعات في كتب علم الاجتماع، فرأيت بعضهم أيضا يبحث في الضحك من الوجهة الاجتماعية، وبدءوا حديثهم من نقطة أن الإنسان لا يضحك إن كان وحده غالبا مهما كانت النكتة التي استحضرها في ذهنه مثيرة للضحك العميق. إنما يستثار الضحك العميق في جماعة من الأصدقاء أو المعارف؛ ولهذا الضحك وظيفة هي توثيق الروابط بين الجماعات وهناك فرق بين أن نضحك من الشخص وأن نضحك على الشخص؛ فإذا ضحكنا من ممثل أو ماجن أو متندر فإننا نحاول ضمه إلى المجتمع ونوثق معه روابطنا، وإذا ضحكنا على شخص ضحك ازدراء وتحقير لأخطاء ارتكبها أو لقلة ذوق منه أو غفلة فإنما نشعر بارتباطنا ضده، ونعلن بضحكنا عليه أن بيننا صلة مشتركة، وهي أننا لا نقع في مثل ما وقع فيه، وقد عرف البلغاء ما يوثقه الضحك من الترابط، فجرت عادة الخطيب أن ينثر في ثنايا حديثه ما يضحك ليوثق الصلة بينه وبين سامعيه، فيستغلهم في قبول موضوع خطابته، وكذلك يفعل الكاتب الروائي وغيره. ثم لاحظوا في المجتمع الضاحك أنه لا بد لضحكهم من أن يكون بينهم قدر مشترك من الذوق والعاطفة والثقافة؛ ولهذا قد يغرق قوم في الضحك من نكتة، على حين أنها لا تستخرج من قوم آخرين ولا التبسم، بل قد تدعو إلى الاشمئزاز والنفور، كما أن الأفراد والجماعات والبلدان يختلفون في «حس الضحك». فمنهم من فقد هذا الحس فلا يضحك مما يضحك منه، ومنهم من نما عنده هذا الحس حتى ليضحك مما لا يضحك، وعلى الجملة فالضحك يخدم المجتمع من نواح كثيرة: من ناحية تفريحه وإدخار السرور عليه، ومن ناحية توثيق الروابط بين جماعاته، ومن ناحية تخويف من يخرج على تقاليده - وعاداته وأخلاقه - بالضحك عليه ضحك سخرية واستهزاء، وهكذا.
وكنا بهذا قد وصلنا إلى القناطر.
ج :
ما شاء الله ، ما شاء الله! أهذا كل محصولك من الضحك؟ والله إن نكتة واحدة باردة خير مما قلت كله، وليس في كل ما ذكرت شيء له قيمة إلا إذا أخذته على أنه نكتة سمجة، ولكن يا أخي صدقني أن لك موهبة لا تجارى، وهي أنك تستطيع بقدرة قادر أن تقلب كل سرور إلى غم، وفي باطن نفسك «مستودع» من السواد كلما رأيت شيئا جميلا أو منظرا سارا أخرجت من هذا السواد ولطخت به هذا المنظر فانقلب أسود حالكا، بعد أن كان أبيض ناصعا أو أحمر زاهيا؛ فليبارك الله لكل في موهبتك، وليزدك بركة حتى تملأ عيشتك سوادا. وإلا فقل لي: كيف استطعت أن تحول نوادر جحا ونوادر المجلات المضحكة في الإنجليزية والفرنسية إلى هذه السخائم؛ أما أنا فلو أعطيتني كل كتب علم نفسك واجتماعك العابسة لقلبتها نكتا مشرقة.
ب :
أقر لك بعجزي في هذا الباب، وسأترك لك الميدان من الآن إلى أن تعود في إضحاكنا بحديثك وملحك، ولكن اسمح لي بشيء واحد، وهو أن أطبق على كل ملحة من ملحك نظرية «سبنسر» و«مكدوجل» و«جريجوري» لأتعرف صدقها من كذبها.
ج :
أبيحك هذا بشرط واحد، وهو ألا تحدثنا بما يدور في خلدك.
في الهواء الطلق (5)
خرجت هذه المرة وصديقي إلى «صحراء مصر الجديدة» ننعم بالبدر في تمامه.
وبدأ الحديث في أوربا ومتاعبها، والسياسة ومشاكلها، حتى وصلنا إلى مبادئ «ولسن» و«ميثاق الأطلنطي» و«هيئة الأمم المتحدة».
هو :
أتصدق كل ذلك؟ إن آدم وحواء قبل التاريخ هما آدم وحواء القرن العشرين والثلاثين والأربعين، لم تتغير طبيعتهما، وإنما تغير فيهما مظاهرهما. لقد وجدت الرغبة الصادقة عند بعض الناس في كل عصر لنشر السلام ومنع الحروب، ولكن غريزة آدم حالت دون ذلك، وستظل هذه الغريزة دائما مدعاة للحرب مطاردة للسلم، لقد قرأت مرة قصة لطيفة، أن رئيس وزارة في الصين - كان يعيش قبل المسيح بنحو ستة قرون - جمع رؤساء الدول الصينية الثلاث عشرة كلها في مؤتمر، واقترح عليهم سلما دائمة، فلا يثيروا حربا، ولا يعكروا صفاء، وأن يعقدوا حلفا على ذلك، فأجابوا دعوته، وتحالفوا على السلام بأوثق الأيمان، وهنأ رؤساء الدول رئيس الوزراء الداعي إلى السلام على نجاحه، وحسن إخلاصه، وحبه للخير، وتوالت عليه التهاني من كل ناحية، ولكن صديقا من أخلص أصدقائه لم يشارك الناس في الثناء عليه ورماه بالغفلة والبلاهة، وقال إن مشروعه ليس إلا مجرد أوهام، وإنه لا يستحق أي تكريم، وليحمد الله على أن الناس لم يعاقبوه ولم يرجموه، لأنه غطى وجه الحقيقة، وكان يجب أن يكون عاريا حتى لا يضلل الناس، فعجب رئيس الوزارة من كلام صديقه ومخالفته الإجماع، ولكن لم يمض على هذا الحلف عشرة أعوام حتى نقض، ونشبت الحرب بين الدول الصينية التي تعاقدت على السلم.
ومثلت هذه الرواية نفسها في عصور متعاقبة، فقد أعلن القديس «أغسطين» أن إمبراطور الرومان جاء من عند الله ليمحو الحرب من العالم ويؤلف بين الناس. ثم لم تلبث أن كانت الحرب، وأخيرا جاء «ولسن» فدعا مثل هذه الدعوة ومثل مثل هذه الرواية، ثم كانت الحرب أيضا، وها هي هيئة الأمم المتحدة تمثل الآن هذه الرواية والممثلون أنفسهم تشهد قلوبهم بما لا تنطق به ألسنتهم. وأذكر أني قرأت رسالة بديعة لبديع الزمان الهمذاني، ردا على من كتب له «فسد الزمان» فكان مما جاء فيها: «والشيخ يقول: فسد الزمان، أفلا يقول: متى كان صالحا؟ أفي الدولة العباسية وقد رأينا آخرها وسمعنا بأولها؟ أم في الدولة الأموية، والرمح يطعن في الكلى، والحرتان وكربلا» وما زال يتتبع فساد الزمان حتى وصل في فساده إلى آدم، ثم قال: «أم قبل ذلك والملائكة تقول (في خلق آدم):
أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ، وختمها بهذه الكلمة الجامعة: «والله ما فسد الناس ولكن اطرد القياس». إن آدمنا وحواءنا هما آدم وحواء العصر الأول، وهما في كل عصر المادة الخامة لما يحدث في الأرض من أحداث اجتماعية، وهما تسيرهما بعض الغرائز البدائية الآن كما كانت من قبل؛ فالإنسان مسير بالحب وبالكره، وبالانتقام وحب السلطة وحب الجاه، وحب الغلبة شأنه في ذلك قديما شأنه حديثا، وهذه الأمور أحيانا تخضع للعقل، وأحيانا يخضع لها العقل، والخلاف بين العصور ليس إلا خلافا في الطلاء من عهد آدم إلى اليوم، والأنبياء والمصلحون من عهد آدم الأول يقولون لا تقتل ولا تسرق، ولكن آدم القرن العشرين ظل يقتل ويسرق، وسيقتل ويسرق، والعالم محكوم بقليل من العقل وكثير من السخافة، وشأن المحكومين في ذلك شأن الحاكمين يتبوأ الحكم في الناس أكثرهم طموحا وشيطنة ولعبا بعقول الجماهير، لا خيرهم ولا أعدلهم ولا أكثرهم استقامة، والجمهور يصفق لهم؛ لأنهم أقدر على الضحك على عقله وأكثرهم تملقا له، حتى الرجل المستقيم قبل الحكم يلتوي إلى حد ما بعد الحكم، فهل تظن أن آدم سيتحول بين عشية وضحاها إلى ملك؟
أنا :
يظهر يا صديقي أنك اليوم سوداوي المزاج، ترى كل شيء أسود حتى التاريخ. والحق أنه كم من فرق بين آدم الأول وآدم القرن العشرين، لا في المظهر فقط بل في الجوهر أيضا. إن الإنسان في تطوره تعلم كبت غرائزه، وما المدنية إلا كبت الغرائز. انظر إلى ما فعلته في أمة متمدنة التربية الدينية، والتربية المدنية في الغرائز، كيف استطاعت أن تعلم الجمهور الطاعة والخضوع للقانون والنظام في شئون الحياة، وهذا كله كبت للغرائز، فليس يقتل الرجل عدوه لمجرد الغضب منه ولا للباعث الوقتي عنده، ولا يسلب ماله لمجرد شهوته. وقد سلبت من الأفراد قوة تنفيذهم استجابة للبواعث الوقتية عندهم، واستخدام قوتهم لتنفيذ رأيهم، وجعل ذلك كله للمحاكم، والقضاة يحكمون بالقانون والعدالة، أليس ذلك كله تهذيبا للغرائز؟ فإن حدث قتل أو سرقة أو غضب فالشذوذ لا القاعدة، وقد كانت القاعدة عند الإنسان الأول أخذ ما يشتهيه بالقوة، فإن اعترضه عارض فالقتل، وأصبحت القاعدة اليوم تحكيم القانون والعقل؛ أو ليس هذا انقلابا؟
هذا من ناحية جمهور الشعب، وكذلك الشأن من ناحية الحاكم؛ فقد كان شيخ القبيلة أو السلطان أو الملك لا حد لسلطانه، يعز من يشاء ويذل من يشاء، ويعطي من يشاء ويسلب ملك من يشاء، ويقتل من يشاء ويحيي من يشاء؛ فلما تقدم الإنسان حد من سلطانه، وبعبارة أخرى كبتت غرائزه، وتقيد بقيود ما للشعب من حقوق؛ فليس يقتل وليس ينهب وليس يستطيع أن يعطي من مال الأمة ولا أن يصادر، وليس له أن يعتدي على حقوق أي إنسان من شعبه في حياته ولا حريته ولا ملكه، فإن حدث شيء من هذا فاستثناء لا قاعدة، وقد كان ظلم السلاطين قاعدة لا استثناء، أليس هذا انقلابا خطيرا حتى في الغرائز؟
وهذا العالم الحديث يريد أن ينظم العلاقات بين الأمم كما نظم العلاقات بين الأفراد، وينشئ محكمة للأمم كمحكمة الأفراد، حاول ذلك في عصبة الأمم ثم فشل، فهو يحاولها في هيئة الأمم وهو في كل فشل يستفيد من التجارب.
لقد بدأت حكومات الدول تشعر بأنه لا بد (لسلام العالم) من اتفاق وتفاهم بينها. وأنه لا بد من قوة مسلحة تخيف من لم يرد التفاهم، وأن هذه القوة المسلحة يجب أن تكون فوق القوة المسلحة لكل أمة، وأن تكون القوة المسلحة الكبرى خاضعة للهيئة الدولية العامة، شأنها في ذلك شأن المحكمة مع الأفراد، وقوة المحكمة بالنسبة لقوة الأفراد.
لست أزعم أن هذا كله سيحصل في عام أو عامين أو عشرة، ولكنه لا بد حادث قريبا، فكل الدلائل تدل على أن العالم سائر في الدرب الموصل إليه، وإن لاقى في ذلك أهوال حرب أو حربين أخريين.
وكنا قد رجعنا إلى قواعدنا سالمين، ووقفنا على باب داره.
هو :
إن كلامك يحتاج إلى تفكير عميق، وأظن أن سيكون له مني رد طويل عند ما نلتقي قريبا.
أنا :
كل ما أرجو ألا تقابلني في المرة الأخرى بمنظار أسود.
هو :
إذا طلبت مني خلع المنظار الأسود فلم لا أطلب منك خلع المنظار الأبيض؟ وكانت ضحكة، وكان افتراق.
الشرق في محنته
يجتاز الشرق اليوم مرحلة من أدق المراحل وأخطرها، عليها يتوقف مصيره وتتأثر بها أجياله.
ولئن كان العالم كله يجتاز هذه المرحلة كذلك فللشرق مشاكله الخاصة به وله آماله وآلامه التي لا يشاركه فيها غيره.
ومشاكل الشرق آتية من علاقاته الخارجية وعلاقاته الداخلية.
فمن الناحية الخارجية يريد الشرق تبعا للتطور العالمي أن يستقل ويحكم نفسه بنفسه، ويصرف شئونه كما يرى، وكما يقدر المصلحة له ولمن حوله، ويأبى كل الإباء أن يتحكم فيه الغرب كما كان يتحكم من قبل، وأن يتصرف فيه تصرفه في السلع التي تباع وتشرى، ويرى الشرق أن خضوعه لغيره إن كان ممكنا فيما مضى وقت عماه وضلاله وغفلته فلم يعد ممكنا الآن، وقد أبصر بعد العمى، واهتدى بعد الضلال، وتنبه بعد الغفلة، وأيقن أن العلاقة بينه وبين الغرب لم تعد علاقة عبد لسيد ولا خادم بمخدوم ولا فلاح بمالك مزرعة، وإنما يجب أن تكون العلاقة علاقة الند للند، كل يدير شئون نفسه بنفسه، وكل يخضع لما يتطلبه الصالح العام للعالم.
هذه وجهة نظر الشرق الآن، وهو يعتمد في تحقيق مطالبه على قوة حجته، وقوة مطالبته، وعرقلة الطريق أمام من يريد أن يتحكم فيه، ويجعل حكمه صعبا عسيرا لا يطاق، واستحياء الضمير الإنساني العالمي الذي ينادي من أعماق القلوب بتحقيق العدالة الإنسانية.
والغرب من ناحيته يصعب عليه التجرد عن امتيازاته في الشرق التي استمتع بها طويلا، ويعز عليه النزول عن مكان السيادة إلى منزلة المساواة، ثم هو منقسم على نفسه، يتنافس بعضه مع بعض في السيادة والكسب. وكل يخشى أن ينزل عن سيادته للأمة المحكومة فيحل محله المنافس الآخر لا الأمة المحكومة نفسها، فيكون قد قوي خصمه من غير أن ينفع الأمة المحكومة بشيء؛ فهو لا يريد أن يتخلى عن جزء من السيادة حتى يستوثق من أنه لا يؤول إلى منافسه، ثم إن الأحزاب في الغرب تتحارب في كل أمة بالحق وبالباطل رغبة في الحكم، فإذا أراد الحزب الذي يتولى الحكم أن يخضع للحق، ويسلم بمبادئ العدالة، شنعت عليه الأحزاب الأخرى، ورمته بأنه يريد تصفية أملاكها، وضياع عزتها، فيضطر إلى التراجع ولو بعض الشيء، والجمود على القديم ولو إلى حد، ثم إن الضمير الإنساني لم يستيقظ بعد الاستيقاظ التام، وهو إذا استيقظ أثناء الحروب فنادى بالعدالة التامة عاد بعد الحروب يختفي شيئا فشيئا تحت تأثير المنافسة الدولية، والتسابق إلى السيادة، وتنبه الغرائز القديمة، فلا يزال يختفي شيئا فشيئا ويحل محله الضمير القومي شيئا فشيئا حتى تنشب الحرب من جديد.
من هذا كله ينشأ الصراع بين المستعمر والمستعمر، بين طالب التحرر وطالب السيادة، بين الشرق والغرب، وهذا هو ما يعانيه الشرق الآن: مصر تجاهد في نيل استقلالها، والعراق يناضل في سبيل تعديل معاهدته، وسوريا ولبنان يعانيان في استكمال استقلالهما، وفلسطين المسكينة تئن من ظلم العالم، وبلاد المغرب تصرخ من ظلم فرنسا وهكذا وهكذا. والصراع دائم والمرحلة دقيقة، والغلبة للحق إذا استند على القوة، وليست القوة في السلاح وحده، فالاتحاد قوة والعناد قوة، والإلحاح في المطالبة قوة، والدعاية قوة، والوسائل الاقتصادية قوة إلخ. •••
ثم مشاكل كل الشرق الداخلية ليست بأقل صعوبة ودقة من المشاكل الخارجية، والله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم؛ فقد أفسدنا الحكم الأجنبي حتى مزقنا، وأفسدتنا الحكومات المتعاقبة حتى فرقتنا، ومرت علينا أجيال لا نتولى فيها أمور أنفسنا، فأضعفت شخصيتنا، وتحكمت فينا الطبقات الأرستقراطية حتى أذلتنا، وأصبحت كل طبقة تذل لمن فوقها وتستعبد من تحتها، فضاعت عزتنا، فلما انتبهنا لهذه الأمور كلها رأينا العبء ثقيلا والديون باهظة، وكلها تقتضينا جهادا طويلا.
إن الشرق يحتاج في جهاده الداخلي إلى تكوين رأي عام شديد الإيمان بالعدالة يقف الظالم عند حده، مستنير لا يلعب به الدجالون، قوي يخافه الهازلون.
يحتاج في جهاده إلى تضحية من الزعماء، فليست المسألة كلها شهوة في الحكم، فالحكم بمعناه الصحيح مغرم لا مغنم، وليس الحاكم سلطانا يأمر وينهي كما يشاء، ويتخذ كرسيه أداة لعظم الجاه، ونيل المكسب، والتحكم في رقاب الناس وأموالهم؛ فهذه الأمور كلها هي التي تفتح شهوة الحكم، فإذا زالت - ويجب أن تزول - أدرك الحاكم أنه خادم للأمة، وأدرك المحكومون أن الحاكم نائب عنهم، عامل لخدمتهم، وأنهم رقباء عليه، إذا عدل بقي، وإذا لم يعدل نحي عن كرسيه؛ فبذلك تزول عظمة الحاكم الكاذبة، وتقل الشهوة في الحكم، ولا يتقدم له إلا كفؤه.
إن الشرق في جهاده يحتاج إلى علم يدعم به نفسه، فيعرف كيف يستغل موارده، وكيف يسير أموره الاقتصادية، وكيف يقضي على الفساد الذي سببه الجهل بجميع مرافق الحياة.
إن العالم الآن يقوم الأشياء بالعدل لا بالرحمة، وبالقوة لا بالضعف، فمن لم يثبت عدالته لا يرحم، ومن لم يحقق قوته لا يقوم.
هل يدرك الغرب أن الشرق لا ينام بعد اليقظة، ولا يستذل بعد أن شعر بنفسه، ولا يستسلم بعد أن أدرك قوته؟
وهل يدرك الشرق نفسه ما أمامه من مفترق الطرق، وما يجتازه من دقة المرحلة، وما في عنقه للأجيال القادمة، فيبذل كل جهده، ويضحي بكل شهواته، ولا يهزل حيث يجد العالم، ولا يتكالب على الصغائر، والحكمة منعقدة، والعالم شاهد، والحكم على لسان القاضي؟
في الحياة الروحية1
1
بيت جميل، تروعك عظمته وفخامته، قد أسبل عليه القدم جلالا، يشهد لمهندسه بالمقدرة الفنية، تدخله فيعجبك أثاثه كما أعجبك بناؤه، قد فرشت كل حجرة منه فرشا جميلا متناسقا، وزين البيت كله بأنواع الزينة، وحلي بأنواع الطرف، وكان حديث الناس في الإعجاب به ووصف جماله وجلاله، يفيض المهندس في وصف بنائه، والفنان في الإشادة بفنه، والهاوي بالإعجاب بطرفه، والأديب بوحي مناظره، وكلهم متفقون على حسنه.
ولكنهم مختلفون اختلافا كبيرا في أمر هام من أموره؛ فقوم يقولون إن في البيت كنزا مدفونا لسنا نعلم مقره، ولكنا واثقون من وجوده، وهذا الكنز في الغاية من عظم القيمة، حتى إن البيت وما فيه لا يساوي شيئا بجانبه، ومن وصل إليه أو نال شيئا منه كان ذا حظ عظيم، أما من اكتفى بمنظر البيت ومتاعه فلم يدرك من الأمور إلا ظواهرها.
وقال آخرون إن هذا الكلام من صنع الخيال، وليس في البيت إلا ما نحس وما نرى وما نلمس، فهذا هو الحق، وهو الحق وحده، أما الكنز فلا نؤمن به إذ لا دليل عليه، وإنما هي أقوال قالها السلف وتوارثها الخلف. ولسنا نؤمن إلا بالحس وما يستنتج من الحس، فإن شئتم أن نؤمن بالكنز فأروناه جهرة .
ولما خلا المؤمنون بالكنز إلى أنفسهم اختلفوا فيما بينهم على طريقة استكشافه. فقال قوم نطلق البخور ونقرأ التعاويذ حتى يفتح الكنز، وقال آخرون إن ذلك إنما يكون بالسحر وضرب الرمل، وهزئ آخرون بكل ذلك وقالوا إن الوسيلة للوصول إليه صفاء النفس ورياضتها وتطهيرها وإرهاف مشاعرها حتى تصبح كالمرآة المجلوة تنعكس عليها صور الأشياء ومنها الكنز.
هذا مثل الحياة المادية والحياة الروحية، وهذا مثل الحياة الروحية بما فيها من حق وباطل وصدق وتخريف.
وتاريخ الإنسانية نزاع حول هذا البيت هل فيه كنز أولا؟ فكل العقائد والأديان عمادها أن وراء هذا المنظور شيئا غير منظور.
وشأن البيت وكنزه والخلاف فيه كشأن الإنسان بدنه وروحه يبتدئ ظاهرا من خلايا وعضلات، ثم يدق في خلايا المخ وأعصابه، ويصل العلماء إلى بعض خصائص هذه الخلايا المخية، ثم تغمض حتى يعمى عليهم الأمر، ويكون الشأن شأن كنز البيت، فإذا وصلنا إلى الروح فالأمر أعقد وأغمض، كيف تحيا هذه الخلايا، وكيف تؤدي وظائفها العجيبة ذلك ما لا نعلم، ومع هذا ظل قوم لا يؤمنون إلا بالعلم.
إنا لنشهد في المدنية اليونانية هذا النزاع بين الماديين والروحانيين؛ فمنهم الطبيعيون الذي يؤمنون بالطبيعة ولا يؤمنون بما وراءها، والروحانيون الذين يؤمنون بما وراء المادة، ويغرقون في هذا الإيمان كما يظهر في أعمال معبد «دلفي». وعند المصريين القدماء كانت النزعتان، وكان رجال الدين هم الذين يحفظون أسرار الحياة ويصفون الحياة قبل الميلاد والحياة بعد الموت.
وتأتي على العالم موجات، موجة إلحاد يعقبها موجة إيمان وهكذا.
وفي القرن التاسع عشر وأوائل العشرين سادت النزعة العلمية، وتبعها الإيمان بالمادة وحدها، وسادت العالم العلوم الثلاثة، الطبيعة تبحث في ظواهر المادة التي حولنا، والفلك يبحث في حركة الأجسام السماوية ومادتها، والكيمياء تبحث في تركيب المادة، فكلها تبحث عن المادة، عن البيت من غير كنز، وتبع ذلك الاكتشافات العلمية الخطيرة والمخترعات العجيبة، وقسموا المادة إلى عضوية وغير عضوية، فالعضوية تشمل الحيوان والنبات، وقصروا الفروق بين العضوية وغير العضوية على الظواهر الخارجية، من تنفس وغذاء ونحو ذلك ، ولكن العلم لم ينجح في تفسير كل ما في البيت كيف تؤثر الشمس في حركة الأرض وفي إضاءتها وحرارتها، مع أن بينهما خلوا وفراغا؟ إن قانون الجاذبية قد حل المسألة رياضيا، ولكن لم يحلها عقليا، وساد العالم الطبيعي نظرية الذبذبة في الكهرباء والمغنطيسية والحرارة والضوء، ولكنها كلها لا تفهم مع وجود الخلو والفراغ، ولا بد من فرض مادة تملأ هذا الخلو وهذا الفراغ، وهي الأثير، والأثير غير مفهوم، وإنما هو فرض يفرض.
وقال العلم الحديث إن المادة عضوية أو غير عضوية مكونة من ذرات، وهذه الذرات في حركة مستمرة، تتجاذب وتتدافع وتتقارب وتتباعد، وكلها قد تكون في جسم واحد فكيف تبقى ولا تتصادم فتفنى، ومن ذا الذي يحفظها وينظم حركاتها هذا النظام العجيب؟ ومئة سيارة في ساحة تتجه اتجاهات متعاكسة لا يمكن أن تبقى من غير صدام وفناء، فكيف بالملايين؟
وهكذا آلاف من الأسئلة يقف عندها العلم، والعلماء أنفسهم أقدر على الإقرار بما لم يفهموا، فإذا تجاوزوا ظواهر ما في البيت عجزوا عن تفسيره، وكانت هذه حجة قوية للقائلين بأن في البيت أسرارا وكنوزا لا بد منها لتكميل تفسير حقيقة ما في البيت. وثمة شيء آخر، وهو أن الذين آمنوا بالكنز كانوا أسعد حالا وأهدأ بالا؛ لأن الإيمان به جاوب ناحية من نواحي نفوسهم فملأها وغذاها، أما الذين كفروا بهذا الكنز فقد شعروا بفراغ لم يملأه شيء ولا العلم، وشكوا في قيمة الحياة وقيمة الأخلاق، وهذا هو ما ساد في المدنية الغربية يوم ساد العلم وحده. لقد امتلأت حياة العالم بالبحث عن المادة، والمالي بالبحث عن المال، والصانع بالصناعة، ولكن هذا الفراغ في النفس الذي لا يملؤه إلا الدين كان موضع القلق والحيرة والاضطراب مهما نال الإنسان من مسرات الحياة، فالمسرات الواقعية إذا أصبحت رتيبة فقدت قوتها وزهد صاحبها فيها، وكلما عرض له عارض من تقدم في السن أو مرض أو وقت خلو أحس بهذا الفراغ يؤلمه، وهكذا كل شيء لا يتفق وطبيعة الإنسان.
لقد فشل العلم في نبوءته يوم تنبأ بأنه سيملك ناصية العالم، ويملأ حياة الناس سعادة، ويزيل منهم كل شقاء، ويجعل من الدنيا جنة كما يقول رجال الدين في جنة الآخرة. وظهر هذا الفشل في مظاهر شتى، في هروب بعض ذوي المشاعر الرقيقة من ضوضاء المدنية إلى الطبيعة، ومن سوء الواقع إلى جمال الخيال، بل وبعضهم من مدن الممدنين إلى قرى المتوحشين، وظهر في جشع الكثير من الناس، وتقويم كل شيء بميزان الذهب والفضة، ثم لا سعدوا في أنفسهم ولا أسعدوا غيرهم. وظهر في هذه الأعصاب المهدمة عند أغلب الناس لم يهدئها الدين، ولم يلطفها اليقين، وظهر في الشباب الذي تحرر من كل قيد فإذا هو في قيد المرض والفقر وضيق النفس، والشابات اللاتي تحررن من قيود سلطة الآباء، فوقعن في أسر سلطان الزمان، وظهر في المسحونين في شكل طلقاء، وفي الأموات في شكل أحياء، وأخيرا في الحروب المتوالية ونكباتها وويلاتها، لقد تنبأ بأن الناس إذا تحرروا من قيود العقيدة ومن قيود رجال الدين، كانت السعادة التامة، فلما تحرروا من كل ذلك لم يكن إلى الشقاء.
إن المدنية الحديثة آلام ضاحكة، وأصوات «جازبند » تخفي وراءها أنينا أليما, ورقص ضاحك يغالب قلبا حزينا. الحياة حرب حاضرة أو استعداد لحرب قادمة، أو بكاء من حرب فائتة. ومن المستحيل مع هذا اطمئنان دائم.
سر هذا أن الحياة فقدت انسجامها الذي كان يؤلفه الدين، وأن المصلحين يعالجون المادة ولا يعالجون الروح، وينظرون إلى البيت وأساسه وأثاثه ولا ينظرون أبدا إلى كنزه.
كان المتدينون ينظرون إلى العالم كوحدة يسيطر عليها إله، وإن اختلفوا في التفاصيل فلم يختلفوا في الأساس، وكانوا يضمون إلى حساب الأرض حساب السماء، وإلى الحياة الدنيا الحياة الأخرى، فكان هذا يوحي بالطمأنينة والانسجام. ولكن في تفاصيل كل دين وفيما عرض له بعد أيامه الأولى ما لا يتفق والعقل إذا رقي، والعواطف إذا تسامت، فبدل أن يعالج ذلك المصلحون ويفرقوا بين أصل صح وعارض فسد أنكروا الدين جملة، واتجهوا إلى العلم وحده، وإلى المنطق الجاف وحده، فذبلت الروح من قلة الغذاء، وضعفت الأخلاق إذ لم تؤسس على تقديس، وحل محل تقديس المبادئ ما وضع الساسة وعلماء الاقتصاد والاجتماع، فشعر الإنسان أنه مضطر لسماع الأوامر لا سامع لصوت الضمير، هو مضطر للخضوع للرأي العام ولقانون الدولة، وللمستبد الجبار أو للبرلمان، لا لأوامر الله الذي يسيطر على العالم وينظمه ويرعى في أوامره خيره وفي نهيه ضرره. لقد وعدوه بالسعادة عند ما تتحقق حرية العقل وحرية التفكير، ولكن رأى آخر الأمر أنهم قيدوه بآلاف القيود من ضغط الحوادث وكثرة القوانين ودعوى الوطنية.
لقد كانت أوامر الدين ربما آلمت وأتعبت، ولكن كان يخفف ألمها ومشقتها وربما يقلبها إلى لذة الاعتقاد بأنها أوامر من بيده ملكوت السموات والأرض، ومن يستطيع الجزاء، ومن يعلم خفايا النفوس وبواطن الأمور وخلجات القلوب. أما الآن فأوامر مؤلمة ومطالب شاقة ممن قد يخطئ في أوامره وقد يصيب، وليس بيده المقدرة على الجزاء على النيات والضمائر، وممن هو مثلنا له شهوات وأغراض.
كل هذا حير الإنسان لما فقد دينه وجعله معلقا بين السماء والأرض؛ فلا المصلحون الدنيويون أرضوه بتعاليمهم، ولا المصلحون الدينيون استبعدوا من الدين ما دخله من فساد.
لقد أصبح الناس بين قائل يقول: ليس في البيت كنز. وقائل: إن في البيت كنزا يفتح بالبخور والتعاويذ. وليس هذا ولا ذاك مما يدعو إلى اطمئنانهم، وهم ينتظرون من يهديهم إلى الكنز بما يتفق وعقليتهم وعواطفهم.
2
قال الصوفي: «إن تصوفنا معناه إدراك أو محاولة إدراك القوة الخفية في العالم، إدراك الله والروح عن طريق الوجدان»، وقد وجدت هذه النزعة الصوفية في كل الأزمان، وفي كل الأمم، وفي كل الأديان، ووصل أهلها إلى مبادئ متشابهة واكتشافات متماثلة، ليست من جنس ما يكتشف بالعقل أو بالمنطق، وإنما هي من جنس إلهام الشاعر والفنان، ولكن من نوع أرقى.
والنزعة إلى التصوف استعداد فطري عند بعض الأفراد ينمو بالمران؛ فكما أن هناك ذكيا وغبيا بالفطرة، وشاعرا أو غير شاعر، كذلك هناك متصوف وغير متصوف بالفطرة، وكما أن العقل وسيلة من وسائل المعرفة عن طريق المنطق، فالتصوف طريق من طرق المعرفة عن طريق الرياضة التي تؤدي إلى الكشف والإلهام.
لا يعبأ المتصوفة كثيرا بمظهر العالم إلا من ناحية دلالته على باطنه، إنما يعبئون بالحياة الباطنة التي تنتج الظاهر، إن ما نقرأ في التاريخ من قيام دول وسقوط دول وحروب وحالات اجتماعية واقتصادية ليست إلا تاريخ المظهر، أما تاريخ الباطن فهو التصوف، والفرق بينهما كالفرق بين من يرى أن أوراق الشجرة وجذعها هو كل شيء فيها، ولكن الورق يتجدد ويسقط، والشجرة باقية بجذورها الخفية وحياتها الباطنة؛ أو كالفرق بين من يرى أن البحر هو أمواجه، مع أن الموج ليس إلا سطحه.
إن الروحانية إنسانية داخل الإنسانية، وعالم داخل العالم، والعلاقة بينهما كالعلاقة بين العقل والبدن.
ولم يخل الله العالم من جماعة يدركون هذا السر ويتناقلونه، ويأخذ منهم خلف عن سلف، وتظهر تعاليمهم أحيانا في مظهر دين جديد، أو مذهب فلسفي جديد، أو نمط في التفكير جديد، وهم يسمون الثروة التي يصلون إليها «حكمة» تمييزا لها عن العلم والفلسفة. ولهم في الحياة أسلوب ومنزع ومسلك يخالف سائر الناس، كمسلك العبد الصالح مع موسى في سورة الكهف.
وهؤلاء الروحانيون يؤثرون في الأمم وفي المدنيات وإن لم يظهر بعضهم على مسرح الحياة، وإن لم يلفتوا نظر المؤرخين؛ فالأنبياء من آدم إلى محمد، وبوذا وزرادشت، وفيثاغورس وسقراط وأفلاطون، وغيرهم ممن لا نعلمهم، أثروا في بناء المدنية أكثر مما أثر الماديون من القياصرة والملوك والجبابرة.
إن الروحانية كلها من واد واحد، إن اختلفت مذاهبها ودعاتها فإنما هو اختلاف في فهم من يفهمها ومستواهم، أو في الظروف المحيطة بهم أو نحو ذلك، أما الأساس فواحد، وأما المنبع فواحد؛ حتى ما يحيط بها أحيانا من تخريف إنما سببه أن كثيرا من الناس لا يستطيعون أن يفهموا الحقيقة إلا من طريق التخريف، وهذا لا يقدح في حقيقة أساسها. إن زعماء الروحانية كانوا يحاربون دائما الوحشية في الإنسان، وتاريخ الإنسانية صراع بين الوحشية والروحانية، وهذه الوحشية ليست مقصورة على الأمم المتوحشة، بل هي في أرقى مظاهر مدنيتنا الحديثة. إن الوحشية في الإنسان الأول كانت ضربا بالحجر أو بالهراوة، وهي في مدنيتنا الحديثة مدافع وطائرات وغواصات، وأخيرا قنابل ذرية تهلك الحرث والنسل. إن العنف كله ليس من الروحانية في شيء، سواء جاء باسم الدين أو المذهب الاجتماعي أو المدنية أو ما شئت من أسماء.
إن العبرة في تقويم المدنية لا بالمظاهر ولكن بالدوافع، فإذا كانت المدنية تنشر الفزع والخوف والتناحر والتسابق على الشهوات، فمدنية بربرية مهما زينت بالراديو والتلغراف والتلفون وكل أنواع المخترعات.
وفي الصراع المستمر بين المادية والروحانية لا تزال تتغلب المادية، أو بعبارة أخرى الوحشية؛ لأن غرائز الإنسان ترضيها الوحشية، والروحانية تحتاج إلى رياضة شاقة لا يستطيعها الكثير من الناس، ولأن المدنيات التي أسست إلى الآن أسست على تقوية الغرائز الوحشية، وكلما أمعنت في ذلك كانت أرقى، وحتى إذا نشأت مدنية روحانية بعض الوقت كدعوة المسيح في أول أمرها، والإسلام في أول عهده، فسرعان ما تنقلب ملكا عضوضا، ويحتضن الجبابرة الدعوة الدينية الروحية لخدمة مطامعهم المادية، فتنقلب المدنية إلى مدنية وحشية، وتنقلب الدعوة إلى عدم الطبقات دعوة إلى نظام الطبقات، كما يستخدمون العلم والفن والأدب لخدمة هذه الغرائز الوحشية، فتضعف الدعوة الروحانية شيئا فشيئا، ولا تبقى إلا في نفوس الشواذ النوادر. فالعلم أكثر ما يزهر في الحرب دون السلم، والأدب أكثر ما يزهر في إلهاب الغرائز الجنسية ونحو ذلك، أما العلم في خدمة السلم وفي خدمة الحقيقة، وأما الأدب في خدمة الروح فضعيف فاتر.
نتاج المدنية الحديثة إحياء الشهوات، ونشر الخوف والفزع في قلوب الخصماء، والمسابقة إلى حيازة القوة، وطلب اللذة من كل وجوهها، والجشع في المال؛ والنظر إلى اليوم لا إلى ما وراءه؛ وهذه كلها ليست من الروح في شيء، وكل المخترعات إنما هي لخدمة غرض من هذه الأغراض التي ذكرناها لا لخدمة روح. أما الروحانية فسلام وحب وسمو وعمق في المشاعر وتقويم للحقيقة لا المظهر. •••
إن العالم كله في نظر الروحانية وحدة واحدة، صنع في مصنع واحد، أشرف عليه مهندس عظيم واحد، ليست المعامل والمصانع التي تراها في المدنية الحديثة مهما كبرت إلا لعب أطفال بجانب معمل ومصنع خالقنا العظيم، إن كل ما في الكون قد صنع في مصنع واحد، ولذلك اتحد تكوينه وإن اختلفت درجاته ومظاهره. إن بين الشمس العظيمة والخلية الصغيرة تشابها تاما في البناء، فليست الخلية إلا مجموعة كهارب تدور حول نواة كالشمس، كما تدور المجموعة الشمسية حول الشمس، بذلك قال العلم الحديث، وبذلك قال رجال التصوف من قديم، إن ما في العالم مما نسميه جمادا ونباتا وحيوانا ليس إلا نتاجا مختلفا لمصنع واحد وصانع واحد، كمصنع السكر يخرج أنواعا بعضها بدائي كالسكر المحبب الأصفر، وبعضها كامل الصفاء «كالسكر النبات»، أو كمصنع النسيج يخرج أشكالا وألوانا، وكلها على اختلاف قيمتها وأنواعها من خيط واحد أو قطن واحد. وكل ذرة في هذا الكون تدل على المصنع ومهندسه، وكل صغير من نتاجه معبر بشكل ما عن القانون العام لكل العالم، فدقق النظر تر العالم في النملة، وتر نظام الكون في النحلة. وكان أعجب ما أخرجه هذا المصنع هو الإنسان، ففيه كل خصائص الأطوار التي مر بها نتاج المصنع، مكملا بزيادة في كمية عقلية ورحانية
صنع الله الذي أتقن كل شيء ،
وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم .
لقد اعتاد الناس أن ينظروا إلى قطعة الصوف ينتجها المصنع مستقلة، كأنها كل شيء، أما نحن معاشر الصوفية فنرى المصنع والصانع في كل خيط، نرى الشجرة في الثمرة بل في الورقة، ونرى البحر في القطرة، ونرى الكل في الواحد والواحد في الكل، وكل شيء في كل شيء، فنحن نلف العالم في نظرة، وننفذ إلى السر في لفتة، ونقرأ على كل شيء بطاقة المصنع والصانع، ونرى في كل شيء رمزا.
ومن طول ما ألفنا الرموز كان كل ما نسمع وما نقرأ رمزا، وخاصة في الكتب الروحانية، في الكتب المقدسة؛ فالعامة يفهمون الآية على ظاهرها، ولكنا نفهمها رمزا، والعامة إن اشتركوا أو تقاربوا في فهم الظاهر، فالخاصة يختلفون في فهم الرمز حسب قوة استعدادهم لفهم الإشارة، وحسب ما يستولي عليهم من وجدان، وهذا هو ما نسميه «الأحوال» و«المقامات»، وإذا نحن سمعنا قصة لم نقف عند ألفاظها ومعانيها اللغوية إنما ننتقل إلى رمزها ومغزاها.
خذ لذلك مثلا قصة آدم وحواء، إن خلق آدم وحواء كان مرحلة من مراحل عمل المصنع، لقد ظل المصنع يعمل من قديم ويحسن ما يصنع، وكان يصنع الخيط الغليظ، ثم تقدم وتقدم فصنع الخيط الدقيق، وكل ما يصنع جميل متقن، ولكنه في صنع الإنسان مبدع متفنن، وكل نوع مما يصنع يمثل قانونا عالميا ولذلك يبقى مع بقاء الأكمل.
وكان الإنسان أول خريج للمصنع جرب فأخطأ فاستفاد من الخطأ، وهو أول من اتصل بصاحب المصنع واتصل بجميع منتجاته، يعرف خصائصها ويسميها بأسمائها، إنه أبى أن يعيش عيشة من قبله، وفضل أن يخطئ ويرقى بخطئه على أن يعيش من غير خطأ ومن غير معرفة، فأكل من شجرة المعرفة، فهبط من سعادة العيش بالغريزة إلى شقاء العيش بالعقل، ولكن كان هبوطه وسيلة لسموه، وكذلك نفهم من قصة قابيل وهابيل قتال الأخوة في الإنسانية، ومن قصة نوح فساد الناس وفناءهم لعدم صلاحيتهم للحياة، ونجاة من يصلح لتأسيس جيل جديد على أسس جديدة، وهكذا. تاريخ الأنبياء وكبار المصلحين الروحانيين رقي متوال بالإنسانية. •••
وليست الأرض وما فيها من مصنوعات رقيت إلى الإنسان إلا ركنا صغيرا من أركان المصنع، اهتممنا به أكثر مما يلزم لأننا أجزاؤه، ولأنه متصل بنا ونحن متصلون به، فلو وسعنا نظرنا وشاهدنا أركان المصنع الأخرى، لأخذنا العجب كل العجب، ولكن مهما اختلفت منتجات المصنع صغرا وكبرا، وعظمة وضعة، ففيها سمات الوحدة و«ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت».
والروحانية إدراك سر هذا المصنع، والاتصال بصاحبه والشوق إلى رؤيته، وفي كل إنسان نزعة إلى هذا؛ لأن فيه قبسا من روح صاحب المصنع، وإنما يطفئها غلبة النزعات الأخرى، والمدنية التي يعيش فيها الإنسان إنما تفسد وتنحط وتفنى؛ لأنها لا تنسجم ونزعاته المختلفة. والمدنية الصالحة التي يقدر لها البقاء والنمو هي المدنية التي تتعادل فيها مقومات الروح ومقومات المادة معا حتى تتجاوب وطبائع الإنسان. •••
وإلى هنا انقطع حديث الصوفي، وقد سمعته في شوق، ونقلته في أمانة، وتفرقنا على ميعاد.
3
قال الصوفي: «إن أساس التصوف بل أساس الديانات كلها أن وراء العالم المنظور عالما آخر غير منظور، وأن العالم غير المنظور يختلف في صفاته عن العالم المنظور، فهو لا حجم له ولا زمان ولا مكان، وأقرب مثل له آراؤنا وأفكارنا وذكرياتنا، فنستطيع أن نفكر ما لا عدد له من الأفكار من غير أن يكون لها حيز».
وكثير من تعاليم الدين لا يمكن الوصول إليها من طريق العلم ولا الفلسفة، كالحياة بعد الموت، فليست وسائل العلم ولا الفلسفة صالحة للوصول إلى هذه الحقيقة نفيا أو إثباتا؛ لأنها ليست من جنس مادته، ولا من جنس ما يبحث فيه أو يصل إليه.
إن إدراك هذا العالم الروحي لا بد أن ينظر إليه من زاوية غير زاوية المنظور؛ لأن طبيعته ليست كطبيعة المنظور، وما قيل من وصف الجنة والنار والحياة الآخرة لم يعبر تعبيرا تاما عنه؛ لأن أكثر النفوس لا تستطيع فهم المجردات، ولأن اللغة لم توضع إلا لشئون الحياة المنظورة، فاضطر المعبرون عنها أن يلجأوا إلى ألفاظ الدنيا وتعبيرات الدنيا على طريق المجاز والحياة الأخرى ليست كهذه الحياة في خضوعها للزمن، ولا شأن لها بطلوع الشمس وغروبها، وهو أهم عامل في الزمان، فإذا جردت الحياة من الزمان كان طابعها مخالفا كل المخالفة لحياة الدنيا وشئونها.
إذن فالحياة الروحية لا بد أن تدرك بأساليب أخرى. وأهم وسيلة لها هي الرياضة. والغاية من هذه الرياضة تهيئة الشعور للاتصال بهذا العالم الروحي كما يعد الشخص للتنويم المغناطيسي، وما الشعائر من صلاة وصيام إلا أنواع من هذه الرياضة، وما فعل رسول الله من التعبد في غار حراء قبل البعثة كان من هذا القبيل، وكذلك استحضار الله في القلب ودوام ذكره، ونحو ذلك كلها وسائل لإعداد هذا الشعور، وعند بعض الأفراد ذوي الاستعداد تسفر هذه الرياضات عن نتائج غريبة. فيرى الدنيا غير ما ترى في العادة كأن ينعدم الفرق بين ذاته وغيره فلا ذاتية ولا غيرية، وتنعدم الفروق بين الأشياء، فلا شيء مستقل بنفسه، كالعالم يقرأ العالم كله خلية متكررة، وهو شيء غريب في الحياة العادية، ولكنه أمر مألوف في الحياة الصوفية. وعلى الجملة فهو يرى العالم من زاوية غير الزاوية التي اعتاد الناس أن ينظروا منها. فإذا هو أمعن في هذه الرياضة استغرق في شبه غيبوبة، وكان في شبه حلم، ورأى كأنه انغمس في نور واتحد به، ورأى وسمع ما لم يستطع وصفه إلا عن طريق الرمز، وإنما يفهم رمزه من ذاق مثل ذوقه، وهذا هو ما كان من أمثال ابن العربي وابن الفارض وغيرهما من المتصوفة في كل أمة وكل دين.
والناس معذورون في إنكارهم هذا؛ لأنه شيء لم يعتادوه في الحياة المألوفة، والصوفية معذورون؛ لأنهم يصفون ما يرون.
وفي هذا الباب مهرجون ونصابون ومزيفون، كما هو الشأن في عالم المعقولات في حياتنا العادية، ففي حياتنا من يهرج في الخطابة ويبعد عن المنطق الصحيح، ومن يوهمك أنه مخلص وليس بمخلص، ومن يلبس باطله ثوب الحق ونحو ذلك، فكذلك في عالم الروحانيات، صادق وكاذب ومحق ومزيف، بل ربما كان التزييف في هذا الباب أكثر؛ لأن الحياة المادية قد تنضبط بالمنطق، أما هذه فمرجعها الذوق والشعور، وهو من الصعب ضبطه. فما ترى من مظاهر أرباب الطرق كالطبل والزمر واللعب بالذكر والمراسيم الصوفية كلها ليست من التصوف الحق في شيء، وإنما هي صوفية مزيفة، والمتصوف الحق قد يباشر أمور الدنيا ويتصرف في الحياة بالتجارة أو الصناعة أو نحوها، وليس يشعر بروحانيته إلا خاصته، ومن هم على نمطه، وحتى إذا ذكروا الله ذكروه بقلوبهم، ولم يحركوا بذكره لسانهم.
والصوفي الحق رجل تيقظ شعوره فاتسعت آفاقه وتكسرت حدوده يرتفع فوق تفاصيل الحياة الدنيا كما يرتفع الطائر في طائرته، فيضعف شعوره بشخصيته ويذوب في العالم الذي يسبح فيه، ويسبح في هذا الأفق الشاعر والفنان والصوفي والنبي على اختلاف في منازعهم ومداركهم وإلهامهم ووحيهم وحقيقة رسالتهم. إنهم جميعا يدركون العالم وراء حدود مادته وأشكاله. إنهم بعواطفهم المرهفة يرون أن الإدراك الحسي والعقلي لا قيمة له بجانب إدراك الشعور العاطفي إنهم يقرءون في النجوم والسماء والبحار والأنهار والأشجار ما لا يقرأ الناس، ويدركون في الأشياء كلها وحدة تعز عن الوصف، إنهم يرون المظاهر أمواجا فوق سطح البحر، أو أوراقا تورق وتسقط والشجرة باقية، إنهم يذيبون أنفسهم في مصدرها.
وإذا كان جمهرة الناس يدركون الله حاكما مسيطرا على العالم يضرعون إليه في قضاء حوائجهم فالصوفي يراه القوة التي ينبض بها قلب الإنسان وقلب العالم، ويتحول بها غير المنظور إلى منظور، ولذلك يحول الصوفي عينه من الجزئيات والأشخاص والأفراد إلى المنبع الواحد الذي تفرع إلى مظاهر مختلفة.
وهنا أفاض محدثي في ذكر ما يجده الصوفي من وحدة الوجود والحب الإلهي وما إلى ذلك، وأنه ينتهي به الأمر إلى الهيام بالعالم غير المنظور وحقارة المنظور.
قاطعته بقولي: إني أومن بأن الرياضة الصوفية تصل بصاحبها إلى رؤية العالم من زاوية غير الزاوية التي اعتاد الناس الرؤية منها. ولست أشك في صدق كبار الصوفية أمثال ابن العربي وابن الفارض والغزالي وغيرهم وأمثالهم من متصوفة الأديان الأخرى، وأنهم حقيقة يصفون ما يشاهدون، ولكن هل هم يرون الحقيقة، أو أن رياضتهم النفسية وكثرة مجاهدتهم للنفس من جوع وصيام وعزلة ورهبانية تجعل نفوسهم غير طبيعية، فيرون ما لا وجود له، هل هم المحقون والإنسان العادي مخطئ أو هم المخطئون والإنسان العادي مصيب؟ إذا كنت أرى الأشياء بعيني المجردة ويأتي آخر فيلبس منظارا أزرق أو أصفر فيرى العالم كله من خلال منظاره أزرق أو أصفر ثم يصف ما يرى فهو صادق، ولكن هل لون العالم الذي سببه المنظار هو الحق؟ هل الصوفية لبسوا منظارا فأوقعهم في الخطأ أو أن عيني المجردة هي المخطئة وأنهم لم يلبسوا منظارا، وإنما كان على عيني وأعينهم غشاوة فأزالوها هم عن أعينهم؟ هل الزاوية التي ينظر منها الصوفية إلى الأشياء هي الزاوية الصحيحة أو الزاوية المنحرفة؟
تبسم من قولي وسكت برهة ثم قال: إن الصوفي لم يضع على عينيه منظارا ملونا يرى به الأشياء ملونة بلونه. إنما هو أمسك مكروسكوبا يرى به الأشياء على دقتها. وما قيمة ثقتك بعينك المجردة؟ إنها تريك الشمس في حجم الرغيف، وتريك النجم في حجم الكرة، وتريك الشيء أملس وهو مملوء بالتجاعيد، إن علمكم المادي يهزأ بالحواس ويؤمن بنقصها ويخترع كل يوم ما يكمل هذا النقص، وإن بصيرتنا التي نصل إلى جلائها من طريق الرياضة خير ألف مرة من بصركم في كشف الحق. وآية ذلك أن حواسكم وعلمكم المبني على الحواس لم يستطع أن يفسر العالم الذي نعيش فيه تفسيرا شاملا، بل عجز عن تفسير الحياة والموت، وعجز عن بيان علاقة المخ بالفكر، وعجز عن تفسير ظواهر لا تجري على المألوف، فلما تصوفنا استطعنا أن نكشف ببصيرتنا ما عجز عنه العلم. وأمر آخر وهو أن كثيرا من خيار المتصوفة جمعوا بين العلم والتصوف، وبين لذة العقل ولذة الكشف، فلما وازنوا بين النتيجتين آثروا الكشف على العلم هم لم يكفروا بالعلم ورأوا لذته وقيمته، ولكن رأوا الكشف وجلاء البصيرة أعلى منه شأنا؛ ومثل ذلك مثل من جرب اللذة الوضيعة واللذة الرفيعة ثم آثر الثانية على الأولى، أليس هذا دليلا على سمو الثانية، وعلى أن حكم مجربي الأمرين خير من حكم مجربي أمر واحد.
ودليل ثالث وهو أن المتصوفة من جميع الأديان في جميع الأزمان وصلوا عن طريق الرياضة إلى نتائج متماثلة، ولو كانت مجرد خيالات لكان لكل إنسان خياله الخاص به.
إن الزاوية التي تذكرها وينظر الناس منها إلى العالم هي زاوية العوام وأشباههم، ولذلك يأنف من النظر منها حتى علماء المادة أنفسهم، ويجتهدون أن يعمقوا حتى يروا العالم كله وحدة من خلايا متشابهة، كما يجتهدون أن يسموا حتى يدركوا المادة غير متأثرة بعامل الزمان والمكان، وقد يلتقون في آخر طريقهم بالتصوف في بعض الطريق.
وأخذ يهجم على فكرة أخرى ثم سكت فجأة.
فسألته: ما باله؟
قال: تلك شقشقة هدرت ثم قرت!
وافترقنا على موعد.
4
وقال الصوفي: «إن الصوفي الحق هو نموذج الإنسانية، أو الإنسانية في أعلى مقامها، نسبته إلى سائر الناس كنسبة الإنسان إلى القرد، هو ينمو داخليا وينمو روحيا، على حين أن المدنية تنمو خارجيا وتنمو ماديا، والعلوم - ومنها علوم الاجتماع - إنما تبحث في المادة الخارجية والإنسان الخارجي، لا في داخله ولا في روحه، ونظريات النشوء والارتقاء كلها تدور حول نشوء المادة وارتقائها، حتى علم النفس بعيد عن الروح، والإنسان عالم صغير، كل ما في العالم فيه، فيه المادة الجامدة، فيه النبات، فيه الحيوان، فيه الإنسان، فيه الله وكلما رقيت نفسه روحيا اتسعت جوانبها فرغب فيما لم تستطعه مادته ولم يستطعه جسمه ولم يستطعه عمره، وود أن يتجاوز حدود الزمان والمكان، وسبح بخياله فيما وراء الحدود، وتعدى بعواطفه ومشاعره حواجز العقل، ويبلغ به الأمر أن يشعر بأن له نفسين، نفسا تعيش عيشة حيوانية فيها المادة وفيها الزمان والمكان، ونفسا تتصل بعالم آخر روحاني ليس فيه زمان ولا مكان ولا مادة، والنفسان تتنازعان الغلبة والسيطرة، فإذا غلبت روحه العليا كان كالزهرة ذابت فيها البذرة، وإذا غلبت نفسه السفلى كان كالبذرة لم تزهر ولا تؤمن بأن غيرها يزهر، ولذلك لم يؤمن أكثر الناس بالصوفية، وهم في الناس أقلية لا يعرفون، والنزاع بين الفقهاء والصوفية وبين علماء المادة والروحانية من هذا القبيل، وكيف يدرك من في الأرض من أبعد في السماء؟
هو لجلاء نفسه وقوة روحه كأنه قد ثبتت له عينان في قلبه يرى بهما ما لا يراه الناس، ويؤمن بهما بما ينكره الناس وبما كان ينكر هو من قبل، بل هو يدرك معاني جديدة وروابط بين الأشياء جديدة، ويقوم الأشياء والأشخاص والمعاني قيما جديدة، فقد يستعظم ما يحتقر الناس، وقد يحتقر ما يستعظم الناس، جاه الدنيا عنده لا شيء، والغلبة والشهرة والسيطرة والمال لا شيء، والحب والإخلاص والصفاء والطهارة والفتوة كل شيء.
وهو غالبا لا ينجح أن يكون سياسيا كبيرا أو إداريا خطيرا؛ لأنه لا يقيس الأمور بمقياس الناس، ولا يلتقي في عقليته بعقلية الناس، ولا يخيف الناس ولا يرهبهم، ولا يرتضي أن يقول: إن الغاية تبرر الوسيلة، ولذلك نجح «معاوية» حيث لم ينجح «علي».
هو يتجه إلى مشاعره ينميها ويرقيها ويرهفها كما يتجه العالم إلى عقله يرقيه وينميه، ويسلط نظره إلى نفسه كما يسلط العالم نظره إلى الخارج، فإذا فعل ذلك كله رأى في نفسه مملكة واسعة الأرجاء، انطبع فيها كل العالم كما تنطبع الصورة في المرآة المجلوة.
ورياضته لنفسه تفعل الأعاجيب وتخلق منه شخصا آخر غير الذي كان عليه من قبل، وفي التلمود قصة طريفة هذا مغزاها، خلاصتها أن العالم أخذه العجب لما طلع موسى عليه بسفر الخروج وأعجب به أيما إعجاب، وصار ذكر موسى على كل لسان، حتى وصلت شهرته والإعجاب به إلى ملك العرب، وكان ملكا عاقلا حكيما، فاستدعى أحسن رسام عنده وأمره أن يذهب إلى موسى ويصوره أدق تصوير وأحكمه، فلما فعل وأتى بالصورة جمع أشهر حكمائه وأعقلهم وأمرهم أن يستخرجوا من هذه الصورة ما تدل عليه من أخلاق وعادات وميول وأن يبينوا له السبب فيما أودعه هذا الرجل من قوة.
فحص هؤلاء الحكماء الصورة وأمعنوا في فحصها، ثم قالوا إن هذه الصورة لإنسان شديد القسوة، متكبر، طموع، طموح، تتملكه الرغبة في السيطرة وحب القوة، فيه كثير من الرذائل والنقائص.
عجب الملك من ذلك وقال: كيف يصدر عمل جليل كسفر الخروج من رجل صفاته ما ذكرتم؟ فإما أن يكون المصور أخطأ في التصوير، وإما أن يكون الحكماء أخطأوا في الاستنتاج.
قال المصور: والله ما صورت إلا ما رأيت في دقة وأمانة. وقال الحكماء: والله ما ذكرنا إلا ما تدل عليه الصورة في حذق وإحكام.
وأراد الملك أن يتحقق مما قام من خلاف بين المصور والحكماء، فسافر إلى حيث يقيم، فلما وقع نظره على موسى رأى أن مصوره أصاب في التصوير ورسمه في دقة فائقة. ولما دخل عليه ملك العرب سلم عليه في إعظام وخشوع، ثم ذكر له ما حدث من المصور والحكماء وما حيره من أمرهم، فإنه كان قد ظن أن المصور أخطأ التصوير؛ لأنه عرف في حكمائه صدق الفراسة وقوة الملاحظة ودقة النظر، والآن وقد شاهد موسى أدرك صدق المصور وخطأ الحكماء.
قال موسى: «كلا، إن كلا من المصور والحكماء مصيب، وإن النقائص التي ذكرها الحكماء كانت في بالطبيعة، وربما كانت أوضح وأعنف مما ذكروا، ولكني جاهدت نفسي وهاجمت رذائلي بكل ما وسعني حتى أخضعتها وغلبتها، وفي هذا كل قيمتي وسر قوتي».
وهنالك العكس، ممن خلقوا وعندهم استعداد للروحانية ثم أضاعوه بانغماسهم الشديد في المادية. •••
والصوفي لا يزال في رياضته وأحواله ومقاماته حتى يكاد ينعزل بنفسه عن العالم الخارجي؛ لأنه يشعر بأنه فوقه، إنما هو في هيام للاتصال بما هو فوق الأشياء بالله ثم هو يرى الله في كل شيء وفي نفسه، ثم يصل به الأمر إلى الشعور بوحدة كل ذلك؛ وهذا مقام لا يدركه العلم ولا العقل، إنما ينال بالمشاعر والروح، وهو شيء كالنور يقذف به في النفس فتشعر بما تشعر به من وحدة الكون، ويصحب هذا الشعور شعور بالطمأنينة والرحمة والقوة والحب لكل شيء والحب لله؛ وهنا يقدر العالم تقديرا أبديا، ويكسبه هذا قوة احتمال وصبرا على تحمل المشاق ، وهو يدرك إذ ذاك سر الحياة وغرضها، ويطمئن إلى ذلك، على حين أن العالم لا يزال في حيرة من أمر الحياة، سرها وغرضها.
وهنا تدفق في كلام لم أفهمه، حتى إذا فرغ منه قلت: هل ترى من الخير أن يسود التصوف وتسود الروحانية العالم؟ ألا ترى أن انتشار التصوف في أمة يجعلها بعيدة عن العالم الواقعي ويجعلها متخلفة عن الأمم الأخرى في دنيا الواقع؟ أليس التصوف يجعل الإنسان حملا في وسط ذئاب؟ إني أفهم أن يكون العالم كله محكوما بالروحانيات، إذن يسود السلام وتسود الطمأنينة. أما أن يكون في العالم زاهد وجشع، ومجرد من السلاح ومسلح، فإن الزاهد ومن ترك السلاح يكون مأكولا للجشع المسلح. وهذا ما كان من الشرق والغرب، فإذا أضيف إلى ذلك أن المتصوف الحق الذي وصفت قليل نادر، والكثير الغالب مشعوذ مخرف، وانتشار هذا يجعل الأمة أيضا مشعوذة مخرفة، وإذ ذاك لا تكون في الأمة روحانية لا مادية، وتكون الأمة لا وصلت إلى الدنيا ولا إلى الآخرة كما هو حال الشرق من عهد قريب، هل بعد هذا كله تنصح بالتصوف وتدعو إليه؟
قال: إني لم أدع كل الناس إلى التصوف ولو دعوتهم ما استجابوا، فقد خلق الله أصنافا من الناس كما خلق الجماد والنبات والحيوان والإنسان؛ وكما أن في بعض الناس استعدادا للعلم؛ وفي بعضهم استعدادا للفن، وهكذا، فهناك استعداد خاص للتصوف لا تجده إلا في القليل، وفي وجوههم برهان دائم على فساد المادية وطغيانها وشقائها، ولفت مستمر أن يخجلوا من أنفسهم للماديين ولا يمعنوا في طغيانهم، وكل أمة يجب أن تكون كالفرقة الموسيقية الكاملة، فيها العود، وفيها القانون، وفيها الكمان، وفيها الطبل، أو كنغمات «البيان» فيها العالي والسافل، وأعلى النغمات وأسماها هي الروحانية. فلا بد في الأمة من العالم والفنان والسياسي والإداري والحربي والصوفي. وفساد الشرق لم ينشأ من التصوف، ولكن من دعوى التصوف حينا، ومن عدم استكمال بقية الأدوات حينا، ومن مادية الغرب أحيانا. ما أسعد العالم لو كان كله روحانيا! ولكن ليس ذلك في الإمكان، فيجب أن تتنوع الكفايات، والناس معادن، ذهب وفضة وحديد ونحاس، وإنك لا تستطيع أن تجعل من الحديد ذهبا، ولكنك تستطيع أن تجعله نافعا خاليا من الصدأ.
وانقطع الحديث، وانتهى رمضان.
العيد المئوي
يروى أنه كان في أقاصي بلاد الهند إقليم اعتاد أهله إقامة عيد كبير على رأس كل مئة سنة، فيخرج الناس من شيوخ وشبان ورجال ونساء إلى صحراء خارج البلد، فيها منصة كبيرة عالية، ثم ينادي منادي الملك: لا يصعد على هذه المنصة إلا من حضر العيد السابق، فربما صعد الشيخ الهرم قد ذهبت قوته وعمي بصره، أو العجوز الشوهاء وهي ترتعش من الكبر، وربما لا يصعد أحد ويكون الجيل كله قد فني؛ فمن صعد هذه المنصة قال كلمة تناسب المقام حسب استطاعته، ثم تبعهم خطيب يستخرج العظة من هذا الموقف.
ففي عيد من هذه الأعياد لم يبق من الجيل إلى رجل وامرأة هما اللذان صعدا على المنصة، أما سائر الجيل فقد أكلهم الدهر.
وقف الرجل وقد حنى قوسه الكبر، وتقاصرت خطاه، وتخاذلت قواه، ودق عظمه، ورق جلده، وضعف جسمه، وتهدج صوته، ولم تبق منه إلا بقية يرصدها الزمان، قد وقف على ساحل الحياة يرتقب العبور إلى الأخرى وقال: أدركت العيد الماضي وأنا طفل، قريب العهد بالمهد، لا أرى الدنيا إلا زينة، ولا أدرك الأشياء إلا لعبة، لا أفرق بين الدنيا في الأحلام، والدنيا في العيان، ولم أتبين من العيد إلا ناسا تجتمع وتتفرق، وتتحدث بما لم أفهم، وكل ما علق بذهني جمال ملابسهم ولا سيما الأحمر القاني أو الأصفر الفاقع، أما لم اجتمعوا وبم تحدثوا فلم أدركه في قليل ولا كثير.
ثم مرت علي الدنيا كما تمر فصول الرواية، من فرح وغم، وسرور وحزن، ليال طلعت سعودها، ورقد الدهر عنها، وقصر طولها لذتها، أعقبتها ليال هي غصة الصدر، ونقمة الدهر، أطالتها الهموم والغموم، سوداء لم يتخللها نور، وتعاورني الغنى والفقر، والنعيم والبؤس، حينا يسعفني الدهر، ويحالفني السعد، ويكون ما أتمنى، وأدرك فوق ما آمل، وحينا يغشاني البؤس والضر، والعيش المر، فأرى النهار أسود، والعيش أنكد، وقد ذهب هذا كله حلوه ومره، ولم يبق إلا ذكره.
صحبت السلاطين والحكام، وهم أشكال وألوان، من عادل بسط على الرعية عدله فاطمأنت، ونشر الحق فأمنت، جمع بين الحلم والحزم، يمنع الضلال ولا ينام على فساد، المفسد خائف من بطشه، والصالح آمن في كنفه، قد أعلى الله كلمته وأسبغ عليه نعمته، الأمة به سعيدة وهو بها سعيد، فلا فتنة ولا فرقة، ولا مكايدة ولا مؤامرة.
قلده وزراؤه وأرباب دولته فساروا سيرته واقتفوا أثره، فإذا العدل في كل مكان، والناس في أمن وأمان.
وظالم تراكمت مظالمه، فالحقوق في أيامه مغصوبة، والرعايا مأكولة مشروبة، والحق ضائع والقوي فاجر، والضعيف متخاذل، والدماء مسفوكة، والأعراض منهوكة، والفتن محتدمة، والنار مضطرمة، والبلاد فوضى يطمع فيها اليوم كان يهابها بالأمس.
وهؤلاء وهؤلاء ذهبوا وبقيت سيرتهم، وأفناهم الدهر وظلت آثارهم.
وعاشرت الأمة طويلا فوجدت كل شيء فيها يزهر بعدل حكامها، حتى الزرع والضرع، وكل شيء يخرب بالظلم حتى ما لا تصل إليه يد، وآلم ما آلمني أن كان قومي يهللون للعادل، ويستكينون للظالم، ولو أنصفوا ما سكتوا على ضيم ولا خضعوا لذل، ولأخافوا الظالم بقوتهم وبطشهم، فإذا العادل يعدل بطبعه، والظالم يعدل من خوفه.
وقد مر علي في هذه السنين ضروب من عادات الأمة وأوضاعها وتقاليدها، ورأيت كل شيء يتغير، ولكل زمان حكمه، ولكل شباب جدته وحماسته، ولا خير في إخضاع الشباب لعادات الشيوخ ولا فائدة من مقاومة التيار، فإن استطعتم فلا تقفوا في سبيله، ولكن استخدموه فيما ينفع.
أي قومي! لقد جربت اللذات كلها فرأيت أشدها وأحدها آلمها ذكرا، وإنما خيرها العمل المثمر والجهد النافع، وأدومها على تقدم السن وطول العمر محادثة الخلان والنظر إلى الجميل من كل شيء.
ولم تحتمل صحته الاستمرار في الكلام فسعل وسكت. •••
وقامت المرأة وكان كل شيء فيها هرما إلا لسانها، فقد كان صبيا، وبدأت تثير الشكوك حول سنها، فقد اعترفت أنها حضرت العيد السابق، ولكنها لم تتجاوز الستين إلا قليلا، فكيف يكون بين العيدين مئة عام؟ لا بد أن يكون الحاسبون أخطأوا في الحساب، أو أن عدد أيام السنة في نظرهم نصف عددها عند الناس أو ... أو ... وأفاضت في هذا القول ما شاء لها لسانها، ثم انتقلت إلى ما كان من جمالها أيام شبابها فقالت: «رحم الله شبابي، لقد كنت روضة الحسن وربيع الزمان، قوامي غصن البان، وخدي التفاح وصدري الرمان، منبع السحر من طرفي. وملقط الورد من خدي، ومنبت الدر في فمي، كم لعبت بالألباب، وكم كان لي من صرعى الشباب! كنت في غبطة شاملة، ومسرة كاملة، والشباب حولي باله كاسف، وقلبه واجف، ولي في الغرام فصول طوال، لو حدثتكم عنها بتفصيلها لحل العيد الثالث ولم أبلغ غايتها، وكنت مصدر البدع، كل عام أخرج على الشواب بملابسي وزينة شعري وجمال حليتي، فتكون الحكم الفصل في الزينة والجمال، تقلد كل عام، وكانت مائدتي ... وكان بيتنا ... وكان أبي ... وكانت أمي ...»
وما زالت تبدي وتعيد في هذه الموضوعات حتى أشار إليها الرئيس فسكتت. •••
وقام خطيب اليوم فقال: إن الحياة مجموعة من الأعداد محدودة، تنقص كل يوم عددا ولا بد من النهاية، وخير الأيام أملؤها بالخير، وما من شيء يمر أمام أعيننا إلا وفيه موعظة، وكفى بكبر السن عبرة. الخلود في الدنيا لا يؤمل، والفناء متيقن، والهرم يعيش بالذكرى، ولا أسعد من ذكرى العمل الصالح. لقد ذهب الدهر بكل من ولدته الأمهات من ذكور وإناث منذ مئة عام ولم يبق إلا هذان، وطوي فيما طوي السرور والحزن، والنعيم والبؤس، والظالم والعادل، والحاكم والمحكوم، ولم يبق من أعمالهم إلا آثارها، فطوبى لمن أحسن، وويل لمن أساء، لو فكر كل الناس في هذا المآل ما كان طاغية ولا فاسد ولا داعر ولا معتد أثيم، ولا فخور بالمال والبنين، ولعاش الناس أسعد بالا، وأرغد حالا.
إن سلامة الخلق مع ضعف الدنيا خير من سلامة الدنيا مع ضعف الخلق، وإن الأيام أربعة: يوم مفقود وهو ما فاتك وقد فرطت فيه، ويوم معدود وهو ما مضى وقد ملئ بعمل الخير، ويوم مشهود وهو يومك الحاضر، فاجتهد أن تتزود فيه، ويوم مورود وهو غدك الذي لا تدري هل هو من أيامك أم لا.
قد أفلح من ذكر هذا اليوم وخاب من نسيه.
انصرفوا رحمكم الله.
فسالت لهذه الكلمات العبرات، وتدفقت الصدقات، وارعوى الضالون، وكثر المتعظون.
عبء الاستقلال
مهداة إلى سوريا ولبنان
صدق رسول الله
صلى الله عليه وسلم
إذ يقول عقب غزوة غزاها: «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر» يعني بالجهاد الأصغر جهاد العدو، وبالجهاد الأكبر جهاد النفس وهواها.
جميل أن تقام الأفراح, والليالي الملاح، لنيل الاستقلال، فإنه أمل تحقق وجهاد توج بالنصر، وثمن لدماء عزيزة سفكت، ونفوس شردت، وأموال صودرت، ودنيا خربت، ومصالح عطلت، ولكن ماذا بعد؟
أعباء ثقال تنوء بها العصبة أولو القوة.
لقد خلف الاحتلال الأجنبي ديونا تثقل الظهور، ومغارم تقض المضاجع، وقيودا تعوق الحركة، فلا بد من همم جبارة تسدد الديون، وعناء مضن يمهد للراحة، وأعمال عبقرية تكسر القيود.
وقف الاحتلال في سبيل تعليمنا الصحيح فجهلنا، وفي مواردنا الاقتصادية فافتقرنا، وفي تكوين أخلاقنا فانحللنا، وفي حسن إدارتنا فتواكلنا، وقرب بعضنا وأبعد بعضنا فاختصمنا، ورمى في سياسته إلى نفع قومه فداسنا، وإلى استغلالنا فاستنزف دماءنا وامتص أرواحنا. •••
واليوم نلتفت بعد الاستقلال ... فنرى عقل الأمة يجب أن يعلم، ومال الأمة يجب أن يخلق، وأخلاق الأمة يجب أن تبنى، وإدارة الأمة يجب أن تنقى، وخصومتنا يجب أن تقتلع من جذورها، وألفتنا يجب أن تؤسس من جديد، وعزتنا يجب أن تسترجع، ودماءنا يجب أن تجري في عروقنا حارة طاهرة، وليس ذلك كله باليسير.
سوء تعليمنا جعل نوابغنا وأكفاءنا قليلي العدد، يحملون أعباء أكبر عدد، وتشويه أخلاقنا جعل هؤلاء النوابغ الأكفاء يتحاربون ولا يتعاونون، فلا يبقى للأمة بعد هذه الحرب إلا قوة ضئيلة لا تكفي لتسيير السفينة، فهل لنا من عصا سحرية تقلب العداء ألفة، والكره حبا والخصومة تعاونا؟ •••
قديما قالوا إن للشرق أدواء مزمنة، أو على تعبير الأطباء أدواء مستوطنة، هي داء المحسوبية، وداء الأنانية، وداء تضحية المنفعة العامة للمنفعة الشخصية، وهي حقا أدواء مفزعة، ولكن هل هي حقيقة أدواء نبتت من طبيعة الشرق، أو هي أدواء جلبها الغرب وبذرها في الشرق لينعم هو بشقاق الشرق وغفلة الشرق وسوء سمعة الشرق؟ أليس هو الذي اختار أسوأ الناس وحكمهم في أحسن الناس فكره بعضهم بعضا؟ أو ليس هو الذي جعل قيم الناس مرتبطة بالملق له والتقرب إليه فأفسد الذمم ونشر البغض؟
يقول قوم هذا وقوم ذاك، وفي يد قادة الأمم الشرقية المستقلة اليوم ترجيح أحد القولين وتصحيح أي الرأيين. •••
قد كنا فيما مضى نحتمي بالاحتلال نحمله كل عيوبنا، ونلصق به كل وجوه نقصنا، فنسند إليه جهلنا وفقرنا وانحلالنا، وكنا نزهد في الإصلاح مدعين أنه مرتطم آخر الأمر بالاحتلال، وأن الأجنبي أس الفساد وعدو كل إصلاح، فاليوم زال الاحتلال وبعد عن الطريق كل ما كنا نقول إنه العقبة الكأداء. فهل نتمشى اليوم مع منطقنا فنبذل كل جهد للإصلاح، ولا ندخر وسعا لمعالجة الآلام وتضميد الجروح وتقوية الأمة في كل نواحيها؟ •••
لقد تم الفصل الأول من الرواية وبدأ الفصل الثاني، وفي يدنا أن نكتبه جميلا يعجب الناظرين، أو رديئا يسوء القارئين والسامعين، ولم تنته الرواية بعد، ففي إمكاننا أن تكون سارة وأن تكون محزنة، فهيا إلى المسرح ومثلوا خير الأدوار. •••
إنها أول تجربة لأمم غربية شرقية تدير أمور نفسها بعد الاحتلال، والعالم حولنا كله عيون يتطلع إلى أعمالنا، ولنا أصدقاء يضعون أيديهم على قلوبهم خائفين لكن آملين، ولنا أعداء عز عليهم استقلالنا فهم مترصدون، ولو أتيحت لهم الفرصة يدسون، ولهم أذناب أفسدوا ضمائرهم يلعبون ويدعون الإصلاح وهم المفسدون وإذ كانت أول تجربة فسيكون الحكم لكم أو عليكم حكما لأمم الشرق كلها أو عليها «ومن سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة». •••
غفر الله لحكامنا السابقين، فقد مهدوا للاحتلال بسوء صنيعهم، فحملونا أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم، ولا بد من سواعد قوية ترفع هذه الأثقال، وترميها في البحار لا إلى رجوع. •••
لقد قطع الغرب شوطا بعيدا في العلم والاقتصاد والصناعة، وسار أول أمره سير الطفل يدرج فيقع فينهض حتى اكتمل شابا، وكان خطؤه مقبولا منه، إذ كان وحده هو الذي يسير سير الإنسان. أما نحن اليوم فلا يقبل منا السير البطيء، ولا السير المتعثر، ولا السير المتخلف، وستقاس أعمالنا بمقياس الإنسان المتحضر على آخر طراز، العالم على أبعد مدى، السياسي الذي امتلأ حنكة، الاقتصادي الذي وزن المادة بميزان الصيرفي، وليس ينفع سير الجمل بجانب السيارة، ولا الجري مع الطيارة، ولا نسيج اليد بجانب نسيج الكهرباء. ولا سير المركب البطيء بشراع الهواء. فإما حياة الأحياء وإما الفناء، وما أشقه من مطلب. •••
إن الحكم الظالم الذي جرى طويلا علينا قد التهم الحب من جونا، فلا الحاكم يحب المحكوم ولا المحكوم يحب الحاكم، ولا الموظفون يحبون أصحاب الحاجات ولا العكس، ولا الطبقة الرفيعة تحب الطبقة الفقيرة ولا العكس، ولا المتعلم يعطف على الجاهل، ولا الجاهل يوقر العالم ثم هذا الحكم الجائر قسمنا شيعا وجعل كل فرد أمة وحده. إن عطف فإنما يعطف على أسرته وأقاربه ليس غير؛ فمن لنا بعد الاستقلال بقوم يبذرون بذور الحب حتى تنمو وتتفرع وتملأ الجو، فيحل التعاون محل التنافر، والعطف محل الخطف، والإيثار محل الأثرة، إذ لا تصلح أمة إذا فقدت هذا الحب؟
لقد كنا نهبا مقسما للأمم الغربية تستعمرنا وتحتلنا وتملأ بلادنا ثكنات, وجنودا وطائرات، واليوم وقد زال هذا المنظر البغيض أو كاد سنواجه دواعي الفرقة من جنس جديد، ستتقسمنا الدول بمبادئها، شيوعية تحارب ديموقراطية، وديموقراطية تحارب شيوعية، ودعاة يدعون لكل أمة غربية على أنها المثل الذي يجب أن يحتذى، والقدوة التي يجب أن تقلد، وستكون الحرب عنيفة بين دعاة الرجعية ودعاة التجديد؛ الأولون ينظرون إلى الخلف، ويستغلون مشاعر الشعب باسم الدين والمحافظة على الأخلاق، والآخرون ينظرون إلى الأمام ويستغلون العقل والتفكير ومسايرة العالم، فيقسمون الأمة إلى معسكرين، ولا بأس من ذلك إذا اقتصرت الحرب على الجدل والإقناع، ولكن الويل لنا إذا خرجت عن هذه الدائرة، وستتسابق الأمم في احتلالنا اقتصاديا، والاقتصاد فن لم نحذقه، وعلم لم نتقنه، وثرواتنا لم ندرسها ولم نحسن استغلالها، وفتحنا عيوننا فوجدنا أهمها في يد غيرنا. فكم يقتضي ذلك من الجهد حتى لا تتوزعنا المبادئ المتناقضة توزعا حادا يمزق وحدتنا، وحتى نفهم مصادر ثروتنا كما فهمها غيرنا، ونحتلها لأنفسنا كما احتلها غيرنا لأنفسهم، ونستخدمها في مصانعنا وأعمالنا فنمحو بها فقر الفقير وذلة البائس والشعور بالنقص؟ •••
أما بعد فلي كلمة للشعب وكلمة للحكام.
فأما كلمتي للشعب:
فهي أن يغيروا نظرتهم إلى الحاكم. قد كانوا معذروين أن ينظروا إليه نظرة الطائر للصائد، إذ كان حاكمهم ليس منهم أو أداة في يد غيرهم، أما اليوم فحاكمهم منهم، وليس يستطيع الحكم إلا بهم، والتمتع بثقتهم، كونوا أحرارا ولكن تعلموا كيف تستخدمون الحرية، وهو درس شاق عسير، وخاصة بعد أن احتملت الأمة من الاستبداد ما احتملت، وذاقت من الضغط والعسف ما ذاقت، وأخطر ما فيه أن الأمة في مثل هذه الظروف تلتفت إلى حقوقها ولا تتذكر واجبها، وتطلب من حاكمها أن يكون نبيا معصوما، ولا تتطلب من نفسها أن تكون صحابة طائعين.
إن لكم الحق كل الحق أن تطالبوا حكومتكم بالإصلاح في كل مرافق الحياة، ولكن في حدود المعقول والممكن. ولكم الحق كل الحق أن تنقدوا ولكن على أن يكون النقد نقدا بانيا لا نقدا هادما. اذكروا دائما أن الحاكم في أول حمله للتبعة يخطئ، ولكن تقبلوا خطأه بصدر رحب ونقد مشبع بالعطف، ومكنوه من أن يصلح خطأه، ومهدوا له سبيل الاستقرار حتى يتوطد الحكم وتستقر الأسس، فبعض الخطأ مع الاستقرار خير من نشدان الكمال مع التغير المستمر، وغاروا عليه كما تغارون على مصالحكم، واحرصوا على أن يكون الحكم على أيديكم أحسن من الحكم على يد غيركم، وأن تكونوا أطوع للحاكم من أنفسكم من الحاكم يفرض عليكم، وقدروا ما يواجه من مشاكل أشرنا إلى بعضها، فلا تثقلوا كاهله بما تحدثون من مشاكل يمكن تأجيلها.
وأما كلمتي للحكام:
فهي أن يمتلئوا عقيدة بأن الحكم تكليف لا تشريف، وأداء واجب لا تحصيل مغنم، وأنهم من الشعب وللشعب وبالشعب، وأنهم قائدوه لا ناهبوه، وهادوه لا مضللوه، وموجهوه لا تابعوه.
إنكم خدام الشعب لا آلهته، وقد حكمتم لنفعه لا استغلاله، وأقمتم على مصالحه جميعه لا مصالح أسركم ولا حزبكم ولا أتباعكم، فكل الأمة حزبكم وأتباعكم، والحكومة الصالحة هي التي تعرف الكفايات حيث كانت، وتستغلها للخير من غير أي اعتبار.
ضعوا قوانين العدالة وقدسوها والتزموا السير عليها، فما أسرع الفوضى إلى أمة تتلاعب بقوانينها، وتخضع لشهواتها لا قانونها.
إن الحكم فن دقيق، فاجتهدوا أن تجيدوه، وهو علم وفطنة فتزودوا منهما.
من أهم أسسه حفظ التوازن بين القوى المتنافرة في الأمة، وتوجيهها كلها للمصلحة العامة، ومن أهم أسسه إشعار الأمة بقوة حكومتها وثبات مركزها وشدتها إذا اقتضى الحال، وبتها السريع لا ترددها، وإلا سقطت من أعين الشعب وسادت فيه الفوضى. ومن أهم أسسه العناية بآمال الأمة الأدبية كالعناية بمنافعها المادية، ثم الحذر كل الحذر من الزعماء الطامعين في الحكم، الذين يلونون شهوتهم بلون المصلحة العامة، فيقسمون الأمة ويفرقونها، فتذهب قوتها وتتحول إلى قوى متشادة يذهب بعضها بعضا، ينصرفون إلى وضع العراقيل للحكومة وتنصرف الحكومة لإبطال دسائسهم، ثم تضيع مصالح الأمة بين هؤلاء وهؤلاء.
إن الأمر جد لا هزل فيه، وحق لا عبث فيه، وليس الاستقلال وردا بلا شوك أو مغنما بلا مغرم.
إنه عبء، إنه واجب، إنه همة، إنه تضحية، إنه مسابقة، إنه عرض على أنظار العالم، إنه أهم قضية تنتظر حكم القاضي، والقاضي متحيز، فسدوا عليه كل منفذ وفقكم الله.
صفحة من التاريخ
يرفع الستار عن غرناطة في القرن الخامس الهجري وعليها ملك اسمه باديس ابن حبوس بن ماكسين الصنهاجي ويلقب بالمظفر (429-465).
وصنهاجة قبيلة من قبائل البربر كثيرة العدد منتشرة بالمغرب، لا يكاد قطر من أقطاره يخلو منهم، وهم يتفرعون إلى بطون كثيرة، وكان لهم بالمغرب دولتان كبيرتان: دولة بني زيري بتونس، وقد أخذوا ملكهم من يد الفاطميين بالمغرب، ودولة الملثمين بالمغرب الأقصى وسموا الملثمين؛ لأنهم يتلثمون ولا يكشفون وجوههم، وكثير من الصنهاجيين يبدو لا يعرفون حرثا ولا زرعا ولا فاكهة، وأموالهم الأنعام، وغذاؤهم اللحم واللبن، ولا يعرفون الخبز إلا أن يمر بهم بعض التجار فيأخذون منهم بعض الحبوب والدقيق، وكانوا وثنيين لم يسلموا إلا بعد فتح الأندلس، وهم أهل بأس وشدة، دوخوا الصحراء وجاهدوا من بها من أهل السودان، وحملوهم على الإسلام.
كان باديس هذا طاغية جبارا بعيد الهمة شره السيف شجاعا سفاحا حازما مجرما مرهوب الجانب، هجم على غرناطة وملكها وتضخم به عمرانها؛ أمنت رعاياه في عهده من أن يعدو عليها عاد أو يطمع فيها عدو، فكانت مرهوبة الجانب من الخارج وإن كانت مصابة به وبحكامه في الداخل، وكان له وزير يهودي اسمه صموئيل بن نجدلا، حرفه العرب إلى إسماعيل بن نغديله.
كان صموئيل هذا أو إسماعيل آية في الذكاء والدهاء والمكر وحسن التدبير وسعة الثقافة، عرف إلى العبرية العربية ، فقرأ الكتب وحذق اللسان العربي والدين الإسلامي والفلسفة والرياضة والنجوم، وكان جماعا للكتب، يقرؤها ويدعو إلى قراءتها، ويرضى ملكه بكل أنواع الرضا، حتى صار يكتب عنه كتبه مستفتحا بالحمد لله وبالصلاة على رسوله محمد
صلى الله عليه وسلم ، مزكيا للإسلام ذاكرا فضائله، كما يريد سيده وكما يحب الناس، وهو في ثنايا ذلك يمكن لسلطانه وسلطان جنسه ولكن في تحفظ وتؤدة.
ومات صموئيل سنة 459 فبكاه اليهود بكاء مرا وحملوا نعشه وجزعوا لفقده.
وكان له ابن اسمه يوسف، كان جميلا أعده أبوه ليخلفه، فعلمه وأدبه ومرنه على أعمال الوزارة حتى حذقها، وجعله في خدمة ولي العهد بلكين بن باديس؛ فلما مات صموئيل خلفه ابنه يوسف وزيرا لباديس، ولكن لم يكن يوسف كأبيه صموئيل دهاء، وإن كان مثله علما وذكاء. كان أبوه يسخو تمكينا لسلطانه، ولكن ابنه كان يجمع المال تأييدا لجاهه، وكان أبوه يمكن لليهود سرا، فكان ابنه يؤيدهم جهرا، وكان أبوه يؤيدهم في تحفظ، فأيدهم ابنه في غير تحفظ، وكان أبوه متواضعا تواضع الدهاء، فجاء ابنه يعتز بالكبرياء، وكان أبوه يتظاهر باحترام الإسلام، فتظاهر ابنه بعداء الإسلام .
فتجمع الرأي العام في غرناطة على كراهيته وإن اختلفت أسباب الكراهية؛ هؤلاء يكرهونه لاستخراج الأموال منهم، وهؤلاء لكثرة توليته اليهود على مصالحهم، وهؤلاء لإفراطه في التجسس عليهم، وهؤلاء لقدحه في دينهم.
ثم ظهر على المسرح الشيخ الإلبيري وهو إبراهيم بن مسعود. كان فقيها أديبا ورعا زاهدا، وكان يسكن غرناطة ويتولى بها بعض الأعمال، فسعى به يوسف ابن صموئيل إلى باديس فغضب عليه وأخرجه من غرناطة فسكن البيرة وانقطع بها إلى العبادة، وأخذ يقول شعر سهلا في الزهد والندم والتوبة وذكر الله، فينتقل إلى غرناطة فيتناقله الناس ويلهجون بإنشاده ويترنمون به أمام الجنائز وعلى المآذن وفي مجالس الوعظ، وحز في نفسه ما فعل اليهودي معه، وما كان من سلطة اليهود، فأنشأ قصيدة هزت الرأي العام في غرناطة، وتجاوبت معه وعبرت عن مشاعره، فكانت النار في الهشيم يقول فيها
1 :
ألا قل لصنهاجة أجمعين
بدور الزمان وأسد العرين
مقالة ذي مقة مشفق
يعد النصيحة زلفى ودين
لقد زل سيدكم
2
زلة
تقر بها أعين الشامتين
تخير كاتبه كافرا
ولو شاء كان من المؤمنين
فعز اليهود به وانتخوا
وتاهوا، وكانوا من الأرذلين
ونالوا مناهم وحازوا المدى
وقد كان ذاك وما تشعرون •••
أباديس أنت امرؤ حاذق
تصيب بظنك نفس اليقين
فكيف خفي عنك ما يعبثون
وفي الأرض تضرب منا
3
القرون •••
وكيف يتم لك المرتقى
إذا كنت تبني وهم يهدمون
وكيف استنمت إلى فاسق
وقارنته وهو بئس القرين
وقد أنزل الله في وحيه
يحذر عن صحبة الفاسقين •••
وكيف انفردت بتقريبهم
وهم في البلاد من المبعدين
على أنك الملك المرتضى
سليل الملوك من الماجدين
وأن لك السبق بين الورى
كما أنت من جلة السابقين •••
وإني حللت بغرناطة
فكنت أراهم بها عابثين
وقد قسموها وأعمالها
فمنهم بكل مكان لعين
وهم يقبضون جباياتها
وهم يخضمون وهم يقضمون
وهم يلبسون رفيع الكسا
وأنتم لأوضعها لابسون
وهم أمناكم على سركم
وكيف يكون أمينا خؤون
ويأكل غيرهم درهما
فيقصي، ويدنون إذ يأكلون •••
ورخم قردهم داره
وأجرى إليه نمير العيون
وصارت حوائجنا عنده
ونحن على بابه قائمون
ويضحك منا ومن ديننا
فإنا إلى ربنا راجعون
ولو قلت في ماله إنه
كمالك كنت من الصادقين •••
وكيف تكون لنا همة
ونحن خمول وهم ظاهرون
ونحو الأذلة من بينهم
كأنا أسأنا وهم محسنون
فلا ترض فينا بأفعالهم
فأنت رهين بما يفعلون
وراقب إلهك في حزبه
فحزب الإله هم المفلحون
عمل القصيدة في إلبيرة فسافرت إلى غرناطة فحفظتها القلوب وتداولتها الألسن وكان صباح، وكان مساء، وكان هياج.
ثم أسدل الستار على مأساة من أفجع المآسي في غرناطة.
لون من ألوان الفكاهة المصرية
امتاز المصريون بالفكاهة الحلوة، يتفننون في صنعها ويتذوقونها ويحتفلون بها. لماذا؟ لا أدري.
كما لا أدري لماذا كانت أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب أحسن الناس غناء دون ملايين المصريين.
ولماذا كانت القاهرة أقدم على هذا الفن من غيرها من مدن الشرق كله؟ لا أدري أيضا ... وليست المسألة مسألة تقدم في المدنية والحضارة، فهناك في المدن الغربية ما يفوق مدينة القاهرة مدنية، ولكن لا يجاريها في النكتة. وفي العالم مدن صغيرة فاقت في ذلك المدن الكبيرة، كما فاقت مدينة رشيد الصغيرة في ذلك مدينة طنطا الكبيرة.
والفكاهة أشكال وألوان. فهناك السخرية بالفكرة، والسخرية بالأشخاص، والتنكيت عن طريق التورية بالألفاظ، إلخ إلخ.
ولوننا الذي نعرضه اليوم لون طريف له تاريخ لطيف.
فقد حدث في القرن الماضي من سنة 1857 إلى سنة 1863 أن كان في القاهرة شابان موسران من أسرتين كبيرتين يعيشان عيشة بوهيمية، وهما - إلى استهتارهما ومرحهما وإفراطهما في الشراب - أديبان ظريفان، يقرآن الكثير من كتب الأدب، ويعرفان الشعراء معرفة دقيقة، ويتخيران الشعر الجيد يحفظانه ويرويانه، ولهما مجلس ظريف فيه الشراب وفيه الشعر وفيه الفكاهة، هما إبراهيم أفندي طاهر، وعبد الحميد بك نافع. فكان مما خطر لهما أن يستعرضا الأدباء والعلماء في عصرهما، ويخلعا على كل واحد منهما لقبا من ألقاب الأدباء القدماء يناسبه ويلبسه وينسجم معه.
وهي مهمة ليست باليسيرة، فلكل اسم وحيه ودلالته، ولا بد أن يتفق وحي اللقب مع الملقب به اتفاقا بارعا يقابله الجمهور بالضحك والاستحسان، فبعض الأسماء لو سمي به كناس كان مناسبا، ولكن لو سمي به أديب أو شاعر أو وزير لم يكن منسجما، وهكذا.. وبعض الأسماء يوحي بالظرف. وبعضها يوحي بالثقل، وبعضها يوحي بالذكاء، وبعضها يوحي بالغباء، وهكذا.
وأثار عملهما هذا ضجة في الأوساط الأدبية فأشاع فيها الضحك والمرح حينا، والغضب والخصومة حينا، فكانت معركة حامية لطيفة. ونحن نذكر بعض ألقابهما.
كان في القاهرة «على أغا الترجمان»، وكان عينا من الأعيان، فيه جلال ووقار، بعمامة نظيفة، وشيبة ظريفة، فسمياه «القاضي الفاضل».
وكان «عبد الله باشا فكري» أديبا ظريفا، رقيق اللفظ، عذب العبارة، سهلا في طباعه يرسل الحديث على سجيته، والنكتة على فطرته، فسمياه «ابن سهل».
وكان له صديق اسمه «عبد الغني بك فكري» ضخم كبير الرأس، فسمياه «الأخطل»، وعرض عليهما «محمود صفوت الساعاتي» الشاعر المشهور، وكان نحيفا قصيرا كثير اللفتات والحركات فسمياه «ديك الجن». وقد غاظه هذا اللقب لما شاع في الناس، وعمل قصائد هجاء في إبراهيم أفندي طاهر.
وكان الشيخ إبراهيم الدسوقي، الأديب المصحح في مطبعة بولاق، طويل القامة، قوي البنية، كبير الهامة، كثير الفكاهة، حلو السمر، يجلس عند الباب الأخضر لسيدنا الحسين ويسمر مع أصحابه، وله ضحكة عالية تسمع من آخر الشارع، فسمياه «مهيار الديلمي»، والشيخ محمد قطة العدوى، أحد علماء الأزهر، وكبير مصححي المطبعة الأميرية، كان إذا درس تمايل يمينا وشمالا، فإذا قال بيت شعر مال يمينا عند المصراع الأول ويسارا عند المصراع الثاني، فسمياه «أبو شادوف». والسيد على أبو النصر، والشيخ على الليثي كانا نديمي الخديو إسماعيل، وكانا معروفين بالظرف والتنادر. وكان أبو النصر طويلا جدا، فسمياه «ابن العماد»، وسميا الشيخ على الليثي «أبو دلامة» إذ كان فكها مضحكا، كما كان أبو دلامة للرشيد، وكان إبراهيم بك مرزوق أبي النفس شجاعا جريئا في قول الحق حتى نفي إلى الخرطوم ومات بها، وكان شاعرا قويا، فسمياه «أبا فراس».
ومحمود سامي البارودي، كان أيام هذه التسمية جميل المنظر، لطيف القد فسمياه «ابن رشيق».
ومحمد عثمان جلال الزجال كان أديبا ماجنا يملأ القاهرة فكاهة، فسمياه «الخليع البغدادي».
والسيد صالح بك مجدي كان شاعرا، وكان لونه يميل إلى السواد، وفي عينه بعض حول فسمياه «الأحوص».
وإسماعيل أفندي الخربتاوي كان نحيف الجسم جدا من أكل الأفيون، حتى انحنت قامته، وتقرنص فسمياه «ابن قرناص».
والشيخ عثمان مدوخ صاحب التوشيحات والأزجال كان يمشي كأنه يتدحرج فسمياه «دعبل».
والشيخ حسين المرصفي، كان كفيفا نحيفا يتهم بالزندقة، فلقباه «أبا العلاء المعري»، ونسيبه الشيخ زين المرصفي كان قليل الكلام فسمياه «ابن السكيت».
ومصطفى كامل أفندي معلم اللغات الشرقية بخان الخليلي، كان قصير القامة قصير الرجلين، بهما اعوجاج فسمياه «العكوك».
والشيخ عبد الهادي الأبياري، كان يداخل الأغنياء ويحب الظهور ويتكلم دائما بنون التعظيم، فيقول: قلنا. وفعلنا. ويضخم العين في نطقه، وأخيرا ولي القضاء في بلدته «برمة» وما حولها، وقد اشتهرت برمة بتفريخ الدجاج فسمياه «قاضي الدجاج».
ومحمد شراره أفندي، كان ينطق بالصاد فيها صفير فقالا عليه: إنه أفصح من نطق بالصاد، وسمياه «أبا الشيص».
وكان «للشيخ محمد بخاتي» لحية صفراء كبيرة، قليلة العرض من بدايتها، آخذة في العرض شيئا فشيئا إلى نهايتها، فسمياه «ابن مكانس».
وكان «السيد أحمد الرشيدي» إمام المعية أبيض اللون، له هيبة ووقار، غزير شعر الشارب، كثيف اللحية، يلبس فرجية واسعة فسمياه «هرقل» إلخ إلخ.
ولما فرغنا من منح الألقاب طلب كل منهما من صاحبه أن يلقبه فلقب إبراهيم أفندي طاهر «بالشاب الظريف» وعبد الحميد بك نافع «بالصاحب بن عباد» وهكذا ملأ مصر بعملهما هذا مرحا وضحكا أيام كان الضحك رخيصا
1 .
في الأدب العربي (1)
طريقة في دراسة الأدب
قال ابن الحقيق:
إني إذا مالت دواعي الهوى
وأنصت السامع للقائل
واعتلج الناس بآرائهم
نقضي بحكم عادل فاصل
لا نجعل الباطل حقا ولا
نرضى بدون الحق للباطل
وقال آخر، وقد دعاه عبد الملك بن مروان لقتال ابن الزبير فأبى:
فلست بقاتل رجلا يصلي
على سلطان آخر من قريش
له سلطانه وعلي إثمي
معاذ الله من سفه وطيش
وقال أيمن بن خريم:
إن للفتنة هيطا
1
بينا
فرويد الميل منها يعتدل
فإذا كان عطاء فانتهز
وإذا كان قتال فاعتزل
إنما يوقدها فرساننا
حطب النار، فدعها تشتعل
هذه أشعار قيلت الأولى منها في صدر الإسلام، وقيلت الثانية والثالثة في العصر الإسلامي الأول والفتن مشتعلة، والناس تتوزعهم الأحزاب - كما هو شأننا اليوم - وكل يدعي الحق بجانبه، فإذا عجز اللسان عن الإقناع تكفل السيف به.
وكان الناس ألوانا كما نحن ألوان، وكل قطعة من هذه الأشعار تمثل لونا من ألوانهم، بعض هذه الألوان زاه جميل، وبعضها قاتم وقور، وبعضها لماع زائف. (1)
فالقطعة الأولى تعرض لأجمل الألوان وأروعها وأحقها أن تكون مثلا أعلى، يدعو هذا الشعر إلى أن الأهواء إذا اختلفت، والآراء إذا اشتبكت وتضاربت، يجب على الإنسان ألا يتجنب المعركة ولا يفر من الميدان، ولكن يبتعد عن الأهواء كلها، ويدرس الآراء كلها في دقة وإمعان، حتى يعرف صحيحها من باطلها، ولا ينخدع بزيفها، فإذا تبين له وجه الصواب أعلنه وأعلن التمسك به، فقضى بالرأي الذي يراه صوابا وعدلا وقاله قولا فصلا لا لبس فيه ولا إبهام ولا غموض ولا التواء.
ثم هو لا يكتفي بالقول، فما القول إذا لم يدعم بعمل؟ فلا يقر قراره حتى يكون الحق ويحل محل الباطل، ثم لا يكتفي بأنصاف الحلول، فإما الحق كله أو لا شيء غيره، فذلك قوله «ولا نرضى بدون الحق للباطل». (2)
وثانية القطعتين وقعت على معنى جميل وقائلها لا يصطدم مع القائل الأول، ولكن يجاذبه، فهو يريد أن يقول: إنه لا يحب أن يقاتل من أجل انتصار شخص على شخص، ولا سيما إذا كان المقاتل مسلما والمقاتل مسلما، وهو قول إذا ترجم إلى أقوالنا المعاصرة قيل إنه لا ينصر حزبا ولا يقاتل حزبا من أجل زعماء هذا وزعماء ذاك، ما دام الزعماء كلهم أبناء أمة واحدة، فالقتال في مثل هذا الموقف ليس قتالا للحق ولكنه قتال للزعيم. وأنا أربأ بنفسي أن أقاتل لزعيم له الغنم وعلي الإثم، والقتال إن كانت نتيجته غنم شخص أيا كان، وخسارتي أيا كانت النتيجة، سفه وطيش؛ فذلك قوله:
له سلطانه وعلي إثمي
معاذ الله من سفه وطيش
فإذا انضم إلى هذا المعنى السلبي ذلك المعنى الإيجابي في الأبيات الأولى وهو القتال للحق وفي سبيل الحق وفي نصرة الحق، لا للزعماء ولا للرؤساء فقد بلغ الغاية. (3)
أما الأبيات الأخيرة فصاحبها شر الثلاثة. يقول: إذا أوقد الزعماء نار الفتنة فليوقدوها، ولا بأس بإيقادها، فكل فتنة تنتهي بمغانم، فإذا كان وقت القتال والتضحية فلأكن بعيدا عن النار، أستمتع بمرآها ولكن بحيث لا تمسني لفحتها، وإذا كان وقت توزيع الغنائم والأسلاب ظهرت في الميدان وعلوت فوق هام المقاتلين والمضحين حتى أنال من المغانم أكبر نصيب.
وقد عبر هذا الشاعر عن نفسية كل النفوس الشريرة في كل العصور، لا تسيرهم إلا شهواتهم، ولا يقدرون في الدنيا إلا مغانمهم، يريدون المغنم من غير تضحية، ويزعمون لأنفسهم الحقوق من غير أداء واجب، لا يراهم الرائي عند الغرم، ويتصدرون المحافل عند الغنم ، الزعيم الحق عندهم هو من يظنون فيه أكبر مغنم لا أحق مطلب، ولا بأس عندهم أن يعلنوا أن خير زعيم اليوم هو من قالوا إنه شر زعيم أمس؛ لأن المغنم عنده اليوم ولم يكن عنده أمس، وأحكامهم على المسائل العامة تتقلب وتنعكس بين يوم وليلة تبعا لإشاعات من يتولى الحكم ومن يعتزله، يحسب أمور الأمة كلها حسابا دقيقا على أساس كم يناله من النفع في هذه الحالة وكم يناله في تلك، ويضع هذا في كفه وذاك في كفة؛ وعلى هذا الأساس يصدر حكمه في نظم الحكم، وفي الوزارات التي تتولاه، وفي المشاريع التي تقدمها، فذلك قوله:
فإذا كان عطاء فانتهز
وإذا كان قتال فاعتزل
فاللهم لا تكثر من أمثال هذا فينا. (4)
وهناك نموذج رابع هو شر الجميع، فإن كان الأول يتحرى الحق وينصره، والثاني لا يقاتل لشخص ولا لزعيم فإن قاتل فإنما يقاتل لمبدأ، والثالث رجل نهاز للفرص، يقبع، حتى إذا جاء وقت توزيع الأسلاب ظهر وطالب وغنم. فهذا الرابع ليس كهؤلاء جميعا، هو من نوع غير هذه كلها، هو لا يرتاح لهدوء الناس وطمأنينتهم، بل هو إذا نامت الفتنة أيقظها، وحرك العداوة والبغضاء بين الناس بما يخترع من أقاويل ويثير من كوامن، ويقول لهؤلاء ما يغضبهم ويقول لهؤلاء ما يثيرهم، ويحرف الكلام عن مواضعه ليبذر الشر، ويقول الناس ما لم يقولوا ليخلق الضغينة.
حتى إذا تأججت النار واحتدم الغيظ واشتبك الخصوم في القتال نفض من ذلك كله يده، وزعم أنه لم يثر شرا ولم يدبر كيدا، فكان
كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين ، يحزن للطمأنينة إذا هي كانت، ويعمل للشغب ويفرح إذا هو كان، وكلما كثرت القتلى والصرعى ازداد غبطة وأمعن في التستر.
ثم هو يهزأ بالذكر الحسن بعد الموت، والثناء على أفعاله إذا هو قتل، فلا قيمة لشيء من ذلك كله عنده، وإنما القيمة كل القيمة في حياته سالما غانما.
ذلك هو الفرار السلمي الذي يقول:
وكتيبة لبستها بكتيبة
حتى إذا التبست نفضت لها يدي
فتركتهم تقص الرماح ظهورهم
من بين منعقر وآخر مسند
ما كان ينفعني مقال نسائهم
وقتلت دون رجالها لا تبعد؟
2
هذه أصناف الناس في الفتن في كل زمان ومكان، وفي هؤلاء الشعراء جميعا مزية الصراحة، فكل قد وصف نفسه أصدق وصف، على حين أن في الناس من الصنف الثالث أو الرابع ويزعم نفاقا أنه من الصنف الأول أو الثاني. وعلى كل حال فليست تصلح أمة حتى يكثر فيها الأولون ويقل فيها الآخرون.
في الأدب العربي (2)
ذلة كبرى
كان عمرو بن سعيد بن العاص الملقب بالأشدق رجلا من رجالات الدولة الأموية، عرف بالقوة والعظمة والفصاحة والسخاء، وولي المدينة ليزيد ابن معاوية.
فلما ضعفت الدولة بعد معاوية بن يزيد بن معاوية وكان الأمر يخرج من البيت الأموي، كان عمرو الأشدق هذا أجد الناس في تولية خاله مروان، وأحسنهم معاونة ومكاتفة له، واجتهادا في صلاح أمره وإفساد أمر ابن الزبير، قاتل مع مروان يوم مرج راهط، ولما وجه ابن الزبير أخاه مصعبا للاستيلاء على فلسطين وجه مروان عمرا هذا على رأس جيش فهزم مصعبا وجيشه ورده إلى المدينة.
وكان عمرو قويا بسخائه وبذله الأموال الكثيرة على أعوانه، فأحبه جنده وأطاعوه وعملوا بإشارته حتى كان قوة لا يستهان بها.
فهو عزيز في نسبه، عزيز في جنده، عظيم في نفسه، قوي في رأيه.
شعر مروان بذلك كله فمناه بالخلافة من بعده استدعاء لطاعته واحتياجا لنصيحته.
فلما استمكن الأمر لمروان ودانت له الأقطار ونظر إلى ابنيه عبد الملك وعبد العزيز فأعجباه، عز عليه أن يخرج الملك عنهما، فنسي عنده لعمرو، وعهد بالملك من بعده لعبد الملك ثم من بعده لعبد العزيز.
وترك عمرا يتجزع الغصص وينتهز الفرص وهو هو القوي الداهية يصف نفسه فيقول: «والله ما أنا بحلو المذاق، وإني لقمن المضرة، ولقد ضرستني الأمور، وجرستني الدهور
1 ، فزعا مرة وأمنا مرة. وإن قريشا لتعلم أني ساكن الليل داهية النهار، لا أتتبع الظلال، ولا أقمص حاجتي، ولا يستنكر شبهي، ولا أدعى لغير أبي».
وقيل له مرة: إلى من أوصى بك أبوك؟ قال: إني أبي أوصى إلي ولم يوص بي.
مات مروان ونفذت البيعة فتولى عبد الملك بن مروان.
وثارت الفتن على عبد الملك. فمصعب في العراق وعبد الله بن الزبير في مكة، وسائر الأقطار في فتنة، والدولة محتاجة إلى الأنصار أمثال عمرو بن سعيد، فتقدم عمرو إلى عبد الملك وقال: إنك لتعلم ما قدمت لأبيك من معونة، وما قمت بشأنه وما حاربت معه وما وعدني أن يجعل لي الأمر بعده؟ فرد عليه عبد الملك في جفاء وأنكر عليه مطلبه.
فانتهز عمرو خروج عبد الملك إلى العراق وخرج إلى دمشق، واستولى عليها وأعلن الخلافة لنفسه، وأجابه أهل دمشق، وبايعوه، وحصن المدينة واستعد للقتال، فلما بلغ ذلك عبد الملك أهمه الأمر أكثر مما أهمه مصعب وعبد الله ابنا الزبير، وقفل إلى دمشق فوجدها مغلقة الأبواب مستعدة للقتال، فخاف عبد الملك أن يضيع قوته في قتال عمرو فراسله ومناه، وضمن له أن يوليه بيت المال، ويجعل له ولاية الأمر من بعده مقدما على أخيه عبد العزيز، فأبى عمرو إلا أن تكون هذه الشروط كلها مكتوبة، فكتب له عهدا ووثقه ووقعه. فقبل عمرو وفتح له دمشق فدخلها عبد الملك ونزل دار الخلافة. وكان عمرو يركب إليه فيكرمه عبد الملك حتى سكن إليه.
فلما أمكنته الفرصة بعث يوما لعمرو فخرج إليه في ركبه، وكان عبد الملك أوصى إذا دخل عمرو أن توصد الأبواب دون من معه ففعلوا، حتى إذا اطمأن عمرو في جلسته تقدم حارس فأخذ منه سيفه فقال عمرو: أيؤخذ سيفي؟ فضحك عبد الملك وقال: أتطمع أن تقعد معي بسيف بعد الذي كان منك؟ ثم قال عبد الملك: إني كنت أعطيت الله عهدا إن ملأت عيني منك مستمكنا أن أجمع يديك إلى عنقك ثم أثقلك حديدا، وأمر بجامعة وقيد أعدا له فصيرهما في عنقه ورجليه، فلما أحس الشر ناشده الله والرحم، فقال عبد الملك: إني لو علمت أنك تبقى ويصلح لي ملكي لفديتك بدم النواظر. والله ما اجتمع فحلان في هجمة
2
إلا قتل أحدهما صاحبه، ثم أمر به فقتل ورمى رأسه إلى جند عمرو، ورمى معه ببدر الدنانير فتركوا الرأس واشتغلوا بجمع الدنانير.
وكانت أخت عمرو زوجة للوليد بن عبد الملك فخرجت حاسرة تقول:
غدرتم بعمرو يا بني خيط باطل
وكلكم يبني البيوت على غدر
وما كان عمرو عاجزا غير أنه
أتته المنايا بغتة وهو لا يدري
كأن بني مروان إذ يقتلونه
بغاء من الطير اجتمعن على صقر
لحي الله دنيا تعقب الذل أهلها
وتهتك ما بين القرابة من ستر
3 •••
سقت هذا الحديث لأدل على درة من درر الأدب العربي؛ ذلك أن عبد الملك استشار أصحابه فيما فعل، فأما المنافقون وهم كثيرون فأطروا عمله، ولكنه «سأل رجلا كان يستشيره ويصدر عن رأيه إذا ضاق عليه الأمر»، فقال له: ما ترى ما كان من فعلي بعمرو بن سعيد؟
الرجل :
أمر قد فات دركه.
عبد الملك :
لتقولن.
الرجل :
حزم لو قتلته وحييت.
عبد الملك :
أو لست بحي؟
الرجل :
هيهات. ليس بحي من وقف نفسه موقفا لا يوثق منه بعهد ولا عقد.
عبد الملك :
كلام لو تقدم سماعه فعلي لأمسكت.
ليت كلام هذا الناصح الأمين يصل إلى مسامع كبار الساسة ممن يقطعون العهود على الحريات الأربع وميثاق الأطلنطي وضمان مصير الأمم الصغيرة لتحكم نفسها وتدير أمرها ثم ينسون عهدهم، ويخلفون وعدهم.
لقد أصبح عبد الملك بعد هذه الفعلة لا يوثق له بعهد، ولا يطمأن له في قول، مهما وثقه وأكده بالأيمان. وهذا مصير كل ناكث. ورحم الله الناصح إذ يقول: «ليس بحي من وقف موقفا لا يوثق منه بعهد ولا عقد» ورحم الله أخت عمرو إذ تقول:
غدرتم بعمرو يا بني خيط باطل
وكلكم يبني البيوت على غدر
لحي الله دنيا تعقب الذل أهلها
وتهتك ما بين القرابة من ستر
في الأدب العربي (3)
الشك قبل اليقين
مما عرف عن خصائص النهضة الحديثة الأوربية أنها طلعت على الناس بأسلوب جديد في البحث هاجمت به الأسلوب القديم، وهو التسليم بالمقدمات تلسيما لا يعلو إليه الشك، والاعتماد كل الاعتماد على القياس المنطقي، فالمقدمات تؤخذ قضايا مسلمة، والبحث كل البحث في القياس وشكله وشروط الاستنتاج منه، فثار قادة النهضة على هذا النمط وصرخوا يطلبون الشك في المقدمات وبحثها وعدم التسليم بها حتى تمتحن وتجرب، وعدم التعصب في كل أشكاله، سواء كان تعصبا لعقيدة اعتقدها أو دم انتسب إليه، أو قول فيلسوف كبير قاله، أو ميل شخصي يتفق مع مزاج الباحث، أو نظم ألفها وتأثر بها أو نحو ذلك. فالباحث يجب أن يشك أولا ليستيقن أخيرا. والشك أصل من أصول البحث ويجب أن يسبق اليقين.
وكان من أسبق واضعي هذا المنهج والملحين في النداء بالشك «فرنسيس بيكون»، ومن أقواله اللطيفة في ذلك:
لم أجد نفسي صالحة لشيء صلاحيتها لدراسة الحقيقة، ذلك أني منحت عقلا له من النشاط والمرونة ما يمكنه من إدراك وجوه الشبه بين الأشياء، وله من الرزانة ما يعينه على تعرف وجوه الخلاف بينها، ولأني منحت رغبة في البحث، وصبرا على الشك، وغراما بالتفكير، وبطأ في الجزم، واستعدادا للفحص، وعناية بالترتيب، ولأني خلقت وليس لي ولع بالجديد ولا إعجاب بالقديم، وأكره كل أنواع الخداع.
فلي طبيعة تألف الحقيقة ولها بها اتصال وثيق.
وجاء «ديكارت» فشك وتعمق في الشك وقال: «أنفقت ما بقي من عهد الشباب في الارتحال، أزور الملوك في قصورهم، وأنخرط في سلك الجيوش، وأبادل الحديث رجالا من ذوي المناصب المتفاوتة، والطبقات المتباينة، وأجمع من التجربة ألوانا شتى، وأغوص بفكري فيما أصادف من تجارب لعلي أستفيد علما جديدا».
وقال: «إن الحواس بطبيعة تركيبها لا تؤتمن على ما تنقله إلينا من علم، فليس لنا بد من الشك في أحكام العقل وفي الآثار الحسية معا، لا نستثني من هذه أو تلك شيئا، حتى ما يبدو منها بديهيا لا يحتمل الشك فالعالم ملئ بأنواع المادة، ولكن الحواس أنبأتنا بوجود الطبيعة، بكل ما فيها، والحواس غاشة خادعة
1 ». «ثم إننا نعتقد في النوم أمورا، ونتخيل أحوالا، ونحسب لها ثباتا واستقرارا، ثم نستيقظ فنعلم أن ما رأيناه أثناء النوم كان حلما، فما المانع من أن تكون تصوراتنا في اليقظة كلها خيالات لا حاصل لها؟ وليس هناك أمارات يقينية يمكن أن نميز بها اليقظة من النوم بوضوح وجلاء
2 ».
وقال: «لاحظت أنني منذ سنواتي الأولى قد تلقيت طائفة من الآراء الخاطئة على أنها صحيحة، ومن ذلك حكمت أنه يجب أن أخلص نفسي من الآراء التي تلقيتها في الماضي، وأن أعاود البحث من أساسه إذا أردت إقامة شيء ثابت راسخ في العلوم
3 ». «ولكن مهما شككت وأمعنت في الشك فستبقى لي حقيقة واحدة تبقى أمام الشك الجارف، وهي أن هناك ذاتا تشك، فمهما ألححت في الشك فلن أشك في أني أشك».
ومن هذه النقطة بدأ تفكيره
4
وأفاض في الشك على أنه منهج في البحث
5 . •••
وفي الأدب العربي صفحات رائعة من هذا القبيل لعل أروعها صفحة الإمام الغزالي في حيرته العلمية وشكه وتحريه للحق، وسبقه لديكارت في لفتاته، وتسجيل ذلك كله تسجيلا دقيقا مفصلا في كتابه «المنقذ من الضلال» يقول: «لم أزل في عنفوان شبابي منذ راهقت البلوغ قبل بلوغ العشرين إلى الآن، وقد أناف السن على الخمسين أقتحم لجة هذا البحر العميق، وأخوض غمرته خوض الجسور، لا خوض الجبان الحذور، وأتوغل في كل مظلمة وأقتحم كل ورطة، وأتفحص عن عقيدة كل فرقة، وأستكشف أسرار مذهب كل طائفة، لأميز بين محق ومبطل، ومتسنن ومبتدع، لا أغادر باطنيا إلا وأحب أن أطلع على بطانته، ولا ظاهريا إلا وأريد أن أعلم حاصل ظهارته، ولا فلسفيا إلا وأقصد الوقوف على كنه فلسفته، ولا متكلما إلا وأجتهد في الإطلاع على غاية كلامه ومجادلته، ولا صوفيا إلا وأحرص على العثور على سر صوفيته، ولا متعبدا إلا وأترصد ما يرجع إليه حاصل عبادته، ولا زنديقا معطلا إلا وأتجسس وراءه للتنبه لأسباب جرأته في تعطيله وزندقته». «وقد كان التفطن إلى درك حقائق الأمور دأبي وديدني من أول أمري، وريعان عمري، غريزة وفطرة من الله وضعتا في جبلتي، لا باختياري وحيلتي، حتى انحلت عني رابطة التقليد، وانكسرت علي العقائد الموروثة على قرب عهد سن الصبا، إذ رأيت صبيان النصارى لا يكون لهم نشوء إلا على التنصر، وصبيان اليهود لا نشوء لهم إلا على التهود، وصبيان المسلمين لا نشوء لهم إلا على الإسلام، وسمعت الحديث المروي عن رسول الله حيث يقول: «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه» فتحرك باطني إلى معرفة حقيقة الفطرة الأصلية، وحقيقة العقائد العارضة بتقليد الوالدين والأستاذين، والتمييز بين هذه التقليدات، وأوائلها تلقينات، وفي تمييز الحق منها عن الباطل اختلافات، فقلت في نفسي: إنما مطلوبي العلم بحقائق الأمور، فلا بد من طلب حقيقة العلم ما هي؟ فظهر لي أن العلم اليقيني هو الذي ينكشف فيه المعلوم انكشافا لا يبقى معه ريب، ولا يقارنه إمكان الغلط والوهم». «ثم علمت أن كل ما لا أعلمه على هذا الوجه، ولا أتيقنه هذا النوع من اليقين، فهو علم لا ثقة به ولا أمان معه، وكل علم لا أمان معه فليس بعلم يقيني». «ثم فتشت عن علومي فوجدت نفسي عاطلا من علم موصوف بهذه الصفة إلا في الحسيات والضروريات، فقلت: الآن بعد حصول اليأس لا مطمع في اقتباس المشكلات إلا من الجليات، وهي الحسيات والضروريات، فلا بد من إحكامها أولا ... فأقبلت بجد بليغ أتأمل في المحسوسات والضروريات وأنظر: هل يمكنني أن أشكك نفسي فيها، فانتهى بي طول التشكيك إلى أن لم تسمح نفسي بتسليم الأمان في المحسوسات أيضا، وأخذ يتسع الشك فيها ويقول: من أين الثقة بالمحسوسات وأقواها حاسة البصر، وهي تنظر إلى الظل فتراه وافقا غير متحرك، وتحكم بنفي الحركة ثم بالتجربة والمشاهدة بعد ساعة تعرف أنه متحرك، وأنه لم يتحرك دفعة بغتة، بل على التدريج ذرة ذرة، حتى لم تكن له حالة وقوف، وتنظر إلى الكوكب فتراه صغيرا في مقدار دينار، ثم الأدلة الهندسية تدل على أنه أكبر من الأرض في المقدار؛ هذا وأمثاله من المحسوسات يحكم فيها حاكم الحس بأحكامه، ويكذبه حاكم العقل ويخونه تكذيبا لا سبيل إلى مدافعته، فقلت: قد بطلت الثقة بالمحسوسات أيضا . فلعله لا ثقة إلا بالعقليات التي هي من الأوليات كقولنا العشرة أكثر من الثلاثة، والنفي والإثبات لا يجتمعان في الشيء الواحد، والشيء الواحد لا يكون حادثا قديما، موجودا معدوما، واجبا محالا». «فقالت المحسوسات: بم تأمن أن تكون ثقتك بالعقليات كثقتك بالمحسوسات؟ وقد كنت واثقا بي فجاء حاكم العقل فكذبني، ولولا حاكم العقل لكنت تستمر على تصديقي؟ فلعل وراء إدراك العقل حاكما آخر إذا تجلى كذب العقل في حكمه، كما تجلى حاكم العقل فكذب الحس في حكمه، وعدم تجلي ذلك الإدراك لا يدل على استحالته! فتوقفت النفس قليلا وأيدت إشكالها بالمنام، وقالت: أما تراك تعتقد في النوم أمورا، وتتخيل أحوالا، وتعتقد لها ثباتا واستقرارا، ولا تشك في تلك الحالة فيها، ثم تستيقظ فتعلم أنه لم يكن بجميع متخيلاتك ومعتقداتك أصل وطائل، فبم تأمن أن يكون جميع ما تعتقده في يقظتك بحس أو عقل - هو حق بالإضافة إلى حالتك، لكن يمكن أن تطرأ عليك حالة تكون نسبتها إلى يقظتك كنسبة يقظتك إلى منامك ...» «فلما خطرت لي هذه الخواطر وانقدحت في النفس حاولت لذلك علاجا فلم يتيسر، إذ لم يكن دفعه إلا بالدليل، ولم يمكن نصب دليل إلا من تركيب العلوم الأولية، فإذا لم تكن مسلمة لم يمكن ترتيب الدليل، فأعضل هذا الداء ودام قريبا من شهرين أنا فيهما على مذهب السفسطة بحكم الحال لا بحكم المنطق والمقال، حتى شفى الله من ذلك المرض وعادت النفس إلى الصحة والاعتدال، ورجعت الضروريات العقلية مقبولة موثوقا بها على أمن ويقين، ولم يكن ذلك بنظم دليل وترتيب كلام، بل بنور قذفه الله في الصدر، وذلك النور هو مفتاح أكثر المعارف. فمن ظن أن الكشف موقوف على الأدلة المحررة فقد ضيق رحمة الله الواسعة».
هذه النبذة القيمة أرجو أن تقرأها مرة واثنتين وثلاثا قبل أن تسمع تعليقي عليها.
هذه صفحة رائعة للغزالي في ملاحظة نفسه، وإمعانه في الشك في كل ما تعلم وما تلقن.
لقد رفض بادئ بدء التقليد في العقائد، ورأى أنه ليس أساسا صالحا للعلم ، فكل ذي دين يقلد أهل دينه، فإذا زعم أن دينه هو الحق بناء على هذا التقليد، فأهل الأديان الأخرى يستطيعون أن يقولوا مثل قوله، وإذا جاز أن يكون التقليد شعار العجزة والعامة فلا يصح أن يطمئن إليه الخاصة وأصحاب العقول القوية، فإن هؤلاء إنما يجب أن يعتمدوا على العلم اليقيني.
وما العلم اليقيني؟
يعرفه الغزالي بأنه «العلم الذي ينكشف به المعلوم انكشافا لا يبقى معه ريب ولا يقارنه إمكان الغلط والوهم».
على هذا الأساس استعرض الغزالي ما تعلمه من صغره وفي شبابه وشيخوخته فلم يجد فيها ما يصح أن يتصف بهذا الوصف؛ لأن أقصى ما يصح أن تستمد منه معلوماتنا ثبوتها هو المحسوسات والأوليات العقلية، وكلاهما لا يصح أن يستند عليه، فالحواس خداعة من غير شك، والأوليات العقلية يعتريها الشك أيضا إذ من المحتمل أن تكون الحالة عقلية، كحالة النائم، يعتقد بثبوتها مدة نومه، فإذا استقيظ بددها الانتباه، فما الذي يمنع أن تغشى الإنسان حالة أخرى ينظر فيها إلى العالم من زاوية جديدة، فيرى فيها أن حالة اليقظة كذلك مزيفة. ونظير هذا ما يحدث للصوفية، فإنهم يرون أن حالة اليقظة خداعة كخداع الحواس.
فأين الحق إذن؟
في هذا الطور - كما يحدثنا عن نفسه - أصبح سوفسطائيا لا يؤمن بشيء، ويشك في كل شيء.
هذا العقل القوي النهم المخلص، أراد أن يتثبت من موقفه، فاستعرض كل المعارف في زمانه لعله يجد فيها ما يطمئنه. فقال: «ابتدأت بعلم الكلام، فحصلته وعقلته، وطالعت كتب المحققين منهم، وصنفت فيه ما أردت أن أصنف، فصادفته علما وافيا بمقصوده غير واف بمقصودي لقد أحسنوا الذب عن السنة، والنضال عن العقيدة المتلقاة بالقبول من النبوة ... ولكنهم اعتمدوا في ذلك على مقدمات تسلموها من خصومهم، واضطرهم إلى تسليمها إما التقليد أو إجماع الأمة، أو مجرد القبول من القرآن والأخبار، وكان أكثر خوضهم في استخراج مناقضات الخصوم ومؤاخذتهم بلوازم مسلماتهم، وهذا قليل النفع في حق من لا يسلم - سوى الضرورات - شيئا أصلا. فلم يكن (علم) الكلام في حقي كافيا، ولا لدائي الذي كنت أشكوه شافيا
6 ».
وبعد أن فرغ من علم الكلام اتجه إلى الفلسفة لعله يجد فيها طلبته فقال: «إني بعد الفراغ من علم الكلام ابتدأت بعلم الفلسفة، وعلمت يقينا أنه لا يقف على فساد نوع من العلوم من لا يقف على منتهى ذلك العلم حتى يساوي أعلمهم ... ثم يزيد عليه ويجاوز درجته، وإذ ذاك يمكن أن يكون ما يدعيه من فساده حقا، ولم أر أحدا من علماء الإسلام صرف عنايته وهمته إلى ذلك ... فأطلعني الله على منتهى علومهم في أقل من سنتين، ثم لم أزل أواظب على التفكر فيه بعد فهمه قريبا من سنة، أعاوده وأردده وأتفقد غوائله وأغواره».
وقد استخلص بعد البحث، أن فروع الفلسفة هي: (1)
رياضيات:
وهذه أمور برهانية لا سبيل إلى مجاحدتها بعد فهمها ومعرفتها. (2)
ومنطقيات:
وهي النظر في طرق الأدلة والمقاييس، وهذه أيضا لا تنكر، غاية الأمر «أنهم يجمعون للبرهان شروطا يعلم أنها تورث اليقين لا محالة، لكنهم عند الانتهاء من المقاصد الدينية ما أمكنهم الوفاء بتلك الشروط، بل تساهلوا غاية التساهل». (3)
وطبيعيات: «وهي البحث عن عالم السماوات وكواكبها وما تحتها من الأجسام المفردة كالهواء والماء، والتراب والنار
7 ، والمركبة كالحيوان والنبات والمعادن وأسباب تغيرها واستحالتها وامتزاجها»، وذلك يضاهي بحث الطب عن جسم الإنسان وأعضائه الرئيسية والخادمة. وكما أنه ليس من شرط الدين إنكار علم الطب، فليس من شرطه أيضا إنكار ذلك العسلم (علم الطبيعيات)، إلا في مسائل معينة ذكرناها في كتاب «تهافت الفلاسفة». (4)
وأما الإلهايات:
ففيها أكثر أغاليطهم. فما قدروا على الوفاء بالبراهين على ما شرطوا في المنطق، ولذلك كثر الاختلاف بينهم فيها ثم استرسل في بيان أغاليطهم ناظرا فيها نظرة دينية. (5)
ثم السياسيات، والأخلاقيات:
وهذه لم يطل البحث فيها؛ لأنها مبنية على التجارب والمصالح، وعنده أن كلام الفلاسفة فيها حتى أرسطو وأمثاله مستمد من أصول الدين الأولى.
والذي نلاحظه على نقده الفلسفة، أنه كما عاب الفلاسفة بعدم تقيدهم الشديد بقوانين المنطق، وقع هو في مثل هذا الخطأ، فلم يتقيد بما وضعه هو من أصول الشك والنقد، بل نظر إليها من خلال الدين. ولعل عذره أنه وضع كتاب «المنقذ من الضلال» بعد مروره في دور الشك واطمئنانه إلى الدين بما شرح الله به صدره. •••
ثم انتقل إلى تعاليم الباطنية لعله يجد فيها الحق فلم يطمئن إليها وخاصة في بناء تعاليمهم على نظرية «الإمام المعصوم» وتبين له بعد البحث والتحري أن «ليس معهم شيء من الشفاء المنجي من ظلمات الآراء».
وأخيرا وجه همته إلى التصوف فاطمأن إليه وقال إنه أدرك بالذوق والسلوك ما لم يدركه بالبحث والنظر، وبه أدرك ثلاثة أصول: إيمان يقيني بالله وبالنبوة وباليوم الآخر. ورأى أن قصر الإيمان على منطق العقل تقصير، وأن وراء قضايا المنطق شعورا ووجدانا هو الذي يصح أن يطمأن إليه في باب الدين.
هذه هي المراحل التي قطعتها نفس حائرة، وعقل مستنير هائم بالحقيقة متحر للحق، دقيق النظر لخطرات الفكر، مسجل لذلك في دقة وأمانة. لم يجد الغزالي في المنطق والمعقولات ومسلك المتكلمين والفلاسفة منقذا من الضلال، فالدين لا يمكن أن ينال من هذا الطريق، ووجود الله وصدور الأفعال عنه، كما يقول: «أمور لا تتسع لها القوى البشرية»، إنما تدرك بالكشف والذوق والعاطفة وانشراح الصدر، وهذا هو ما وصل إليه بعض الفلاسفة أمثال ديكارت وباسكال
8 .
ومما أعجبني في منهج الغزالي في البحث، تأكيده الشديد لوجوب التحرر من الاعتماد على معرفة الحق بالرجال مهما عظموا وطارت شهرتهم، وقد سماها بيكون «الأوهام المسرحية»، ويعني بها الأوهام التي انحدرت إلينا من مذاهب الأقدمين وعقائدهم وأقوالهم، ومثل لذلك بما إذا قلت إن الشمس تدور حول الأرض، مستدلا على ذلك بقول بطليموس.
وقد قال الغزالي قبله قولته اللطيفة في منهجه: «إن عادة ضعفاء العقول أن يعرفوا الحق بالرجال لا الرجال بالحق، وقد قال علي بن أبي طالب: «لا تعرف الحق بالرجال بل اعرف الحق تعرف أهله». والعارف العاقل يعرف الحق ثم ينظر في نفس القول، فإن كان حقا قبله سواء كان قائله مبطلا أو محقا، بل ربما يحرص على انتزاع الحق من أقاويل أهل الضلال عالما بأن معدن الذهب الرغام، ولا بأس على الصراف إن أدخل يده في كيس القلاب
9
وانتزع الإبريز الخالص من الزيف والبهرج، وإنما يزجر عن معاملة القلاب القروي دون الصيرفي البصير، ويمنع من ساحل البحر الأخرق دون السباح الحاذق، ويصد عن مس الحية الصبي دون المعزم البارع». •••
وقبل هؤلاء كلهم تنبه المتكلمون وعلى رأسهم الجاحظ إلى قيمة منهج الشك والتفت التفاتة لطيفة إلى التفرقة بين الخاصة والعامة؛ فالعامة أسرع إلى تصديق كل ناعق، يغرهم القائل ويغرهم صاحب الحنجرة القوية ويغرهم التهويش. أما الخاصة فيعتمدون على المنطق، فلا يصدقون إلا ببرهان، ويتوقفون بالشك حتى يقوم الدليل؛ وفرق بين مواضع يصح فيها الشك، ومواضع لا يصح فيها، فعاب من أجرى الشك في كل الأمور، وحكى أن العلماء أجمعوا على أن الشك درجات، واختلفوا في أن اليقين درجات.
وأنا من رأي من يقول: إن اليقين أيضا درجات.
قال الجاحظ: «اعرف مواضع الشك وحالاتها الموجبة لها لتعرف بها مواضع اليقين والحالات الموجبة له، وتعلم الشك في المشكوك فيه تعلما، فلو لم يكن في ذلك إلا تعرف التوقف ثم التثبت، لقد كان ذلك مما يحتاج إليه».
ثم اعلم أن الشك طبقات عند جميعهم، ولم يجمعوا على أن اليقين طبقات في القوة والضعف ...
وقال أبو إسحاق (النظام) نازعت من الملحدين الشاك والجاحد فوجدت الشكاك أبصر بجوهر الكلام من أصحاب الجحود، وقال: الشاك أقرب إليك من الجاحد، ولم يكن يقين قط حتى كان قبله شك، ولم ينتقل أحد عن اعتقاد إلى اعتقاد غيره حتى يكون بينهما حال شك ...
والعوام أقل شكوكا من الخواص؛ لأنهم لا يتوقفون في التصديق والتكذيب، ولا يرتابون بأنفسهم؛ فليس عندهم إلا التصديق المجرد، أو التكذيب المجرد، وألغوا الحال الثالثة من حال الشك التي تشتمل على طبقات الشك».
وسمع رجل ممن قد نظر بعض النظر تصويب العلماء لبعض الشك، فأجرى ذلك في جميع الأمور حتى زعم أن الأمور كلها يعرف حقها وباطلها بالأغلب
10 .
وبعد، فهذه بعض صفحات قيمة من الأدب العربي في منهج البحث .
في الأدب العربي (4)
كلمة بكتاب وبيت بقصيدة
قيل لابن المبارك: إلى متى تكتب؟ فقال: لعل الكلمة التي تنفعني لم أكتبها بعد:
أواه إن نظرت، وإن هي أعرضت
وقع السهام ونزعهن أليم •••
مر المجنون على منازل ليلى بنجد، فأخذ يقبل الأحجار، ويضع جبهته على الآثار، فلاموه في ذلك، فحلف أنه لا يقبل إلا وجهها، ولا ينظر إلا جمالها. ثم رؤي بعد ذلك في غير نجد وهو يقبل الآثار ويستلم الأحجار، فقيل له: ليست هذه من منازلها، فأنشد:
لا تقل دارها بشرقي نجد
كل نجد للعامرية دار
فلها منزل على كل أرض
وعلى كل دمنة آثار •••
رب كلمة تقول لصاحبها دعني.
إذا سمح الزمان بمي ضنت
وإن سمحت يضن بها الزمان •••
أبو نواس وقد وقع منه في السكر ما يعتذر منه:
كان مني على المدامة ذنب
فاعف عني فأنت للعفو أهل
لا تؤاخذ بما يقول على السك
ر فتى ما له على الصحو عقل •••
من دلائل العجز كثرة الإحالة على المقادير. •••
كان لملك ثلاثة ندماء. فسألهم: ما ألذ الفراش؟
قال الأول: الخز المحشو بالريش.
وقال الثاني: الحرير المحشو بالخز.
وقال الثالث: ألذ الفراش الأمن. •••
مجالسة الثقيل حمي الروح. •••
قال عمر: الغالب بالشر مغلوب. •••
يا قلب صبرا على الفراق ولو
روعت ممن تحب بالبين
وأنت يا دمع إن أبحت بما
أخفاه سري سقطت من عيني •••
دعت عربية لرجل أحسن إليها فقالت: «أذل الله كل عدو لك إلا نفسك، وجعل نعمته هبة لك لا عارية عندك، وأعاذك من بطر الغنى وذل الفقر. وفرغك لما خلقك له، ولا شغلك بما تكفل به لك». •••
وجاهلة بالحب لم تدر طعمه
وقد تركتني أعلم الناس بالحب •••
ما رأيت تبذيرا إلا وإلى جانبه حق مضيع.
الدنيا بأسرها لا تسع متباغضين، وشبر في شبر يسع متحابين.
وجه قبيح في التبس
م كيف يحسن في القطوب! •••
لا ينظر الناس إلى المبتلى
وإنما الناس مع العافية •••
أقول لقلبي والغرام يقوده
وسيف التجني والتمني يقده
إذا لم تدم للجسم والروح صحبة
فأي حبيب دائم لك وده •••
ونحن فعلنا ما يليق من الوفا
فلا تفعلوا ما لا يليق من الغدر •••
ما كنت أوفي شبابي كنه عزته
حتى انقضى فإذا الدنيا له تبع •••
بنفسي من لو مر برد بنانه
على كبدي كانت شفاء أنامله
ومن هابني في كل شيء وهبته
فلا هو يعطيني ولا أنا سائله •••
أبو فراس:
يا باعة الخمر كفوا عن مفاخركم
عن فتية بيعهم يوم الهياج دم
خلوا الفخار لعلامين إن فخروا
يوم السؤال وعمالين إن علموا •••
المتنبي:
مكارم لجت في علو كأنما
تطالب ثأرا عند بعض الكواكب •••
الصفي الحلي:
كفي القتال وفكي أسر قتلاك
يكفيك ما صنعت بالناس عيناك
وفي هذا المعنى يقول الشريف الرضي:
ما كنت أحسب لولا سحر مقلته
بأن بابل ألحاظ وأجفان •••
فوالله ما أدري أجولان عبرة
تجود بها العينان أحجى أم الصبر؟
ففي هملان العين من غصة الهوى
شفاء وفي الصبر الجلادة والأجر
سعة القلب لمحيي الدين بن العربي
لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي
إذا لم يكن ديني إلى دينه دان
وقد صار قلبي قابلا كل صورة
فمرعى لغزلان ودير لرهبان
وبيت لأوثان وكعبة طائف
وألواح توراة ومصحف قرآن
أدين بدين الحب أني توجهت
ركائبه فالدين ديني وإيماني •••
عزة العلم لعلي بن عبد العزيز الجرجاني
ولم أبتذل في خدمة العلم مهجتي
لأخدم من لاقيت، لكن لأخدما
أأشقى به غرسا وأجنيه ذلة
إذن فاتباع الجهل قد كان أحزما •••
وحذرت من أمر فمر بجانبي
لم يبكني، ولقيت ما لم أحذر •••
قيل: قد عدا كلب صيد وراء غزال، فقال الغزالي: لن تلحقني، قال الكلب: لم؟ قال: لأني أعدو لنفسي وأنت تعدو لصاحبك.
في الأدب العربي (5)
قوانين الوزارة
الإمام أبو الحسن الماوردي من أئمة الدين، وعلم من أعلام الشافعية، درس بالبصرة وبغداد، ثم تولى التدريس ببغداد، وكان مقصد العلماء والمتعلمين، ثم تولى القضاء في عدة بلاد، فاستفاد بجانب علمه خبرة واسعة بأهل زمنه. ثم عاد إلى بغداد وتمكنت الصلة بينه وبين الخليفة القادر، وسفر بينه وبين بني بويه الذين كان بيدهم السلطان الفعلي على العراق، وسفر لبني بويه في مشاكلهم. فلما أراد جلال الدولة البويهي سنة 429 أن يلقبه الخليفة المقتدى «شاهنشاه» أو ملك الملوك الأعظم استفتى الماوردي في ذلك فأفتى بعدم الجواز فجلبت له هذه الفتوى عداوة البويهيين.
مكنت له هذه الحياة العلمية والقضائية والسياسية واتصاله بالرؤساء ذوي السلطان الشرعي والفعلي من معرفة بدقائق الأمور وألاعيب أهل السياسة، إلى علمه بالفقه ونظرياته.
وكان لهذا كله أثر كبير في اتجاهه جهة تشريعية قل من علماء الفقه من اتجه إليها، وهي البحث في «القانون الدستوري» فألف في ذلك كتابا خالدا هو «الأحكام السلطانية» كان مرجع كل من كتب في نظام الحكم عند المسلمين، تعرض فيه للخلافة أو الإمامة، والوزارة والإمارة والقضاء وولاية المظالم وأنواع الولاية كولاية النقابة على الأنساب والولاية على إمامة الصلاة وولاية الأموال ووضع الدواوين وترتيبها ونظامها واختصاصها إلخ إلخ.
والكتابة في هذا الموضوع شائكة. فهي ليست مثل الكتابة في الصلاة والزكاة، ولا كالكتابة في البيوع والإجارات، بل هي في الصميم من الحياة السياسية، تمس أولي الأمر ومن بيدهم زمام الحكم، من الخليفة إلى المحتسب، وتبين ما هو حق من توليهم الحكم وما هو باطل، وما هو صواب في تصرفهم وما هو خطأ. ولعل هذا هو السبب في قلة تأليف الفقهاء في هذا الباب مع عظم أهميته. ولو وجه إليه العلماء عنايتهم فوضعوا في كل هذه الأمور قواعد ثابتة وأحاطت الأمة هذه القواعد بقوتها لم يقع كثير من الأحداث المحزنة في الخلاف على الخلافة ومن يتولى الإمارة ودسائس الوزارة ونحو ذلك مما أخر المسلمين وفرق كلمتهم وأضعف قوتهم.
وربما كان الحرج في هذا الموضوع أيضا هو السبب في أن الماوردي في كتابه «الأحكام السلطانية» اقتصر على الجانب النظري في الموضوع ولم ينغمس في الجانب العملي، فلم يتعرض لتطبيق نظرياته على أحداث زمانه، مع أن زمانه مملوء بالحوادث العظام كثورة القرامطة وشيوع دعوة الإسماعيلية من مركزها في قلعة ألموت وغلبة بني بويه على العراق، وتسلط الفاطميين في مصر وخلافة هشام ابن الحكم بن عبد الرحمن الناصر في الأندلس. فكل هذه وأمثالها كانت تكون مددا صالحا للتطبيق على ما وضع الماوردي من نظريات. ولكنه لم يفعل شيئا من ذلك، فلم يتعرض لبيان الخطأ والصواب فيما يفعل الخلفاء العباسيون والملوك البويهيون والأمراء من الفرس والترك. ولو فعل لطار رأسه، ومع هذا ففيما فعل خير كثير، وشجاعة يحمد عليها. •••
وفيما كتب أيضا من الاتجاه النادر كتاب في الوزارة وقانونها سماه «قوانين الوزارة» وهو موضوع حديثنا الآن، وقد نشر في مصر بعنوان «أدب الوزير» - وليس يفهم هذا الكتاب حق الفهم إلا إذا فهمت حالة الوزارة في أيامه أعني القرن الرابع الهجري وأول الخامس.
فالوزير كان يتلقى سلطته من الخليفة أو الملك، وقد جرت عادة الخلفاء العباسيين من أول عهد خلافتهم أن يسندوا أمرهم إلى وزير واحد يتولى شئون الدولة في جميع مرافقها، من مالية وإدارية وداخلية وخارجية، وهو الذي ينيب عنه من شاء في دوائر الاختصاص. أما النظام المعروف عندنا اليوم من توزيع أمور الدولة بين وزارات مختلفة فلم يكن يؤخذ به في العهد العباسي، وإنما ساروا عليه في الأندلس. قال ابن خلدون: «وأما دولة بني أمية بالأندلس ... فقسموا خطته أصنافا وأفردوا لكل صنف وزيرا، فجعلوا لحسبان المال وزيرا، وللترسيل وزيرا، وللنظر في حوائج المتظلمين وزيرا، وللنظر في أحوال أهل الثغور وزيرا، وجعل لهم بيت يجلسون فيه على فرش منضدة لهم، وينفذون أمر السلطان هناك كل فيما يجعل له، وأفرد للتردد بينهم وبين الخليفة واحد منهم ارتفع عنهم بمباشرة السلطان في كل وقت، فارتفع مجلسه عن مجالسهم وخصوه باسم الحاجب».
أما في المشرق فكان للخليفة وزير واحد يعمل باسمه في كل شيء. ولما اتسعت رقعة الدولة أيام عضد الدولة عين لدولته وزيرين، وزيرا لفارس ووزيرا للعراق.
ولما تسلط الأتراك أولا وبنو بويه ثانيا انتزعوا من الوزير العباسي السلطة على الجنود والمسائل الحربية وأصبح أهم عمل يقوم به الوزير جباية المال وإنفاقه وضبطه.
وفي القرن الرابع كان مرتب الوزير خمسة آلاف دينار في الشهر، ثم رفع إلى سبعة آلاف، غير مرتبات لأولاده، وهو مبلغ ضخم إذا قيس بالوقت الحاضر، وخاصة إذا علمنا أن قوة الدينار الشرائية كبيرة جدا بالنسبة إلى الجنيه في عصرنا. ولكن إذا فهمنا أن واجبات الوزير إذ ذاك كانت تستدعي نفقات هائلة استصغرنا هذا المرتب. فبيته كان مضيفة عامة لأصحاب الحاجات والعلماء والشعراء، فمثلا كان في دار الوزير ابن الفرات مطبخان، مطبخ للخاصة ومطبخ للعامة، ولا يحصى ما كان يدخل المطبخين من الحيوان لكثرته، ولا ينقطع الخبازون عن الخبز فيه ليلا ونهارا، وكانت ألوان الطعام توضع وترفع على مائدته أكثر من ساعتين.
هذا عدا ما كان واجبا عليه من إهداء الثياب في المناسبات، وما كان يمنحه من المرتبات الشهرية لكثير من الأسر.
ذلك لأن الحالة الاقتصادية كانت سيئة، فهذا الغنى المفرط في قصور مثل هؤلاء الوزراء يقابله فقر مدقع في بيوت الشعب، والثروة المركزة تستوجب واجبات كثيرة وأعباء ثقيلة على ذويها.
وقد قالوا إن بيت ابن الفرات هذا كان مدينة بذاتها، فيها المطابخ والخياطون وصانعو الحلوى والقائمون على الشراب وصانعو الشمع إلخ.
وكان هذا الغنى الوفير والجاه العريض «على كف عفريت» فاليوم في الصدر وغدا في القبر. والحكومة حكومة استبدادية محضة يرجع الأمر فيها إلى إرادة ولي الأمر، وهو في ذلك العصر الملك البويهي، رقبة الوزير وثروته متوقفة على كلمة من هذا الملك، يرضى فتقبل الدنيا على الوزير لا إلى حد، ويغضب فتدبر الدنيا عنه لا إلى أحد. ليس للوزير في الحياة ولا حق في الملك، بل حياته وماله رهن إشارة الأمير، والأمير قلما يسلم من الغضب، فالوزير قلما يسلم من القتل والمصادرة.
ولهذا كان تاريخ الوزراء في هذا العصر تاريخا عجيبا؛ فالوزير ابن الفرات نكب وصودرت أمواله، والوزير ابن مقلة الخطاط المشهور قطعت يده ثم قطع لسانه بعد ثلاث سنين، وبقي في الحبس حتى مات، والوزير المهلبي ضربه سيده مرة مئة وخمسين مقرعة، ولما مات قبض معز الدولة البويهي على عياله وأتباعه وصادر كل أملاكهم، وابن بقية الوزير سملت عينه ثم طرح للفيلة وصلب على شاطئ دجلة وهو الذي قال فيه الشاعر قصيدته المشهورة: «علو في الحياة وفي الممات» إلخ إلخ.
ولهذا كثر في الأدب العربي في تلك العصور التحذير من هذه المناصب كالوزارة والقضاء، وقيلت الحكم الكثيرة في النصح بالابتعاد عنها، لأن تحقيقهم للعدالة في مثل هذه الظروف غير ممكن، وطمأنينتهم على أنفسهم وأموالهم مفقودة.
وكان الظن والوزارة على هذه الحال وقل منهم من سلم برأسه أن يفر الناس منها فرار الخروف من السكين. ولكنهم - مع العجب - كانوا يتنافسون فيها ويدبرون المؤامرات والدسائس لمن يتولاها حتى يخلع ويقتل ويصادر فيحلوا محله، ويتسابقون إلى الرشا لينالوا الوزارة، حتى حكوا أن أحدهم وعد بثمانية ملايين من الدراهم إذا ولي الوزارة، فتعهد الوزير الذي في المنصب أن يدفع ستة ملايين ويبقى في الوزراة، وهكذا كان كرسي الوزراة كرسيا مسحورا من جلس عليه فقد وعيه، ومن بعد عنه جذبه ببريقه ولو كان فيه حتفه. ولله في خلقه شئون.
في هذا المحيط الذي وصفنا ألف الماوردي كتابه «قانون الوزارة». •••
ومن عادة العقل الغربي الميل إلى التحليل، فلو كتب في موضوع حلله حتى يستقصيه؛ يظهر ذلك جليا في تأليفه وأدبه في المقالات والروايات ونحوها، ومن عادة العقل الشرقي الميل إلى التركيب وخاصة في العصور الوسطى قبل أن ينهج المنهج الغربي في العصور الحديثة، فهو أميل إلى الكليات، وأميل في الأدب إلى الأمثال والحكم.
فلو كتب كاتب غربي في قوانين الوزارة لذكر المبادئ العامة وحللها وأبان تفاصيلها وطبقها على المعروف منها في زمانه.
أما الماوردي فقد ذكر بعض هذه المبادئ، ولكنه لم يلبث أن لجأ إلى الحكم والأمثال والشواهد الأدبية من غير أن يتعرض لتفاصيل الموضوع والاستشهاد بأحداث الزمان.
ومع هذا ففي الكتاب لفتات قيمة، ونظرات دقيقة صائبة، وقد وضع كتابه لوزير معين لم يسمه، وجه إليه خطابه، ولم أهتد أنا إلى تعيينه.
من هذه اللفتات تحديده لمركز الوزير بين الرعية والملك؛ إذ يقول: «وأنت أيها الوزير، أمدك الله بتوفيقه في منصب مختلف الأطراف، تدبر غيرك من الرعايا ، وتتدبر بغيرك من الملوك، فأنت سائس مسوس، تقوم بسياسة رعيتك، وتنقاد لطاعة سلطانك، فتجمع بين سطوة مطاع وانقياد مطيع، فشطر فكرك جاذب لمن تسوسه، وشطره مجذوب لمن تطيعه، وهو أثقل الأقسام الثلاثة محملا، وأصعبها مركبا؛ لأن الناس ما بين سائس ومسوس وجامع بينهما».
وعنده أن الوزير عليه جملة مسئوليات: (1)
تنفيذ أوامر السلطان:
وقد تعرض عند ذلك لنقطة شائكة، وهي ما إذا أبدى السلطان رأيا لم يرضه الوزير: وخلاصة رأيه «أن الوزير يرده عن الخطأ باللطف ويقوي عزمه على الصواب بالحمد». وكذلك إذا كان الرأي من قبل الوزير فعارضه السلطان، فعند ذلك يستوضح السلطان أسباب معارضته بلطف، فإن اقتنع برأي السلطان عدل عن رأيه هو ونفذ رأي السلطان مع شكره، وإن كان الصواب مع الوزير فإن أقنع السلطان نفذه، وإن لم يستطع إقناعه توقف عن تنفيذ رأيه، وكان الذي يتحمل مسئولية التوقف هو السلطان، ولا أدري لماذا لم يدر في خلد الماوردي استقالة الوزير.
ومن ألطف ما روي في هذا الباب، أن للسلطان على الوزير حقوقا، وللوزير على السلطان حقوقا، فحقوق السلطان على الوزير قيام الوزير بمصالح ملكه بعمارة بلاده وتقويم أجناده، وتثمير مواده، وحياطة رعيته، ثم القيام بمصالح نفس السلطان من إدراك كفايته، وتحمل عوارضه وتهذيب حاشيته، ثم القيام بمقاومة أعدائه من تحصين الثغور، واستكمال العدة، وترتيب العساكر. وأما حقوق الوزير على السلطان، فتقوية يده، وتنفيذ رأيه، وإطلاق كفايته، وألا يجعل لغيره عليه أمرا، ثم ألا يؤاخذه من غير ذنب، ولا يقدم عليه من دونه، ولا يمكن منه عدوا، ثم ألا يرتاب السلطان في باطن الوزير متى كان ظاهره سليما، وألا يستبدل به غيره متى استقام نظره وعمله، ثم ألا يحمله ما ليس في قدرته، ولا يكلفه فوق ما في طاقته. (2)
علاقة الوزير بمن تحت يده من الموظفين:
والوزير في هذا يجب أن يطلق يدهم في التصرف متى وثق بهم. وأما المسائل الهامة التي يرجع فيها الموظفون إلى رأيه فعليه أن يتحرى المسائل قبل إبداء الرأي، ويعرف وجه الخطأ والصواب فيها. (3)
علاقة الوزير بالشعب:
وخلاصة رأيه فيها أن لكل صنف من أصناف الشعب كالزراع والصناع والتجار تقاليد يجب مراعاتها ثم معاملتهم كلهم بالإنصاف. ثم عدم تدخله هو ولا السلطان في مكاسبهم حتى ولا من طريق التجارة (لأن هذا وهن في السياسة، وهم إن زاحموا العامة في مكاسبهم أوهنوا الرعية، وعاد وهنها عليهم، وقد قال رسول الله: إذا اتجر الراعي أهملت الرعية).
ثم أهم واجبات الوزير في نظر الماوردي:
الدفاع: دفاع الوزير عن الملك من كل ما يمسه، فيقود الرعية إلى طاعته بالرغبة، ويكفهم عن معصيته بالرهبة، وقد بلغ المأمون أن الجند شغبوا بخراسان ونهبوا، فكتب إلى عامة بها: لو عدلت لم يشغبوا، ولو قويت لم ينهبوا، ودفاع الوزير عن المملكة من أعدائها بإعداد العدة، ومعاملة كل عدو بما يناسبه، من المقابلة والمسالمة، أو الملاطفة والملاينة، أو السطوة والمخاشنة، ودفاع الوزير عن نفسه من خصومه، وهؤلاء يدفعون بالملاينة إن نجحت؛ وأهم من ذلك ألا يمكنهم من نفسه بأخطائه وظلمه، فإن لم ينجح الحلم فالشر بالشر، ثم الدفاع عن الرعية من الخوف والاختلال، وذلك بإعانتهم على صلاح معايشهم ، ووفور مكاسبهم، وعدم مغالاة الحكومة في طلب ما تظنه من حقوقها، وإحاطتهم بكف الأذى عنهم، ومنع الأيدي الغالبة منهم.
واهتم كثيرا بالتنبيه على أن يكون الوزير متصفا بالإقدام، والإقدام في نظره يجمع بين صفة الحزم والعزم؛ فالحزم تدبير الأمور بموجب الرأي، والعزم تنفيذها في أوقاتها المقدرة لها والإقدام نوعان: نوع في اجتلاب المنافع للدولة كالتوسع في الملك، ولأن ينال ذلك بطريق الاحتيال، خير من أن ينال بطريق القتال، وكجلب الرفاهية للرعية في داخليتها، كتعمير الأرض وحماية الزراعة والتجارة وتنشيطهما؛ وعماد ذلك كله العدل، وأما دفع المضار فبعلاج كل داء بدوائه، فإذا اختلفت الأمور بالإهمال عولجت باليقظة، وإذا كان من الجور عولجت بالعدل. وإذا كان الوزير المتولي هو المسئول عن الخلل كان مؤاخذا على حصوله ومطالبا بجبره، وإن كان صادرا عن غيره كانت جريرة الإساءة على ذلك الغير، وواجب العلاج على الوزير المتولي.
وذكر أن من أهم صفات الوزير الحذر؛ واهتمامه بهذه الصفة كل الاهتمام راجع إلى ضروف زمانه التي أشرنا إليها قبل، وقد قسمه إلى حذر من الله، وهذا يحمله على إطاعته في تدبير شئون الرعية بالعدل، ويمنعه عن الظلم والجور، وحذر من السلطان، وهذا يحمله على ملاينته ومجاملته، ونصح الوزير الذي كتب له هذا الكتاب بقوله: «اقبض نفسك إذا قدمك، وتواضع له إذا عظمك، واحتشمه إذا آنسك، ولن له إذا خاشنك، واصبر على تجنيه إذا غالظك». وعرض لما إذا حدث بينهما خلاف في الرأي، وقد روينا خطته في ذلك من قبل، وحذر من الزمان وتقلبه، وهذا يحمله على الاستعداد لنوائبه، بفعل الجميل وغرس الصنائع، لتكون ذخرا له عند الشدائد، وأخيرا الحذر من أهل الزمان، فالوزير محسود بما فيه من النعمة، وهو محاط بكثير من الأعداء.
ثم استعرض أصناف الناس وكيف يعامل كل صنف.
ثم عقد فصلا للموظفين، وما للوزير من سلطة في التولية والعزل، والقواعد التي يرعاها في ذلك.
وفصلا في بيان ان الوزارة نوعان: الأول وزارة التفويض، وهي الوزارة المعروفة عندنا في إدارة شئون الحكم، من عقد وحل وتولية وعزل، ووزارة أخرى تسمى وزارة التنفيذ، وهي التي يعهد فيها الملك لشخص بمهمة خاصة ينفذها حسبما رأى الملك.
وأخيرا عرض لنصائح عامة هامة للوزير مثل: «اختبر أحوال من استكفيته لتعلم عجزه من كفايته، وإحسانه من إساءته، فتعمل بما علمت من إقرار الكافي وصرف العاجز وحمد المحسن وذم المسيء اقتصر من الأعوان بحسب حاجتك إليهم، ولا تستكثر منهم لتتكثر بهم، فلن يخلو الاستكثار من تنافر يقع به الخلل، أو اتفاق يتشاكل به العمل،لا تعول على التهم والظنون، واطرح الشك باليقين تثبت فيما لا تقدر على استدراكه، احذر قبول المدح من المتملقين، فإن النفاق مركوز في طباعهم، اعتمد بنظرك إحماد سلطانك وشكر رعيتك، وسع قلبك فالقلب الضيق لا تحسن به الرئاسة، اجعل يومك أسعد من أمسك، وصلاح الناس عندك بصلاح نفسك، ومل إلى اجتذاب القلوب بالاستعطاف، وإلى استمالة النفوس بالإنصاف، تجدهم كنوزا في شدائدك ، وحرزا في نوائبك إلخ».
وقد ختم الكتاب بقوله: «وقد أوجزت لك أيها الوزير ما إن كان علمك به محيطا ذكرك، وإن كنت غافلا عنه أنذرك. والله يمدك بتوفيقه وبعينك على طاعته». •••
وهذا كما ترى بدء لطيف، واتجاه طريف، اتجه مؤلفه من نحو ألف عام إذ لم يكن يحسن الأوربيون الإتيان بمثله، ولكن مصيبتنا أن كثيرين من نوابغنا ابتكروا في التفكير. وقالوا الكلمة الأولى في الموضوع، ثم لم يأت بعدهم من يقول الكلمة الثانية. فوقفنا عند الكلمة الأولى، وظننا أنها كل شيء، وقلدنا ولم نبتكر، وعنينا بالرواية دون الدراية، وبالتقليد دون الاجتهاد - وكان هذا موقفنا في كل فرع من فروع العلم؛ كان هذا موقفنا في كتاب «الحيوان» للجاحظ وقد بنى كثيرا مما قال على التجربة والملاحظة. وكان هذا موقفنا في كتاب «الأحكام السلطانية» وما أبداه الماوردي من آراء في القانون الدستوري، وكان هذا موقفنا في مقدمة ابن خلدون وما ابتكره من علم الاجتماع - وظللنا وقوفا حتى أتتنا التكملات من الخارج لا منا. ولو سرنا السير الطبيعي في بناء الخلف على أعمال السلف لكان نمونا كنمو الشجرة من داخلها لا بتضخيمها تضخيما صناعيا من خارجها، وكنمو الطفل إلى رجل لا تضخم الطفل بكثرة ملابسه. فما أحوجنا إلى البناء لنعوض به ما فقدنا بالخمول والخمود!
في الأدب العربي (6)
إمامان عاشقان
كلاهما نشأ في بيت علم، وكلاهما أعد ليكون عالما دينيا كبيرا، وكلاهما شاءت المصادفة أن يكون ممن يتزعمون مذهب أهل الظاهر «وهو مذهب يرى التمسك بظواهر القرآن والحديث وتقديمها في التشريع على اعتبار المصالح والمعاني المعقولة، ولذلك ينكر القياس».
وأحدهما كان في بغداد والآخر في قرطبة.
وقد كانت حياة أمثالهما تتطلب تجاهل الحب، وعدم الوقوع في حبائله، وغض النظر وكبت النفس، وترك ذلك لأهل الخلاعة والأدب.
ولكن ماذنبهما وليس مرد العشق إلى الرأي فيملك، ولا إلى العقل فيدرك، إنما هو كما قال الشاعر:
ليس أمر الهوى يدبر بالرأ
ي ولا بالقياس والتفكير
إنما الأمر في الهوى خطرات
محدثات الأمور بعد الأمور
لا تدرك الأبصار مداخله، ولا تعي القلوب مسالكه، وهو كما قال أبو وائل: إن لم يكن طرفا من الجنون فهو عصارة من السحر، فسواء كان صاحبه فقيها أو دينا ورعا أو داعرا فاجرا، فهو إذا مس قلبا صرعه وأذله:
لقد كنت ذا بأس شديد وهمة
إذا شئت لمسا للثريا لمستها
أتتني سهام من لحاظ فأرشقت
بقلبي ولو أسطيع ردا رددتها
هما محمد بن داود الظاهري وعلي بن حزم، وكلاهما لم يكتم الحب ولم يخفه، بل أظهره واعترف به وألف فيه.
فأما محمد بن داود فنشأ في بيت زهد وفقر، كان أبوه - داود الظاهري - ملء الدنيا علما وفضلا، وإليه انتهت رياسة العلم ببغداد، ولكنه أبى أن يتكسب شيئا بعلمه، فهو يعيش أحيانا على النخالة وورق الهندبا، ويأبى كل الإباء أن يمد يده لمعونة أحد، ويرد بأنفة وشمم ألف درهم يقدمها إليه جار له موسر.
وهكذا نشأ الفتى «محمد» في هذا البيت الفقير النبيل، وكان له هذا النوع من المزاج الرقيق الحاشية، اللطيف الحس، المشبوب العاطفة، الذي يرى الجمال فيهيم به قلبه، ويذهب فيه لبه، ولا حول له في ذلك ولا حيلة، إنما هي فطرة فطر عليها تلمحها في رقة جسمه، وتقاسيم وجهه، وقرب دمعته، ومظاهر رحمته، يحسبه الخلي خورا في الطبيعة وضعفا في النفس، ولكن المحب لا يرضي عنه ضعفه بقوة، ولا عن حبه بسلوة.
قال الخلي: الهوى محال
فقلت لو ذقته عرفته
فقال: هل غير شغل قلب
إن أنت لم ترضه صرفته
وهل سوى زفرة ودمع
إن لم ترد جريه كففته
فقلت من بعد كل وصف:
لم تعرف الحب إذ وصفته
وعلى هذا كان العذريون، وكان المجنون وأمثال المجنون.
أدرك هذا المزاج محمد بن داود وهو في صباه، فعشق وهو في الكتاب، ثم شب فشب معه الحب، ولم يمنعه حبه أن يبرع في علمه؛ ومن أجل هذا لما مات أبوه - وعمر هذا الشاب خمس وعشرون سنة - رآه العلماء جديرا أن يخلف أباه في كرسيه لعلمه وفضله وإمامته.
ومن عجائب القدر وأشد المحن أن يقع عشقه على فتى بغدادي من أجمل أهل زمنه، كان يبيع العطر، اسمه محمد بن جامع الصيدلاني، وكتما الحب حينا ثم اشتهر فلم ينكراه واتضح فلم يخفياه، وكان إماما في الدين وإماما في العاشقين؛ فكان عشقا عفيفا لم يأخذ الناس عليه هفوة، ولا اطلعوا منه على زلة، وهو نفسه يصف عشقه فيقول:
أنزه في روض المحاسن مقلتي
وأمنع نفسي أن تنال المحرما
وأحمل من ثقل الهوى ما لو أنه
على جامد الصخر الأصم تهدما
ويظهر سري عن مترجم خاطري
فلولا اختلاس الطرف عنه تكلما
هو نوع من العشق غريب، هو صداقة بولغ فيها فكانت عشقا، صداقة تأسست على الجمال فكانت غراما، وصادفت مزاجا رقيقا فصارت هياما، وخضعت لكل مظاهر العشق من وصل وهجر، وأرق وضنى وعذاب ودلال:
فواعجبا للدهر لم يخل مهجة
من الحب حتى الماء يعشقه الخمر
هو في أشد الحيرة بين حب يأمر، ودين ينهي، وقبلة تشتهي وورع يحول، له كل عذاب الهجر وقليل من لذة الوصل.
وكان محبوبه «محمد بن جامع» يقدر حبه وإخلاصه فيواسيه بزيارته وبماله وبالحديث إليه، ومع هذا كله فابن داود هائم في حبه، معذب في غرامه، أنطقه الحب بالشعر فكان شاعرا رقيقا وإن لم يخل شعره من أثر الفقه، فمن قوله:
يا يوسف الحسن تشبيها وتمثيلا
يا طلعة ليس إلا البدر يحكيها
من شك في الحور فلينظر إليك فما
صيغت معانيك إلا من معانيها •••
أشكو عليل فؤاد أنت متلفه
شكوى عليل إلى إلف يعلله
سقمي تزيد مع الأيام كثرته
وأنت في عظم ما ألقى تقلله
الله حرم قتلى في الهوى سفها
وأنت يا قاتلي ظلما تحلله •••
حملت جبال الحب فيك وإنني
لأعجز عن حمل القميص وأضعف
وما الحب من حسن ولا من سماحة
ولكنه شيء به النفس تكله
إلخ إلخ.
وأكسبه العشق رقة ولطفا، فكان فقيها رقيقا لطيفا. اعتاد أن يدخل جامع بغداد من باب اسمه «باب الوراقين»، ثم هجر الدخول منه، فسئل في ذلك فقال كنت داخلا يوما فرايت متحابين يتحادثان فتفرقا إذ رأياني، فآليت ألا أسير في مكان فرقت فيه بين محبين. وكان في مجلس فقهه فدفعت إليه رقعة ظنها أصحابه مسألة فقهية، فأخذها وكتب الرد في ظهرها، فإذا السائل ابن الرومي وقد كتب فيها:
يا ابن داود يا فقيه العراق
أفتنا في قواتل الأحداق
هل عليهن في الجروح قصاص
أم مباح لها دم العشاق
وإذا رد ابن داود عليها:
كيف يفتيكم قتيل صريع
بسهام الفراق والأشقياق
وقتيل التلاق أحسن حالا
عند داود من قتيل الفراق
لقد وقفته الظروف الاجتماعية موقفا حرجا، فطبيعته طبيعة غزلة، ولو طاوعها وجرى على هواها لكان فنانا أديبا، يهيم بالحسن كما ينبغي، ويقول في الجمال ما يشتهي، ولكان كالعباس بن الأحنف أو أبي نواس أو أبي تمام أو البحتري، اعتاد الناس - في أمثالهم - أن يطلقوا لهم حريتهم في الفعل والقول، فهم يهيمون في كل واد، ويسبحون في كل خيال، ويذهبون في كل فن، والناس يعجبون بما يجيدون ولو خالف أوامر الدين وأوامر الخلق، يقابلون بالاستحسان خمريات أبي نواس وغلمانياته، وغلمانيات المطيع بن إياس والبحتري وأبي تمام، ولا يرون في ذلك حرجا في باب الفن وإن تحرج منه رجال الخلق والدين.
ولكن ابن داود وقع بين شقي الرحى، له طبيعة العزلين وحياة رجال الدين، هو مخلص لحبه، مخلص لدينه، والحب يدعوه لخلع العذار، والدين يدعوه للتزمت والوقار، فما أحرجه من موقف وما أشدها من حيرة! وليته عشق العشق الطبيعي، حب الجواري الحسان والحور العين، ولكنه وقع في حب غلام، وهو أبعد عن الدين وأقدح في سيرة المتقين، فكان في ذلك شأنه شأن معاكسة الظروف للطبيعة، فتجعل من الأديب طبيبا ومن الطبيب أديبا، ومن الفيلسوف نجارا ومن الشاعر محاربا.
ولما تيمه الحب تسلى بأن يؤلف كتابا في العشق، فكان من أوائل ما ألف في هذا الباب، وقد سماه «الزهرة» ومن حسن حظنا أن قد وصل إلينا جزء منه نحو نصفه.
لقد كان همه في هذا الكتاب أن يختار مما قيل في العشق من شعراء العصر الجاهلي إلى معاصريه من أمثال البحتري وابن الرومي، ثم قسمه قسمين، فقسم وهو الذي وصل إلينا - وزعه على خمسين حالة من أحوال العشق، عنون كل حالة بحكمة مسجوعة، مثل «من كثرت لحظاته دامت حسراته»، «من طال سروره قصرت شهوره»، «من كان ظريفا فليكن عفيفا»، «ما خلق الفراق إلا لتعذيب المشتاق»، «من وفى له الحبيب هان عليه الرقيب» وتحت كل عنوان من هذه العناوين يورد ما يناسبه من الشعر، وقد يقدم له بمقدمة نثرية في فلسفة الموضوع لم يكن أسلوبه فيها مشرقا إشراقه في الشعر، وفي كثير من الأحيان يذكر لنفسه شعرا في الباب، ولكنه لا يصرح بأن الشعر له، بل يقول: «قال بعض أهل هذا العصر، وقال بعض أهل هذا الزمان» - وإذ كان محدثا تأثر بالمحدثين في تبويب الأبواب وجعل الأحاديث المتصلة بموضوع واحد تحت عنوان واحد، ولكنه عبر عنها تعبير أديب لا تعبير محدث - وهو متأثر أيضا بالمحدثين في تنبيهه على اختلاف مذاهب الشعراء في الحب كاختلاف الفقهاء في الرأي؛ فمثلا يعقد بابا فيقول: «أشعار هذا الباب مضادة للأشعار التي قبلها؛ لأن في أشعار الباب الماضي تحريضا للمحب على إظهار محبوبه على ما له في نفسه، ولوما لمن كتم عن صاحبه ما يجده به وما يلقاه بسببه، وأشعار هذا الباب إنما هي تحريض على الكتمان وتحذير من الإعلان، والعلة في هذا إلخ».
وهو - إلى إطلاعه الواسع على شعر الشعراء - مطلع على ما نقل عن فلاسفة اليونان في العشق كبطليموس وجالينوس وأفلاطون حسبما ترجم منه في عصره.
ثم هو في اختياره رقيق الذوق جيد التقدير، ليس يقتصر على الإنشاد، بل يتبعه بالإنشاء، وشعره الذي ينشئه في الأبواب المختلفة رقيق لطيف وإن لم يخل من لمحات فقهية كقوله:
أريتني النجم يجري بالنهار فلا
فرقا أرى بين إصباحي وإمسائي
أخفيت حبك حتى قد ضنيت به
فصار يظهر ما أخفيه إخفائي
وقوله:
وتزعم للواشين أني فاسد
عليك، وأني لست ممن عهدتني
وما فسدت لي - يشهد الله - نية
ولكنما استفسدتني فانهمتني
غدرت بعهدي عامدا وأخفتني
فخفت ولو آمنتني لأتمنتني
إلى الله أشكو لا إليك فطالما
شكوت الذي ألقى إليك فزدتني
إلخ إلخ.
وله شخصية واضحة فيما يختار، وكثيرا ما يحكم حبه فيما يعرضه من شعر، فهو يفضل قول القائل:
يقولون صبرا يا يزيد إذا نأت
ويا رب لا ترزق على حبها صبرا
على قول المجنون:
فيا رب سو الحب بيني وبينها
كفاء فلا يرجح لليلى ولا ليا
وهو يرى خطأ الذين يقولون إن كثرة العذل تزيد الحب، ويرى أن العذل لا يزيد المحبة ولا ينقصها، وإنما هو يزيد في الإشفاق على المحبوب، ويتخوف أن يؤثر فيه العذل فيستمسك بحبه فيظن أنه زاد إلخ.
وكثيرا ما يعلن استحسانه واستهجانه لما يروي، فيقول وقد لطف أبو تمام إذ يقول:
وإذا فقدت أخا ولم تفقد له
دمعا ولا صبرا فلست بفاقد
وينقد البحتري نقدا شديدا في قوله:
لي خليل قد لج في الصرم جدا
وأعاد الصدود منه وأبدى
إلى أن يقول:
أغتدي راضيا وقد بت غضبا
ن وأمسي مولى وأصبح عبدا
أتراني مستبدلا بك ما عش
ت بديلا أو واجدا منك ندا
حاش لله أنت أفتن ألحا
ظا وأحلى شكلا وأملح قدا
فينقده ابن داود في إعلانه أنه يتغير في هواه، فمرة يرضى ومرة يسخط، وهي حال خسيسة، والمحب الصادق إذا غضب فإنما يغضب ظاهره، وقلبه متيم أبدا على حبه، كما ينقده في أنه بنى حبه على ما يستحسنه من قده وحسن صورته، وإذن فإذا تغير حسنه أو وجد من هو أحسن منه تركه، وليس ذلك شأن الحب الحق، فإنه يحبه لأنه هو هو، لا لحسن صورته ولا لأي سبب آخر. وهكذا يتم الكتاب.
ومزاج رقيق مثل هذا، وحب مضن كالذي رأيت، وحيرة شديدة بين حب القلب وتقاليد الحياة، قلما يسمح لصاحبها بعمر طويل وصحة طيبة. وقد سئل في مرض موته: ماذا تشكو؟ قال: حب من تعلم صيرني إلى ما ترى. فمات شابا في الثانية والأربعين من عمره سنة 297. رحمه الله. •••
أما الإمام ابن حزم فله شأن آخر، لئن اتفق هو وابن داود في إمامته وفقهه وعشقه فقد اختلف عنه في أشياء كثيرة:
فإن كان ابن داود نشأ في بيت زهد وفقر، فقد نشأ ابن حزم في بيت عز وجاه وغنى وثروة، فكان أبوه - أبو عمر أحمد - وزيرا خطيرا من وزراء المنصور ابن أبي عامر، وناهيك بالمنصور عظمة وقوة، وجبروتا وأبهة، وضخامة ملك، فكان وزراؤه صورة مصغرة منه.
لقد ولي الخلافة بالأندلس هشام بن الحكم وهو صبي، فاستبد المنصور بالملك، ونكل بكل رأس قوي، وأخضع كل شيء في الدولة لإرادته، وحذا حذو المشرق في الحجر على الخليفة، وترك الخليفة يلهو ويلعب في قصره، ولا يرونه. وأحيط بكل صنوف اللهو وبكل مخرف دجال؛ فعنده ثمانية حمير كلها من نسل حمار العزيز، وعنده أخشاب كثيرة من خشب سفينة نوح، وثلاث من نسل غنم شعيب، وحوله المشعوذون من ذوي اللحية الحمراء، ومن تسمى بياسين واليسع، ونحو ذلك من غرائب الأسماء. أما الملك والسلطان وإدارة ما قل من الشئون وجل ففي يد المنصور بن أبي عامر، وكان المنصور هذا - إلى قسوته وجبروته وتنكيله بخصومه - عادلا في الرعية حذرا يقظا لكل كبيرة وصغيرة، وكريما، قد حفل مجلسه بالعلماء والأدباء كصاعد بن الحسن البغدادي وابن شهيد وأمثالها - وقد أعاد للدولة هيبتها عند نصارى الأسبان، فأعاد الغزو بنفسه إلى دار الحرب، وغزا ستا وخمسين غزوة لم تنتكس له فيها راية ولا فل له جيش، ووطئت أرجل جيشه بلادا وأرضا لم تطأها أقدام المسلمين من قبل، وكان طبيعيا أن تكثر السبايا من النساء الإسبانيات، فكانت توزع على الجيش الظافر، وتختار الصفايا للمنصور بن أبي عامر، وهو يهدي منها وزراءه ورجاله، فيهدي إلى ابن شهيد الأديب الشاعر - مرة - ثلاث فتيات من أجمل الفتيات، وقد امتلأت بيوت الأندلسيين بالرقيق من الإسبانيات والبربريات والصقلييات وغيرهن، كما امتلأت بيوت المشرق بالفارسيات والروميات وأمثالهن.
وكن حلا لمن ملكهن، وبولغ في تعليمهن الغناء والأدب، فكان منهن في بيوت النبلاء المغنيات المتفننات والأديبات البارعات، كما كان شأن أمثالهن في العراق.
لهذا كان البيت الذي نشأ فيه ابن حزم بيتا غنيا، فيه الخدم والحشم، والفتيات الجميلات من السبايا توزع على أفراد الأسرة فيكن ملك أيمانهم، وكان لأبيه البيوت الكثيرة للمشتى والمصيف تزخر بضروب الترف والنعيم؛ ومع هذا كله تثقف ابن حزم من صغره ثقافة واسعة صادفت استعدادا جيدا، حتى كان منه عالم الأندلس، وأوسع علمائها معرفة بالدين وأصوله، ومذاهب الفرق الدينية والحديث والتاريخ واللغة والأنساب، إلى الأدب والشعر، وهو يؤلف في كل ذلك، ويخلف من تآليفه نحو أربع مئة مجلد، وهو في تأليفه مجتهد لا مقلد، لا يتحرج من أن ينقد أكبر إمام ويخالفه ويقيم الحجة عليه - وقد شاهد زوال دولة بني عامر، والنكبة التي نكبت بها هي وأتباعها، وقد روع هو وأهله بهذه النكبة فأصيبوا في أنفسهم وأموالهم، فصبر على ذلك متجلدا ثابتا، يرى السلوة عن ذلك كله بما وفقه الله إليه من علم ودين.
ومن ألطف ما خلف لنا كتاب في العشق سماه «طوق الحمامة» ليس ككتاب «الزهرة» في منحاه ولا في عرضه - لقد كان ابن حزم أعمق معرفة بالنفس الإنسانية، يدل عليه خطراته اللطيفة في كلماته في «الأخلاق » وهو كثير التجربة دقيق التحليل النفسي، وقع في العشق وجربه من صباه كذلك، ورأى من أصناف الفتيات والنساء ما لا يعد، وسمع من أحاديث النساء والرجال في الحب ما لا يحصى، وقرأ من أخبار الخلفاء الأندلسيين وأتباعهم الشيء الكثير في الحب والعشق، فوعاه كله وسلط عليه تحليله وقال فيه شعره، وحكى ما سمع وما رأى، فكان من ذلك كله «طوق الحمامة» - لم يجمع ما قيل من الشعر في الغزل ويختر منها كما فعل ابن داود، فذلك كما يقول متوافر في الكتب؛ ولكنه أراد أن يبتكر فيصف حالات النفس في الحب ويقول في ذلك شعره هو، فباب ماهية الحب و«من أحب من نظرة واحدة» و«من أحب صفة لم يستحسن غيرها مما يخالفها» و«طي السر» و«الإذاعة» و«الوصل» و«الغدر» و«الضنى» و«السلو» إلخ. وهو يدعم نظرته في كل باب بالأحداث التي حدثت له ولغيره، فيطلعنا من ذلك كله على أشياء قيمة في وصف الحياة الاجتماعية في عصره في الأندلس، وهو فيما يذكر عن نفسه وغيره صريح لا يمجمج، وإذا رأى تسمية الأشخاص ضارة بهم لا يذكر أسماءهم ويكتفي بذكر ما جرى لهم.
يحدثنا عن نفسه كثيرا، فهو في مزاجه متئد رزين، فإن كان بعض الناس يحب من نظرة واحدة فهو يقول: «لا أحب إلا مع الزمن الطويل وبعد ملازمة الشخص لي دهرا، وأخذي معه في كل جد وهزل»، وهو كذلك متئد في سلوه وتوقه «فما نسيت ودا لي قط، وإن حنيني إلى كل عهد تقدم ليغصني بالماء ويشرقني بالطعام»، وهو مع اتئاده «عميق» «فما فارقني الإطراق مذ ذقت طعم فراق الأحبة، وإنه لشجى يعتادني وولوع وهم ما ينفك يطرقني.. وإني لقتيل الهموم في عداد الأحياء، ودفين الأسى بين أهل الدنيا».
وللناس أذواق في حبهم وعشقهم ليست خاضعة لشروط الجمال، وربما كان ذلك راجعا لأول عهدهم بالحب فيلازمهم «فإني أعرف من كان أول علاقته بجارية مائلة إلى القصر فما أحب طويلة بعد هذا، وأعرف أيضا من هوى جارية في فمها فوه لطيف، فكان يتقذر كل فم صغير ويذمه، ويكرهه الكراهية الصحيحة، وعني أخبرك أني أحببت في صباي جارية لي شقراء الشعر فما استحسنت من ذلك الوقت سوداء الشعر ولو أنه على الشمس أو على صورة الحسن نفسه، وإني لأجد ذلك في أصل تركيبي من ذلك الوقت ... وهذا العارض عرض لأبي، وعلى ذلك جرى إلى أن وافاه أجله، وأما جماعة خلفاء بني مروان ولا سيما ولد الناصر منهم فكلهم مجبولون على تفضيل الشقرة لا يختلف في ذلك منهم مختلف، وقد رأيناهم ورأينا من رآهم ... فما منهم إلا أشقر نزاعا إلى أمهاتهم»
1 .
ويصف هيبة المحبوب فيقول: «ولقد وطئت بساط الخلفاء، وشاهدت محاضر الملوك، فما رأيت هيبة تعدل هيبة محب لمحبوبه، ورأيت تمكن المتغلبين على الرؤساء، وتحكم الوزراء، وانبساط مدبري الدول، فما رأيت أعظم سرورا بما هو فيه من محب أيقن أن قلب محبوبه عنده، ووثق بميله إليه، وصحة مودته له؛ وحضرت مقام المعتذرين بين أيدي السلاطين، ومواقف المتهمين بعظيم الذنوب مع المتمردين الطاغين، فما رأيت أذل من موقف محب هيمان، بين يدي محبوب غضبان، قد غلبه السخط وغلبه عليه الجفاء، وكنت في الحالة الأولى أشد من الحديد وأنفذ من السيف، لا أجيب إلا الدنية، ولا أساعد على الخضوع، وفي الثانية أذل من الرداء وألين من القطن، أبادر إلى أقصى غايات التذلل لو نفع، وأغتنم فرصة الخضوع لو نجع، وأتحلل بلساني، وأغوص على دقائق المعاني ببياني، وأفتن القول فنونا، وأتصدى لكل ما يوجب الترضي».
ويحكي فعل البين والفراق به، وعمق أثرهما في نفسه فيقول: «كنت أشد الناس كلفا وأعظمهم حبا بجارية لي كانت - فيما خلا - اسمها «نعم» وكانت أمنية المتمني، وغاية الحسن، خلقا وخلقا وموافقة لي ... وكنا قد تكافأنا المودة ففجعتني بها الأقدار، واخترمتها الليالي ومر النهار. وسني حين وفاتها دون العشرين سنة، وكانت هي دوني في السن. فلقد أقمت بعدها سبعة أشهر لا أتجرد عن ثيابي ولا تفتر لي دمعة، على جمود عيني وقلة إسعادها - وعلى ذلك فو الله ما سلوتها حتى الآن، ولو قبل فداء لفديتها بكل ما أملك من تالد وطارف، وببعض أعضاء جسمي العزيزة علي مسارعا طائعا، وما طاب لي عيش بعدها ولا نسيت ذكرها ولا أنست بسواها».
وقص علينا مأساة له ولأسرته ولمن أحب فقال: إنه أحب جارية نشأت في داره، وكان إذ ذاك في سن الصبا، وكانت سنها ستة عشر عاما، وهي غاية في حسن وجهها وعقلها وعفافها، تزدان بالمنع والبخل، ما لا يزدان غيرها بالسماحة والبذل، وكانت تحسن الضرب على العود إحسانا جيدا، فأحبها حبا مفرطا، وسعى عامين في أن تجيبه بكلمة فلم ينجح، وحدث في أيام عزه وجاه أبيه أن كان في بيتهم حفلة كبيرة من مثل التي تقام في دور الرؤساء تجمعت فيها الأقارب من رجال ونساء، وكان الزائرون يتنقلون من غرفة مشرفة على بستان الدار وعلى جميع قرطبة إلى أخرى، وابن حزم يتبعها في الغرفة التي تنتقل إليها فتهرب منه، ثم نزل النساء إلى البستان، وأخذت الفتاة تضرب على العود، وتغني بأبيات للعباس بن الأحنف:
إني طربت إلى شمس إذا غربت
كانت مغاربها جوف المقاصير
فكان ضرب عودها يتناغم مع ضربات قلبه.
ثم نكبت أسرة ابن حزم بذهاب دولة المنصور بن أبي عامر وامتحن أهله بالاعتقال والمراقبة والتغريم الفادح بالمال، ثم توفي والده وأجلي أهله عن منازلهم، وخرج ابن حزم عن قرطبة وتغيب ستة أعوام ثم عاد إلى قرطبة سنة 409 ونزل عند بعض أقاربه، فوجد هذه الجارية وقد تغيرت محاسنها حتى كاد لا يعرفها، وفنيت بهجتها وغاض ماؤها، لحرمانها من النعيم الذي كانت تعيش فيه، وعدم صيانتها التي كانت أيام جاه أبيه، وتبذلها في الخروج لقضاء ما لا بد منه، وإنما النساء رياحين متى لم تتعهد ذبلت، وحسنهن أقل من حسن الرجال احتمالا.
ويحدثنا أنه نزل مرة أخرى عند قريبة له في قرطبة فوجد عندها من أقاربها فتاة كانت قد تربت معه، فلم تتحجب عنه عند نزوله في الدار على جاري عادتهم، وكانت في غاية الحسن والملاحة والصباحة، فأقام في الدار ثلاثة أيام وكاد قلبه يصبو ويعاوده منسي الغزل، فامتنع من دخول تلك الدار خوفا على لبه أن يذهب به الاستحسان.
ولقد عجب من نفسه أن يكتب مثل هذا الكتاب في الحب وهو في أوقاته الحرجة، وهذا الموضوع إنما يحسنه خلي البال فارغ القلب، فأما هو فكما يقول: ذهنه متقلب، وباله مشغول، وقلبه محطم، مما هو فيه من نبو الدار، والبعد عن الأوطان، وتبدل الأيام، وذهاب الوفر، والخروج عن الطارف والتالد، واقتطاع مكاسب الآباء والأجداد والغربة في البلاد، وذهاب المال والجاه والفكر في صيانة الأهل والولد، ومدافعة الدهر وانتظار الأقدار «لا جعلنا الله من الشاكين إلا إليه، والذي ترك أعظم من الذي أخذ، وكل عارية فراجعة إلى معيرها جعلنا الله من الصابرين».
شخصية كبيرة تلك التي تحتمل هذا الحب وضناه، وتحتمل هذه المحن كلها، من مصادرة مال، وتعذيب أهل، وغربة وطن، وذهاب جاه، ثم هو في هذا الجو الغائم القاتم يصفو ذهنه ويقبل على التأليف حتى في الحب، ويسمو بالعلم فوق السمو بالجاه، فيحفظ اسم ابن حزم المحب العالم ويموت اسم أبيه الوزير، ويعوضه الله عن ماله وجاهه الذي فقد علما وذكرا لا يفقد. ولئن كان ابن داود يذوب حبا ويتفانى عشقا، فيكون كالزهرة اللطيفة لا صبر لها على الأعاصير وأحداث الزمان، فابن حزم محب قوي، يضطرب للحب ولكن يستطيع أن يصبر له ويتغلب عليه كما يستطيع أن يصبر على نوائب الدهر وأحداث الزمان، فإن فقد الحبيب عاش بذكراه، وإن فقد جاه المال خلق جاه العلم، وإن فقد دنيا النعيم خلق لنفسه دنيا الفكر والبحث والتأليف، ووجد فيها أكبر لذة وأفضل نعيم. اجتمع عليه ضنى الحب ولذعة الذكرى واضطهاد الدولة وتألب كثير من علماء وقته عليه؛ لأنه هاجم أئمتهم في جرأة وصرامة، حتى لقد شبهوا لسانه بسيف الحجاج اجتمع عليه كل ذلك فلم يأبه له، ولم يفت في عضده، حتى مات سنة 456 عن نحو اثنين وسبعين عاما. وقد ذكر أن فيه خصلتين غلبتا عليه، وفاء لمن صادق أو أحب، وعزة نفس تؤثر الموت على الضيم.
لي خلتان أذاقاني الأسى جرعا
ونغصا عيشتي واستهلكا جلدي
وفاء صدق فما فارقت ذا مقة
فزال حزني عليه آخر الأبد
وعزة لا يحل الضيم ساحتها
بذالة فيه بالأموال والولد
هذه ناحية من نواحي «طوق الحمامة» وهي دلالته على نفسية ابن حزم ومغامراته، وللكتاب نواح أخرى قيمة. •••
ما العشق وما سببه؟
سؤال محير، والسؤال «بما» في الماديات عسير، فكيف في المعنويات؟ فإذا أنت سألت: ما الجمال، ما الحرية، ما العدل، ما المثل الأعلى؟ أعياك الجواب المقنع. ويزيد الأمر صعوبة في العشق أن نظرات الناس إليه مختلفة اختلافا كبيرا، فيسفل بعضهم أحيانا حتى لا يرى في العشق إلا المتعة الوقتية، ويعلو بعضهم فيرى أنه فيض إلهي على القلب. ومن عهد اليونان إلى اليوم وتحديد العشق وسببه محاط بالغموض، فيروون عن أرسطو أنه عرفه بأنه «جهل عارض صادف قلبا فارغا»، ويروى عنه أنه عرفه مرة أخرى بأنه «عمى العاشق عن عيوب المعشوق». ومن هذا الباب قول ابن سينا إنه «وسواس يجلبه المرء إلى نفسه بتسليط فكرته على استحسان بعض الصور». وهذه كلها تعريفات وضيعة، ولما سئل الجنيد الصوفي عن العشق قال: «إنه ألفة رحمانية، أوجبها الله على كل ذي روح لتحصل به اللذة العظمى التي لا يقدر على مثلها إلا بتلك الألفة، وهي موجودة في الأنفس بقدر مراتبها عند أربابها». وسئلت أعرابية عنه فقالت: «جل والله عن أن يرى، وخفي عن أبصار الورى، فهو في الصدور كامن ككمون النار في الحجر، إن قدحته أورى، وإن تركته توارى».
وهكذا من تعاريف لا تحصى تتجه اتجاهات مختلفة، وتحاول أن تصف ذاته فتصف أعراضه. وأصدق من هذا كله قول العاشق:
يقول أناس لو نعت لنا الهوى
ووالله ما أدري لهم كيف أنعت
فليس لشيء منه حد أحده
وليس لشيء منه وقت موقت
ويرى «ابن حزم» أن النفوس مختلفة في عالمها العلوي فما تناسب منها اتصل، وما تخالف منها انفصل، وهذا الاتصال هو الحب، وهو متأثر في هذا بالحديث المروي: «الأرواح جنود مجندة، ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف».
ولكن ليس بضروري في رأيه أن يكون التشابه تاما من جميع الوجوه، بل يكفي التشابه في نوع ما، ولا يتحاب اثنان إلا وبينهما مشاكلة في بعض الصفات، وكلما كثرت وجوه التجانس زادت المحبة وتأكدت المودة؛ وعلى هذا النحو جرى في شرح البغض والاستثقال، وحكى لنا حكاية عن بقراط أن رجلا بغيضا أحبه فارتاع بقراط لذلك، ظنا منه أنه ما أحبه إلا لشبه بينهما في بعض الصفات.
والنفوس في رأي ابن حزم مختلفة في الاستعداد للحب؛ فمنهم من يحب من نظرة واحدة، وهذا النوع في نظره رديء رخيص، وهو ليس إلا حب الشهوة، إنما الحب الحق ما يأتي بطيئا بعد طول العشرة ودقة الخبرة، ويدوم طويلا. ومنهم من يحب سريعا ويمل سريعا، وضرب مثلا لذلك أبا عامر محمد بن عامر «فقد كان أبو عامر هذا يرى الجارية فلا يصبر عنها، ويحيق به عن الاهتمام والهم ما يكاد أن يأتي عليه، حتى يملكها ولو حال دون ذلك شوك القتاد. فإذا أيقن بتصيرها إليه عادت المحبة نفارا، وذلك الأنس شرودا والقلق إليها قلقا منها، فيبيعها بأوكس الأثمان. هذا كان دأبه حتى أتلف فيما ذكرنا من عشرات ألوف الدنانير عددا عظيما، وكان رحمه الله مع هذا من أهل الأدب والحذق والذكاء والنبل والحلاوة والتوقد، مع الشرف العظيم والمنصب الفخم والجاه العريض. وأما حسن وجهه وكمال صورته فشيء تقف الحدود عنه، وتكل الأوهام عن وصف أقله ... وهكذا كان شأنه في عدم صبره على زي واحد وعلى صديق معين».
ومن الناس من ليس عنده استعداد للحب مطلقا لا طويلا ولا قصيرا «كالذي أخبرني به عن نفسه أبو بكر محمد بن قاسم من ولد الإمام هشام بن عبد الرحمن ابن معاوية، أنه لم يحب أحدا قط ولا أسف على إلف بان منه ولا تجاوز حد الصحبة والألفة إلى حد الحب والعشق منذ خلق». •••
وابن حزم سيء الظن بالطبيعة البشرية، وعلاقة الرجل بالمرأة والمرأة بالرجل، لا يكاد يصدق الحب العذري، ولا يؤمن بالعشق الأفلاطوني، ويرى أن الإنسان ركب فيه طبيعتان متضادتان: إحداهما لا تشير إلا بالخير وهي العقل، والثانية لا تشير إلا بالشهوة وهي النفس «والوقوف عند حد الطاعة معدوم إلا مع طول الرياضة وصحة المعرفة»، «وإن لي قولا لا أحول عنه، وهو أنه ما من رجل عرضت له امرأة جميلة بالحب وطال ذلك، ولم يكن ثم مانع إلا وقع في شرك الشيطان، وكذلك المرأة». وأداه هذا النظر إلى الاعتدال في تعريف الصالح والفاسد، فليس الصالح في نظره من لا يرد الشر بخاطره، ولا من لم يقع فيه، ولكن «الصالحة من النساء هي التي إذا ضبطت انضبطت، وإذا قطعت عنها الذرائع استمسكت، والفاسدة هي التي إذا ضبطت لم تنضبط، وإذا حيل بينها وبين الأسباب التي تسهل (الشر) تحيلت في أن تتوصل إليه بضروب من الحيل، والصالح من الرجال من لا يداخل أهل الفسوق ، ولا يتعرض للمناظر الجالبة للأهواء ... والفاسق من يعاشر أهل النقص ... ويتصدى للمشاهد المؤذية، ويحب الخلوات المهلكات. والصالحان من الرجال والنساء كالنار الكامنة في الرماد لا تحرق ما جاورها إلا بأن تحرك، والفاسقان كالنار المشتعلة تحرق كل شيء. ولهذا ما رأيت قط امرأة في مكان تحس أن رجلا يراها أو يسمع حسها إلا وأحدثت حركة فاضلة كانت عنها بمعزل، وأتت بكلام زائد كانت عنه في غنية ... وأما إظهار الزينة، وترتيب المشي، وإيقاع المزح عند خطور المرأة بالرجل واجتياز الرجل بالمرأة فهذا أشهر من الشمس في كل مكان». وقد أطنب في ذكر الأمثلة والوقائع والحكايات التي شاهدها وسمعها من الرجال والنساء لتأييد رأيه. ولذلك يرى أن العفة تحتاج إلى جهد كبير ورياضة طويلة وصبر شاق عسير؛ ومن هذا كله جاز لنا أن نعد ابن حزم في حبه وتأليفه في الحب من الواقعيين لا المثاليين. •••
ثم له في هذا الكتاب (طوق الحمامة) تحليلات نفسية لطيفة في مواقف مختلفة؛ فهو يستعرض علامات الحب استعراض المجرب الخبير، ويعلل مثلا اللذة بالمراسلة بحلولها بعض الشيء محل الرؤية «ولهذا نرى العاشق يضع الكتاب على عينيه وقلبه ويعانقه، وأعرف من كان يسقي الحبر بالدمع، ويقارضه محبوبه فيسقي الحبر بالريق».
ويصف الحالة النفسية عند الوصل فيقول: «والوصل حظ رفيع وسعد طالع، بل هو الحياة المجددة والعيش السني، ولولا أن الدنيا دار ممر ومحنة وكدر لقلنا: إن وصل المحبوب هو الصفاء الذي لا كدر فيه، والفرح الذي لا شائبة معه ... ولقد جربت اللذات على تصرفها وأدركت الحظوظ على اختلافها، فما للدنو من السلطان ولا المال المستفاد، ولا الوجود بعد العدم، ولا الأوبة بعد طول الغيبة، ولا الأمن بعد الخوف، ما للوصل، لا سيما بعد طول الامتناع وحلول الهجر».
والناس أصناف في الوصل؛ فمنهم من يرى أن داوم الوصل يودي بالحب، وأما هو فيحدث عن نفسه «إني ما رويت قط من ماء الوصل ولا زادني إلا ظمأ» ثم يقول: إن الهجر أنواع: هجر يوجبه التحفظ من الرقيب، فحينئذ ترى الحبيب منحرفا عن محبه مقبلا بالحديث على غيره، معرضا لمن يحب، فتراه حينئذ منحرفا كمقبل وساكتا كناطق، ومحبه أيضا كذلك، وهذا الهجر أحلى من الوصل - وهجر يوجبه التذلل، ولا يكون إلا عن ثقة كل بصاحبه، فيظهر المحبوب هجرانا ليرى صبر محبه، وهجر يوجبه العتاب لذنب يقع من المحب، وهذا فيه بعض الشدة، لكن فرحة الرجعة، وسرور الرضى، يعدل ما مضى، ثم هجر يوجبه الوشاة، ثم هجر الملل إلخ.
وهكذا يسير في تحليله لكل ما يعرض له من الوفاء والغدر والضنى والسلو والتعفف وعدمه إلخ. •••
وإذا كان ابن داود يستشهد على كل باب بما ورد فيه من شعر الأقدمين والمحدثين، وأحيانا بشعره هو؛ فقد سار ابن حزم على نهج آخر، وهو أنه ينشئ هو الشعر في كل حالة من حالات النفس التي يشرحها، ولا ينقل عن غيره إلا نادرا، وشعره في الجملة وسط، لا رائع ولا ردئ فيقول:
جرى الحب مني مجرى النفس
وأعطيت عيني عنان الفرس
ولي سيد لم يزل نافرا
وربما جاد لي في الخلس
وكان فؤادي كنبت هشيم
يبيس رمى فيه رام قبس
ويقول فيما عرض له من النكبات والتجوال في الآفاق:
ولى فولى جميل الصبر يتبعه
وصرح الدمع ما تخفيه أضلعه
جسم ملول وقلب آلف فإذا
حل الفراق عليه فهو موجعه
لم تستقر به دار ولا وطن
ولا تدفأ منه قط مضجعه
كأنما صيغ من رهو السحاب فما
تزال ريح إلى الآفاق تدفعه
أو كوكب قاطع في الأفق منتقل
فالسير يغربه حينا ويطلعه
ويقول:
هل لقتيل الحب من وادي
أم هل لعاني الحب من فادي
أم هل لدهري عودة نحوها
كمثل يوم مر في الوادي
ظللت فيه سابحا صاديا
يا عجبا للسائح الصادي
ضنيت يا مولاي وجدا فما
تبصرني ألحاظ عوادي
كيف اهتدى الوجد إلى غائب
عن أعين الحاضر والبادي
مل مداواتي طبيبي فقد
يرحمني للسقم حسادي
إلخ إلخ.
وفي كتاب «طوق الحمامة» ناحية أخرى، وهي دلالته على الحالة الاجتماعية الأخلاقية في الأندلس في عصر ابن حزم كما يصورها الكتاب. •••
فالجواري الرقيقات ملأت البيوت، وكان للمنصور بن أبي عامر أثر كبير في التوسع في هذا لكثرة ما غزا وكثرة ما سبى، فغزواته التي زادت على الخمسين كانت كلها موفقة، وكان من أثر التوفيق كثرة الأسرى من الرجال والنساء، حتى قال بعض الناس فيه يوم مات «مات الجلاب» يريد جلاب الأسرى والسبايا. والسبايا توزع على الأسر من طريق الهبة أو من طريق البيع في الأسواق، وكان هذا النظام متبعا عند المسلمين والأسبان على السواء.
فنتج من هذا كله امتلاء البيوت، وخاصة بيوت الطبقة الوسطى والعليا بالإماء، وكان بيت ابن حزم مملوءا بهذا النوع كما يحدثنا، إذ كان أبوه وزيرا للمنصور بن أبي عامر، وكانت المملوكات توزع على أفراد الأسرة، فكان ابن حزم نفسه يملك بعض الجواري ويعشق غيرهن.
وكان لهذا كله أثر كبير في الحياة الاجتماعية والأدبية، فلعبت عواطف الحب دورا هاما، ونطق الشعراء بمشاعرهم، وعبروا عنها تعبيرات دقيقة، حتى إن ابن حزم نظم شعره في كل حالة يصفها ويشعر بها من نفسه أو من غيره، وابن شهيد يهديه ابن أبي عامر ثلاث فتيات من أجمل الفتيات فيقول فيهن شعره، فكثر القول في الغزل والحب، وماجت الحياة الأدبية بذلك كله، وخلقت معان جديدة وأفكار ومشاعر لم تكن من قبل، تصاغ صياغة أدبية يدل عليها شعر «طوق الحمامة»، وتعلم الإماء فنون الغناء والأدب كما كان الحال في الشرق؛ فهذه أمة ابن حزم تغني بشعر العباس بن الأحنف، كما أتقن الأسبان استخدامهن جواسيس على المسلمين يبلغنهم أدق أمورهم، فكان ذلك من أسوأ الوسائل لهزيمة المسلمين.
ووجدت النساء الخبيرات بالعشق وأفانينه، فلما تقدمن في السن كن مرجع ابن حزم وأمثاله في حكاية تجاربهن وقصصهن. ويخبرنا ابن حزم أنه أصغى إليهن وروى عنهن بعض ما كتب.
ثم استتبع هذا كثرة المولدات من الأجناس المختلفة، وصهر ذلك كله في بوتقة الطبيعة لتخرج منه جمالا صافيا يثير الأدباء والفنانين. وكان ابن حزم رقيق الحس ذكي الفؤاد دقيق العقل، يحسن النظر في الأحوال الاجتماعية ويستنتج منها نتائج قيمة، كما تشهد بذلك كلماته في الأخلاق، فلما استخدم ذلك في العشق صوره وصور أهل زمانه وفنونهم في الغرام تصويرا دقيقا؛ نظما ونثرا.
وكان من نتائج هذا كله فساد الأسر، لكثرة الأحرار والرقيق في البيت الواحد، ووجود الأبناء المختلفي الأمهات؛ فهذا أمه بربرية وهذا أسبانية وهذا صقلبية، والغيرة شائعة في جميع الأمهات في الأسرة الواحدة، وهن يرضعن هذه الغيرة لأبنائهن فيكون ذلك مثارا لعداوة الأقرباء وكثرة الفتن والثورات وانفصام العرى في البيت وفي البلدة وفي المملكة، وهذا ما كان في عصر ابن حزم وما بعده.
وقد كان الظن أن تكون كثرة الجواري في البيوت والأسواق مانعا من الفجور والشذوذ، فالنفوس في مثل هذا النظام سهلة الارتواء. ولكن كان الأمر بالعكس في الشرق والغرب، في العراق والأندلس.
والنفس كالطفل إن تهمله شب على
حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم
فيحدثنا ابن حزم عن الرمادي الشاعر أنه كان مجتازا باب العطارين بقرطبة فرأى جارية أخذت بجامع قلبه فجعل يتبعها، وكلما سارت في ناحية سار وراءها، ونهته فلم ينته، فسألها: أحرة هي أم مملوكة؟ فقالت: مملوكة. وما زال يضايقها حتى تخلصت منه بأن وعدته وعدا أخلفت فيه. وكذلك تروى القصص المختلفة من هذا القبيل.
بل يحدثنا ابن حزم بما هو أشنع من ذلك وهو تفريط الرجل في عرض زوجته، فيقول: «لقد كنت أعرف رجلا مستورا إلى أن استهواه الشيطان» فأحب غلاما واستباح في هذا عرضه، فيقول ابن حزم:
أباح أبو مروان حر نسائه
ليبلغ ما يهوى من الرشأ الفرد
إلخ ...
ويذكر أنه كان في مجلس عند بعض المياسير فرأى بين بعض من حضر ومن كان بالمجلس أمرا أنكره، وغمزا استبشعه، وخلوات الحين بعد الحين، وصاحب البيت كالغائب أو النائم، فنبهه ابن حزم بالتعريض فلم ينتبه، وحركه بالتصريح فلم يتحرك. وقال ابن حزم في ذلك شعرا، وعزم ألا يعود إلى هذا المجلس إلخ. •••
ثم صورة أخرى اجتماعية يدل عليها الكتاب وهي تفكك الدولة بعد ابن أبي عامر، فقد حجر على الخليفة هشام وأسقط حرمة الخلافة من نفوس الناس، فلما أراد أحد أحفاد ابن أبي عامر تحويل الخلافة إليه ثار الناس واضطرب أمرهم، وكانوا كعقد انفرط، فلا الخلافة موقرة ولا من حلوا محل الخلفاء يستطيعون ضبط الأمور، وكان ابن أبي عامر قد قتل كل رأس صالح للقيادة، فكان هذا بدء تضعضع الدولة وانحلال البلاد وتغلب الأسبان عليها بلدا بعد بلد؛ تلمح هذا في شكوى ابن حزم مما أصابه هو وأهل بيته وأصدقاءه من اضطهاد ومصادرة أموال وتشريد؛ لأنهم كانوا من أتباع الدولة العامرية، فلا أمن في النفوس ولا الأموال، ويحكي أنه ألف كتابه «طوق الحمامة» والنفس مضطربة، والبلاد هائجة، والناس مشردون، والأيام متبدلة، والأموال مصادرة، والأحوال قلقة إلخ. •••
ثم هو واسع الإطلاع على دخائل قصور الخلفاء بما شاهد وصادق من الطبقة الراقية، وما سمع من أبيه وأصدقاء أبيه مما كان يجري في القصور من دخائل، وقد أشار إلى ذلك كثيرا. ولكنه كان في روايته لهذه الأحداث مع الأسف متحفظا سياسة وديانة، وأحيانا يقول فيما يروي: «حدثني الوزير أبي رحمه الله». ويقول: «رأيت هشاما المؤيد، ومحمدا المهدي، وعبد الرحمن المرتضي وأولادهم وإخوتهم ودخلت عليهم، وجالست عبد الملك بن مروان بن عبد الرحمن بن مروان ابن أمير المؤمنين الناصر». فهذا كله مكنه من معرفة واسعة بهذه الطبقة، فيخبرنا عن رحلات لبعض الأمراء كانت بسبب حوادث عشق، وأن بعضهم ذهب عقله بسبب الحب، فإذا وصل من ذلك إلى حادث دقيق كنى وستر ولم يستجز التصريح وقال: «اغتفر لي الكناية عن الأسماء، فهي إما عورة لا نستجيز كشفها، وإما أن نرعى في ذلك صديقا ودودا أو رجلا جليلا، وبحسبي أن أسمي من لا ضرر في تسميته، ولا يلحقني والمسمى عيب في ذكره، إما لاشتهار لا يغني عنه الطي، وإما لرضى من المحتقر عنه بظهور خبره وقلة إنكار منه لفعله».
وفي الكتاب نواح أخرى قيمة نكتفي منها بهذا القدر.
أخلاق السادة
من الأخلاق التي لفتت أنظار العرب فأكثروا فيها كلامهم وصاغوا منها أدبهم «خلق السيادة» وهو معنى غامض، صعب التعريف والتحديد ، يختلف كثيرا باختلاف البيئة، وباختلاف الحياة الاجتماعية، وباختلاف الصبغة التي تغلب على الشخص والجماعة من حب للمجد، وزهد فيه، ونحو ذلك.
فإذا نحن استعرضنا أركان السيادة في الأدب الجاهلي وجدناها الكرم والشجاعة، فيقول عامر بن الطفيل:
إني وإن كنت ابن سيد عامر
وفارسها المشهور في كل موكب
فما سودتني عامر عن وراثة
أبى الله أن أسمو بأم ولا أب
ولكنني أحمي حماها وأتقي
أذاها وأرمي من رماها بمنكب
وخلاصة رأيه في السودد أنه يذود عن قبيلته ويحميها أن ينالها شر ويبذل نفسه في الدفاع عنها، فليست السيادة في نظره مجرد الشجاعة، ولكنها الشجاعة في سبيل القبيلة.
وقالت ابنة حاتم الطائي تصف أباها: «إن أبي سيد قومه، كان يفك العاني ويحمي الذمار، ويفرج عن المكروب، ويطعم الطعام، ولم يطلب إليه أحد حاجة فرده» فجعلت سيادته في الشجاعة والكرم.
ونقرأ المفاخرات بين السادة في الجاهلية فنراها يدور أكثرها حول المباهاة بالكرم والشجاعة.
وظلت هاتان الصفتان هما دعامتي السيادة في الإسلام وإن لونها بعضهم ببعض. الألوان الأخرى التكميلية، فيروى عن عمر بن الخطاب أنه قال: «السيد: الجواد حين يسأل ، الحليم حين يستجهل، البار بمن يعاشر»، وقيل لقيس بن عاصم: بم سدت قومك؟ فقال: «ببذل القرى، وترك المرا، ونصرة المولى» فأضيف إلى الكرم والشجاعة ترك المراء، وبعبارة أخرى الترفع عن الصغائر.
وعد في العصر الأموي من أسود الناس الأحنف بن قيس وسلم بن قتيبة ومحمد ابن القاسم؛ فأما الأحنف فأساس سيادته الشجاعة والكرم والحلم، وقد رشحه زياد بن أبيه ليتولى ثغر الهند فلم يرض معاوية بذلك، وحفظ عليه عدم انضمامه إلى جيش عائشة، ومناصرته لعلي بن أبي طالب، فقال فيه زياد: «إن الأحنف بلغ من الشرف والسودد ما لا تنفعه الولاية ولا يضره العزل».
وعد من أهم أسباب سيادة سلم بن قتيبة جرأته وشجاعته، فقال بعضهم: «كنا نعرف سلم بأنه كان يركب وحده ويرجع في خمسين» أي خمسين أسيرا.
ومحمد بن القاسم فتح السند والهند وقاد الجيوش وهو ابن سبع عشرة سنة فقال فيه الشاعر:
إن السماحة والمروءة والندى
لمحمد بن القاسم بن محمد
قاد الجيوش لسبع عشرة حجة
يا قرب ذلك سوددا من مولد!
وأحيانا كانوا يلحظون في «السيد» لين الجانب وسعة صدره للناس في أن يعيبوه وينقدوه. قال رجل من العرب: «نحن لا نسود إلا من يوطئنا رحله (يريد يخدمنا في حوائجنا) ويفرشنا عرضه (يريد أنه لا يضيق بنقدنا له وعيبنا عليه) ويملكنا ما له» وكما قال المقنع الكندي:
ولا أحمل الحقد القديم عليهم
وليس رئيس القوم من يحمل الحقدا
وليسوا إلى نصري سراعا وإن هم
دعوني إلى نصر أتيتهم شدا
إذا أكلوا لحمي وفرت لحومهم
وإن عدموا مجدي بنيت لهم مجدا
وأحيانا يلحظون في السيادة بعد النظر وقوة الفكر وسداد الرأي، وهذا ما لحظوه أيضا في سيادة الأحنف، فقد كان من أسباب مجده الرأي يصيب والنظر يصدق، وقال الكميت:
رفعت إليك وما ثغر
ت
1
عيون مستمع وناظر
ورأوا عليك ومنك في ال
مهد النهى ذات البصائر
وقد لحظوا أيضا أن السادة لا يسودون جميعا بخصلة واحدة؛ فقد يسود أحدهم بصفة ويسود آخر بغيرها، تبعا للشخص والظروف التي حوله، فقالوا مثلا: «ساد الأحنف بحلمه، وساد مالك بن مسمع بحب العشيرة له، وساد قتيبة بن مسلم بدهائه، وساد المهلب بن أبي صفرة بهذه الخلال كلها».
وفي بعض الأوساط عد أكبر ركن للسيادة اصطناع الرجال، وهو ضرب من الكرم، وهو أن يستجلب رضا الناس ببذل العطاء لهم وقضاء حوائجهم، فيكونون أتباعه يجتمعون حوله ويصدرون عن رأيه، وفشا هذا في العصر العباسي وخاصة عند البرامكة، فقد كانت سيادتهم في إسداء البر للناس وتكوين الأشياء والأتباع «رووا أن يحيى بن خالد البرمكي دعا ابنه إبراهيم يوما، وكان يسمى دينار بن برمك لجماله وحسنه ودعا بمؤدبه وبمن كان ضم إليه من كتابه وأصحابه فسألهم: ما حال ابني؟ قالوا: قد بلغ من الأدب كذا ونظر كذا وكذا (من العلوم) قال: ليس عن هذا سألت. قالوا: قد اتخذنا له من الضياع كذا وغلته كذا. قال: ولا عن هذا سألت إنما سألت عن (سيادته) وبعد همته، وهل اتخذتم له في أعناق الرجال مننا وحببتموه إلى الناس! قالوا: لا. قال: فبئس العشراء أنتم والأصحاب. هو والله أحوج منه إلى ما قلتم. ثم أمر بحمل خمس مئة ألف درهم إليه، ففرقت على قوم لا يدرى من هم.
ونظر المأمون يوما إلى ابنه العباس وأخيه المعتصم فرأى ابنه العباس يتخذ المصانع ويبني الضياع والمعتصم يمتلك الرجال، فقال في المعتصم:
يبني الرجال وغيره يبني القرى
شتان بين قرى وبين رجال
قلق بكثرة ماله وضياعه
حتى يفرقه على الأبطال
فساد المعتصم وضاع العباس.
ووجد في الإسلام من غلبت عليه النزعة الدينية وأمعن في فهم قوله تعالى:
إن أكرمكم عند الله أتقاكم
فربط هذا بالسيادة وجعل السيادة في التقوى. قال ابن الكلبي: قال لي خالد القسري: ما تعدون السودد؟ قال: «أما في الجاهلية فالرياسة (يريد الرياسة على القبيلة) وأما في الإسلام فالولاية (يريد ولاية أمور المسلمين بالخلافة أو ولاية مدينة أو إقليم)، وخير من ذا وذلك التقوى».
من الأقوال المأثورة: في الأدب الغربي والعربي
من الإنجليزية والأمريكية «حكومة المحافظين نفاق منظم».
سأل قسيس رجلا: لماذا ينجح الممثلون أكثر مما ينجح الواعظون؟ فقال: «إن الممثلين يتكلمون عن الأشياء الخيالية كأنها حقيقية، والواعظين يتكلمون عن الأشياء الحقيقية كأنها خيالية». «إن قبلة من أمي جعلتني فنانا». «إن المعرفة الإنسانية ليست إلا جهلا مبوبا». «كل عقلاء الناس على دين واحد». «قد يصح للإنسان أن يغير رأيه ولكن لا يصح له أن يغير مبدأه». «يجب أن يصرف الإنسان بعض زمنه مع الضاحكين». «السفير رجل أمين أرسلته دولته إلى الخارج ليكذب لها». «كل إنسان يستطيع أن يعمل أي عمل عمله الآخر». «أراد ابن أن يقرأ لأبيه فقال الأب: اقرأ لي كل شيء إلا التاريخ فإنه باطل». «إنما يعتذر عما لا يمكن تغييره». «الاغتيال لا يغير تاريخ العالم». «الجامعة يجب أن تكون مكان الضوء ومكان الحرية ومكان العلم». «كن عادلا وأنت لا تخشى شيئا». «الكتب والكنائس والحكومات هي ما نعمل». «قد لا يكون للعرف حكمة القانون ولكنه أحب إلى الناس». «الديمقراطية كالقبر لا ترد ما تأخذ». «الخلاف في الدين ينتج من الخصومة أكثر مما ينتج الخلاف في السياسية». «يقول المثل الفرنسي: أجناس الناس ثلاثة: الرجل والمرأة ورجل الدين». «أداء الواجب يحدد القدر». «لكل إنسان ثمنه». «في السياسة ليست هناك كلمة أخيرة». «القوة ليست علاجا». «كثيرا ما ترتقي الصداقة إلى حب، ولكن الحب لا يهبط أبدا إلى صداقة». «أنا فقير وفقير جدا ولكن ملك إنجلترا ليس له من الثروة ما يستطيع بها أن يشتريني». «حريتي أو موتي». «الشكر على نعمة الماضي أمل في نعمة المستقبل». «الأشياء العظيمة لا ترى إلا على بعد». «لو خدمت الله نصف ما خدمت ملكي لأسبغ علي نعمته في آخر أيامي ولم يتركني لأعدائي». «ليست السعادة غاية الحياة بل الخلق». «الناس لا يقدرون البساطة حق قدرها مع أنها مفتاح القلب». «إذا تحققت كل رغباتنا ضاعت أكثر لذائذنا». «إذا صوبت كل سيوف إنجلترا إلى رأسي لم يحرك ذلك من نفسي». «إذا كان لي ابن اجتهدت أن أعلمه الفرنسية والألمانية أما اللاتينية واليونانية فترف». «إذا أغرقنا كل المادة الطبية في قاع البحر كان ذلك خيرا على الإنسان وشرا على البحر». «الجهل لا يحسم نزاعا». «سأحاول ما عشت أن أخدم إلهي وملكي ووطني، ولذلك سيسكنني الله مع من أحبوه». «لقد وهبت حياتي للقانون والسياسة، أما القانون فأمر مشكوك فيه، وأما السياسة فلا شك أنها عبث». «قال أمير وهو يحتضر: لقد ملكت المال والجاه والقوة، ولكن إذا كان هذا كل ما أملك فتعسا لي». «لقد سمعت أن شيئين سالبين يكونان موجبا، ولكن لم أسمع أن لا شيء ولا شيء يكونان أي شيء». «لقد تعلمت أخيرا أن لا شيء يصح أن يؤخذ قضية مسلمة». «لقد اقتنعت أن عظمة إنجلترا واستقرار أساس شئونها إنما هو في أمريكا». «ما فائدة التاريخ وأقوال الحكماء وتجارب السلف إذا لم تكن دليلا هاديا للخلف»؟ «لقد تعلمت من الحديث مع الناس أكثر مما تعلمت من كل ما قرأت». «في الأمة الناجحة يكون التغير دائما». «الأفراد قد يكونون جماعات ولكن النقابات هي التي تكون الأمة». «لم يبلغ إنسان ما من الشر مبلغا لا يستطيع معه أن يأتي بخير». «ثورة الأفكار تأتي دائما قبل ثورة الجيوش». «ما أسفت على شيء أسفي على أن لي حياة واحدة أهبها لقومي». «الصلح الظالم خير من القتال العادل». «أن تنقد أسهل من أن تنشئ». «قد يكون بعض النساء أذكى من بعض الرجال، ولكن هناك مستوى سمو لا يصلن إليه أبدا». «من الصعب قيادة مجلس النواب، وأصعب من ذلك إدارة مجلس الوزراء، ولكن أصعب من الجميع قيادة جيش». «كل الأشياء سواء في النهاية». «الحب كمرض الحصبة، خطر إن جاء متأخرا عن زمنه». «الطبيعة تعمل أكثر مما يعمل الطب». «لا تنس ما قاله لك إنسان وقت غضبه». «الكتب أجمل أثاث ولو لم تفتحها أو تقرأ منها كلمة». «قد لا يستطيع إنسان أن يقدم لأمته خدمة جليلة ما لم يضح بالفضائل الصغيرة». «لا يستطيع صديق حق أن يهنئ صديقه على توليه رياسة الحكومة، فإن كل تصرف يتصرفه يزيد عدد أعدائه». «لا شيء يؤثر في الأطفال كالثناء عليهم». «كان لنيوتن كلب اسمه دياموند، أفسد يوما أصول تأليف له قيم. فلم يزد على أن قال: «دياموند! دياموند! قلما تعرف مقدار ما آذيتني»». «سئل «ملتن»: هلا تعلم ابنتك لغة أخرى؟ فقال: لسان واحد يكفي المرأة». «إنه وطننا أخطأ أم أصاب، أساء أم أحسن». «الحب في الأسرة أساس للحكومة الطيبة». «الكلام في البرلمان، كالعزف على الكمان، يحتاج إلى مران». «الحزب فكرة منظمة». «الشعر بلاغة الدين وحرارته». «الشعر مهنة الكسالى». «إنما ينجح الشعراء في التخيلات لا في الحقائق». «إن أردت أن ترى المستحيل ممكنا فاقرأ الجرائد». «إن مالك الأرض عليه واجب يؤديه، كما أن من حقه أجرا يقتضيه». «عصيان الظالم طاعة لله». «الثورة لا تتراجع». «السخرية أصح امتحان للحقيقة». «قيل لهنري كليي
Clay : إن القضية التي تدافع عنها تبعدك عن منصب الرياسة، فقال: إني أحب أن أكون محقا أكثر مما أحب أن أكون رئيسا». «ست ساعات نوم كافية للرجل، وسبع للمرأة، وثمان للمغفل». «بعض الناس لهم مال كثير ولا عقل، وبعضهم له عقل كبير ولا مال، ولا شك أن الأولين خلقوا للآخرين». «بعض الناس يحمل بين جنبيه كتابا واحدا، وبعضهم مكتبة». «إن كان القلب طاهرا فلا يهم ما في الرأس». «احفظ القرش والجنيه يحفظ نفسه». «كانت آخر كلمة قالها نلسون: «الحمد لله، قد أديت واجبي»». «ما يسمى ثباتا في العظماء يسمى بلادة في الحمير». «عمل اليوم سابقة الغد». «إن معركة «واترلو» كسبت في ملعب كلية إيتون». «خير ما خلقت لأولادي حرية القول وإعطاؤهم المثل كيف يستعملونها». «أحسن الأطباء هم الدكتور «حمية» والدكتور «راحة البال» والدكتور «سرور»». «كلما عظمت الحقيقة عظم نقدها». «الشعب لا يتخلى عن حريته إلا بضرب من الخداع». «أساس النجاح المثابرة على السير نحو الغرض». «العالم ملهاة لمن يفكر، مأساة لمن يشعر». «العالم ليس إلا سجنا كبيرا ينفذ حكم الإعدام كل يوم على بعض من فيه». «عند ما ينتهي القانون يبدأ الاستبداد». «يبقى الأمل ما بقيت الحياة». «لماذا نحرص على الحياة وأولها صراخ وآخرها أنين». «اكسب قلوب الناس تكسب مالهم ». «للنساء فهم القلب، وهو خير من فهم العقل».
من الأدب الفرنسي «لا شيء يستحيل على القلب الشجاع». «عند كل امرأة دائما شيء تخفيه». «خير أن تعيش صيادا فقيرا من أن تحكم». «فرق تحكم». «بين الجليل والهزأة خطوة». «قابل كل شيء بجد، ولكن لا تقابل شيئا بحزن». «الصديق كالقطعة من الأثاث يغير إذا بلي». «لا جديد إلا ما نسى». «بين لا شيء والواحد أكثر مما بين الواحد والألف». «إني أحب أسرتي أكثر مما أحب نفسي، وأحب وطني أكثر مما أحب أسرتي، ولكني أحب الإنسانية أكثر مما أحب وطني». «أحمد الله إذ لم يجعلني امرأة ولا قسيسا».
قال جسندي «الفيلسوف الفرنسي» وهو يحتضر: «لقد ولدت ولا أعرف لماذا، وعشت ولا أعرف كيف، وها أنا أموت ولا أعرف لماذا ولا كيف». «الثقة يجب أن تأتي من أسفل، والقوة يجب أن تأتي من أعلى».
قال ميرابو وهو يموت : «دعوني أمت على صوت الموسيقى». «الصقر يطير من قمة إلى قمة حتى يصل إلى برج «نوتردام»». «الحب ملك للشباب وطاغية للشيوخ». «الحب أقوى من الصعاب التي تعترضه». «ليس النبوغ إلا قدرة على الصبر». «الملك العادل عبد لرعيته الحرة». «قال نابليون وهو يجهز حملته على مصر: «لا تصنع الأسماء العظيمة إلا في الشرق»». «لا ينال النصر بالأيدي بل بالأقدام». «ملعقة من عسل تصيد من الذباب ما لا يصيده عشرون دنا من خل». «شرط السعادة معدة صحيحة وقلب مريض». «من أجل أن تنجح أمة في الحرب يجب توافر ثلاثة شروط: الأول المال والثاني المال والثالث المال». «احتفل قوم بعيد سموه عيد العقل فقال «دانتون»: ما هذه المهزلة! لسنا نريد القضاء على الأوهام لنؤسس الإلحاد». «لا تسأل عن الإصطبل إذا كان البيت يحترق».
قال نابليون لجيشه عند ما وضع أقدامه في مصر: «اذكروا أن أربعين قرنا تنظر إليكم من قمة هذه الأهرام». «المرأة غالبا هوائية لا يثق بها إلا أحمق». «الممالك بلا عدل غابات ملئت باللصوص». «من خاف من حفيف الشجر لا يدخل الغابة». «من لم يعرف أن ينافق لم يعرف أن يحكم».
قال لويس الحادي عشر: «إذا عرفت قبعتي سرى أحرقتها».
قالت زوجة لويس الخامس عشر في مرض الموت وطبيبها يبحث عن علاج لمرضها: «ارجع لي أبي وأولادي فهذا هو علاجي».
فولتير: «إذا لم يكن الله موجودا وجب أن نخترعه». «إذا ملأت يدي من الحقائق يجب أن أحاذر من فتحها». «إذا كان المال عصب الحرب فهو أيضا شحم السلم». «الدين مريض أهمله أطباؤه». «عجبك بمنصبك دليل على أنك أقل منه».
قال رابليه وهو يحتضر: «أرخ الستار فالملهاة
Comedy
قد انتهت». «حفل ولا مرأة ربيع ولا ورد». «كل شيء للوطن ما كان الوطن في خطر». «كل أمة لها حكومتها التي تستحقها: «كما تكونوا يولى عليكم»». «كل شيء إلى زوال إلا الشرف».
قال لويس الرابع عشر: «في كل مرة أملأ منصبا خاليا أصنع مئة ساخطين وواحدا غير شاكر». «نفسي حقيرة جدا إن نظرت إليها وحدها ، عظيمة جدا إن قارنتها بغيرها». «كان ليوناني قيثارة بديعة، انقطع وتر من أوتارها، فأبى أن يصنع لها وترا مثله وصنع بدلا منه وترا من فضة ففقدت القيثارة انسجامها». «الثورة لا يمكن أن تهيأ رياضيا (بالحساب الدقيق)». «الجندي الذي لا ينام جيدا يساوي جنديين».
من الأدب الألماني «فن العمارة موسيقى متجمدة». «عندنا، لا تنجح إلا حكومة بلا حزب». «الغريب في نظرنا عليه مسحة أرستقراطية دائما». «الجيش الألماني هو الشعب الألماني مسلحا». «من المصائب أن ملوكنا لا يسمعون الحقيقة». «قد يكون الدواء أسوأ من الداء». «يجب أن يأخذ العدل مجراه ولو هلك العالم».
جوليس فردريك: «كلمة السلام ليست في معجمي».
بسمارك: «إذا كان الألماني من حزب الأحرار لم أعده ألمانيا ولا حرا». «ليست السياسة علما مضبوطا». «الدعوة إلى الخوف لا تجد لها صدى في قلب الألماني». «الحصان الشجاع يموت في الخندق». «سيأتي زمن يحكم الأحرار، وسيأتي زمن يحكم الدكتاتوريون، كل شيء يتغير ولا أبدية في الأمر». «لا بد أن يكون هناك سحر خاص في كلمة «ألماني»». «الدفاع عن ألمانيا بكل الوسائل حق كل ألماني». «في المعاملات «المالية» ليس للصداقة مكان». «رفض طحان أن يبيع طاحونته فقيل له إن الملك يستطيع أن يأخذها غصبا بدون ثمن، فقال: «نعم، ذلك إذا لم يكن في برلين قضاة». «تعود أن تتألم ولا تشكو». «قال جوته وهو يجود بنفسه: «الضوء! الضوء! افتحوا النوافذ ليزيد الضوء»». «نهاية مع رعب خير من رعب بلا نهاية». (في الأدب الألماني): «القوة قبل الحق». (وفي الفرنسي): «القوة فوق الحق».. وفي اليوناني: «القوة هي الحق». وفي جمهورية أفلاطون على لسان «تراسيماكوس»: «حجة الأقوى أقوى حجة».
بسمارك: «السياسة الخارجية لا تجري على النظريات القانونية». «لكل حالة جديدة سياسة جديدة». «السكينة أول واجبات المواطن».
بسمارك: «سياستنا أن قدما من أرض ألمانيا لا تفقد، وذرة من حقوق ألمانيا لا تضحي». «نحن الألمان نخشى الله ولا نخشى غيره».
من الأدب اليوناني «أول دروس الفلسفة أن تعرف الوقت المناسب لكل شيء». «أشعل «ديوجينيس» مصباحه في الظهر فسئل: ماذا يصنع؟ قال: «أفتش عن إنسان»». «دعي إسبرطي ليسمع من يقلد صوت العندليب فقال: «لقد سمعت الأصل»». «خير أن تموت سريعا من أن تحيى في انتظار الموت». «معنى أن لنا أذنين ولسانا واحدا أن نسمع أكثر مما نتكلم».
نهى «أجيسيلوس» وهو يحتضر أن يقيموا له تمثالا، ثم قال: «إن كنت فعلت خيرا فسيحسن ذكري في الآخرين، وإلا فتماثيل العالم كله لا تغني».
قال الإسكندر وقد رأى ديوجينيس الزاهد: «إذا لم أكن الإسكندر لتمنيت أن أكون ديوجينيس».
ذكروا أن مدن اليونان لم تسقط بقوة فيليب بل بذهبه، فقيل في ذلك: «سلح نفسك بأسلحة من الفضة لا يقف أمامك عدو». ««كاتو»: لأن يسأل الناس: لم لم يقيموا له تمثالا؟ خير من أن يسألوا: لم أقاموا له تمثالا»؟ «وجدتها وجدتها».. «كلمة مأثورة عن أرشميدس وقد صاح بها عند اكتشافه نظريته في الوزن النوعي». «أسوأ حاكم من لم يستطع أن يحكم نفسه». «الأصدقاء شركاء في كل شيء». «قيل لأفلاطون: اضرب هذا الغلام لأنه غضوب. فقال: لو لم أكن غضبت لضربته».
وقف الإسكندر على ديوجينيس فسأله الإسكندر: «ماذا يطلب ليحققه له؟». قال : «أن تتنحى قليلا فلا تحجب الشمس عني». «سأل رجل سقراط: أأتزوج أم لا؟ فقال: أي الأمرين فعلت ندمت عليه». «قيل ليوليوس قيصر: أي نوع من الموت خير؟ قال: الموت المفاجئ». «من عرف أن يتكلم وجب أن يعرف أيضا متى يتكلم». «إذا لم يكن جلد السبع فجلد الثعلب». «قرأ يوليوس قيصر تاريخ الإسكندر فبكى، فقيل له: ما يبكيك؟ قال: أليس مما يبعث الأسى أن أرى الإسكندر يتغلب على هذه الأمم في شبابه وأنا لم آت بعد بعمل جليل»؟ «أشار بعض القواد على الإسكندر أن يغير على الجيش الفارسي ليلا فقال: «أنا لا أسرق نصري»». «وضعك الصديق موضع الاختبار ليس أقل إثما من وضع الحكومة قوادها موضع التجربة». «الإسبرطي لا يسأل عن عدد أعدائه، ولكن يسأل أين هم»! «سئل أجيسيلوس: أيهما خير، العدل أم الشجاعة؟ فقال: «لسنا نحتاج إلى الشجاعة إذا عم العدل»». «إنك لا تستطيع أن تعاند إرادة الله». «لا عجب أن يتحمل النساء مسئولية الحكم إذا خاف الرجال من أن يكونوا أحرارا».
قال سقراط: «لست ابن أثينا ولا ابن اليونان، ولكني ابن العالم».
قال فيليب المقدوني لابنه وقد أجاد الضرب على القيثارة في حفل: «ألا تخجل من إجادتك اللعب»؟
ومثله قول الآخر: «يجب أن يكون هذا إنسانا وضيعا، وإلا ما أجاد الزمر».
كان ليسندر حاكما ظالما قاسيا فقال قائلهم: «لا يمكن لليونان أن تلد اثنين كليسندر».
قال الإسكندر (
II ): «كما أن الأرض لا تتحمل شمسين كذلك آسيا لا تتحمل حاكمين». «الحرب لا تحتمل من القائد غلطتين». «وظيفة راعي الغنم الجيد والملك الجيد سواء». «اضرب كما تشاء ولكن اسمع مني».
قال الملك أجيس وقد قدم ليعدم فبكى بعض أصدقائه: «استبق دموعك يا صديقي فإني وأنا أقتل ظلما أحسن حالا من قاتلي». «سمع «مينيدموس» رجلا يقول: ما أحسن أن ينال الإنسان ما يشتهي! فقال: أحسن منه ألا يشتهي الإنسان إلا ما كان ضروريا». «طلب رجل من «ليكورجوس» أن ينشئ لإسبرطه نظاما ديمقراطيا، فقال له: أنشئ الديمقراطية أولا في بيتك». «حب الملل منبع كل شر». «نفس المحب تسكن في بدن المحبوب». «عير شريف رجلا بأنه ليس ذا نسب عريق فقال الثاني: إن أسرتي ابتدأت بي وأسرتك انتهت بك».
قال سقراط: «الناس يعيشون ليأكلوا وأنا آكل لأعيش». «العبيد يحكمون بسادتهم، وضعاف الناس يحكمون بأهوائهم». «جيش من وعول عليها أسد أشد إرهابا من جيش من أسود عليها وعل». «من العسير أن تجعل المعدة تصغي إلى العقل». «قال ثيمستوكليس لزوجته وقد رأى ابنه يستغل ضعفها: أيتها المرأة إن الأثينيين يحكمون اليونان، وأنا أحكم الأثينيين، وأنت تحكمينني، وطفلك يحكمك، فلا تدعيه يسيء قوته، فهو في سذاجته أقوى من اليونان مجتمعة. «ونحوه قول «كاتو» في قوة المرأة: «الرجال يحكمون نساءهم، ونحن نحكم كل الرجال، ونسائي يحكمنني»».
ونحوه القول الفرنسي: «فرنسا تحكم العالم والمرأة تحكم فرنسا».
من الأدب الإيطالي «أنا لا أومن بالجغرافيا». «قال البرنس أوتوراتو كايتاني أثناء رياسته للجمعية الجغرافية الإيطالية، وأصلها للدوق ميكلا نجلو وقد عرض عليه رجل ثقيل كتابا في الجغرافيا بثمن غال وألح عليه فقال: «إني آسف! فأنا لا أومن بالجغرافيا». «الحكومة الملكية توحدنا، والجمهورية تفرقنا». «(علم) الحساب ليس رأيا». قالها وزير مالية في البرلمان بعد أن استقال إثر مشادة، وقد نصح باحترام الآراء المختلفة فقال: «إني أحترم كل الآراء وإن اختلفت، ولكن الحساب ليس رأيا» يعني أن الأرقام والإحصائيات فوق الآراء التي تعتمد على الجدل. «ولدت حرا وعشت حرا وسأموت حرا». كلمة كتبت على وسام ضرب في روما. «إيطاليا ستشق طريقها». قالها كارل ألبرتو (1798-1849). «أجيب بأني لا أجيب». قالها وزير زراعة في البرلمان.
قال رجل لوزير في عهد جريجوري السادس عشر: إن السجون امتلأت بالمجرمين السياسين، فقال الوزير: «إذا كانت السجون ملأى فالقبور فارغة».
من الأدب اللاتيني «اللعبة انتهت». قالها فيلسوف وهو يحتضر إشارة إلى أن الحياة لعبة، ومثلها ينسب إلى أوغسطس (63 قبل الميلاد - 14 بعد الميلاد) وقد سأل أصدقاءه وهو يجود بنفسه: هل أجدت لعب دوري في الحياة؟
قال أرسطو: «أفلاطون عزيز علي. ولكن الحق أعز علي منه
1 ». «ألا تعلم يا بني أن العالم محكوم بقليل من الحكمة». «من عجل عطاءه فقد ضاعفه».
كان من عادة الرومان القدماء إذا انتصر قائد أن يكرموه، فيركبوا مملوكا خلف عربته يقول له وسط هتاف الجماهير: «حاذر أن تسقط». «لقد خسرت يوما». قالها الإمبراطور «تيتوس» وقد ذكر أنه مر عليه اليوم لم ينفع فيه أحدا. «أنا ملك الرومان وفوق النحو». قالها الإمبراطور سيجسموند وقد أخطأ في قواعد النحو فنبه إلى خطئه. «اعدل ولو انطبقت السماء على الأرض». «الرجل الشجاع يهضم الأشياء القاسية». «أرت امرأة امرأة أخرى جواهرها الغالية، فقالت الثانية وأشارت إلى أولادها: «هذه هي جواهري»». «تذكر أنك إنسان». أسرها مملوك لسيده القائد الظافر والناس يهتفون له. «لقد قضيت حياتي مشغولا ولم أعمل شيئا»! قالها هوجو جروتيوس وهو يحتضر. «ليس يسعد أحد ما دام هناك الموت». «ما من كتاب مهما قبح إلا وفي بعضه فائدة».
قال بلوتارك في ترجمة أحد رجاله إنه كان يحدث عن نفسه أنه: «قام بأعظم أعماله في أوقات فراغه».
سئل «ستلبو» أحد فلاسفة اليونان وقد نهبت بلدته: هل فقدت شيئا؟ فقال: «لا، كل ما أملك معي». «ما أقدسك أيتها البساطة»! «إن الأمير الذي لا يعاقب الدساسين يشجعهم». «إذا كنت في روما فافعل ما يفعل الرومان». «من لم يعرف أن يتصنع لم يعرف أن يحكم». «من أوعز بالعمل فعمل كان مسئولا كما إذا عمل». «السكوت رضا». «إذا عشت وفقا للطبيعة لم تكن فقيرا أبدا، وإن عشت وفقا للأوهام لم تكن غنيا أبدا». «دعهم يكونوا كما هم أو لا يكونوا أبدا». كلمة قالها رئيس الجزويت وقد طلب منه أن يغير في نظامهم. «هل دائما تثور أيها الجزار»! كلمة وجدت مكتوبة للأمبراطور أوغسطس وقد هم بالأمر بقتل عدد من رجاله. فلما قرأها كف عن القتل. «لقد تسلمت روما طوبا وخلفتها مرمرا». «أتيت فرأيت ففتحت». كلمة تنسب إلى يوليوس قيصر بعث بها في وصف غزوة انتصر فيها.
من الأدب العربي «إن من البلية أن يكون الرأي بيد من يملكه، دون من يبصره». قالها المهلب بن أبي صفرة وقد أمره الحجاج بأمر في الحرب لم يره في المصلحة، وكان المهلب هو القائد، والحجاج هو الأمير. «الحرب أولها شكوى، وأوسطها نجوى، وآخرها بلوى». تنسب لعنترة. «الشر حلو أوله، مر آخره». «كثرة الصياح من الفشل». لأكثم بن صيفي.
ومثله قول عائشة يوم الجمل وقد رأت أصحابها يتنازعون ويتصايحون: «المنازعة في الحرب خور والصياح فيها فشل». «احرص على الموت توهب لك الحياة». قالها أبو بكر لخالد بن الوليد. «بقية السيف أنمى عددا وأطيب ولدا». قالها علي بن أبي طالب، ويريد ببقية السيف القوم دافعوا عن أنفسهم بالسيف، ومات أكثرهم في القتال، وبقيت منهم بقية. «قبلة الإمام في اليد، وقبلة الأب في الرأس، وقبلة الأخ في الخد، وقبلة الأخت في الصدر، وقبلة الزوجة في الفم». «أناة في عواقبها فوت خير من عجلة في عواقبها درك». المهلب بن أبي صفرة. «كن كالتاجر الكيس إن وجد ربحا تجر، وإلا تحفظ برأس المال». قالها عبد الملك بن مروان ينصح أميرا ولاه حرب الروم. «لو غضب «مالك» لغضب معه مئة ألف سيف لا يسألونه في أي شيء غضب». قالها ابن مطاع العنزي وقد استوصفه عبد الملك بن مروان مالك بن مسمع، فلما سمعها عبد الملك قال: هذا والله السؤدد. «إن لله خلقا قلوبهم كقلوب الطير كلما خفقت الريح خفقت، فأف للجبناء». عائشة في وصف الجبان. «كان الناس يفعلون ولا يقولون، ثم صاروا يقولون ويفعلون، ثم صاروا يقولون ولا يفعلون، ثم صاروا لا يقولون ولا يفعلون». عمر بن الحارث. «أفضل العطاء ما كان من معسر إلى معسر». «الأيام مزارع، فما زرعت فيها حصدته». «إن الله عودني أن يتفضل علي، وعودته أن أتفضل على عباده». عبد الله بن جعفر. «من أصابه غبار مركبي فقد وجب علي شكره». خالد بن عبد الله القسري. «طلب جسيما، وركب عظيما، ومات كريما». قالها يزيد بن عبد الملك في وصف يزيد بن المهلب، وقد نال منه بعض الحاضرين فقال: إنه ... إلخ. «إن كانت لا تعرفني فأنا أعرف نفسي». قالها يزيد بن المهلب وقد أعطى أعرابية شعثة ثمان مئة درهم. فقال له ابنه: إنها لا تعرفك. «التثبت نصف العفو». قالها أبو مجلز لقتيبة بن مسلم وقد اتهمه ببعض الأمر فقال أبو مجلز: أصلح الله الأمير، تثبت فإن التثبت إلخ. «الذنوب تخرس الألسنة».
حبس الرشيد رجلا فكتب إليه: «إن كل يوم يمضي من نعيمك يمضي مثله من بؤسي، والأمد قريب، والحكم لله». «ما رأيت أشرف نفسا من الفرزدق، هجاني ملكا ومدحني سوقة»! يزيد بن المهلب. «ذلك علم حمل، وهذا علم استعمل». قالها المهلب وقد سئل: بم أدركت ما أدركت؟ قال: بالعلم. قيل له: فإن غيرك قد علم أكثر مما علمت ولم يدرك ما أدركت فقال إلخ. «لا أوعظ من قبر ولا أمتع من كتاب». «كنت إذا أخذت كتابا جعلته مدرعة». قالها محمد بن عبد الله بن عمر وقد سئل عن سبب تميزه في العلم. «الكلمة إذا خرجت من القلب وقعت في القلب، وإذا خرجت من اللسان لم تجاوز الآذان». «ارحموا عزيزا ذل، وارحموا غنيا افتقر، وارحموا عالما ضاع بين جهال». «رأي الشيخ خير من مشهد الغلام». «لو كان للناس كلهم عقول خربت الدنيا». الحسن البصري. «سارق السريرة يقطع سارق العلانية». قالها عمرو بن عبيد وقد رأى حاكما يقطع يد سارق. «إني أجل عن دقيقك وتدقين عن جليلي». قالها نوفل بن مساحق وقد نقدته امرأته لأنه لا يكلمها. «ليس له صديق في السر ولا عدو في العلانية». قالها شبيب بن شيبة في ذم خالد بن صفوان يقول: إنه صهيب غير محبوب. «كل واحد ينفق مما عنده». تنسب إلى المسيح وقد مر بقوم من اليهود فقالوا شرا وقال خيرا، فسئل في ذلك فقالها «ما استب اثنان إلا غلب ألأمهما». «إياك وعزة الغضب فإنها تصيرك إلى ذل الاعتذار». «أنا ابن نفسي». قالها رجل وقد تكلم بكلام أعجب عبد الملك بن مروان فسأله عن نسبه. «لو علم أن الماء يفسد مروءته ما شربه». قالها عبد الملك بن مروان في وصف خصمه مصعب بن الزبير. «لا مرحبا بهذه الوجوه التي لا ترى إلا في كل شر». قالها عمر بن الخطاب في قوم يتبعون رجلا أخذ في ريبة. «إني لأبغض شقي الذي يليه إذا جلس إلي». قالها رجل في وصف ثقيل.
قيل لبعض الولاة: كم صديقا لك؟ قال: «لا أدري! الدنيا مقبلة علي والناس كلهم أصدقائي وإنما أعرف ذلك إذا أدبرت عني». «لا يضيق سم الخياط بمتحابين، ولا تسع الدنيا متباغضين». الخليل بن أحمد. «تواضعك في شرفك أكبر من شرفك». ابن السماك لعيسى بن موسى. «من لم يجلس في الصغر حيث يكره لم يجلس في الكبر حيث يحب». «المرء يصنع نفسه، فمتى ما تبله ينزع إلى العرق». قالها حفص بن النعمان. «لو جمعت قريش من أقطارها ثم رمي به في وسطها لخرج من أي أعراضها شاء». هند تصف مهارة ابنها معاوية. «لن يفرس الليث الطلا وهو رابض (الطلا الأعناق)». «كل كريم طروب». معاوية وقد حرك رجله من سماع غناء، فسئل عن تحريك رجله فقالها. «قلة العيال أحد اليسارين». «أعظم المصائب انقطاع الرجاء». «إن أعظم ما أخاف الله فيه ما كنت أصنع لك». معاوية لابنه يزيد وهو يحتضر.
ونكتفي بهذا النموذج من الأدب العربي، فهو في هذا الباب مليء.
زعماء الإصلاح الإسلامي في العصر الحديث: الشيخ محمد عبده
(1266-1323ه/1849-1905م)
يعتمد نبوغ النابغ على عنصرين أساسيين: استعداده الفطري، أو بعبارة أخرى طبائعه الموروثة، وبيئته التي عاش فيها، كالشجرة الطيبة إنما تنبت نباتا حسنا إذا حسنت بذرتها، ووجدت من التربة والهواء والماء ما يصلح لها، فإن كانت البذرة سيئة فلا أمل في شجرة ممتازة، وكذلك إن حسنت البذرة وساء الغذاء.
وقوانين الوراثة في الإنسان في منتهى التعقد: ماذا يرث من أبيه؟ وماذا يرث من أمه؟ وماذا يرث من آبائه الأقربين؟ وماذا يرث من آبائه الأبعدين؟ كل هذا لا يزال غامضا مع عناية علماء الوراثة بالبحث والتقصي.
على كل حال ورث «محمد عبده» صفات نشأ عليها، وساعدت بيئته على نموها، أهمها ثلاث: الذكاء، والثقة بالنفس والاعتداد بها، ويتبع ذلك حب التفوق والعطف.
من أين نبعت هذه الصفات؟ من تركمانية أبيه كما يقال، أو من عربية والدته إذ يقال إنها من بني عدي. ولكن ما هذا ولا ذاك بكاف، ففي كل من التركمان والعرب الذكي والغبي والعزيز والذليل. ولا نستطيع أن نتثبت من موضع الوراثة حتى تكون على علم بآبائه وأمهاته فردا فردا، وأنى لنا هذا؟ فليس لنا إذن إلا أن نقول إنه هكذا خلق.
ثم كم من الفلاحين الفقراء في الحقول، وصغار الصناع في المصانع، من ورث من الصفات ما ورث الشيخ محمد عبده بل خيرا مما ورث، ولكن لم تسعفهم البيئة وقضت عليهم، وعاشوا وماتوا لم يشعر بهم أحد. ولو وجدوا من الظروف ما وجد الشيخ محمد عبده وأمثاله لظهر نبوغهم وعلا اسمهم وآمن الناس بتفوقهم، والناس كالكنوز المدفونة، أحيانا يقضى عليها بالدفن الأبدي، وأحيانا يعثر عليها فتكون مصدر ثراء. وفي عصر الشيخ محمد عبده إلى عصرنا لم تسعفنا نظم التربية وحالة البلاد الاجتماعية لنستكشف الأحجار الكريمة، بل هي في أغلب الأحيان نعمل على دفنها في الرمال.
لا تعجبن من هالك كيف توى
بل فاعجبن من سالم كيف نجا
هذا هو محمد عبده ينشأ في قرية من قرى الريف كما ينشأ ابن كل فلاح في ذلك العصر، فإذا كان لأبيه بعض اليسر وبعض الوجاهة وبعض الدين علم ابنه في الكتاب، ثم بعث به إلى الأزهر أو إلى معهد ديني، وكذلك فعل أبوه فأرسله إلى الجامع الأحمدي بطنطا لقربه من بلده، وليجود القرآن بعد أن حفظه ثم ليتعلم العلم، فأما تجويد القرآن فأمر ميسور، يسمع ما تيسر فيأخذه الشيخ بضبط مخارج الحروف ومقاييس لمد والغنة والإدغام وما إلى ذلك. وأما العلوم التي يدرسها فطرقها في منتهى العقم على المبتدئ أن يقرأ على شيخ كتابا في الفقه وكتابا في النحو، وأمر الفقه محتمل، فهو يبدأ يعلمه في دقة كيف يتوضأ وكيف يصلي، وهو أمور مارسها في حياته العملية، فمن السهل التدقيق فيها ما دام الأساس معروفا. أما النحو فهو الطامة الكبرى، فهو لا يعلم كما نعلمه نحن اليوم، فنبدأ بأن الكلمة اسم وفعل وحرف، ونأخذ في مميزات كل منها، إنما كان يعلم كما في كتاب «الكفراوي على الأجرومية» وأول درس فيه:
بسم الله الرحمن الرحيم: الباب حرف جر واسم مجرور بالباء وعلامة جره كسرة ظاهرة في آخره، والجار والمجرور متعلق بمحذوف تقديره أؤلف، وأؤلف فعل مضارع مرفوع لتجرده من الناصب والجازم، والفاعل ضمير مستتر وجوبا تقديره أنا، هذا إن جعلت الباء أصلية، وإن جعلتها زائدة فلا تحتاج إلى متعلق به وتقول في الإعراب حينئذ: الباء حرف جر زائد، واسم مبتدأ مرفوع بالابتداء وعلامة رفعه ضمة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، والخبر محذوف تقديره اسم الله مبدوء به. إلخ.
باسم الله ما شاء الله! هذا أول درس لمن لم يعرف في النحو شيئا، فلو أن متكلما تكلم بالسريانية لكان أهون، وكيف يستسيغ هذا وهو لم يسمع قبل إعرابا ولا رفعا ولا نصبا ولا جرا ولم يفهم لها معنى. ومثل هذا مثل كنا نتضاحك عليه وكان أعجوبة الأعاجيب، وهو أن مدرسا في مسجد سيدنا الحسين كان يعظ النساء اسمه الشيخ يوسف، وكان يجلس ويتحلق حوله عوام النساء للتبرك فيقرأ عليهن حديثا من الأحاديث النبوية ويأخذ في شرحه، ولكنه ينسى أنه يدرس لنساء أميات جاهلات، أو لا يستطيع ذوقه أن يدرك مقتضى الحال وما يصح أن يقال وما لا يقال، فيتساءل في أثناء شرحه: «لم حذف المسند إليه»، فيكون الكلام كتلاوة اللاتينية في الكنائس لمن لم يعرف كلمة لاتينية، أو خطبة الجمعة بالعربية على أتراك لم يعرفوا شيئا من العربية.
كذلك كان تعليم النحو في الأزهر والجامع الأحمدي للمبتدئين. فلو لطمت البيداجوجيا لطمة مميتة لم تجد شرا من هذه اللطمة، ورحم الله الشيخ الكفراوي، فلو علم ماذا يجني على المتعلمين كتابه ما خط منه حرفا.
كانت سن «محمد عبده» إذ ذاك خمس عشرة سنة، واستمر على هذا عاما ونصف عام يحاول أن يفهم فلا يفهم، وكيف يفهم الوضع المقلوب على أنه وضع صحيح ؟ الجمهرة العظمى من المتعلمين على هذا النحو يملون ويسأمون وينقطعون عن الدراسة، وبعضهم كانوا يختانون أنفسهم فيزعمون فيما لا يفهمون أنهم يفهمون وتجلت في صاحبنا سجاياه الثلاث في هذا الموقف، فهو ذكي إذ فرق بين ما يفهم وما لا يفهم، وهو معتد بنفسه إذ ثار على الاستمرار على هذه الحال، وأبى أن يرضى بهذا الهوان، واختزن هذا الدرس في نفسه فتجلى فيما بعد في حمله عبء إصلاح الأزهر والعطف على أهله.
عول أن يتجه إلى الزراعة فيكون فلاحا كسائر أهله، وصمم على ألا يتعلم، وصمم أبوه على أن يتعلم، واصطدمت الإرادتان، فلما أكرهه أبوه هرب إلى بلدة فيها بعض أقاربه، وشاء القدر أن يلتقي بشيخ صوفي، هو الشيخ درويش خضر خال أبيه، فينقلب محمد عبده كأنه شخص آخر، حتى كأن عصا سحرية مسته، وهنا يتجلى فعل المصادفات في حياة العظماء، فلولا هرب محمد عبده إلى هذه البلدة وملاقاته لهذا الشيخ لكان محمد عبده المشهور هو محمد عبده المغمور الذي لا يعرفه أحد إلا بلده، ولكان شأنه شأن أي فلاح في أي بلدة لا يسجل اسمه إلا في دفتر المواليد ودفتر الوفيات.
وشخصية الشيخ درويش من الشخصيات اللطيفة التي تظهر في بعض الأوساط المصرية على قلة، وقد شاهدت منها في حياتي شخصين، هي شخصية متصوفة تمتاز بنور البصيرة أكثر مما تمتاز بسعة العلم، تعرف الدنيا وشئوونها وتزهد في قيمتها عن علم لا عن غباء، وخير عبادتها ذكر الله بالقلب لا باللسان ولا بالأوراد، تعمل في الدنيا كما يعمل أهلها ولكن في رفق وتسامح وميل إلى الخير، يرون الدنيا جسرا إلى الآخرة، فلا بد أن يعبر الجسر في أمان يألمون لغفلة الناس وطغيان المادة عليهم وتورطهم في المفاسد، ويشفقون عليهم ويعملون ما أمكنهم لإنقاذهم في هوادة، يشع النور في قلوبهم على وجوههم، فيكون منظرهم وتصرفهم وحركاتهم وسكناتهم منظرا جذابا يستدعي الحب والإعجاب.
اتصل به محمد عبده فكان شخصا آخر. ولم يكن ذلك عن عصا سحرية ولا معجزة سماوية، وإنما هي ظاهرة طبيعية . كان عند محمد عبده عقدة نفسية كونها شرح الكفراوي على الأجرومية، فاعتقد أنه لا يفهم ولن يفهم، فما فائدة الاستمرار؟ وهذا يذكرنا بعقدة مثلها حدثت لعلي مبارك عند تعلمه للهندسة، فقد صدم بقولهم المثلث (ا ب ج) فظن أن هذا اسم ثابت لهذا المثلث لا يصح أن يتغير، كمن سمي بأحمد لا يصح أن يسمى بمحمد، وتعقدت هذه المسألة في نفسه فمنعته من أن يفهم أي شيء، حتى رزق بمدرس ذكي واضح أدرك العقدة فحلها، ففتح الباب أمام علي مبارك وصار أولا بعد أن كان آخرا. كذلك حل الشيخ درويش عقدة محمد عبده بأن أعطاه كتابا سهلا في المواعظ والأخلاق، وجعله يقرأ وأخذ الشيخ يشرح، فإذا بالطالب يفهم، وإذا العقدة تحل، ويعتقد محمد عبده أن في الإمكان أن يفهم.
ودرس آخر علمه له الشيخ، وهو درس «القيم» فقد كان محمد عبده كعامة الناس يرون مظاهر الحياة من مال وجاه وزينة وتفاخر وتكاثر في أعلى القائمة، وأن المسلم بنطقه بالشهادتين سيد الناس ولا بأس بما ارتكب، فمصيره الجنة، فجاء الشيخ ومحا له هذه القائمة وأثبت غيرها، وجعل القائمة الجديدة مطلعها العمل الصالح بدل المال والجاه، وأن اسم الإسلام لا يصح أن يكون مخبأ ترتكب فيه الجرائم؛ فالإسلام عقيدة وعمل لا ألفاظ سيالة تنتهي بمجرد النطق. وأن المسلمين محاسبون على أعمالهم كغيرهم، وأن أكثر من يسمون مسلمين لا يصح أن يدخلوا في عداد المسلمين، وأن التعاليم الفاسدة ليست من الإسلام في شيء، وأن أساس الإسلام وأساس العقيدة الصحيحة هو القرآن والقرآن وحده، وأن خير عبادة هو تفهم معانيه.
وكان الشيخ درويش متأثرا بتعاليم السنوسية التي تتفق مع الوهابية في الدعوة إلى الرجوع إلى الإسلام الأول في بساطته الأولى وتنقيته من البدع، وذلك على أثر رحلته إلى طرابلس الغرب واجتماعه بأتباع السنوسي هناك.
في سبعة أيام تغير محمد عبده الذي يريد الزراعة والتفوق على الشبان في ألعاب الفروسية إلى محمد عبده الذي يريد الصفاء الروحي والتعلم ليستطيع فهم القرآن وإعداد نفسه ليهتدي ثم يهدي.
فإلى الجامع الأحمدي إرضاء لوالدي وإرضاء لنفسي فقد اتفقت الإرادتان.
وبدأ يدرس النحو فإذا هو يفهم لأن العقدة النفسية قد زالت، ولأنه بدأ يقرأ الكتاب الثاني في النحو وهو شرح الشيخ خالد على الأجرومية، وسوء الوضع جعل الكتاب الثاني أسهل من الأول، ولعله قد رزق بشيخ خير من الأول استطاع أن يوضح له ما غمض ويبين ما أبهم.
وإذا بالشيخ محمد عبده يلتف حوله بعض زملائه ليشرح لهم الدرس قبل بدء الأستاذ، فتعود إليه ثقته بنفسه ويسير على الدرب.
كانت هذه الأيام السبعة أيام حضانة تكون فيها كل ما اتجه إليه بعد من إصلاح. فاهتمامه بعد بتفسير القرآن، وجعله أساسا لدعوته الإصلاحية، وتنقيته للعقيدة الإسلامية مما أصابها من دخيل، وتلون حياته بلون صوفي راق، وزهادته في المال، وغيرته الشديدة على إصلاح المسملين، كلها غرست في هذه الأيام السبعة، ثم نمت وازدهرت وتعدلت وفقا للظروف والأحوال . •••
تحول محمد عبده من الجامع الأحمدي إلى الجامع الأزهر لأن الأزهر هو المثل الأعلى للتعليم في المعاهد الدينية.
والتعليم في الأزهر إذ ذاك - وكما رأيناه إلى عهد قريب - يلقي عبء الطالب كله على نفسه من غير أن يحمل أحد أي عبء عنه، فما عليه إلا أن يسجل اسمه في دفاتر الأزهر ثم يفعل ما يشاء، إلى أن يتقدم لامتحان العالمية، فهو الذي يختار مدرسه ويختار علومه ويحضر أو لا يحضر، ويجد أو يلعب، ويفهم أو لا يفهم، كل هذا متروك إلى نفسه، وهو أسلوب يفيد الخاصة ويضر العامة.
يأتي الطالب من بلده فيسكن في غرفة في حي الأزهر، وقد يشركه في الغرفة طالب أو أكثر، وفي الغرفة كل أدواته وأدواتهم، حصير مفروش على الأرض وصندوق فيه بعض الملابس وبعض الزاد، ومرتبة ولحاف يفرشهما ليلا ويطويهما صبحا و«حلة» يطبخ فيها بنفسه من حين لآخر في نفس الغرفة - وقد حدث محمد عبده عن نفسه أنه غضب على كتاب فطبخ به عدسا - ومن حين لآخر يأتيه الزاد من البلد، بعض الخبز وبعض الجبن وشيء من السمن ، فإن كان أهله في شيء من الثروة فشيء من الفطير وشيء من الدجاج المذبوح، وهذه هي دنياه.
والطالب المجد يصحو عند أذان الفجر فيصلي الصبح ويذهب إلى الأزهر ليحضر درس الفقه ويستمر الدرس إلى الضحى، والشيخ يقرأ في الكتاب وهو متربع على كرسي حوله الطلبة، فإن كان عدد الطلبة قليلا استغنى عن الكرسي وجلس على «فروة»، أما الطلبة فيتربعون على الحصير، ومن كان منهم من أبناء الأعيان جلس كذلك على فروة، والشيخ يقرر الجملة ويشرحها والطلبة يسمعون أو يعترضون والشيخ يجيب، وأحيانا يحتد الشيخ فيضرب أو يلعن، ولا ينتقل الشيخ من جملة إلى جملة إلا بعد أن يقتلها بحثا، وقد تضيع الساعتان أو الثلاث في سطر إذا اقتضى الحال، فإذا ختم الشيخ درس الفقه بقوله: «والله أعلم» انصرف الطلبة يبحثون عن «فطورهم» فمن كان منهم له «جراية» - وهي رغيفان أو ثلاثة أو أربعة تسلمها من رواقه وخرج إلى محيط الأزهر حيث دكاكين الفول المدمس والطعمية فاشترى منها ما شاء، وإن كان طالبا متقدما بعث طالبا صغيرا يقوم عنه بهذا العمل، وإن كان فقيرا باع رغيفين أو أكثر من الجراية ليشتري بثمنها إداما، وإن كان مترفا استعاض عن الفول بالجبن والزيتون والحلاوة الطحينية في بعض الأيام، وإذ ذاك ترى الأزهر كله مائدة للطعام، حلقات، حلقات وعد هذا فطورا وغداء معا.
فإذا انتهى الطلبة من هذا جلس المجدون يطالعون درس النحو القادم، فإذا فرغوا منه كان الظهر قد أذن فتقام الصلاة ويبدأ درس النحو على نحو درس الفقه فيمتد ساعات وقد يصل إلى العصر.
وبعد استراحه الطالب يعد درس الفقه القادم وينتهي بذلك يومه العلمي فيعود إلى بيته، وإن احتاج إلى ضوء فمصباح يشتعل بالجاز بواسطة فتيلة من غير زجاج، ولا بأس بدخانه، وإذا اشترك جماعة في غرفة وكانوا فقراء تقاسموا ثمن الجاز كل عليه ليلة أو أسبوع، وقد حدث الهلباوي أنه تنازع مع زميله على ثمن الجاز لأنه لم يشأ أن يدفع نصيبه.
ويتدرج الطالب في الكتب، كل سنة كتاب في الفقه وكتاب في النحو إلا إذا طال الكتاب فيقرأ في أكثر من سنة، ولكل كتاب تقريبا متن هو الأصل وشرح يشرح المتن، وحاشية تشرح الشرح، وقد يكون تقريرا يشرح الحاشية، والشيخ يطالع كل هذا استعدادا لما يمطره الطلبة عليه من الأسئلة، فيبدأ الشيخ بقراءة المتن ويشرحه بجميع ما كتب عليه مناقشا مهاجما مدافعا حتى تنتهي المعركة بانتهاء الدرس.
وإذا انتهت كتب الفقه حل محلها كتب أصول الفقه، وإذا انتهت كتب النحو حل محلها كتب البلاغة.
وعلى هامش هذه الأوقات قد يحضر الطالب المتقدم دروسا صباحية بعد صلاة الفجر مباشرة، أو دروسا مسائية بعد المغرب في علوم أخرى كالتفسير والحديث والمنطق.
وليس بالنادر أن نسمع صيحة تقوم في الدرس أو قبله أو بعده لاختلاف طالبين على مكان في الحلقة أو نحو ذلك، فيتضاربان، ويتعصب أهل الصعيد للصعيدي، وأهل البحيرة للبحراوي، فتكون معركة حامية يتدخل فيها جنود الأزهر المسمون بالمشدين.
فإذا مررت بصحن الأزهر رأيت حصرا مفروشة نشر عليها خبز مما أرسله أهل المجاورين إليهم ليتجفف في الشمس خوف العفن.
ورأيت ثيابا منشورة ومياها مصبوبة إلخ وفي الدروس ترى مريضا بجانب صحيح، وقذرا بجانب نظيف، ولم يفكر أحد في إشراف طبيب.
وقل أن تسمع مدرسا تعرض في درسه لمسألة خلقية أو حث على فضيلة أو حذر من رذيلة.
كل الكتب التي تدرس في الأزهر من نتاج العصور المتأخرة، تحدرت من العصور الزاهية، ولكن عدا الزمان عليها فأفقدها روحها فصارت شكلا. النحو كان يراد منه النطق الصحيح والكتابة الصحيحة وفهم كتب الأدب فهما صحيحا فصار مجرد تفهم لألفاظ المؤلفين في النحو. وأصول الفقه كان يقصد منه التمرين على الاجتهاد في التشريع فأصبح ولا اجتهاد ولا تشريع. والبلاغة كان يقصد منها كيف يكتب القول البليغ فصار المؤلفون فيها أعاجم لا يحسنون التعبير كالسعد التفتازاني، حتى أباح لنفسه الشيخ أحمد الرفاعي أن يدرس أكبر كتاب في البلاغة وهو المطول، ثم يعترف أنه لا يحسن أن يكتب خطابا ولو غير بليغ، لأن هذا من عمل تلاميذ المدارس المدنية.
واشتهر من فطاحل العلماء في هذا العصر الشيخ أحمد الرفاعي هذا، وأساس شهرته أنه يحسن فهم الكتب ويستطيع تحليل الجمل وإثارة الشبهات حولها حتى يعقد السهل ويغمض الواضح. والشيخ عليش وهو شيخ من أصل مغربي شهرته في تدينه وعصبيته ورميه الناس بالكفر لأوهى سبب وضيق أفقه وشدة غيرته على الدين بالمعنى الذي يفهمه. ولكن كان هناك آخرون هيأتهم الظروف لأن يتصلوا بالدنيا وحركة التعليم المدنية فاتسع أفقهم كالشيخ البسيوني إمام المعية، وكان ظريفا في شكله وفي ملبسه وفي تأليفه، والشيخ حسن الطويل، وكان ذكيا حكيما له نظرات في الحياة صائبة، يقرأ الفلسفة فيرمى بالزندقة.
هذا هو الأزهر الذي رآه محمد عبده. يقوم التعليم فيه على الفلسفة اللفظية، ويعلم طالبه الدقة في الفهم والقدرة على الجدل، وهذه محمدة، ولكن مع الأسف لا تستخدم هذه الدقة ولا الجدل إلا في الألفاظ، وتجعل صاحبها غارقا في الاحتمالات مما يراه في الحواشي والشروح من التأويلات، فكل شيء يجوز حتى دخول الجمل في البندقة على حد تعبير الشيخ محمد عبده نفسه يتم الطالب الدراسة فيه فيخرج فاهما لبضعة كتب، أما الدنيا وشئونها فإنه يجهلها كل الجهل، فلا جغرافيا ولا تاريخ ولا طبيعة ولا كيمياء ولا رياضة، فكل هذه علوم أهل الدنيا، وما للآخرة والدنيا! ومع هذا فالنزاع على الجراية كثير وعلى الوظائف الصغيرة أكثر، كل شيء خارج عن المألوف كفر أو حرام أو مكروه؛ فتحويل «الميضأة» القذرة إلى «حنفيات» حرام وذهاب للبركة، وقراءة كتب في الجغرافيا أو الطبيعة أو الفلسفة حرام، ولبس «الجزمة» بدعة.
فإن تحركت نفس صالحة للإصلاح خنقت دعوتها في مهدها ورميت بالزندقة.
ومثل هذه البيئة تنتج عقولا جامدة ونفوسا خامدة إلا أن يتداركها الله بمدد من الخارج، وقد ذكر الشيخ محمد عبده نفسه أنه حاول أن يغسل أثر هذه البيئة فنجح في بعض وفشل في بعض، فإن رأيت نابغة خرج منها فبرغمها لا بفضلها. ومن الأسف أن ولاة الأمور من أول الأمر مع علمهم بنقصه وحاجته إلى الإصلاح خوفا من العلماء والرأي العام تركوه وشأنه يأكل بعضه، وأنشأوا بجانبه المدارس المدنية يشكلونها كيفما يشاءون. •••
في هذا الجو عاش صاحبنا نحو اثني عشر عاما، من سنة 1282-1294 حيث نال شهادة العالمية من الأزهر.
وفي هذا الجو المظلم كانت تلمع ثلاثة نجوم أضاءت جوانب نفسه: الشيخ درويش والشيخ حسن الطويل والسيد جمال الدين الأفغاني.
فالشيخ درويش كان يلقاه الشيخ محمد عبده في بلده في الإجازة من نصف شعبان إلى نصف شوال كل عام، فيتمم له ما بدأه منذ لقنه الدرس الأول في التصوف وتنقية العقيدة، ويعرض عليه الشيخ محمد عبده ما درسه في العام وما في نفسه من أزمات فيتلقى ملاحظات الشيخ وإرشاده، وقد لقنه درسين جديدين هامين: الأول نقده الشيخ عبده لعزلته وعدم اتصاله بالناس وقصر عنايته على تكميل نفسه من غير اتجاه إلى إصلاح من حوله، ولم يكتف الشيخ درويش في ذلك بالكلام النظري بل حمله على أن يغشى المجتمعات في البلد معه ويتحدث إلى الناس ويعظهم ويذكرهم، ويدعو محمد عبده للتحدث معهم كحديثه ونصحهم كنصحه، وهو درس انتفع به محمد عبده ونفذه طول حياته إلى نفسه الأخير، فإن زاد السيد جمال الدين شيئا في هذا الدرس فهو تعليمه كيف يختار موضوعات الكلام في الإصلاح. والدرس الثاني الذي علمه الشيخ درويش هو هدمه للنظرية الأزهرية التي تقول إن هناك علوما تعلم وعلوما لا تعلم، فكسر الشيخ درويش هذه الحدود وقرر أن كل العلوم يجب أن تعلم ويجب أن يطلبها الطالب ما أمكن، ولا يستثني من ذلك شيئا إلا ما يتخذ شكل العلم وليس بعلم كالسحر والشعوذة أما المنطق والفلسفة والرياضيات وما إلى ذلك فليست بحرام بل هي واجبة على طالب العلم. ومن أجل ذلك عاد الشيخ محمد عبده إلى الأزهر يطلبها فوجدها عند الشيخ حسن الطويل، وهو شخصية غريبة، ذكاء حاد، ومعرفة بالرياضات حتى كان يحل لطلبة دار العلوم ما أشكل عليهم من تمرينات هندسية، واتصال بكتب الفلسفة القديمة وعلم بمصطلحاتها ومعرفة بالدنيا وبالسياسة، وشجاعة في الكلام بما يعتقد ولو حرم منصبه في دار العلوم، وزهد في الدنيا حتى لا يهمه منها شيء، يلبس قفطانا من البفتة وجبة من البفتة أيضا، ويقال له: إن علي مبارك باشا سيزور دار العلوم غدا فيعزم أن يلبس كما يلبس كل يوم، فينصح بأن يتخذ شيئا من الأناقة، فيقول: إذن أبعث بجبة من الصوف وقفطان من الحرير إلى دار العلوم، أما إن أردتم «حسن الطويل» فهو هو في ملبسه. ويدعى إلى موائد الأغنياء للإفطار في رمضان فيأكل من طبق الفول ويزهد فيما عداه، ويطرد من دار العلوم لكلامه في السياسة فينفق عليه صاحب مقهى بلدي، فإذا عاد إلى عمله سلمه الشيخ حسن الطويل مرتبه ليصرف عليه كما كان يفعل وهو مطرود. ويدرس في الأزهر الفلسفة والمنطق فيحضر دروسه نخبة من الطلبة مثل محمد عبده فيرمى هو وتلاميذه بالزندقة.
ولكن دروس الشيخ الطويل تفتح شهية الشيخ محمد عبده ولا تغذيه، فيجد الغذاء الكافي عند السيد جمال الدين عند حضوره إلى مصر، فيتصل به ويلازمه وتتفتح له آفاق كانت مغلقة ويحس أنه وجد طلبته. •••
كان السيد جمال الدين الأفغاني شعلة ذكاء، وقوة هائلة، متحركة محركة، لا يمسها ماس إلا شحن من كهربائه على قدر استعداده، دائم التفكير دائم القول لمن يفهم ومن لا يفهم، دائم النقد، دافع للحركة والثورة والهيجان في المطالبة بالحقوق، حيثما حل رأيت نارا تشتعل وأفكارا تهيج، ومطالب تطلب، وحكومة تضطرب قد حدد غرضه في الحياة ووهب نفسه للوصول إليه، وهو إنهاض الدول الإسلامية من ضعفها، وتبصرة شعوبها بحقوقها، ورفع نير الأجنبي عنها، وتحديد مركز الحاكم والمحكوم فيها، وربط هذه الدولة كلها برباط واحد مع الخلافة في الأستانة.
ووسيلته في ذلك تنوير عقول الخاصة من أبناء كل دولة حتى يعرفوا مركزهم، وإعدادهم لمهاجمة الغاصبين من الأجانب والمستبدين من الحكام، ثم هؤلاء يعملون لتكوين الرأي العام بكتابة المقالات في الجرائد والمجلات والخطب في المحافل، والأحاديث في المجالس؛ وكلما كانت المقالات والخطب أحر نارا وأجهر بالرأي وأصرح في الدعوة إلى العمل كانت أجود وأنسب. هذه خطته في كل بلد يحله.
اتصل به في مصر محمد عبده، وسعد زغلول، وإبراهيم اللقاني، وإبراهيم الهلباوي. كما اتصل به في مجالسه الخاصة محمود سامي البارودي، وإبراهيم المويلحي، وأديب إسحق وغيرهم، كان له درس علم في بيته، ودروس سياسة واجتماع في مقهاه الذي يجلس فيه، وحيث يكون زائرا أو مزورا.
وكان أقربهم إلى نفسه محمد عبده؛ قرأ فيه «السيد» الذكاء وحسن الاستعداد وطيب القلب والحماسة للإصلاح، وقرأ محمد عبده في أستاذه سعة العقل، وصحة الإرشاد، والسمو في النفس، ونبل الغرض، وشيئا جديدا لم يره في الأزهر.
لم تكن الكتب التي قرأها عليه محمد عبده ذات قيمة في نفسها، فهي من جنس ما كان يقرؤه على الشيخ حسن الطويل، ولكن العبرة ليست بالكتاب، ولكن بشارح الكتاب، والعالم الماهر يستطيع أن يصب كل تعاليمه أثناء كلامه على نملة أو نحلة، ورأى جملة في نظره يستطيع أن ينفذ منها إلى العالم الفسيح.
استفاد محمد عبده من السيد بصرا بالدنيا التي حجبها الأزهر، وتحولا من تصوف خيالي إلى تصوف فلسفي عملي، ورغبة صادقة في العمل للأمة، وشوقا إلى الإصلاح الديني والخلقي والاجتماعي، وميلا ملحا إلى إجادة قلمه حتى يتصل بالرأي العام عن طريق الكتابة في الصحف.
وأحسن الشيخان وحدة الغرض والانسجام فتلازما وتحابا، يحب محمد عبده أستاذه حب إجلال، ويحب الأستاذ تلميذه الكبير حب رعاية وأمل في استخلافه، ووثق الصلة بينهما اشتراكهما في الإباء والعلو والعظمة، إذ يترفعان عن الناس في غير كبر، ويستصغرانهم في عطف من غير احتقار. يقول محمد عبده: «إن أبي وهبني حياة يشاركني فيها علي ومحروس (وهما أخوان له كانا مزارعين) والسيد جمال الدين وهبني حياة أشارك فيها محمدا وإبراهيم وموسى وعيسى والأولياء والقديسين». •••
نال الشيخ محمد عبده شهادة العالمية من الأزهر فلم يكن كغيره كساقية جحا تملأ من البحر وتصب في البحر، بل علم في الأزهر، وعلم في دار العلوم، ومدرسة الألسن، واتصل بالحياة العامة. •••
لم يعلم في الأزهر النحو والفقه كما كان يفعل غيره من المشايخ وخاصة المبتدئين بالتدريس ، فالنحو والفقه كما يدرسان في الأزهر من العلوم النقلية وهو يريد أن يربي العقل، ويفهم الكون، ويهذب الخلق. كان يقرأ في الأزهر أو ملحقاته درسا في المنطق والفلسفة والتوحيد، وكان يقرأ في بيته لبعض الطلبة تهذيب الأخلاق لمسكويه، واعجب له يقرأ لهم أيضا «تاريخ المدنية في أوربا وفرنسا» لمؤلفه الفرنسي «فرانسوا جيزو» الذي عربه «حنين نعمة الله خوري» وسماه «التحفة الأدبية في تاريخ تمدن الممالك الأوربية».
وعين مدرسا للتاريخ في دار العلوم فلم يقرأ لهم ملخصا من ابن الأثير والطبري وإنما قرأ لهم مقدمة ابن خلدون، وألف لهم كتابا في «علم الاجتماع والعمران» فقد ولم يعثر عليه.
واتصل بالجرائد وخاصة الأهرام يكتب فيها مقالات في الإصلاح الخلقي والاجتماعي. •••
كانت مصر في آخر عهد إسماعيل هائجة مائجة إذ وقعت في الدين، فمكن هذا أوربا من التدخل في الشئون المصرية، ومراقبة ماليتها. فأنشئ صندوق الدين والمراقبة الثنائية سنة 1876م = 1293ه وتغلغلت سلطاتها في المصالح الحكومية باسم الدين. ومن الناحية الداخلية كان الوعي القومي ضعيفا لا يرى الناس لهم رأيا يصح أن يبدوه، وليس لهم أن ينقدوا عمل الحاكم، فما على الحاكم إلا أن يأمر وما على المحكوم إلا أن يطيع، فكانت هذه الأمور كلها مدعاة لأولى الرأي في الأمة أن ينهضوا بالصحافة ويشيعوها بين الرأي العام ويقووها، وتعاون على إنهاضها الخديو إسماعيل والسيد جمال الدين الأفغاني ورياض باشا؛ فأما الخديو إسماعيل فرأى من مصلحته ومصلحة الأمة أن تكون الجرائد حرة في نقد التدخل الأوربي، أما إذا نقد هو شخصيا فالعقوبة الشديدة، كما حدث لصاحب جريدة الأهرام لما أشار إلى مال صرف من الخزينة ولم يعلم مصيره، وكما نفي يعقوب صنوع صاحب جريدة «أبو نضارة» لانتقاده أعماله.
وأما رياض باشا فكان ذا رغبة إصلاحية في تنظيم الشئون المالية وتهذيب العقول وتشجيع الآداب، وكان مدركا الخطر الذي يهدد البلاد، فلعل في الجرائد وحريتها ونقدها وتنبيه الشعور القومي ما يدفع هذا الخطر، ولهذا شجع السيد جمال الدين وحزبه على الكتابة.
وأما السيد جمال الدين فثائر على سوء الحال في مصر وجمود الناس وبرودتهم إزاء ما يكتنفهم، فهو يريد أن يشعلها نارا، ولا أصلح لذلك من الجرائد، ولعل دروسه في الفلسفة لم تكن إلا ستارا لبث روح الثورة وإعداد طائفة من الشبان يتصلون بالصحافة ويكتبون.
ربى على هذا طائفة من الشباب الذين ذكرنا.
فبعد اتصال محمد عبده بالسيد بدأ يكتب في الأهرام في السنة الأولى من صدورها سنة 1876، وكان مجاورا، قبل أن ينال شهادة العالمية، فكتب مقالا في «الكتابة والقلم» وآخر في «المدبر الإنساني والمدبر العقلي الروحاني» وثالثا في «العلوم العقلية والدعوة إلى العلوم العصرية» إلخ، وهي مقالات تدل على تأثر بالكتب الفلسفية الشرقية التي درسها وعلى رغبته الخيرة في الإصلاح، وعلى ما يبشر بالخير منه أكثر مما تدل على أسلوب قوي وبلاغة ممتازة.
ثم اتصل بالصحافة اتصالا قويا بعد أن نال شهادة العالمية، بعد أن تنازل الخديو إسماعيل عن عرشه، وتولى توفيق ونفى أستاذه جمال الدين، وتولى رياسة النظار رياض باشا فجد في تنظيم شئون الدولة من مالية وأشغال ومعارف، وكان له ميل قوي إلى تشجيع الحركة الأدبية، فشجع بطرس البستاني على إخراج دائرة المعارف، وكان واسطة في أن يمنحه الخديو إسماعيل منحة مالية وعلمية، وشجع أصحاب مجلة المقتطف على نشرها، وشجع شبلي شميل صاحب مجلة الشفاء. ولما سمع بعزمه على السفر لدراسة الأساليب الحديثة لمرض السل أعانه إعانة مالية على ذلك.
واتجه فيما اتجه إلى إصلاح «الوقائع المصرية» واختار الشيخ محمد عبده لهذا الإصلاح، فضم محمد عبده إليه سعد زغلول، والشيخ عبد الكريم سلمان، وإبراهيم الهلباوي والشيخ محمد خليل والسيد وفا. وكان من وسائل إصلاحهم إنشاء قسم في الوقائع غير رسمي بجانب الأخبار الرسمية تحرر فيه مقالات أدبية اجتماعية إصلاحية، وكان الشيخ محمد عبده هو المحرر الأول.
مكث الشيخ محمد عبده في هذا العمل نحو ثمانية عشر شهرا. وفي الحق أنه برهن فيها على شخصية قوية، فجعل من هذا العمل العادي رقابة على المصالح الحكومية ومنبر للدعوة إلى الإصلاح، فاستصدر قرارا بلائحة تجعل جميع إدارات الحكومة ومصالحها الكبرى ملزمة أن تكتب إلى إدارة المطبوعات بجميع ما لديها من الأعمال الهامة والتي تنوي عملها، والمحاكم أن ترسل جميع نتائج أحكامها وتبيح لإدارة المطبوعات حق النقد لأي عمل من الأعمال حتى وزارة الداخلية التي يتولاها رياض باشا والتي تعد إدارة المطبوعات تابعة لها، وأن تسأل كل مصلحة عن حقيقة ما وجه إليها من نقد في الجرائد العربية والأفرنجية، وعلى الجملة جعلها أداة إشراف على الحكومة وعلى ما ينشر في الجرائد العربية من حيث لغتها وموضوعها، وعلى الجرائد الأجنبية من حيث نقدها، وقد وافق هذا هوى في نفس رياض لأنه يمكنه من ضبط الأمور والإشراف على الجرائد. وقد كتب في هذا العهد مقالات كثيرة أهمها في نقد نظارة المعارف، وكان من أثر ذلك إنشاء المجلس الأعلى لها واختياره عضوا فيه، ونقد لبعض الأخلاق والعادات الاجتماعية والدينية، وتوضيح لنظام الشورى وما يصلح منه في مصر، وأحيانا تصريحا أو تلميحا في تأييد لوزارة رياض باشا ومدحها.
والواقع أن وزارة رياض باشا قسمت البلاد قسمين: مؤيد ومعارض، والمعارض معارض بالحق وبالباطل.
كان رياض يريد الخير لمصر ولكن من طريق التدرج، ويعتقد أن المصريين في حالة تدعو إلى الإشفاق والأخذ بيدهم في هوادة، وهو في هذا قوي جبار ينفذ ما يريد في عنف، له لازمة وهي «هيه» إذا قالها رعب من حوله، لا يعبأ إذا اقتنع بشيء من إصلاح أو بشخص من الأشخاص أن ينفذه ويؤيده مهما كانت النتائج، وإلى ذلك يعتقد في الأجانب من إنجليز وفرنسيين القوة ويسالمهم، ويرى الطريق الوحيد هو التفاهم معهم.
فتألبت عليه الجموع؛ منهم من كرهه لصلفه، ومنهم من كرهه لعدله في إبطال السخرة والضرب بالكرباج، ومنهم من كرهه لسيرته مع الأجانب حتى سموه «رياضستون» على وزن «جلادستون»، ومنهم الطموح الذي كرهه لرجعيته، وشعر الناس بغضب الخديو توفيق عليه لأنه يعارضه في بعض أغراضه وتصرفاته، فشجعهم هذا على محاربته، وتخصصت جرائد لتجريحه وسبه، مع أنه كان مؤيدها من قبل أو خالقها.
هنا بذرت بذرة الثورة العرابية ، وفي هذه الظروف كان الشيخ محمد عبده على رأس الوقائع وإدارة المطبوعات، فكان يهاجم لأنه من اتباع رياض، وكان هو نفسه يشعر بالحرية التامة في نقد الشئون الاجتماعية والعادات الدينية، لكنه يشعر ببعض القيود فيما يمس المسائل السياسية إما اعترافا بجميل رياض عليه وعلى أستاذه، وإما نزولا على مقتضيات الوظيفة، وإما اعتقادا بمذهب رياض في التدرج، وإما كلها مجتمعة.
حتى كانت الثورة العرابية. •••
يكاد يكون في كل جماعة نوعان من القادة: نوع طموح يريد القفز إلى الأمام ولا يرضيه السير البطيء، ولا التفكير الهادئ، ونوع يرى الخير في الهدوء والسير في معالجة الأمور برفق، والإيمان بقانون السبب والمسبب، فإن أردت النتيجة فكون مقدماتها؛ وهذا الميل إلى هذا أو ذاك يتبع المزاج الخلقي - أولا - والتربية والظروف - ثانيا - فمن الناس من خلق هادئ المزاج يصغي إلى حكم العقل، ومنهم من خلق ناري المزاج يحكم بعواطفه ويحكمها؛ وهذان النوعان يسميان أسماء مختلفة باختلاف الأمم والأزمنة: أحرار ومحافظون اشتراكيون وغير اشتراكيين أحزاب اليمين وأحزاب اليسار إلخ. والمعنى واحد وإن تعددت الأسماء.
وكان في مصر في أول عهد الخديو توفيق بالطبيعة هذان المزاجان أو هاتان النزعتان كلاهما يتفق مع الآخر في وصف سوء الحال: الفلاح بائس وشقي وجاهل ومظلوم، ومصر كلها شقية بما جر إليها الخراب من إسراف وتبذير واستدانة، وهي شقية أيضا بتدخل الأجنبي وخاصة الإنجليز والفرنسيين في شئونها حتى تفاصيلها، وشقية بأداتها الحكومية من انتشار الرشوة والمحسوبية وتفصيل العنصر الشركسي والتركي على المصري، وشقية بأن سواد الشعب ضعيف، مستكين للظلم، لا يرفع صوتا من أي جور يناله، ولا يفهم أن له حقا يطالب به كل الأطباء من الفريقين متفقون على تشخصي المرض، فإذا هم أخذوا في وصف العلاج اختلفوا.
فأما فريق المحافظين فيرون برنامج العلاج:
أولا:
في نشر التعليم الصحيح بين أفراد الشعب، على أن يكون من أهم ما يشمله تفهيم الناس الحقوق والواجبات.
ثانيا:
استخدام الصحافة استخداما قويا في محاربة المفاسد وتنبيه الوعي القومي.
ثالثا:
الاجتهاد في أن يكون رئيس الحكومة حازما عادلا ينفذ الإصلاح المعتدل المنشود في قوة.
رابعا:
التدرج في الحكم النيابي بالتوسع في سلطة مجالس المديريات مثلا تبعا للوعي القومي، فإن رقي هذا الوعي بالتربية والتعليم نما المجلس النيابي تبعا له حتى يصبح بعد سنوات والوعي القومي قوي، والمجلس النيابي قوي، ولا فائدة من مجلس نيابي يوضع وضعا قويا ما لم تسنده الأمة والرأي العام. ولا يمكن ذلك الآن والأمة في حالة قل أن نجد فيها معارضا قويا يجرؤ على نقد الحكومة. وكان من هذا الرأي محمد عبده، وسعد زغلول، ومن لف لفهما، وبهذا دعوا فيما كانوا يحررون في الوقائع المصرية وفيما كانوا يقولون ويخطبون، وكانوا يرون في رياض باشا وهو على رأس الوزارة المحقق لهذا الغرض، فهو عدل نزيه حازم ميال للخير محب للإصلاح قابل للاقتناع ممن يثق به على الرغم من عيوبه الأخرى.
أما الطائفة الأخرى فكانت نواتها أفرادا تعلموا في أوربا لا عن طريق البعثة، وعاشوا فيها زمنا طويلا ورأوا نظمها ولمسوا حرية أفرادها، وأعجبوا بحرية ساستها في نقد الحكومة وأعمالها، وعادوا إلى مصر فتقززوا من حالها ونظامها، فدعوا في مجالسهم وجرائدهم إلى إصلاح وثاب. أو أفرادا تعلموا على الأنماط الأوروبية، وتثقفوا ثقافتها، وهؤلاء يريدون حرية شخصية للفرد في أعماله وعقائده، ولا يبيحون للحكومة أن تتدخل فيها، ما لم يقع العمل تحت سلطة القانون، وحرية سياسية تامة في نقد الحكومة وأعمالها، وأهم ما في هذا الباب إنشاء مجلس نيابي مستقل على النظام الإنجليزي أو الفرنسي له الإشراف العام على الحكومة، وهي مسئولة أمامه لا أمام الخديو. وكان على هذا الرأي بعض المصريين، وبعض الجالية السورية.
وتجادل الفريقان في هذه المبادئ أيما جدال؛ وهذا ما يفسر كل ما صدر من الشيخ محمد عبده في مقالاته في الوقائع وغيرها، فهو يعنى فيها بأمر التربية والتعليم، ويلح في إصلاحهما وينال من ذلك بعض غرضه، وينقد العادات السيئة، ويدعو إلى التخلص منها، ويدعو إلى احترام القوانين وإطاعتها. ومن ناحية أخرى يكتب مقالا عنوانه «خطأ العقلاء» يهاجم فيه الفريق الآخر، في دعوته إلى الحرية الشخصية، والحرية الاجتماعية، ففي الحرية الشخصية يرى أنها ضارة ما لم تدعم بالتربية، وإلا سقط الناس في الخمر والقمار وهتك الحرمات، وجاهروا بالإلحاد. بل نراه يفضل «الكبسة» على الحرية الشخصية من غير تربية، والكبسة عادة كانت جارية، وهي أن يهجم رجال الضبط على بعض الأماكن المشبوهة ليلا ليقبضوا على من يظن فيهم الاجتماع لخمر أو فجور؛ فيقول «فالكبسة على ما كان فيها من الخطر على الأنفس والأموال وشناعة الصورة لو أحسن فيها القصد لكانت أولى وأفضل إلى زمن تتقدم فيه التربية، فيكون لكل شخص زاجر من نفسه، فترتفع الكبسة بذاتها» وكذلك رأيه في الحرية السياسية، يرى أن يبدأ بإصلاح المجالس البلدية وتعويد الأهالي السير عليها قبل مجلس نيابي منقول نظامه عن أوربا. ثم يستمر متمسكا بهذا الرأي حين يقول: «إنما ينهض بالشرق مستبد عادل» ردا على من يرى أنه إنما ينهض بالشرق حكم نيابي شامل . ويرى في هذا المقال أن هذا المستبد العادل يستطيع أن يفعل في خمسة عشر عاما الأعاجيب وينقل الأمة خطوة واسعة إلى الأمام.
ويرى الفريق الآخر بأن الحرية الشخصية حق طبيعي للإنسان لا يصح أن يهدر لأي سبب، ومثل من يقول بالقضاء عليها لسوء استعمالها كمن يريد إبطال السكك الحديدية لأن القطار يقتل بعض الأفراد، والعفة التي تحتاج إلى حارس أقل قيمة من أن يحرسها حارس.
وأما الحرية السياسية فلا بد منها لمعالجة ما أصاب البلاد من الاستبداد، والمستبد العادل إذا ظفرت به أمة أعقبه في الأعم الأغلب مستبدون ظلمة، فلا يصلح إلا أن يكون علاجا مؤقتا. والحكم النيابي هو الأمل الوحيد في الإصلاح، فإن كان الناس لم يتعودوه فليتعودوه، ولا بأس من مضي قليل من الوقت حتى يألفه الناس ويسيروا عليه.
وكان من ألسنة هذه الدعوة شاب سوري اسمه أديب إسحق. كان ذكيا كاتبا شاعرا خطيبا مثقفا ثقافة واسعة، مطلعا على شئون العالم الأوربي وتاريخه، يجيد العربية والفرنسية والتركية مطلعا على آدابها، وأسلوبه في الكتابة أقوى من أسلوب الشيخ محمد عبده وصحبه يوم كانوا يحررون في الوقائع، تتلمذ أيضا للسيد جمال الدين في مصر، وتشرب من روحه، وكان متأثرا تأثرا كبيرا بالعقلية الفرنسية، على حين كان الشيخ محمد عبده متأثرا بالعقلية الأزهرية والشرقية. وحتى في سيرته الشخصية كان مستهترا مسرفا على نفسه، على حين كان الشيخ محمد عبده متدينا ورعا.
كان لأديب إسحق هذا جريدتان يحرر فيهما، وهما «مصر» و«التجارة»، وكان شعلة ملتهبة يعيش عيشة عنيفة على حساب أعصابه، فكان يهاجم الاستبداد، ويطالب بالحكم النيابي في أكمل صوره. يقول: لقد عرف الناس الآن شرور الاستبداد. وترفعت نفوسهم بالعلم عن الرضا به، وصار الأمر شوري عند جميع الدول المتمدنة إلا الروسيا، وذلك إن صحت تسمية الدولة المستبدة مطلقا بدولة متمدنة. إن ثورة فرنسا برزت إلى عالم الفعل عام 1789 وصدمت قوة الاستبداد فزلزلتها، ودفعت سطوة التقليد فضعضعتها، ورفعت عن العيون نقابها، وعن النفوس حجابها، فآنست من جانبها نور الحرية، وخلعت جلابيب الرق والعبودية، فتصدى لها أعوان الرق وأنصار العبودية وما آلوا في قتالها جهدا، فلقيتهم وهي ترى الموت في الحرية حياة، والحياة في الرق موتا، فلم يبلغوا منها قصدا، ورسخت في عالم الوجود قدمها، وأدهشت الدنيا بشدة حولها إلخ. ويهاجم رياض باشا وصحبه في مذهبهم، وينعي عليهم اعتقادهم في ضعف المدارك المصرية، ويقول: «زرت رياض باشا على عهد الوزارة الأجنبية في ديوان الداخلية، فقابلته خارجا من الغرفة فجلسنا على مقعد الباب، فقال: كيف ترون الحال؟ قلت: رأي الوزير أوسع. قال: وما الذي يبلغكم من أخبار الريف؟ قلت: إن الناس أملوا كثيرا ولم ينالوا شيئا فأوشكوا أن يعودوا إلى اليأس بعد الرجاء، والوزير يعلم أن النكسة شر من الداء، فقال بازدراء: فليرجعوا إلى حالة الخسف، ويعانوا عذاب الظلم. قلت: إنهم لا يرومون ذلك، ولكن يرومون نيل الحرية وتأييد الكلمة الوطنية. فقال متهكما: ألا يرجون مجلس النواب؟ قلت: لا بدع أن يطلب الشيء من معدنه. فقال: أي معدن في مثل هذا المجلس؟ وكيف يرجى له البقاء، وليس في مصر من يعلم شيئا من أحوال السياسة الدولية ليصلح أن يكون نائبا؟ قلت: إن صح هذا الرأي فلا يقضي بحرمان البلاد من نعمة الشورى، فإن النواب المصريين يستطيعون النظر في أمورهم الداخلية وأحوالهم الزراعية وما يترتب عليه نفع البلاد ليستجلبوه، وما ينشأ عنه الضرر ليجتنبوه، وهم بذلك أحق من غيرهم، فإن صاحب البيت بالذي فيه أدرى. فهمهم بكلام لا يفهم وانصرفت».
وكان يكثر الكلام في الوطن والوطنية، والحقوق والواجبات، والدستور وغير ذلك من الموضوعات الملونة بالثقافة الفرنسية، مع الاجتهاد في وضع مصطلحات عربية موفقة.
وكان زعيم أديب إسحق وصحبه هو شريف باشا، إذ كان شريف كما صوره الشيخ محمد عبده «من أقوى عوامل النهضة التي انقلبت إلى فتنة. كان من القائلين بأن النفوذ الأجنبي قد بلغ حدا لم يكن يمكن أن يبلغه لو لم يتساهل رياض باشا بالتسليم للأجانب في كل ما يطلبون. وكان يقنع جلساءه أنه إذا حكم أوقف الأجانب عند حدودهم وسار بالوطن شوطا عظيما في مجده»، وكانت سياسته إنشاء مجلس النواب في صورة قوية «وأخذ الناس يقولون: لا صلاح في الاستبداد بالرأي وإن خلصت النيات، فرأي واحد عرضة للخطأ وإن تحققت نزاهته من الغرض».
وكان هؤلاء ينظرون إلى محمد عبده وصحبه وعلى رأسهم رياض بأنهم حزب رجعي. ويظهر أنه لم يكن رجعيا وإنما كان حزبا مصلحا محافظا يرى التؤدة ولا يرى الطفرة.
وقد أغلق رياض جريدتي «أديب إسحق ونفاه»، ولما ألف شريف مجلس النواب استداعاه وعينه رئيسا لقلم الإنسان والترجمة بنظارة المعارف، ثم سكرتيرا في مجلس النواب، ثم مات شابا في التاسعة والعشرين من عمره.
ومع الأسف لم يكن مصدر الثورة هذا الحزب الذي يطالب بالمجلس النيابي والحرية الشخصية، ولو كان لاتخذت الثورة وضعا آخر، ولنظر إليها على أنها ثورة من الأمة لتحقيق العدل. إنما بدأت الثورة من الحزب العسكري وعلى رأسه عرابي يطالبون بتحقيق المساواة بين الضباط المصريين والضباط الشركسيين، ولكن اتسعت الثورة رويدا رويدا، وزادت مطالب عرابي باشا شيئا فشيئا؛ فتزعم أيضا الوطنيين وطلاب المجلس النيابي، وانضم إليه سلطان باشا أول الأمر ، وكان من الناقمين على رياض والمطالبين بالحكومة النيابية، وبانضمامه انضم كثير من الأعيان وعلماء الأزهر، ثم انضم الشعب بأجمعه تهيجه الجرائد الثائرة، وعلى رأسها عبد الله نديم، وامتزجت مطالب الجنود بمطالب الأعيان بمطالب الأهالي، وطلب العدالة الضباط بطلب الحكم النيابي بإلغاء الاستبداد ذلك وكل تنفذه القوة العسكرية.
لو حكمنا منطق الواقع فيما سيحدث لقلنا: إن الشيخ محمد عبده لا ينغمس في هذه الثورة العرابية مطلقا لا في أولها ولا في آخرها؛ لأنه لا يؤمن بالحكم النيابي السريع، ولأنه يشايع رياض باشا، ولأنه لا يرضى أن تكون الثورة بيد العسكريين، ولأنه يكره شخصيا عرابي باشا، ويعتقد أنه شهم في الكلام ضعيف في الحرب، يحتكم إلى المنامات أكثر مما يحتكم إلى العقل، أليق به أن يكون واعظا للعوام من أن يكون زعيم أمة، وإن كان طيب القلب حسن النية، ولكنا نجده بإقراره مناهضا للثورة في أولها، مشايعا لها في آخرها . وليس بصحيح ما يقال من أنه لما تطور أمر الثورة من مطالبة بالمساواة العسكرية إلى مطالبة بالحكم النيابي انضم إليها، فإنه لم يكن يؤمن بالحكم النيابي العاجل كما قدمنا. إنما الأمر في نظري أن مسائل الحياة لا تجري على المنطق دائما وخاصة أيام الثورات. وحوادثنا القريبة في ثوراتنا الحديثة أكبر شاهد على ذلك. فكم انتقل رأي الكبراء من ناحية إلى ناحية تحت تأثير تيار الرأي العام؛ فالشيخ محمد عبده رأى كل الأمة في ناحية الثورة، واشترك فيها المسلمون والأقباط واليهود، ولم يشذ عنها إلا أحد رجلين: رجل لا في العير ولا في النفير، وهو لا بد أن يكون في العير وفي النفير، ورجل انضم إلى الخديوي توفيق يشايعه ويتملقه، وتوفيق باشا في نظر الشيخ محمد عبده لا يصح أن يكون أحد بجانبه بعد أن استعان بالدول الأجنبية في إخماد الثورة، ومالأ الأجانب على قومه. أضف إلى ذلك أن الأمر آخرا لم يصبح أمر حزب أمام حزب، بل أمر مصر أمام الإنجليز، فلا بد أن يكون مع قومه وينشد:
وما أنا إلا من غزية إن غوت
غويت وإن ترشد غزية أرشد
فإذا نحن تساءلنا: ما أثر الشيخ محمد عبده في هذه الفترة؟
قلنا: إن له أثرا كبيرا اعترف به حزبه وخصومه والذين حققوا معه وحاكموه.
فقد نبه الأفكار إلى الإصلاح فيما كتب في الصحف وما تحدث في المجالس، وما اتصل بالهيئات المختلفة، فكان مصدرا كبيرا لشعور الناس بسوء الحال والحاجة إلى الإصلاح مهما اختلف هو وغيره في طريق العلاج. وكان يعده أصحابه وأعداؤه من أقوى العقليات الموجودة إن لم يكن أقواها، ومن أقوى الشخصيات التي تعمل للخير حسبما تعتقد من غير أنانية. فمن يوم أن عين في تحرير الوقائع وهو جم النشاط يحرر ويراقب، ويتصل بالمصالح الحكومية، ويغشى المجالس، مجلس رياض، وعلي مبارك، وسلطان، وعرابي، وطلبة، والسراي. وفي كل هذه المجالس يقول ويجادل، ويقنع ويقتنع، ويثير الحماسة للعمل. وكان للثورة العرابية مصادر، فكان هو مصدرا من مصادرها، ولكنه سبب بعيد، لا كعبد الله نديم سبب قريب، ثم انقلب الشيخ محمد عبده سببا قريبا يوم حميت النار، فلئن اتهم بأنه من زعماء الثورة وحوكم عليها لقد كان ذلك حقا. •••
هذا هو الشيخ في بيروت بعد أن قبض عليه لاشتراكه في الثورة العرابية وأودع في السجن ثلاثة أشهر للتحقيق، لاقى فيها الأمرين من اضطهاد وإهانة وشماتة أعداء وتنكر أصدقاء وتضييق بالأسئلة وإحراج في الاستجواب، ثم حكم عليه بالنفي ثلاث سنوات.
يقيم في بيروت نحو عام سنة 1883 وسنه إذ ذاك نحو أربع وثلاثين سنة.
ثم لا يلبث أن يدعوه أستاذه السيد جمال الدين ليوافيه إلى باريس فيلبي الدعوة، ويشتركان في إخراج مجلة «العروة الوثقى»
1
للسيد التوجيه والروح ورسم الخطط وإبداء الأفكار، وللشيخ التحرير والصياغة وتفصيل المعاني.
إدارة الجريدة في غرفة صغيرة في سطح منزل في باريس، هي مكان التحرير وملتقى الأتباع ومجمع الأفكار، وهذه الغرفة الصغيرة أثارت الأفكار وأخافت الإنجليز والفرنسيين، وأقلقت راحتهم، أكثر مما أخافتهم عمارات ضخمة وإدارات فخمة، بل أكثر مما أخافتهم الجنود والبنود، فالعبرة بالسكان لا بالمكان.
وهذا الشيخ محمد عبده يتأثر بباريس ، بما يطلع على شئونها ومعيشة أهلها. فيطيل شعر رأسه ويلبس الطربوش ويحتفظ بالجبة والقفطان، ولكن مع الأسف لم يكن له من الفراغ ما يتعلم فيه الفرنسية، فمهمته تستغرق كل وقته، فهو وأستاذه وقليل من الأتباع يحملون عبء التفكير والتحرير والتصدير، وتمهيد السبل السرية والعقلية لوصول المجلة إلى أنحاء العالم الإسلامي، وتأسيس فروع مركزية لمساعدتها وانتشارها وتحقيق أغراضها.
والقارئ للمقالات التي كان يحررها الشيخ محمد عبده في الوقائع المصرية ومقالات «العروة الوثقى» يرى الفرق الكبير بينهما في الاتجاه والغرض والأسلوب والحرارة.
كانت مقالات «الوقائع» بحكم الطبيعة تقصد إلى الإصلاح الاجتماعي في مصر وحدها بأسلوب هادئ يغلب عليه العقل والتحفظ والتدرج، ومقالات العروة الوثقى تنظر إلى العالم الإسلامي كله على أنه وحدة، فإن ذكرت مصر أو الهند فعلى سبيل المثال، وكانت تقصد أول ما تقصد إلى مناهضة الاحتلال الأجنبي بجميع أشكاله، وتهدف إلى رفع نيره عن العالم الإسلامي كله عن طريق ثورة الشعوب، وبث روح العزة القومية بواسطة العقيدة الدينية الصحيحة، وخلق الأمل في النجاح مكان اليأس، وتوثيق الصلات بين الشعوب الإسلامية كلها لتتعاون على دفع أذى الأجنبي عنها، والتخلص من المستبدين الظالمين من أهلها، وتأسيس الحياة الاجتماعية والدينية والسياسة على أسس أصول الإسلام الأولى: من إعداد السلاح ومقابلة القوة بالقوة وطرح العقائد الدخيلة التي تدعو إلى الاستسلام، مثل رمي العبء كله على القضاء والقدر، وإفهام الشعوب أن الإسلام في شكله الصحيح لا يتنافى مع المدنية، ولا يعوق التقدم والوصول إلى ما وصلت إليه الأمم الأخرى.
هذه المعاني القوية أكسبت أسلوب الشيخ محمد عبده قوة لا تجدها في «الوقائع». ثم إننا نلاحظ أن «الشيخ» متى اتصل بالأستاذ فناري من ناره، وثائر من ثوراته، وعاطفي من حرارة وجدانه، فإذا انفصل عنه عاد إلى حكم العقل والمنطق وزالت ثورته، وخفت حدته.
وحدث في هذه الأثناء أن سافر الشيخ محمد عبده إلى «لندن» وكانت الثورة المهدية في السودان، والإنجليز لم يثبتوا أقدامهم في مصر، ووعودهم بالجلاء تتابع، فلعل في رجال الإنجليز من أعضاء البرلمان من يصغي إلى صوت الإنسانية، وحق البلاد في الاستقلال، فكان الشيخ محمد عبده وقد عاد إلى عمامته في البرلمان الإنجليزي يحدث أعضاءه، ويحدث رجال السياسة، ورجال الصحافة، وهو في كل ذلك وطني مصري مخلص يطلب الجلاء والوفاء بالوعود، ويوضح حقيقة الحال في الثورة العرابية ودسائس الأوربيين فيها، وكراهية الشعب للحكم الأجنبي، وأنهم يفضلون استبداد الحكام من أهلها على الأجنبي من غيرها مهما كانت سيرته، ويهدد بأن المصريين سوف لا يدفعون الضرائب، وسيجعلون حكم الأجانب مستحيلا، سواء أكانوا إنجليزا أو فرنسيين، ويقرر أن انتشار الأمية في مصر لم يفقد أهلها الشعور الطبيعي برغبتها أن تحكم نفسها، والإسلام الذي بين جوانحها يحرم عليها الاستسلام لغيرها.
ولكن متى خضعت القوة للحق، ومتى ضحيت المصلحة للإنسانية، ومتى عفا الأسد عن فريسته؟
لقد عاد الشيخ محمد عبده إلى باريس يائسا، وزاد الأمر سوءا أن نجحت إنجلترا في اضطهاد «العروة الوثقى» والتضييق عليها، فاحتجبت بعد ظهور ثمانية عشر عددا منها في ثمانية أشهر، وسافر السيد جمال الدين إلى فارس، وعاد الشيخ محمد عبده إلى بيروت، فإن كانت «العروة الوثقى» لم تخلق أشجارا كما كانا يؤملان فقد نثرت بذورا تنتظر الجو الطبيعي والغذاء الصالح لتبدأ في النمو ولتكون بعد أشجارا وإن انتفع بها الأعقاب.
سكن الشيخ محمد عبده بيروت فانقطع عنه مدد الثورة والهياج السياسي الذي كان يمده به السيد جمال الدين، وعاد إلى طبيعته من ميله إلى الإصلاح العقلي والديني وتجنب السياسة، وكانت الظروف حوله تدعو إلى ذلك؛ فقد فشلت الثورة العرابية، وأقفلت جريدة العروة الوثقى، ولم تنجح مفاوضاته مع الإنجليز، وهو الآن يقيم في بيروت حيث الدولة العثمانية في عهد السلطان عبد الحميد الذي يخنق الحرية ويملأ البلاد بالجواسيس يحصون على الناس أنفاسهم.
لهذا كله كان الشيخ محمد عبده في بيروت عالما ومعلما فقط، يملأ زمنه بالتأليف والتعليم، شرح نهج البلاغة ومقامات بديع الزمان، وأخذ يدرس تفسير القرآن في مسجدين من مساجد بيروت على الطريقة التي اتبعها بعد في مصر، لا يتقيد بكتاب في التفسير خاص ، إنما يقرأ الآية من القرآن ويفسرها من عنده بما يختار من التفسير، ويستطرد في شرح أحوال المسلمين ونقدهم حسبما تلهمه الآية.
ودعي للتدريس في المدرسة السلطانية ببيروت فأصلح برامجها ونقلها إلى درجة أرقى بكثير مما كانت، نقلها من شبه مدرسة أولية إلى شبه مدرسة عالية، وشغل نفسه بالتدريس فيها أكثر الوقت، فكان يدرس التوحيد والمنطق والبلاغة والتاريخ الإسلامي، والفقه على مذهب أبي حنيفة، واتخذ بيته ندوة للحديث العلمي والأدبي والسمر المفيد، وكان لبقا في دروسه وأحاديثه، يشتاق إليها المسلم والنصراني.
وكان من آثار إملائه ودروسه ما كان أساسا لما نشره بعد في مصر من رسالة التوحيد وشرح البصائر النصيرية في المنطق.
وعلى الجملة فقد خلق في بيروت حركة علمية راقية استفاد منها كثير من أهلها.
ولم ينس الجرائد، فكان يكتب في جريدة «ثمرات الفنون» مقالات تشبه تلك التي كان يحررها في الوقائع، مثل مقالته في الدعوة إلى «النقد » والحث عليه وأنه أداة لتمحيص الآراء ومعرفة وجه الحق في الأفكار إلخ.
والتفت إلى المصالح العامة للدول الإسلامية، فوضع لائحتين في إصلاح التعليم الديني في مدارس المملكة العثمانية بمناسبة صدور إرادة سنية من السلطان عبد الحميد بتشكيل لجنة تحت رياسة شيخ الإسلام لإصلاح البرامج في المدارس الإسلامية، وقد رفع الشيخ محمد عبده إحداهما إلى شيخ الإسلام في الأستانة، يرى فيها أن ضعف المسملين سببه سوء العقيدة والجهل بأصول الدين، وأن ذلك أضاع أخلاقهم وأفسدها، وأن العلاج الوحيد هو إصلاح التعليم الديني، وقد رسم لذلك خططه.
ورفع لائحة أخرى إلى والي بيروت تتضمن إصلاح سوريا ووصف سوء حالها وتقسم النزعات السياسية لها بانتشار المدارس الأجنبية فيها، واقترح تعميم المدارس الوطنية، وإصلاح برامج التعليم الديني والعناية به.
ومع انقطاعه للعلم وبعده عن السياسة لم يخل من متاعب، بسبب حسد بعض الضعفاء الجبناء، أو بسبب حدة مزاجه، وكان إذا احتد جرح، فاضطر إلى ترك التدريس في المدرسة السلطانية لما شعر بسوء جوها.
كانت مدة نفيه التي حكم عليه بها ثلاث سنوات، ولكنه مكث في المنفي نحو ست سنين، لأن الأمر لم يكن حكما بالنفي فقط، بل كان أكثر من ذلك غضب الخديو توفيق عليه، لأنه كان ممن اتهم في الثورة العرابية بجهره بخلع الخديو؛ وربما كان هذا هو السبب الحقيقي في محاكمته دون غيره ممن اشتركوا في الثورة العرابية مثل اشتراكه. وقد كرر هذا المعنى أثناء حديثه وهو في إنجلترا مع بعض مكاتبي الجرائد، فقد سأله مكاتب «البول ميل جازيت» عن رأيه في الخديو، فقال الشيخ: «إن توفيق باشا أساء إلينا أكبر إساءة، لأنه مهد لدخولكم بلادنا، ورجل مثله انضم إلى أعدائنا أيام الحرب لا يمكن أن نشعر نحوه بأدنى احترام، ومع هذا إذا ندم على ما فرط منه وعمل على الخلاص منكم ربما غفرنا له ذنبه إننا لا نريد خونة وجوههم مصرية وقلوبهم إنجليزية».
لهذا كان من العسير عودته إلى مصر في عهد توفيق، ولكن عادت وزارة رياض باشا إلى الحكم وسعى عند الخديو جماعة في العفو عنه، منهم الأميرة نازلي، ولم تكن تعرفه ولكنها سمعت عنه كثيرا من رجال منتداها ومنهم سعد زغلول، وكانت حسنة الصلة مقبولة الرجاء عند اللورد كرومر، ومنهم الغازي مختار باشا، وأفعل شفاعة كانت بطبيعة الحال شفاعة اللورد كرومر، وقد قال في كتابه «مصر الحديثة»: «إن العفو صدر عن الشيخ محمد عبده بسبب الضغط البريطاني». وينسب بعضهم الفضل الأول في العفو لمختار باشا. والمطلع على الأحوال في ذلك الوقت يعرف أنه ما كان الخديو توفيق يعفو إلا برضا اللورد كرومر أو ضغطه.
وهنا يصح أن نتساءل: ماذا كان وراء الستار؟ واللورد كرومر لا يقدم على هذا لمجرد رجاء البرنسيس نازلي ورجال ندوتها، وهو يعلم ما كان من الشيخ محمد عبده مع السيد جمال الدين في العروة الوثقى التي هاجمت إنجلترا أشد مهاجمة وعدتها أكبر خصم المسلمين؟
الذي يظهر لي أن أصدقاء الشيخ محمد عبده في مصر استوثقوا منه أنه إن عاد لا يشتغل بالسياسة العليا، فقد جربها واكتوى بنارها، ولم يفد منها ما يرجو لأمته والعالم الإسلامي، وإنما يعمل على الإصلاح الديني والنظم الدينية، وهذا لا يضر موقف الإنجليز في مصر في شيء. وعلى هذا الأساس قبل اللورد كرومر شفاعة الأصدقاء، وضغط على الخديو توفيق فسمح له بالعودة، وسار الشيخ محمد عبده على النحو الذي سنبينه.
ونتساءل أيضا: هل يلام الشيخ محمد عبده على هذا الموقف؟
ونرى أيضا أنه لو أعد نفسه ليكون زعيما سياسيا يرمي إلى تحرير وطنه لكان موضع اللوم في هذه الخطة ولعد ذلك تراجعا. ولكن يظهر من تاريخ الشيخ محمد عبده كله أنه لا يحب السياسة ويلعنها ويلعن مشتقاتها، ولم يشتغل بالسياسة إلا حين دفعه التيار في الثورة العرابية، أو حين كان تحت تأثير أستاذه السيد جمال الدين الناري المزاج في «العروة الوثقى». أما هو فيرى في نفسه أنه معلم منير عقول، مفهم للحقوق والواجبات، مصلح للعقيدة الإسلامية، مدافع عن الإسلام، كان كذلك قبل الثورة، وكان كذلك في بيروت، فلم يتنكر لمبادئه حين أفهم اللورد كرومر موقفه بواسطة أصدقائه. ولعل هذا هو سبب ما نلحظه من فتور في العلاقات بين السيد جمال الدين والشيخ محمد عبده من ذلك الحين، «وكل ميسر لما خلق له». •••
ماذا يصنع الشيخ محمد عبده في مصر وقد عاد إليها؟ إن مصر التي يدخلها اليوم غير مصر التي تركها.
لقد أصبح كل شيء في يد الإنجليز، لهم في كل نظارة من يستبد بالأمر فيها دون الناظر، حتى الداخلية وحتى التعليم وحتى الأزهر والمحاكم الشرعية. النظار قطع شطرنج يلعب بها الإنجليز، والمديرون في البلاد خاضعون للمفتش الإنجليزي، والعميد الإنجليزي مقصد كل ذي حاجة، والمقرب إلى الإنجليز مقبول الشفاعة، مقضي الحاجة، واسع الجاه، والمبعد عنهم معطل الحوائج، مضطهد، محارب حتى في أدق الأمور والخديو توفيق مسالم يأخذ بنصائح الإنجليز حتى في الجلاء عن السودان، ويقول لمكاتب التيمس: «إن أمامي واحدة من ثلاث خطط في الحكم: إما اتباع نصائح إنجلترا ظاهرا والعمل على محاربتها في الخفاء، أو إطاعتها إطاعة عمياء، أو أناقش نصائحها بكل صراحة وأبدي آرائي فيها، فإذا قبلت فيها، وإلا فأنا مضطر لقبولها، وقد اتبعت في الحكم الطريقة الأخيرة، فرميت بالضعف، فهل كان يمكنني أن أقاوم إلى النهاية؟»
إن أهم غرض للشيخ محمد عبده كان إصلاح العقيدة الإسلامية والمؤسسات الإسلامية كالأزهر والأوقاف والمحاكم الشرعية، ومثل هذا الإصلاح لا بد أن يعتمد فيه المصلح على سلطة قوية تحمي ظهره، وإلا كان كأي عالم من علماء الأزهر لا تسمع له كلمة، ولا يؤبه له بدعوة، فعلى أي السلطات يعتمد؟ أعلى الخديو توفيق وهو يكرهه كل الكراهية، ولو ترك الأمر ما أعاده من منفاه؟ ثم هو ليس له من الأمر شيء، ولكنه على كل حال السلطة الشرعية، والمؤسسات الدينية التي يريد إصلاحها أمس به.
أم على الإنجليز وفي يدهم القوة، ولو عاونوه في الإصلاح لتحقق بفضل نفوذهم، ولكن أليس من المهانة أن يستعان على ذلك بالأجنبي المحتل للبلاد؟ ولو استعان بهم لظللت دعوته بظلال من وحي الأجنبي، وظن الناس الظنون بكل ما يدعو إليه. ولكن هم الذين لهم الفضل في دخوله مصر، ولولاهم لظل مبعدا، ثم هم لا يمانعون في الإصلاح الديني والمؤسسات الدينية، إذ هذا الإصلاح لا يؤثر في مركزهم في مصر، فما الضرر من الاستعانة بهم لتحقيق الغرض ولو اتهم وكره؟
أم يعتمد على الأمة وهي ضعيفة منهوكة ممزقة لم يتكون فيها وعي قومي، ولا شعور بالعزة، وكبراؤها أسوأ ما فيها! ثم إن إصلاح العقيدة والمؤسسات الدينية يهيجها كما هو الشأن دائما؛ لأنها ألفت الفاسد حتى لم تشعر بفساده، فإذا دعيت إلى الإصلاح هاجت وماجت ورمت الداعي بالكفر والزندقة، فكيف يعتمد عليها في الإصلاح؟
أعتقد أن هذا وأمثاله هو ما كان يدور في ذهن الشيخ محمد عبده ويحيره وهو في طريقه إلى مصر وعند عودته.
وأظن أنه وضع قرارا في أعماق نفسه بمسالمة الخديو ما استطاع والاستعانة بالإنجليز فيما ينوي من إصلاح.
يدل على هذا أنه وضع تقريرا بعد عودته عما يراه في وجوه إصلاح التعليم في مصر، ورفعه إلى اللورد كرومر لا إلى غيره تسليما منه بأنه القوة الفعالة، ويدل عليه سيرته الواقعية؛ فقد ظل طول حياته بعد عودته يسالم الإنجليز ويتعاون معهم، وهي سياسة لها منطقها؛ فقد كان يرى أن جلاء الإنجليز وصلاح السياسة المصرية لا يأتي إلا عن طريق استنارة الشعب وفهمه لحقوقه وواجباته، وغضبه من الاعتداء على حقوقه وهمته في أداء واجباته، ومصر لم تبلغ هذا المبلغ، ووسيلة إصلاحها التعليم ثم يرى أن مسألة مصر لا تحل بمواجهة مصر لإنجلترا، بل بالحالة الدولية العامة، والتفات الدول إلى أن مصلحتها في استقلال مصر؛ وإلى أن يحدث ذلك يجب على القادة أن ينيروا الشعب بالتعليم ولا يجعلوا كل همهم الاشتغال بالسياسة؛ فهو ينقد جمال الدين لأنه صرف كل جهوده في السياسة دون الإصلاح الداخلي للشعوب، وينقد الأميرة نازلي في أنها انصرفت إلى المجهود السياسي ولم تؤسس جمعية للنهضة النسائية مثلا وإذا حضر مجلسها لم يحب أن يتكلم في السياسة، وهي لا تحب إلا أن يتكلم في السياسة.
وكان في مصر رأيان؛ رأي يقول: إنه لا أمل في الإصلاح الحقيقي إلا بزوال الاحتلال أولا، ورأي يرى أن الإصلاح الحقيقي الداخلي هو وسيلة الجلاء، وعلى الرأي الثاني كان الشيخ محمد عبده وأصحابه، وعلى الرأي الأول كان مصطفى كامل وأصحابه، وبينهما حرب عوان، يتهم الأولون الآخرين بالرعونة، ويتهم الآخرون الأولين بالرجعية والضعف.
وطبيعي أن يكون الزعماء السياسيون من الرأي الأول، والمصلحون الدينيون والاجتماعيون من الرأي الثاني. وفي الحق أن السيد جمال الدين كان زعيما للناحيتين أو على الأقل اعتقد أن رسالته إصلاح العقيدة الدينية والإصلاح السياسي بمهاجمة الاحتلال الأجنبي، ولكنهما لم يجتمعا إلا في يده، ثم من بعده دعا دعاة إلى هذا ودعاة إلى ذلك، فخلفه في مصر في إصلاح العقيدة الشيخ محمد عبده وتخلى عن السياسة، وخلفه في السياسة فقط عبد الله نديم، ثم مصطفى كامل، ثم سعد زغلول.
ومن الإنصاف إذا قومنا الشيخ محمد عبده في هذه الناحية أن نراعي كل ظروفه وكل الأحوال في زمنه، فلم يكن الشيخ محمد عبده بدعا في هذا الاتجاه، فمثله في ذلك كان السيد أحمد خان المصلح العظيم في الهند، فقد رسم خطته أن يصلح الشئون الاجتماعية والدينية لمسلمي الهند مع مسالمة الإنجليز حتى لا يحاربوه في إصلاحه.
ولما اقتنع بهذه النظرية سار عليها قولا وعملا، وقد استفتي مرة في الاستعانة بالأجانب فكان من فتواه: «قد قامت الأدلة من الكتاب والسنة وعمل السلف على جواز الاستعانة بغير المؤمنين وغير الصالحين على ما فيه خير ومنفعة للمسلمين، وأن الذين يعمدون إلى هذه الاستعانة لجمع كلمة المسلمين وتربية أيتامهم وما فيه خير لهم لم يفعلوا إلا ما اقتضته الأسوة الحسنة بالنبي
صلى الله عليه وسلم
وأصحابه، وأن من كفرهم أو فسقهم فهو بين الأمرين إما كافر أو فاسق، فعلى دعاة الخير أن يجدوا في دعوتهم وأن يمضوا على طريقتهم، ولا يحزنهم شتم الشاتمين ولا يغيظهم لوم اللائمين، فالله كفيل لهم بالنصر إذا اعتصموا بالحق والصبر».
فهو في هذه الفتوى يعبر عن مذهبه ويبرر موقفه، والقارئ لهذه الفتوى يشعر بما يشعر الأستاذ فيها من مرارة وغيظ.
على كل حال هذا مفتاح لفهم سياسته، وما لاقى في حياته من عناء، وفي إصلاحه من دسائس، وفي شخصه من تهم، وفي طريقه من عوائق. •••
عاد الشيخ محمد عبده وهو يأمل أن يكون ناظرا لدار العلوم أو أستإذن فيها، فيعيد فيها ما بدأ، وينير أذهان المعلمين لينيروا أذهان الطلبة، ولكن لم يرض الخديو توفيق بذلك، لأنه إذا فعل أوصل التيار الكهربائي إلى الأسلاك، وهو تيار بغيض إليه، ولعل الإنجليز أيضا لم يرضوا ولو شاءوا لضغطوا، فعين قاضيا أهليا في محكمة بنها ثم الزقازيق ثم عابدين، ثم عين مستشارا في محكمة الاستئناف، ولم يكن هذا غريبا، فقد كان يعين في القضاء أي مثقف ممن تمرن على المحاماة ولم تكن معه شهادة، أو ممن تخرج في دار العلوم أو نحو ذلك.
ورأى نفسه وهو قاض في وسط يدل بمعرفته للقوانين الفرنسية وشروحها، فأبت نفسه الطموح أن يكون أقل شأنا منهم، فبدأ يتعلم اللغة الفرنسية وهو قاض في عابدين وسنه إذ ذاك نحو الأربعين، وجد فيها حتى بلغ شأنا لا بأس به، وقد أطلعه تعلمها على ميدان فسيح استفاد منه كثيرا مما قرأ في اللغة الفرنسية، وقد ترجم كتاب التربية لسبنسر بعد أن نقل من الإنجليزية إلى الفرنسية، وكان يكمل تعلمه الفرنسية برحلاته إلى سويسرا وفرنسا، ويستمع إلى بعض المحاضرات ويقابل بعض العظماء، وكما يقول: يجدد نفسه.
وقد امتاز في قضائه بتحريه الحق وتقديره العدالة أكثر مما يقدر نصوص القانون، ويرجع هذا إلى سعة أفقه ودراسته للشريعة الإسلامية وعدم تشكله تماما بالقلب القانوني، ولذلك شكا بعض زملائه من أنه يتحرر من النصوص القانونية، ولما سئل في هذا اعترف به ودافع عن وجهة نظره. •••
مات الخديو توفيق وتولى الخديو عباس سنة 1892 وقد عاد من فيينا ممتلئا حماسة وغيرة وتصميما على مناهضة الاحتلال، وأخذه خطة جديدة غير خطة أبيه المستسلمة، والتف حوله بعض شباب مصر المتحمسين، وبقايا رجال الثورة العرابية الذين تألموا من الهزيمة ولم ييأسوا من تغير الحال، ووراءهم تركيا وفرنسا تشجعانهم على حركتهم، وقد ضاع نفوذهما على يد توفيق فأملا عودته على يد عباس.
وبدأ الخديو عباس بتغيير رجال الحاشية وإحاطة نفسه بما يتفق وسياسته، وبدأ يتعرف أحوال مصر بنفسه، ويتصل بالموظفين والأعيان، وأحيانا يرأس مجلس النظار، وبدأت إنجلترا تشعر بما سيصادفها من متاعب على يد هذا الشاب، وتنتهز الفرص لإحراجه، وقد وجدوا هذه الفرصة عندما أقال الخديو مصطفى فهمي باشا من رئاسة النظار، وعين حسين فخري باشا بدله من غير رجوع إليهم، وجاءت برقية من وزارة خارجية إنجلترا بعدم الموافقة على تعيين حسين فخري، وأنه لا بد من أخذ رأيها فيمن يعين، وأن الخديو إذا رفض فإن العاقبة ستكون وخيمة. وتحرجت الأمور، ورأى عباس أن تنازله عن العرش أهون من رجوع مصطفى فهمي، وأكثر من الاستشارات والاتصالات، وأخيرا وجد الحل في استقالة حسين فخري وتعيين رياض باشا بالاتفاق مع اللورد كرومر، فكانت هذه أول صدمة للخديو عباس.
رأى الشيخ محمد عبده أن آمال عباس في الإصلاح يجب أن تستغل، ووضع خطة أن يتقرب إليه ويوثق الصلة به، ويحسن إليه برنامجه في الإصلاح مع حسن علاقته أيضا بالإنجليز، فيكسب السلطتين ويعتمد عليهما في تحقيق أغراضه الإصلاحية ويتم له ما يريد. ولكن ستبين الحوادث أن هذا خيال، وأن الجمع بين صداقة السلطتين كالجمع بين الماء والنار، وأن إرضاء إحداهما إغضاب للأخرى لا محالة.
على كل حال تقرب محمد عبده من عباس بواسطة محمد ماهر باشا، ورحب الخديو بذلك، إذ يسره أن يجمع حوله أقوياء الرجال، وتقابلا مرارا سرا وجهرا، وحسن إليه الشيخ محمد عبده أن يتجه إلى إصلاح الشعب الثلاث المتصلة بالدين، والتي لا شأن للإنجليز بها، والتي في صلاحها صلاح للأمة، وتقوية لمركز الخديو. إذ في ذلك برهان قوي على أنه إذا وكل إليه الأمر أحسن خيرا مما يحسن الإنجليز في إدارتهم، وهي: الأزهر، والأوقاف، والمحاكم الشرعية وليكن البدء بالأزهر فاقتنع الخديو بذلك، وكلفه تقديم تقرير، ففعل واعتمد، وصدر القرار بتشكيل مجلس إدارة للأزهر برياسة الشيخ حسونة، وفيه الشيخ محمد عبده، والشيخ عبد الكريم سلمان، مندوبين الحكومة، واعتمده مجلس النظار سنة 1895، وصدق عليه الخديو، وأتيحت الفرصة للشيخ محمد عبده لإصلاح الأزهر الذي تمناه من يوم أن كان مجاورا ساخطا على سوء حاله.
يا لله وإصلاح الأزهر! ما حاوله أحد ونجح، ولا الشيخ محمد عبده، لأن كل المحاولات كانت تتجه إلى هامش الموضوع لا أساس الموضوع، وكانت عن سبيل استرضاء أهله والخوف من أي قلق واضطراب، والأزهريون يتزعمهم طائفة ألفت القديم حتى عدته دينا، وكرهت الجديد حتى عدته كفرا، وعاشت في المغارات فلم تر ضوءا، وأفنت عمرها في فهم لفظ، وتخريج جملة، وتأويل خطأ. فلم تر حقائق الدنيا. فإذا أتى مصلح سمم أهله الجو حوله، واحتموا بالدين يخيفون به الحكومة، ويكسبون به عامة الشعب، وخنقوا الطائفة القليلة من شبابه النازعين إلى التجديد، وحرصوا على مراكزهم أن يكتسحها الإصلاح، وجاههم أن ينتقل إلى يد المصلحين، وبجانبهم طائفة أخرى تؤمن بالقديم عن صدق وإخلاص، ولكن عن ضيق أفق، وغفلة عن الحق، هم من جنس ما قال أهل الحديث عن بعضهم: «نتطلب دعوتهم ولا نقبل شهادتهم»، فتتجمع كل هذه العوامل، فيضطر المصلح أخيرا إلى الانسحاب إن غضب، أو المداراة والمسالمة والرضا إن لم يغضب. وتضطر الحكومة أن تتخلى عن إصلاح الأزهر حبا في السلامة، وتتركه يأكل بعضه بعضا، وتنشئ بجانبه المعاهد لمعلمي اللغة العربية والقضاء الشرعي، لتستطيع تنظيمها والإشراف عليها إذ أعجزها الإشراف على الأزهر، ومع هذا لا يخلو الجو من شغب يقلق بال الحكومة الحين بعد الحين، بين الأصل والفرع، وما يحتضنه الأزهر من طلاب وعلماء، وما تحتضنه الحكومة، وتترك ذلك للزمن، والزمن لا يحل المشكل، والمشكل لا يحل إلا بالعلاج الحاسم، وهو أن يتبع الأزهر الحكومة تبعية الجامعة، ويستقل استقلالها، ويخضع في نظمه لما ترشد إليه علوم التربية الحديثة ويرقى برقيها، ثم ينفذ ذلك من غير خشية.
أخذ الشيخ محمد عبده يحرك مجلس الإدارة للإصلاح، وبدأ بالمسائل الشكلية من زيادة رواتب المدرسين وتنظيمها، ووضع لائحة لكساوي التشريف، وتنظيم الجراية ومساكن الطلبة والإشراف الصحي عليهم، والامتحان، فلما تعرض لشيء من الأساس، وهو ماذا يدرس في الأزهر، واختيار الكتب، وطرق التدريس، وبرامج الدراسة. زادت العقبات في سبيله، واضطر أخيرا إلى الانسحاب. فكانت معالجته «برشاما» للصداع لا علاجا لأصل الداء. وفي الحق أنه لم يكن يمكنه في مثل ظروفه غير ذلك. •••
ظل الشيخ محمد عبده يعمل في القضاء ويحرك مجلس إدارة الأزهر للإصلاح حتى سنة 1899، وحدث أن كثرت الشكوى من المحاكم الشرعية وقضاتها، ففكر مستشار الحقانية الإنجليزي في إلغائها وضمها إلى المحاكم الأهلية، ولكن حسبوا حسابا لهياج الرأي العام فأرادوا أن يفعلوا ذلك تدريجا، وذلك بتعيين مستشارين من محكمة الاستئناف عضوين في المحكمة الشرعية العليا، فلم يرض بذلك جمال الدين أفندي قاضي مصر التركي، ولا الشيخ حسونة النواوي شيخ الأزهر ومفتي الديار المصرية، وعرض المشروع على مجلس شورى القوانين فرفضه، ووقف الشيخ حسونة موقفا شديدا صلبا انتهى بتركه المنصبين، ووقف المشروع، وكان الشيخ محمد عبده يطمح في أن يعين مكان الشيخ حسونة في المنصبين، فيقبض على ناصية الأزهر ويتمكن مما ينوي من إصلاح، ولكن أسرع الخديو فعين الشيخ عبد الرحمن القطب النواوي للمشيخة، والشيخ محمد عبده للإفتاء، فأثر ذلك في نفس الشيخ محمد عبده وآمن بأن الخديو لا يطمئن إليه في باطن نفسه، ولم يمض نحو شهر حتى مات الشيخ القطب وعين مكانه الشيخ سليم البشري، فاعتقد الشيخ محمد عبده أن إصلاح الأزهر قد تعقد بهذا الوضع، فلم يكن يطمئن إلى الشيخ البشري اطمئنانه إلى الشيخ حسونة، ويراه لا يؤمن بإصلاح، ويداري ولا يصارح، ويعمل بإشارة السلطة لا بوحي من نفسه؛ ومع هذا فمنصب الإفتاء خلع على الشيخ محمد عبده وجاهة دينية ممتازة، وهو نفسه قد خلع على المنصب بشخصيته إجلالا واحتراما، وزاد في ذلك تعيينه في السنة نفسها عضوا دائما في مجلس شورى القوانين.
وظلت العلاقة بينه وبين الخديو عباس حسنة في ظاهر الأمر، فالخديو يستشيره إذا تعقدت الأمور بينه وبين الإنجليز، كاستشارته له عند ما أرادوا تعيين قاض مصري بدل القاضي التركي، وكان الخديو لا يرى هذا الرأي لأنه يضعف صلة مصر بتركيا ويمكن من سلطة الإنجليز، وكاستشارته له في مسألة «ليون فهمي» الأرمني، وكان قد قبض عليه الخديو وحبسه في سراي رأس التين لاتهامه بتزوير أختام باسم رئيس كتاب «يلدز» وأراد اللورد كرومر أن يفتش عنه في السراي، ورأى الخديو أن هذا منتهى الإهانة، وقد أشار الشيخ محمد عبده على الخديو بما أنقذه من الموقفين.
كان الشيخ محمد عبده إلى هذا الحين يتفق ورأى الإنجليز في أن الخديو ليس من مصلحته ولا مصلحة مصر أن يحارب جماعة تركيا الفتاة خدمة لتركيا وفيهم قوم أحرار لم يرضهم ظلم عبد الحميد ولا عسفه ولا استبداده، وأن الخير للخديو أن يوجه النظار إلى ترقية الشئون المصرية كالتعليم وإصلاح المحاكم الشرعية وإصلاح الأزهر، فهو بذلك يخدم بلاده.
والشيخ محمد عبده يصدر في هذا عن مزاجه وطريقته في التفكير والإصلاح، ويتكلم في ذلك في مجالسه الخاصة فيبلغ الخديو فيسرها له.
ولكن حدث أن خلا مكان لكسوة التشريفة في الأزهر فأراد الخديو أن يشغلها الشيخ محمد راشد مفتي المعية، ولم يكن تنطبق عليه اللائحة الموضوعة، فأوعز الشيخ محمد عبده بعدم تنفيذ ذلك الأمر وإعطائها للمستحق، وزاد الطين بلة أن العلماء لما اجتمعوا عند الخديو في التشريفات كلم الخديو شيخ الجامع في غضب وتوبيخ، فرد الشيخ محمد عبده في حدة: «إذا شاء أفندينا أن تكون كساوي التشريف بمقتضى إرادته الشخصية فليصدر بذلك قانونا آخر ينسخ هذا القانون» فلما سمع الخديو هذا الرد احمر وجهه ووقف إيذانا للحاضرين بالانصراف وآلى على نفسه أن يحرج المفتي ويكيد له حتى يخرجه من منصبه، وينتقم من فعلته.
ثم أعقب ذلك وقوف الشيخ محمد عبده وحسن باشا عاصم في أرض يريد الخديو استبدالها، ورأيا أن هذا العرض ليس في مصلحة الوقف، وحملا مجلس الأوقاف الأعلى على رفض هذا الاستبدال إلا إذا دفع للوقف عشرون ألفا فرقا بين الصفقتين.
انكشف الغطاء وظهر العداء ودبرت المؤامرات ودست الدسائس، وكلما أمعن الخديو في ذلك اضطر الشيخ محمد عبده إلى كثرة الاتصال بالإنجليز، وكلما اتصل زاد غضب الخديو حتى لقد هم الخديو بعزله من الإفتاء، فصرح اللورد كروم «أنه لا يوافق على عزله من منصب الإفتاء مهما كانت الأحوال ما دام موجودا».
والشيخ محمد عبده جاد في إصلاح الأزهر والنهوض بالجمعية الخيرية الإسلامية لنشر التعليم وإعانة المنكوبين، ورسول السلام بين مجلس الشورى والحكومة وداعي المصالحة فيما تعقد من الأمور، يكسب من الإنجليز بقدر ما يستطيع، وهو موضع ثقة المجلس وثقة الحكومة وثقة الإنجليز، يستشيرونه في كثير من الأمور فيشير بما يعتقده الحق؛ ثم هو ينير الخاصة بما ينشر من أفكاره في الدين والإصلاح الاجتماعي والأخلاقي والسياسي على مذهبه.
وهو يحارب أشد محاربة وأعنفها من جهات متعددة: الخديو عباس يتخذ السيد توفيق البكري وغيره وسيلة للإفساد بينه ويبن رجال الأزهر، وتحريض أعضاء المجلس على الاستقالة حتى يحل محلهم من يكرهون الشيخ محمد عبده ويقفون في سبيله. وكثير من شيوخ الأزهر يخاصمونه لأنه يهدم قديمهم وإلفهم ويطلع عليهم بجديد لم يألفوه، ويشيعون بين العامة كفره وزندقته .
والحزب الوطني وعلى رأسه مصطفى باشا كامل يحاربه ويرميه بالمروق من الوطنية، لأنه يشايع الإنجليز ويتخذهم أعوانه، وتكتب التقارير السرية ضده للآستانة، فإذا سافر إليها استقبل استقبالا سيئا، وعملت التدابير لإهانته لولا لطف الله.
والجرائد الهزلية تشهر به أشنع تشهير، إما بإيعاز من خصومه وقبض الثمن منهم، وإما مجاراة للعوام وأشباههم باسترضائهم لترويج جرائدهم.
في كل يوم حادثة، وفي كل ميدان موقعة، وفي كل جريدة ذكر، وفي كل مجلس مناظرة بين الاتهام والدفاع، واسم الشيخ محمد عبده على كل لسان، وعيشته عذاب في عذاب، وهو لا تفتر قوته، ولا تخبو عزيمته، وإن كان كل ذلك يهد في أعصابه ويهدم من كيانه.
لقد تلقى المفتي سؤالين من بعض مسلمي الترنسفال وهما:
السؤال الأول:
بقر يضرب على رأسه بالبلطة حتى تضعف مقاومته ثم يذبح قبل أن يموت بدون تسمية الله عليه، فهل يجوز أكل لحمه؟
فأفتى الشيخ بحلها فقامت عليه قيامة العلماء يقولون إنها محرمة لأنها هي الموقوذة التي حرم الله أكلها، والشيخ يقول: إن الموقوذة هي ما ضربت بشيء غير محدد كالحجارة والخشب حتى ماتت، وهذه ذبحت قبل موتها.
والسؤال الثاني:
يوجد أفراد في هذه البلاد (الترنسفال) يلبسون البرانيط لقضاء مصالحهم وعود الفوائد عليهم، فهل يجوز ذلك أم لا؟
فأفتى أيضا بالجواز وقال: «أما لبس البرنيطة إذا لم يقصد فاعله الخروج من الإسلام والدخول في دين غيره فلا يعد مكفرا، وإذا كان اللبس لحاجة من حجب الشمس أو دفع مضرة أو دفع مكروه أو تيسير مصلحة لم يكره كذلك».
فهيجت عليه الجرائد كجريدة الظاهر، وأثارها محمد بك أبو شادي عليه حربا شعواء، وكذلك جريدة اللواء.
وزاد خصومه وقاحة فلفقوا صورة شمسية له مع بعض نساء الإفرنج وحملوها للورد كرومر، وأفهموه أن هذا في عرف المسلمين لا يجوز صدوره ممن يتولى منصب الإفتاء، فلم يأبه لقولهم. وصورته الجرائد الهزلية «كالأرنب وحمارة منيتي» بصور شنيعة، وحكم على أصحابهما بالحبس.
وهكذا لم يتورع خصومه أن يحاربوه بأسفل الوسائل، وكان بعض هذا يكفي لعدوله عن جهاده، وكان بعض أصدقائه كسعد زغلول وقاسم أمين يعيبون عليه إلحاحه في إصلاح الأزهر، وهو غير ممكن بهذا الوضع، وهو مع كل هذا مصر على المضي في عمله تشحذه الخصومة، ويأرق بعض الليالي مفكرا في وسائل الإصلاح ويقول: إن وجداني الديني لا يرضى بالصمت عن المفاسد.
وآخرون من خلصائه كانوا يعيبون عليه عداءه للخديو على هذا الوجه، ويرون أن الأجدر به أن يغضي النظر عن هفواته، ويقولون: ماذا عليه لو أعطى كسوة التشريف لغير مستحقها أو تماهل في استبدال الوقف، ثم كان ثمن ذلك أن تطلق يده في الإصلاح كما يريد، وحينئذ يجد من الخديو كل عون! ولكن فاتهم أن الطبيعة تأبى أن تخلق من علي معاوية أو أن تجعل من عمر عمروا.
وعابوه أنه نظر إلى الخديو عباس من جانبه الأسود وهو شرهه المالي، وجشعه المادي، ووسائله الوضيعة في ذلك، ولم ينظر إلى جانبه الأبيض وهو إباؤه الاستسلام للمحتلين وتشجيعه الحركة الوطنية وتغذيتها وتنميتها. بل إن (الشيخ محمد عبده) كان يناهض أيضا دعاة الحركة الوطنية، ويرميهم بالتهور ويقنع في آماله الوطنية بالقليل، كما يدل عليه خطاباه اللذان نشرا بعد موته وكان قد أرسلهما إلى صديقه مستر «بلنت» يشرح فيهما مذهبه في الإصلاح السياسي، وفيهما قناعة لا ترضي الوطنيين، وقد أثارا نفوس الخديو والوطنيين وحتى بعض المعتدلين.
ولكن مهما كان الأمر فإن العظيم يجب أن يقدر من جميع جوانبه لا من جانب واحد، وقد كان الشيخ محمد عبده مصلحا دينيا ومصلحا اجتماعيا ومصلحا للغة والأدب، وشخصية بارزة في التفكير، وأخيرا سياسيا. فإن هو لم يوفق في سياسته فهذا لا يقلل من نواحيه القيمة الأخرى، نعم يسقط الرجل في السياسة أن يشترى بمال أو يبيع ذمته لمنصب. ولكنا نجزم أن الشيخ محمد عبده كان وفيا لأمته مخلصا نزيها، يسلك هذا المسلك السياسي عن عقيدة وتقدير للمصلحة، ويجتهد أحيانا فيخطئ وتحمله الظروف القاسية أحيانا على ما يكره.
والحق أن كثيرا من شيوخ الأمة كانوا في ذلك الوقت على مثل رأيه السياسي، كسعد باشا زغلول، وفتحي باشا زغلول، وحسن باشا عاصم، ومحمود باشا سليمان وغيرهم من رجال حزب الأمة، ولكنه هوجم من هذه الناحية أكثر مما هوجموا، لأن الخديو عباس كان يؤلب عليه أكثر مما يؤلب عليهم، ولأن الناس اعتادوا أن يروا رجال الدين بعيدين عن السياسة وخاصة مع المحتلين.
في سنة 1905 كان الأزهر هادئا وعلى رأسه السيد على الببلاوي، وكان رجلا يرتاح إلى الشيخ محمد عبده ويرتاح محمد عبده إليه، والأمور سائرة سيرا طبيعيا، فظهرت فجأة حركة تدعو إلى الشغب وتشكو من شيخ الأزهر ومن مجلس الإدارة، وكان القائمون بها من المتصلين بالسراي، على أثر رفض الشيخ محمد عبده وحسن عاصم استبدال الوقف الذي أشرنا إليه وعلى أثر هذا الشغب استقال السيد على الببلاوي، وعين الخديو عباس الشيخ عبد الرحمن الشربيني، وهو ممن لا يستطيع الشيخ محمد عبده العمل معهم لرجعيته وجموده. وخطب الخديو في حفلة الإنعام بالخلعة على الشيخ الشربيني خطبة فيها خفة تدل على الغيظ الشديد من الشيخ محمد عبده وصحبه، قال فيها: «إن الإزهر أسس وشيد على أن يكون مدرسة دينية إسلامية تنشر علوم الدين في مصر وجميع الأقطار العربية ... ولقد كنت أود أن يكون هذا شأن الأزهر والأزهريين دائما، ولكن من الأسف رأيت فيه من يخلطون الشغب بالعلم ومسائل الشخصيات بالدين، ويكثرون من أسباب القلاقل ... وأول شيء أطلبه أنا وحكومتي أن يكون الهدوء سائدا في الأزهر، والشغب بعيدا عنه فلا يشتغل علماؤه وطلبته إلا بتلقي العلوم الدينية النافعة البعيدة عن زيغ العقائد وشغب الأفكار، لأنه مدرسة دينية قبل كل شيء، وقد استقال السيد علي الببلاوي رعاية لصحته، وقد جريت منذ اثنتي عشرة سنة على أن أقبل استقالة كل من يستقيلني من وظيفته، فقبلت استقالته، ومن يستقيلني من وظيفته سواه فأنا مستعد أن أقبل منه جريا على العادة التي اتبعتها.. ومن يحاول بث الشغب بالوساوس والأوهام أو الإيهام بالأقوال، أو بواسطة الجرائد والأخذ والرد، فليكن بعيدا عن الأزهر، ومن كان أجنبيا من هؤلاء (يريد السيد محمد رشيد صاحب «المنار ») فأولى أن يرجع إلى بلاده، ويبث فيها ما يريد من الأقوال والآراء المغايرة للدين ولمصلحة الأزهر والأزهريين».
فلم ير الشيخ محمد عبده بدا من الاستقالة، وقد آمن بعجزه عجزا تاما عن إصلاح الأزهر الذي يريده.
لم يلبث بعد هذه الحادثة أن أحس وطأة المرض، فعزم على السفر إلى أوربا للاستشفاء، ولكن لم يمنعه ذلك من العمل في مجلس الشورى ومجلس الأوقاف والجمعية الخيرية الإسلامية، وامتحان دار العلوم، وإعداد مشروع مدرسة القضاء. ثم ألح عليه المرض واختلف الأطباء في تشخيصه: هل هو المعدة أو الكبد؟ ثم تبين أنه مع الأسف السرطان، فأشاروا عليه بعدم السفر. وفي يوم 11 يولية سنة 1905 فاضت روحه إلى ربها عن نحو ستة وخمسين عاما، وكان برمل الإسكندرية في منزل صديقه محمد بك راسم. وقرر مجلس النظار أن تحتفل الحكومة رسميا بتشييع جنازته في الإسكندرية ومصر، وكان مشهدا مهيبا رائعا، ثم دفن بقرافة المجاورين.
وكان الخديو متغيبا عن مصر فأنب من احتفل به أو احتفى بجنازته من رجاله. رحمه الله.
وبعد فما إصلاحه؟ وما مبادئه في الإصلاح؟ وما أثرها في الأمة؟ •••
صوره السيد جمال الدين مرة تصويرا لطيفا، إذ رأى منه عزة نفس وإباء ضيم، وترفعا عن سفاسف الأمور وطموحا إلى معاليها، فقال له: «أي ملك في جلدك؟»
ومع هذه العزة والإباء كان حي الضمير حساس النفس عطوفا على البائسين والمنكوبين، فماله أقله له وأكثره للإعانة والإغاثة والنجدة؛ يصف شعوره في حريق ميت غمر فيقول: «لما قرأت وصف الحادثة كان لهب الحريق يأكل قلبي أكله لجسوم أولئك المساكين، ويصهر من فؤادي ما يصهر من لحومهم، أرقت تلك الليلة ولم تغمض عيناي إلا قليلا، وكيف ينام من يبيت يتقلب في نعم الله وله هذا العدد الجم من إخوة وأخوات يتقلبون في الشدة والبأساء، أردت أن أبادر بما أستطيع من المعونة وما أستطيع قليل لا يغني عن الحاجة ولا يكشف البلاء، ثم رأيت أن أدعو جمعا من أعيان العاصمة ليشاركوني في أفضل أعمال البر في أقرب وقت» وكذلك فعل في كثير مما أصاب البلاد من بلاء.
وصوره السيد جمال الدين مرة أخرى فقال له: «إن بين برديك قردا يخرج رأسه في بعض الأحيان» يشير إلى ما يعتريه من الحدة أحيانا كالذي كان منه مع الخديو عباس مما رويناه قبل، وفي الدرس إذا سئل سؤالا سخيفا، وفي بعض تصرفاته، ولكن هذه الحدة كانت أيضا مصدر قوة له، فكان يغضب لما يعتقده الحق، وينفعل لما يصيب من أذى، والمنكوبين من مكروه، ثم هذه الحدة أضفت عليه من المهابة والتوقير الشيء الكثير.
وهو مع هيبته وحدته طيب القلب سليم الصدر، وفي لأصدقائه، لطيف الحديث، سمح النفس، ينصف الناس في الحق حتى من نفسه، أميز شيء فيه شجاعته الأدبية، لا يداري ولا يماري، ويقول ما يعتقد أمام أي عظيم، ويعتمد في شجاعته على ربه وإيمانه، وكم سببت له شجاعته وصراحته من متاعب احتملها في صبر وثبات، علما منه بأن المقدمة لا بد أن تتبعها النتيجة.
وكان أهم خصائصه غيرته الشديدة على الإسلام والمسلمين، هي محور أعماله ومصدر آلامه وآماله. حدثني صديق قال: «كنت أسير مع الأستاذ في «جنيف» من أعمال سويسرة، وكنا نتلقى معا بعض المحاضرات الصيفية في جامعتها، فجاء ذكر الإسلام والمسلمين، فقال الشيخ: إني وهبت حياتي لإصلاح العقيدة الإسلامية وتنقيتها مما علق بها من الخرافات والأوهام. فقلت: وهل الدين عند العوام إلا الخرافات والأوهام؟ وماذا يبقى عندهم لو زالت؟ فرأيته وقد احمر وجهه وغضب غضبة ما رأيته غضب مثلها، فتأولت ما قلت حتى هدأت ثورته.
كم لاقى من عناء في سبيل إصلاحه، وكم اتهم وكم سب وكم دس له، وكم نصحه أصدقاؤه أن يستريح من هذا العناء ويعود إلى القضاء فما طاوعته غيرته أن يسمع لقولهم.
لقد ذكر الشيخ محمد عبده ما يصح أن يكون مجمع إصلاحه، ومجمل رسالته فقال: «ارتفع صوتي بالدعوة إلى أمرين عظيمين: الأول تحرير الفكر من قيد التقليد، وفهم الدين على طريقة سلف الأمة قبل ظهور الخلاف، والرجوع في كسب معارفه إلى ينابيعها الأولى، واعتباره من ضمن موازين العقل البشري التي وضعها الله لترد من شططه، وتقلل من خلطه وخبطه ... وأنه على هذا الوجه يعد صديقا للعلم، باعثا على البحث في أسرار الكون، داعيا إلى احترام الحقائق الثابتة، مطالبا بالتعويل عليها في أدب النفس وإصلاح العمل ... وقد خالفت إليه رأي الفئتين العظيمتين اللتين يتركب منهما جسم الأمة: طلاب علوم الدين ومن على شاكلتهم، وطلاب فنون هذا العصر ومن في ناحيتهم. والأمر الثاني إصلاح أساليب اللغة العربية في التحرير سواء كان في المخاطبات الرسمية أو في المراسلات بين الناس وكانت أساليب الكتابة في مصر تنحصر في نوعين كلاهما يمجه الذوق، وتنكره لغة العرب: الأول ما كان مستعملا في مصالح الحكومة وما يشبهها، وهو ضرب من ضروب التأليف بين الكلمات، رث خبيث غير مفهوم ولا يمكن رده إلى لغة من لغات العالم، لا في صورته ولا في مادته. والنوع الثاني ما كان يستعمله الأدباء والمتخرجون من الجامع الأزهر ، وهو ما كان يراعي فيه السجع وإن كان باردا، وتلاحظ فيه الفواصل وأنواع الجناس وإن كان رديئا في الذوق، بعيدا عن الفهم، ثقيلا على السمع غير مؤد للمعنى المقصود. «وهناك أمر آخر كنت من دعاته والناس جميعا في عمى عنه ... ولكنه الركن الذي تقوم عليه حياتهم الاجتماعية، وما أصابهم الوهن والضعف والذل إلا بخلو مجتمعهم منه. وذلك هو التمييز بين ما للحكومة من حق الطاعة على الشعب، وما للشعب من حق العدالة على الحكومة. نعم كنت فيمن دعا الأمة المصرية إلى معرفة حقها على حاكمها، وهي لم يخطر لها هذا الخاطر على البال من مدة تزيد على عشرين قرنا؛ دعوناها إلى الاعتقاد بأن الحاكم وإن وجبت طاعته هو من البشر الذين يخطئون وتغلبهم شهواتهم، وأنه لا يرده عن خطئه، ولا يقف طغيان شهوته إلا نصح الأمة له بالقول والفعل، جهرنا بهذا القول والاستبداد في عنفوانه، والظلم قابض على صولجانه، ويد الظالم من حديد، والناس كلهم عبيد له أي عبيد. «ولم أكن في كل ذل كالإمام المتبع، ولا الرئيس المطاع غير أني كنت روح الدعوة وهي لا تزال بي في كثير مما ذكرت قائمة، ولا أبرح أدعو إلى عقيدتي في الدين، وأطالب بإتمام الإصلاح في اللغة وقد قارب. أما أمر الحكومة والمحكوم فتركته للقدر يقدره، وليد الله بعد ذلك تدبره، لأنني قد عرفت أنه ثمرة تجنيها الأمة من غراس تغرسه، وتقوم على تنميته السنون الطوال، فهذا الغراس هو الذي ينبغي أن يعنى به الآن، والله المستعان».
في هذا القول الموجز كل حياة الشيخ محمد عبده الإصلاحية، وكل رسالته، وكل نجاحه وفشله. ثلاثة أمور اتجه إليها: إصلاح الدين، وإصلاح اللغة والأدب وإصلاح السياسة، فلنذكر كلمة في عمله في كل منها.
فأما إصلاحه الديني فاتجه فيه إلى إصلاح الأزهر، وكان رأيه أنه إذا أصلح خدم العالم الإسلامي أكبر خدمة، لأنه سيخرج قوما غيورين على الدين، متنورين، ينبثون في جميع العالم الإسلامي فيحملون مثل رسالته ويقومون بمثل دعوته؛ وقد استعان على ذلك بالخديو والإنجليز وبمنصبه وجاهه وأصدقائه، ثم كان من أمره ما ذكرنا؛ ولهذا وأمثاله وصفه اللورد كرومر بأنه كان رجلا مستنير الرأي بعيد النظر، خياليا، حالما بعض الشيء، ولكنه كان وطنيا صادقا».
ومع أنه لم يصل في الأزهر إلى ما يريد، ولا إلى بعض ما يريد فقد خلف فيه طبقة مستنيرة، وإن كانت قليلة، اعتنقت مبادئه وتشعبت بآرائه، وإن لم تكن لها حماسته وغيرته.
واتخذ أهم وسيلة لإصلاح العقيدة تفسير القرآن الكريم، جعله ديدنه، يدرسه في بيروت في مسجدين، ويدرسه في أحد مساجد القاهرة وهو قاض، ويدرسه في الأزهر وهو في القضاء والإفتاء، ويتخذ موضوع محاضرته في الجزائر تفسير سورة العصر، ويفسر جزء عم لتلاميذ مدارس الجمعية الخيرية الإسلامية، وينشر دروسه في التفسير في مجلة المنار ليقرأ في العالم الإسلامي.
كان يقرأ الآية فإذا اتصلت بالعقيدة شرحها شرحا وافيا، مستعرضا ما ورد في القرآن في موضوعها، مبينا ما دخل على المسلمين في هذه العقيدة من فساد ودخيل، وإذا اتصلت الآية بالأخلاق أبان أثر هذا الخلق في صلاح الأمم وضياعه في فسادها، وإذا اتصلت بحالة اجتماعية أوضح أثر هذه الحالة الاجتماعية في حياة الأمم، مسترشدا بالواقع مستشهدا بما يجري في العالم، في بيان متدفق ولسان ذلق وصوت جميل أخاذ؛ فهو تفسير عملي يشرح الواقع ويبين سببه، وهو أخلاقي يدعو للعمل على مبادئ الإسلام ويبين أنها منبع السعادة في كل العصور، وهو روحاني يدعو إلى السمو بالنفس إلى العالم العلوي، وينزه الله عما دخل على العقيدة من فساد بالإشراك مع الله الأولياء وعبادة الأضرحة والتشفع بأهل القبور وإقامة الموالد ونذر النذور؛ وهو في كثير من مبادئه يشبه تعاليم الوهابية في الرجوع إلى الأصول الأولى للإسلام، وتنقيته من البدع والخرافات والأوهام؛ ولكنه أوسع أفقا بتقبله ما صلح من مبادئ المدنية الحديثة والأخذ بها ما اتفقت والإسلام.
الإسلام دين توحيد لا شرك فيه، تنزيه لا تجسيم فيه، وهو دين يعتمد على العقل ويستنهضه لإدراك أن العالم له صانع واحد عالم قادر، والعقل ضروري للدين، فهو المرشد إليه ، والدين ضروري للعقل لأنه يكمله ويقومه.
والإسلام يفسح صدره للعلم ويدعو إليه، لأن العلم يكشف أسرار الكون، وذلك يفضي إلى معرفة الله وإجلاله.
وهو في تفسيره يحاول التوفيق بين الإسلام ونظريات المدنية الحديثة: ويتبع طرقا من التأويل وتفسير نظريات العلم يخونه فيها التوفيق أحيانا.
أكبر قيمة له في تفسيره أنه كان يحيي العواطف، ويحرك المشاعر أكثر مما يستقصي بحث المسائل العلمية؛ فهو يتجه إلى القلب أكثر مما يتجه إلى العلم والعقل متأثرا في ذلك بطبيعة الدين نفسه، أفادته سعة اطلاعه على الفلسفة الإسلامية، ثم اتصاله بالثقافة الغربية وقراءته بعض أصولها ورحلاته إلى أوربا وملابسته لحياتها ومقابلته لبعض فلاسفتها وسماعه بعض محاضرتها، أن ينظر إلى حال المسلمين نظرة إشفاق في عقيدتهم وأعمالهم، فيبث كل ما يرى من إصلاح حول تفسير آيات القرآن.
واستمر يدرس هذا الدرس في الأزهر نحو ست سنين، كان يحضره كثير من علية القوم وكبار القضاة والموظفين وشباب الأزهر والمدارس العالية، وكان درسه ذا أثر كبير فيهم.
كان يرى أن إصلاح المسلمين من طريق دينهم أيسر وأصح من إصلاحهم من طريق الإصلاح المعتمد على مجرد العقل ومقياس المنفعة والتقليد الأوربي، وأن هذا الطريق هو الذي سلكه جميع المصلحين المسلمين. يقول: «إن الغرض الذي يرمي إليه جميعهم إنما هو تصحيح الاعتقاد وإزالة ما طرأ عليه من الخطأ في فهم نصوص الدين، حتى إذا سلمت العقائد من البدع تبعها سلامة الأعمال من الخلل والاضطراب، واستقامت أحوال الأفراد، واستضاءت بصائرهم بالعلوم الحقيقية، دينية ودنيوية، وتهذبت أخلاقهم بالملكات السلمية، وسرى الصلاح منهم إلى الأمة ... وإذا كان الدين كافلا بتهذيب الأخلاق، وصلاح الأعمال، وحمل النفوس على طلب السعادة من أبوابها، ولأهله من الثقة به ما بيناه، وهو حاضر لديهم، والعناء في إرجاعهم إليه أخف من إحداث ما لا إلمام لهم به، فلم العدول عنه إلى غيره؟»
وعلى هذا الأساس في التفكير كان يريد أن يسيطر على برامج التعليم في المدارس حتى يصلح النفوس من هذا الطريق بالتوسع في التاريخ الإسلامي، وبث مبادئ الدين الصحيح، ولهذا كان ينتهز كل فرصة لتقديم تقرير عن التعليم؛ فعل ذلك لما كان في الوقائع قبل الثورة العرابية، حتى شكل مجلس التعليم الأعلى بناء على سعيه، وكان هو فيه عضوا بارزا، وفعل ذلك عندما كان في بيروت، فكتب تقريرا في إصلاح التعليم رفعه إلى شيخ الإسلام في الأستانة حتى لم يتحرج أن يرفع تقريرا بذلك إلى اللورد كرومر بعد عودته، فلما لم تتحقق مطالبه رجا أن يكون على رأس دار العلوم يبث روحه في طلبتها فيبثون روحهم في طلبتهم، فلما يئس من ذلك أيضا وجه همته إلى الجمعية الخيرية الإسلامية يضع لتلاميذها مناهج دراستهم ويؤلف لهم تفسير جزء عم. وهكذا كان دائما يريد أن يسيطر على التعليم ليوجهه الوجهة التي يريدها.
وكما جد في نشر تعاليمه وآرائه في الإسلام جد في الدفاع عنه، وكانت تأخذه الغيرة الشديدة إذا مسه أحد بسوء. يتجلى ذلك في موقفين شهيرين: (1)
رده على هانوتو. ففي أوائل سنة 1900 نشر هانوتو مقالا عن الإسلام بمناسبة سياسة فرنسا في المستعمرات الإسلامية، ثم تعرض للمقارنة بين المدنية النصرانية والإسلامية، ووازن بينهما في مسألتين: ذات الله والقضاء والقدر. فاعتقاد النصارى في التثليث وتصورهم للإله الإنسان جعلهم يرفعون مرتبة الإنسان ويخولونه حق القرب ومن الذات الإلهية؛ على حين أن العقيدة الإسلامية بدعوتها إلى التوحيد وتنزيه الله عن البشرية، حملت الإنسان على الضعف والوهن، والعقيدة المسيحية القائلة بحرية الإنسان وإرادته، دفعته إلى العمل والجد. أما عقيدة المسلمين في القضاء والقدر فحملتهم على الجمود والركود.
ونشرت ترجمة هذا المقال في المؤيد، فلم ينم الشيخ محمد عبده ليلته حتى كتب الرد عليها، وظهرت أول مقالة له في ثاني يوم. ثم تتابعت مقالاته، بين فيها فضل الإسلام على المسيحية، وبين أن عقيدة التوحيد أسمى فكرة، وأن فكرة التثليث لا يستطيع أن يتقبلها العقل، وأن الإسلام لم يدع إلى الجبرية بالمعنى الذي يفهمه هانوتو، وأن في القرآن أربعا وستين آية تثبت حرية الإرادة إلخ. وكان من نتائج هذا كتابه المشهور «الإسلام والنصرانية». (2)
وأما الموقف الثاني فقد نشر فرح أنطون في مجلة «الجامعة» مقالا عن ابن رشد قرر فيه أن المسيحية كانت أوسع صدرا وأكثر تسامحا للعلم والفلسفة من الإسلام، فرد عليه الشيخ محمد عبده في سلسلة مقالات يثبت فيها سعة صدر المسلمين للفلاسفة وأهل العلم والأديان الأخرى، مما لم يكن له نظير في أي دين آخر.
وهكذا كانت حياته في خدمة دينه. •••
أما إصلاحه اللغوي والأدبي فقد بدأه بإصلاح أسلوبه نفسه، أخذ يكتب في جريدة الأهرام بأسلوب متأثر بالكتب الأزهرية، وخاصة بما ألف في الفلسفة الإسلامية، وبما هو شائع في ذل العصر من السجع والازدواج، وبمقدمات طويلة قبل الدخول في الموضوع. ثم أخذ يقوي أسلوبه ويصح ويزداد حركة وقوة من روح أستاذه جمال الدين، كما يتجلى في مقالات العروة الوثقى، ثم مرن قلمه وتدفق من طول ما كتب وعالج حتى بلغ غايته في مقالاته في الرد على هانوتو حيث تجمل بجمال البساطة وتدفق المعاني، في سلاسة وقوة.
ونظر إلى أساليب الكتاب فحاول إصلاحها ما استطاع. فكان يقدم نماذج للكتابة أيام كان مشرفا على الوقائع المصرية بما يكتبه هو وأصحابه فيها، وكان يلفت نظر الجرائد إلى سوء أسلوبها، ويلزم أصحابها أن يختاروا من يرفع مستوى الكتابة فيها.
ولما كان في بيروت كان مما يعلم في «المدرسة السلطانية» الإنشاء، ونشر مقامات بديع الزمان الهمذاني بعد أن ضبطها وشرحها، ونهج البلاغة بعد أن ضبطه وشرحه، يرمي بذلك إلى تغذية الناشئين بأدبهما واتخاذهما نموذجا من نماذج الأساليب الجيدة.
ولما عاد إلى مصر كان من دروسه درس في البلاغة لا على نمط البلاغة التي أفسدتها الفلسفة، بل على النمط الذي يربي الذوق ويرقي الأسلوب؛ فقرأ كتابي دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة لعبد القاهر الجرجاني، وكان هو السبب في نشرهما، فقدم بهما معنى للبلاغة لم يكن مفهوما للناس من قبل.
وفي سنة 1318ه أسس في مصر جمعية برئاسته سميت «جمعية إحياء الكتب العربية» كانت فاتحة أعمالها نشر كتاب المخصص في اللغة، وقد عهد في تصحيحه للعالم اللغوي الشيخ محمد محمود الشنقيطي. وشرعت الجمعية بعد المخصص في إعداد مدونة الإمام مالك للطبع بعد أن استحضر لها أصولا من تونس وفاس.
وهو الذي أخذ بيد الشنقيطي ولولاه ما بقي في مصر، فكان الشنقيطي علما من أعلام اللغة يعلمها للناس ويصحح ما تعقد من الكتب، وينشر البحوث اللغوية الدالة على اطلاع واسع وتدقيق عميق.
وهو الذي عهد إلى الأستاذ سيد المرصفي في تدريس كتب الأدب بالأزهر، أمثال كتاب الكامل للمبرد وديوان الحماسة لأبي تمام، ولم يكن ذلك معروفا من قبل، فكان عمله هذا سببا في نهضة لغوية أدبية واضحة تأثر بها كثير من الأدباء البارزين وتلاميذهم، فإن قلنا: إنه حول الكتابة من كتابة مسجوعة سخيفة إلى كتابة مرسلة جميلة، ومن كتابة فارغة المعاني إلى كتابة يعنى فيها بالمعاني لم نبعد.
أما إصلاحه السياسي فكان في مجلس الشورى مذ عين عضوا به، فكان قوة فعالة فيه قال صديقه حسن عاصم وكان زميلا له في المجلس: «لقد عين الشيخ محمد عبده سنة 1899، وكان بين أهل الحل والعقد في الحكومة وبين رجال مجلس الشورى شيء أشبه بالخلاف في الرأي، أدى إلى أن الحكومة نفذت كثيرا من المشروعات التي كان المجلس يرى الخير للأمة في عدم العمل بها، وصرفت النظر عن كل أوجه التعديل في المشروعات التي كان يرى أن الصلاح والنفع للأمة في تعديلها، فلما جاء الأستاذ إلى المجلس ونظر في الأمر نظرة الحكيم البصير، وعرف أن ليس هناك ما يدعو إلى هذا الانفراج، وإنما هو سوء التفاهم باعد ما بين المشارب على تقاربها، سعى رحمه الله في أن يزيل أسباب هذا الخلاف فكان ما أراد، وعرفت الحكومة أن المجلس إنما يطلب ما فيه سعادة الأمة، ويبتغي الخير لها، وأن ليس له غرض في مصادمة آراء الحكومة ومطالبها ما دامت تتفق مع مقصده، وعلم المجلس أيضا أن الحكومة لا تقصد إلى شيء وراء ما يقصده لمصلحة البلاد، وبذلك اتفقت الكلة في الغالب، ولم يعد بين الهيئة الحاكمة والهيئة النيابية من الخلاف ما يتعسر حله».
وكان ما ترسله الحكومة من المشروعات يؤلف المجلس لجنة لدرسه، وكثيرا ما تكون برياسة الأستاذ، سواء كانت المسألة قانونية أو اجتماعية أو شرعية، حتى قد التهم المجلس وقته وهو لا يعبأ بالجهد يبذل فيه، لأنه كان يرى أن عمله مع الأعضاء درس يعلم الجد والاهتمام بالأمور العامة للبلاد، وأنه وسيلة لتربية الرأي العام.
هذه ناحيته السياسية الرسمية. أما غير الرسمية، وأعني بها عمله في موقف الأمة من الخديوين ومن الإنجليز، فقد لخص موقفه منهما في قوله: «إنه يريد تنبيه الرأي العام حتى يميز ما للحكومة من حق الطاعة على الشعب وما للشعب من حق العدالة على الحكومة، وأن الحاكم من البشر يخطئ ويصيب، ولا يصده عن الخطأ إلا تيقظ الرأي العام ووقفه الحاكم إذا تجاوز حده بالقول أو الفعل.
ووسيلة تنبيه الرأي العام التعليم، وخاصة التعليم الاجتماعي، والصحافة النزيهة، وتربية القادة في مجلس الشورى وأمثاله، فيدرسون المسائل درسا وافيا ويبدون الرأي في إخلاص وأمانة، فيكون هذا كله درسا يقلد عند طبقات الشعب».
وكان مقتضى هذا أن يقف هو ومدرسته أمام الخديو إذا جاوز الحد، وأمام الإنجليز إذا جاوزوا الحد، ولكنا نراه يفعل ذلك أمام الخديو، ولو أدى إلى العنف، ولا يفعل ذلك مع الإنجليز إلا بالتفاهم. ولعله قد ألجأه إلى ذلك الدروس القاسية التي جربها في فشل الثورة العرابية ومجلة العروة الوثقى، واعتقاده أنه لو اجتمعت عليه السلطتان ما تمكن من أي إصلاح ديني أو اجتماعي، وهذا المسلك في الحقيقة نقطة ضعفه السياسي، وكان يجب أن يعدل في موقفه بين السلطتين، فإما ثورة عليهما أو مسالمة لهما.
ويلطف هذا أن مسلكه مع الإنجليز لم يكن استعداءهم على قومه، ولكن أن يكسب منهم ما يستطيع لقومه؛ ولهذا كان أكره من يكره سلطان باشا، وعمر لطفي باشا، لأنهما في نظره يحرضان الإنجليز على قومهما.
هذا النحو من السياسة، وهو الاعتماد في النضج السياسي على التعليم والتربية برنامج عقلي لا برنامج شعوري، وهو قلما ينجح في الدعوة السياسية، إنما ينجح فيها من يعتمد على الشعور، وإلهاب العواطف، ولذلك نجح عبد الله نديم ومصطفى كامل سياسيا أكثر مما نجح محمد عبده.
ولعله هو قد أدرك ذلك فقال في أمر الحكومة والمحكوم: «إني تركته للقدر يقدره، وليد الله بعد ذلك تدبره» وفي هذا القول نغمة يأس وشعور بالفشل.
سببت له دعوته الإصلاحية الدينية ومذهبه السياسي خصومات ذوات ألوان؛ فدعوته الدينية حركت عداء الجامدين من رجال الدين الذين حياتهم الدينية مملوءة بالأولياء والأضرحة والنذور والموالد والشفاعة، كما حركت عداء قوم يرون مصدر الأحكام والفتوى ليس إلا أقوال المتأخرين من الفقهاء، وليس لأحد كائنا من كان أن يجتهد ويقدر الظروف والأحوال، أو أن يرجع إلى الدين في أصوله الأولى يستمد منها أحكامه. وآخرون دفعهم الحسد إلى خصومته، إذ أخمل شأنهم، وأبان ضعفهم، وأظهر نقصهم، فحاربوه باسم الدين. وآخرون كالخديو عباس كرهه سياسيا، ولكنه حار به دينيا، فحرض عليه رجال الدين ليسقطه في ميدان السياسة.
وهناك خصوم شرفاء أكثرهم ممن تعلم في أوربا يرون أن الشيخ طيب القلب محب للخير، ولكنه ينفخ في قربة مقطوعة، فيحاول إصلاح الأزهر وليس يصلح ويحاول الإصلاح الاجتماعي عن طريق الدين، وهم يرون الإصلاح الاجتماعي إنما يكون عن طريق العقل وحده، والتقليد لأوربا فيما وصلت إليه من شرائعها ونظمها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية؛ وهكذا كل هؤلاء تجمعوا عليه في خصومته في الإصلاح الديني، ومع هذا فهذه الخصومات زادت الحركة قوة والحياة نشاطا، واستخرجت من الشيخ محمد عبده أقصى قواه وملكاته، واستخرجت من خصومه أقصى قواهم وملكاتهم.
وحاربه في السياسة الحزب الوطني، لأنه يرى رأي الأستاذ في إصلاح التعليم أولا، بل بالجلاء أولا، ولا يرى رأيه في الاعتماد على العقل، بل بالاعتماد على الشعور، ولا يرى رأيه في مسالمة الإنجليز بل بمخاصمتهم العنيفة. وكذلك حاربه الخديو من وراء ستار كما حاربه دينيا في جرائده والتأليب عليه.
واشترك خصومه الدينيون والسياسيون في تهييج الرأي العام عليه، ومحاولتهم إسقاطه من أعين الناس؛ هؤلاء يرمونه بالكفر الديني، وهؤلاء بالكفر السياسي.
ثم ذهب هذا كله ومات الشيخ محمد عبده واندفعت الأحقاد وذهب الزبد جفاء وبقي ما ينفع الناس.
لقد أيقظ الشيخ محمد عبده الشعور الديني، وأشعر المسلمين أنهم يجب أن يهبوا من رقدتهم لإصلاح نفوسهم وتكميل نقصهم، وألا يعتمدوا على الفخر بماضيهم، بل يبنوا من جديد لحاضرهم ومستقبلهم. ودعا إلى أن العقل يجب أن يحكم كما يحكم الدين، فالدين عرف بالعقل، ولا بد من اجتهاد يعتمد على الدين والعقل معا حتى نستطيع أن نواجه المسائل الجديدة في المدينة الجديدة، ونقتبس منها ما يفيدنا، لأن المسلمين لا يستطيعون أن يعيشوا في عزلة، ولا بد أن يتسلحوا بما تسلح به غيرهم، وأكبر سلاح في الدنيا هو العلم، وأكبر عمدة في الأخلاق هو الدين، ومن حسن حظ المسلمين أن دينهم يشرح صدره للعلم، ويحض عليه، وللعقل ويدعوا إليه، وللأخلاق الفاضلة التي تدعوا إليها المدنية الحاضرة.
لقد خلف في هذه الآراء كلها مدرسة تأخذ بتعاليمه وتعتمد على آرائه؛ منهم من أخذها عليه شفاها، ومنهم في الأقطار الإسلامية من أخذها عنه بما نشره في كتبه ومقالاته، وكان مدرسة قوية الأثر واضحة المعالم. وحسبنا دليلا على هذا أن أكثر من تصدوا للإصلاح الديني أو الاجتماعي أو السياسي بعده كانوا من تلاميذ أو من أصدقائه المتأثرين به.
وزاده قوة أثر أنه لم يكن يدعو إلى الإصلاح نظريا عن طريق التأليف أو الخطب والمقالات فقط كما يفعل بعض المصلحين. بل كان يحاول دائما أن يحول إصلاحه إلى عمل، وينغمس في الحياة الواقعية، ليتمكن من تنفيذ برامجه الإصلاحية.
فإن مات وفي نفسه غصة من أنه لم ينل ما يريد فعزاؤه أن الصالح من أفكاره لم يمت، وظل يعمل في موته كما كان يعمل في حياته. رحمه الله.
الفكاهة في الأدب العربي
1
الفكاهة عنصر هام من عناصر الأدب، لأن الضحك جزء من حياتنا يؤدي وظيفة روحية وفسيولوجية فيجب أن يكون له في سائر الفنون ما يغذيه ويبعث عليه، ولأن الفكاهة تؤدي وظيفة اجتماعية كبيرة في تسلية النفوس وتقويم الأخلاق والعمل بتقاليد المجتمعات ومواضعاتها، فأنا أعتدل في مشيي وأنظم حركاتي وأنتظم في هندامي وأتخير ألفاظي وأطلب الكمال في كل شيء حذر أن يسخر الناس مني ويتخذوني موضوع فكاهتهم ودعابتهم وسخريتهم.
والأديب الماهر لا بد أن يكون لديه القدرة على الفكاهة، سواء كان شاعرا أو خطيبا أو كاتبا أو قصاصا أو روائيا، فهو بهذه الملكة يستطيع أن يصل إلى نفوس سامعيه، ويفتحها لآرائه، ويدس في ثنايا فكاهته ما يريد من المبادئ والنظريات فيتقبلها القارئ أو السامع في لذة ومتعة ويكون ذلك أفعل في نفسه، ولهذا ينجح الأديب الفكه أكثر مما ينجح الأديب العابس.
وقد أدرك هذا مؤلفو العرب من قديم فكانوا يعمدون إلى خلط الهزل بالجد والفكاهة بالعلم، وقد قال ابن قتيبة في كتاب «عيون الأخبار»: «ولم أخل هذا الكتاب من نادرة طريفة، وفطنة لطيفة، وكلمة معجبة، وأخرى مضحكة، لأروح بذلك عن القارئ من كد الجد، وإتعاب الحق، فإن الأذن مجاجة وللنفس حمضة، والمزح إذا كان حقا أو مقاربا ليس من القبيح ولا من المنكر».
وكذلك نوه الجاحظ بهذا وجرى على هذا المبدأ في تآليفه، خالطا الجد بالفكاهة وجرى على أثرهما المؤلفون.
وكما أن الأمم تختلف في تقويمها للضحك والفكاهة وقدرتها على تذوق النكتة والضحك منها كذلك الآداب تختلف كثرة وقلة في الفكاهة وأنواعها وألوانها، والأمم العربية من أكثر الأمم تقديرا للفكاهة، وأدبها من أغنى الآداب في هذا الباب.
وقد ورد في اللغة العربية ألفاظ كثيرة تدل على ألوان مختلفة من الفكاهة، كالمزاح والهزل والتندر والنكتة واللذع والتهكم والسخرية إلى غير ذلك.
وإن الباحثين في الضحك وأسبابه من علماء النفس ذكروا أن موضوع الضحك قد يكون الأشكال المضحكة وهي غير الأشكال الدميمة كمن يتلاعب بحركات وجهه، ومن هذا القبيل كل الصور الهزلية وقد يكون التقليد، كتقليد البدوي للحضري والحضري للبدوي والطفل الصغير لأعمال الرجل الكبير، والمجنون للعاقل، والعاقل للمجنون، أو رجل يحاكي القرد أو قرد يحاكي الرجل وهكذا وقد يكون سبب الضحك التلاعب بالألفاظ والجمل كالجمع بين جمل لا تربطها رابطة وإنما هي مفارقات، أو إجابة تكون عكس ما ينتظر في مثل هذا الموقف، أو نقل لفظ من معناه إلى معنى آخر، أو الانتقال من المعنويات إلى الماديات، كقولنا إن فلانا ذكر عالم رزين وشعره أسود، إلى نحو ذلك من ألفاظ وجمل تثير صورا ذهنية مضحكة وقد يكون سبب الضحك الأخلاق التي تثير فينا السخرية من صاحبها، كضحكنا من المزهو بنفسه على غير أساس، والرجل الشديد الأنانية والطماع الشديد الطمع ونحو ذلك.
وقد تناول الأدب العربي الفكاهة من هذه النواحي كلها وأمثالها، فكان من أوسع أبواب الشعر العربي باب الهجاء، وليس إلا تصوير الهاجي للمهجو صورة هزلية تثير السخرية والضحك، وقد حفل العرب به أشد احتفال لأنه مرتبط بنوع حياتهم الاجتماعية، إذ هم يحرصون على المروءة التي هي الشجاعة والكرم ويحرصون على حسن السمعة، وفي الوقت عينه يقدرون الشاعر تقديرا كبيرا لأن قوله يشيع في الناس شيوع أقوال الجرائد اليوم، ولأن القبائل تجتهد في حماية شرفها وتتخاصم بالنيل من شرف غيرها، فكانت هناك معارك شعرية بجانب معارك السيف، المتحاربون فيها هم الشعراء يمثلون قبائلهم في هجاء غيرهم وتصويرهم بالصور التي تثير الضحك والسخرية، ولعل خير الأمثلة في ذلك ما كان بين جرير والفرزدق والأخطل من الأهاجي التي ملأت جو العرب ضحكا وسخرية وغضبا وتحمسا كقول جرير في الفرزدق يسخر منه بحقارة بيته وبصناعة أهله وهي الحدادة:
أعددت للشعر سما ناقعا
فسقيت آخرهم بكأس الأول
لما وضعت على الفرزدق ميسمي
وصغا البعيث جدعت أنف الأخطل
أخزى الذي سمك السماء مجاشعا
وبنى بناءك في الحضيض الأسفل
بيتا يحمم قينكم بفنائه
دنسا مقاعده خبيث المدخل
ولقد بنيت أخس بيت يبتنى
فهدمت بيتكم بمثلى يذبل
إني بني لي في المكارم أولي
ونفخت كيرك في الزمان الأول
إلى كثير من أمثال هذا.
وقد وصل إلى القمة في هذا الباب ابن الرومي فيما بعد، فتفنن في رسم الصور المضحكة لأعدائه وخصومه أيما تفنن كقوله في وصف بارد ثقيل:
يا أبا القاسم الذي ليس يدرى
أرصاص كيانه أم حديد
أنت عندي كماء بئرك في الصي
ف ثقيل يعلوه برد شديد
وقوله:
وجهك يا عمرو فيه طول
وفي وجوه الكلاب طول
مقابح الكلب فيك طرا
يزول عنها ولا تزول
وفيه أشياء صالحات
حماكها الله والرسول
فالكلب واف وفيك غدر
ففيك عن قدره سفول
وقد يحامي عن المواشي
وما تحامي ولا تصول
وأنت من بين أهل سوء
قصتهم قصة تطول
وجوههم للورى عظات
لكن أقفاءهم طبول
مستفعلن فاعلن فعول
مستفعلن فاعلن فعول
بيت كمعناك ليس فيه
معنى سوى أنه فضول
وهجا رجلا بطول أنفه فقال:
حملت أنفا يراه الناس كلهم
من رأس ميل عيانا لا بمقياس
لو شئت كسبا به صادفت مكتسبا
أو انتصارا مضى كالسيف والفاس
وهجا بخيلا اسمه عيسى:
يقتر عيسى على نفسه
وليس بباق ولا خالد
فلو يستطيع لتقتيره
تنفس من منخر واحد
وديوانه مملوء بمثل هذه الصور الساخرة.
وإذا عيب هذا الضرب من السخرية بشيء ففي أنه في كثير من الأحيان صريح مكشوف وكان يكون أرقى لو أنه خفي ملفوف.
وهناك لون آخر فشا في الأدب العربي وهو السخرية بالضعف الخلقي عن طريق القصص القصير، ومن أقدم ما روي لنا في هذا الباب ما روي لنا من الفكاهات الحلوة عن أشعب الطماع، وقد كان مولى يسكن المدينة، وأحيانا يسكن مكة أو الطائف، ثم طلبه الوليد بن يزيد ليكون من ندمائه، وقد امتلأ الأدب العربي بنوادره القصيرة في طمعه كالذي رووا أن صديقته قالت له: هب لي خاتمك أذكرك به؟ قال لها: اذكريني بالمنع. وسئل مرة عن مبلغ طمعه فقال: «ما رأيت اثنين يتساران إلا ظننت أنهما يأمران لي بشيء». وقال مرة للأطفال ليبعدوا عنه: إن سالم بن عبد الله يفرق تمرا فذهبوا، فلما أبطئوا ظن أن الأمر صحيح فذهب إليهم. وهكذا. وكان رجال الحجاز يجتمعون فيتسامرون ويدعونه يحدثهم بنوادره المضحكة. وخلفه ابنه بعده في هذا الباب، وتزيد الناس عليه فكانت كل حكاية طمع ظريفة تنسب إلى أشعب.
فلما جاء دور التأليف في العصر العباسي رأينا هذا الباب يزيد ويتسع ويكون موضوعا للتأليف فيؤلف فيه الجاحظ نوادر المعلمين ونوادر البخلاء، وابن الجوزي نوادر الحمقى والمغفلين، وبلغ القمة في هذا الباب «جحا» فكان شخصية عجيبة ونسبت إليه كل قصة مضحكة فيها نقد لاذع وغفلة مضحكة وحكمة مستترة، فكانت شخصيته بأصلها وما زيد عليها إحدى روائع الأدب العربي في هذا الباب.
2
وهناك ألوان أخرى في الأدب العربي من الفكاهة: منها ما اعتاده الملوك والوزراء والأمراء من اختيار ندماء في مجالسهم للتسلية والسمر والتفكه، وقد قلد العرب في ذلك الفرس، فكاد يكون لكل خليفة ووزير نديم يراعي في اختياره خفة الروح وسعة الاطلاع وحسن الحديث والقدرة على الترفيه، بما يروي من أحاديث ونوادر طريفة، فإذا كان الخليفة أو الوزير مثقفا ثقافة واسعة فالنديم يأتي بالطرف الثقافية، وإن كان من ذوي الميل إلى رغبة من الرغبات فحديث النديم يدور حول هذا؛ ففي العصر الأموي مثلا اشتهر أشعب هذا، وقد اتخذه الوليد بن يزيد نديما له ومضحكا. وفي العصر العباسي اشتهر أبو دلامة نديم السفاح والمنصور والمهدي، وقد كان شاعرا فاستخدم شعره في السخرية والمجون والفكاهات اللاذعة يوجهها إلى كل من اتصل به حتى نفسه، ووضع قصيدة في بغلته فعابها بكل نقيصة. ومن هذا النوع كان الأصمعي للرشيد، فقد كان يشيع السرور عنده بما يرويه من نوادر الأعراب وملحهم مما ملئت بها كتب الأدب، كما اشتهر أبو العيناء تلميذ الأصمعي، وقد امتاز بنوع من الفكاهة وهي سرعة بديهته وإجابته المفحمة، وقد كف بصره وهو في سن الأربعين، وكانت نوادره وملحه وإجاباته مثار الضحك والفكاهة والتنادر الظريف، وكان نديما للبرامكة وفيا لهم بعد نكبتهم، وقال المتوكل لولا أنه ضرير لنادمناه، فقال أبو العيناء: إن أعفاني المتوكل من رؤية الأهلة وقراءة نقش الفصوص فأنا أصلح للمنادمة، وقيل له: إلى متى تمدح الناس وتهجوهم؟ فقال ما دام المحسن يحسن والمسيء يسيء، وأعوذ بالله أن أكون كالعقرب يلدغ النبي والكافر.
واستمرت عادة الخلفاء في اتخاذ الندماء طوال العصور حتى كان قريبا من عصرنا الشاعران الشهيران السيد علي أبو النصر والسيد علي الليثي نديما الخديو إسماعيل، تروى عنهما الملح الطريفة والنوادر الظريفة .
وهؤلاء الندماء أغنوا الأدب العربي بالفكاهات حتى لو جمع ما أثر عنهم لبلغ المجلدات. •••
وأولع العرب بنوع من الفكاهة طريف وهو الأجوبة المسكتة المفحمة وخصصوا له الفصول في كتب الأدب كما فعل ابن عبد ربه في العقد الفريد، وقد ظهر هذا النوع بكثرة أيام الانقسام بين شيعة علي بن أبي طالب وشيعة معاوية، فاتخذوا هذا الموضوع مثارا للأسئلة والأجوبة الممتعة، وتفوق شيعة علي في هذا الباب تفوقا بديعا، ولا سيما بعد أن انهزم حزبهم حربيا، فكان من باب «التعويض» أن يجدوا لما في نفوسهم منفذا للقول.
وقد أبدع في هذا الباب ونحوه طائفة من الممرورين وعقلاء المجانين، وهم طائفة من الناس خفيفوا الروح والعقل، أو متصوفة مدلهون أو فلاسفة شاردون تعتريهم لوثة من شذوذ، فيعبث بهم الناس في أوقات لوثتهم، فتصدروا عنهم الأجوبة المسكتة أو الأقوال الظريفة، وقد عني مؤلفوا الأدب بهذا النوع من الناس عناية فائقة فوضعوا فصولا من كلامهم في كتب الأدب تحت عنوان «أخبار الممرورين والمجانين» أو ترجموا لمشهوريهم أمثال أبي العبر وبهلول، بل ألف بعضهم كتبا خاصة فيهم كما فعل النيسابوري صاحب التفسير إذ ألف كتابا سماه «عقلاء المجانين» ترجم فيه لمشهوريهم وذكر ملحهم، وعلى الجملة فكانوا كذلك مصدرا من مصادر الفكاهة في الأدب العربي. •••
ولما نضج النثر في العصر العباسي وبعده استخدم في الهجاء، كما كان يستخدم الشعر في العصر الجاهلي وصدر الإسلام، فابتدع الجاحظ تصوير بعض الشخصيات تصويرا ساخرا في رسالة من رسائله وهي رسالة «التربيع والتدوير» سخر بها من كاتب بغدادي اسمه أحمد بن عبد الوهاب، فقد كان هذا الرجل قصيرا ويزعم أنه طويل وجاهلا ويزعم أنه عالم، فأخذ الجاحظ يعبث ببدنه ويعبث بعلمه ويسخر بغروره، وبهذا الضرب ملأ كل رسالته، وتبعه الأدباء على هذا النمط فوضع ابن زيدون في الأندلس مثلا رسالته الهزلية وموضوعها أن ابن زيدون كان يحب ولادة بنت المستكفي ويستهويها فنازعه في حبها أبو عامر بن عبدوس فكان يراسلها ويتحبب إليها، فكتب ابن زيدون هذه الرسالة على لسان ولادة يهجوه فيها أشد هجو وأقساه ويضمنها كثيرا من المعارف التاريخية، وكما فعل ابن مماتي المصري في رسالته المسماة «بالفاشوش في حكم قراقوش» وضعها في هجائه وبيان مظالمه ونسب إليه أحداثا كثيرة يشهر فيها بسوء تصرفه.
ويتصل بهذا ضرب قريب منه وهو الهجاء والنقد ولكن لا لشخص بعينه، بل لشخصية تصور الطمع والغرور أو البخل أو نحو ذلك. ونجد هذا النوع في بعض مقامات بديع الزمان والحريري كالمقامة المضيرية للبديع، إذ تصور شخصية تكاد توجد في كل زمان، شخصية الرجل الذي يعتز بكل ما يملكه، فالثوب الذي يلبسه خير الأثواب، والساعة التي يحملها قد صنعها المصنع وحدها، ولم يصنع مثلها، والبيت الذي يملكه ويسكنه لا نظير لها، وحديقته قد نقل إليها الأشجار من أطراف الدنيا، وكل شيء فيه من بدع الدنيا لا يوجد مثله عند الملوك ولا المتاحف وهكذا.
وفي بعض هذه المقامات ما يصور الأديب المحتال للكسب بأدبه ونحو ذلك من شخصيات غير معينة بالاسم ولكنها معينة بالوصف. •••
ولون آخر من الفكاهة شاع في الآداب المختلفة وكذلك في الأدب العربي وهو أن يعمد الأدباء إلى قصيدة مشهورة جدية فيقلبوها هزلية، أو شيء موقر محترم فيعبثو به، مثال ذلك ما فعلوا في قصيدة «ابن دريد» المقصورة المشهورة التي مطلعها:
يا ظبية أشبه شيء بالمها
ترعى الخزامى بين أشجار النقا
فحولوها إلى قصيدة هزلية.
وتبعهم في ذلك المحدثون فهزئوا بلامية العرب وبعض قصائد امرئ القيس ودالية النابغة الذبياني وقلدوها تقليدا مضحكا.
ومن هذا القبيل ما فعلوا في ألفية ابن مالك في النحو؛ إذ اختاروا منها أبياتا كثيرة وحولوها إلى مهزلة في الأكل والشرب ونحو ذلك.
وابتدع الشيخ حسن الشربيني المتوفى في القرن الحادي عشر الهجري أسلوبا في السخرية بالنحو والصرف والاشتقاق في كتابه المسمى «هز القحوف في شرح قصيدة أبي شادوف» فقلده من أتى بعده إلى عصرنا هذا، وهذا الكتاب ظاهره الهزل والسخرية والسخف وباطنه نقد حياة الفلاحين في عصره وبؤسهم، وظلم الحكام لهم، وأنواع المظالم التي يلقاها الفلاحون على أيديهم.
هذه بعض أنواع الفكاهات في الأدب العربي. وهناك ألوان أخرى أعرض لها في مناسبة أخرى إن شاء الله.
الاتجاهات الحديثة في دراسة اللغة1
شيئان أحدثا أكبر ثورة على وجه الأرض، واستلا الإنسان من بين فصائل الحيوان، وأجلساه على عرش هذا العالم الذي نعيش فيه، وهما يده ولسانه، فلما أطلقت يده من الارتكاز عليها في المشي استطاع أن يأتي بالأعاجيب من أعمال الفن والصناعة. ولما أطلق لسانه من العجمة استطاع أن يعبر عن نفسه ويتفاهم مع غيره، ويتعاون في التفكير، حتى وصل إلى ما وصل إليه في علمه وعقله وأدبه. فكل ما نرى اليوم من مظاهر الحضارة في العلم والعمل إنما هو مدين لهذين العاملين الأساسيين.
لقد كان اكتشاف اللغة والتفاهم بها أعجوبة أعجب من اكتشاف القنبلة الذرية، لولا أننا ألفناها من صغرنا قبل أن ينمو فينا شعور العجب. وعليها أكبر الاعتماد في الرقي العقلي الذي نراه، كما أن لها أكبر الأثر فيما يكون بين الفرد والجماعة من تفاهم نتجت عنه هذه النظم التي نعيش فيها.
من أجل هذا عنى الناس من قديم باللغة والبحث فيها، سواء في ذلك الغرب والشرق، والعرب وغيرهم، ولكن تجلت قيمة اللغة في العصور الحديثة بأكثر مما تجلت في القديم، وألقى التقدم العلمي في فروع العلم المختلفة أضواء جديدة على اللغة، فجد الغربيون في القرن الثامن عشر والتاسع عشر والعشرين في البحث فيها من نواح مختلفة، نواح قديمة كانت تبحث من قبل فزادوها بحثا، ونواح جديدة دعا إليها التقدم العلمي الحديث، وهذا ما أحببت أن أعرضه عرضا بسيطا سريعا يناسب المقام. ولعل أهم الاتجاهات التي اتجه إليها الباحثون المحدثون هي: (1)
الاتجاه اللفظي. (2)
والاتجاه النفسي والمنطقي والفلسفي. (3)
والاتجاه الاجتماعي. (4)
والاتجاه البيداجوجي أو التربوي. (1) الاتجاه اللفظي
ربما كان هذا الاتجاه أقدم الاتجاهات، وكان هذا العلم يسمى فيلولوجيا كما يسمى الآن، وهو يقابل عندنا تقريبا فقه اللغة، وكان في القديم وفي العصور الوسطى يعنى ببحث النصوص وشرحها والكلمات ومعانيها، ولكن بتقدم العلم حصر نفسه منذ القرن الثامن عشر في تاريخ اللغة وكلماتها واشتقاقها وتطور استعمالاتها، وتغير أشكالها، وخاصة إذا كانت تلك اللغات من أسرة واحدة. وقد استطاع تقدم هذا العلم في العصور الحديثة كشف كثير من الأخطاء التي وقع فيها الأقدمون وعلماء القرون الوسطى، نظرا لما أدى إليه اتصال أجزاء العالم واشتباكها من إمكان الوقوف على معرفة لغاتها واكتشاف ما لم يكن يعلم منها كان هم الباحثين في العصور الوسطى منصرفا إلى ثلاث لغات وهي: اليونانية واللاتينية والعبرية، فاتسع الأفق في العصور الحديثة وشمل لغات أخرى كثيرة، وكان ذلك وخاصة اكتشاف اللغة الهندية الجرمانية أو الآرية سببا في تعديل كثير من النظريات، وإصلاح كثير من الأخطاء، ووضع علم فقه اللغة على أسس جديدة. وفي آخر القرن الثامن عشر اكتشفت لغة قدماء الهند وقرئت بها «الفيدا» كما اكتشفت اللغة السنسكريتية لغة الهند المستحدثة وغيرهما من لغات الشرق، فأنارت السبل أمام الباحثين. واستخدمت نتائج هذه الأبحاث في وضع النظريات الحديثة لعلاقات اللغات بعضها ببعض، وفي المعاجم المطولة التي تبين أصول الكلمات واستمدادها، ووضعت المقارنة بين الكلمات في اللغات المختلفة، وكيف طرأ التغيير على الأصل، وهكذا.
كما استنتجوا بعض نتائج تاريخية من دراسة هذه اللغات كأن يستنتجوا أن اللغة الهندوجرمانية نشأت في وسط القارة لأنه ليس فيها كلمة تدل على البحر وهكذا، وقد كانت هذه الاستنتاجات مجالا لمناظرات طويلة في صحة الاعتماد عليها مما ليس هذا محله.
وبحثوا أيضا في معاني الكلمات، فكثيرا ما تتطور الكلمات في معانيها وتقطع رحلات كرحلة ابن جبير وابن بطوطة؛ فالحبة تطورت من حبة القمح والشعير إلى حبة القلب تشبيها بالحبة في الهيئة، ثم قالوا أحب أي أصاب حبة قلبه، وأخيرا كان الحب. فكم بين حبة القمح والحب من مراحل! وكذلك التعبير، قد يوضع مرتبطا بعادات الأمة ثم تتقدم في المدنية وتتغير العادات ويبقى التعبير. مثال ذلك ألقى حبله على غاربه، ورماه الله بثالثة الأثافي، فقد كان ذلك مرتبطا بعادات العرب في ركوب الجمال واتخاذهم الكانون من ثلاثة أركان أحدها الجبل، فتغيرت العادات وبقيت التعبيرات.
ورأوا أن التعبير أو الكلمة في أول أمرها لها مدلول مادي ثم قد ينتقل إلى المدلول المعنوي، وكذلك الشأن في الانتقال من الحقيقة إلى المجاز، فأخذوا بتتبعهم معاني هذه الألفاظ والتعبيرات وتطورها يستنتجون النتائج القيمة في بيان عادات الأمم وتقاليدها، كما يستنتجون الرقي الخفي الدقيق للعقل الإنساني.
وليس هذا فقط، فإن لهجة الأمة والبلاد ونطقها في تغير بطيء مستمر غير محسوس، فنطق أهل القاهرة اليوم غير نطقهم ولهجتهم منذ قرون. وكذلك كل أمة. فما العوامل الداخلية والخارجية؟ أو بعبارة أخرى: ما العوامل النفسية والطبيعية التي تسبب هذا التغير؟ سؤال صعب حاولوا أن يجيبوا عنه إجابات مختلفة ولا تزال موضع البحث. وقد وسع مجال البحث في هذا الموضوع مقارنتهم بين اللغات وأن الكلمة في لغة وفي أمة لما انتقلت إلى أمة أخرى تغير بعض الشيء نطقها وشكلها، ورأوا اطرادا أحيانا في تغيير حرف بحرف، وعدم اطراد أحيانا، واطرادا أحيانا في السير من بداوة إلى حضارة، وهكذا. فكان ذلك كله موضوعا لبحوث لذيذة مفيدة، ووضعوا في ذلك ما سموه «قوانين الصوت» قياسا على «قوانين الطبيعة».
كما بحثوا في أن الشعب الذي يتكلم لغة واحدة إذا تبلور وارتقى في المدنية حتى أصبح يسمى أمة توثقت الصلة بين عاصمة بلاده وسائر البلدان. وإذ كانت العاصمة هي المركز الرئيسي للحكومة وزعماء السياسة، وزعماء الدين وزعماء العلم، وأرقى بقعة للأمة في مدنيتها، كان لها أثر كبير في اللغة من حيث خلق بعض ألفاظها وتعبيراتها ومصطلحاتها وصقل لجهتها، وشع منها ذلك على سائر البلدان، فدرسوا هذه الوجهة في تفصيل وإمعان، ووصلوا من هذه الدراسة إلى نتائج قيمة.
هذا في الأمة الواحدة. ومن ناحية أخرى، فالأمم المختلفة إذا اشتبكت علاقاتها تأثرت لغتها وأدبها بعضها ببعض، سواء كان ذلك من عمل الأفراد كالسائحين والتجار والمبشرين الدينيين ونحو ذلك، أو من عمل الأمم كتغلب أمة على أمة بالفتح والاستعمال وكثرة التزاوج. وقد استنبطت من دراسة هذه الناحية بعض قوانين، مثل أن الأمة الممتزجة بأخرى إذا كانت ثقافتها أرقى كان اقتباسها أقل، وإذا كانت أضعف كان اقتباسها أكثر ونحو ذلك؛ كما لاحظوا من هذه الناحية أن بعض الكلمات التي تقتبس قد تحتفظ بشكلها في لغاتها الأصلية وإن غاير اللغة المنقول إليها، ولذلك يوجد في اللغات أشياء شاذة في مثل تصريف الأفعال أو صيغ الجموع أو نحو ذلك.
وكان من أبحاثهم الطويلة بحثهم عن أصل اللغة وكيف تكونت وما العوامل في تكوينها، فاللغة ليست قاطرة أو عربة قطار، أو آلة من الآلات تجهز كاملة، إنما هي شيء يتكون على الزمان وفي بطء، وقد يكون من غير شعور. وقد كان للنوع الإنساني مهما كان بدائيا لغته. وزادت ونمت بزيادة الاتصال والاجتماع. وزاد نموها ما يعرض للإنسان من مواد جديدة ومعان جديدة وعواطف جديدة تحتاج إلى التعبير ونحو ذلك. وقامت بين العلماء حرب حول نظريات في هذا الموضوع كنظرية أن الأصل في اللغة تقليد الأصوات الطبيعية. أو أن أصل اللغة يرجع إلى التناسق بين الأصوات الخارجية والمشاعر النفسية. أو أن الإنسان له موهبة طبيعية غامضة قادرة على خلق لفظ مناسب للشيء الخارجي والشعور به الداخلي. وهذه الملكة في الإنسان البدائي أقوى منها في الإنسان المتمدن لقلة الحاجة إليها بعد تمدنه، أو أن أصل اللغة يرجع إلى مجهود عصبي قوي عضلي أو عقلي أو عاطفي يضغط على النفس فيحاول التنفيس عنها بخلق الكلمة المناسبة. وجاء آخرون من العلماء المحدثين يرون من الخطأ إسناد أصل اللغة إلى هذه التعليلات العقلية والمصادر العقلية؛ فقد تنشأ الألفاظ في جو شعري من عواطف بين الجنسين أو أثناء لعب أو مجلس أنس إلى آخر ما هنالك من نظريات سببت جدلا كبيرا وعرضا شائقا.
ثم أدتهم سعة علمهم بلغات كثيرة من لغات العالم قديمها وحديثها إلى البحث في تقسيم اللغات إلى فصائل، كل فصيلة لها خصائصها وفروقها وموافقاتها، والخلاف بين العلماء كذلك طويل في الأساس الذي يجب أن يبنى عليه التقسيم مما لا يتسع له المقام. •••
وقد استغلوا هذه البحوث والنتائج في معاجمهم، فكان لكل أمة عظيمة معجم بل معاجم واسعة تبين أصل كل كلمة ، ومن أي لغة أخذت، والمعاني الأصلية للكلمة والمعاني الفرعية التي تطورت إليها، وتاريخ هذا المعنى الجديد في أي سنة كان، ومن أول من استعمله، وما الجملة التي قالها مستعملا فيها هذه الكلمة في المعنى الجديد إلخ. •••
فإذا نحن نظرنا في ضوء هذا إلى اللغة العربية وجدنا أن علماء اللغة في العصر العباسي بذلوا جهدا مشكورا في نواحي اللغة العربية المختلفة؛ فمنهم من جمع ألفاظ اللغة بمشافهة العرب كالأصمعي وأبي زيد الأنصاري، ومنهم من جمعها في معجم كالخليل بن أحمد وابن دريد، ومنهم من بحث في المعرب من الألفاظ التي دخلت العربية من الهندية والفارسية والسريانية والرومية كأبي منصور الجواليقي، ومنهم من بحث الأبحاث القيمة في اختلاف اللغات العربية وأيها أفصح، وهل اللغة تثبت بالقياس أولا، والاشتقاق والعلاقة بين اللفظ والمعاني وتقارب الألفاظ لتقارب المعاني إلخ، كما فعل أبو علي الفارسي وابن جني؛ ومنهم من بحث في الأصوات ومخارج الحروف بحثا دقيقا كما فعل سيبويه، وهكذا. وكانوا حقيقة جديرين بكل تقدير. وكذلك استغلت بحوثهم في المعاجم التي وضعت بعدهم، كالصحاح للجوهري ولسان العرب، والقاموس المحيط. ولكن من الأسف أن هذه البحوث وقفت عند نتاج العصر العباسي ككل فروع العلم المختلفة، ومر نحو سبعة قرون أو أكثر لم تتقدم أي خطوة، ولا تزال معاجمنا مظهرا لهذا التأخر. حتى نشط الغرب أخيرا لدراسة لغات الشرق من مصرية قديمة وفارسية وهندية وحبشية وآرامية وحميرية إلخ. ووصلوا فيها إلى نتائج باهرة، وبدأ بعض شبان المشرق يأخذون عنهم ويدرسون عليهم، والرجاء فيهم أن يستمروا في دراستهم حتى ينهضوا بلغاتهم.
إن معاجم لغتنا العربية تنتظر من يضعها وضعا جديدا ويبين كل كلمة ما أصلها، والكلمات المعربة من أين أتت، وما مدلولها في اللغة القديمة وفي اللغة العربية، ومعاني الكلمات كيف تطورت بتطور الأمم في المدنية، وماذا كان معنى الكلمة في القديم، وما معناها في الجديد، ومن أول من استعملها في المعنى الجديد؟ وهكذا.
وما وصل إليه علماء المشرقيات يساعد كثيرا على البت في الظنون التي كان يرويها الأقدمون، ففي معاجمنا مثلا أن الديوان فارسي معرب «وفي سبب تسميته ديوانا وجهان، أحدهما أن كسرى اطلع ذات يوم على كتاب ديوانه فرآهم يحسبون مع أنفسهم، فقال ديوان أي مجانين، فسمى موضعهم بهذا الاسم. والثاني أن الديوان اسم بالفارسية للشياطين. فسمى الكتاب باسمهم لحذقهم بالأمور ووقوفهم على الجلي والخفي».
فهذه الظنون يمكن غربلتها والبت فيها الآن بما وصل إليه العلم باللغة الفارسية القديمة والحديثة. ومثل ذلك ما قالوا في الأب فقال بعضهم: إنه الكلأ وهو العشب رطبه ويابسه. وقال الفراء الأب ما تأكله الأنعام إلخ، وإذا علمنا أن اللفظة حبشية الأصل وقد عرفت الحبشية الآن أمكننا أن نبت في هذا الخلاف. وهكذا مئات الكلمات في المعاجم فسرت بظنون، وتقدم العلم باللغات يستطيع أن يحل اليقين محل الظن، كما يمكن إصلاح تعاريف ومعلومات غير تقدم العلم كلمته فيها، كتعريف الكسوف والخسوف والبرق والصاعقة وباني الأهرام ونحو ذلك. والأمل كبير في نهضة أبناء اللغة أنفسهم للقيام بهذا العمل الشاق المجدي. (2) الاتجاه النفسي والفلسفي والمنطقي
وتخصصت طائفة أخرى من علماء الغرب لدراسة اللغة دراسة فلسفية من حيث علاقتها بالنفس ومن حيث علاقتها بالمنطق وغير ذلك؛ فقد رأوا مثلا أن دراسة الكلمة ليست كدراسة أي شيء مادي كالعصا والكرسي والقلم والدواة، فهذه الأشياء ونحوها لا يحتاج في دراستها إلا لتحليل الشيء المادي نفسه ومعرفة عناصره، وما يجري على الشيء الواحد منها يجري على أمثاله. أما الكلمة أو اللفظة فلها روح، لها معنى، فإذا قلت محمد يقرأ فلا بد لفهمها من ثلاثة أشياء عقل القائل وعقل السامع والفكرة التي انتقلت من عقل القائل إلى السامع وكذلك لا بد من لفظة هي التي نطق بها القائل وسمعها السامع. ومن ناحية ثالثة لا بد من الحقائق نفسها وهي حقيقة محمد وحقيقة القراءة والعلاقة بين محمد والقراءة. وبالإجمال لا بد من ثلاثة أنواع: الفكرة واللفظة والشيء ذاته المتحدث عنه وعلى هذه الفكرة الأساسية البسيطة قاموا بأبحاث قيمة عميقة: هل كانت اللغة حادثا فجائيا عارضا في تاريخ الإنسان أو نشأت عن قصد وتعمد؟ هل يمكن التفكير من غير ألفاظ؟ هل يمكن أن تكون لغة من غير ألفاظ؟ ما العلاقة بين اللفظ والمعنى؟ ما المعنى؟ ما الذي يجعل لغة أرقى من لغة؟ إن اللغات القديمة كاللاتينية واليونانية تركيبية أكثر منها تحليلية، واللغات الحديثة تحليلية أكثر منها تركيبية؛ فهل الانتقال من التركيبية إلى التحليلية رقي أو تدهور؟ هل يمكن وضع لغة عالمية أولا، وإذا أمكن فهل هو في صالح الجنس البشري أولا؟ وهكذا من أبحاث لا عداد لها، وبعضها بل أكثرها لم يجد الإجابة الحاسمة عنها إلى الآن، وإني أدخل في باب عريض لو عرضت لحضراتكم ملخصا للنظريات التي أثيرت حول كل موضوع.
واتجهت طائفة أخرى إلى العلاقة بين اللغة والمنطق. فاللغة ليست وظيفتها فقط نقل المعنى من ذهن إلى ذهن، ولكن لها وظيفتان أساسيتان: فهي إما إخبارية تنقل المعنى من ذهن إلى ذهن ككلامنا العادي وكصحيفة الحوادث الداخلية والخارجية في الجرائد وككتب العلوم مثل الرياضة والطبيعة والفلك وما إلى ذلك، وإما «ديناميكية» أي قوة محركة للعواطف. والناحية الأولى عقلية والناحية الثانية شعورية للتحدث عن العواطف أو تهييجها، فإذا قلت إن الإنسان حيوان ناطق فهو من الضرب الأول، وإذا قلت إنه حشرة أو قلت إن النساء ملائكة أو شياطين فهو من الضرب الثاني.
وكان هذا أساسا لبحوث كثيرة واسعة للتفريق بين القضايا الإخبارية والقضايا العاطفية وما تؤديه كل منها، وهل قضايا الأخلاق من النوع الأول أو الثاني، وبيان أن لغة الشعر من الضرب الثاني، وما يتطلب ذلك من ألفاظ خاصة وأسلوب خاص، وبيان الخطأ في استعمال اللغة الإخبارية محل العاطفية والعكس؛ كما أداهم هذا إلى البحث الواسع في معاني الألفاظ على هذا الأساس وأثر القضايا المختلفة في العقل وفي المشاعر وكيفية بناء اللغة وتركيبها، وكيفية بناء الحقائق وتركيبها، وكيف يتلاقى بناء اللغة مع بناء الحقائق، ولماذا تتبع اللغة قواعد خاصة في بنائها دون غيرها، وهل لذلك سبب نفسي إلخ.
وناحية أخرى توجه إليها بعض الباحثين وهي أن أهم بحث في الفلسفة «نظرية المعرفة» أي كيف نعرف الحقائق، ولهذا اتصال وثيق باللغة، فما لم يعثر على الحقيقة لا يمكن أن يقال إنها حق أو باطل؛ وقد ذهب بعض الفلاسفة المعاصرين إلى أن أكثر مشاكلنا الاقتصادية والسياسية والاجتماعية يرجع إلى استبداد الألفاظ بنا وتحجرها وضياع الحقائق وراءها، وفلسفة اللغة كفيلة بإظهار هذا. ثم بحثت هذه الطائفة أيضا في الرمزية وفي نظرية أن كل لغة ليست إلا رمزا للحقائق والأشياء والمعاني وإن كانت تختلف الموضوعات في مقدار الرمزية فيها، فلغة الشعر ولغة الدين ولغة ما وراء الطبيعة أكثر رمزا؛ وبحثوا خاصة في لغة ما وراء الطبيعة ورمزيتها، إذ بدون شرح الرمزية فيما وراء الطبيعة يصبح الكلام فيها ضربا من الخيال وسبحا في الأوهام لا يدل على حقائق ثابتة معينة، وهكذا. (3) الاتجاه الاجتماعي
هناك اتجاه ثالث وهو الاتجاه الاجتماعي، وذلك من حيث إن اللغة نظام اجتماعي كالأسرة والدين والحكومة إلخ، لها أثر كبير في حياة كل جماعة وكل أمة. فهي واسطة الاتصال بين كل شخصين وكل جماعة، وهي التي تمد الإنسان بالمعلومات والمعارف التي وصلت إليها الأجيال السابقة والحاضرة، وهي التي ترعى الإنسان وتتعهده بالرقي من حين طفولته إلى حين وفاته ومن عوامل رقي الأمم وانحطاطها لغتها، فأدب كل أمة قويا كان أو ضعيفا يطبع الناس بطابعه؛ ولو نزل غريب ببلد وكان يعرف لغتها واطلع على جرائدها ومجلاتها وكتبها المؤلفة في عصرها الحاضر وأساليب أحاديثها لاستطاع أن يحكم لها أو عليها حكما صادقا بدرجة رقيها أو انحطاطها؛ فاللغة هي التي تصور رغبات الأمة وعواطفها ودينها وعقليتها وشهواتها وكل شيء فيها، وتنقل ذلك من الفرد إلى المجموع ومن المجموع إلى الفرد، فيتفاعلون كما تتفاعل عناصر الكيمياء. وبدون اللغة (وأعني باللغة كل وسائل التفاهم من إشارة وإيماء وكلام) يكون الإنسان بجانب الإنسان كالحجر بجانب الحجر. إنما يربط بينهما اللغة، وهي التي توحد بين الجماعة في المشاعر والأفكار؛ ولذلك تجتهد كل أمة حية قوية أن تنشر لغتها في أوسع مدى ممكن علما منها بأن ذلك من وسائل التفاهم وسهولة التعامل وعظم التقدير وخاصة من الضعيف للقوي.
هذه الناحية التي عرضتها عرضا بسيطا كانت مجالا لطائفة من العلماء بحثوا فيها كثيرا من المسائل اللغوية الاجتماعية بحثا مستفيضا: ما الذي تقوم به اللغة في مجال الرقي العقلي؟ - إن اللغة نتيجة طبيعية من نتائج الحياة الإنسانية فكيف تستمر الحياة في تغذية اللغة من بداوة إلى حضارة ومن حضارة أولية إلى حضارة راقية حتى تساير الإنسان في نموه ورقيه؟ - لقد راقبوا اللغة مراقبة دقيقة في نشوئها ورقيها، وعرفوا كيف نمت بنمو الحياة وكيف تدرجت من تعبير عن العواطف إلى لغة عمل وأمر ونهي، إلى لغة علم وأدب، وهكذا، وسجلوا في ذلك نتائج قيمة في هذا التطور.
واللغة مع أنها من نتاج الحياة وخاضعة لها فيها صفة المحافظة والتخلف والميل إلى الوقوف، لا تندفع مع الحياة وتسايرها إلا بدفعة من أبنائها الأقوياء. ثم اللغة تختلف معاني كلماتها باختلاف الأفراد والطبقات مهما جهدت المعاجم في تحديد معانيها، وتختلف عند العامة والخاصة. فكل لغة ليست لغة واحدة وإنما هي في الحقيقة لغات، وقد يكون للكلمة معنى عند بعض الجماعات في مستوى عقلي خاص، فإذا انتقلت الكلمة إلى جماعة أرقى عقليا تطور معناها. وبالغ بعضهم فقال إن لكل إنسان لغته كما له وجهه. وعلماء اللغة ميالون إلى مراعاة وجوه الاتفاق أكثر من مراعاة وجوه الخلاف، ومراعاة التعميم أكثر من مراعاة التخصيص.
إن كل جمعية حية تعمل للانتفاع بلغتها وتسييرها في خدمتها وتبذل جهدا كبيرا لتكميلها من النقص وجعلها صالحة للحياة المتجددة.
وكذلك بحثوا بحثا مستفيضا في علاقة اللغة بالمدنية: أكلما رقيت المدنية رقيت اللغة؟ وأداهم ذلك إلى الوقوف عند المدنية: ما معناها، واللغة ما معنى تقدمها؟ إلى كثير من أمثال ذلك.
فإذا نحن نظرنا إلى اللغة العربية في ضوء ما عرضنا تولانا الجزع من تخلف لغتنا عن مسايرة حياتنا. فالمعاجم التي هي سجل للكلمات المستعملة الصحيحة لا تفي بحاجتنا ولا نصفها، ووقفت عند العصر العباسي، بل إن واضعي المعاجم في تلك العصور أبوا أن يدخلوا فيها كلمات كثيرة وردت في كتب الأدب والعلوم مما كان يستعمله العلماء والأدباء العباسيون، وأغمضوا عيونهم عن الأشياء المادية والمعنوية التي خلقتها الحضارة العباسية، ولم يعترفوا إلا بالألفاظ البدوية وما استعمل قبل الاختلاط بالأعاجم، وغفلوا عن أن اللغة تابعة للحياة يجب أن تنمو بنموها وأن الأمة إذا تقدمت لا يصح أن تكون أسيرة للقدماء قبل أن يتقدموا، وأن ما يملكه البدائي في خلق اللغة يجب أن يملكه وأكثر منه المتحضر العالم. ولعل ما أداهم إلى هذا الموقف إيمانهم بالنظرية الساذجة، وهي أن اللغة توقيف لا وضع، وأنها خلقت دفعة واحدة وانتهت، وقد كان عمل الأقدمين في قصر ما يأخذون على القبائل التي لم تختلط بغيرها عملا جليلا من ناحية فهم اللغة العربية في أصلها وفهم الكتاب والسنة والشعر القديم؛ ولكن قصر مؤلفي المعاجم أنفسهم على هذا خلط بين غرضين؛ فالغرض الأول معرفة اللغة في أصل استعمالها، والغرض الثاني تسجيل ما يصح أن يتكلم الناس به، وفي الغرض الثاني تكون لغة الحضر أوفى وأنفع في الاستعمال من لغة الوبر؛ فبحثنا اللغوي الاجتماعي البسيط سيؤدي بنا حتما إلى المناداة بدفع اللغة أن تقفز من العصر العباسي إلى يومنا، وأن تفسح صدرها لحاجتنا، وأن تتطور لتكون في خدمتنا، وأن يقر أهلها بأن رجال لغتها لهم الحق أن يعربوا كلمات وأن يخلقوا كلمات، وأن يشتقوا كلمات حتى يواجهوا موقفهم الحاضر، فلا تتخلف عقليتهم كما تخلفت لغتهم، كما سيتضح من أول بحث لغوي اجتماعي أن تقدم الأمة تقدما حقيقيا مستحيل ما لم تتقدم اللغة وتستخدم في مصلحتها وتملأ كل فراغ موجود الآن من أسماء الماديات والمعنويات وما ولدته القرون الأخيرة من أفكار ومخترعات، كما سيتضح أن الأمة لا ترقى إذا كانت لغتها لا تصلح إلا لخاصتها دون عامتها؛ فالعصر الذي نعيش فيه ديمقراطي، لكل فرد الحق فيه أن يتعلم وأن يتثقف، وواجب الحكومات فيه أن تعلمه وتثقفه؛ ولا يمكن تثقيف الشعوب وتعليمها إلا بمرونة اللغة وتبسيطها وجعلها صالحة للشيوع والذيوع وحمل المعاني والأفكار والعلوم حملا قريب المنال. •••
ثم آخرون من اللغويين الاجتماعيين اتجهوا في بحثهم إلى الناحية الاجتماعية الروحية فللكلمات والجمل روح فعالة في النفوس غير معانيها التي في المعاجم؛ والفرق بين المعنى المعجمي والمعنى الروحي كالفرق بين النحوي في نظرته إلى تركيب الجمل وعوامل الرفع والنصب والجر والجزم وبين الفنان الذي يتذوق جمال الكلمات وجمال الأسلوب؛ وهذه الناحية الروحية للغة هي التي استخدمها ومهر فيها المتصوفة في أساليبهم، ورجال الدين في وعظهم وإرشادهم وأمرهم ونهيهم وترغيبهم وترهيبهم، ورجال الشعر في خيالهم ورجال الخطابة في خطاباتهم. وكما كان في كل ناحية من النواحي مهرجون ومزيفون كان مزيفوا هذه الناحية المشعوذين بالرقي والتعاويذ وأسماء الجن التي لا معنى لها، وهي مع ذلك تؤثر بروحها الضالة في النفوس الضعيفة.
عكف هؤلاء الذين اتجهوا هذا الاتجاه الاجتماعي الروحي على البحث في الدور الذي تقوم به اللغة في الأديان وفي الشعر وفي العلم، وما للغة من ناحية باطنية تخلقها عواطف الفرد والأمة، وناحية ظاهرية يتفاهمون بها في معاملاتهم ومحادثاتهم، وأن هناك صراعا دائما بين الناحيتين؛ وهذا قادهم إلى البحث في لغة الأمة وأثرها في عواطفها وعقلياتها. وعلى الجملة فقد كان من مباحثهم أيضا اللغة الشفوية في المحادثة واللغة المكتوبة والفرق بينهما من حيث التأثير النفسي واللغة والبيئة الطبيعية والاجتماعية التي نشأت فيها، واللغة والدين، والناحية العملية والناحية الميتافيزيقية للغة، واللغة والشعور القومي، واللغة والشعر إلخ. وإذا كان هذا البحث حديثا فقد وصلوا فيه إلى نظريات لا تزال مجالا للأخذ والرد، ولم تستقر بعد. (4) الاتجاه التربوي
حدد علماء التربية غرضهم الذي ينشدونه من تعليم اللغة؛ وهو أن يمكنوا المتعلم في أقصر زمن ممكن وبأقل جهد ممكن أن يفهم فهما صحيحا ما يسمع وما يقرأ، وأن يعبر عن نفسه تعبيرا دقيقا فيما يلفظ وفيما يكتب.
وهذا الغرض المحدود شعب البحث في أركانه وهي اللغة وطبيعتها والمتعلم وطبيعته والمعلم وطبيعته ومناهج تعليم اللغة؛ فالبحث في اللغة ومزاياها وعيوبها وما فيها من وجوه قوة وضعف يساعد كثيرا على وضع منهج التعليم، والمتعلمون يختلفون في المقدرة على تعلم اللغة، والمعلمون يختلفون في المقدرة على تعليمها؛ فما هي ملكات اللغة وكيف تدرس ويوضع لها المناهج المختلفة؟ وما هو المثل الأعلى للبرنامج وكيف نضعه؟
قد وصلوا من هذا إلى بحوث طويلة عريضة، وقد استغل الباحثون استغلالا بديعا البحوث والنتائج التي وصل إليها علماء النفس والاجتماع، وهذا باب من أنفع الأبواب. فالإصابة في تعليم اللغة القومية يكون الأمة في تفكيرها ويعودها الدقة والنظام فيما تقول وتكتب وتفعل، وإذا فشت في أمة الفوضى في التفكير والكلام السائح غير المنضبط والإقبال على الأدب الرخيص دون ما يتطلب الجهد كان من أهم أسباب ذلك فساد تعليم اللغة القومية، كيف تبدأ في تعليم اللغة، وكيف تتدرج مع المتعلم منذ الطفولة إلى أن ينتهي من مراحل التعليم، وكيف أكون للمتعلم معجمه وكيف أضبط فهمه وأضبط لسانه وأضبط كتابته في أقرب زمن وبأقل جهد؟ هذا ما يحاول هذا الاتجاه الإجابة عنه بشتى البحوث وشتى التجارب التي تشبه تجارب الطبيعة والكيمياء.
وأكتفي من هذه الناحية بهذه اللمحة.
لعل في هذا العرض السينمائي عبرة، فلغتنا العربية العزيزة علينا، والتي تكوننا ونكونها، والتي يبلغ عدد المتكلمين بها نحو سبعين مليونا تتطلب من أبنائها البررة مجهودا جبارا في مثل هذه النواحي التي ذكرت.
تتطلب معجما واسعا تستغل فيه كل الدراسات التي عملت في اللغات المختلفة وخاصة اللغات السامية والفارسية لمعرفة أصل الكلمة ومم أخذت وكيف تطورت على مر الزمان معجما لا يقف عند كلمات العرب الأقدمين ولا كلمات واستعمالات العباسيين، بل نجذبه من حيث وقف على بعد ثمانية قرون إلى حيث نحن وحيث نحيا وحيث نستعمل وحيث نفكر.
وتتطلب اللغة العربية دراسة نفسية وفلسفية واجتماعية على النحو الذي ذكرت.
وتتطلب من رجال التربية أن يقولوا بعد البحث والتجارب كيف نعلم لغتنا على خير وجه وكيف نتغلب على صعوبتها.
إن اللغة العربية تتطلب منا كل ذلك، وليس إصلاح اللغة العربية من هذه الجهات ينتج تقويما للقلم واللسان فقط، بل هو أيضا إصلاح للأمة في تفكيرها وفي خلقها وفي عقليتها وفي مشاعرها، إن تعليم عدد قليل من الأمة لغات أوربية يقرءون فيها ويستنيرون بها قليل الأثر في حياة الأمم، إنما الأثر الأكبر للغة القومية التي يفكر بها الشعب بأجمعه وترفعه أو تضعه، وتحيي عقله وشعوره أو تميته، وليست الأمة تصلح بنقل بعض أفرادها إلى حيث النور، ولكن ننقل النور إلى حيث الأمة كلها حتى يتبدد الظلام.
والله ولي التوفيق.
موقف حرج
نحن هنا في «المدينة».
وفي السنة الخامسة من الهجرة.
وفي المدينة عناصر ثلاثة: مؤمنون من مهاجرين وأنصار يلتفون حول محمد رسول الله ويأتمرون بأمره وينتهون عن نهيه، ويزيدون على الشدائد قوة في إيمانهم وعدتهم وعددهم ومنافقون نهازو فرص، وطلاب منفعة، اتخذوا دينهم لهوا ولعبا، مع الكافرين ومع المؤمنين حسبما يلوح لهم من أعراض الدنيا، لهم ظاهر وباطن، «وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون»، «وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون»، «إذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة» لا عقل ولا روح ويهود وهم عدد عديد في المدينة وضواحيها، كانت لهم آطام وحصون يسكنونها ويتحصنون بها عند الخصومة أو الحروب، لكل بطن من بطونهم أطم أو حصن كبير فيه مخازن غلالهم وثمارهم، وفيه معبدهم ومدارسهم، وفيه كنوز أموالهم وسلاحهم، وفيه تشاورهم وتآمرهم، وكان هؤلاء اليهود أهل قتال في الحروب، وفيهم أهل زرع وتجارة، يتاجر بعضهم مع الحجاز واليمن وبعضهم مع الشام، وبيدهم الحركة الاقتصادية، لكثرة أموالهم والغلو في استغلال من حولهم، يتعاملون بالربا الفاحش، وهم مقصد ذوي الحاجات فيما يرهن بربح اشتهروا بصياغة الحلي والاتجار بها يتكلمون العربية كسائر العرب، ولهم أدب وشعر كما لغيرهم أدب وشعر وهم كيهود العالم شديدو الاحتفاظ بدمهم وجنسيتهم وعاداتهم وتقاليدهم، لا يمسحون بالاندماج في غيرهم ولا باندماج غيرهم فيهم، يهوديتهم أولا وقبل كل شيء وبعد كل شيء، وما عداها من وطن ولغة وغيرها تبعي وقليل القيمة ... •••
كانت علاقة هؤلاء اليهود بمحمد وصحبه أول مجيئه المدينة علاقة مسالمة حتى ينظروا ما يفعل هو وصحبه لعله يفشل في دعوته، ولعل أصحابه أن يقتتلوا فيما بينهم، ولعل قريشا تقضي عليه في حروبها معه فيكفون شره من غير جهد منهم ولا مشقة ولا تدخل. ولكن لم تسر الأمور كما يهوون، فهو وصحبه يزدادون قوة، وهذه القوة تهددهم، ثم هو لم يكتف بدعوة الوثنيين إلى الإسلام بل أخذ يدعوهم هم أيضا، وهم الذين يعتقدون في أنفسهم أنهم أبناء الله وأحباؤه، وهم لا يؤمنون بنبي إلا أن يكون يهوديا، وفي كتبهم أن الرسالة والنبوة قد ختمت، ثم في تعاليم الإسلام ما يزعجهم، فهو يحارب العصبية الجنسية والقبلية، ويحارب الربا وكنز الذهب والفضة، ويجعل ميزان الإنسان التقوى، لا الحسب ولا النسب ولا الجنس العنصر ولا أي شيء آخر؛ فبدأت الخصومة بين اليهود والمسلمين تتجلى شيئا فشيئا وتحتد شيئا فشيئا، بمحاولة اليهود إيقاع الخصومة بين الأوس والخزرج وبين المهاجرين والأنصار، وبمجادلتهم الرسول والصحابة في المسائل الدينية بسؤاله عن الروح وعن ذي القرنين وما إلى ذلك. ولما اشتبك المسلمون في القتال مع قريش في غزوة بدر نفض اليهود أيديهم من المسلمين، بل وتمنوا أن يهزموا، بل ودبروا مؤامرة للفتك بمحمد
صلى الله عليه وسلم
وأخيرا تطور هذا العداء إلى خصومة مكشوفة، وأخرج الرسول بني قينقاع وهم من يهود المدينة كانوا يسكنون في حي واحد من أحيائها الداخلية، ليأمن شرهم وليوحد المدينة سياسيا ودينيا معا، إذ كان أغلب من عداهم من اليهود يسكنون خارج المدينة بخيبر وأم القرى، ثم سلك هذا المسلك مع بني النضير أيضا لإخلالهم بعهودهم. •••
في يوم من أيام السنة الخامسة للهجرة عقد جماعة من كبار اليهود ودهاتهم مؤتمرا سريا ينظرون فيه في وضع خطة للقضاء على محمد وصحبه، وإعادة سلطة اليهود في المدينة كما كانت وأكثر مما كانت، وكان من كبار المؤتمرين حيي بن أخطب وسلام بن الحقيق وكنانة بن الربيع، وهؤلاء كلهم من يهود بني النضير ومعهم هوذة بن قيس من يهود وائل وغيرهم، ماذا يصنعون؟
وأخيرا استقر الرأي على أن السبب في فشل القضاء عليه هو محاربته الجزئية لا الإجماعية، فيوما تحاربه قريش، ويوما يحارب هو اليهود، فالخطة المثلى هي تأليب العرب كلهم عليه، وتحديد زمن لتحرك القبائل كلها، وعسكرتهم حول المدينة، وانضمام اليهود إليهم في ذلك، فإذا أحكمت هذه الخطة، واجتمع العرب من جميع الأطراف بقضهم وقضيضهم، وانضم إليهم اليهود، فهلاك محمد وصحبه أمر لا شك فيه، ثم قالوا: لنرسل منا من اليهود إلى كل قبيلة من هو صديق لها وتربطه بها رباطة مالية أو تجارية أو نحو ذلك، ولنبدأ بقريش فإذا قبلت الفكرة ذهبنا إلى القبائل الأخرى نشجعها بإخبارها أن قريشا قد قبلتها فتقبلها، وتعاقدوا على التنفيذ. •••
هذا وفد يهودي من سلام بن مشكم وحيي وابن أبي الحقيق وهوذة يدخلون مكة ويفاوضون أبا سفيان وصحبه في الخطة التي وضعت، فيتحرك ضمير بعض رجال قريش، ويرى أن الحرب بينهم وبين محمد حرب دينية من بعض نواحيها، فإذا كان دين محمد خيرا من دين قريش وقضينا عليه وعلى دينه لم نجن خيرا، لهذا سألوا اليهود: «إنكم أهل الكتاب الأول، والعلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد، أفديننا خير أم دينه؟» قالوا: «بل دينكم خير من دينه وأنتم أولى بالحق منه».
وهكذا لم يتورع اليهود أن يقرروا أن دين الأوثان خير من دين التوحيد، لأن المسألة في نظرهم ليست مسألة حق يضحى في سبيله بشيء من الصدق، ولكن مسألة مغنم يضحى في سبيله بكل حق.
فلما اتفقوا مع قريش وتواعدوا على وقت الهجوم سهل عليهم الاتفاق مع غيرهم، فذهبوا إلى «غطفان» وأخبروهم بالاتفاق مع قريش، فأجابوهم إلى الدخول في الحلف؛ وهكذا ألبوا جزيرة العرب على المسلمين في المدينة ووضعوا تفاصيل الخطط وحددوا الزمن. •••
كل الدلائل تدل على نكبة عظمى واستئصال شنيع، ولو استفتي المنطق لأفتى بأن المسلمين سيقضى عليهم قضاء مبرما. فماذا يفعل ألف أو ألفان أو نحو ذلك من المسلمين ومعهم ستة وثلاثون فرسا، أمام هذه الجيوش من الألوف المؤلفة وجيش قريش وحدها بأحابيشها يبلغ عشرة آلاف، وحالة «المدينة» نفسها قلقة مضطربة؛ فبنو قريظة من اليهود بجوار المسلمين يستعدون للوثبة إذا رأوا الفرصة، والمنافقون يندسون بين المسلمين يثبطون الهمم ويضعفون العزائم ويتنادون عليهم: «هذا الذي وعدكم كنوز كسرى وملك قيصر»؛ فعدو أي عدو في الخارج وعدو أي عدو في الداخل، والموقف حرج والحياة كرب، وهذا ما يصف القرآن:
إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا * هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا * وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا . ولكن رسول الله والخلاصة من صحبه ما وهنوا ولا استكانوا ولا تطرق الشك إلى نفوسهم، بل زادت نفوسهم صفاء عند الشدائد
ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما . •••
والله لا يهب نصره للضعفاء، إنما يهبه عند بذل الجهد وإحكام العمل وتضحية النفس والمال للعقيدة، أما غير ذلك فإيمان أجوف.
لقد سمع رسول الله وهو اليقظ لكل ما يجري بما بيتت له جزيرة العرب، وعلم أن مقابلة القوة بأضعافها قد لا تجدي، فتشاور هو وأصحابه في الموقف فاستقروا على حفر خندق حول المدينة يمنعون به الأعداء من دخولها، وكان هذا الخندق أول ما عرف في جزيرة العرب.
فها هم المسلمون يهبون بكل قواهم لحفر خندق، لا يتخلف أحد، ورسول الله في طليعتهم، يحفر كما يحفرون «حتى وارى الغبار جلدة بطنه» ويبث فيهم القوة والاحتمال بالغناء بالأراجيز كأرجوزة ابن رواحة.
والله لولا أنت ما اهتدينا
ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا
وثبت الأقدام إن لاقينا
إن الألى قد رغبوا علينا
إذا أرادوا فتنة أبينا
حتى إذا جاءت الأحزاب إلى المدينة رأوا الخندق قد أعد والحيطة قد تمت، فلم يستطيعوا أن يدخلوا المدينة وإن تجمعوا في أسفلها وأعلاها، وحاول قوم أن يقفزوا بخيلهم من أضيق موضع في الخندق فتصدى لهم المسلمون وقتلوا بعضهم فكر بعضهم راجعا.
وكان الفصل شتاء، والبرد قارس، والرياح عاصفة، وليس بينهم إلا الترامي بالنبل والحجارة، واستمروا على ذلك بضعة وعشرين يوما من أشد الأيام على المؤمنين، ثم دب الفشل واليأس في نفوس الأحزاب، واندس بعض الذين أسلموا ولم يعلموا إسلامهم يبث الوقيعة بين اليهود وقريش واليهود وغطفان، وزاد الأمر سوءا بين الأحزاب عدم توحد القيادة، وفقدان الثقة بين بعضهم وبعض، وسوء الحالة الجوية ويأسهم من وصولهم إلى نتيجة حاسمة في أمد قريب، فرجعوا خائبين
ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا .
ثم هاجم المسلمون بني قريظة لنقضهم العهد وموالاتهم للأعداء من الأحزاب وشدة خطرهم على المسلمين لقربهم منهم في المدينة، فقتلوا بعضا وأسروا بعضا
وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطئوها وكان الله على كل شيء قديرا . •••
أما بعد فالرواية واحدة تمثل في أمكنة مختلفة وأزمنة مختلفة وبأشخاص مختلفين.
لقد كان المسرح المدينة فصار فلسطين، وكانت الرواية تمثل في القرن السابع، ثم ها هي يعاد تمثيلها في القرن العشرين، وكان يظهر على المسرح حيي بن أخطب وأمثاله والآن يظهر ويزمان وأمثاله.
وكان القوم يؤلبون جزيرة العرب، واليوم يؤلبون إنجلترا وأمريكا، وكانوا يحلمون حلما جميلا رائعا، واليوم يحلمون حلما جميلا رائعا وكان إذ ذاك منافقون، وكان اليوم منافقون، وكانوا يجدون ولا يتورعون، واليوم يجدون ولا يتورعون.
ولكن ...
هل تكون نتيجة اليوم كنتيجة الأمس؟
أما إ ذا اتحدت المقدمات فلا بد من اتحاد النتائج، وإن اختلفت اختلفت.
وقد كانت مقدمات الأمس إيمانا صادقا ويقظة قوية ووحدة كلمة وعملا متواصلا من الزعيم إلى الأتباع، وصبرا على احتمال الأذى لسمو الغاية، وسد الآذان عن قول الدساسين والمنافقين، وابتكار الأساليب لإفساد الخطط، وبعد النظر في العواقب، وقد علمنا «المنطق» أن المقدمات المتشابهة تنتج نتائج متشابهة، وأن المقدمات تخلق خلقا والنتائج تأتي لزاما.
فهل تحدث المقدمات في القرن العشرين كما حدثت في القرن السابع فتمثل الرواية اليوم كاملة كما مثلت من قبل كاملة؟
وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات
1
ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون .
مشاكلنا اللغوية والأدبية
يواجه العالم العربي اليوم مشاكل خطيرة في اللغة والأدب تتطلب حلولا حاسمة سريعة.
والسبب الأكبر في هذه المشاكل أننا نواجه عالما جديدا، قد قطع في المدينة والحضارة شوطا بعيدا، وقد تطور العالم في القرن التاسع عشر ونصف العشرين ما لم يتطوره في قرون مضت.
واللغة والأدب ما داما حيين لا بد أن يتطورا مع المدينة ويسيرا بجانبها ويتفاعلا معها، إذ هما عنصران من عناصرها ومقومان من مقوماتها.
وقد يكون هناك بعض الشبه بين الموقف الآن وموقف اللغة العربية والأدب العربي في العصر الإسلامي الأول يوم خرجا من الجزيرة العربية وواجها مدنية العراق والفرس والروم، وإن كان هناك بعض الفروق بين الموقفين، منها أن العرب قابلوا هذه اللغات واللغة العربية يومئذ لسانهم وهي ملكهم يتصرفون فيها تصرف المالك، ونحن نواجه المدنية الحديثة واللغة العربية لنا بالتعلم لا بالسليقة، وقد سبب هذا ضعفنا في الشعور بملكيتنا لها أقعدنا بعض الشيء عن العمل، وحملنا على الجمود، ومنها أنهم واجهوا المدنية إذ ذاك وهم غزاة فاتحون، ونحن واجهناها ونحن مغزوون مفتوحون، والشعور الأول يدعو إلى العزة والعزة تدعو إلى الجرأة، والشعور الثاني يدعو إلى الضعف، والضعف يدعو إلى التردد منها أن المدنية الحاضرة أكثر تركبا وأشد تعقدا، والحضارة الحديثة مقبلة والحضارات القديمة كانت مدبرة، الحضارة المعقدة المركبة المقبلة أكثر إنتاجا وأصعب حلا وأكبر عبئا عند الاحتياج إلى مسايرتها.
على كل حال أمامنا الآن مشاكل لغوية كثيرة أهمها:
أولا:
هذا السيل الجارف من آلاف الكلمات تضعها المدنية الحديثة لكل ما يجد من آلات وأدوات وتراكيب طبية ومواد كيمياوية، هذا إلى ما تضعه من آلاف الكلمات في مصطلحات العلوم المختلفة من اقتصادية وسياسية واجتماعية ونفسيه إلخ، ولا بد للغتنا أن تساير هذه اللغات الغربية كما تساير حضارتنا حضارتهم، إذ اللغة ليست إلا ثيابا يجب أن تتسع كلما اتسع الجسم وإلا لم تكن ثيابا صالحة.
وكما توسعت اللغات الأوربية في مواجهة كل جديد بوضع كلمات له، توسعت أو عدلت في معاني الكلمات القديمة فعددت معانيها وحددتها بحسب تقدم العلم وتطور الأشياء؛ فمثلا تعريف الذرة اليوم غير تعريفها منذ عشر سنين بسبب تقدم العلم، وتعريف الشعور والعاطفة والإرادة والعقل ونحو ذلك متطور بتطور علم النفس وتقدمه، وتعريف المؤتمر والحرية والمجلة والمطبعة ونحوها يختلف باختلاف تطور هذا الأشياء ومدلولاتها، فكانت معاجم اللغة عندهم متغيرة كل حين يتغير هذين العاملين: أعني المخترعات الجديدة ووضع ألفاظ جديدة لها، وتعديل المعاني وتحديدها بتغير مدلولها.
واجهت لغتنا العربية هذه المشكلة الكبرى من نحو مئة عام أو قبل ذلك، من حين الحملة الفرنسية ومن حين رأى الجبرتي المخترعات الفرنسية الحديثة فحار في تسميتها، وكلما مر يوم تعقدت هذه المشكلة وصعب حلها، ومعاجمنا لم تصلح إلى اليوم، والألفاظ الجديدة لم توضع إلى اليوم، وكل ما فعلنا أن بدأ بعض الأفراد يضعون كلمات لما يقابلهم في طريقهم من غير خطة مرسومة، وبدأت المجامع تتكون في مصر والشام وتواجه هذه المشكلة، وكان طبيعيا أن تتوزع الآراء بين محافظين يرون أن القواعد التي وضعها الأقدمون من اللغويين يجب مراعاتها والسير الدقيق عليها وعدم الخروج عنها، وأحرار يرون أن هذه القواعد لا تكفي لمواجهة الحالة الجديدة، ويجب أن يكون لنا الحق في الاجتهاد ولو خالف الأقدمين، وأن نأخذ من قواعدهم ما صلح ونزيد عليها ما يصلح لمواجهة حالتنا، وأن اللغة ملك لنا ولسنا ملكا للغة، وكل ما يجب علينا هو أن نراعي المحافظة على العناصر الأساسية والمقومات الشخصية لكل لغة، فلا نسمح للرطانة والعجمة أن تكتسحها، وأمامنا التعريب والنحت والاشتقاق وزيادة بعض الحروف على بنية الأصول، وهي الطرق التي استعملها القدماء فلنستعملها الآن، ولنعرب كما عربوا وننحت كما نحتوا ونشتق كما اشتقوا، بل ولنضع ألفاظا جديدة نخلقها خلقا إذا اقتضى الحال كما فعل العرب أنفسهم إذ كانوا يلحظون في الشيء بعض صفات فيطلقون عليه لفظا مناسبا، فسموا نباتا الظفرة لأنه يسب الظفر عند طلوعه، وسموا نباتا العطف لأنه يعطف على الشجر ويلتوي عليه كاللبلاب، وسموا الثور ثورا لأنه يثير الأرض وهكذا. وهذا باب واسع إذا فتحناه لأنفسنا أغنانا عن كثير من التعريب ولنتوسع في مدلول الكلمات عند الضرورة ولنعرف الكلمات في معاجمنا تعريفا جديدا كالذي دل عليه العلم، وكل ما في الأمر ألا نتوسع في هذه الباب توسعا يطغى على كيان اللغة، وألا يكون الأمر في يد كل فرد يقول ما يشاء، بل لا بد أن يكون في يد أهل الاجتهاد الذي تكون لهم ذوق لغوي ممتاز يستطيعون به أن يلحظوا إيماء اللفظ ودلالته ومناسبته وجماله.
وربما كانت هاتان النزعتان نزعة المحافظين والأحرار باقيتين إلى اليوم من غير تلاق.
وننظر بعد ذلك كله فنرى المشكلة لا تزال قائمة، بل تعقدت وتركبت، فالكلمات التي أقرها الأفراد والجماعات بالتعريب والنحت والاشتقاق والتوسع أقل بكثير مما خلقته أوربا من الأشياء وألفاظها ومعانيها وأسمائها.
وأحسب أن عدم حل هذه المشكلة يرجع إلى أن الأمور في هذه المسألة سارت في العالم العربي سيرا مهوشا من غير ضابط، فليس هناك اتصال وثيق بين المجامع ولا بين الهيئات ولا بين الأفراد، واللغة ملك للعالم العربي كله، والكلمة تصطلح عليها أمة يجب أن تصطلح عليها جميع الأمم العربية لما بينهم من ضرورة التفاهم، والمأمول وقد تكونت جامعة الأمم العربية أن ترسم خطة محكمة لتعاون المجامع والهيئات على تذليل هذه الصعوبات.
وسبب آخر وهو أن هذه المجاميع والهيئات اعتقدت أن مهمتها وضع الكلمات الاصطلاحية في العلوم المختلفة، وهي مهمة تنوء المجامع بحملها وليس في طبيعة تكوينها ما يمكنها من ذلك، وإنما الطريقة المثلى أن يضع الكيمياويون ألفاظهم الكيمياوية ويتعاون الكيمياويون في العالم العربي على ذلك بشتى الوسائل وكذلك يفعل الطبيعيون والجيولوجيون وعلماء الحيوان والنبات ثم يعرض ما وضعوه على المجامع لإقراره أو تعديله أو تهذيبه حسبما يرشدهم إليه ذوقهم اللغوي، فإذا تم ذلك كان إقرارهم قانونا بهذا يسهل العمل ويسرع، وبهذا يكون العمل في يد الإخصائيين أولا وهم أدرى بالمعاني والمصطلحات المناسبة. أما أن نكلف لغويا وضع مصطلح كيمياوي وطبيعي وجيولوجي فضرب من العبث والبطء الذي لا نهاية له، ولا بأس أن يكون للمجامع الإرشاد العام لا وضع الجزئيات ابتداء، فصاحب كل بيت أدرى بما فيه.
ثم على كل هيئة كيمياوية وطبيعية وجيولوجية أن تضع معجمها الخاص بها، ثم تأخذ المجامع الألفاظ الكثيرة الشيوع الدائرة على ألسنة الناس والكتاب فتدخلها في المعاجم العامة بتعاريفها التي عرفها علماؤها مضافا إلى مجهود المجامع في تحديد معاني الألفاظ تحديدا يتفق وتقدم العلم وتطور المعاني والأشياء، فنحن إلى الآن لا نزال في حاجة قصوى إلى معاجم تجاري الزمن فنحدد الحيوان والنبات والأشياء وفقا لما وصل إليه العلم الحديث، ووفقا لما تطورت إليه مدلولات الألفاظ في المدنية الحديثة، فقد أصبح مثلا للجامعة والكلية والمطبعة والحكومة والمحكمة والاشتراكية والشيوعية والحوالة والصك والمدرعة والقنبلة ونحوها من مئات الكلمات معان جديدة لم يكن يعرفها العرب ولا صاحب القاموس ولسان العرب، وإنما نعرفها نحن، ومعاجمنا يجب أن تصنع لنا ولأبنائنا وتشرح شرحا دقيقا ما تدل عليه كلماتنا، وقد آن الآوان لمواجهة هذه المشكلة وحلها حلا سريعا. •••
المشكلة الثانية
الخطيرة التي نواجهها في اللغة مسألة البرزخ الذي بين اللغة العامية واللغة الفصحى، وهي مشكلة قد تبدو صغيرة ولكنها في نظري من أخطر المسائل وأهمها، وذلك لما لها من أثر كبير في حياتنا العقلية والأدبية، سواء في الخاصة أو العامة، وهي مشكلة قديمة نشأت في العصور الإسلامية الأولى منذ وجدت اللغة العامية بجانب الفصحى وصعب على الأعاجم الإعراب فابتدعوا الوقف أي تسكين أواخر الكلمات، كما ابتدعوا أشياء أخرى مختلفة باختلاف البيئات تبعا لاختلاف هؤلاء الأعاجم الذين خالطوا العرب، ولكن لم يشعر الأقدمون بهذه المشكلة كما نشعر بها نحن الآن، لأن العلم كان حظ عدد قليل من الناس، ولأن الحياة الاجتماعية منذ العهد الأموي كانت حياة أرستقراطية، حياة طبقات، في المال وفي المناصب، وفي الثقافة وفي العلم والفن والأدب، وكان يتقبل هذا على أنه وضع طبيعي حدده القدر، فلما سادت العالم موجة الديمقراطية وصلت للشرق أيضا وكان من تعاليمها حق الشعب في التعلم كحقه في الحياة، وليس يصح أن يكون في الأمة أمي وغير أمي، وهناك حد أدنى في الثقافة يجب أن يصل إليه أفراد الشعب مهما كان مستواهم الاجتماعي إذ ذاك أدركنا خطورة وجود لغتين: عامية وفصحى، وأن هذا أحد العوائق التي تعوق التقدم الثقافي وذيوعه.
إن ثنائية اللغة بهذا الوضع مشكلة لا يواجهها الغرب كما نواجهها، للقرب الشديد بين لغة كلامه ولغة قراءته، فما على الغربي إلا أن «يفك الخط» حتى يفهم ما يقرأ إذا كان مستوى ما يقرأ مناسبا لعقليته، ولكن عامينا إذا قرأ صادف الإعراب الصعب وصادف كلمات فصحى لم يسمع بها، وصادف أسلوبا لم يعتده، وهذا من غير شك يجعل انتشار الثقافة العربية لا مستحيلا ولكن صعبا، حتى إذا قرأ قارئ للعامي كتابا أو صحيفة أو استمع للإذاعة لم يستطع أن يستوعب ما يقال استيعابا كاملا ولو كان ما يقال في مستواه العقلي.
وضرر آخر ينال اللغة العربية الفصحى نفسها، ذلك أن استعمال اللغة في الحياة الواقعية، في البيوت والشوارع والمجتمعات يكسب اللغة حيوية قوية ومرونة وتقدما أكثر مما تكسبها حياة الكتب، ونحن نلاحظ ذلك في لغتنا العامية، فاستعمالنا لها في حياتنا الواقعية جعلها تتجدد وترتقي كل يوم، لأن للفظ هالة غير المعاني الجامدة التي تنص عليها المعاجم، وهذه الهالات تتغير بما يحدث للفظ من تنادر ومن أخذ ورد ومن أحداث اجتماعية وسياسية وهكذا، فإذا انحصرت الكلمات في الكتب لم تتجدد حياتها هذا التجدد.
واللغة العامية لما كانت لغة واقعية جاءتها المخترعات الحديثة والآلات الحديثة فلم تقف كما وقف رجال الفصحى وقالوا تلفون وسيما وراديو، وسمى النجار آلاته، والحداد أدواته، وصقلوها بألسنتهم ولم ينتظروا رجال العلم والأدب.
أضر هذا الوضع باللغة الفصحى فلم تتجدد معاني ألفاظها التجدد الكافي، لأنها لم تنغمس في الحياة، وإنما انغمست في الكتب والصحف، وأضر بها من ناحية أن الأديب وقد عجز عن استعمال ألفاظ فصحى هرب من الواقع إلى الخيال ومن الجزئيات للكليات، فلما عجز عن أن يقول: إنه يلبس طربوشا. قال: إنه يلبس قلنسوة. ولما عجز أن يقول: إنه يلبس جزمة. قال: إنه يلبس نعلا. وفر من وصف أثاث حجرة أو ملبس شخص؛ لأن أسماءها إفرنجية، فقال ألفاظا عامة ليست دقيقة.
إن شئت فانظر إلى نوع من أنواع الأدب اللطيف وهو الفكاهة والنوادر كيف نما في اللغة العامية بأكثر مما نما في اللغة الفصحى لأنها لغة التخاطب في المجتمعات والحياة العامة.
ولم أسق هذا لأقوال بتفضيل العامية على الفصحى فهذا لا يخطر لعاقل على بال، ولكن لأدلل على ما أصاب العامة والخاصة من وجود لغتين في العالم العربي بهذا الوضع.
هذا هو الداء فما الدواء؟
سؤال في غاية الصعوبة والخطورة معا، فقد يرى قوم أن الأمور سائرة بطبيعتها سيرا حسنا لحل هذا المشكل، فاللغة العامية تتهذب بانتشار الثقافة وسماع الراديو والسينما والتمثيل وقراءة الصحف وما إلى ذلك، واللغة الفصحى تسهل بالصحف والمجلات وحاجة الكتاب إلى أن يفهمهم أكبر عدد ممكن، وهذا حتما يؤدي إلى تقارب اللغتين أو اتحادهما على مر الزمن.
وإني لا أنكر عمل الزمان في التقريب بين اللغتين، ولكنني من جهة أخرى أرى أن هذا التقارب إنما هو بين عدد محدود من سكان المدن كالعمال والصناع ومن في حكمهم، أما السواد الأعظم من الأمة وهم الفلاحون فهم بعيدون عن هذا التقارب. ومن جهة أخرى فلست أؤمن مطلقا أن لغة العامة مهما ارتقت ستكون يوما من الأيام لغة معربة كاللغة الفصحى، ونشر الثقافة العامة بين الشعب جميعا يعوقه الإعراب، فنحن نعلم الطلبة نحو ثلاثة عشر عاما تعليما مجهدا، ومع ذلك قد يكون واحد منهم في الألف هو الذي يجيد الإعراب والكتابة الصحيحة والقراءة الصحيحة، فكيف نتطلب ذلك في الثقافة العامة التي تعلم في زمن محدود.
وقد كنت رأيت في بعض الأوقات أن نصطنع لغة وسطا بين العامية والفصحى تنقى فيها اللغة العامية من خرافيشها «كمفيش» و«معليش» ونحو ذلك، وتطعم بالكلمات السهلة من اللغة الفصحى وتستعمل فيها الكلمات العامية التي حرفت قليلا عن اللغة الفصحى فيرد إليها اعتبارها، وفي الوقت عينه تكون خالية من الإعراب، تسكن فيها أواخر الكلمات ثم تستعمل هذه اللغة في التثقيف العام للجمهور وتنشأ بها مجلات وجرائد وكتب لتثقيف الشعب، ونبذل الجهد في أن ينشر ويتكلم بها الخاصة والعامة في حياتهم العامة، وتبقى اللغة الفصحى لتعليم الخاصة ومن يودون استكمال التعليم في الجامعات ونحوها حفظا لتراثنا المجيد القديم وربطا بين ماضينا وحاضرنا.
ولكن عيب هذه الفكرة صعوبة اصطناع اللغة وبثها ونشرها بين الجماهير الذين رضعوا لغتهم العامية مع اللبن، وبين أيدينا مثل على ذلك، وهو أن لغة الاسبرانتو قد اصطنعت اصطناعا وسهلت وسائلها وبذل في نشرها جهود جبارة ومع هذا لم تنجح النجاح المرجو لها وإن كانت هناك فروق بين الاسبرانتو والرأي الذي شرحته.
على كل حال فقد أثرت هذه المشكلة وعرضت بعض حلولها لأبين خطرها وقيمة بحثها، ولعله لو اجتمع مؤتمر من رجال العالم العربي وعلمائه وأدبائه وقصروا بحثهم على هذه المشكلة وخطرها، وعرضوا للحلول الممكنة وتجردوا في بحثهم من سيطرة القديم وإلفه ووصلوا إلى حل يرتضونه لأدى للعالم العربي أجل خدمة. •••
وأنتقل بعد ذلك إلى المسألة الثانية وهي مشاكلنا في الأدب العربي الحاضر وأحب أن أنبه إلى أني أستعمل الأدب بمعناه الواسع كالذي نستعمله عند ما نقول «كلية الآداب» فيشمل التاريخ والجغرافيا والفلسفة والأدب الصرف وما إلى ذلك.
ومشكلتنا فيه كمشكلتنا في اللغة من حيث إن الحضارة الحديثة أنتجت فيه إنتاجا ضخما في جميع فروعه ونواحيه وساير أهلها فيه مقتضيات الأحوال والأزمان، وكما تقدموا في مادته وموضوعاته تقدموا في طريقة عرضه وإخراجه، ثم اعتبروا انتاج كل أمة ملكا مشاعا للأمم الأخرى، فلا يظهر كتاب جديد كبير القيمة في أمة حتى تنقله الأمة الأخرى إلى لغتها، حتى وضعت كل أمة حية يدها على كل ثروة العالم العلمية والأدبية ومكنت أبناءها من السباق في الإنتاج.
وهذا ما يجب أن تفعله كل أمة تريد الحياة، فكل علم وكل أدب لا يحيا إلا بالتطعيم، وإلا بالوقوف على العلوم والآداب الأخرى حتى يستفاد منها ويبنى عليها، وحتى في الأدب الصرف، أمام الإنجليزي وبلغته خير نتاج الفرنسي والألماني والأمريكي والسويدي والروسي بل والشرقي، وهكذا في كل أمة.
في ضوء هذا ننظر ماذا فعل العالم العربي إزاء هذه الثروة الضخمة؟ إنه من غير شك في نهضته الحديثة قد قام بمجهود مشكور في ترجمة كثير من الكتب القيمة في شتى فروع الأدب وفي الاقتباس منها واستغلالها بمختلف الأشكال، ولكن هذا المجهود معيب من نواح:
الأولى:
أنه مجهود غير كاف، فالثروة ضخمة جدا والترجمة ضئيلة بالنسبة إليها، ولعل العذر أن الإنتاج القيم نتج في أوربا من عهد نهضتها في القرن السادس عشر، وتأخرت نهضتنا فلم تبدأ إلا في نحو أوائل القرن التاسع عشر، فلم نلحق هذا التلاحق في الإنتاج الأوربي.
ثم إن القادرين منا على الترجمة الصحيحة نسبة ضئيلة بالقياس إلى عددنا الذي يبلغ نحو سبعين مليونا بسبب ضعف الثقافة وقلة عمقها وقلة عدد الذين يستفيدون منها.
والثانية:
أن هذا المجهد مع قلته غير منظم فالمجهودات مجهودات فردية مبعثرة، والكتاب الواحد قد يبذل في ترجمته مجهودان لا يعرف أحدهما ما يغفل الآخر. والطريقة المثلى التي يجب أن نسلكها هي:
أولا:
حصر أمهات الكتب التي يجب أن تترجم إلى اللغة العربية من اللغات المختلفة، ووضع سجل لها يزيد كلما زاد الإنتاج الأوربي وينقص بما ترجم منه، ويشترك في وضعه جهابذة الأدباء والعلماء في العالم العربي.
وثانيا:
تعاون الدول العربية والهيئات العلمية والأدبية على الإنتاج المنظم، وسخاء الدول في الإنفاق على هذا الباب، فليس إصلاح العقل وغذاؤه بأقل قيمة من إصلاح الأرض.
وإذ كان أدبنا العربي الحاضر يستمد وجوده من الأدب الغربي بالترجمة والاقتباس فهو كذلك يستمد من التراث القديم، وهي ثروة واسعة لم تستغل استغلالا صحيحا كافيا أيضا، وما قلناه هناك من القلة والفوضى ينطبق على الأمر هنا انطباقا تاما، ولعل في الجامعة العربية أيضا الأمل في القيام بهذا العبء وتنظيم التعاون ووضعه على أسس ثابتة.
إذا تم هذا أمكن للأدب العربي أن يسير في موكب الأدب العالمي ويأتي بلون جديد بما يستغل من منابع الشرق الأصيلة.
ومسألة أخرى في أدبنا الحاضر، وهنا أتكلم عن الأدب البحت من شعر ونثر فني وقصص، فأراه مقصرا في وصف حياتنا الاجتماعية وعرضها ونقدها وتوجيهها، وهذا جزء هام من رسالته، بل أرى أنه في الأيام الحاضرة أقل رعاية لهذا الأمر من الأيام القريبة الماضية، فقد كان شعر شوقي وحافظ أملأ بأحداثنا ومعالجتها من شعر اليوم، فكان كلما عرض حادث للأمة سياسيا واجتماعيا شعرا فيه، كما يدل على ذلك ديواناهما وليس هذا شأن الشعر اليوم.
لقد وجه كثير من الشعراء والأدباء وجهتهم نحو أدب الغرب يقتبسونه ويقلدونه في موضوعاته وأساليبه، ولكن فاتهم أن هذا الأدب لا يكون أصيلا، إنما الأصالة أن يتثقفوا بالأدب الغربي ما شاءوا، ثم يهضموه ويستغلوه، ثم يوجهوا وجهتهم نحو قومهم وحياتهم الاجتماعية وأحداثهم الهامة ويصوغون من ذلك كله قصصهم، وينشئون فيه شعرهم، ويوجهون أممهم إلى مثل أعلى يرسمونه، وإصلاح ينشدونه، أما السبح في الخيال فقط، والتقليد فقط، فإذا قال شاعر غربي: «في وادي القمر». قلنا «في وادي القمر». وإذا قال في: «بحر الدموع». قلنا: «في بحر الدموع»، فضرب من الفقر الفني.
إن قال قائل: إن الفن للفن. قلنا: هل ثم مانع من أن يكون هذا شأن بعض الفن، وأن يكون بعضه الآخر فنا لخدمة المجتمع، لقد شبع الأدب العربي من الأدب الغنائي لتصوير العواطف، وبكاء الحب، والإفراط في المديح والرثاء وما إلى ذلك، فلماذا لا يكمل نقصه بالأدب في تصوير المجتمع وبؤسه، وسوء موقفه الاجتماعي والسياسي، وتخلفه عن غيره، وبث الشعور بالنقص، وبعث الأمل في مستقبل خير من الحاضر، فالباحثون العلميون يبحثون المشاكل الاجتماعية علميا وعقليا، والأدباء يمدونهم بتهييج المشاعر والعواطف نحو الإصلاح.
على هذا سار الأدب الغربي نفسه الذي نقلده، ففيه الأدب الغنائي وفيه الأدب الاجتماعي، فيه شرح عاطفة الحب وفيه قصة تمثل بؤس الكوخ وشقاء العامل، وفيه «اليوتوبيا» التي تصور مجتمعا أسعد من مجتمعنا الحاضر، فلم نقلده في الأول، وإذا قلدناه في الثاني صورنا غير بيئتنا ولم نصدر عن مجتمعنا؟
وأخيرا مشكلة ثالثة في الأدب،
وهي التي أشرت إليها في مشاكلنا اللغوية وهي أن أدبنا كله أدب الخاصة، وليس فيه شيء للعامة، ومعنى ذلك أننا نغذي بالأدب عشرين في المئة من الشعب أو أقل من ذلك ونترك الثمانين في المئة من غير غذاء، وهذه حالة في منتهى الخطورة، فالغذاء الأدبي ضرورة من ضرورات الحياة لكل إنسان، لا يصح أن يستغني عنه إلا الحيوان، وضعف الغذاء الأدبي يضعف الرأي العام ويجعله ضحية للمهوشين من السياسيين والدجالين والمخرفين، ثم هو أيضا يدعو إلى سوء تقويم الأشياء قيمة صحيحة، فالشيء التافه يقوم بأكثر مما يقوم الشيء الخطير، كما إذا مرض المريض فلا يعنى بعلاجه واستدعاء الطبيب له، ولكن إذا مات أقيم له المأتم وصرف عليه أضعاف أجرة الطبيب وثمن الدواء، ومثل هذا كثير، كما أنه هو السبب في عدم انضباط العواطف وتهيجها لأتفه الأسباب وسكونها عند أقوى الأسباب، فهو قد يقتل للتعدي على نوبته في الماء ثم لا يتحرك إذا أهدرت كل حريته، وهكذا.
جمهور الشعب لا يصل إليه الأدب إلا أدبا سخيفا عن طريق الغناء السخيف أو نحو ذلك. أما أدب يثقفه ويعلي مستواه ويرقي ذوقه ويهذب عواطفه فلا، وليس عندنا أديب للعامة وإنما كل أدبائنا للخاصة.
والسبب في ذلك هو ما ذكرت قبل من وجود لغتين، لغة عامية ولغة فصحى، وأننا إلى الآن لم ننجح في التوفيق بينهما، ولم ننجح في محو الأمية ولا قربنا من محوها، والبرامج البراقة توضع على الورق ثم تنام نوما عميقا عند التنفيذ.
ثم نحن لا نعترف بالواقع فنقرر أن السواد الأعظم أمي، ويجب أن يتغذى بالأدب، فنعمم الراديو مثلا في القرى ونحدثه بلغته العامية ونثقفه بها ونقص عليه قصصا أدبيا بها، فنحن نترفع عن ذلك حرصا على اللغة الفصحى من الفساد واستمساكا بالأرستقراطية الفكرية واللغوية، وفي الوقت عينه لا نغزو الجهل والعامية فنعمم التعليم باللغة الفصحة.
لا هذا ولا ذاك وتركنا الأمور تجري مجراها وقنعنا بالأدب يقدم للعدد القليل المحدود وتركنا السواد الأعظم من غير غذاء.
ولا أمل في إصلاح هذا إلا بحل مشكلة البرزخ بين اللغتين أولا، ومواجهة الواقع ثانيا.
وقد حلت الأمم هذا المشكل من ناحيتين: من ناحية توحيد لغة الكلام ولغة الكتابة تقريبا. ومن ناحية محو الأمية، فكان لكل إنسان أدبه بمقدار ثقافته وعقليته، وكلاهما أمر لا بد لنا منه.
الذوق الأدبي
لكل عصر ذوقه، وهذا الذوق يتحكم في أدب الأدباء، من شعراء وكتاب إلى حد بعيد، فذوق العرب في الجاهلية غير ذوقهم في العصر الأموي والعباسي، وغير ذوقهم اليوم، ولذلك كان أدبهم مختلفا. جاء عصر كان الذوق العام لا يستنكر التعبير عن العلاقات الجنسية بأصرح لفظ حتى في مجالس الخاصة والخلفاء. وذوقنا اليوم يستهجن هذا كل الاستهجان ويتطلب في التعبير عن هذا الإشارة البعيدة والإيماء الخفية. وكان الذوق في العصر الأموي يستنكر من العربي أن يكون صانعا أو يتصل بالصناع، ولذلك كان ركن كبير من أركان هجاء جرير للفرزدق أنه قين (حداد) وابن قين ولم يكن آباء الفرزدق حدادين، ولكن كان لآبائه أرقاء يعملون في الحدادة. ونرى اليوم بأذواقنا أن هذا الضرب لا يصح أن يكون أساسا للهجاء، بل نرى الوزراء من العمال يفخرون بصناعتهم في نشأتهم وشبابهم لأن الذوق اختلف.
ونحن في قراءتنا للآداب المختلفة لا نقدرها كما يقدرها أهلها، فنحن لا نقدر روايات شكسبير كما يقدرها الإنجليز ولو فهمناها، ولا نقدر روايات جوتة كما يقدرها الألمان ولو فهمناها، لأن التقدير يعتمد على الذوق، والكاتب يراعي هذا الذوق فيما ينتج، والذوق يختلف، فالتقدير يختلف.
إن ما نقرأ من الآثار الأدبية لكل عصر هو ظل لذوق هذا العصر وأثر من آثاره، ونتيجة لتقدير ذوقه للأشياء. حتى مظاهر الأسلوب من ميل إلى السجع أو الترسل والإفراط في أنواع البديع أو التخفف منها والاستطراد وعدمه، كل هذا متأثر إلى حد كبير بذوق العصر.
ويأتي عصر يغمر فيه الناس بموجة دينية فيكون الذوق متأثرا بذلك فيتأثر به الفن والأدب، ويتلوه عصر يميل فيه الذوق إلى التحرر من الدين والاستمتاع بمباهج الحياة إلى أقصى حد فيتأثر بذلك الأدب؛ وعلى هذا يمكننا أن نفهم الأدب من روح العصر الذي نشأ فيه ونفهم روح العصر من أدبه، وعلى هذا أيضا يكون تاريخ أدب كل أمة تاريخ ذوقها، أو بعبارة أخرى تاريخ روح عصورها. انظر إلى أدب أي عصر وتعمق في النظر إليه تعرف قيم الأشياء في نظر أهله، وإذا عرفت القيم عرفت الذوق وكذلك العكس.
وكان الذوق الذي يقوم الأدب ويغذق على أهله هو ذوق القصور، فانطبع الأدب بهذا الطابع وغلب عليه المديح وما إليه، ثم قويت الشعوب وحلت المطابع والناشرون محل القصور، فهي التي تعطي وتكافئ الأديب، فتحول الأدب إلى ما يوافق ذوق الجمهور؛ ولهذا لما كان الأدب العربي أدب «قصور» كان محلى بكل أنواع الزينة من جناس وبديع كالطرف تهدى إلى الملوك، فلما أصبح أدب شعب تحرر من الزينة لأن الشعب يقوم الحاجيات أكثر مما يقوم الكماليات.
إنا لنستطيع أن نحكم على ذوق الأمة بنظرنا في مجموعة من صحافتها وكتبها الأدبية الرائجة، لأن جمهرة الأدباء يتبعون ذوق جمهورهم أكثر مما يرقى القراء إلى ذوق أدبائهم لو ارتفعوا عنهم.
إذا رأيت المهاترات الصحفية تنزل إلى الحضيض في السباب والشتائم والفضائح ورأيت إقبال الجمهور عليها كثيرا وأنها تقابل بالترحيب فاحكم على ذوق الأمة الأدبي بالضعف، كما تحكم على الأسرة التي يتساب أطفالها بكل الفاظ الهجر على مسمع من آبائهم بالانحطاط، لأن الذوق الراقي لا يحب الهجاء الصريح ولا الهجاء العنيف، إنما أقصى ما يسمح باللمحة الدالة والإشارة المفهمة. ولا أدل على ذلك من النظر إلى حالتنا من ثلاثين سنة أو نحو ذلك، فكانت جريدة «كالصاعقة» أو «المسامير» أو «حمارة منيتي» تلقى رواجا كبيرا بين عامة الشعب، وكلما كانت الجريدة ممعنة في السباب المقذع كانت أكثر رواجا. وهي لو بعثت اليوم من قبورها أو قلدت في منحاها لم تجد رواجا لأن ذوق الجمهور ارتقى.
وكذلك لو قارنت الآن بين مجموع الصحف الشرقية والصحف الغربية لم تجد في هذه من المهاترات الشخصية والسباب المقذع ما تجده في بعض الصحف الشرقية، لأن ذوق الجمهور أرقى، والصحيفة التي تقع في مثل هذا تجد من اشمئزاز الذوق ما يميتها. كما تجد أن ظروف الأمم الحاضرة يجب أن تشغلها مصلحتها العامة ومستقبلها الخطير أكثر مما يشغلها أمور شخصية؛ فإن كانت هذه الأمور الشخصية تمس صالح الجمهور عولجت أمام القضاء في حزم وسرعة، لا أن تكون شغل الأمة الشاغل أزمانا طويلة.
كذلك إن رأيت مجلات الجمهور إنما تعنى بالمسائل الجنسية أكثر مما تعنى بالناحية الثقافية، وبالصور الخليعة أكثر مما تعنى بالصور الرفيعة، دل هذا على انحطاط الذوق الأدبي للجمهور، لأن في الحياة أمورا أكثر من نظرة الرجل إلى المرأة والمرأة إلى الرجل. قد يصح أن يكون هذا شيئا من الأشياء، أما أن يكون كل شيء أو أهم شيء فدليل على فساد الذوق الأدبي.
تسألني: وما يرقي الذوق الأدبي في الأمة؟
أما في الخاصة فعماد ترقية الذوق الأدبي هما «الجامعة» و«البرلمان» فهما المثل الذي يحتذى، فإن رقي ذوقهما بحسن تقويمهما للأشياء. وما يقال وما لا يقال وكيف يقال، وما يفعل وما لا يفعل وكيف يفعل، قلدت سيرتهما في الجماهير، فالجامعة نموذج الناشئين، والبرلمان نموذج الصحفيين والسياسيين ...
إن هؤلاء الجامعيين والبرلمانيين مظنة الثقافة الواسعة والقراءة العميقة والاطلاع الواسع، والاتصال بذوي الثقافة الراقية والذوق المهذب في العالم المتمدن، فأحرى بهم أن يقودوا الذوق الأدبي في الأمة.
وأما في الجماهير فويل لنا من الفقر والأمية، فهما الحجران اللذان يصطدم بهما كل إصلاح. وإن فساد الذوق أكثر ما ينشأ من الفقر والجهل. إن الطفل الذي ربي في بيت قذر ووسط قذر لا يأنف من قذارة الشوارع، ولا من قذارة ملابسه، ولا من قذارة وسطه. فكيف إذا كبر نتطلب منه أن يأنف من النكتة القبيحة، والحكاية القذرة، والسباب القذر؟ وإن الأمي الذي لم يقرأ كتابا، وكل غذائه الأدبي أغان وضيعة وحكايات ونوادر وضيعة لا يمكن أن يرقى ذوقه فيأنف من الهجر.
عماد الذوق الفني إدارك الجمال في كل صوره، من جمال منظر، وجمال أزهار وجمال طبيعة، وجمال نظافة، وجمال نظام، فإذا شاع هذا الإدراك وربى في البيت والمدرسة والمجتمعات، أمكننا بخطوة يسيرة أن ندرك بذوقنا جمال المعاني، فلا نضحك إلا من النادرة المؤدبة، وننفر من السياسي المهرج، ومن الصحف السبابة، ومن كل شيء قبح مادة أو معنى. وإذا رقي ذوق الجمهور رقيت السياسة ورقي الفن والأدب.
الزعامة والزعماء
عودتنا الطبيعة أن ترينا في كل مجموعة من المجموعات من يحتل مكان الصدارة منها، ويتميز بصفات خاصة عن سائر أفرادها.
حتى في النبات، نجد في كل مجموعة نبتة رائعة تلفت الأنظار إليها بسمو في نموها، أو بإزهارها زهرة تميزت بالجمال، وفي البستان سرعان ما نرى شجرة فاقت أقرانها بجمال استوائها، أو علوها وتفوقها، أو بكثرة أثمارها، أو حلاوة ثمرتها، والكل يزرع في أرض واحدة ويسقى بماء واحد.
وهذا في عالم الحيوان أظهر، فكل خلية نحل لها ملكة تأمر فتطاع، وتدعو فتجاب:
مملكة مدبرة
بامرأة مؤمرة
تحمل في العمال وال
صناع عبء السيطرة
فاعجب لعمال يول
ون عليهم قيصرة
وفي كل قطيع شاة متميزة، وفي كل عش دجاج ديك متفوق .
فإذا أتيت إلى الإنسان فالأمر فيه أبين. في كل مجتمع رئيس، بدوا كانوا أو حضرا، أطفالا أو كبارا، رجالا أو نساء، تجمع الطلبة في الفصل فيكون لهم في الذكاء أول، وتجمعهم في الألعاب الرياضية فيكون بينهم في ألعابهم ماهر، وتجري بينهم سباقا في أي ضرب فيكون منهم الفائز، وفي البدو شيخ القبيلة، وفي الحضر الأمير، وفي الديانة الشيخ والقسيس، وفي الحكم المدير والوزير، وفي شئون الاجتماع المصلح، وفي السياسة رئيس الحزب. •••
وإذا كان هناك تفوق ورياسة فذلك يستلزم سلطة وسيطرة من جانب، وخضوعا وطاعة من جانب.
قف وقفة في خظيرة الدجاج تر السيادة والخضوع بين الديكة بعضها وبعض والدجاج بعضه وبعض، والديكة والدجاج معا، عند التقاط الحب، وحسو الماء واختيار المكان الصالح للنوم، وهكذا.
وانظر إلى الأسرة يسودها الرجل، واستعرض ضروب السيطرة وضروب الخضوع، وانظرها تسودها المرأة، واسمع للأمر والنهي والذلة والاستسلام، وهكذا. فمتى كانت سيطرة هنا كان خضوع هناك وقد تتعاور السلطة والذلة على الشخص الواحد، فقد يكون الرجل مسيطرا بماله وشبابه، ثم ينقلب خاضعا لفقره وشيخوخته، وقد تتسيطر المرأة لجمالها، ثم تزول السيطرة بزواله. •••
ومخايل السيطرة والسيادة كثيرا ما تظهر في الأطفال منذ نشأتهم، كالذي روى أن رجلا نظر إلى معاوية وهو غلام صغير فقال: إني أرى هذا الغلام سيسود قومه. فقالت أمه هند: ثكلته إن كان لا يسود إلا قومه.
وقد تكون هذه عن وراثة يرثها، كالبذرة الطيبة تختار لتثمر ثمرا طيبا، وتأتي البيئة فتنمي هذه الوراثة وتغذيها، وقد تسوء فتضعفها أو تفنيها؛ فمنزلة الطفل في الأسرة لها أثر كبير في تقوية خلق السيادة أو إضعافه، فقد يكون الطفل أول ولد لأبويه ثم يرزقان بطفل آخر فيحولان عطفهما وتدليلهما إليه، فيثور الأول ويجتهد أن يلفت النظر إليه بعنفه وقوته وسطوته، فينشأ عنده حب السيطرة، ثم تساعده الظروف الأخرى خارج البيت كمهارته في اللعب أو أوليته في فصله، أو نحو ذلك، فيعده كل ذلك إلى السيطرة في الحياة، وقد يقسو الأب أو المعلم على الناشئ، فيدفعه ذلك إلى مقابلة القسوة بالقسوة، فيتولد عنده حب السيطرة، وقد تزيد قسوة الأب أو المعلم فتميت نفس الناشئ وتذله، وهكذا. مئات ومئات مما يجري في الحياة من كتاب يقرؤه، ودين يتدين به، وأصدقاء يعاشرهم، وعمل يتولاه، وروايات يقرؤها، وشعر يحفظه ... إلخ، كلها تؤثر في مصيره من السيطرة أو الخضوع.
والزعيم يتفاعل مع بيئته فتكونه ويكونها، وتغذيه ويغذيها، وبعض الناس قد منح من القوة ما يمكنه من الزعامة حيثما حل وأين رميت به، كالذي يصفه المتنبي:
إن حل في فرس ففيها ربها
1
كسرى تذل له الرقاب وتخضع
أو حل في روم ففيها قيصر
أو حل في عرب ففيها تبع •••
وليست كل سيطرة زعامة، فهناك سيطرة بحكم المنصب كالمأمور في مركزه أو المدير في مديريته أو الوزير في وزارته أو القائد في جيشه، فهذه كلها لا تخول لصاحبها أن يسمى زعيما.
وهناك سيطرة بسبب الملكية، كسيطرة مالك الأرض على فلاحيه، أو صاحب المصنع على عماله.
وهناك سيطرة بسبب نظام الطبقات كسيطرة ذوي البيوتات الكبيرة على ذوي البيوت الصغيرة، وسيطرة الباشا على من هم أقل منه مرتبة، أو الموظف في الدرجة الأولى على من في الدرجة الثامنة، أو نحو ذلك؛ فهذه كلها ليست زعامة، إنما ركن الزعامة هو خضوع الجم الغفير من الناس بإرداتهم واختيارهم لمزايا خاصة يرونها في الزعيم. •••
والصفات التي تستوجب الزعامة تختلف باختلاف نوع الزعامة؛ فهناك زعامة سياسية وزعامة علمية وزعامة دينية وزعامة حربية إلخ، كما أنها تختلف باختلاف الجماعات وتصورهم للمثل الأعلى للحياة. فلما كان عند العرب مثلا المثل الأعلى عماده الشجاعة والكرم كانت الزعامة عمادها هاتان الخصلتان. وقد قال عمر: «السيد هو الجواد حين يسأل، الحليم حين يستجهل، البار بمن يعاشر» فجعل السيادة في الكرم والحلم والعطف، وعدوا سلم بن قتيبة سيدا «لأنه كان يركب وحده ويرجع في خمسين» فجعلوا السيادة في الشجاعة، كما جعلوا من شروط السيادة صفات سلبية كالترفع عن الصغائر فقالوا: «لا سودد مع انتقام» إلخ. واليوم يعد من أهم صفات الزعيم الذكاء وسعة العقل والثقة بالنفس والرحمة بالناس والعطف عليهم والقدرة على ابتكار الخطط وحب العدل والفصاحة في القول مع القدرة على الدعاية، هذا إلى الصبر على الشدائد واحتمال المكروه، فلا زعامة من غير عناء كما يقول الشاعر:
أترجو أن تسود ولا تعنى
وكيف يسود ذو دعة بخيل؟
ويختلف الزعماء في تفوقهم في هذه الصفات أو بعضها ونسبة تفوقهم فيها، وقد يفقدون بعضها ويعتاضون عنها بتميزهم في بعضها الآخر.
ثم إن هذه الصفات قد يتصف بها الزعيم حقا ويتخلق بها صدقا، وقد يتصنعها رياء، فلا تنطلي إلا على رأي عام لم ينضج، وشعب لم يكتمل. •••
كذلك الزعماء أشكال وألوان: فهناك الزعيم الضاغظ المتحكم الذي يضطر الجمهور أن يؤمن به وأن يتوجه كما يوجهه، ويسد عليه منافذ تفكيره ومنافس مشاعره، ثم يدفعه دفعا إلى ما يريد هو، مثل هتلر وموسوليني وبعض مؤسسي المذاهب الدينية، وهناك الزعيم الذي يمثل عواطف الجماعة ومشاعرها، فيكون للجماعة آمال ومشاعر فيها شيء من الغموض وشيء من الميوعة، فيأتي هو ويوضحها ويمثلها ويبلورها، ويكون لسانها القوي في التعبير عنها وقلبها الحار الذي ينبض بأمانيها، ويكون هذا سر زعامته، يستطيع أن ينطق بما يشعرون ولا ينطقون، ويحدد الأغراض التي لا يحددون، ويقودهم إلى تحقيق ما يؤمل ويؤملون.
ومن ناحية أخرى هناك الزعيم الثائر والزعيم المعتدل؛ فالزعيم الثائر لا يرعى التقاليد والأوضاع ويدعو إلى الوصول لهدفه بعنف وقوة، لا ينظر إلى الماضي ولا إلى الحاضر، ولكن يسحر بالصورة التي يرسمها للمستقبل والزعيم المعتدل يرعى الأوضاع والتقاليد ويدعو إلى التقدم البطئ، ويربط الماضي بالحاضر والحاضر بالمستقبل، ويرى أن الطفرة محال، وخير الإصلاح ما استطاعه الشعب،، وخير السير ما كان إلى الأمام في أناة، ولذلك يرمي الثاني الأول بالتهور، ويرمي الأول الثاني بضعف العزيمة والجمود.
ومن ناحية الموضوع نرى أن هناك زعيما دينيا زعيما سياسيا وزعيما اقتصاديا وزعيما علميا، وهكذا.
وهم على اختلاف أنواعهم وألوانهم تحتاج إليهم الأمة حاجة الجيوش إلى قوادها، والسفينة إلى ربانها، والزعامة من كل نوع ليست لعب أطفال ولا اعتماد على ثرثرة كلام ، ولا على ضخامة مال إنها قيادة أمة، تعتمد على فلسفة وعلم وفن واستعداد خاص ومران طويل.
تتطلب الزعامة قيادة الجماهير، وهو عمل من أشق الأمور وأصعبها؛ لأن الجماهير عادة تخضع للعواطف والإنفعالات الوقتية أكثر من خضوعها للعقل والتفكير الهادئ المتزن، ولذلك قد تتحول من عاطفة الرحمة إلى القسوة العنيفة في لحظة، وهذا هو السر في أن الزعيم الثائر الهائج المشبوب العاطفة أنجح في قيادتهم من الزعيم الهادئ المفكر.
ومن ثم كانت العلاقة بين الزعيم وأتباعه من أدق العلاقات وأكثرها تعرضا للخطر. فالزعيم دائما في الميزان، كل كلمة منه وكل فعل يصدر عنه وكل كلمة أو فعل من مؤيديه أو معارضيه تؤثر في ميزانه بالرجحان أو عدمه.
ولشخصية الزعيم أثر كبير في هذه العلاقة؛ فلكل زعيم صورة تنعكس في خيال أتباعه وتؤثر فيهم، وكثيرا ما يضيف الأتباع إلى هذه الصورة خيالات وأوهاما من عندهم يخلعونها على الزعيم وقد يعتقدها هو أيضا في نفسه، ومن ثم كان التفاعل بين الزعيم وأتباعه تفاعلا قويا.
والنظر إلى الزعيم يختلف باختلاف حالة الأتباع العقلية والخلقية والاجتماعية، والجماعة الضعيفة العقلية قد تزعم المهرج الثرثار، وقد تزعم الهائج الشديد الإنفعال أو كثير الملق لهم من غير اعتبار جدي آخر. وقد تخطئ الجماعات حتى الراقية منها فتمنح من نال ثقتها في ناحية من النواحي ثقتها في النواحي الأخرى، فقد ينبغ الزعيم في السياسة فيمنح الثقة في الاقتصاد أو العكس وقد ينبغ في الإصلاح الديني فيمنح الثقة في السياسة وهكذا. وقد تكون الأمة في حالة ثوران واضطراب فتكون العلاقة بين الزعيم والأتباع علاقة مضطربة كذلك، كما في زعماء الثورة الفرنسية، كانوا يرفعونهم فوق الأعناق ثم ينفضون أيديهم منهم فيسقطون ثم يدوسونهم بالأقدام. •••
والمثل الأعلى للزعيم السياسي يختلف باختلاف العصور والبيئات، وهو في هذا العصر في الأمم الديمقراطية يتكون من عناصر أربعة لا بد من توافرها جميعا ليكون الزعيم زعيما حقا. وهي: الأمانة والشجاعة والذكاء والتعاطف مع الناس.
فأما الأمانة فلسنا نعني بها ألا يسرق ولا يخون ولا يرتشي، فهذه أمور تطلب من كل فرد في الأمة مهما حقر شأنه، تطلب من الموظف الصغير والتاجر الصغير وكناس الشارع والفلاح الفقير. وإنما تطلب من الزعيم الأمانة بمعنى أدق وأرقى، وهو أن يكون جادا صادقا مخلصا في فكره وقوله وعمله، فهو ليس أمينا إذا أخفى الحقائق عن أمته أو راءى وتظاهر بما ليس فيه، كما أنه ليس أمينا إذا أغمض عينه عن خيانة يرتكبها المقربون إليه أو راعى أسرته أ وحزبه على حساب أمته، الأمانة في الزعيم السياسي ألا يسمح لعقله أن تسكن فيه فكرة إلا إذا اعتقد أنها حق، ولا يجري على لسانه قول إلا الحق، ولا يصدر منه عمل إلا إذا آمن بنفعه، فإن لم يتوافر فيه هذا العنصر فهو زعيم مزيف غير أمين.
أما الشجاعة فلا بد له منها في كثير من الواقف، فقد يضلل الشعب بشتى الأضاليل، فيحتاج الزعيم أن يجاهر بما يعتقد ولو أغضب أتباعه، ولو أغضب الرأي العام، لأنه ليس تابعا للرأي العام، بل هو قائده ومرشده، يخاصمه أحيانا إذا رأى الخطأ في اتجاهه، وقد يخاصم الحكومة في تشريعها الضار أو في تصرفها السيء، فيحتاج إلى الشجاعة ليهاجمها ويثور عليها. ليس الزعيم الحق هو الذي يعيش على التملق للجماهير وكسب إعجابهم بالحق أو الباطل، والكلام بما يسرهم ويرضيهم. إنما الزعيم الحق من له من الشجاعة الأدبية ما يمكنه من أن يسمعهم الكلام المر إذا اقتضى الحال، ويخالفهم إن رآهم على ضلال، ويقومهم إن اعوجوا، ويدعوهم إلى الصراط المستقيم إن انحرفوا، ولو عرضه ذلك لفقد زعامته وتشويه سمعته.
ثم لا بد للزعيم من ذكاء ممتاز يدرك به الحقائق ولو بعد إدراكها، وهو في عصرنا هذا عنصر أساسي أكثر مما كان قبل، لأن الحياة الاجتماعية تعقدت وظروف الأمة تعمل فيها عوامل مختلفة خفية وظاهرة، والمنافع والمضار على أشد ما يكون من الاشتباك، وليست أية أمة بمعزل عن العالم، فهي نقطة من محيطه تتأثر بما يجري فيه، وليست العوامل الداخلية بأقل تعقدا من العوامل الخارجية كل هذا يتطلب ممن تصدر للزعامة أن يكون له من الذكاء ما يدرك به هذه الشئون المعقدة إدراكا صحيحا ليبني عليه حسن تصرفه.
ثم إن علماء النفس اليوم يقسمون الذكاء أقساما وينوعونه أنواعا. فهناك الذكاء في فهم النظريات والمسائل المجردة كذكاء الفلاسفة والجامعيين. وهناك الذكاء العملي، والزعيم السياسي أحوج إلى هذا النوع الأخير، وهو إدراك العلاقات الواقعية للمسائل والأشخاص، وهو ذكاء مكتسب من التجارب أكثر مما يستفاد من دراسة النظريات وعمق التفكير، هو ذكاء كالذي يكسبه المهندس من كثرة ممارسته، والطبيب بعد دراسته من طول مزاولته. فالزعيم السياسي في حاجة قصوى إلى ذكاء عملي يفهم به عقلية الناس الذين يعاملهم ويتزعمهم ويعمل لهم وكيف يساسون ووسائل إقناعهم وتوجيههم ومواطن القوة والضعف فيهم، فإن لم يدرك ذلك واكتفى بالنظريات وفهمها فشل فشل المحامي الذي يقتصر على دروس المدرسة، أو الاقتصادي الذي فهم النظريات ولم ينزل السوق.
وأخيرا لا بد من عنصر «العطف» أو بعبارة أخرى شعور الزعيم بأواصر الأخوة بينه وبين من يتزعمهم، ولا يكون ذلك مجرد قول يقوله أو يتملق الجمهور به. إنما هو شعور صادق يتغلغل في نفسه ويفيض على أقواله وأعماله، يشعر بعذاب الناس وآلامهم وآمالهم كما يشعرون بل أكثر مما يشعرون، ثم يحمله صدق هذا الشعور على أن يسير بهم إلى الغرض الذي ينشد وينشدون، لا أن يستخدمهم في تحقيق مصالحه الشخصية، وأغراضه الذاتية بهذا العطف يستحلي العذاب في خدمة الأمة، ويهزأ بالمتاعب في سبيل تحقيق الغرض، وبدونه يكون أنانيا جافا إن خدع الناس حينا فلا بد أن ينكشف عاجلا أو آجلا إذا ملأ الزعيم هذا الشعور استساغ التضحية واستعذبها، وإلا كان شرها في كسب الخير لنفسه من وجوهه المختلفة. •••
وما أحوجنا في الشرق اليوم إلى زعماء من هذا القبيل تجمعت فيهم هذه العناصر، فيأخذون بيده في نهضته وينيرون السبيل أمامه، ويهدونه إلى الحق وإلى صراط مستقيم.
أحاديث رمضان: في الحياة الروحية1
1
في بعض كتب الهند حكاية لطيفة وهي:
أن رجلا سريا له ابن عزيز عليه، فلما بلغ الثانية عشرة أرسله ليتلقى العلم على خير الأساتذة، وما زال يجد حتى استنفد جميع علمهم وقد بلغ الرابعة والعشرين، فعاد إلى أبيه مزهوا بعلمه، فخورا بمعارفه، عائبا على من حوله جهلهم وقلة علمهم.
قال له أبوه يوما: يا بني، أراك مغرورا بنفسك معجبا بعلمك، هلا طلبت من العلم ما يجعلك تسمع ما لا تدركه الأسماع، وتبصر ما لا تدركه الأبصار، وتعلم ما لا يعلم؟
الابن :
أي علم هذا يا أبي؟ فإني لم أسمع به.
الأب :
إنه يا بني علم أشبه بالعلم بالطينة التي تصنع منا أشياء كثيرة مختلفة الأشكال، فإنك متى عرفت الطينة وتكوينها عرفت كل ما يصنع منها، ولم يكن الاختلاف إلا اختلافا في الأسماء، أما الحقيقة فواحدة، كذلك هذا العلم لو علمته لعلمت كل شيء.
الابن :
لا شك أن هذا علم لم يعرفه أساتذتي الكبار الذين أخذت عنهم، إذ لو علموه لعلمونيه، فهل لك يا أبي أن تشرحه لي؟
الأب :
وهو كذلك ، ائتني بثمرة من شجرة النيجرودا (شجرة هندية).
الابن :
ها هي.
الأب :
اكسرها.
الابن :
ها قد فعلت.
الأب :
ماذا ترى في داخلها؟
الابن :
بذورا صغيرة.
الأب :
اكسر بذرة منها.
الابن :
ها قد فعلت.
الأب :
ماذا ترى؟
الابن :
لا شيء مطلقا.
الأب :
يا بني إن هذا الجوهر الذي لم تره هو الروح الذي لم تدركه، وهو الذي كون الشجرة الكبيرة. إن هذا الجوهر وهذا الروح هو الذي يقوم به كل موجود إنه الحق. إنه النفس. إنه أنا وأنت.
الابن :
زدني يا أبي علما.
الأب :
خذ هذا الملح وضعه في قدح ماء وائتني به في الصباح.
فعل الابن ما أمر وحضر في الصباح.
الأب :
ائتني بالملح الذي وضعت في القدح.
الابن :
لا أستطيع؛ إذ كان قد ذاب في الماء.
الأب :
ذق الماء من السطح وأخبرني.
الابن :
إنه ملح.
الأب :
ذقه من الوسط.
الابن :
إنه ملح.
الأب :
ذقه من القاع.
الابن :
إنه ملح.
الأب :
اطرح الماء على الأرض وائتني صباحا.
عاد الابن في الصباح فوجد الأرض تشربت الماء، وبقي الملح.
الأب :
هكذا بدنك أيها الابن، إنك لا تدرك الحق فيه، ولكنه موجود. إنه الروح. إنه النفس. إنه أنا وأنت. •••
ترمي هذه القصة إلى أن هناك جوهرا وروحا منبثا في هذا العالم كله على اختلاف أنواعه وأشكاله، هو سر وجوده، ولا فرق بينها إلا في الأسماء، كالفرق بين خشب يصنع شباكا أو بابا أو دولابا، فجوهر الخشب واحد، وإنما تتعدد الأسماء.
إن العلم الذي حصله «الابن» على العلماء قد كشف النقاب عن كثير من الألغاز، ولكنه لم يكشف شيئا من سر الحياة، وهذا هو الذي أراد الأب أن يكشفه.
كم تقدم الطب والجراحة فعالج أمراضا كانت مستعصية، ووقى من أمراض كانت فاشية، ومد من أعمار كانت قصيرة.
وكم تقدمت علوم الآلات، فاخترعت المخترعات العجيبة، والآلات الدقيقة الغريبة، ولكن إذا وضع لكل هؤلاء العلماء هذا السؤال: ما الحياة وكيف أتت وكيف تنتهي؟ عجزوا جميعا عجز «الابن» ومعلميه. لقد قالوا إن جميع النبات والحيوان مركب من خلايا ، وكل خلية مركبة كيمياوية من «كربون» و«هيدروجين» و«أكسجين» و«نتروجين»، فإذا تكونت هذه العناصر بنسب معينة كانت الخلية؛ ولكن كون هذه الخلية بهذه النسب كما تشاء فلن تستطيع ولن يستطيع العلماء مجتمعين أن يمنحوا الخلية «الحياة». «إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له، وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه، ضعف الطالب والمطلوب. ما قدروا الله حق قدره، إن الله لقوي عزيز».
إن الخلية من أحقر نبات إلى أعظم إنسان تتكون من هذه العناصر التي يعرفها العلماء، ولكن ينقصها عنصر يجهله العلماء هو الحياة، هذا العنصر لا يمكن العلم إيجاده، وبين العناصر المادية وعنصر الحياة برزخ لا يمكن أن يتخطاه العلم، وقد حار كل الحيرة في وسيلة الاتصال بينهما.
وهذا ما عناه بعضهم من قوله: «إن الدين يبدأ حيث ينتهي العلم». لقد انتهى العلم عند ذكر العناصر الأربعة وبدأ الدين من هذه النهاية فقال:
والله خلقكم ثم يتوفاكم ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكي لا يعلم بعد علم شيئا إن الله عليم قدير .
خلق السماوات والأرض بالحق تعالى عما يشركون * خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين .
أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون . •••
ثم هذا التغير المستمر في هذا العالم الفسيح. فالبر والبحر في تغير دائم، حتى جبال الهملايا لم تكن ثم كانت، وهي في كل يوم غيرها بالأمس، وفي علم الجيولوجيا البرهان الكافي على هذا التغير. فكم مر على الأرض من أطوار حتى أصبحت صالحة لسكنانا، وهذه الظواهر التي يلعبها الماء بالأمطار والأنهار والبحار، وهذه الحركات العنيفة المدمرة التي تقوم بها الزلازل والبراكين، وهذه القوى التي تسمى الجاذبية والكهرباء، كل أولئك يقف عندها العلماء في التفسير، فكل علة تفسر بعلة، وكل ظاهرة تفسر بظاهرة، ولكن سر في البحث وراء كل علة وكل ظاهرة فستقف آخرا عند سؤال لا جواب له: - لم يلعب هذا البحر الذي أمامي الآن؟ للهواء. ولم يلعب الهواء؟ للحرارة. ومن أين أتت الحرارة؟ من الشمس. ومن الذي أودع الحرارة الشمس؟
هنا نقف ويقف العلم، وكذلك في كل ظاهرة: ما حقيقة الجاذبية؟ وما حقيقة الكهرباء؟ ومن الذي وضع هذه القوانين الكثيرة التي يسير عليها العالم ويكتشفها العلم؟ كل هذا أيضا لا مجال للعلم فيه، وهنا أيضا يبدأ الدين حيث ينتهي العلم.
إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليما غفورا .
الله الذي خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار * وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار * وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار . •••
وسلك الناس في معرفة الله طريقين: طريقا داخليا وطريقا خارجيا، فالداخلي أن يستغرق الإنسان في نفسه بتصفيتها وتنقيتها وتهذيبها بالرياضة حتى تنكشف له نفسه فتنكشف الحقيقة فينكشف الله.
وأساس هذه الطريقة أن النفس الإنسانية قبسة من الله أودع فيها العلم بالحقائق، وإنما يحجبها العكوف على الشهوات والاقتصار على الاشتغال بالمادة.
وكان يرى هذا الرأي سقراط وبعض أتباعه وأفلوطين وابن سينا في قصيدته المشهورة (هبطت إليك من المحل الأرفع).
والطريق الخارجي يعتمد على النظر في العالم وتتبع مظاهره وقوانينه كما يفعل العلم، ويبحث في أصلها ووحدة قوانينها ونظمها حتى يدرك الله من ورائها.
وكثيرا ما يشبه المتصوفة الطريقين بحفرة، قد تمتلئ بالماء من جدول يصب فيها، وقد تمتلئ بالماء من نبع نبع منها.
والطريقة الأولى طريقة المتصوفة، يتلقون المعارف بالتأمل في نفوسهم ورياضتها، والطريقة الثانية طريقة المؤمنين من العلماء والفلاسفة، وقل من يجمع بينهما.
الطريقة الأولى:
تعتمد على العاطفة ونوع خاص من المزاج، ولذلك لا تنجح في يد كل أحد، ولا تحتاج إلى ثقافة، ومن أجل هذا قد ينجح في التصوف الأمي ومن لم يقرأ علما. ويأتي بالعجائب في دقة الذوق والوقوع على معان في غاية السمو.
وأما الطريقة الثانية:
فتعتمد على العقل، ولذلك كان لا بد لها من ثقافة علمية منظمة، ولا ينجح فيها إلا قوي العقل دقيق الفهم واسع النظر.
أسلوب الطريقة الأولى رياضة النفس واستحضار الله في كل خاطرة وكل تصرف وفي كل ما يسمع ويرى. وأسلوب الثانية المنطق ودراسة المقدمات وفحصها وامتحان النتائج وصدقها.
ومن لم يذق إلا طريقة واحدة عاب الأخرى، فالصوفي لا يعبأ بطريقة العقل في الوصول إلى الله، والعالم يرى طريقة التصوف إمعانا في الخيال.
ومن ذاق الطريقتين كالغزالي فضل الطريقة الأولى في مجال الدين واحترم الثانية في مجال العلم.
وكل ميسر لما خلق له.
2
إن كنت ذا مزاج علمي فانظر الله في هذا النظام العجيب الدقيق في العالم، من أصغر ذرة إلى أرقى جسم، من الحصاة إلى الجبل، من البذرة إلى الشجرة، من الحشرة إلى الإنسان، من السديم إلى الشمس، من الأرض إلى السماء، تجدها كلها مكونة تكوينا واحدا في ذراتها، خاضعة لقوانين واحدة في سيرها، فلم يخبط منها شيء خبط عشواء، ولم يسر منها شيء حيثما اتفق. إنما هو النظام الدقيق والقانون المحكم والعقل الكلي المسيطر على الجميع، ولو كان العالم وليد الاتفاق البحت والمصادفات المفاجئة لاختل نظامه وما بقي لحظة.
وكلما تقدمنا في العلم تقدمنا في اكتشاف القوانين، وما لم ندرك قوانينه فجهل بها لا خلو منها، ولولا هذه القوانين المنظمة الشاملة المبثوثة في العالم والتي يخضع لها خضوعا دقيقا لم يكن شيء اسمه العالم، ولكان العلم مستحيلا، فليس العلم إلا طائفة من القوانين لجزء من أجزاء العالم، ولكانت الفلسفة مستحيلة، فليست الفلسفة إلا اكتشاف القوانين الكلية للعالم: ولا شك أن العالم محكوم بقوانين معقولة يتجاوب معها عقلنا، وإلا كان الفهم أيضا مستحيلا.
وأعجب ما في هذا النظام قوة ارتباط أجزاء العالم ارتباطا يجعله وحدة؛ فإن رأيت طفلا بلا أسنان فثم لبن، وإن نبتت أسنانه فثم ما يمضغ، وإن رأيت معدة فثم أسنان، وكل مجموعة من خلايا الإنسان تقوم بوظيفة لا يقوم بها غيرها، ولا بد منها لنفسها ولغيرها، وإن صاحت ألف صيحة فلا بد أن يكون لها تجاوب في ياء.
فأنت إن قلت نظام شامل وقوانين شاملة ووحدة كاملة وعقل مبثوث في جميع الأجزاء فقد قلت «الله»، وإذا قلت «الله» فقد قلت كل شيء.
قال أبو سعيد بن أبي الخير الصوفي: «أخذني شيخي من يدي وأجلسني في إيوان ومد يده فأخرج كتابا وأخذ يقرأ، فتطلعت إلى معرفة هذا الكتاب فلمح الشيخ هذه الحركة فقال لي: يا أبا سعيد «إن مئة وأربعة وعشرين ألف نبي بعثوا ليعلموا الناس كلمة واحدة وهي «الله» فمن سمعها بأذنه فقط لم تلبث أن تخرج من الأذن الأخرى، أما من سمعها بروحه وطبعها في نفسه وتذوقها حتى نفذت إلى أعماق قلبه وباطن نفسه وفهم معناها الروحي فقد انكشف له كل شيء.» إن الذين يكتفون بذكر اسم الله من غير عقل ولا قلب ومن غير تفكير وتذوق كمريض يعالج مرضه بترديد اسم الدواء من غير أن يشرب نفس الدواء. •••
وإن كنت ذا مزاج فني فانظر الله في جمال العالم، وفكر في القوة التي نشرت هذا الجمال في كل شيء في اتساق وانسجام. انظره في جلال البحار وعظمة الجبال، وفي جمال الشمس تطلع وفي جمالها تغرب، وفي جمال الأشكال والألوان، في هندسة المحار، في شرشرة أوراق الأشجار، في هذه الطبيعة الفسيحة كلها التي تعمل كالآلة الضخمة وهي مع عملها العجيب تبدو نائمة كالصورة الجميلة، حالمة كالعاشق ألم به طيف الخيال. وكما كان العالم كله معقولا يجاوب عقل الإنسان ففيه من الجمال الأخاذ ما يجاوب شعور الفنان، وكما كانت قوانينه وحدة تدل على وحدة واضعها فجماله وحدة تدل على وحدة فنانها.
إذا رق شعورك اهتز قلبك للصباح المبكر وجماله وجوه وأرضه وهوائه، وتشربته في لذة كما تلذ الماء البارد على ظمأ، وخفق للبحر وأمواجه وحركاته كأنه يجري في عروقك، وراعتك السماء ونجومها حتى كأنك تسكر من ترداد النظر إليها، وغمرك زهو بهذا العالم كأنك وارثه ومالكه، وطربت من نغمات العالم، فاهتز قلبك يناغمها، وأحببت العالم وما فيه لأنه مصدر هذا الجمال الذي يبهرك، وأحببت نفسك لأنك تحب الجمال. وأخيرا انبعثت من أعماق نفسك كلمة «الله» تغذى بها هذا الشعور الفياض المتموج ناشر هذا الجمال، ولم تجد خيرا من أن تقرأ قوله تعالى:
فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون * وله الحمد في السماوات والأرض وعشيا وحين تظهرون * يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ويحيي الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون * ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون * ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون * ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين * ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون * ومن آياته يريكم البرق خوفا وطمعا وينزل من السماء ماء فيحيي به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون * ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون * وله من في السماوات والأرض كل له قانتون * وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وله المثل الأعلى في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم .
الحق أن العالم بستان رائع لا ينقصه إلا العين التي تبصره. •••
هذا العالم بروحانيته العقلية وبروحانيته الفنية كتاب مفتوح للناس جميعا، لا فرق بين متعلم وغيره، بل قد يستفيد منه الأمي حيث لا يستفيد المتعلم، والأمر يتوقف على الاستعداد وحسن التذوق وحسن التوجيه، وقد يستفيد إنسان من نظرة في حجر أو زهرة أو شجرة أو ثمرة ما لا يستفيد من معلم أو كتاب. •••
وكثير من الناس عندنا يخشون الآن كلمة الروحية، وخاصة المتعلمين ودعاة الإصلاح، وقد يرون أنها ضرب من الرجعية ومن آثار القرون الوسطى؛ والذي دعاهم إلى هذا أنه إذا ذكرت الحياة الروحية ذهب خيالهم إلى الأديرة وسكانها، والتكايا والمنقطعين إليها، ورجال الذكر والموالد والمشعوذين من رجال التصوف، والدجالين من المنجمين وأمثالهم ممن هم عالة على الناس؛ فهذه هي الروحانية المزيفة. إنما نعني بالحياة الروحية حياة تؤمن بأن هذا العالم ليس مادة فحسب، وأن سيره لا يمكن أن يفسر بقوانين «داروين» وحدها، من الانتخاب الطبيعي، وتنازع البقاء، وبقاء الأصلح، فإن هذا إن صلح تفسيرا للتطور فلن يصلح تفسيرا لحياة الخلية وحياة العالم، ففينا بجانب المادة روح، وفي الأحياء روح، وفي العالم روح، والله من ورائهم محيط.
وهذا الروح الأعلى هو الذي أودع في العالم قوانينه، ونشر فيه جماله، واتصال الإنسان بهذا الروح يسمو به، ويعلي من شأنه، ويرفع من ذوقه.
وليس هذا مما يستدعي الكف عن العمل والانقطاع إلى التبتل، بل إنه يدعو إلى الجد في العمل والإخلاص له والصدق فيه. ولأن تكون تاجرا أو عالما أو موظفا أو زارعا وفيك هذا الجانب الروحي خير من أن تكون متبتلا، أو أن تكون ماديا بحتا مظلما حتى من ناحية عملك وناحية إنسانيتك.
والداعي الأول إلى الإسلام
صلى الله عليه وسلم
كان يحيا الحياة الروحية على أتمها، وكان يحيي الحياة العملية على أتمها، فلم يترهب ولم يعش عالة، وجاهد في الحياة، حتى إنه أعد لخصومه ما استطاع من قوة. وقد أكسبت روحانية الإسلام أصحابه قوة في الحياة العملية لم تكن لهم من قبل، فلم يذلوا ولم يترهبوا. وأبوا إلا أن يسودوا.
3
أسمى ما قرره الإسلام ودعا إليه «الوحدانية» ولذلك كان شعاره دائما «لا إله إلا الله».
فالله خالق كل شيء من سماء وأرض، وجبال وبحار وأشجار، وحيوان وإنسان. هو رب العالمين لا رب غيره، وهو القادر على كل شيء، مدبر الكون وواضع قوانينه، ومؤلف نظمه، وهو العالم بكل شيء «ما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين» كل شيء في الوجود يستمد منه وجوده وحياته، لا خلق إلا خلقه، ولا قوة إلا قوته هو الحق وهو العدل، وهو المثيب على الخير والمعاقب على الشر
فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره .
هذه العقيدة بالوحدانية تكسب معتنقها قوة وعزة، فالله وحده هو القوي وهو العزيز، ليس الناس كلهم إلا خلقه، متساوين في الخضوع لقوته، والانقياد لإرادته، وهو وحده المعبود، وهو وحده المستعان:
إياك نعبد وإياك نستعين .
معتنق الوحدانية ليس عبدا لأحد إلا الله، فهو في العالم مستقل حر، لأن العالم ليس له إلا سيد واحد وهو الله، وأما باقي الناس فإخوة متساوون، فعقيدة الوحدانية كما تتضمن سيادة الله وحده تتضمن أيضا أخوة الإنسان للإنسان، فلا سيادة طبقات، ولا سيادة أجناس، ولا استعباد ملوك، ولا استبداد طغاة، ولا اعتزاز بنسب أو مال أو جاه أو قوة، ولا خضوع لمن يريد أن يتصف بصفات الله زورا، من بسط سلطان وفرض حماية ومحاولة استعباد إن حاول أحد ذلك قال المؤمن: «لا إله إلا الله» مدركا معناها، رافضا ما عداها.
عقيدة الوحدانية تشعر الإنسان بالنبل والسمو، فخضوعه لله وحده يشعره بالتحرر من سيادة أحد عليه، سواء في ذلك سيادة الناس أو سيادة قوى الطبيعة، فليس النيل معبودا تقدم إليه الضحايا، ولا العواصف والنجوم والشمس والقمر مما يخشى بأسها، ويتقرب إليها بالقرابين، لأنها مخلوقة لله مثله ، بل كل قوى العالم يصح أن يستخدمها الإنسان لخيره، لأن الله منحه عقلا يستطيع أن يفهم به قوانينها فيسخرها لمنفعته.
وكذلك لا تستعبده قوة الناس لأن الناس ليسوا إلا عبيدا مثله لله؛ فليس لأمة مهما كانت أن تستعبده أو تستعبد أمته، وهو لا يخضع لسيادتها لأنه لا يخضع إلا لسيادة الله، ولا يستعبده حاكم ولا سلطان ولا أي مخلوق في العالم، لأنه يعتقد أن «لا إله إلا الله»، كل ما يجب عليه نحو حاكمه أو سلطانه، أن يطيع قوانين العدل، لأن الله أمر بالعدل وبإطاعة العدل، ولا يخضع للظلم لأن الله نهى عن الظلم أيا كان، وهو لا يخضع لجبروت من أي صنف لأنه ليس لأحد حق الجبروت، ولكن له حق الأخوة.
إن الذي يريد أن يستعبدنا يريد أن يكون إلها و«لا إله إلا الله», والذي يريد أن يكون سيدا طاغيا يريد أن يكون إلها، و«لا إله إلا الله »، والحاكم الذي يريد أن يذلنا يريد أن يكون إلها و«لا إله إلا الله» إنا لا نقبل من إنسان أيا كان ولا من أمة أيا كانت إلا أن يكون أخا أو يكونوا إخوة. فأما السيادة والاستعباد فلا، لأنه لا إله إلا الله. إنا لا نقبل أن نشرك مع الله أحدا غيره مهما كانت منزلته ولو كان نبيا مرسلا، فلا نتقرب بالنذور إلى الأولياء، ولا نمنحهم شيئا من القداسة، ولا نعظم الحكام تعظيم عبادة، ولا نخضع لهم خضوع ذلة، إنما نطيع فيهم العدل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأن هذا وحده هو الذي يتفق ولا إله إلا الله. ليس يستعبدنا المال ولا الجاه ولا القوة، لأنها أعراض زائلة وليست من الألوهية في شيء، ولا إله إلا الله.
إن شئت فاستعرض تاريخ المسلمين تجد عزهم جميعا أو عزة أمة من أممهم مقرونة بالتمكن من عقيدة الوحدانية فيهم، وما توحيه من نبل شعور، فإذا زالت عقيدة الوحدانية زالت معها عقيدة الأخوة الإنسانية، وجاء الطغيان من ناحية والعبودية من ناحية، فزالت العزة، وفشا الذل والمسكنة، وأصبحت «لا إله إلا الله» ليست عقيدة تعتقد ولكن لفظا يؤدى، غناء يغنى، وقولا يسير مع الريح. إن الديمقراطية والاشتراكية والعدالة الاجتماعية بمعانيها الصحيحة لها البقاء والتقدم، لأنها داعية إلى الأخوة الإنسانية وهي من مستلزمات «لا إله إلا الله». •••
والوحدانية الخالصة مع بساطتها ومعقوليتها من أصعب الأمور على النفوس، تحتاج في اعتناقها إلى نوع من السمو، كما تحتاج إلى حياطة تامة حتى لا تشوبها شائبة من وثنية، لأن الناس سرعان ما ينزلقون إلى الشرك.
اليونانيون ألهوا قوى العالم، والفرس اختصروا الآلهة إلى اثنين: إله الخير وإله الشر، وجعلوهما يتنازعان، والعرب ملأوا الكعبة أصناما، فلما أتى الإسلام وحطمها ودعا إلى الوحدانية الخالصة وجعل لا إله إلا الله شعارها في كل مناسبة: في الأذان، في الصلاة، في كل عارض، لم تلبث بعض النفوس أن تسربت إليها الوثنية في أشكال خفية؛ بدأ بعض المسلمين يعظمون شجرة بيعة الرضوان، فقطعها عمر، وبدأ بعضهم يعظم أهل بيت الرسول تعظيما يقرب من العبادة، فنهاهم علي، ثم سال سيل الوثنية على مر الأيام، وامتلأ العالم الإسلامي بأقطاب يتصرفون في الكون تصرف الله، وأقيمت الأضرحة تقدم إليها النذور ويستشفع بها ويتقرب إليها كأنها آلهة. وانقلبت الخلافة إلى ملك عضوض؛ فالحكام كانوا يأمرون ولا راد لأمرهم، ويتصرفون ولا معقب لحكمهم، وذهب معنى أخوة الحاكم للمحكوم، وحل محله نوع من الألوهية، واستعبد الناس من ناحية الدين، واستعبدوا من ناحية الدنيا، وذهب معنى «لا إله إلا الله» إلا من قلوب الخاصة.
ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون * ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون . •••
لكل زمن وثينة، ولكل حضارة أصنامها، حتى هؤلاء المثقفون المتعلمون العاقلون الذين يهزءون بعبدة الأحجار وعبدة النجوم قد يحجبون هم أنفسهم عن الوحدانية بضروب دقيقة من ضروب الوثنية.
إن المعبود الأول اليوم في المدنية الحديثة هي الآلات الصناعية، لها تتجه الأنظار، وإليها ترفع أكف الدعاء، وإياها يعبد أرباب رؤوس الأموال، ولها يستعبد العمال، ومنها تشتق المبادئ السياسة والتعاليم الأخلاقية، وبقوتها تستعبد الأمم وتثار الحروب، وتطعن في الصميم الأخوة الإنسانية.
إن المذاهب السياسية من ديمقراطية وفاشية واشتراكية وشيوعية مؤسسة عليها وناظرة إليها، والنظريات الاقتصادية مشتقة منها ومتفرعة عنها.
والإنسان يشقى بهذه الآلات لتأليهها؛ وكانت تكون نعمة عظمى ومصدر سعادة كبرى لو نظر إليها في ضوء وحدانية الله بشقي معنييها من تأليه الله وحده وما تستلزمه من أخوة الإنسانية.
وبعد فما أكثر من يقول: «لا إله إلا الله» وما أقل من يعتنقها.
4
الناس يختلفون في أرواحهم اختلافهم في ألسنتهم وألوانهم وأجسامهم، وهم لهذا الاختلاف في الأرواح معرض لا مثيل له بين المعارض، منه يستمد المصور لوحته، والشاعر في الوصف قصيدته، والأديب المصور صورته، والقصاص قصته.
فمنهم من بردت روحه فكانت ثلجا، وضمرت حتى كانت ذرة، يقضى وقته بين مال يجمعه ، ومال ينفقه، ومال يدخره، وموازنة بين وجوه الاستغلال أيها أكسب، ومحاسبة دقيقة لكل من يتولى له عملا، ذهنه مستغرق بذلك من حين يصحو إلى حين ينام، حتى إن حلم فإنما يحلم في سلعة ربحت أو خسرت، وتجارة راجت أو بارت؛ فإن كانت له لذة في الحياة وراء ذلك فلذة عابرة من مأكل ومشرب يستمتع بهما بطرف من ذهنه، وسائره مشغول بماله وتدبيره.
أو موظف ينفق حياته في مذكرة يكتبها، أو مسألة يحضرها أو ورق يمضيه، أو رئيس يرضيه، ولا تفكير له وراء ذلك إلا في أمور الحياة العادية ومطالب المعيشة اليومية.
أو فقير همه كله في تحصيل رزقه وتدبير العيش له ولأسرته، يكدح في ذلك نهاره وجزءا من ليله، لا يفكر إلا في إعداد قوت لمعدات تنتظره وأفواه تلتهمه.
كل أولئك حرموا الروحانية، غنيهم وفقيرهم، عالمهم وجاهلهم، تنظر إليهم بعين البصيرة فترى ظلاما موحشا وجفافا مرعبا، قد فقدوا نفوسهم وإن كسبوا أي شيء آخر، هم آلة من جنس الآلات الحاسبة تجمع وتطرح وتضرب وتقسم، ولا شيء غير ذلك. قد ينجح بعضهم في الحياة فيكون من ذوي الثراء الواسع والمناظر الأنيقة والألقاب الفخمة والمظاهر الضخمة، ولكن هل هذا نجاح؟ فأين إذن نفسه، وأين روحه؟
بل من هذا القبيل عالم ينفق كل وقته في مسألة يحققها أو نظرية يجربها، وحياته كلها محدودة بالأفق الضيق الذي يقتصر على نظرياته وتجاربه وأقوال العلماء فيها وترجيح بعض الأقوال وتوهين بعضها وما إلى ذلك.
هذا نموذج من الناس تشترك أنواعه في أنها كلها تحيا حياة لا روح فيها.
وهناك نموذج آخر يحيا حياة ليس لها صلة بالناس إلا أن يطعموه أو يسقوه، حياته كلها متصلة بالسماء ولا شأن له بالأرض، يعيش عالة على الناس ولروحه فقط؛ كل حظ الناس منه أن يعبد ويتأمل، يعتزل الناس في دير أو تكية أو يجعل من بيته ديرا أو تكية، ليس من شأنه سعد الناس أو شقوا ما دام يسعد هو بلذته الروحية؛ إنه أناني كالمالي الشره، إنه خلق في الدنيا ويأبى أن يستعجل الآخرة، إنه أكل مال الناس ولم يدفع ثمنه، إنه في غذاء جسمه قد استدان ولم يف بدينه.
أما من تاجروا بالروحانية فهم أسوأ حالا ممن أمعنوا في تجارة السلع وقضوا فيها كل حياتهم، لأنهم تاجروا في غير متجر، وزيفوا على الناس فباعوا ما لا يباع، إنهم حواة يضللون الناس بألاعيبهم، ويضحكون على أذقانهم؛ هؤلاء ليسوا من الروحانية في شيء. إنهم باعة أسهم لا يملكونها. إنهم يبيعون الزجاج باسم الماس، والنحاس المموه باسم الذهب، وأصناف هؤلاء كثيرون.
ليس يعجبني هؤلاء ولا هؤلاء. إنما يعجبني من مزج مادة بروح ومد بسبب إلى الأرض وبسبب إلى السماء. وإذا كان الإنسان جسما وروحا فلم لا يغذيهما جميعا، ويعيش بهما جميعا؟ إن لم يعجبني ذو الوجهين فإنه يعجبني ذو الجانبين، جانب الروح وجانب المادة. قد يكون هذا رجل أعمال دقيقا في عمله منظما لإدارته يسير في عمله على آخر طراز وصلت إليه المدنية، من دفاتر منظمة ومواعيد محددة، وهو مع ذلك له نزعة روحية لطيفة، وله مثل أعلى في الحياة ، عنده الشعور بالله وعظمته، وأن الدنيا ليست كل شيء، وأن خير الناس أنفعهم للناس؛ هذه الروحانية تلطف من حدة ماديته، فهو لا يعيش لنفسه فقط أو لأسرته فقط، ولكن يعيش أيضا للناس كما أمر الله؛ روحانية هذا الرجل بجانب ماديته تسبغ على قلبه الرحمة للناس وحب المعونة لهم، وإيصال الخير إليهم؛ ومثل هؤلاء الناس قليلون في المجتمع، تعرفهم بسيماهم، قد خلعت عليهم الروحانية نوعا لطيفا من الرقة والوضاءة والدعة مع الجد في أعمال الحياة الدنيوية؛ ولو كثر مثل هؤلاء لتغير وجه العالم ولساده السلام.
الفرق بين نابغة له روح ونابغة لا روح له كالفرق بين عمر بن الخطاب وتيمورلنك.
ليست الحياة أن تأكل وتشرب وتتزوج، بل إن للحياة غرضا أسمى. الحياة رسالة، وليست الحياة عملا ماديا متواصلا، تصبح فتعمل وتعود إلى بيتك فتأكل، ثم تعود فتعمل، ثم تعود إلى بيتك فتأكل ثم تنام؛ فهذا شأن الآلة لا شأن الإنسان، إنها تدور وتغذى وتهدأ، وهذا في الآلة طبيعي، ولكنه في الإنسان ليس طبيعيا؛ لأنه منح ملكات وراء هذا العمل الآلي.
بل ليست الحياة أيضا عملا عقليا بحتا، وجهدا فكريا فقط. فالعقل وحده لا يفسر الحياة ولا يحل مشاكلها، والعقل وحده يجعل الحياة جافة مخيفة، والاعتماد على العقل وحده كثيرا ما أدى إلى الشك، والشك عذاب وفراغ وكثيرا ما يصل العقل إلى درجة النبوغ الفائق مع انحلال في الخلق وضيع، كما كان الشأن في نابليون وبيكون وبيرون وأمثالهم؛ وحتى مع اجتماع العقل والخلق المؤسس على العقل، فإن العقل والخلق إذ ذاك يكونان كالتمثال الجميل ينقصه الروح. إن الاعتقاد بأن للعالم إلها يسيطر على العالم وينظمه، وأن لكل إنسان بهذا الإله العظيم صلة، وأنه سائلة عن عمله، وأنه سيزن أعماله بميزان دقيق، وأنه يمد الروح التي تتصل به بروح منه كل هذا حق، وكل هذا يبعث القوة في الإنسان، وهو خير دعامة للنفس تستند عليها في الحياة.
ما أسعد الإنسان يشعر بأن يد الله العظيم تعمل في الكون أبدا، وتمده بالحياة ما عاش ، وتعينه على الخير إن أراد، وأن الله العظيم متصل بقلبه، وحاضر عنده، ومطلع على أدق ما في نفسه، وأنه بصفاته العظيمة جدير بالحب والتقدير والحمد.
هذه العقيدة الروحانية تحيي الدنيا وتحيي الآخرة، وتبعث على العمل لا على الخمول، وتصبغ العمل في الدنيا صبغة جميلة رحيمة خيرة؛ هي التي تحول الجفاف إلى رحمة، وتحول القبح إلى جمال. إن المادي ينظر إلى الوردة فيقدرها بثمنها القليل في السوق، والروحي ينظر إليها فيرى جمالها لا يقدر بثمن. إن المادي بارد العواطف يقدر الناس بقدر ما ينال منهم، وهم ليسوا إلا ضيعة تستغل، وكلما كان الشخص مليئا بالمال يمتص، وبالدم يستنزف، كان أحب إليه لماله لا لشخصه، والروحاني يرى في كل إنسان أخا يعان ما أمكن، ويؤخذ بيده إذا عثر، ويرحم إذا كبا، ويمد بالسعادة إذا شقي.
لو مست الروحانية قردا لأحالته إنسانا. ولو مست شيطانا رجيما لجعلته ملكا كريما. ولو مست جبارا عنيدا لجعلت منه أبا رحيما. ولو مست قلوب الساسة لعم السلام وبطلت الحروب، ولم يكن مستعمر ومستعمر، ومستغل ومستغل، وعزيز وذليل، ولكن إخوة متعاونون شركاء فيما لديهم رحماء فيما بينهم.
ليس العالم الآن محتاجا إلى تنظيم أسواق التجارة، ولا إلى تنظيم وسائل الدفاع والهجوم، ولا إلى ضبط السلطة على القنابل الذرية والمخترعات الحديثة المبيدة، ولا إلى تنظيم توزيع الأسلاب ووضع شروط الصلح على أساس الغنم والغرم؛ فكل هذا هو منطق الساسة القدماء، وهو المنطق الذي ساد عقب الحرب العالمية الأولى، فكان نتيجة الحرب العالمية الثانية؛ فإن استمر هذا المنطق بعينه سائدا فستكون النتيجة حربا ثالثة لا محالة، ضرورة أن المقدمات الواحدة تنتج نتائج واحدة. وإنما العالم يحتاج إلى روحانية وليهزأ بذلك من يهزأ روحانية تبيد الطمع بين الأفراد والأمم، وتقضي على شح الأنفس وحب السيطرة والانتقام ونزعات الجنس والوطنية والطبقات، روحانية تنشر بين الشعوب فترى أن زعماءها السياسيين الماديين غير صالحين للحكم فتنحيهم، وتنصب مكانهم من جمعوا بين المادة والروح، قد اصطبغت نفوسهم بحب الخير للإنسانية وحب العدل في العالم وحب الإخاء بين الأمم.
العالم محتاج إلى ريح عاصف تجتاج الأساليب القديمة في حب السيطرة والغلبة والسيادة القومية والنعرة الوطنية، ووضع الساسة أمتهم في موضع الله ومن عداهم في موضع العبيد، وتجتاح النزعات إلى الإفراط في اللذائذ الحادة غير المشروعة وعدها مطلب الحياة.
العالم لا يحتاج اليوم إلى إصلاح المادة، ولكن إلى إصلاح الروح.
قد يرى قوم أن هذا حلم. ولكنه حلم لا بد منه وإلا فالعالم في شقاء دائم.
5
ينتاب العالم موجات بين إلحاد وإيمان، وقد كانت موجة الإلحاد طاغية عاتية في أوربا في القرن التاسع عشر، ففشا بين طبقة المثقفين عدم الاكتراث بالدين، وإهماله في أبحاثهم وأعمالهم، أو مهاجمته بالقول والعمل، وبسط ألسنتهم في الكنائس وأعمالها وشعائرها، وآخرون وقفوا موقف الشك فلا إيمان ولا إلحاد. ومنهم من يؤدي شعائر الدين لا عن روح واعتقاد، ولكنها جزء من برامج الحياة، فكما أن هناك زمنا يقضى في لعب الكرة ومشاهدة السينما ونحو ذلك، فهناك زمن عابر يقضى في الكنيسة، وهذا هو كل الدين.
وكان كل يوم يمر تزيد موجة الإلحاد والشك قوة واتساعا، وأسست الأخلاق والتربية على قواعد العقل لا على أساس الدين.
وعمل على طغيان هذه الموجة وقوتها واتساعها عوامل كثيرة أهمها: انتشار نظرية «دارون» في تسلسل الأنواع ونشوئها وارتقائها من خلية نباتية صغيرة إلى شجرة كبيرة، ومن حشرة حقيرة التكوين إلى أن وصلت إلى الإنسان بالبيئة والانتخاب الطبيعي وبقاء الأصلح وما إلى ذلك، فأولع الناس بهذا النظرية واعتنقوها، وبنوا عليها تفكيرهم، وأنشأوا عليها علومهم، ورأوا أن هذا الرأي المؤيد بالبرهان لا يتفق مع حرفية الكتاب المقدس فيما حكى من خلق آدم وحواء.
فزلزل هذا من إيمانهم، وبدلا من رؤية الله في الخلق وتطوره قصروا النظر على الخلق ونشوئه وارتقائه، وبدأ رجال الدين يدافعون عن موقفهم بأن قصة آدم وحواء الواردة في الكتاب المقدس لا يصح أن تؤخذ على حرفيتها، وإنما هي رمز لنضج النوع الإنساني، ثم اختلفوا في دلالة هذا الرمز.
وعاصر حركة دارون ومدرسته حركة علمية أخرى اتجهت إلى وضع الكتاب المقدس موضع النقد، وتسليط أدوات البحث العلمي عليه، كما سلطت على كل الوثائق التاريخية، فكما بحثوا في الإلياذة ووصلوا في بحثهم إلى أنها ليست من عمل هوميروس وحده، وإنما هي من عمل أناس مختلفين في عصور مختلفة، كذلك بحثوا الكتاب المقدس، وأداهم البحث إلى أنه وضع في عصور متوالية في بيئات مختلفة، ونقدوا ما جاء فيه من تحديد السنين التاريخية، وساقهم البحث إلى أن بعض ما نسب لموسى ليس لموسى، وبعض ما نسب لداود ليس لداود، فزاد ذلك الناس زلزلة وشكا.
ثم كان نشوء علم مقارنة الأديان، فبحثوا في أديان العالم ووازنوا بين تعاليمها، ووضعوا أسسا لما يعدونه منها راقيا وما ليس راقيا، وعرضوا لمسائل خطيرة مثل من أين جاءت فكرة التثليث، ومن أين أتت سلطة الكنيسة، فكانت نتائج هذا البحث سببا آخر من أسباب زلزلة العقيدة.
ثم جاء علم النفس يحلل الشعور الإنساني، ومنه الشعور الديني، ويشرحه كما يشرح الأطباء الأجسام، ويبحثون في منشأ فكرة الله، ويقولون إنها فكرة خلقها الخوف، فزادوا في الطنبور نغمة.
وكان الدين يعلي من شأن الإنسان لصلته بربه ولما له من روحانية ليست لغيره، فجاء علماء النشوء والارتقاء وعلماء الإنسان وعلماء الفلك ونحوهم يحقرون من شأن الإنسان ويجعلونه دودة كبيرة، فسلبوا الإنسان عظمته واعتزازه بروحانيته.
وقارن هذا دعوة الدعاة إلى تفاهة الحياة، واختطاف ما أمكن من اللذائذ، والتحرر من القيود القديمة، سواء كانت قيودا ضارة أو نافعة، وما دام هناك شك في الآخرة فليكن الهناء في الدنيا بقدر المستطاع، وقالوا حديثا ما قال طرفة قديما: «فدعني أبادرها بما ملكت يدي».
هذه هي أهم الأسباب في موجة الشك والإلحاد في الغرب، وقد قال قوم من المثقفين في الشرق: إذا كان الغرب قد تقدم بالإلحاد أو على الأقل تقدم مع الإلحاد، فلنلحد لنتقدم أو نلحد ونتقدم، وإذا كانوا ملحدين وهم الحاكمون فلنقلدهم لعلنا نساويهم ونتخلص من حكمهم. وسافرت الأفكار والآراء والكتب من الغرب إلى الشرق، فعملت عملها، بذرت بذرتها، وتركت آثارها، ورأى بعضهم أن يأخذ المدنية الحديثة بحذافيرها ومنها الإشاذة بالبحث العلمي، وإضعاف الشعور الديني، وعملت الدعوة إلى انتهاب اللذائذ عملها أيضا في الشرق فكانت لها سطوتها.
وكان من ذلك كله أن عمت الموجة الغرب والشرق، وخاصة بين طبقات المثقفين وأنصاف المثقفين. •••
ولكن يظهر أن هذه الموجة بدأت تنكسر في الغرب فتنكسر في الشرق، وسبب ميلها إلى الانكسار أن الناس نظروا فرأوا أن المادة لما بلغت أوجها لم تنتج للعالم سعادة بل شقاء وخرابا، وأن الضمير العقلي لم يستطع أن يحل في إراحة النفس وطمأنينتها محل الضمير الديني، وأن هذا النقد المر إذا وجه إلى تفاصيل الدين وسلطة رجال الدين، فإنه لم يمس جوهر الدين وإن مسه فلم يستطعه، إنما كان يستطيعه لو أنه أمكنه بعلمه أن يفسر جميع ظواهر الكون تفسيرا محكما؛ أما وهو لم يستطع أن يفسر إلا الظواهر فإذا وصل إلى الصميم عجز كالحياة وهبتها وتصرفها، ومنشأ وحدة العالم وقوانينه ونظامه وجماله، فليس إذن له الحق في الإلحاد والغرور بالحديث من الأفكار، فالدين من ناحية عزاء للنفس الإنسانية وسند، وفوق ذلك هو حقيقة لا بد منها لإمكان تفسير العالم.
حتى العلم نفسه بدأ يتراجع في بعض نظرياته أو يؤمن بقصورها؛ فنظرية النشوء والارتقاء قد تفسر التطور, ولكن لا تفسر الحياة في الخلية الأولى، حتى قال قائلهم: إن العالم على اختلاف نباته وحيوانه وتدرجه يدل على أن كل نوع منه يؤدي عملا ويحمل رسالة، وأنها كلها تتساند وتترابط، وتهدف إلى غرض حتى لا يستطيع عقلك مهما تشبغ من العلم إلا أن يؤمن بأن للعالم مؤلفا واحدا قويا حكيما عليما.
وهذه الدعوى بأن أساس الأديان الخوف قد أخذ بعض علماء النفس يشك فيها؛ فالخوف قد يحرم على الإنسان بعض الأعمال، وقد يدفع إلى الاضطهاد والانتقام، وقد يحمل على الكره والحرب؛ ولكن هل هذا باعث الدين؟ إن باعث الدين الراقي يدعو إلى إجلال إله خلق العالم ودبره، إله قوي تستمد منه القوة، عظيم تستمد منه العظمة، روحي تستمد منه الروح، فيه كل صفات الكمال هو للعالم كإرادتنا فينا، إن الدين الراقي يدعو إلى التسامح لا التعصب، والعفو لا الانتقام، والحب لا الكره، وقد يصل بعض الناس في الدين إلى حب الله كحبهم أنفسهم أو أشد حبا، ويعجبني في ذلك قول الرسول
صلى الله عليه وسلم
في وصف صهيب: «نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه». فهل يمكن تفسير كل هذه الظواهر النفسية بدافع الخوف كما يقول بعض علماء النفس؟
ثم إن الدين دائما كان من أهم البواعث على الفنون الجميلة، فالقرآن أعجز بفنه، والدين كان مبعث الفنون الجميلة في فن عمارة المعابد وفي الموسيقى والتصوير، فهل يتفق هذا ودعوى أن الدين خلقه الخوف، والخوف لا ينتج فنا؟ •••
إن الدين الحق يوسع النظر فلا يحده بقبيلة ولا طائفة ولا جنس ولا أمة، لأنه يدعو إلى أن الله رب العالمين، وهو وحده الحاكم والمحكومون متساوون أمامه، كما يدعو إلى سعة العواطف فلا عصبية ولا انتقام، ولكن أخوة وتعاون ورحمة.
الدين الحق يحيي الضمير، ويدعو للعدل بين الجميع، بين من تحب ومن تكره، ومن هو من جنسك ولونك ومن ليس من جنسك ولونك، ويهدم الأنانية الفردية والأنانية القومية ليحل محلها عاطفة الأخوة العالمية. إن أهم وظيفة للدين الحق أنه يحول العاطفة من أنانية شخصية إلى عاطفة إلهية تتجه إلى تحقيق الخير العام. إذا أراد المصلحون بث الشعور بوحدة الجمعية البشرية وتعاونها وقطع دابر أسباب الخصومة والانتقام فلن يجدوا أساسا خيرا من الدين الحق الذي يوحد العلاقة بين الإنسان والله الواحد، ويوحد العلاقة بين الإنسان وأخيه الإنسان الذي هو من خلق إلهه.
إن هذا الغرض يدعو إلى تغيير برامج التربية في العالم من أساسها ووضعها على أساس آخر هو حب الله خالق الناس أجمعين، وحب الإنسان للإنسان من غير تفريق بين جنس وجنس، وأمة وأمة، ولغة ولغة، ودين ودين، وهذا وحده هو الذي ينقص العالم اليوم.
إن العالم محتاج إلى مصالحة بين العلم والدين، فللعلم أن يبحث في المادة كما يشاء، ويستكشف من قوانينها كما استطاع، ولكنه لا يتجاوز دائرته فينكر ما وراء مادته، وللدين أن يؤمن بالروحانية، وعالم الغيب وما إليه، فهذه لا تتنافى مع العقل بل تكمله، ولكن ليترك للعلماء بحوثهم في مادتهم، فما جاء الدين لشرح نظريات العلم، وليستفد منها بنظرته الروحية إليها، فهذه القوانين التي يستكشفها العلماء هي القوانين التي بثها الله في كونه، وما جاء العلم ليبحث فيما لا يستطيع من كشف ما وراء المادة، إن العالم محتاج إلى تديين العقل وتعقيل الدين.
إن تم هذا ساد العالم عقل سليم يرقيه العلم، وعاطفة نبيلة يرقيها الدين. إن تم هذا فلا حرب، لأن العاطفة النبيلة تمنعها، والأخوة الإنسانية تحرمها، والعقل لا يستسيغها.
وإن تم هذا فلا خرافات حول الدين، لأنها لا يرتضيها العقل الصحيح ولا الدين الصحيح.
وإن تم هذا فلا عاطفة وطنية ولكن عاطفة إنسانية.
وإن تم هذا فلا صهيونية، لأنها مبعث فكر ضيق وعاطفة ضيقة وتحريك عقرب الساعة إلى الوراء ، ولا حروبا صليبية ولا غير صليبية، لأن مبعثها ضيق العقل في تصور الدين، وحماسة جاهلة في خدمة الدين.
وعلى الجملة فلو تم هذا لزالت كل العوائق التي تعوق الإنسانية، ولتقدم العالم في عام ما لم يتقدمه في قرون.
فهل يتمخض القرن العشرون عن هذه الموجة العالية يكتسح بها الموجة المنحطة التي خلقها أخوه القرن التاسع عشر، أو لا يزال ذلك أملا بعيدا؟
علم ذلك عند الله.
الإنسانية في الإسلام
كان من أكبر النكبات التي مني بها العالم نزعة «القومية» أو «الوطنية» بمعنى أن كل أمة تعمل لخيرها دون النظر إلى سائر الأمم، فغايتها المنشودة أن تتبوأ السيادة في العالم، وأن تسعى أن تملك من الأرض أكثر ما تستطيع، وتخطف من الأمم الضعيفة ما تقدر، وأن تكون تجارتها أكثر رواجا، وشعبها أغنى شعب، وقوتها الحربية أعظم قوة، فأمنيتها العظمى إعلاء شأن قومها من غير أي اعتبار آخر؛ وعلى هذا الأساس تبني سياستها، وإليه يقصد قادتها، فأعظم سياسي من كسب لها من الأمم الأخرى أكبر مكسب، وأعظم قائد حربي من نكل بالأمم الأخرى وضم إلى مستعمراتها مستعمرة، واعتدى على أمة آمنة مطمئنة فأذلها وضمها إلى أملاك قومه، وعلى هذا الأساس أيضا وضعت برامج التعليم، من تربية وطنية ودروس تاريخية تمجد الوطن وتعنى بإظهار تاريخ الأمة بمظهر العظمة ولو داس الحقيقة؛ ونشأ عن هذه النظرة الضيقة للوطنية أن الأمم الأوربية تسابقت في هذا المعنى، فكل أمة تريد أن تسمو، وكل أمة تريد أن تلتهم الضعيف، وكل أمة تريد السيادة والغلبة، وهي لذلك لا بد أن تتسلح وتسبق غيرها في التسلح، كما تتسابق في التربية الوطنية ومسخ التاريخ، وإشاعة أن جنسها خير جنس، ودمها خير دم، وإلهها خير إله، وأنه معها ينصرها في الحرب ويساعدها في السلم. فكانت نتيجة هذه الوطنية بهذا المعنى سلسلة الحروب التي كانت والتي ستكون، والخراب الذي حدث والذي سيحدث. ومن حين لآخر يأتي قوم من بعيدي النظر يدركون خطر الوطنية، وينادون بالإنسانية، كما فعل تولستوي وولسن وغيرهما، ولكن سرعان ما تخمد دعوتهم، وتتغلب الوطنية من جديد، وإذا اكتووا بنار الحرب راحوا يبشرون بمبادئ العدل والمساواة كما فعلوا بمبادئ ويلسن وميثاق الأطلانطي، ثم لا يلبثون بعد الحروب أن يعودوا سيرتهم الأولى؛ فروسيا لا تنظر إلا إلى القومية، وإنجلترا وأمريكا وفرنسا وغيرها كلها تنظر إلى السيادة الوطنية، ويكفي أن تتمسك أمة بوطنيتها لتتسابق كل الأمم في الوطنية، وتتحرك الشهوات القديمة، ويعود العالم إلى معسكرات.
ولا علاج من هذه الأمراض كلها إلا غلبة النزعة الإنسانية، واختفاء النزعة الوطنية، أو قصرها على حدود لا تتنافى مع الإنسانية، ومعنى الإنسانية أن ينظر إلى العالم كوحدة وكأسرة، تخضع كلها لنظام عام شامل، وتؤمن كلها بقوانين العدل والحق، وتتقيد كل أمة بالصالح العام، ويعمل القوي لخير الضعيف ويأخد بيده حتى يقوى، ومن سبق في محمدة اجتهد في تعميمها، ومن أخطأ قوم خطؤه، ومن نكب بجهل أو فقر انتشل من نكبته، ونحو ذلك مما يفعله كل فرد في الأسرة الواحدة نحو أسرته، كبير يرشد صغيرا، ومتعلم يعلم جاهلا، وصغير يوقر كبيرا، وأب وأم يعملان لخير الجميع ، إذ يشعر كل أنه لنفسه ولأسرته. •••
لعل أكبر محمدة في الإسلام، وأعظم دعوة سبق بها غيره منذ قرون، دعوته إلى الإنسانية والأخوة العامة، فهو قد سمي الإسلام، والإسلام والسلام من مادة واحدة. وأسلم الرجل استسلم لله وأخلص له، أي كان في سلام مع الله، ومن كان في سلام مع الله أحب أن يكون في سلام مع خلقه، ولذلك قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده» وسمي معتنق هذا الدين مسلما، وجعلت تحية المسلمين فيما بينهم «السلام عليكم».
ثم أهم تعاليم الإسلام وحدة الخلق ووحدة الخالق، فوحدة الخلق تظهر في تقريره أن الناس كلهم من آدم وحواء، فهم سواء، وإنما النظم المصطنعة السيئة هي التي سببت الفروق من سيد وعبد، وذي جاه وعديم الجاه، وغني وفقير، والله لا يعبأ بذلك كله، والإسلام ينكر ذلك كله، ولا يجعل هناك فرقا بين إنسان وإنسان إلا العمل الصالح . لقد جاء في كلام رسول الله في خطبة حجة الوداع وفيها خلاصة تعاليم الإسلام: «إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء، الناس من آدم، وآدم من تراب». ثم تلا قوله تعالى:
يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم .
وجاء في حديث آخر: «كلكم بنو آدم طف الصاع لم تملئوه
1 . إن الله لا يسألكم عن أحسابكم وأنسابكم يوم القيامة. إن أكرمكم عند الله أتقاكم».
وأكد في هذه الخطبة أيضا حرمة الأنفس والأموال والأعراض فقال: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا».
ويقرر الإسلام وحدة الناس، فقد كانوا أمة واحدة ثم فرق بينهم الباطل وفي أمكانهم أن يعودوا أمة واحدة إذا اتبعوا الحق: «وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا».
ثم أعترف بالأديان السابقة وبالأنبياء السابقين لا فرق يبنهم، فكل من آمن بالله وعمل صالحا فله جزاؤه
إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون .
إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده ، فإبراهيم وموسى وعيسى وغيرهم أتوا لهداية الناس ودعوتهم إلى الحق
وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل ، فنظام العالم نظام عام شامل، والناس أمة واحدة، والله يرسل رسله لهدايتهم، فإن اختلفوا وتفرقوا فبسوء صنيعهم لا بما يطلب الله منهم، والله جعلهم شعوبا ليتعارفوا، فتناكروا وتحاربوا.
وليست الإنسانية وحدها في نظر الإسلام وحدة، بل العالم كله وحدة؛ فالذرة في الأرض تتكون على نمط تكون الشمس في السماء. وكله يخضع لقوانين واحدة ونظم واحدة، وإلا ما أمكن أن يكون العلم وقوانينه، والقرآن يقول:
ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت .
تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم
وتسبيح العالم خضوعه لقوانين الله، ودلالته على قدرته، والسير على مشيئته.
هذه هي وحدة الخلق، وهذا الخلق الواحد له خالق واحد، ف
الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها ،
وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهارا ،
وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق ،
خلق السماوات والأرض بالحق وصوركم فأحسن صوركم .
وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم ،
ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه وهو على كل شيء وكيل * لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير
إلخ. إلخ.
على هذا الأساس من وحدة الإنسانية بل وحدة الخلق عامة، ووحدة الخالق بني الإسلام، وجعل شعاره لا إله إلا الله، وكانت أولى آياته
الحمد لله رب العالمين .
وعلى هذا الأساس أيضا وجهت الدعوة، فالناس كلهم يجب أن يدعوا إلى وحدة الخالق ووحدة الخلق، ومحمد رسول الله أرسل إلى الناس كافة لتبليغ هذه الدعوة، ذلك لأن الإنسانية ستعذب إذا أشركت فعددت الآلهة، أو عددت اختصاص الآلهة في الخلق، ولأن نشر العدل بين الناس كافة واعتناق الحق لا يتحقق تمام التحقق إلا بالاعتقاد بهذه الوحدة وحدة العالم ووحدة الله التي يدل عليها لا إله إلا الله رب العالمين، فإذا فشت عقيدة أن لكل شعب إلها كانت الحرب والخصام والفساد، وإذا فشت عقيدة أن هناك شعوبا ممتازة وشعوبا غير ممتازة، وتميزا في الدم أو الجنس أو نحو ذلك فالحرب والخصام، وإذا عبدت الملوك والحكام من دون الله كان الظلم، وإذا قدس شيء دون الله تعددت الآلهة فانتشر الفساد.
لذلك جاء الإسلام يحارب استبداد الملوك والحكومات بالشعوب، كما ترى في الكتب التي أرسلها الرسول إلى ملوك فارس والروم في آخر حياته، ويحارب عصبية القبائل وعصبية التعاظم بالأنساب، ويجعل أساس التقويم والتفاضل العمل الصالح، ويقرب الرسول بلالا الحبشي، وصهيبا الرومي، وسلمان الفارسي، على صناديد قريش، ولا يعتد باللون والدم في قليل ولا كثير.
ومهمة الرسول ليست إلا أن يبلغ هذه الدعوة وأن يوصلها إلى كل أذن ما استطاع
ما على الرسول إلا البلاغ ، وبعد ذلك
فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ، ومحمد بشر كسائر الناس، ليس له ميزة إلا أنه أوحي إليه بهذه المبادئ يبلغها
قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا . وهو إنما يدعو هذه الدعوة بالحسنى
ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين .
إن على الرسول أن يبين آيات الله في خلقه، ويفتح عيون الناس على آثاره في الكون، ويبين لهم كيف يسعد الناس بحسن العقيدة، وتحري الحق والعدل، وكيف يشقون بسوء العقيدة والظلم، وهم أحرار بعد ذلك أن يقبلوا أو أن يرفضوا. ولكن يجب أن يسمعوا، ويجب أن يمكن من أن يسمع الناس ما يدعو إليه، وأن يترك الملوك والحكام الناس أحرارا يسمعون دعوته، ولهم الخيار بعد أن يؤمنوا أو لا يؤمنوا.
ولو سمعوا لهذا المبدأ ما حمل رسول الله ولا صحبه سيفا ولا أقاموا حربا ولا أراقوا دما، ولانتشر الإسلام بالدعوة وحدها يزينها الحق ويبعث على اعتناقها العقل، وحب الحرية والبساطة، والاعتراف بحقوق الناس كافة، ونصرة المظلوم وتقوية الضعيف، وإنقاذ الفقير وتحرير الرقيق.
ولكن حمله على تقلد السيف أمران لا ثالث لهما: أن يهاجم، فيرد الحرب بالحرب والقوة بالقوة ليحمي دعوته، أو أن يمنعه الملوك والحكام والرؤساء من نشر دعوته حفظا على سلطانهم وعزهم وجاههم؛ وهو لا بد مبلغ رسالته إنقإذن للناس من الظلم وسوء العقيدة، ورغبة في توحيد الناس على العقيدة الصالحة والسياسة الحسنة.
على هذا الأساس وحده كان الغزو وكان الجهاد، ولم يدر بخلد الإسلام أن يجر مغنما، فقد مات رسوله فقيرا لم يملك من الدنيا شيئا، ولم يفتح ما فتح حبا في الفتح والاستعمار، فقد أتى ليرد للناس حريتهم لا ليفقدهم حريتهم, ولذلك كان أسرع الناس لقبول الإسلام الأرقاء والمستضعفون والمظلومون.
ولو حقق الإسلام غايته كلها لكان الناس كلهم أمة واحدة تعتقد بإله واحد وتؤمن بالحق والعدالة وتتعاون على البر والتقوى، ولا تتعاون على الإثم والعدوان، فإن اختلفوا شعوبا وألوانا وأجناسا كما هي طبيعة الدنيا فللتعارف وللتعاون واللانتفاع بمزايا كل، لا للتناكر والتحارب والاستعلاء.
هذا هو الإسلام في جوهره وصميمه.
فإن كان فيه عيب فعيبه أنه بعد عصره الأول لم يجد له حملة، والدين الصالح يفسد بحملته، والدين الفاسد يصلح بحملته.
مأساة
شعب يقدر بالملايين يحرم القوت ليموت جوعا، وأسباب الحياة ليفقد الحياة، والقوت متوافر كثير، وأسباب الحياة سهلة الوصول، ولكن تقام في وجهها السدود والحواجز والحصون حتى لا يتسرب منها شيء إلى الجائعين.
ذلك هو الشعب المغربي المسكين الذي يسكن تونس والجزائر ومراكش، يمنع عنه الغذاء العقلي فلا تدخله جريدة تنيره، ولا مجلة تفيده، ولا كتاب يهديه.
إنما يسمح له بدلائل الخيرات وأمثالها وبالكتب المدرسية الجافة، بشرط ألا تحيي عاطفة ولا تنير عقلا، فأما كتاب يرشد العقل وينير الذهن، وأما كتاب يغذي العاطفة ويحييها ويقويها، وأما كتاب فيه ذكر للعرب ومجدهم، وأما كتاب فيه الميثاق الأطلنطي وحق الأمم في تقرير المصير، وحق الشعوب في الحرية، فحرام أي حرام، ترصد له العيون، وتحشد له الرقباء، وتغلق في وجهه الأبواب وتشيد له الحصون، حتى إذا مر من حصن حجز في آخر، فلا يمكن أن يصل إلى داخل البلاد مهما عمل من حيلة وبذل من جهد.
لو كان هذا حشيشا أو أفيونا أو خمرا أو أي نوع من أنواع السموم القاتلة لفتحت له الأبواب ولم تقف في وجهه الأرصاد. أما الكتاب والمجلة والجريدة فأمر بغيض بشع يثير الرعب والفرع، ويحتاط له كل الحيطة، ويمنع كل المنع، لأن الحشيش والأفيون مخدر ومرحبا بالمخدرات، والكتاب يغذي ويحيي ويلهم، ولا مرحبا بالمغذيات المحييات الملهمات.
لو عذب هؤلاء الأقوام في أقواتهم ومآكلهم ومشاربهم وملابسهم لكان أقل إجراما من أن يعذبوا في عقولهم وأرواحهم وعواطفهم، لأنه إهدار للإنسانية وإعدام للآدمية.
ثم إذا طالب هذا الشعب بحقه في أن يقرأ وأن يتعلم وأن يتحرر وأن يتوحد وأن يكون أمره بيده، سلط عليه العذاب في أبشع صوره، واستخدم آخر ما وصل إليه العلم والاختراع في التنكيل به؛ فطائرات ترميه بقنابلها حتى تمحو قراه محوا، وأساطيل تسلط عليه مقذوفاتها حتى تخرب البلاد تخريبا، إلى سجن ونفي ومصادرة وما لا يعلمه إلا الله.
لو حدث هذا في القرن العشرين قبل الميلاد لكان أعجوبة الأعاجيب وموضع الغرابة والاستنكار، فكيف يحدث هذا في القرن العشرين تحت سمع العالم وبصره، وهيئة الأمم المتحدة تعقد بدعوى تحقيق العدل وإنقاذ الإنسانية، وأجواء العالم تتجاوب بالديمقراطية وحق المصير ومؤازرة الحرية! ما فظائع الحروب الصليبية بجانب هذه الفظائع، وما جرائم محاكم التفتيش بجانب هذه الجرائم؟ ومن يفعل هذا كله؟
فرنسا نصير العلم، وناشرة الثقافة، والسابقة بالثورة لتقرير حقوق الإنسان. فرنسا التي كتب كتابها أنصع صفحات الحرية، وأبلغ آيات الحقوق الإنسانية، وأخلد كتب الدعوة إلى الأرستقراطية العقلية.
فرنسا هذه هي التي تحرم الآن شعبا من أن يطلع على كتاب أو مجلة أو صحيفة يفهم منها ما يجري في العالم أو يستجلي منها حقيقة أو يغذي بها قلبا.
فرنسا نصيرة الثقافة تحارب الثقافة، وناشرة العلم تضع أنواع القيود الثقيلة العلم، وزعيمة الحرية تقتل الحرية. أكل هذه المبادئ بهرجة لا حقيقة وراءها؟ أم هي حلال لأوربا وأمريكا حرام على الشرق؟ أم هي حق للمسيحيين وليست حقا للمسلمين؟ أم هي من حقوق بعض الأجناس دون بعض فلم يستنكرون إذن دعوة الشعوب الجرمانية؟ وإلا فكيف يفسر سلوك فرنسا مع هذه البلاد المغربية، من غير فرق بين أحزاب اليمين وأحزاب اليسار، ومعتنقي المبادئ المحافظة والمبادئ المتطرفة.
ومن عجيب الأمر أن يسود الصمت عن هذه المخازي، ولا يرتفع الصوت في وجه هذا الظلم الصارخ.
أين هيئة الأمم المتحدة؟ وأين أرباب الصحف والمجلات الإنجليزية والأمريكية الذين يعلمون من أمر بلاد المغرب وما يجري فيها أكثر مما نعلم؟ لو حدث عشر معشار ما يجري في المغرب في بلاد أخرى وفي شعوب تمت إليهم بصلة الدين أو النسب أو الدم ما كفتهم صفحات جرائدهم!
أين العرب المثقفون في فرنسا والذين يشيدون بذكرها ويسبحون بحمدها، ويرتلون آيات الثناء على ثقافتها وحريتها ومبادئها؟
ألم يبلغهم هذا كله أو شيء منه؟ ألم يبلغهم أن شعبا يقدر بالملايين يراد منه أن يعيش على دلائل الخيرات؟
ألم يبلغهم أن آثار أقلامهم مما يكتبون من كتب وما ينشرون في مجلات محرمة على الشعب المغربي ومحرمها هو الحكومة الفرنسية العزيزة عليهم؟ اتقوا الله وارفعوا أصواتكم، واصرخوا في وجه الظالم أيا كان.
المجمع اللغوي1
إن كلمة المجمع تعريب لكلمة
Academy
الأفرنجية، وهذا التعريب ينطوي على جملة معان: أننا نريد مجمعا على غرار مجامعهم يعمل مثل عملهم، ووضعنا كلمة عربية للكلمة الأفرنجية إشعارا بأن من أهم أغراضنا التعريب واستخدام اللفظة العربية للكلمات الإفرنجية إذا احتجنا إلى ذلك.
وقد أعجبني تعريف كاتب إنجليزي للمجمع إذ يقول: «المجمع هو جمعية أو هيئة متعاونة منسجمة. غرضها تهذيب الأدب والعلم والفن وترقيتها. مجتمعة أو مقسمة إلى شعب، يدعوها إلى عملها العشق الخالص لغرضها من غير أن يشوبه شائبة من ربح مادي».
وأحسن ما أعجبني في هذا التعريف «عشق الغرض» فهو حقيقة روح المجمع، بل روح كل جمعية. إن وجد العشق تحقق الغرض، وهو يتحقق بمقدار ما فيها من عشق، فإن لم يكن فشكل جمعية لا حقيقة جمعية.
ولم يكن هذا العشق بعيدا عنا نحن الشرقيين؛ فقد قامت منا أفراد بما تقوم به المجامع، ونجحوا لتوافر هذا العشق عندهم، فالأزهري اللغوي صاحب التهذيب الذي ضرب في الصحراء يأخذ اللغة من أهلها ويقع في الأسر ويتحمل صنوف العذاب من أجل غرضه لا شك عاشق، وابن منظور الذي عكف على كتابة عشرين مجلدا بعد تحرير كل مادة وكل كلمة من غير أي نظرة إلى ربح هو كذلك عاشق، وأمثالهما كثير، وكنت أقرأ أخيرا للكندي فصلا في شروط الفيلسوف فجعل من أهم شروطه «عشق الحقيقة». •••
ويذكر المؤرخون أن أول مجمع بهذا المعنى إنما كان في مصر، شهدته الإسكندرية في أول القرن الثالث قبل الميلاد على يد بطليموس الأول، والتقى فيه جهابذة العلم من اليونان والشرقيين يرقون ما وصل إليه العلم في أيامهم، وكان ذلك نواة لمدرسة الإسكندرية ومكتبة الإسكندرية. ولو أنا ورثنا هذا المجمع من هذا التاريخ وطورناه مع الزمن لكان لنا الآن خير مجمع وخير لغة وخير علم، ولكن أعاصير السياسة قطعت حبل ما بيننا وبينه فورثته أوربا أولا، ثم أخيرا جدا نقلناه من أوروبا إلينا.
وليس من غرضي أن أعرض هنا صورة لتاريخ هذه المجامع الأوربية وتطورتها، ولكني أريد أن أعرض عرضا سريعا لبعض ما قامت به بعض المجامع من أعمال، وأقتصر على الناحية اللغوية والأدبية تاركا ما عملته المجامع العلمية والفنية لأربابها.
فمثلا كان المجمع الفرنسي في أيامه الأولى يجري على سنة اجتماعية يوما كل أسبوع، وفي كل اجتماع له يقرأ أحد أعضائه موضوعا لغويا أو أدبيا أعده. فإذا أتم قراءته نقده الحاضرون وأبدوا رأيهم فيه، فكان هذا نواة لأعمال المجمع، وتطور هذا إلى إعداد بحوث لغوية وأدبية دورية يلقيها كل عضو مرة، ثم تبع هذا أن كانوا ينقدون التآليف الأدبية العظيمة التي نالت حظوة عند الجمهور، كما فعلوا في تآليف «كورني». ولكن كان من تقاليدهم ألا ينقدوا إلا إذا طلب منهم المؤلف ذلك، ثم توجت أعمال المجمع بعمل معجم واسع كبير للغة الفرنسية.
فلما أعيد تكوينه من جديد في آخر القرن الثامن عشر كان مما دخل عليه من تحسين نمو ماليته بما قدم إليه من هبات يصرفها في تشجيع الإنتاج الأدبي.
ومهما وجه إليه من نقد في اختيار أعضائه، أو في جموده ورجعيته، أو قلة إنتاجه، أو نحو ذلك فإنه يعد المحكمة العليا للأدب، الحارس للغة من التبذل.
وحددت ألمانيا وإيطاليا الغرض من مجامعها بتنقية اللغة وتصفيتها وترقيتها، وكذلك حددت إسبانيا غرضها، وعمل مجمعها على اختيار الألفاظ والأساليب المهذبة التي يستعملها خاصة الأدباء، واستبعاد الألفاظ والأساليب الحوشية وتدوين ذلك في معجم. •••
كان عمل مجمعنا المصري أشق وأصعب وأعقد من المجامع الأوربية، لأنه تأخر في التاريخ كثيرا، ولم ينشأ إلا حديثا. على حين أن المجامع الأخرى لها ثلاثة قرون أو أكثر، ولأن الصلة بيننا وبين آخر مجهود في اللغة عمله الفيروزابادي وابن منظور قد انقطعت ولم تتقدم أي خطوة، وفتحنا أعيننا فوجدنا أنفسنا أمام مدنية حديثة تزخر بالآلات والمخترعات والمصطلحات في كل علم وفن، وكل لغة حية يجب أن تتكمل بها كلها، ولاقينا في ذلك أكثر مما لاقى العرب في العصر العباسي حين واجهوا المدنية الفارسية والرومانية، فالمدنية الحديثة أغنى وأوسع، وأجدادنا قابلوا المدنيتين الفارسية والرومانية وهم فاتحون يشعرون بالعزة، والعزة تدعو إلى الجرأة، ونحن نقابل المدنية الحديثة بشيء من مركب النقص، وهو يدعو إلى الانكماش والخوف، وأجدادنا كانوا يشعرون أن اللغة ملكهم، ونحن نشعر أنا ملك للغة، فيبطؤ سيرنا ويقل إنتاجنا. ثم إن اللغة العربية بطبيعتها صعبة شاقة في قواعدها، في إعرابها، في كثرة مترادفاتها، في سعتها سعة تامة فيما تتطلبه معيشة الجزيرة العربية وفيما لحقها من المدنية العباسية، ضيقة أمام المدنية الحديثة ومصطلحاتها.
فمجمعنا لا بد أن يواجه هذه المشاكل كلها ويجد لها حلولا، مجمعنا له غايات عظمى ومطالب خطيرة، أمامه أن يضع معجما وافيا بحاجات العصر ومطالب العصر على أسلوب يستسيغه العصر - وأمامه عمل معجم تاريخي مطول، وأمامه أن يكون محكمة عليا للإنتاج الأدبي في العالم العربي، يقف على كل ما يصدر في كل عام من شعر ونثر وبحوث أدبية، ويقول فيه كلمته. وأمامه أن يكون حارسا على اللغة ليشرف على ما يكتب في الجرائد، وما يستعمل من ألفاظ وأساليب، ويجيز ما يرى إجازته ويرفض ما يرى رفضه. وأمامه أن يرحم الطلبة في المدارس فييسر لهم سبل تعلم اللغة العربية وآدابها، وينقد البرامج ويضع وسائل الإصلاح. وأمامه أن يستحث الحكومة والأغنياء على التبرع بالمال لتشجيع الأدباء على الإنتاج أمامه كل ذلك وتسألونني: كيف يحقق المجمع ذلك؟! فأقول بكلمة واحدة خفيفة على اللسان ثقيلة في الميزان، هي العشق. •••
إن عمر مجمعنا هذا الآن نحو أربعة عشر عاما، فقد صدر المرسوم بإنشائه في 13 ديسمبر سنة 1932، وعين أعضاؤه لأول مرة في 6 أكتوبر سنة 1933، وحدد الغرض منه في المرسوم بالمحافظة على سلامة اللغة العربية وجعلها وافية بمطالب العلوم والفنون في تقدمها، ملائمة على العموم لحاجات الحياة في العصر الحاضر ، وذلك بأن يحدد في معاجم أو تفاسير خاصة أو بغير ذلك من الطرق ما ينبغي استعماله أو تجنبه من الألفاظ والتراكيب، وأن يقوم بوضع معجم تاريخي للغة العربية، وأن ينشر أبحاثا دقيقة في تاريخ بعض الكلمات وتغير مدلولاتها وأن ينظم دراسة علمية للهجات العربية الحديثة بمصر وغيرها من البلاد العربية، وأن يبحث كل ما له شأن في تقدم اللغة العربية.
ومن ذلك الحين بدأ يعمل المجمع، فكان أعضاؤه يتداولون البحوث التي تمس إليها الحاجة، فيبحث عضو في الاشتقاق ومداه ومتى يكون قياسيا ومتي يكون سماعيا، ويبحث آخر في تعريب الأساليب، وثالث في تعريب الألفاظ وطرقه والألفاظ المولدة وموقف المجمع منها، وهكذا. ويتناقش الأعضاء ويتخذون في ذلك قرارا.
وقد بدءوا في تقسيم الأعضاء إلى لجان؛ فلجنة للرياضيات ولجنة للعلوم الطبيعية والكيمياوية، ولجنة للعلوم الاجتماعية والفلسفية إلخ. وكانت كل لجنة تجتمع وتتناقش في المصطلحات الخاصة وتعرض ما تقره على المجمع ليرى رأيه فيها، وبذلك أقر المجمع ألوف الكلمات في المصطلحات العلمية المختلفة، وفي بعض دوارات المجمع بحث في تيسير قواعد النحو وتيسير الكتابة العربية. وعنى المجمع بإنشاء مجلة سنوية ينشر فيها بحوثه وقراراته وسائر أعماله، كما كان ينشر مجموعة بمحاضر جلساته، ولكنها مع الأسف، وقفت في سني الحرب، ثم أخذ المجمع يعمل على إصدارها من جديد.
والمجمع الآن يرجو أن يبدأ قريبا في الشروع في أهم أعماله، وهو وضع معجم تاريخي مطول تذكر فيه الكلمة ومن أي لغة أخذت وفي أي معنى استعملت في العصر الجاهلي، ثم ما دخل على هذا المعنى من تطور إلى عصرنا الحاضر؛ وهذا ولا شك عمل ضخم، ولكن أدواته متوافرة عندنا بأكثر مما كانت متوافرة أيام الفيروزابادي وابن منظور، بفضل تقدم العلم باللغات الشرقية القديمة من سريانية وعبرية وهيروغليفية وفهلوية وحبشية وسبئية إلخ. فما كان يحدسه الأقدمون من اللغويين حدسا أصبح اليوم علما. ثم إن الأصول العربية من كتب لغة وأدب وتاريخ وما إلى ذلك مما يمكن الرجوع إليه في وضع هذا المعجم أصبحت أقرب منالا، لتقدم الطبع وسهولة الاتصال. ومع هذا وذاك فالعمل شاق صعب لا يمكن التغلب عليه إلا بالجهد الطويل وبالدواء الذي وصفته من قبل وهو العشق. وما علينا إلا البدء والاستمرار، وعلى خلفنا أن يكمل بدءنا.
ثم هو يطمح أيضا أن يحقق مثله في أن يكون محكمة عليا للغة والأدب، فتشرف لجانه على النتاج الأدبي في العالم العربي من نظم ونثر وتأليف، فيتوج منها ما يستحق التتويج، ويعلن تقدير ما يستحق التقدير، ويكافئ بالمال ما يرى المكافأة عليه، ويشرف على المجلات والجرائد والكتب، ويعلن قراراته فيما يستجد من ألفاظ وأساليب، فيقر الصواب ويصحح الخطأ فيشعر الجمهور بإشرافه.
لقد وجهت إلى المجمع نقود كثيرة مثل أن نتاجه قليل، أو أنه يختار ألفاظا لم يستسغها الجمهور وقد أضاف إلى الحقائق الواقعة خيالات مختلفة للتشنيع ونحو ذلك، ولم يكن مجمعنا المصري وحده هو الذي وجه إليه هذا النقد وأمثاله، بل قلما خلا مجمع في العالم من مثل هذا؛ وسبب ذلك على الأغلب أن طبيعة المجمع دائما طبيعة محافظة لا ترضي نزعة المجددين والثائرين، ولأن طبيعة العلماء دائما تميل إلى التدقيق والبطء، وتفضل النتاج الصحيح القليل على النتاج الكثير في غير نضج. والجمهور عادة يرى النتائج ولا يرى المقدمات، ويقدر ما يظهر على المرسح فقط ولا يقدر ما عمل وراء الستار، ولا يرى من الساعة إلا عقاربها. ثم إن مجمعنا لم يتصل بالجمهور الاتصال الكافي الذي يقنعه بضرورة وجوده مع أن نتاجه ليس بالقليل. وأخيرا من مشاكلنا أن ليس لنا استقلال مالي يشعرنا بالحرية في العمل، فإذا أردنا طبع مجلتنا فلسنا أحرارا، وإذا أردنا مكافأة على عمل نراه في صالح المجمع فلسنا أحرارا، وهذه عقدة العقد في كل عمل حكومي. وقد بني النظام من قديم على فقدان الثقة وتركيز الإذن بالتصرف، فعاق هذا كل تقدم. وعندي أننا لو خسرنا مليونا من الجنيهات كل عام وكسبنا ثقة بعضنا ببعض وحرية تصرفنا لكان ما خسرناه قليلا وما ربحناه كثيرا.
الشيخ مصطفى عبد الرازق
رحم الله صديقنا وزميلنا مصطفى عبد الرازق رحمة واسعة، فقد ترك في نفس كل من عرفه فراغا لا يملأ، ولوعة يعز عليها الصبر.
كان رحمه الله متميزا في خلقه، متميزا في أدبه، متميزا في علمه.
نفس كريمة سمحة، وقلب عطوف رحيم، وصدر واسع رحب، لا يحمل حقدا ولا ينطوي على ضغينة، وحلم رائع لا يستفزه نزق، ولا يستخفه غضب.
لست أنسى يوما منذ أربعين عاما سمعت باسمه وأنا طالب بمدرسة القضاء، وهو أستاذ بها، وحول اسمه هالة من حسب ونسب، وغنى وجاه، فارتسمت في نفسي صورة من أبناء الذوات، يشمخون بأنوفهم، ويتكلمون من أطراف ألسنتهم، وينظرون إلى الناس في الأرض من أعلى السماء، فما رأيته حتى انمحت هذه الصورة الكاذبة، وحلت محلها صورة تخالفها كل المخالفة، قد أخذ من الأرستقراطية أجمل ما فيها، ومن الديمقراطية أجمل ما فيها. أناقة في الملبس من غير بهرجة، ورشاقة في الحركة من غير تصنع، وأدب في الحديث من غير ترفع، ودعة في النفس من غير تكلف.
فامتلأت منه نفسي، وأحببته وصادقته في جلسة، وتأكدت الصداقة بيننا على مر الأيام، وأشهد أني لم أر منه مرة ما يخدش الصداقة أو يعكر صفو الود، وهكذا كان شأنه رحمه الله مع كل صديق.
كان من أجمل ما فيه رحمه الله ذوقه المرهف الرقيق الدقيق، يتحكم في حياته المادية من ملبس ومأكل ومشرب، ويتحكم في حياته الأدبية والروحية من حديث لذيذ ممتع مؤدب، يوزعه ويوزع نظراته على المستمعين، ومن أجل هذا كان ناديه في بيته من خير الأندية وأمتعها وأحفلها، يجمع بين الأزهري الصميم، والمثقف ثقافة مدنية عصرية، وقد يكون فيه الأوربي والأوربية، فإذا هو رحمه الله بلطفه وظرفه ورقته يؤلف بين قلوب الجميع، ويمكن بلباقته من استفادة كل من كل، وتتلاقى عنده آراء الأحرار والمحافظين.
ولهذا الذوق الجميل كان أحب شاعر إليه البهاء زهير ذو الذوق الجميل، والشعر الجميل، أعجبه فيه ظرفه وذوقه ومصريته وعزة نفسه، فذكر أنه كان يتعشقه ويتعشق شعره منذ صباه، ولا زال يحن إليه حتى ألف فيه في كهولته .
نفعه ذوقه فاستفاد منه في كل مرحلة من مراحل حياته إذ كان يتذوق من كل شيء أحسنه، تربى في الأزهر فاستقى منه أحسن ما فيه. وكان بيت أبيه مزار كبراء البلد وعظمائها وعقلائها، يتحدثون فيه في شئون الأمة السياسية والاجتماعية والأخلاقية، فيصغي لأحاديثهم ويتخير منها أحسنها.
وعن هذا الطريق تعرف بالأستاذ الشيخ محمد عبده صديق أبيه، فتعشقه وتتلمذ له، واتصل به في دروسه وغير دروسه، واتخذه أبا روحيا، يحضر مجالسه، ويزوره حاضرا، ويكتب إليه مسافرا، وينظم الشعر في استقباله عائدا، ويستفيد منه أجل فائدة، ويفي له بعد مماته، فيحاضر فيه، ويترجم له رسالة التوحيد إلى الفرنسية، ويكون مرجع كل باحث عن الشيخ محمد عبده.
ثم سافر إلى فرنسا فأفاده ذوقه هذا كثيرا، فكم من شبان يرحلون إلى أوربا فيخسرون كثيرا ويكسبون قليلا، أما هو فقد كسب كثيرا، ولم يخسر قوميته، ولا شرقيته، ولم يتخل عن الجميل من قديمه.
وهكذا كان ذوقه في حياته دليله وهاديه ومرشده، وقد كتب إليه أستاذه الشيخ محمد عبده يقول: «ما سررت بشيء سروري أنك شعرت في حداثتك بما لم يشعر به الكبار من قومك، فلله أنت ولله أبوك، ولو أذن لوالد أن يقابل وجه ولده بالمدح لسقت إليك من الثناء، ما يملأ عليك الفضاء، ولكني أكتفي بالإخلاص في الدعاء أن يمتعني الله في نهايتك بما تفرسته في بدايتك؛ وأن يخلص للحق سرك، ويقدرك على الهداية إليه، وينشط بنفسك لجمع قومك عليه, والسلام». •••
سمح كريم النفس، يبذل العطاء للبائس والمحتاج، فكم بكته أسر كان يعولها في الخفاء، وكم له من يد على اليتامى والفقراء، وكم أنفق في تعليم محتاج، وكم سعى في توظيف عاطل، أو دفع الظلم عن مظلوم، أو إيصال الخير لمستحق، وأسعفه على ذلك ماله الخاص، فأنفق منه الكثير، ومركزه في الجمعية الخيرية الإسلامية ووزارة الأوقاف، فتعاون ماله الخاص والمال العام على إفاضة المعروف على البائسين والمحتاجين والمنكوبين، فكان نفاح اليدين وغيث المعروف.
وكان من طيب نفسه لا يحقد على مجرم أو مسيء أو مذنب، على حين يتهلل للمحسن والخير والنبيل، فكأن خلاصة فلسفته في ذلك الجبر في الإساءة، والاختيار في الإحسان، فهو لا يكره خصومه، ولا يبغض من أساءه، ولكنه يحب من أحسن ويحب كل الحب أصدقاءه.
إن أعجبه الجديد في فرنسا، فلا يكره القديم في الأزهر، وإن أعجبته الحضارة العصرية الأوربية، فإنه تعجبه الحضارة الإسلامية، وإن تذوق الأدب الفرنسي الحديث، فإنه يتذوق الأدب العربي القديم. وإن شغف بفلسفة «كانت» و«ديكارت»، فإنه مشغوف بفلسفة ابن سينا وابن رشد، وإن تكلم الفرنسية مع الفرنسيين، فإنه يتكلم العامية الصعيدية مع الفلاحين، فكان قلبه يتسع لكل شيء، ويتعشق كل جميل. •••
هذا خلقه.
أما أدبه - فكان كذلك مظهرا لذوقه، مقل مجيد، يتأنق فيه تأنقه في ملبسه وحركاته وسلوكه، يذهب مذهب من يرى الجمال في البساطة، لا يعجبه المهلهل من الأسلوب، ولا المفرط في الحلية، ذواق يتحسس اللفظ الجميل ليضعه في موضعه اللائق به، وقد يستعرض المترادفات ليرى أنسبها في مكانه، ويتحرى المعنى الرشيق والأسلوب الرشيق يحلي بهما ما يكتب، وخاصة في الاستهلال والختام، ويردد الجملة في نفسه ليستسيغها، كما يتذوق الشارب الشراب اللذيذ والطعام اللذيذ.
خبرته في ذلك يوم كان يحرر مقالاته الأدبية في «الجريدة» تحت عنوان «يوميات إبراهيم الفزاري» وأيام اشتركنا في تحرير مجلة «السفور» بعد عودته من فرنسا، ثم فيما كان يخطب ويكتب في الحفلات والمناسبات، ولو واتته الظروف وفرغ للأدب لكان منه الأديب الكبير الذي يتزعم مدرسة. •••
ثم كان أستاذا للفلسفة الإسلامية في كلية الآداب بالجامعة المصرية، فكان في مكانه الذي يتفق وهدوءه وسكينته وعقليته ومزاجه، سرعان ما امتدت أسباب الود بينه وبين طلبته فأنسوا به وأنس بهم، وأحبوه وأحبهم، وكان مقصدهم العملي والخلقي في الكلية وفي البيت وحيث يكون، يعرضون عليه مشاكلهم العلمية ومشاكلهم النفسية ومشاكلهم العائلية، فكان لهم أبا رحيما وكانوا له أبناء بررة، فإذا تخرج متخرجهم كان للأستاذ أخا صغيرا وصديقا وفيا، وهو من ناحيته لا يكل في السعي لهم حتى يطمئنوا في حياتهم، ثم يوعز إليهم بأساليبه الظريفة أن يستمروا في البحث والدرس والإنتاج، ويشرك الكثير منهم في تحضير دروسه معه، وحل ما يعرض له من المشاكل الفلسفية، فربى رجالا كما ربى عقولا، ومكنه الاتصال بطلبته أن يتعرف خواص كل منهم وموضع قوته وضعفه، فعالج وشجع ووجه، حتى رأينا «قسم الفلسفة» في الكلية ينشط في البحث والإنتاج، وينشر الفلسفة بين الناس، ويحببها إليهم بفضله.
ثم هو في دروسه يسوي في التقدير بين فلاسفة الشرق وفلاسفة الغرب، ويناقش رينان كما يناقش الشهرستاني، وينقل عن هؤلاء وهؤلاء، ويمعن في فهم النصوص والوصول إلى باطنها مستفيدا كل الفائدة من الطريقة الأزهرية.
وكان في بعض دروسه كما قال: «يتوخى الرجوع إلى النظر العقلي الإسلامي في سذاجته الأولى ويتبع مدارجه في ثنايا عصوره وأسرار تطوره».
ولئن حاول كثير من المستشرقين أن يغلوا في رد أصول الفلسفة الإسلامية إلى العناصر اليونانية، فقد رأى الأستاذ أن يضم إلى الفلسفة الإسلامية علم الكلام وأصول الفقه، ليدلل على ما للمسلمين من ابتكار في الفلسفة بأوسع معانيها.
وهو مؤدب جدا في النقد، فإذا لم يوافق على رأي عالم، فكل ما يفعل أن يذكر الرأي، ويقول إنه لا يراه ويرى غيره أولى، ويورد الحجج على ذلك في أدب جم من غير تجريح، ومن غير أن يمس شعور المنقود أي مساس، فكأن المخالف صديقه الحميم الذي يرعى كل الرعاية عواطفه.
وكم كنت أتمنى أن تظهر شخصيته في التأليف أكثر مما ظهرت، وأن يتحرر من كثرة النقول أكثر مما تحرر؛ فقد كان رحمه الله يحاول ما أمكن ألا يظهر كما تظهر النصوص والنقول، ولعل حرصه التام على الأمانة في النقل وإعطاء كل ذي حق حقه من الفضل، حمله على أن يضحي بنفسه للإشادة بفضل غيره، ولكل مؤلف مزاجه ولكل شيخ طريقته.
كان رحمه الله يدون محاضراته قبل إلقائها قصدا إلى الدقة، ولكنه احتفظ بها لم ينشرها طول مدة دراسته في الجامعة، فلما غادرها مأسوفا عليه إلح عليه طلبته في أن يأذن لهم بنشرها، فأجاب وكتب: «قد كنت أيام اشتغالي بتدريس الفلسفة الإسلامية وتاريخها في الجامعة المصرية معنيا بدرس هذه الموضوعات واستكمال بحثها، ودونت فيها صحفا طويتها على غرها منذ تركت الجامعة في صدر سنة 1939 وصرفتني الشواغل عنها. «واليوم أعود إلى هذه الصحف لأنشرها كما هي، بصورتها يوم كتبت، من غير تنقيح ولا تعديل، وفي صياغتها التعليمية التي تراعي حاجة الطلاب إلى مراجعة النصوص الكثيرة، وحسن التدبر والفهم للأساليب المتفاوتة، وإن لم يخف ذلك على ذوق المطالعين جميعا». «وأرجو أن يكون في هذه الصفحات عون لباحث أو فائدة لقارئ».
وعلى هذا نشر كتابه «تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية» وكتابه عن «الكندي» والفارابي المسمى «فيلسوف العرب والمعلم الثاني» كما نشر كتابه «الإمام الشافعي واضع أصول الفقه» إلخ.
ومن سنة 1939 إلى حين وفاته رحمه الله تنقل بين وزارة الأوقاف ومشيخة الأزهر، ولو ترك لسجيته وطبيعته ومزاجه ما قبلهما، ولظل أستاذ الفلسفة في الجامعة المصرية، ولكنه رحمه الله كان حييا خجولا، يحمله حياؤه وخجله على أن يرعى الظروف ويراعي المجاملات، ويخضع لأدب اللياقة، قبلهما حائرا بين طبيعته ومزاجه، وبين خجله ولباقته، إن وافقته وزارة الأوقاف في أنها ميدان الإحسان ووسيلة لتخفيف الكرب عن الضعفاء والبائسين والمنكوبين، فلم يوافقه ما تقتضيه الوزارة من أفانين السياسة، وشيخه الإمام قد لعن السياسة وكل ما اشتق من السياسة، وإن ناسبته مشيخة الأزهر، لأنها تغذي حنينه لأول معهد قضى فيه صباه وشبابه، فلم تناسبه لأنها مبعث قلق واضطراب وتضارب نزعات واختلاف تيارات، وقد لقي في مثل حاله شيخه الإمام الأمرين حتى خرج منه على مضض، وفارقه على ندم.
وقد شعر رحمه الله بالقلق والاضطراب والحيرة من كل ذلك، فعبر عن حالته أجمل تعبير في آخر ما كتب، إذ نشر تلميذ له كتابا قديما اسمه: «صون المنطق والكلام عن فن المنطق والكلام» لجلال الدين السيوطي وعرضه على أستاذه ليقدمه، فكان مما قاله رحمه الله في المقدمة: «كنت عثرت في دار الكتب الأزهرية على مجموعة رسائل للسيوطي في ضمنها كتاب «صون المنطق والكلام عن فن المنطق والكلام» وكتاب «جهد القريحة في تجريد النصيحة» الذي لخصه السيوطي من كتاب «نصيحة أهل الإيمان في الرد على منطق اليونان» لابن تيمية، فوجد في الكتابين نفعا محققا فيما أحاوله، فشرعت يومئذ في تدارسهما مع بعض الطلاب، غير أن ذلك لم يطل، فقد صرفتني الأقدار عن حياة المنطق إلى حياة ليست بمنطقية».
وقد كتب هذا في 18 يناير سنة 1947 قبيل وفاته.
فهو يصف حياته في السنين الأخيرة بهذا الوصف الرائع الحزين، إن حياته ليست منطقية، إذ الحياة المنطقية هي مطابقة الحياة للمزاج، والسير في الشئون الخارجية على وفق طبيعة النفس الداخلية، أما جو قلق لنفس هادئة، ومعمعة حروب لطبيعة مسالمة، فليس من المنطق في قليل ولا كثير.
لقد فقدنا بفقده صديقا كريما، وإماما عظيما، وشخصية لا تعوض، رحمه الله، وطيب ثراه، وأجزل له من الفضل كفاء ما قدم لأمته، وألهم الصبر أسرته وأبناءه وأصدقاءه، ووفقنا لاقتفاء أثره وتخليد ذكره.
الجدل العقيم
في الناس قوم لا ينفع فيهم الجدل والمناقشة، فمن الحمق أن نضيع وقتنا وجهدنا في جدلهم ومناقشتهم.
إن الجدل الناجح، والمناقشة التي تؤدي إلى نتيجة معناها أن هناك شيئا من الأساس متفقا عليه، ومن المبادئ مسلما به، فإذا لم يكن ثم أساس ولا مبادئ، فالجدل ضرب من العبث.
إذا كان خصمك يريد الغلبة بالحق وبالباطل، وأداته في ذلك طول اللسان وقوة الحنجرة، فما معنى مناقشته! إنك في مناقشته تحتكم إلى المنطق، وهو لا يؤمن بمنطق، وتحتكم إلى وقائع، وهو يكذبها، وإن صدقها فسرها تفسيرا يخدم غرضه ويوفي بغايته، وإن سلكت مسلكا سلك غيره عنادا، فكيف تناقشه، ولم تناقشه؟ كيف تلتقيان إذا كان يريد الغلبة وتريد الحق، ويسلك مسلك التهويش، وتسلك طريق المنطق، وتلتزم أنت صحة الوقائع، ولا يلتزم هو شيئا ففيم الجدل؟
وإذا كان خصمك قد وضع نصب عينيه في جدله أن يصل إلى منفعته الشخصية، ووضعت نصب عينيك أن تصل إلى الحق حيث كان، فكيف تلتقيان؟
ثم هناك من يتحجر عقله على عقائد اعتقدها، أو مبادئ اعتنقها، فكيف تلينه بعد هذا التحجر؟ أو تكسبه المرونة بعد هذا التصلب ؟ إنما ينفع الجدل قوما يبرهنون فيعتقدون، لا قوما يعتقدون ثم يبرهنون.
لقد كره الإسلام الإمعان في الجدل، وذم قوما فقال «بل هم قوم خصمون» وقال رسول الله: «ما ضل قوم قط إلا أوتوا الجدل»، فلم هذا الإسراف في المخاصمة والإمعان في المجادلة؟
إن شئت فانظر إلى ما يكتب في الجرائد والمجلات، كيف يتجادلون ويمعنون في الجدل! حتى ليصدق عليهم أنهم «قوم خصمون»، لا يقفون عند منطق، ولا يقنعون ببرهان، وكل ما فعل خصمهم السياسي فهو ضلال، وهو باطل، وهو أسود، وكل ما فعل حزبهم فهو حق، وهو صواب، وهو أبيض، حتى لو فعل خصمهم ما طلبوا منه أن يفعل لجرحوه في فعله، ورموه بسوء القصد من عمله.
وفرق كبير بين النقد يخضع للمنطق واللبرهان، وبين اللجاجة في الجدل بالتهويش والسباب والتشهير والإمعان في الخصومة.
ذلك أن الأمر ليس أمر مسألة تدرس، وبرهان يقام، ووجهة نظر تعرض أو تنقد، ولو كان هذا لسهل التفاهم، إنما الأمر أمر حزب يسقط، وحزب يحكم. وكل هذا الجدل الظاهر ليس إلا حربا يخدم الغرض الباطن، فكيف يكون التفاهم؟
إن الجدل للوصول إلى الحق لا يخرج الإخوان عن الصفاء؟ ولا يمس صداقة الأصدقاء، بل يكون الجدل أفعل في توكيد الصداقة، وتثبيت العلاقة، لأن كلا عاون الآخر. أما الجدل للغرض، فيفسد العلاقة، ويقلب الصداقة عداوة، لأنه ليس إلا وسيلة للانتقام، وشفاء الغليل.
ثم استعرض الجدل في المجالس كيف تتشعب الآراء ويطول الجدل. ويكثر الاستطراد، وكثيرا ما ينتهي ذلك كله إلى غير نتيجة. حتى المجالس الخاصة التي قصد منها إلى الاسترواح، ولذة الاستماع للحديث، وعرض كل أحسن ما رأى وما قرأ وما سمع، سرعان ما تنقلب إلى معركة حامية تفقد بهجتها ولذتها وتنقلب إلى جدل بغيض.
ما السر في هذه الفوضى كلها! وهذا الجدل الطويل كله؟ سره في قلة العقل فأقل الناس عقلا أكثرهم كلاما، ومن لم يحاسب نفسه على ما يقول قال ما يشتهي.
وسره في عدم ضبط النفس، فالنفس إذا لم يكن لها ضابط من عقل وحكمة شردت وذهبت كل مذهب.
وسره في الرأي العام الذي لا يحتقر الجدل الخصم، بل هو يطري طول لسانه وكثرة لجاجته وشدة إمعانه.
وسره في عدم تقويم الزمان، فلا بأس عند الناس أن تضيع الساعات في كلام فارغ، وجدل تافه، فهم يتفكهون بهذا كما يتفكهون بلعب النرد والشطرنج.
وسره في تشتت العقلية، فالتفاهم إنما يكون حين تتقارب العقلية، ولكنك تنظر فترى أميين بجانب متعلمين، وهؤلاء المتعلمون لا وحدة بينهم؛ تعليم أزهري ومدني وأجنبي، ومن تثقف ثقافة فرنسية، وأخرى إنجليزية، وثالثة ألمانية. من غير أن يكون لهذا كله دعامة متحدة من ثقافة قومية، ثم الفروق التي تنتجها معيشة الطبقات في العقلية؛ فعقلية الطبقة الارستقراطية غير طبيعة الطبقة الديمقراطية؛ وهكذا تمزقت عقلية الأمة كل ممزق، فلم يعد لها وحدة في العقلية، ولا وحدة في المزاج.
فإن كنت عاقلا فوفر على نفسك الجدل فيما لا طائل تحته، واقتصد من وقتك وثوران نفسك، فإن من أهم الأسباب في خلق الأرض واسعة والسماء فسيحة أن نهرب حيث نشاء من الجدل العقيم.
اختلاف القيم
أهم فرق بين إنسان وإنسان هو نظرته إلى الأشياء وتقويمها، هذا هو الفرق بين العالم والجاهل، والراقي والوضيع، والحكيم والأحمق. وسلوك الإنسان في الحياة دليل على قائمة القيم المنقوشة في أعماق نفسه. فإن رأيته يسعى إلى تحصيل المال حيث كان، ومن أي طريق كان، ولا يعبأ بالنزاهة والشرف والكرامة دل ذلك على أنه يضع تحصيل المال في أعلى «قائمة القيم»، والشرف والكرامة في أسفلها، وإن رأيته يعنى بالنظافة أو لا يعنى بها، وبالمطالعة في الكتب أو عدمها، وبالمناظر الجميلة أو إهمالها، فمعنى ذلك من غير شك تحديد موضعها في «قائمة القيم».
وفائدة التربية بوسائلها المختلفة، والتعليم بأساليبه المتعددة إنما هو هذا التقويم، فالذي ربي تربية صالحة، وعلم تعليما صحيحا لا يمتاز عمن ربي تربية فاسدة، وعلم تعليما سيئا، إلا أن الأول قد ركزت في ذهنه قائمة لقيم الأشياء مرتبة ترتيبا يتفق والمثل الأعلى، والثاني قد غرس في نفسه قائمة تتفق والمثل الأسفل .
وهذه المثل التي تشتق منها القيم تختلف باختلاف العصور والجماعات وروح الزمن، ففي الجماعات المتدينة تشتق القيم من الدين، وترتب قيم الأشياء حسب أوامره ونواهيه؛ فطاعة الله في أول القائمة، والأخلاق تقوم حسبما ورد في الدين من طلب مشدد أو مخفف وهكذا؛ وفي الجماعات التي تفلسف حياتها حسب النجاح في الدنيا فقط ترتب «قائمة القيم» ترتيبا آخر عماده التجارب الدنيوية، وما يوصل منها إلى النجاح وما لا يوصل، فتجعل في أعلى القائمة الحرية، والمحافظة على الشخصية، وتدبير الثروة، وطرق تحصيلها وإنفاقها، والسعادة في الحياة، والتسامح، وما إلى ذلك.
بل أرى أن النزعات والحروب وانقسام العالم إلى معسكرات، إنما منشؤه اختلاف في فلسفة الحياة، نتج عنه اختلاف في تقويم الأشياء، والنظر إليها، فهناك فلسفة اشتراكية تقوم أكبر تقويم المساواة بين الناس، والعدالة الاجتماعية وفرض النظام الاجتماعي الذي يحقق هذه المساواة وهذه العدالة، ويقوم الأشياء الجزئية حسب هذا المبدأ الأساسي الكلي، وهناك فلسفة أخرى تنشد ثروة الشعب، وعظمة الجنس، وحب الاستعمار والفتح، وقوة الجيش في الجو والبر والبحر، وما يتبع ذلك من الإشادة بفضيلة النظام والطاعة، وعلى هذا الأساس تقوم الأشياء، وهكذا اختلفت الفلسفات، فاختلفت مقاييس التقويم، واختلفت نظم التربية التي تحقق هذه الأغراض، وترمي إلى صوغ الشعوب حسب هذه المبادئ، فكان الخصام، وكانت الحرب، فحرب المدافع والقنابل والدبابات والطيارات نتيجة حتمية لحرب الفلسفات وحرب التربيات. •••
إن الأمة المتماسكة هي التي تخضع لنظام واحد، يبث في أفرادها «قائمة للقيم» واحدة، تكون أمام نظرهم جميعا، وتؤلف بينهم جميعا، والأمة المنحلة هي التي تسمح لقوى مختلفة ونظم مختلفة أن تضع «قوائم للقيم» مختلفة تفرق بين أبنائها، فمثلا عندنا الأزهر وتوابعه، يعلم أبناءه تعليما يرسم للقيم خريطة للحياة خاصة، وبجانبه المدارس الأجنبية تضع لطلبتها خريطة أخرى مخالفة للأزهر تمام المخالفة، ثم مدارس حكومية تلون خريطتها بلون ثالث مخالف للأولين، فينشأ عن ذلك حتما اختلاف الأنظار في قيم الأشياء، واختلاف السلوك تبعا للتقويم، وسوء التفاهم بين الجميع لاختلاف المثل العليا لهم، وهكذا الشأن في الخلاف الواسع بين النظم الاجتماعية لسكان الريف وسكان المدن، والأغنياء والفقراء، والمتعلمين والجهلاء، مما ليس له نظير في الأمم المتماسكة؛ فإن كان عندها فروق ففروق ضيقة ليست بالسعة التي عندنا؛ وبعبارة أخرى إن الاختلاف في التقويم عندهم ليس بمقدار الاختلاف في التقويم عندنا.
ونتج عن ذلك ضعف الرأي العام، فإن قوته تنشأ من الثقافة الواسعة الموحدة كما نتج عدم التفاهم في المسائل العامة؛ فالخلافات الكثيرة في مجالسنا وآرائنا ووجوه حياتنا منشؤها في الأعم الأغلب الاختلاف الواسع في التقويم، والاختلاف الواسع في التقويم منشؤه الاختلاف الواسع في التكوين. •••
على نمط أوسع من هذا كان الاختلاف العالمي. فهناك خلافات واسعة في التربية ونظمها، هناك من يربي على أساس النزعة القومية وقوة الأمة وسيطرتها، وهناك من يريد أن يربي على أساس النزعة الإنسانية والأخوة العامة، ثم هناك من يريد أن يربي على أساس النزعة العقلية المادية البحتة، غير عابئ بالأديان والتقاليد والحياة الروحية، ومنهم من يريد أن يربي على أساس العقل والروح معا، والتقاليد والتجديد معا، وهكذا، وكل منهج يحارب الآخر.
ومن الناحية الاقتصادية هناك من يؤيد الملكية الخاصة، وهناك من يريد أن يهدرها تماما، وهناك من يريد أن يتوسط، ثم هناك من يريد حرية التجارة وحرية الأسواق، والنظر إلى ذلك كله نظرة عالمية، وهناك من يريد إخضاع التجارة والأسواق للنزعة القومية، فيتدخل في التجارة وفي الأسواق وهكذا.
ومن الناحية الاجتماعية هناك فلسفة ترى أن الحرية يجب أن تمنح كاملة لأفراد الأمة، وألا تقف أمامها السلطات، فلا تحدها ولا تتدخل فيها إلا بقدر، وسينشأ عن ذلك النظام، بحكم طبيعة الشعب؛ وترى فلسفة أخرى أن النظام واستعمال السلطة في تعويد الشعب إياه يجب أن يسبق الحرية، ولا تنشأ الحرية الصحيحة إلا من فرض النظام وسهر السلطات عليه حتى تتربى الأمة.
ثم إن المدنية الصناعية الحديثة والمخترعات الجديدة تغلغلت في حياة الناس، وغيرت من تقويم الأشياء. ولم يتأثر بها الناس على السواء، بل كان منهم محافظون حافظوا إلى حد ما على القيم القديمة، وأحرار غيروا تغييرا كبيرا ، وأسرفوا في تقويم الجديد، مما كان مثار خلاف أيضا بين اتجاهات العالم. •••
كل هذه وكثير أمثالها خالفت بين الجماعات في التقويم، ثم تبلورت فقسمت العالم إلى معسكرات تستعد اليوم للحرب، كما كانت تستعد من قبل، ثم تكتلت هذه المعسكرات إلى معسكرين اثنين. •••
إذا كان أكبر سبب في هذه المنازعات هو اختلاف النظر الناشئ عن اختلاف التقويم، فهل هناك أمل في العلاج؟
إن ما أحدثته المخترعات الحديثة من تقريب المسافات بين الأمم، وكثرة الامتزاج والاختلاط بينها، وشدة الاتصال في معرفة كل أخبار الآخر، وكثرة المؤتمرات وما إلى ذلك، عامل كبير من غير شك في تقريب وجهات النظر، وتقريب تقويم الأشياء والآراء.
وإذا ثبت أن أهم سبب في الخصومات هو الاختلاف في التقويم كان أهم واجب على المصلحين أن ينادوا بالعلاج النفسي والاجتماعي؛ فليس هناك كبير فائدة في التفكير في نزع السلاح وإنشاء هيئة الأمم ونحو ذلك، ما لم تدعم بالعلاج النفسي من إزالة سبب خوف كل معسكر من الآخر بعد دراسته نفسيا، وما لم تدعم أيضا بالعلاج الاجتماعي من بحث وسائل تقريب النظر وتقريب التقويم.
الوصايا العشر
قرأت أن أمريكيا من رجال الأعمال وضع لنفسه وصايا عشرا، وعنونها «عهد وثيق» وكتبها على بطاقة، وآلى أن يقرأها كل يوم صباحا عند الإفطار، وأن يبذل كل جهده للعمل بها وهي: (1)
سأكرم نفسي: لأني أستطيع أن أعتزل كل أحد إلا نفسي، أعيش معها كل وقتي، آكل معها، وأنام معها، وأقيم معها وأرحل معها، فعلي عهد ألا آتي بعمل يخجلها. (2)
سأكون طموحا لا أقنع بما أنا فيه، بل أجعل نصب عيني أن أكون خيرا مما أنا عليه، ومن أجل هذا لا أكره أن تظهر نقائصي، فذلك أقرب إلى معالجتها وإصلاحها، وهذا يجنبني الزهو بنفسي، ويحملني على أن أعمل دائما في بنائها. (3)
سأراقب ما يدخل في ذهني من أفكار، لأنها ذات أثر فعال، فهي إما أن تبنيني أو تهدمني، ولذلك سأغلق باب ذهني عن كل أفكار الفشل، وأفكار الرعب والخوف وأفكار اليأس، وسأحرم دخولها إلى ذهني كما أحرم الأكل السام إلى معدتي. (4)
سأكون أمينا مع نفسي ومع غيري، سأكون أمينا في السر والعلانية، أمينا وحدي وأمينا مع الناس، أشعر إذا قربت من الخيانة أنها كالنار ترعى جسمي. (5)
سأعنى بجسمي، فمنه أستمد القوة والصبر على العمل، وهو فوق ذلك وسيلة من وسائل الأخلاق الطيبة، لا أتلفه بالإفراط، ولا أحمله ما لا يطيق، لا أسرف في العمل، ولا أسرف في الكسل، سآكل وأشرب بحكمة، لا أعلف جسمي كما تعلف الدواب، ولكن أنهج معه نهجا يحفظ عليه صلاحيته. (6)
سأعمل على ترقية عقلي، فأغذيه كل يوم كما أغذي جسمي، وأدرس دراسة دقيقة منظمة لنوع من المعارف أتخذه هوايتي. (7)
سأحتفظ بحماستي وحرارة عواطفي باعتدال وابتهاج، فلا أشكو ولا أتبرم، ولا أتشاءم ولا أصادق المتشائمين اليائسين، وأتحمس للخير والجد والعمل في فرح ونشاط. (8)
سأكون أميل إلى مدح الناس وتقريظهم من ذمهم وتعييرهم وتعييبهم، وسأقول الخير وأبذل الثناء للناس في وجوههم ومن ورائهم، وأما ما أكرهه منهم وأعيبه عليهم وأحتقره من فعالهم فسأحتفظ بإفرازه إلى أن أعود إلى بيتي. (9)
سأحتفظ بمجهودي وطاقتي، فلا أسرف في إنفاقها في غير فائدة، فلا أجادل من لا فائدة في جدله، ولا أغضب إذ لا فائدة في الغضب، ولا أحقد فالحياة أقصر من أن تضيع في حقد. (10)
سأنجح في الحياة، وسأنجح مهما صادفني من عقبات، وإذا وضع في طريقي أحجار أزلتها، وسأضع كل قلبي في عملي، وأواجه كل الصعاب من غير خوف، وأعتقد أن الحظ الحسن يتبع الجد والشجاعة.
الإمضاء «نفسي» •••
هذا عهد أمريكي، وقد أذكرني بعهد عربي قديم وضعه لنفسه (ابن) مسكويه من نحو ألف عام، نقتطف منه ما يأتي «هذا ما عاهد عليه أحمد بن محمد، وهو يومئذ آمن في سربه، معافى في جسمه، عنده قوت يومه، لا تدعوه إلى هذه المعاهدة ضرورة نفس ولا بدن، ولا يريد بها مراءاة مخلوق، ولا استجلاب منفعة، ولا دفع مضرة».
عاهده على أن يجاهد نفسه، ويتفقد أمره فيعف ويشجع ويحكم وعلامة عفته أن يقتصد في مآرب بدنه حتى لا يحمله الشره على ما يضره جسمه، أو يهنك مروءته.
وعلامة شجاعته أن يحارب دواعي نفسه الذميمة حتى لا تقهره شهوة قبيحة، ولا غضب في غير موضعه.
وعلامة حكمته أن يستبصر في اعتقاداته حتى لا يفوته بقدر طاقته - شيء من العلوم والمعارف ليصلح نفسه ويهذبها.
وعاهده على إيثار الحق على الباطل في الاعتقادات، والصدق على الكذب في الأقوال، والخير على الشر في الأفعال، والتمسك بالشريعة ولزوم وظائفها، وحفظ المواعيد حتى ينجزها.
ومحبة الجميل لأنه جميل لا لغير ذلك.
والصمت في أوقات حركات النفس للكلام حتى يستشار فيه العقل.
والإقدام على كل ما كان صوابا، والإشفاق على الزمان الذي هو العسر، فيستعمل في المهم دون غيره.
وترك الاكتراث لأقوال أهل الشر والحسد حتى لا يشغل بهم.
وذكر المرض وقت الصحة، والهم وقت السرور، والرضى عند الغضب، ليقل الطغي والبغي.
وقوة الأمل وحسن الرجاء والثقة بالله عز وجل. •••
ومجال القول ذو سعة في الموازنة بين العهدين، ومقارنة أثر العصرين، ونتاج الحضارتين، وفي كل خير.
أبو سليمان المنطقي كما يصوره أبو حيان التوحيدي
محمد بن ظاهر بن بهرام السجستاني.
فارسي الأصل، عربي المربى.
كان أنبغ فيلسوف في بغداد في النصف الثاني من القرن الرابع الهجري.
لم يكن أقل شأنا من ابن سينا وابن رشد وربما فاقهما في بعض النواحي، ولكن الوجاهة والشهرة حظ لم يرزقهما أبو سليمان، فقل من يعرفه أو يترجم له أو يوفيه حقه، ولولا ما وقع في أيدينا من نبذ هنا وهناك من كلام أبي حيان التوحيدي ما عرفناه.
لقد كان في بغداد في عصره نخبة من الفلاسفة والحكماء من مسلم ونصراني ويهودي أمثال ابن زرعة وابن الخمار وابن السمح والقومسي ومسكويه ونظيف ويحيى بن عدي وعيسى بن علي وأبي حيان التوحيدي وغيرهم.
ولكن كان أبو سليمان واسطة عقدهم وجامع شملهم ومقصدهم في حل المشكلات وقائل الكلمة الأخيرة فيما يجري بينهم من مناظرات، وكان كما يصفه أبو حيان «أدقهم نظرا، وأقعرهم غوصا، وأصفاهم فكرا، وأظفرهم بالدرر، واوقفهم على الغرر، مع تقطع في العبارة ولكنه ناشئة من العجمة، وقلة نظر في الكتب، وفرط استبداد بالخاطر، وحسن استنباط للعويص، وجرأة على تفسير الرمز، وبخل بما عنده من هذا الكنز».
وهذا تحليل دقيق من أبي حيان لشخصية أبي سليمان. فهو قوي الفكر ألكن العبارة، وهو يعتمد على قوة عقله أكثر مما يعتمد على النقل من المؤلفات، وهو واثق بصدق رأيه أكثر مما يثق بما يقول غيره، وهو قوي الشخصية يجعل رأيه حكما في كل ما يعرض عليه، وهو بخيل بعلمه لا يذكر بعضه إلا للخاصة إذا دعت الدواعي.
ولعل في هذا بعض ما يفسر خموله، فضنه بعلمه جعله لا يخرج من المؤلفات ما ينشر ذكره ويعلي شأنه ويخلد اسمه، يضاف إلى هذا أن الله الذي وهبه بسطة في العلم والعقل حرمه الجمال، فهو أعور العين مصاب بالبرص مشوه الخلق يقول فيه الشاعر:
أبو سليمان عالم قطن
ما هو في علمه بمنتقص
لكن تطيرت عند رؤيته
من عور موحش ومن برص
وبابنه مثل ما بوالده
وهذه قصة من القصص
منعه هذا العور وهذا البرص من أن يغشى مجالس العظماء والأمراء والحكام، وفي ذلك العصر كان هذا الاتصال سبب الرزق للعلماء، ولم يكن الأمر كما هو في عهد ديمقراطية اليوم حيث يستطيع العالم أن يجد رزقه من الشعب بوسائل مختلفة، بل كان العالم إن لم يتصل بخليفة أو أمير يمنحه أو يصله بوظيفة يستدر منها رزقه في وقف من الأوقاف ساءت حياته وأصابه الضنك إن لم يكن له مال موروث.
والفلسفة على الخصوص محتاجة إلى عون الأمراء، بل وحمايتهم، لأنها ليست مستساغة للعامة وأشباههم، بل هي مكروهة منهم.
فكان أبو سليمان فقيرا معتزلا بالإكراه، لا يجد قوته ولا أجر مسكنه إلا بمشقة.
كان عضد الدولة يمنحه المنحة الفينة بعد الفينة، فلما مات عضد الدولة شق عليه موته. فمنحه الوزيران سعدان مئة دينار مرة، فتهلل لها، ووعده بأن يواصل منحه، ولكن الوزير قتل؛ فهذه المعيشة المنعزلة الفقيرة كان لها أثر كبير في خموله. كان بيته مع فقره مجمع فلاسفة بغداد، ومجلسه مملوءا بالبحث وتبادل الآراء في المشاكل التي تثار مع اختلاف ألوانها وموضوعاتها، وكتب أبي حيان كالإمتاع والمؤانسة، والمقابسات، والصداقة والصديق تشغل جزءا كبيرا منها محاضر لهذه الجلسات وتدوين مختلف وجهات النظر وما كان لأبي سليمان المنطقي فيها من قول فصل.
ونحن نستعرض بعض آرائه الدالة على عمق نظره وسعة أفقه.
لقد كان من أهم ما يثار في تلك الأيام مسألة لا تزال تثار إلى اليوم، وهي موقف الناس من الوحي ومن العقل، فأساس الأديان أن الله تعالى شاء أن يتصل بخلقه عن طريق رسله، فأوحي إليهم بتعاليم الدين علما منه بقصور العقل الإنساني وضيق مجاله، فإن استطاع العقل إدراك المادة وقوانينها فلن يستطيع إدراك ما وراء ذلك من عالم الغيب، وهذا هو ما بينه الأنبياء بما يوحى إليهم؛ وعلى هذا الأساس شرعت العبادات وشرح عالم الغيب، فهي قد جاءت لا عن طريق إعمال العقل وترتيب المقدمات والنتائج كما يفعل العقل في بحثه العلمي، ولكن عن طريق أن الرسول أوحي إليه من الله بهذه التعاليم فآمن بها، وبلغها للناس، فهل تعرض هذه التعاليم الدينية على العقل ليبحثها بطريقته الفلسفية والمنطقية؟
هذا سؤال عالجه قديما الفلاسفة كما يعالجه اليوم الفلاسفة ورجال الدين.
وكان في أيام أبي سليمان هذا أربع نزعات في هذا الموضوع. منهم من حكم العقل في الدين فعرض كل مسائل الدين على العقل، فما قبله العقل من الدين قبله وما لم يقبله رفضه. وكان من أكبر دعاة هذا المذهب زيد بن رفاعة المقدسي، وقد كان آية في الذكاء وحسن البيان وسعة الاطلاع، فكان يقول: الشريعة طب المرضى، والفلسفة طب الأصحاء، والأنبياء يطبون للمرضى حتى لا يتزايد مرضهم وحتى يزول المرض بالعافية فقط، فأما الفلاسفة فإنهم يحفظون الصحة على أصحابها حتى لا يعتريهم مرض أصلا، ويرى أن الشريعة للعامة، والفلسفة للخاصة، وأن أدلة الدين ظنية وأدلة الفلسفة يقينية إلخ ما قال.
ونزعة أخرى عكس هذه تماما، وهي تحكيم الدين في العقل أو الفلسفة، وعرض نظريات الفلسفة على الدين فما وافق منها الدين قبل وإلا رفض، ويمثل هذه النزعة المحدثون والفقهاء.
ونزعة ثالثة آمنت بالفلسفة وأرادت أن تؤمن بالدين ففسرت الدين تفسيرا فلسفيا، وبعبارة أخرى حولت الدين إلى عقل، وما لم يمكن تفسيره من الدين بالفلسفة أولته، أي أنها جعلت الدين والفلسفة وحدة خاضعة لتفسير العقل؛ وهذا ما كان يحاوله الفلاسفة الإسلاميون أمثال الكندي والفارابي، وأخيرا في هذا العصر الذي نتحدث عنه «إخوان الصفاء» فمزجوا الوحي بالتشبع بالفلسفة اليونانية، وحاولوا أن يكونوا منها وحدة، فإذا صادفتهم صعوبة من أنواع من الوحي لا يمكن تفسيرها بالعقل كبعض أشكال العبادات سبحوا في الخيال وأمعنوا في الرمز حتى يلائموا بينها وبين الفلسفة.
طلع أبو سليمان المنطقي برأي في هذا جديد، ولم يعجبه ما فعل إخوان الصفاء وقال فيهم: «إنهم تعبوا وما أغنوا، ونصبوا وما أجدوا، وحلموا وما وردوا، وغنوا وما أطربوا، ونسجوا فهلهلوا، ومشطوا ففلفلوا، ظنوا ما لا يكون ولا يمكن ولا يستطاع، ظنوا أنهم يمكنهم أن يدسوا الفلسفة في الشريعة وأن يضموا الشريعة للفلسفة ... وقد توفر على هذا قبل هؤلاء قوم كانوا أحد أنيابا وأحضر أسبابا، وأعظم أقدارا. فلم يتم لهم ما أرادوا، ولا بلغوا منه ما أملوا، وحصلوا على لوثات قبيحة ولطخات فاضحة وعواقب مخزية، وأوزار مثقلة».
وقد أبان السبب في هذه الطريقة بأن منهج الدين يخالف تماما منهج الفلسفة، فأساس الدين الوحي وهو الأخذ عن الله بواسطة السفراء بينه وبين خلقه، وبرهانه الآيات وظهور المعجزت، وهو يشتمل على ما يوجبه العقل تارة ويجوزه تارة، وفيه ما لا سبيل إلى إقامة البرهان على ثبوته أو نفيه. وإنما يقبل بالتسليم من غير لم وكيف ولو وليت، ومعنى هذه التعاليم الورع والتقوى، ووسيلتها العبادة وطلب الزلفى.
أما الفلسفة فأساسها العقل ووسيلته المنطق ودرس المقدمات وربط المقدمات بالنتائج وعدم قبول شيء إلا أن يقوم البرهان المنطقي عليه، وفي الدين ما لا يمكن قبوله إلا بالتسليم، لأنه لا يمكن إقامة البرهان عليه بالنفي أو الإثبات.
فكيف إذن يسوغ لإخوان الصفاء أن ينصبوا من تلقاء أنفسهم دعوة تجمع حقائق الفلسفة وحقائق الدين في نطاق واحد؟
وإذن، فما الحل؟
يكاد أبو سليمان يرى أن للدين مجالا وحدودا وللفلسفة مجالا وحدودا؛ فالدين لم يأت لشرح النظريات العلمية وإنما أتى لشرح العلاقات بين العبد وربه، والفلسفة أتت لتفسير الكون وقوانينه الطبيعية، ولم تأت لتفسير الأمور الغيبية، فلنتبع الدين في مجاله وحدوده، ولنتبع الفلسفة في مجالها وحدودها، وهو في حدود الدين لا ينظر إلى الفلسفة، وهو في حدود الفلسفة لا ينظر إلى الدين. يقول: والعاقل «يتحلى بهما مفترقين في مكانين، على حالين مختلفين، ويكون بالدين متقربا إلى الله على ما أوضحه له صاحب الشريعة عن الله تعالى، ويكون بالحكمة متصفحا لقدرة الله في هذا العالم الجامع للزينة الباهرة لكل عين، المحيرة لكل عقل، ولا يهدم أحدهما بالآخر، أعني لا يجحد ما ألقى إليه صاحب الشريعة مجملا ومفصلا، ولا يغفل عما استخزن الله هذا الخلق العظيم على ما ظهر بقدرته ... ولا يعترض على ما يبعد في عقله ورأيه من الشريعة بأحكام الفلسفة، فإن الفلسفة مأخوذة من العقل المقصور على الغاية، والديانة مأخوذة من الوحي الوارد من العلم بالقدرة. ولعمري إن هذا صعب، ولكنه جماع الكلام وأخذ المستطاع وغاية ما عرض له الإنسان المؤيد باللطائف».
ويقول: «إن الفلسفة حق، لكنها ليست من الشريعة في شيء، والشريعة حق، ولكنها ليست من الفلسفة في شيء، وصاحب الشريعة مبعوث، وصاحب الفلسفة مبعوث إليه، وأحدهما مخصوص بالوحي والآخر مخصوص بوحيه، والأول مكفي، والثاني كادح».
وهذا في نظري رأي دقيق معتدل يستحق كل تقدير وإعجاب. وقد سقنا هذا مثلا لعمق تفكيره في أعوص المسائل ودقة نظره واستقلال رأيه.
وعلى هذا الأساس كره علم الكلام والمتكلمين، لأنهم حاولوا أن يبرهنوا على قضايا الدين بالمنطق، فقال: ولمصلحة عامة نهي عن المراء والجدل في الدين على عادة المتكلمين الذين يزعمون أنهم ينصرون الدين وهم في غاية العداوة للإسلام والمسلمين، وأبعد الناس من الطمأنينة واليقين؛ ذلك لأن الدين في نظره كما يقول مبني على القبول والتسليم، فمتى آمن المرء بنبي سلم بما جاء به من غير لم وكيف إلا بقدر ما يؤكد أصله ويشد أزره، وينفي عارض السوء عنه؛ لأن ما زاد على هذا يوهن الأصل بالشك، ويقدح في الفرع بالتهمة.
وحكى حكايات تسخف المتكلمين وتبين سوء جدلهم، وأن كثيرا منهم حار ووقع في القول بتكافؤ الأدلة، وهو ضرب من الشك. •••
وكثيرا ما كانت تثار في مجلس أبي سليمان ببغداد المسائل النفسية، إما نفسية بحتة أو نفسية تطبيقية على الأفراد أو نفسية اجتماعية، فمن النوع الأول أبحاثه الكثيرة في النفس، وهو يرى أن الإنسان جسم ونفس، وهما عنصران متباينان، فالجسم له أبعاد ثلاثة والنفس لا أبعاد لها، وهي جوهر بسيط لا يتجزأ، ولا يدرك بحاسة من الحواس الخمس، ولا يقبل التغير والاستحالة من شيء إلى شيء، ولا يعتريه فتور ولا ملال، وهي تخالف الجسم في قبولها للصور المختلفة من جنس واحد في وقت واحد؛ فالجسم إذا كان على شكل مثلث استحال أن يكون مربعا أو مدورا إلا إذا زال شكل التثليث، وليست كذلك النفس، فهي تقبل الصور المتعددة على التمام والنظام من غير محو وإثبات؛ ولهذا يزداد الإنسان بصيرة كلما نظر وبحث وارتأى وكشف، وقد صحبت النفس البدن عند مسقط النطفة، وما زالت تربيه وتغذيه، وتحييه وتسويه حتى بلغ ما نرى. والإنسان بهما إنسان وليس بأحدهما، ونصيب الإنسان من النفس أكثر من نصيبه من البدن.
والإنسان يريد أن يعرف النفس، وهو لا يعرف النفس إلا بالنفس، وهو محجوب عن نفسه بنفسه، وكل من كانت نفسه أصفى، ونظره أعلى، كان من الشك أنجى، وإلى اليقين أقرب، والنفس قوة إلهية بسيطة، ولبساطتها كان خلودها؛ لأن الفساد إنما يدب إلى الجسم من تركيبه، والبدن إنما يبلى ويفسد ويبطل ويموت لأن النفس فارقته، والنفس لا يفارقها شيء ليعتريها الموت؛ وهكذا يفيض في هذا. وقد أرسل إليه مرة الوزير ابن سعدان أسئلة مع ابي حيان في النفس وطبيعتها ودليل بقائها، وهل تعلم هذا العالم بعد مفارقتها الجسم إلى آخره. فكتب إليه في الإجابة رسالة لطيفة مختصرة. ويقول أبو حيان إن أبا سليمان كان إذا تكلم في النفس أفاض وأتى بالعجب. وفي الحق أن أبا حيان ملأ كتبه بأحاديث أبي سليمان عن النفس.
وهو يطبق معارفه في النفس على سلوك الأفراد والأمم. أطلعه مرة أبو حيان على صحيفة في تعريف الأخلاق وتحديدها، نقلها عن عيسى بن زرعة، فنظر فيها أبو سليمان وقال: «إن تحديد الأخلاق لا يصح إلا بضرب من التجوز والتسمح، وذلك أنها متلابسة تلابسا، ومتداخلة تداخلا، والشيء لا يتميز عن غيره إلا ببينونة واقعة تظهر للحس اللطيف أو تتضح للعقل الشريف، ألا ترى أن التواضع مشوب بالضعة، وعلو الهمة بالكبر، وعزة النفس بالعجب، والحلم ببعض الضعف؟ هذا بالقول ربما سهل وانقاد، ولكن بالعقل ربما عز واعتاض، والأخلاق والخلق مختلطة.
ثم قال: «وهذا أيضا يختلف بحسب المزاج والمزاج، والإنسان والإنسان، وإنك لو رمت تحويل البخيل من العرب إلى الجود كان أسهل عليك من تحويل البخيل من الروم إلى الجود، والطمع في جبان الترك أن يتحول شجاعا أقوى من الطمع في جبان الكرد أن يكون بطلا».
يريد أن مزاج العرب أقرب إلى الجود فسهلت الدعوة إليه، ومزاج الترك أقرب إلى الشجاعة فسهلت الدعوة إليه، وليس كذلك مزاج الروم في الجود إلخ.
قال: ومع هذا فوصف الأخلاق بالحدود، وإن كان على ما بينا نافع جدا.
ثم لأبي سليمان في السياسة العملية نظرات صائبة أحكي منها مثلا أو مثلين: لقد كان ابن سعدان الوزير البويهي يتأفف من كلام الناس في السياسة ومحاولتهم تعرف كل صغيرة وكبيرة يفعلها الوزراء والأمراء حتى ليودون أن يعرفوا ما يجري في بيوتهم، وما في دخائل أنفسهم، وقد ضاق الوزير ذرعا بذلك، وود أن يؤدبهم بالضرب والتنكيل حتى لا يخوضوا في مثل هذا الحديث وأن يتوجهوا فقط إلى معايشهم ووسائل تحصيلهم.
وقد شكا الوزير ذلك إلى أبي حيان، فنقل له أبو حيان من كلام أبي سليمان في ذلك قولا رائعا، ونظرا صائبا وفصلا لم تبل جدته، ولم تغيره الأيام على اختلاف تقلب السياسة ، فهو جديد اليوم كما كان جديدا في أيامه.
قال أبو سليمان:
ليس ينبغي لمن كان الله جعله سائس الناس عامتهم وخاصتهم أن يضجر مما يبلغه عنهم أو عن أحد منهم لأسباب كثيرة: منها أن عقله فوق عقولهم، وحلمه أفضل من حلومهم، وصبره أتم من صبرهم، ومنها أنهم إنما جعلوا تحت قدرته نيطوا بتدبيره، ليقوم بحق الله فيهم ويكون عماد حاله معهم الرفق بهم والقيام بمصالحهم، ومنها أن العلاقة بين السلطان وبين الرعية قوية، وهي أوشج من الرحم التي تكون بين الوالد والولد، والملك والد كبير، كما أن الوالد ملك صغير، وما يجب على الوالد في سياسة ولده من الرفق به، والحنو عليه، واجتلاب المنفعة له أكثر مما يجب على الولد في طاعة والده ... ومما يزيد هذا المعنى كشفا أن الملك لا يكون إلا بالرعية، كما أن الرعية لا تكون رعية إلا بالملك ... وبسبب هذه العلاقة المحكمة لهجت العامة بتعرف حال سائسها، والناظر في أمورها حتى تكون على بيان من رفاهة عيشها، وطيب حياتها، ودرور مواردها، بالأمن الفاشي بينها والعدل الفائض عليها والخير المجلوب إليها، وهذا أمر جار على نظام الطبيعة، ومندوب إليه في أحكام الشريعة، ولو قالت الرعية لسلطانها: لم لا نخوض في حديثك ولا نبحث عن غيب أمرك. ولم لا نسأل عن دينك ونحلتك وعادتك وسيرتك، ولم لا نقف على حقيقة حالك في ليلك ونهارك، ومصالحنا متعلقة بك، وخيراتنا متوقعة من جهتك، ورفاهيتنا حاصلة بحسن نظرك وجميل اعتقادك، ما كان جواب سلطانها وسائسها؟ أما كان عليه أن يعلم أن الرعية مصيبة في دعواها؟
ولو قالت الرعية: لم لا نبحث عن أمرك، وقد ملكت نواصينا وصادرتنا على أموالنا وقاسمتنا مواريثنا، وإن طرقنا مخوفة، وخراجنا مضاعف، ومعاملتنا سيئة، وجندينا متغطرس وشرطينا متعجرف، ومساجدنا خربة، ووقوفها منتهبة ومارستاناتنا خاوية، وأعداؤنا مستكلبة ماذا يكون الجواب؟
وعلى هذا يمضي في بيان حقوق الرعية على الراعي في حرية تامة. وجرأة مستفيضة. وقد أعجبني من أبى حيان شجاعته في نقل هذا القول للوزير ابن سعدان فأصلح رأيه وألجم لسانه.
ومثل آخر من نظرته الصائبة في السياسة: أن أبا سليمان حكى أن كسرى أنوشروان لما تقلد مملكته عكف على الصبوح والغبوق، فكتب إليه وزيره رقعة يقول فيها: إن في إدمان الملك ضررا على الرعية، والوجه تخفيف ذلك والنظر في أمر المملكة. فوقع كسرى على ظهر الرقعة بالفارسية ما ترجمته: إذا كانت سبلنا آمنة وسيرتنا عادلة، والدنيا باستقامتنا عامرة، وعمالنا بالحق عاملة، فلم نمنع فرحة عاجلة؟
وعلق أبو سليمان على هذا فقال: «أخطأ كسرى من وجوه: أحدها أن الإدمان إفراط، والإفراط مذموم. والثاني أنه جهل أن أمن السبل وعدل السيرة وعمارة الدنيا والعمل بالحق متى لم يوكل بها الطرف الساهر، ولم تحط بالعناية التامة ولم تحفظ بالاهتمام الجالب لدوام النظام، دب إليها النقص، والنقص باب للانتفاض مزعزع للدعامة. والثالث أن الزمان أعز من أن يبذل في الأكل والشرب والتلذذ والتمتع، فإن في تكميل النفس الناطقة باكتساب الرشد لها، وابتعاد الغي عنها، ما يستوعب أضعاف العمر، فكيف إذا كان العمر قصيرا، وكان ما يدعو إليه الهوى كبيرا . والرابع أنه ذهب عليه أن الخاصة والعامة إذا وقفت على استهتاره باللذات وانهماكه في طلب الشهوات، ازدرته واستهانت به، وحدثت عنه بأخلاق الخنازير وعادات الحمير، واستهانة الخاصة والعامة بالناظر في أمرها، والقيم بشأنها، متى تكررت على القلوب تطرقت إلى اللسان وانتشرت في المحافل، والتفت بها بعضهم إلى بعض وهذه مكسرة للهيبة، وقلة الهيبة رافعة للحشمة، وارتفاع الحشمة باعث على الوثبة والوثبة غير مأمونة من الهلكة، وما خلا الملك من طامع راصد قط».
وله في تحليل شخصية عضد الدولة السياسية وأحوال الناس في زمانه واضطرب أمرهم بعده ما يدل على دقة نظر. وهو يرى أن لا بد من الأخذ بقواعد السياسة بجانب الدين، ولا بد من اطلاع السائس على كتب السياسة التي كتبها الحكماء وعرفانها والعمل بها والزيادة عليها حسب مقتضيات الأحوال؛ وقد كتب هو نفسه رسالة لطيفة في السياسة أهداها إلى قابوس ملك جرجان.
وقد حكى أبو حيان عنه أن أبا سليمان كان إذا تكلم في مثل هذه الموضوعات عجبوا منه وعوذوه وسألوه أن يؤلف لهم فيها.
ولأبي سليمان كلمات رائعة في الحكمة على نحو ما روى لأفلاطون وبقراط وأمثالهما من حكماء اليونان.
وكان دقيق الحكم، له الطبع العلمي المنصف الذي لا يهرف بما لا يعرف.
قيل له يوما: هل هناك بلاغة أحسن من بلاغة العرب؟ فقال: «هذا لا يبين لنا إلا بأن نتكلم بجميع اللغات على مهارة وحذق ثم نضع القسطاس على واحدة واحدة منها حتى نأتي على آخرها وأقصاها، ثم نحكم حكما بريئا من الهوى والتقليد والعصبية والمين، وهذا ما لا يطمع فيه إلا ذو عاهة».
قال له أبو حيان يوما: كيف أصبحت؟ فقال: «أصبحت مالك الظاهر مملوك الباطن ... إن حزنت حزنت طباعا، وإن فرحت فرحت خداعا، إن أنا خالطت ذممت الناس، وإن اعتزلت اجتلب الوسواس، إن بحثت دهشت، وإن قدرت استوحشت، بهذا مسائي وصباحي، وعليه غدوي ورواحي، وا شوقاه إلى وطء ذاك البساط! وا كرباه من عقد هذا الرباط! يا لها سعادة لو وجدت بالجد والتشمير، وزهد من أجلها في النقير والقطمير!»
وكان أبو حيان وغيره يأتونه بالصفحة من كلام الصوفية أو من الفلسفة اليونانية فيستحسنها ثم يملي عليهم من عنده خيرا منها.
كان له طبيعة يفلسف بها كل شيء مر على سمعه أو تحت نظره؛ فما يسمع بحادث، أو يعرض عارض، أو ترد خاطرة حتى تفيض فلسفته ويغمر بها سامعيه.
وكان مع هذا له مجالس أنس يروح فيها عن نفسه. كان مشغوفا بسماع الغناء من فتى موصلي نابغ، فيطرب من غنائه أشد الطرب وكان يخرج بعض أيام الربيع إلى البساتين ومعهم مغن، فهل ينسى فلسفته حتى في هذه الأوقات؟ كلا. كان يثير مثل هذه الأسئلة: لم كان المغني إذا تابعه أحد في غنائه وسانده يكون غناؤه ألذ وأطيب، وأحلى وأعذب؟ ويغنيه مرة غلام جميل الصوت تنقصه الصنعة، فيثير مسألة: لم تحتاج الطبيعة هنا إلى الصناعة؟ وهكذا يفلسف كل شيء حتى لو قال له أحد: «السلام عليكم»، لفلسفها كما فلسف سؤال أبي حيان له: كيف أصبحت؟
وليست فلسفته بالبساطة التي عرضتها. فكثيرا ما يعمق حتى يدق فهمه، ويسمو حتى لا يدرك، ويرمز حتى لا يبين.
وهذه المسائل التفصيلية كلها ترجع في فلسفته إلى أصول كلية خلصت له، وصحت عنده واعتنقها، وولد منها كل هذه الفروع.
ما هذه الأصول؟ ومن أي مدرسة كان أبو سليمان من مذاهب الفلسفة الإسلامية؟ وهل كان أرسططاليسيا أو أفلاطونيا؟ وإلى أي حد كان مقلدا للفلسفة اليونانية؟ وإلى أي حد كان أصيلا؟ هذه مسائل تحتاج إلى بحث أدق ونظر أعمق.
أيا ما كان فقد كان أبو سليمان شخصية ممتازة لم تنل حقها من التقدير، لقد تركت دويا كبيرا في محيطه وفي زمنه، وكان بيته مقصد العلماء ليلا ونهارا؛ هذا أبو حيان يقرأ عليه كتاب النفس لأرسطو، وهذا يعرض ما غمض عليه من أقوال الفلاسفة فيشرحها، وهكذا كان مجلسه متعة النفس وغذاء العقل، وأقواله تنقل إلى الخاصة، ويتجادل فيها العلماء في مجالسهم، ويتخاصم فيها في سوق الوراقين، وتحدث حركة علمية جليلة، ولكن لا تلبث أن تخبوا وقل من التفت إليها وحرص على دراستها، كما فعلوا بكتب ابن رشد وابن سينا وأمثالهما، والدنيا حظ والوجاهة حظ.
وهو مع الأسف لم يخلف لنا كتابا أو كتبا تعرض كل فلسفته مبوبة مرتبة، ولكن نبذ من هنا ومن هناك حكاها عنه أبو حيان.
ومع هذا، فلعلي بهذه الكلمة القصيرة أكون قد نفضت عنه بعض الغبار الذي عفى عليه، ولعلها تثير من يكشف النقاب عن وجهه.
تعقيل الإصلاح1
في اللغة: عقل الأحمق أو الجاهل، صيره عاقلا. وقد استعملته هنا في معنى قريب من هذا، وهو تأسيس الإصلاح على مقتضى العقل والعلم لا على أي أساس آخر.
وتعقيل الإصلاح بهذا المعنى درجة لا يصل إليها الإنسان إلا بعد مراحل شاقة وبلوغ درجة عالية من الرقي والنضج. سواء في ذلك الإصلاح الشخصي أو الإصلاح الاجتماعي. ففي الأفراد مثلا كثيرا ما يسير المرء هواه وعواطفه لا عقله، وقد يتخذ الهوى والعوطف شكل العقل خداعا وتضليلا. هذا رجل مقتر على نفسه، يأتيه المال الكثير ولا ينفق منه إلا القليل، ويضن به على نفسه وأولاده حتى في الضروريات خشية الفقر، فهذا يسير في حياته على الهوى، ولكن يصبغه صبغة العقل فيخترع حججا ومنطقا يبرر بها سلوكه، ويظن أنها العقل وليس بعقل، وإنما هو الهوى.
وهذه امرأة رأت نفسها أسمن مما يلزم، فوصف لها نمط من الغذاء خاص تلتزمه، فلما حاولت ضعفت إرادتها، فهي تزعم لنفسها أن سمنها ليس فوق المعتاد، وأنها إن نحفت عن ذلك قل جمالها، فهي تخترع حججا عقلية لتبرهن بها على سلوكها، وهي في الواقع تستر فشلها. هي إذن تسير حسب هواها لا حسب عقلها، لأن السير حسب العقل عسير.
والأمر في الإصلاح الاجتماعي أوضح؛ فالأمم تسير في الإصلاح حسب الهوى حتى تنضج فتخضع للإصلاح حسب العقل. وأعني بالهوى مجرد الرغبة، سواء أكانت خيرة أو شريرة. فالإصلاح المؤسس على مجرد عاطفة ولو خيرة من غير أن يفحصه العقل هو إصلاح مبني على الهوى ويحتاج إلى تعقيل.
ولنضرب لذلك مثلا الفقر والإحسان. فقد نظر إلى الفقر قديما على أنه كارثة يألم لها الإنسان، وعالجها بالإحسان بمعنى التصدق على الفقراء، فهذا إصلاح مبني على العاطفة أو النية الحسنة أو الهوى بمعناه الحسن، ولكنه إصلاح لم يعقل. وظل الحال على هذا المنوال حتى جاء العصر الحديث وحدثت النهضة العقلية، فحاولوا تعقيل إصلاح الفقر. فماذا فعلوا؟ درسوا الفقر وأسبابه دراسة عميقة، فتساءلوا: ما الفقر؟ ومن الفقير؟ وأسباب الفقر، وما يرجع منها إلى الفقير، وما يرجع إلى النظام الاقتصادي والاجتماعي في الأمة. ورأوا أن الإحسان بمعنى إعطاء الفقير شيئا من الصدقة يدا بيد قد يلتقي مع أسباب الفقر في قليل من الأحيان، ولا يلتقي في كثير منها؛ فإذا كان سبب الفقر أن رب الأسرة سكير فماذا تجدي الصدقة؟ فلما عقلوا الإصلاح ودرسوا الفقر وأسبابه نوعوا الإحسان ليتلاقى مع أسباب الفقر؛ فمن كان سبب فقره العطل عن العمل فليوجد له عمل؛ ومن كان سببه الإدمان على كيف من المكيفات فليعالج، وإذا كان السبب سوء الحالة الاقتصادية في البلاد فلتصلح الضرائب.
وعلى كل حال فليكن الإحسان في يد جمعيات وهيئات صالحة تدرس وتعالج بناء على الدرس، وليحرم الإنسان الفردي، وليكن الإحسان لهذه الهيئات الصالحة ننفقه، وليحرم التسول في الطرقات بناء على هذا، ولتنشأ المدارس الصناعية لأولاد الفقراء منعا للفقر المقبل، وهكذا. ولا يزال الباحثون يعقلون هذا الإصلاح إلى اليوم. وكان آخر ما قرأنا في ذلك مشروع «بيفردج». وكان لهذا التعقيل على اختلاف أنواعه نتائج باهرة إن لم تقض على الفقر تماما فقد كادت؛ ولولا الحروب وويلاتها لرأينا منها أحسن النتائج.
ولننظر في ضوء هذا إلى الأموال الكثيرة تنفق بدعوى معالجة الفقر عندنا. كأموال النذور والأوقاف الخيرية وأموال الجمعيات الخيرية كيف توزع بدعوى معالجة الفقر من غير عقل ولا تعقيل!!
كذلك الشأن مثلا في الإجرام والجريمة. كانت النية الحسنة أو الهوى ينفر من الجريمة ويعاقب عليها في كثير من الأحوال، ولكن لما أريد تعقيلها بحث عن الجريمة وأسبابها ووضع العلاج لكل سبب؛ فالجريمة لم تأت عفوا فلا تعالج عفوا، إنما تأتي من عوامل متعددة مختلفة، فما بقيت العوامل بقي الإجرام.
على هذا أصلحت السجون، ووضعت الأسس للوقاية من الإجرام.
وهكذا كل الأمراض الاجتماعية وما وضع لها من إصلاح.
قد أتى هذا التعقيل أو هذا النضج في التفكير نتيجة للإيمان بقانون السببية، وربط المسببات بالأسباب، فالفقر والإجرام والجهل والقذارة وسوء النظام وفساد الحكم، كل ذلك ليست قدرا ينزل من السماء لا قبل لنا به ولا دخل لنا فيه، ولكن أسباب حدثت تنتج مسببات لا بد منها، وليست ثمرة تثمر عفوا، ولكن تبذر بذور وتتكون مع الزمن لتكون شجرة ثم تثمر، ولا بد أن تكون الثمرة من جنس البذرة، فإذا بذرت حنظلا وأردت تفاحا فذلك محال، إلا أن تغير البذرة وتتعهدها بالنماء حتى تثمر تفاحا. ومهما كان لك من نية حسنة فبذرة الحنظل حنظل، وبذرة التفاح تفاح. •••
والناظر في شئون الأمم والجماعات وتطورها يرى أنها جرت في تطورها على سنن واحد من الخضوع للغريزة، إلى الخضوع للهوى، إلى التعقيل.
فالجمعيات الإنسانية الأولى تتحكم فيها الغرائز وحدها، ولا شيء يكبتها إلا القوة والخوف منها، ثم تخضع لحكم الهوى من تقاليد وعرف وظروف طبيعية واجتماعية، ثم أخيرا تتطور إلى الخضوع للعقل وإن لم تبلغ في ذلك إلى الآن الغاية.
هذا هو شأن الإنسان في علاقاته الجنسية، فالغرائز أولا مطلقة، ثم تكون الأسرة خاضعة لأحكام الهوى، ثم تأخذ في الخضوع للعقل، وكذلك الشأن في النظم الاقتصادية تخضع أولا للغرائز، ثم لحكم الهوى فيكون نظام الطبقات وما إليها، ثم لحكم العقل، وكذلك في الشئون السياسية.
ولهذا كان البطل في الجمعية الأولى أقوى من في الجمعية غرائز، كما يتمثل ذلك في شيخ القبيلة، ثم يكون البطل في الطور الثاني الولي أو القديس أو الحاكم المستبد، ثم يكون في طور التعقيل المصلح. وليست الخطوط بين هذه الأطوار واضحة جلية، فكثيرا ما تمر القرون مختلطة بين طورين حتى يتم التطور. •••
ماذا نعني بتعقيل الإصلاح؟
إذا أردنا أن نبني عمارة على مساحة من الأرض فإن سرنا على الهوى فإنا نأتي بمعماري حيثما اتفق، وهو يسير في بنائها حيثما اتفق، وإذا عن في أثناء البناء ضروب من التعديل والتغيير أدخلها، وإذا فرغ مال المالك وسط البناء وقف، وإذا تم البناء بدأ يفكر في النجارة، وقد تستلزم النجارة تعديل البناء. وهكذا في كل خطوة تظهر مشاكل تتطلب حلا، فتحل المشكلة الحاضرة من غير نظر إلى ما وراءها، حتى إذا تمت - إن تمت - فبطلوع الروح، وبضروب من النقص الناشئ من الارتجال.
أما إن بنيت على أساس التعقيل وجب أن يحدد المالك ماذا يريد من البناء: الاستغلال أو سكنى نفسه وأهله، وكم شقة يريد في الدور، وكم دورا.. إلخ.. إلخ.
ويأتي بالمهندس فيمسح الأرض، ويدرسها من حيث طبيعتها وما تسمح به القوانين في ارتفاعها، ويتخيل أحسن أشكالها وفقا لموقعها وما تتطلبه من شمس وهواء وضياء، ويضع ذلك كله على الخريطة: الأساس والدور الأول والثاني وهكذا، وكم مترا ستكون مساحة البناء، وما يتطلبه من مال، والنجارة، والسباكة، والكهرباء . ويضع ذلك كله على الورق، ويراعي كل الظروف والملابسات، ويصل إلى كل النتائج، إلى تسليم المفتاح، وإذا كان مهندسا ماهرا لم يختل شيء من ذلك في قليل ولا كثير.
ثم المالك بعد يقيس ذلك بماليته، ويرى هل ذلك كله حقق غرضه. فإن تم الاتفاق نفذ المشروع، على أن يكون أول حجر يوضع مقدمة لآخر عمل يعمل، فهذا تعقيل البناء وكذلك الشأن في تعقيل الإصلاح الاجتماعي.
إن أي مشروع لإصلاح اجتماعي يتطلب لتعقيله خمس خطوات: (1)
مسح المشروع كما تمسح الأرض، وذلك بإلقاء نظرة عامة عليه وعلى ما يحيط به من علاقة بين الحالة الاقتصادية والاجتماعية للأمة. (2)
دراسة المشروع دراسة وافية من جميع جوانبه كما يفعل المهندس الماهر في دراسة بناء العمارة: من وصف دقيق للمشروع، وتحليل عميق، وعلاقة المشروع بالنظم الاجتماعية والاقتصادية في البلاد، والاستعانة بما يحتاج إليه من إحصائيات وما يتكلف من مال، والموارد والمصادر والنتائج، والموازنة بين ما ينفق عليه والنتائج التي تحصل منه، وما قد يعترضه من عوائق، وكيفية التغلب عليها، وهل ينفذ دفعة واحدة أو على خطوات، وإن كانت الثانية فما هي هذه الخطوات. وهكذا إلى «تسليم المفتاح». (3)
وضع المشروع على الورق، أو رسم الخريطة الكاملة له نتيجة لدرسه، وعرضه على الخبراء لنقده إن كان لديهم نقد، والإصغاء إلى ملاحظاتهم، وتقديرها في عدل وسماحة، وتعديل المشروع حسبما يصح من وجوه نقدهم. (4)
إعداد الرأي العام لقبول المشروع والعطف عليه والتحمس لإتمامه، ففي هذا فائدة كبرى للمشروع، فإنه إذا لم يحظ بعطف الرأي العام أحيط بالصعوبات والعقبات، وفت ذلك في عضد القائمين به، وتعثر في كل خطوة يخطوها. وفي عطف الرأي العام شيء من الضمان في الاستمرار فيه، والدفع إلى إتمامه. (5)
التشريع له وإقراره من السلطة المختصة حتى يبدأ في التنفيذ.
هذه هي الخطوات الخمس لتعقيل أي مشروع، فإن أردنا أن نضيف شيئا إلى هذه الخطوات الخمس قلنا: يجب أن يكون موقف الأمة الاقتصادي والاجتماعي في حالة ملائمة لقبول هذا المشروع، ولك أن تدخل ذلك في الخطوة الثانية، وهي خطوة الفحص والدرس.
وعلى كل حال فإن رأيت فشلا في مشروع من المشروعات فاعلم أن سببه أنه لم يستوف خطوة أو أكثر من هذه الخطوات، ولو أنه استكملها لنجح نجاحا مؤكدا.
إن أكبر أسباب فشلنا في كثير من المشروعات يرجع إلى عدم تحديد ما نريد، فإذا حددنا ما أردنا فنقص في البحث والدرس، وكثيرا ما نعتمد على الدرس الذي قامت به دولة أو هيئة أوربية من غير أن نفحص المشروع نفسه في بلادنا وما يحيط به من ملابسات عندنا. مثال ذلك ما حدثني به اقتصادي مصري خبير قال: إن جماعة في إنجلترا أسست مشروعا لجمع الملابس القديمة وإعادتها بالآلات الحديثة إلى «فتل» تنسج من جديد، فتكون أثوابا جديدة رخيصة، قد تختلف عن الفتلة الجديدة بأنها أقل متانة وأقل نعومة، ولكنها على كل حال صالحة للاستعمال. ونجح المشروع الإنجليزي، فأراد جماعة من المصريين أن يقلدوهم في مشروعهم بناء على درس الإنجليز لا على درسهم هم، ففشل المشروع لقلة الدرس، إذ فاتهم أن أكثر الملابس الإنجليزية صوفية، وأكثر ملابسنا قطنية، وأن الإنجليز يستغنون عن ملابسهم قبل أن تهلهل، وأن أكثر ملابسنا لا نستغني عنها إلا بعد أن تكون مهلهة. ولذلك فشل المشروع.
ثم إذا نحن حددنا ما أردنا جيدا، ودرسنا جيدا، فأمامنا ثلاث مصائب كبرى تقضي على أكثر المشروعات:النظام المالي عندنا وفساده، وهذا يحتاج وحده إلى محاضرة أو محاضرات ممن هم أعلم مني بذلك، وعدم استقرار الحكومات مع ربط المشروعات برغبات الحكومة، فإذا تغيرت الحكومة تغيرت الرغبة، وأوضح مثل لذلك مهزلة مشروع خزان أسوان، ومشروع تعميم التعليم، والمصيبة الثالثة ضعف خلق الثبات والاستقرار في الأمة، ويتجلى هذا حتى في المشروعات الأهلية؛ لهذا كله قد نرى المشروع جميلا جدا، وإخراجه إلى الوجود قبيحا جدا، آلة فخمة ضخمة كاملة، ولكن ينقصها المحرك.
ومع هذا فدورنا دور طبيعي في الأمم، ولا بد حين الانتقال من عصر الهوى إلى عصر التعقيل، من عصر مخضرم، ثم ينتهي الأمر إلى التعقيل لا محالة، إن شاء الله.
غفلة مزمنة
قرأت في بعض الصحف «أن زعيم الإسماعيلية الهنود، وعددهم يزيد على عشرة ملايين، سيهدي إليه أتباعه في عيده الماسي وزنه ماسا، ويقدر الماس الذي يعادل وزنه ب 615000 قيراط، وقد بدأ فعلا جمعها، وقد أهدي إليه في عيده الذهبي وزنه ذهبا فبلغ 25000 جنيه ذهبا».
فقلت: أيظل المسلمون في غفلتهم هذه أبدا؟ إن الإسلام في جوهره لا يقدس أحدا، ويحارب عبادة كل حجر وكل وثن وكل صنم وكل حيوان وكل إنسان، وشعاره الدائم «لا إله إلا الله» ومعناها البسيط أنه هو وحده الذي يعبد والذي يقدس والذي يرجى والذي يخاف.
فما بال المسلمين فقدوا هذا المعنى فقدسوا الأشخاص يعبدونهم، ويلجئون إليهم ويقدمون لهم الهدايا كما تقدم القرابين؟!
ألا يدرون فيما تصرف هذه الأموال الطائلة التي يجمعونها من البائس الفقير الذي لا يجد ما يسد قوته وما يستر جسمه؟ إنها تصرف في خيل السباق وفي ترف الزعيم وفي غير ذلك من وجوه السرف؟ أليست نظرة بسيطة تري أن هذا المال الذي يجمع من محتاجه ليصرف في هذه الوجوه غفلة عريقة عريضة.
ولم هذا التقديس كله؟ ولم هذه الحفاوة كلها؟ لم يكن ذلك من كفاية ممتازة، ولا عبقرية خارقة للعادة، ولا قيام بالإصلاح عظيم، ولكن وراثة دينية ورثها، وسلطة روحية تنقلت من الآباء إلى الأبناء حتى وصلت إليه.
أفيقوا أيها المسلمون.
ليس هذا الأمر مقصورا على الإسماعيلية دون غيرهم ولا على الشيعة دون السنيين، فالغفلة عامة والجهل مخيم والسخافة فاشية وعبادة الأشخاص في كل مذهب.
ما صناديق النذور هذه التي يراها الزائر عند كل ضريح كبير كالسيد البدوي والإمام الشافعي والسيدة زينب وسيدنا الحسين وغيرها من الأضرحة؟ إن كل صندوق من هذه توضع فيها مئات الجنيهات بل الآلاف أحيانا كل عام.
أتدرون من الذي يدفعها ومن الذي ينعم بها؟ يدفعها الفلاح المسكين يحرم نفسه وأولاده من غذائهم الضروري وملبسهم الذي لا بد منه، ويدفعها من ثمن بقرة يبيعها وهو في أشد الحاجة إليها في زراعته ليفي بنذر نذره إن شفي ابنه من مرض أو برئ من تهمة أو نحو ذلك؟ مما لا دخل للسيد البدوي وسيدنا الحسين فيه.
ويأخذ الأغنياء المترفون من مشايخ هذه المساجد ومن إليهم ممن ليسوا في حاجة إليها، وبعضهم يقتني منها الأملاك والضياع، وكل حين تحدث فضائح حول هذه الصناديق تؤلف وزارة الأوقاف لها لجانا. وماذا عليها لو ألغتها فسدت بذلك بابا من أبواب الفساد.
وما هذه مشيخة الصوفية التي تتوارث كما ورث زعيم الإسماعيلية مشيخته؟ فهل العلم يتوارث وهل الروح تتوارث؟ إنا نرى أعلم عالم يلد أجهل جاهل، وصالحا كبيرا يلد فاسقا كبيرا وممعنا في الفسق يلد ممعنا في الصلاح. والعلم والذكاء والغباء والصلاح والفساد «تذكرة شخصية» لا يمكن أن تتوارث، وقد منع الأنبياء من أن يورثوا حتى في أموالهم وجاء الحديث «نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركنا صدقة».
فالسيادة الروحية كالسيادة العلمية لا يصح أن يكون كل مصدرها الوراثة، بل لا يصح أن يكون أحد مصادرها الوراثة. هل رأيت أحدا اختير أستإذن في جامعة أوفي مدرسة عالية أو غير عالية لأن أباه كان يشغل هذا المنصب؟ فكيف بالروح وأمرها أصعب ونيل الدرجة الممتازة فيها أشق و«الله أعلم حيث يجعل رسالته» وقد يكون شريف النسب لا يساوي عند الله شيئا، وقد يكون وضيع النسب وهو عند الله في مكان مكين؛ هذه بديهيات تطيح بمشايخ الطرق زعماء المذاهب وبكل من نال منصبا بالوراثة لا بالكفاية.
قد كان الناس إلى عهد قريب ينظرون إلى المناصب نظرة شخصية، فإذا مات موظف جهدوا في أن يحل ابنه مكانه للحرص على أن يظل «البيت مفتوحا» ونحو ذلك من الاعتبارات، فلما عقلوا وفهموا أن المنصب عمل يؤدي ولا بد لمن يؤديه أن يكون كفؤا له زالت النظرة الشخصية وزال توظيف الابن مكان أبيه لمجرد الأبوة والبنوة، وروعيت المصلحة العامة لا المصلحة الشخصية. فلماذا تبقى هذه البقية من المناصب تتوارث من غير نظر إلى الكفاية؟
إن رجل الدين إنما يقوم بدينه وبما يقوم به من إصلاح روحي وخلقي، فلو لم يكن فيه هذه الصفات فلا يصلح مطلقا أن يولي هذا المنصب ولو كان أشرف الشرفاء. والله يقول لنوح النبي في ابنه غير المؤمن:
إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح . والرسول يقول لعائشة زوجه ولفاطمة ابنته «إني لا أغني عنك من الله شيئا» فما بال هؤلاء يعتزون بنسبهم البعيد ويرون استحقاقهم للمناصب بنسبهم لا عملهم والناس من عفلتهم يؤيدونهم في أغراضهم وشهواتهم!
هل كان النبي
صلى الله عليه وسلم
يختار لعمله أقاربه؟ أو كان أبو بكر وعمر وعلي يختارون لعملهم أقارب النبي؟ ألم ينح علي نفسه قريبه عبد الله بن عباس وينصب من ليس من أهله مراعاة للكفاية وحدها؟
جميلة جدا هذه العاطفة النبيلة أن يحب المسلمون نبيهم فيحبوا كل ما يتصل به من أقاربه ومكانه وأصحابه كما يحب العاشق كل ما اتصل بمحبوبه، ولكن لا يصح أن يتدخل هذا الحب في المصلحة العامة ولا في العدالة الاجتماعية ولا في المبادئ الأساسية للإسلام. هل يسمح لي في شرعة العدل أن أولي قريبا عملا لا يصلح له؟ بالبداهة «لا» فكذلك هنا «لا».
إن من أسس الإسلام التقويم بالعمل لا بالنسب. ووضعت لذلك القاعدة الجميلة
فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره
من غير نظر إلى فاعل الخير وفاعل الشر. فهل يصح أن نهمل كل ذلك من أجل الحب، والحبيب نفسه لا يرضى أن تهدر مبادئه؟
لقد ذهب زمان الغفلة وأصبح الناس يقدرون الرجل بعمله، فيولون رياسة حكوماتهم ابن الصانع وابن العامل، وينحون عن العمل ابن العظيم وابن الشريف إذا كان لا يصلح للمنصب، والناس يتقدمون للانتخاب بعملهم وببرامجهم لا بنسبهم، ومنتخبوهم ينتخبونهم على هذا الأساس لا على أي أساس آخر.
أفيصح للمسلمين في مثل هذا الزمان أن يسلموا زمامهم وينفقوا أموالهم ويطأطئوا رءوسهم ويسندوا أعمالهم إلى من ليس يستحق لمجرد نسبه؟
لست أقصد بهذا النقد مذهبا معينا ولا طائفة خاصة، فهذا الشر واقع فيه كل الطوائف، والغفلة عامة، فهل يفيقون في زمن لا تكفي فيه الإفاقة بل لا بد من العمل المجدي والسعي المضني للعيش الصالح في هذا العالم!
الجرائم العقلية
بالأمس قرأت في إحدى الصحف أن دجالا قدم للمحاكمة بتهمة التغرير بالعقول، وهجم على بيته فرؤي فيه أنواع من ملابس الشعوذة أشكالا وألوانا، وأحصيت ثروته فبلغت مئة ألف جنيه، ثم حكمت المحكمة ببراءته لأن القانون لا ينطبق على أعماله.
هذه جريمة عقلية.
ومنذ أيام حدثني عبد العزيز باشا فهمي أن رجلا من أسرة مشهورة في الشرقية سماها لي مات جدهم من زمن وكان لصا فتاكا، ودفن في مقبرة معروفة، فعمد أحد خدمهم إلى هذه المقبرة وشيدها وجعلها على شكل ضريح، ولون حيطانها بألوان أضرحة الأولياء، وأشاع في الناس أن ساكن الضريح ولي من أولياء الله له كرامات واضحة، فكم شفى من مرض وفرج من كربة، وجعل له «حضرة» تقام كل أسبوع و«مولدا» يقام كل عام. وطلب من «الأوقاف» أن تعينه شيخا للضريح ففعلت، فكان هذا مصدر ربح كبير استطاع به أن يشتري خمسين فدانا من أطيان أسرة صاحب الضريح.
هذه أيضا جريمة عقلية .
وفي الأضرحة المشهورة كالسيد البدوي والسيدة زينب وسيدنا الحسين صندوق نذور يضع فيه الزوار نذورهم، ويبلغ معدل صندوق السيدة زينب نحو ثمان مئة جنيه كل شهر.
هذه أيضا جريمة عقلية.
من أين هذا المال وإلى أين؟
من فقير لا يجد قوته وقوت أسرته، ومن سيدة مسكينة اقتصدته من غذاء أبنائها وبناتها وملابسهم، ومن فلاح فقير باع بقرته وفاء بنذره وظل بعدها بلا بقرة.
هذا «من أين» وأما «إلى أين» فإلى دجال يستهوي عقول المغفلين بشعوذته وبأثوابه البيض والحمر وببخوره الجاوي. ثم هو يعيش بعد عيشه الترف والنعيم والبذخ - وإلى جيوب من لا يستحقون من موظفي المساجد الذين يتقاضون المرتبات على ما يعملون. •••
أعني بالجرائم العقلية كل عمل يرتكب ضد العقل، وكل سلوك ضد الصدق وضد الحق.
وهذه الجرائم تغمر الحياة العامة، ويتخذ الناس منها ضروبا وأفانين، ولنسق بعض الأمثلة عليها: (1)
فمن ذلك تغرير العقول وتضليلها، كوضع البرامج الضارة بعقول الناشئين في المدارس، وكبرامج الإذاعة وروايات السينما والتمثيل التي تحيي الشهوة وتميت العقل، وكأعمال الزعماء السياسيين الذين يغررون بالعقول، أو يحجرون على حرية القول وحرية التفكير، ومثل الدجالين بالطب الروحاني والاتصال بالجن والعفاريت يستحضرونهم ويسخرونهم. (2)
ومن ذلك أيضا ما نرى كل حين من أشخاص يقررون أن الشيء حق، ولكن عملهم عمل من يعتقد أنه باطل، أو يقررون أن الشيء باطل، ولكن يعملون عمل من يعتقد أنه حق، كالذي يعلي من شأن الصدق ويكذب، أو من شأن النزاهة ويرتشي، أو يشيد بالعدل ويسعى في نيل درجة أو وظيفة من طريق غير شريف. (3)
ومن ذلك وضع العقبات في سبيل الرقي العقلي، كالحجر على إبداء الرأي والحجر على الصحف وتقصير الحكومات في سبيل تثقيف الشعب إما بقلة عدد المدارس أو فرض نفقات كثيرة على التعليم، وكالحجر على البنات ألا يتعلمن ما يتعلم الذكور وهكذا. (4)
ومن ذلك جناية الإنسان على نفسه من ناحية عقله بشرب الخمور وبقلة تغذية عقله بالقراءات النافعة، ومثل تكوين الإنسان آراءه على غير أساس واستسلامه للخرافات والأوهام تغزو عقله، وبيع عقله لغيره يتصرف فيه تصرف الملاك وهكذا. •••
والدنيا حولنا مملوءة بهذه الجرائم العقلية تعبث بالعقول وتسمم الأفكار.
انظر إلى الجرائد والمجلات كيف تتنازعها الدعايات المختلفة في الأخبار الخارجية، وكل أمة تسوق الأخبار حسب هواها ومصالحها لا حسب حقائقها، واعتبر بما يجري هذه الأيام في عرض القضية الواحدة، تعرضها روسيا بشكل وإنجلترا بشكل وأمريكا بشكل، فأين الحق؟ لست أدري. وهكذا الشأن في مشاكل العالم، ليس يتحرى عارضها حقا وصدقا، ولكنه يتحرى أملا ومصلحة وفي الأمور الداخلية كل حزب يصور المسائل حسبما يهوى حزبه لا حسب الصدق ولا الحق. وتقرأ الجرائد المختلفة فتصرخ من أعماق نفسك: يا لضيعة الحق!
وانظر إلى ترجمة الحياة في حفلات التكريم والتأبين وفي كتب التراجم والتاريخ كيف يضيع الحق بين دعوة الدعاة وملق المتملقين وخصومة المتعادين وتعصب المتحزبين.
وانظر إلى الإعلانات عن السلع وعن الكتب وعن المستحضرات الطبية وعن الروايات التمثيلية كيف يلعب فيها بالعقل؛ فكل دواء يشفي من كل مرض ، وكل كتاب كنز ثمين، وكل رواية فتح جديد، وكل سلعة ليس لها نظير، وهكذا.
من أكبر ما يؤسف له أن الجرائم العقلية لم تقدر خطورتها القدر اللائق بها؛ فهذا الدجال الذي سرق مئة ألف جنيه من الفقراء والبائسين، وفوق ذلك ضلل عقولهم لم يجد القضاة نصا في القانون يعاقبونه بمقتضاه، ولكنهم يجدون نصوصا كثيرة لفقير سرق رغيفا من غني، إن القوانين عنيت مع الأسف - بالماديات دون المعاني مع أن جريمة المعاني أشد خطرا وأنفث سما.
والأمم الجاهلة لا تحس خطر الجرائم العقلية، بل لا تحسها إطلاقا، بل هي تمنح المجرمين العقليين كثيرا من الاحترام، إن شئت فانظر ماذا يلقي هذا الدجال من توقير واحترام، أو انظر كم من آلاف الناس يهوون تقبيلا لأيدي سارقي النذور، وكيف يبجل بعض الزعماء السياسيين الذين يضللون العقول أو يحجرون على التفكير.
ومن أهم الفروق بين أمة منحطة وأمة راقية كثرة الجرائم العقلية في الأولى وقلتها في الثانية. ومن أهم علامة الأمة الراقية سيرها على مقتضى العقل في تربية أبنائها وفي فلاحتها وصناعتها وكل مرافق الحياة فيها.
وأهم ما يجب أن يعنى به المصلحون خلق «الضمير العقلي» في الأمة وإشاعته وتقوية سلطانه، وأعني بالضمير العقلي تنبه الشعور باستهجان كل ما يرتكب ضد العقل واحتقار فاعله كما يحتقر السارق والقاتل، والشعور بالاستحسان ممن يأتي بالفضائل العقلية، كالدعوة إلى محاربة التخريف والتدجيل ونحوهما.
إن أكثرنا إلى اليوم حتى خاصتنا، يقفون من الجرائم العقلية موقف عدم الاكتراث، وهذا هو في نفسه جريمة عقلية.
لست أدري لماذا نتحمس لحماية عرضنا ولا نتحمس لحماية عقلنا، وكلاهما يجب أن يكون عزيزا علينا!
قادة الرأي
قائد الرأي في الأمة كربان السفينة، لا يمكن أن تسير في أمن إلا به، ولا يمكن أن تصل إلى غايتها إلا به، وإذا كان ربان السفينة لا يصلح لقيادتها إلا إذا ثقف ثقافة واسعة في البحار والأنواء، وكيفية اجتياز الصعاب إذا عرضت، وتجنب المخاطر إذا أسفرت، والدخول إلى المواني والخروج منها وما إلى ذلك، فكذلك القائد لا بد أن يكون على علم تام بشئون الأمة جميعا في الداخل والخارج، وما يقدمها وما يؤخرها، وما يؤثر فيها ظاهرا وباطنا، وكيف يصل بها إلى بر السلامة إذا هبت العواصف، وكيف يسير بها إلى الأمام إذا اعتدلت الريح، وهكذا.
وكما أن قائد السفينة لا يسير على هوى الركاب، ولا يخضع لإرادتهم في سرعة السير وبطئه، ولا في الاتجاه الذي يتجهه، ولا في كيفية دخول الميناء والخروج منه، وإنما يخضع لعلم البحار وقوانينها ونظمها، وما يراه هو في مصلحة الركاب، لا ما يرون هم، فكذلك قائد الرأي في الأمة لا يخضع لرغباتهم وشهواتهم، ولا يتجه دائما إلى ما يرضيهم، وإنما يخضع لقوانين الأمة ونظمها، وما يرى هو بعد الاستشارة وتبادل الرأي إنه المصلحة العامة، وأنه يحقق تقدم الأمة ونجاحها ورقيها، ولو خالف رغبتها.
ربان السفينة يسره أن يرضي الركاب، وأن يكونوا في سرور ومتعة، ولكن ذلك مشروط باتفاقه والمصلحة العامة؛ فإذا رأى أن اتباع هواهم في غير مصلحتهم لم يعبأ برضاهم ولا سرورهم، وعمل الواجب عليه ولو أغضبهم ، فكذلك قائد الرأي، يرضيه أن يرضى الناس عنه، وأن يحقق لهم ما يسرهم، ولكن في حدود ما يرى المصلحة لهم، فليس الذي يسيره هو تصفيق الجماهير، بل هو يعمل الحق، ويؤدي الواجب، سواء صفق له الجماهير، أو رموه بالأحجار، لأنه يعلم حق العلم أنه إن سيره تصفيق الجماهير كان تابعا للجماهير لا قائدا لها، وكان في مؤخرتها لا في مقدمتها.
قد كان ربان السفينة فيما مضى يكفيه العلم بالبحر حسبما شاهد وجرب، واستفاد ممن سبقوه تجربة ومرانة، ولكن ربان السفينة اليوم أصبح لا بد له من علم بجانب التجربة، لا بد له أن يعلم «علم البحر» بعد أن صار علما، و«علم الجو» بعد أن صار علما، وميكانيكا السفينة، وهندستها، وما إلى ذلك، فكذلك قائد الأمة، أصبح واجبه أدق، وأعباؤه أعظم، وتكاليفه أشق أصبحت نفسية الجماهير علما يجب أن يعرف، وتاريخ بلاده سجلا يجب أن يقرأ؛ والسياسة الدولية علما معقدا، بل علوما معقدة يجب أن تدرس وتفهم، وإلا ما صح أن يكون قائدا؛ فمن ظن أنه يقود أمة بثرثرة كلام، أو استرضاء مشاعر، أو تهييج خواطر، كان كمن يريد أن يكون ربان سفينة بالصياح.
لقد كانت السفينة فيما مضى تسير في بحرها وحدها، غير عابئة بغيرها، وكان الربان لا ينظر إلا إلى سفينته وبحره، أما اليوم فالبحار شبكة واحدة والسفن في البحار شبكة تتعاون وتتخاطب وتستنجد ويستنجد بها، فكذلك الأمة والقائد كانت الأمة تعيش وحدها، فإن توسعت فمع من جاورها، وكان سهلا على القائد أن يقودها. أما اليوم فالعالم شبكة، وسياسة العالم شبكة، ولا يمكن لقائد أمة أن يقودها حتى يعلم تيارات السياسة العالمية ومراميها ومصاعبها، وكيف يجتاز أخطارها، ويصل إلى بر السلامة متجنبا ألغامها، وما أشق ذلك وأصعبه!
ربان السفينة يجب أن يمتاز بثلاث خلال، هي في الصميم من عمله: أن يكون أمينا على ما في يده من أرواح من بالسفينة، وهذا يقتضيه أن يفتح عينه لكل ما في السفينة، وما يحيط بها، وما ينتظرها، حتى إذا فاجأها مفاجئ عرف كيف ينجو بها. ثم أن يكون شجاعا فلا يضطرب لحادث، ولا ينخلع قلبه لعارض، بل يتصرف عند الخطر في ثبات ورزانة وحكمة، حتى يسلم بسفينته من الخطر، ثم التضحية عند الشدائد، فهو آخر من ينزل إلى قوارب النجاة إذا غرقت السفينة، وهو الذي يقف على ترتيب وسائل النجاة إلى آخر لحظة من حياته.
فكذلك يجب أن يكون القائد في الأمة، أمينا على أرواح أمته، أمينا على مصالحها، أمينا على السعي في خيرها، ثم هو شجاع، لا يخشى الكوارث تحل به، ولا التهديد يناله من أعدائه، ولا الصعاب تعترض سبيله، ولا الفقر، ولا السجن، ولا النفي، ولا أي مفزع، ثم هو مضح إلى آخر حدود التضحية يشعر أن أرواح الناس وحريتهم واستقلالهم وخيرهم في عنقه، يجب أن يحافظ عليها أشد مما يحافظ على نفسه، وإذا اقتضى الأمر أن ينجي أمته ويموت هو فلا بأس، كما يفعل الربان الأمين.
ولكل أمة حية سفن ذات أشكال وألوان، فسفن سلمية، وسفن حربية، وسفن كاسحات ألغام، ولكل نوع ربابنته العارفون بشئونه، المقدرون له الصالحون لقيادته، وكذلك الشأن في قيادة الأمة. فقائد سلم وقائد جلاد وخصام، وقائد لكسح الألغام، ولكل قائد مزاياه، ولكل قائد مكانه وزمانه.
وإذا كانت كل أمة محتاجة إلى ربابين يقودون سفنها فالشرق اليوم أحوج في ذلك من الغرب، لأن الشرق يسير الآن في خطوط ملاحية جديدة لم يسبق له السير فيها، هي خطوط تنتهي بالاستقلال؛ فلا بد لهؤلاء الربابين أن يتبينوا معالم الطرق جيدا، ويحتاطوا للأنواء والعواصف احتياطا كاملا، ولأن الغرب مهما ادعى من إنسانية ومبادئ عدالة ومساواة وديمقراطية لا يزال يضع الألغام في الخطوط الملاحية الجديدة للشرق، فلا بد من إعداد سفن من كاسحات الألغام، ولا بد من إعداد ربابين لاكتساحها، ولأن الرأي العام في الأمم الشرقية لا يزال ناشئا يعوزه النظام وسعة الاطلاع وحسن التقدير، حتى يميز بين الربان الماهر فيسلمه سفينته وبين الربان المهرج فلا يسلمه قيادته.
ولا يكون ذلك إلا بتوفيق من الله.
عام العنز
قالت العنز للفيل يوما: لم يكون لك عام في التاريخ لا يزال يذكر على مدى الأيام، فيقال «عام الفيل»، ولا يكون لي عام يسمى «عام العنز»؟
قال الفيل: إني أضخم منك جسما، وأعظم منك قوة، وأحد منك نابا، وإني أستصغرك أن تكوني لي فريسة، وأستضعفك أن أساجلك الحديث.
قالت العنز: إن الضعيف قد يبلغ بحيلته ما لا يبلغ القوي بقوته.
وصممت العنز على ما قالت، فكان لها ما أرادت، وأصبح لها في مصر عام، هو «عام العنز»، وكان ذلك سنة 1173ه. أي من نحو مئتي عام.
ذلك أنه كان في مسجد السيدة نفيسة شيخ للخدم اسمه الشيخ عبد اللطيف، وكان شيخا ماهرا ماكرا. ضاقت به أسباب الرزق، ففكر في حيلة، وقلبها على وجهها حتى استوت ونضجت، واتخذ بطل الرواية عنزا.
قال: إن جماعة من المسلمين وقعوا في أسر النصارى، فاجتمع الأسرى وتوسلوا بالسيدة نفيسة، وأقاموا «حفلة ذكر» أعدوا لها عنزا لتذبح وتؤكل، فاطلع على أمرهم النصراني المكلف بحراستهم، فمنعهم من حفلة الذكر، ومن ذبح العنز، فكان من بركة السيدة نفيسة ومن بركة العنز أن رأى النصراني رؤيا أزعجته ففك أسرهم، وأطلق سراحهم، وأقسموا أن يحتفظوا بالعنز، وأن يحضروها إلى السيدة نفيسة، ففعلوا وسلموها للشيخ عبد اللطيف.
وأكمل الشيخ روايته فقال: إن العنز تارة تقف بجانب ضريح السيدة، وتارة فوق المنارة، وقد سمعها الشيخ بأذنه تكلم السيدة نفيسة والسيدة توصي بها.
وأشاع الشيخ هذا الخبر في سائر الخدم، وأوصاهم بإذاعته، فانتشر في حي السيدة ومنه إلى أحياء القاهرة، ومنها إلى الريف، وصارت العنز حديث الكبار والصغار، والعامة والخاصة، وكل من مرض استشفع بالعنز، وكل من له حاجة نذر للعنز.
وأكمل الشيخ حيلته، فمرن العنز على ألا تأكل برسيما ولا فولا كسائر الغنم، وإنما تأكل فستقا مقشورا ولوزا مقشورا، ولا تشرب إلا ماء ورد مذابا فيه سكر مكرر، والشيخ يجلس وفي حجره هذه العنز السعيدة المحظوظة، تأكل الفستق واللوز، وتشرب ماء الورد. والناس يتلهفون على لمسها وتقبيلها.
وتقاطرت على الشيخ قناطير الفستق واللوز والسكر المكرر وقناني ماء الورد، حتى شحت هذه الأصناف في الأسواق.
ثم زادت كرامات العنز وعظمت، فكم شفت من مريض، وكم فرجت من كرب مكروب، وكم قضت من حوائج، حتى غطت كراماتها على كرامات السيدة.
واستقل الناس الفستق واللوز والسكر المكرر وماء الورد، فجد الصاغة في عمل قلائد الذهب وأطواق الذهب للعنز، حتى أصبحت «عنز هانم»، وكادت تكون «صاحبة العصمة».
وتسابق الكبراء في الهدايا والنذور للعنز وتنافسوا، فإذا وهب الأمير فلان قنطارا من الفستق وقلادة من الذهب، عز على الأمير فلان إلا أن يهب قنطارين وقلادتين، وصار للعنز من الحلي ما ليس للأميرة الجليلة.
وكان يوم الأحد من كل أسبوع، وهو يوم حضرة السيدة نفيسة يوما مشهودا، يتدفق فيه الزائرون والزائرات، وتزدحم الشوارع، وتتدافع المناكب، ومرحى للسعيد الذي يرى العنز أو يلمسها، وأسعد منه من يقبلها.
وليس حديث المجالس إلا ما يقصون من كرامات العنز، وما شاهدوه من عجائب، وما رأوه من منامات، وما شفت من أمراض، وما أغنت من فقير، وما أولدت من عقيم.
وافتتن الناس، وخشي بعض الحكام أن يذهب سلطانهم إلى العنز، فقد أصبحت هي التي تأمر وتنهي وتحكم، ولم تبق إلا خطوة قليلة حتى تضخم العنز فتكون «عجل أبيس». •••
وكان في مصر أمير من كبار الأمراء اسمه «عبد الرحمن كتخدا» ثرى سري، قوي جبار، يرتشي ويحب الخير، يصادر الناس ويصرف منه في أعمال البر، جاد لا يميل إلى الهزل، يغلق الخمارات ويبطل المنكرات، مغرم بالتعمير، له ذوق جميل في هندسة البناء وفن العمارة، أنشأ وجدد ثمانية عشر مسجدا، وعددا كبيرا من الأسبلة والزوايا والمدارس والمكاتب والقناطر والجسور، وأنشأ جانبا فخما في الأزهر، وبنى لنفسه فيه ضريحا دفن به، وهو الذي يسميه بعض العامة «سيدي الأزهر». تراه فترى رجلا مهيبا، مربوع القامة، أبيض اللون، مسترسل اللحية، تغلب عليه علائم القوة والعزة والاعتداد بالنفس. •••
سمع المير عبد الرحمن بحكاية العنز فهزئ بها وسخر من عقول الناس، وضحك من سخافتهم، وعدها من المنكرات التي يبطلها كالخمارات.
فأرسل إلى الشيخ عبد اللطيف يرجوه الحضور إليه بعنزه ليتبرك بها هو وأهل بيته، فطار الشيخ فرحا، وقال ليس بعد إيمان الأمير كفر، ولا بعد عطائه عطاء، وقد ضمنت بذلك الدنيا والجاه والثراء.
وحدد موعدا لانتقال العنز، وأعدت العدد، وأحضرت الطبول والبيارق، وزينت الطرف، واصطف آلاف الناس على جانبي الطريق، وتحرك موكب العنز من مسجد السيدة نفيسة إلى عابدين، حيث يسكن الأمير عبد الرحمن كتخدا، وركب الشيخ بغلته والعنز في حجره، والطبول تدق، والرايات تخفق، والناس تتصايح، والدنيا قائمة قاعدة، والعنز ضاحكة مستبشرة، تقول في سرها: أين يوم العنز من يوم الفيل! وبعد التي واللتيا، والذي واللذيا، وصل الموكب الشريف إلى بيت الأمير الكبير، ونزل الشيخ عن بغلته، وحمل عنزه، ودخل بها على الأمير وحوله الأمراء، فتقبلها الأمير والأمراء قبولا حسنا، وتمسحوا بها يستنزلون البركة منها، ثم أرسلها الأمير إلى الحريم وجلس مع الشيخ يتحدث في البركات والكرامات حتى حضر وقت الغداء، فحضر الطعام، وأكل الأمراء وأكل الشيخ ، ومن حين إلى حين يقدم الأمير للشيخ قطعة من اللحم ويسأله عن رأيه، فيقول إنه لحم طيب لذيذ، ثم شربوا القهوة، واستأذن الشيخ في الانصراف، وطلب أن يحضروا له عنزه.
قال الأمير: العنز! لقد أكلتها يا شيخ، واستطعمت لحمها، وفرغنا منها ومن بركاتها وكراماتها.
أيها الشيخ، ما أضلك وأفجرك، وأقدرك على اللعب بعقول الناس، والله لأجعلنك نكالا لمن بعدك، انتظر قليلا.
ورعب الشيخ، وشعر بضياع مجده، وذهاب كنزه، ذلك إن سلمت له نفسه.
وقضى وقتا وهو يرتجف، ثم نزل من القصر جلد العنز المذبوحة، وأقسم الأمير ليعممن به الشيخ فوق عمته، ويعود على هذه الحال في الموكب الذي حضر به.
وكنت ترى في العصر الطبول تدق والرايات تخفق، والموكب يسير من عابدين إلى السيدة نفيسة، والشيخ على بغلته معمما بجلد عنز. وكل شيء كما كان في حفلة الصباح إلا العنز. والناس تقابل هذا الموكب بالرضا والتسليم، كما استقبلته صباحا بالهتاف والتهليل.
مثل رائع
كان مسلمة بن الخليفة عبد الملك بن مروان سيد بني أمية، نبلا وكرما وشجاعة وعلو نفس وأصالة رأي، لما اشتدت العلة بعبد الملك دعا بنيه وقال: «أوصيكم بتقوى الله، فإنها عصمة باقية، وجنة واقية, وقروا كبيركم، وارحموا صغيركم، وابذلوا للناس معروفكم، وجنبوهم أذاكم، وأكرموا مسلمة بن عبد الملك، فإنه سنكم الذي به تتزينون، ونابكم الذي عنه تفترون، وسيفكم الذي به تصولون، فاقبلوا قوله، واصدروا عن رأيه، وأسندوا جسيم أمركم إليه، وأكرموا الحجاج بن يوسف، فإنه وطأ لكم المنابر، ودوخ لكم البلاد».
وتسألني: ومسلمة على هذه الحال، لماذا لم يعهد عبد الملك إليه بالخلافة كما عهد لبنيه؟
فأقول: كانت تقاليد بني أمية الإمعان في العصبية للعرب، واستهجان من عداهم، والاعتزاز بالدم العربي إلى أقصى حدود الاعتزاز، والاستخفاف بغيرهم مهما بلغوا من المجد؛ ولهم في ذلك أخبار غريبة، ونوادر عجيبة؛ ولم تكن أم مسلمة عربية، بل كانت رومية.
والعرب في عهد بني أمية يرون ألا يصلح للخلافة إلا العربي القح، فهذا ما نحى مسلمة عن الخلافة رغم كل مميزاته .
ومع أن عبد الملك نفسه لم يؤمن بهذه النظرية، ويرى أن قد يكون في أبناء الإماء نجابة وفضل ونبل، وخاصة إذا كرم أصلهن، وعلا حسبهن فإنه لم يستطع الخروج على هذه التقاليد:
أقيمت يوما حفلة سباق وفروسية حضرها عبد الملك، فكان السابق فيها مسلمة. فنظر عبد الملك إلى مصقلة ابن رقبة العبدي وقال: إن صاحبكم لقليل المعرفة بأولاد أمهات الأولاد حين يقول:
نهيتكم أن تحملوا هجناءكم
1
على خيلكم يوم الرهان فتدركوا
وما يستوي المرآن هذا ابن حرة
وهذا ابن أخرى بطنها متشرك
ترعد كفاه ويسقط سوطه
وتفتر فخذاه فلا يتحرك
وتدركه أعراق سوء ذميمة
ألا إن عرق السوء لا بد مدرك
ولكن العرف والتقاليد والرأي العام غلبت على عبد الملك، فخضع لها، وأبعد مسلمة، وجعل الخلافة في سليمان ويزيد والوليد وهشام أبنائه من الحرائر.
فتوجه مسلمة إلى المجد لا عن طريق الخلافة، فكان القائد الكبير، والفاتح العظيم، وطالما اشتاق إلى فتح القسطنطينية، وقد تقدم في الفتوح إلى أن وصل إلى أسوارها. •••
لم نسق هذا الحديث في فضائل مسلمة، وإنما سقناه لجندي مجهول في جيش مسلمة، تمنى مسلمة أن يكونه، لم يعرف له اسم، ولا حسب، ولا نسب، ولم يشأ هو أن يعرف له شيء من ذلك.
هؤلاء هم المسلمون يحاصرون حصنا منيعا بذلوا الجهد في الاستيلاء عليه فلم يوفقوا، وأخيرا نقبوا فيه نقبا لينفذوا منه إلى داخله، ولكن الروم أدركوا خطورة عملهم، فوجهوا إلى النقب قوتهم، فكلما أراد أحد من المسلمين أن ينفذ منه قتل، وأخيرا جدا استطاع جندي أن يأتي بالأعاجيب، فنفذ ومهد السبيل لغيره أن ينفذوا، ثم استولوا على الحصن، وفرح المسلمون بنصر الله والفتح، وعرف مسلمة فضل ذلك الجندي الباسل، فأراد أن يكرمه، فجمع الناس وأمر مناديا ينادي: أين صاحب النقب؟ والتفت الناس، واشرأبت الأعناق لرؤية هذا الذي يتقدم مزهوا بنفسه معجبا بشجاعته معتزا بفعاله.
ولكن مرت فترة سكون رهيبة ولم يتقدم أحد.
أمر مسلمة أن ينادي المنادي مرة ثانية، فلعله لم يسمع، فكانت المناداة الثانية والثالثة كالأولى، لم يلبها أحد.
وفي المرة الرابعة تقدم رجل ملثم لا يبين وجهه، وقال: أنا أيها الأمير «صاحب النقب»، «ولكن آخذ عليكم عهودا ومواثيق ثلاثة: ألا تسودوا اسمي في صحيفة
2 ، ولا تأمروا لي بشيء، ولا تسألوني من أنا».
قال مسلمة: قد فعلنا لك ذلك.
ثم اندس في غمار الجند لم يعرفه أحد.
قال الراوي: فكان مسلمة يدعو بعد صلاته: «اللهم اجعلني مع صاحب النقب». •••
لو حللنا نفسية هذا الرجل العظيم؛ والباعث له على سلوكه، لكان أحد أمرين: إما أنه أراد أن يحتسب عمله لربه من غير أن يضعف قيمته بمكافأة أو شهرة أو جاه، عملا بقوله تعالى:
إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله . وإما أن تكون قد سمت عنده فكرة الخير، وملكت عليه نفسه، فهو يعمل الواجب للواجب من غير أن يدنسه بنظرة إلى ثواب ما، وكلا الباعثين عظيم تضعف بجانبهما كل البواعث الأخرى ، حتى باعث «مسلمة» من فخر ومجد وحسن أحدوثة، ولذلك أدرك مسلمة سمو هذا الرجل عنه، فكان يدعو الله أن يجعله مع «صاحب النقب».
إن هذا الجندي المجهول شعر أن باعثه النبيل أرقى من أن يناله التاريخ فيدونه، وأرفع من أن يقومه الإنسان فيجازي عليه. لئن دونه التاريخ فيجب أن يدونه معنى في السماء لم يتصل بشخص في الأرض، ولئن أراد الناس أن يقوموه فيجب أن يقوموه في نفوسهم ليحتذى، لا لمكافأة صاحبه ليستصغر.
ليت شباننا وشيوخنا يعون هذا الدرس، فقد أصبحت التضحية مهزلة، فكل من صرخ صرخة فهو كبير المجاهدين، وإن شيك شوكة فهو سيد المضحين، لا يرضيه إلا أن يطبل له ويزمر له، ويهتف باسمه كلما تحرك، ويسبح بحمده كلما ذكر، ويكتب اسمه كل يوم في الصحف بحروف بارزة، إلى آخر هذا الهراء، يريدون غنما كثيرا من غير غرم، وشهرة طويلة عريضة من غير عمل.
والله لو أطلت علينا روح هذا الجندي المجهول ، ورأت هذه المظاهر الكاذبة لأسرعت في التواري مما ترى خجلا.
قصة من حياتي
شباب الزمان ... الربيع
برناردشو
لماذا تغضب المرأة؟
البطولة والأبطال
صراع الماضي والحاضر
آفة الشرق التقاليد
موسيقى الحياة
عالم كذاب
كن سيدا ولا تكن عبدا
لو عاد موسى وعيسى ومحمد
السينما والشباب
هل يشيخ الأديب؟
السيف والمدفع
في الهواء الطلق (1)
مظاهر الحياة العقلية للمسلمين اليوم (1)
مظاهر الحياة العقلية للمسلمين اليوم (2)
حول الإنسان (1)
حول الإنسان (2)
في الهواء الطلق (2)
البيوت الثلاثة
اليهود في أمريكا
مصادفة
إلغاء البغاء
من الأدب العربي (1)
من الأدب العربي (2)
التجديد والمجددون
مذكرات الأستاذ محمد كرد علي
روح السماحة
لماذا - ولأن
محنة العالم الإسلامي
أدب الحرب (1)
أدب الحرب (2)
أدب الحرب (3)
في الهواء الطلق (3)
الحروف العربية والحروف اللاتينية
الشيخ حسن البدري الحجازي
تقديس العظماء
التعاون الثقافي بين الأقطار العربية
التاريخ يعيد نفسه
في ضوء المصباح
روح المجالس
في الربيع
حول المدنية الحديثة
الحياة والموت
خواطر (1)
بين الماضي والمستقبل
نظرية طريفة
الحكمة في الأدب العربي
الأمثال في الأدب العربي
سؤال وجواب
المراهقة1
الاتجاهات الحديثة لدراسة اللغة (2)
مركز مصر الأدبي (4)
وظيفة الدين في المجتمع
يوم عرفات
بساطة العيش
غاندي، ذلك الضعيف الجبار
العصر الأموي وخلفاؤه (1)
العصر الأموي وخلفاؤه (2)
في الحج1 (1)
في الحج (2)
في الحج (3)
قصة من حياتي
شباب الزمان ... الربيع
برناردشو
لماذا تغضب المرأة؟
البطولة والأبطال
صراع الماضي والحاضر
آفة الشرق التقاليد
موسيقى الحياة
عالم كذاب
كن سيدا ولا تكن عبدا
لو عاد موسى وعيسى ومحمد
السينما والشباب
هل يشيخ الأديب؟
السيف والمدفع
في الهواء الطلق (1)
مظاهر الحياة العقلية للمسلمين اليوم (1)
مظاهر الحياة العقلية للمسلمين اليوم (2)
حول الإنسان (1)
حول الإنسان (2)
في الهواء الطلق (2)
البيوت الثلاثة
اليهود في أمريكا
مصادفة
إلغاء البغاء
من الأدب العربي (1)
من الأدب العربي (2)
التجديد والمجددون
مذكرات الأستاذ محمد كرد علي
روح السماحة
لماذا - ولأن
محنة العالم الإسلامي
أدب الحرب (1)
أدب الحرب (2)
أدب الحرب (3)
في الهواء الطلق (3)
الحروف العربية والحروف اللاتينية
الشيخ حسن البدري الحجازي
تقديس العظماء
التعاون الثقافي بين الأقطار العربية
التاريخ يعيد نفسه
في ضوء المصباح
روح المجالس
في الربيع
حول المدنية الحديثة
الحياة والموت
خواطر (1)
بين الماضي والمستقبل
نظرية طريفة
الحكمة في الأدب العربي
الأمثال في الأدب العربي
سؤال وجواب
المراهقة1
الاتجاهات الحديثة لدراسة اللغة (2)
مركز مصر الأدبي (4)
وظيفة الدين في المجتمع
يوم عرفات
بساطة العيش
غاندي، ذلك الضعيف الجبار
العصر الأموي وخلفاؤه (1)
العصر الأموي وخلفاؤه (2)
في الحج1 (1)
في الحج (2)
في الحج (3)
فيض الخاطر (الجزء الثامن)
فيض الخاطر (الجزء الثامن)
مقالات أدبية واجتماعية
تأليف
أحمد أمين
قصة من حياتي
هأنذا في الرابعة والعشرين من عمري، وقد تخرجت في مدرسة القضاء الشرعي ولم أتعلم لغة أجنبية، وكل ما حولي يستحثني على تعلمها، فأساتذتي في المدرسة كانوا يرجعون فيما يعلموننا من جغرافيا وتاريخ وطبيعة وكيمياء وجبر وهندسة إلى الكتب الإنجليزية، وأصدقائي المتخرجون في مدرسة المعلمين يتحدثون عما طالعوه في الكتب والمجلات والقصص الإنجليزية، من آراء لطيفة، وأفكار طريفة؛ وكلما سمعت شيئا من ذلك أدركت أن لا قيمة لحياتي ما لم أتعلم لغة أجنبية، وأخيرا اتفقت مع أستاذي وصديقي المرحوم أحمد أمين بك المستشار أن نطالع خطط علي مبارك باشا فيما يتعلق بمساجد القاهرة وآثارها، ثم نزور المساجد والآثار لنطبق ما نشاهد على ما نقرأ، وكان رحمه الله يدل علي بما يقرأ من كتب إنجليزية في هذا الموضوع تزيد معلوماتها على ما في خطط علي مبارك، فيوما من الأيام دلني على أثر فخم من الآثار هو بيت شاهبندر التجار في «حوش قدم» بالقاهرة ولم يكن ذكره علي مبارك باشا، فآليت أن أتعلم الإنجليزية بعد عودتنا من زيارة هذا البيت، مهما يصادفني من صعوبة، وطلبت من صديقي أن نمر معا على مدرسة «برليتز» نتفق على دروس تعطى لي، واستمررت على ذلك سنتين لقيت فيهما من العناء ما لا يوصف، فتعلم اللغة في الكبر وفي غير بيئة اللغة أمر عسير، ثم رأيت بعد السنتين أن مدرسة برليتز لم تعد تفيدني فبحثت عن مدرس آخر. •••
كان من حسن حظي أن دلني صديق لي على «مس بور»
سيدة إنجليزية في نحو الخمسين من عمرها تجيد الإنجليزية والفرنسية والألمانية، وتجيد فن الرسم والتصوير، ولها شخصية قوية جبارة، ومثقفة ثقافة واسعة، وتحرر في الجرائد الإنجليزية الكبرى كالتيمس، وتستأجر بيتا لطيفا في ميدان الأزهار، ولم تكن تحترف التعليم ولكني رجوتها أن تعلمني فقبلت، واستمررت أتعلم عليها نحو خمس سنوات، وكانت رغبتها في تعليمي رغبة أم تريد أن تربي ابنها ... فكانت تدعو إلى بيتها إنجليزيين وإنجليزيات تعرفني بهم، وتقصد إلى أن أتحدث معهم ويتحدثوا معي؛ لينطلق لساني، وتتمرن آذاني، وكانت تنقد أخلاقي وتطلعني على عيوبي، فإذا حضرت للدرس - مثلا - وبدأت أفتح الكتاب لأقرأ صرخت في وجهي: «ألم تر هذه الأزهار اليانعة، وألوانها البديعة، وتنسيقها الجميل - وقد أحضرتها اليوم - ألم تلفت نظرك؟ أيصح أن تراها ولا تبدي إعجابك بها؟ أليسك لك عين فنية؟» إلخ، فيكون هذا درسا من أمتع الدروس وأنفعها.
وأحيانا كانت تغير وضع نظام حجرة الجلوس، فتنقل الكراسي من مكان إلى مكان، وتخالف بين الأثاث، فإذا دخلت ولم أتكلم في هذا التغيير وأوازن بين الوضع الجديد والوضع القديم، تلقيت منها درسا قاسيا أتعلم منه دقة الملاحظة، وتربية الذوق، وأحيانا تقف بي ساعة بين لوحات من رسمها علقتها في حوائط الحجرة، تشرح لي دلالاتها ونواحيها الفنية وهكذا، وبذلك ألقت علي دروسا قيمة لم أتعلمها من بيتي ولا مدارسي ولا أساتذتي ... فإن كنت الآن أعجب بالأزهار وجمالها، وأهتم بحديقتي وتنسيقها، وما إلى ذلك، فبتربيتها وفضلها.
كنت في آخر سنة من دراستي معها أقرأ عليها جمهورية أفلاطون بالإنجليزية، فإذا فرغت من قراءة فصل أفاضت في شرح نظرية أفلاطون وما طرأ عليها من تغير في المدنية الحديثة، وكيف طبقت في بعض الأمم ونتائج تطبيقها، وهكذا.
وساعدها على ذلك رحلاتها الطويلة إلى ألمانيا وفرنسا وأمريكا، ووقوفها على النظم الاجتماعية فيها. •••
ما أدري ما الذي جنح بها في أيامها الأخيرة إلى أن تشتغل بالروحانيات، فتقرأ الكتب الكثيرة المتنوعة فيها، وتجرب تأثير نفسها في نفوس الآخرين والإيحاء إليهم بما تريده منهم، سواء أكانوا في حضرتها أم غائبين عنها، ثم تتجه إلى معالجة بعض الأمراض بطريق الإيحاء، وكان هذا يقتضيها أن تمكث ساعتين أو أكثر كل يوم في قاعة مظلمة، تركز فيها ذهنها فيما تريده من علاج أو إيحاء أفكار، فكل من أجل ذلك عقلها؛ فإذا هي سيدة مجنونة، تحاول أن ترمي نفسها في النيل من كوبري قصر النيل، فلما علمت ذلك نقلتها إلى مستشفى المجاذيب.
وأعجب ما شاهدت أني زرتها في المستشفى، فكانت تتكلم كما عهدتها بالعقل في حكمة ورزانة، وسألتها عن نوع مرضها فشخصته تشخيصا دقيقا؛ إذ قالت: إن مرضها أصاب إرادتها ... فلو فتحت لها أبواب المستشفى لعسر عليها معرفة أين تتجه، وإلى أين تذهب، وتمر الأيام وترسلها القنصلية الإنجليزية إلى إنجلترا، ثم يأتيني منها خطاب بأنها شفيت تمام الشفاء، وأنها الآن في إيطاليا تستمتع برؤية الآثار الفنية في روما وتدرسها، ثم تنقطع عني أخبارها ولا أدري ماذا كان مصيرها.
شباب الزمان ... الربيع
ما قيمة الحياة إذا اقتصرت على الماديات، وحصرت نفسها في الخبز والملح ومضاعفاتهما، ولم تعبأ بجمال زهرة ولا تألق نجم، ولم ينبض قلبها بحب للجمال في جميع أشكاله؟!
بل ما قيمة الحياة أيضا إذا غرقت في النظريات العلمية العقلية، وفكرت في قوانين الأشياء وشرحها، واهتمت بمعرفة الطبيعة أكثر مما تهتم بجمالها؟!
إن الحياة الحقة هي ما تجاوبت مع العناصر المكونة للإنسان، وللإنسان جسم يحتاج إلى مادة تغذيه، وفيه عقل يحتاج إلى تفكير منطقي في حقائق الأشياء، وفيه فوق ذلك كله عاطفة تحتاج إلى جمال يغذيها وينميها ويرقيها، ولئن كانت الحياة المادية والحياة العقلية جافة باردة، فالحياة العاطفية ناعمة دافئة تبعث السرور والبهجة، والغبطة والسعادة.
فالعاطفة هي ملح الحياة؛ بها يدرك الإنسان من هذا العالم اللجب المضطرب، الشقي التعس، ما في باطنه من وفاق وتناسب كتناسب نغم الموسيقى، والعاطفة إذا هذبت نعمت بالجمال، وخلقت من الشقاء سعادة، ومن النار جنة.
والإنسان من يوم أن خلق مد خيوطا بين الطبيعة وقلبه، فشعر شعورا ساذجا بجمال السماء والأرض، وجمال الطيور والأزهار، وشروق الشمس وغروبها، ولكن كان يحول بينه وبين الاستمتاع بها حاجته الملحة إلى القوت ومشقة الحصول عليه ... حتى إذا توافر له رقيت عواطفه فأحس أن القوت ليس كل شيء، ولا العلم كل شيء، وإنما العاطفة والجمال ورقة الشعور، والاستمتاع بجمال الطبيعة وجمال العالم، هي قوام الحياة. •••
كم في الكون من جمال! ولكنه يحتاج إلى عين تنظره، وكثير من الناس لهم عيون، ولكن لا يبصرون بها إلا ما يأكلون وما يشربون وما يدخرون، وقليل هم الذين دق نظرهم، فرأوا جمال العالم المتجدد في الحقول والزهور، والسماء والنجوم، والبحار والأنهار، والجبال والأحجار، وقل أن يكون شيء في الوجود لا جمال فيه، وإنما يحتاج إلى عين تبصره وذوق يدركه وقلب يلقفه، ورحم الله ابن المعتز؛ إذ يصف قلبه فيقول:
قلبي وثاب إلى ذا وذا
ليس يرى شيئا فيأباه
يهيم بالحسن كما ينبغي
ويرحم القبح فيهواه
وما أشقى من لم ير في البستان إلا زهرة تشم أو ثمرة تؤكل، ولا يرى في البحر إلا ماء ملحا وسمكا يتغذى به، ولا يرى في الحمام واليمام والعصافير إلا أنها تصاد وتشوى ! إن هؤلاء وأمثالهم عمي العيون صم الآذان غلف القلوب
أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت * وإلى السماء كيف رفعت * وإلى الجبال كيف نصبت * وإلى الأرض كيف سطحت .
إن أردت الحق فعمر الإنسان لا يحسب بالسنين التي عاشها، ولا بالملذات المادية التي استمتع بها ... إنما تقدر الحياة بما نبض به قلبه من مناظر أشجار يانعة، أو أطيار صادحة، أو نجوم متألقة، أو زهور ضاحكة، وعلى الجملة بما تجاوبت به نفسه مع منظر جميل أو معنى جميل، وأما ما عدا هذا فقشور الحياة لا لبها؛ وإن ساعة واحدة يقضيها المرء بين الأزهار والأشجار أو على شاطئ البحار والأنهار، يناغي فيها الطبيعة الجميلة ويقترب فيها من عمق الحياة وسرها، ويخفق فيها قلبه لما تحويه من معنى الأبدية والأزلية، خير من ألف ساعة يقضيها في كفاح من أجل المال بل ومن أجل العلم، ولقد كان على شيء من الحق ذلك الرجل الشاعر القلب المرهف الحس الذي أخذته روعة غروب الشمس فهتف قائلا : «دعوا لي هذا المنظر، وخذوا جميع كتبي». •••
في كل جانب من جوانب الطبيعة جمال، ولكل جمال ذوقه وطعمه، كالفاكهة تختلف أشكالها وطعومها، ولكل فاكهة جمالها، فهذه القبة الزرقاء ببهائها وسنائها ولألاء نجومها تبعث في الإنسان الشعور بألم لذيذ أو لذة أليمة، وسبب اللذة جمالها ... وكل جمال يبعث اللذة والسرور، وسبب الألم جلالها ... وكل جلال يبعث في النفس الشعور بالضعة والمهانة وحقارة الإنسان أمام هذا الجلال، وهو شعور أليم.
وهذه الشمس الجميلة القوية مصدر نورنا ونارنا، تفعل أفاعيلها العجيبة الجميلة في أرضنا حتى كأنها «فلم» سينمائي غريب، تبخر الماء وترفعه غيوما في السماء وتنزله أمطارا تجري به بحارا وأنهارا، ويسقى به الزرع فينمو ويهيج، والأزهار فتنضج وتتفتح، ثم هي بحرارتها تلعب بالرياح، والرياح تلعب بالأمواج، والأمواج تلعب بالسفن، والسفن تلعب بالراكبين، وهكذا من مناظر جميلة لا يحصيها العد.
وهذا القمر الوديع اللطيف، يبدو هلالا نحيلا وينمو نموا متتابعا بديعا، ثم يعود كما بدا فيتلون في ذلك بلون من أضناه الحب فنحف وهزل، ثم بلون الحبيب الممتلئ حسنا ونضارة، ويعرض علينا صورة الطفل بدا صغيرا هزيلا، ثم صار في أحسن تقويم، ثم رد أسفل سافلين، ثم هو يلعب بالماء في مده وجزره، وتلوينه وتفضيضه؛ فإذا نحن رددنا الطرف من قبة السماء إلى سطح الأرض وجدنا صنوفا من الجمال لا تنتهي.
هذا الماء البديع ينساب في الجدول ويتدفق في النهر ويتموج في البحر، ويكون فضيا في وسط النهار وذهبيا في الأصيل، وله صوت في سريانه وتدفقه وتموجه أجمل من صوت الناي، وإذا مس أرضا ملأها بالحياة من شتى الأنواع ... وهو على رقته يفتت الصخور ويذيب الجبال، وله في كل نهر وبحر وبحيرة تاريخ طويل مما له من أفاعيل.
وهذه الجبال - معممة بالثلوج، أو مكسوة بالأشجار، أو صخرية جرداء - تفتن النظر بجمالها وعظمتها وتعاريجها وارتفاعها، في أعاليها يتعانق السحاب، وفي هيكلها تتلون الصخور، بين دكناء وحمراء وصفراء، وفي باطنها المناجم تعج بالخير، وفي أسفلها الوديان تموج بالحياة، تشمخ بقممها كأنها تريد أن تنطح السماء ، وبجمال أديمها كأنه ألوان الحرباء، وبصفاء جوها، ونقاء هوائها، وبعدها عن التلوث بصغائر الإنسان.
وحتى الصحراء الجرداء لها معان من الجمال فاتنة ... فهي واسعة لا يبلغ الطرف مداها ... تقرأ العين فيها معنى الأبدية واللانهائية والخلود، وينعم العقل فيها بمعنى الاستقرار والثبات، بينما ينعم في منظر البحر بمعنى الحركة والتقلب والنشاط ... وكلاهما معنى لا يفهم إلا بأخيه ولا يجمل إلا بقرينه. •••
أكتب هذا في مستهل الربيع والعالم يموج بالجمال ... فلئن كان للزمان عمر فالربيع شبابه، ولئن كان الجمال في غيره يرتشف فهو في الربيع يعل وينهل، قد دبت الحياة في الأرض فأفاقت الأشجار من نومها، واكتست الأرض بثيابها الخضر بعد عريها، وتفتحت الأزهار وغنيت بالألوان، وتمايلت الورود على الأغصان، وغردت الأطيار ... فإذا كل شيء جميل لا ينقصه إلا طرف يدرك جماله، وقلب ينبض بحبه، ولسان يهتف: سبحان خالقه.
برناردشو
إرلندي دخل إنجلترا طالبا للقوت، ثم تبين أنه دخلها غازيا فاتحا، وما زال يجاهد ويحارب حتى توج ملكا على الرأي العام.
وناشئ في بيت منحل؛ فقد كان أبوه على حد تعبيره «رجل أعمال نظريا، وسكيرا عمليا». وتلميذ خائب في مدرسته، يهزأ بالدراسة وبثرثرة المعلمين، وجمود أساليبهم، وسخافة تعاليمهم، فكان له من بيته المنحل، ودراسته الفاشلة غذاء صالح وذخيرة كبيرة لنقد الحياة الاجتماعية والدعوة لإصلاحها.
منح ذكاء حادا كالبلور في صفائه وقسوته، فبدأ شهابا لامعا يعجب ولا ينفع، ثم نما وكبر حتى صار شمسا تدفئ وتنفع.
من أعجب ما فيه رحمته وقسوته معا، وامتزاجهما فيه مزجا غريبا، فهو يرحم الحيوان كأبي العلاء المعري، فيعف عن أكله، ويعيش على النبات، بل يتمنى أن لو وسعت رحمته النبات أيضا فلا يحرم الشجر ثمارها، ولا الثمرة بذورها، ولا النباتات جذورها، وهو مع ذلك يقسو على الناس في نقدهم ولذعهم، وإقلاق راحتهم، وتحطيم أوثانهم، ولكن لعل قسوته عليهم من رحمته بهم، فهو يرحمهم من سخفهم فينقدهم، ومن خمودهم فيلذعهم، ومن نومهم فيوقظهم، ومن جمودهم الذهني فينشطهم، ولذلك كان من طبيعته أن يهاجم فكرة الناس ولا يهاجم الناس ، ويقاتل الرأي الفاسد ولا يقاتل أصحابه، ويحمل حملة شعواء على فكرة الحرب ولا يثور على المحاربين، ويحمل حملة شعواء على الأدب السخيف ولا يتعرض للأدباء.
سما فوق العادات والتقاليد؛ فلم تقيده عادات الطفولة؛ إذ لم يكن سعيدا، ولا عادات المدرسة والجامعة؛ إذ كانت فاشلة، ولا عادات المجتمع؛ إذ لم يجد فيها ما يحترمه ويوقره، فتحرر من أغلال الأوضاع والتقاليد، ونظر إليها من طيارة فوجدها رمما بالية، وأشياء مستقذرة، وأغلالا للعقول، وقيودا للتفكير، وأصناما تعبد من دون الله، فتنزل عليها بمعوله يحطمها في قسوة، ويحرقها في جرأة، ويصوغ عباراته في نقدها صوغا أنيقا متقنا بارعا، فتجري في الناس مجرى المثل، ويضحكون منها؛ وهم إنما يضحكون من أنفسهم.
وينفذ بصره الفاحص إلى حقائق الأمور ولا يلهيه زخرفها الظاهر، ولا طلاؤها الخادع، فإذا وقف على الحقيقة المؤلمة أعلنها على الناس في صراحة وجرأة، يقارن بين المدنيين على آخر طراز وبين المتوحشين من سكان الكهوف ويعقد الشبه بينهما في شكل يدعو إلى العجب والإعجاب، ويسخر من الأمريكيين؛ إذ يضطرون الزنوج إلى مسح أحذيتهم ثم يدللون على انحطاطهم بأنهم مساحو أحذية، ويرى الأدباء قد غلوا في الإعجاب بشكسبير واتخذوه صنما يعبد، وجعلوا أدبه المثل الأعلى، وقاسوا أدبهم بأدبه فما انطبق عليه كان عالي القيمة، وما بعد عنه ضعفت قيمته، فهاج على شكسبير وكسر صنمه، وأنزل من قيمته، وقال عبارته المشهورة: «إن يكن شكسبير أطول مني فإني أقف على كتفه»، واتخذ هجومه عليه من ناحية أن شكسبير في أدبه سوداوي متشائم، يرى الحياة باطلا من الأباطيل، والأدب في نظر «شو» هو ما بعث الحياة، وبعث الأمل فيها، وبعث على الاستمتاع بها، والاستزادة منها.
ومن أجل ذلك اتجه في أدبه ونقده إلى تقويم ما له قيمة حقيقية، لا شكل براق، فهو يزدري الخفيف من الروايات والقذر من النكات، ولا يقوم من الروايات إلا ما كانت ذات وزن، ولا من النكات إلا ما كانت عميقة ذات ذكاء. •••
حدد برنامجه أن يكون ثائرا على المجتمع وأخطائه ثورة بطيئة دائمة محققة، وأن يكون مجددا في أفكاره، مجددا في أسلوبه، وفي رواياته، وفي حواره، واستدلاله، فناصر المرأة وطلب مساواتها بالرجل، ولم يسلك في براهينه سبيل من قبله من رفع شأن النساء حتى يتساوين بالرجال، بل رثى لحالة الرجال وطلب أن يتساووا بالنساء، وفي كل رواية من روايات «شو» الأولى حوار بين الرجل والمرأة؛ تغلب فيه المرأة على أمرها؛ لتعترف بأنها حقا على مساواة مع الرجل.
وناصر حركة الكتابة الصوتية؛ أي كتابة ما ينطق من الحروف وحذف ما لا ينطق، فلا معنى لكتابة حروف لا ينطق بها، ولا النطق بحروف لا تكتب.
ولم يعجبه غرور العلماء في عصره وادعاؤهم علمهم بكل شيء، فأبان عجزهم وضعفهم، وأن ما جهلوا أكثر مما علموا، وأن بعض ما قالوا يعوزه الدليل الصحيح؛ ومما قاله في ذلك: «إذا قال لي الفلكيون: إن ثمة نجما بعيدا عنا يرسل ضوءه فيستغرق وصوله إلينا آلاف السنين، فقولهم هذا كذبة بلقاء، يعوزها التمويه الفني».
ويقول عن هكسلي: «إنه عراف كبير»، ومع ذلك فشو مشغوف بالعلم، مطلع عليه اطلاعا واسعا، يستمد أدبه من سعة علمه. •••
لقد بهر «شو» الناس بأشياء كثيرة: ذكاؤه النافذ الذي يصل إلى أعماق ما في الأشياء، ثم يخرجها بعد ذلك في شكل واضح بسيط جذاب، فهو جيد الإنتاج جيد الإخراج، قد يصل إلى فكرة لو عبر عنها الفيلسوف لخرجت منه غامضة مبهمة معقدة قد أغرقتها الاصطلاحات المألوفة، فيخرجها «شو» في جملة واضحة رائعة فتفهم وتضحك، ثم إلى ذلك قدرته الفائقة على النكتة، ونكتة «شو» قد يحسده عليها «فولتير» نفسه، أو كما نقول نحن يحسده عليها «جحا»، فهي ذات جذور فكرية عميقة، وإذا عرض لموضوع ليتنادر عليه استقصى كل نواحيه حتى كان كما قالوا: «إذا تنادر على خياط استنفد النوادر عليه إلى آخر نادرة عن الأزرار».
وأحيانا يسرف فيزل ويأتي بما ينبو عنه السمع، فيكون له من ذلك كثير من الأعداء، ثم صوته الجذاب الذي يستطيع به أن يقول ما يسيء - بنغمة عذبة - فتقبل منه، ووقفته الخطابية البديعة التي يقفها من غير اكتراث، ويلقي برأسه إلى الخلف في خفة، ويترنح أحيانا هازا كتفيه وهو يحمل وجها ذا حاجبين كثيفين، ولحية حمراء مدببة علاها الشيب.
إن «شو» في هيكله الذي وصفناه وفي نقده اللاذع، وفي رواياته الجديدة التي خرجت على الناس بشكل جديد وتأثرت بقوته في الحديث والحوار، والميل إلى الجد والاستخفاف بالتوافه، وشو في فلسفته التي تدعو إلى الحياة وتقويتها والإصغاء إلى العقل لا العادة والعرف، والإصلاح في غير خداع ولا مواربة، كل هذا جعله قبلة الأنظار، وزعيم الأدباء، والمثل الذي يحتذى. •••
وقد أثر في الشعب الإنجليزي أثرا كبيرا من نواح كثيرة؛ فقد استنزل الفلسفة والاقتصاد والمعاني السامية من السماء إلى الأرض، وجعل الشعب يفهمها، وجعل العلماء والفلاسفة يقلدونه في وضوحه، ويحذون حذوه في محاربة الغموض.
وهو إلى ذلك يركز المسائل العامة الفلسفية والعلمية في «برشامة» كما يركز السحاب المنتشر في قطرات المطر، فكان في أسلوبه هذا مثلا للعلماء يحتذى.
وأكثر من هذا أنه حمل حملة شعواء على ما كان سائدا في عصره من موجة التشاؤم فأبادها، وأحل محلها موجة التفاؤل وحب الحياة والعمل للحياة.
وإن كان يؤخذ عليه شيء؛ فإشاعته بين الناس التدجيل في الكلام، ممن وهبوا ثرثرته ولم يوهبوا حسن ذوقه وخفة روحه، ثم ما قلده الناس فيه من الاستهزاء بالعادات المألوفة مهما حسنت، وبالقديم مهما جل، ولكن أي الرجال الكامل؟
ليت شعري لو كان «شو» في الشرق، ماذا كان يكون مصيره؟
فأول كل شيء من المحال أن يكون «شو» شرقيا، فشجر الأرز لا ينبت في خط الاستواء، والثلج يذوب في الحرارة، فإذا أمعنا في الخيال وتصورناه شرقيا فأكبر الظن أنه لم يكن شجرة مثمرة، بل ولا شجرة ناضرة.
لقد كانت تتعاون عليه القوى كلها؛ لتخنقه في مهده، أو تكمم فمه فلا يستطيع قولا.
إنه في بلاده هاجم كل طائفة بلسان مقذع فأفسحوا صدورهم له، وقابلوا نقده بروح رياضية، وضحكوا منه فشجعوه بذلك على الاستمرار والاسترسال حتى بلغ القمة.
هاجم العادات وقال: «إن عيد الميلاد لعبة اخترعها الخمارون؛ ليبيعوا خمورهم» وهاجم الطبقات وخاصة طبقة الأغنياء في اشتراكية، وهاجم رجال الدين في أساليبهم، وهاجم رجال العلم في غرورهم، وهاجم الأدباء في اهتمامهم بسفاسف الأمور وعبادتهم للأصنام، وأخيرا منع الرقيب إحدى رواياته؛ لخروجها عن اللياقة والحشمة فاتخذ الرقباء موضع سخريته؛ وقال: «إن الرقيب داعر، أما شو فإنه طاهر عفيف، وإن الرقيب بمنعه هذه الرواية قد جنى على الأخلاق، وإنه إنما يسمح بما يسمح به من الروايات لرذيلتها لا لفضيلتها، وإن جريمة شو في هذه الرواية ليست في أنه عرض في روايته لبنت من بنات الهوى، ولكن جريمته أنه لم يجعلها كلها هوى».
وهكذا وهكذا، فلم يسلم من لسانه شيء، ومع هذا قوبل بالإعظام والإكبار حتى من خصومه.
لو كان عندنا لتكاتفت كل الطوائف على خنقه؛ من أغنياء لا يطيقون كل ما في اشتراكيته، ومن أدباء خطرات النسيم تجرح مشاعرهم، ومن محافظين يضيقون ذرعا بأي خروج عن العادات والتقاليد، ومن رجال سياسة ورجال إدارة لا ينظرون إلى الأمور إلا نظرا حزبيا، وهو أكره ما يكرهه شو.
وعلى الجملة فلو كان «شو» في الشرق لانتحر أو انفجر أو لبس جلدا غير جلده.
لماذا تغضب المرأة؟
لئن كان آدم على ظهر الأرض لغزا من الألغاز يصعب حله، فإن حواء لغز أكثر تعقيدا وأصعب حلا، وكل السنين التي مرت عليها لم تزدها إلا غموضا وتعقدا، ومهما تقدم علم النفس وادعى أنه وضع يده على سر النفس الإنسانية، عاد فأقر بالعجز عن فهمها، وبخاصة نفس حواء.
ولنحاول في هذا المقال أن نكشف عن ظاهرة من ظواهرها تميزها عن آدم.
ففي نظري أن المرأة ساخطة ما لم تسترض، والرجل راض ما لم يستسخط.
ولعل هذه الظاهرة تفسر لنا كثيرا من سلوك المرأة في الحياة؛ فهي ملول، وهي ضجرة، وهي متبرمة، وهي كثيرة السخط على صديقها، وعلى أسرتها، وعلى زوجها، وعلى الدنيا بأجمعها، تريد في كل حين أن يبذل من يتصل بها الجهد في إرضائها بشتى الأشكال والألوان.
سل العاشق: كيف عانى من حبيبته وهجرها وسأمها ودلالها، وكم بذل من جهود في سبيل إرضائها، وكم لاقى من عذاب صد وهجران، وملال ودلال.
وسل رب الأسرة: كيف يجد زوجته كالبحر، يهدأ حينا ويهيج أحيانا، وكيف يتركها في البيت راضية ويعود فإذا هي ساخطة، لأتفه الأسباب أو من غير إبداء أسباب، وكيف تسخط عليه، وتسخط على الخدم، وتسخط على أبنائها وبناتها، وكيف تبحث عن أسباب السخط في كل زمان ومكان؛ حتى إذا وجد ألف سبب يدعو إلى الرضا وسبب واحد يدعو إلى السخط، غلبت السبب الواحد وسخطت كل السخط، والرجل - في الأعم الأغلب - على العكس من ذلك يرضى ويسترضى، ويحلم ويستحلم، ولا يغضب إلا إذا استغضب. •••
واستعرض ما يتصل بالمرأة من الآداب والفنون؛ فماذا ترى؟ ترى الغزل في الأدب مملوءا باستعطاف الرجل للمرأة، وشكواه الدائمة من صدها ومللها، وبكائه من هجرانها ووصفه لقسوتها، فإن هو نعم برضاها فلحظات في جحيم سنوات.
وترى الأغاني والموسيقى ملئت بالنغمات الحزينة مما أصيب به الرجال من النساء، من لوعة وضنى وعذاب أو شقاء، فإن رأيت من النساء من تشكو سأم الرجل وملله فالقليل النادر.
ويتجلى هذا الخلق في المرأة في مظاهر كثيرة؛ فهي أكثر من الرجل في طلب التسلية، من سينما وتمثيل وحفلات وما إلى ذلك؛ فإن وجدت فيها كثيرا من الرجال فبإيعازها وإلحاحها وتشجيعها، فهي تحب أن تقتل سأمها بهذه الأشياء كلها، ثم هي تكره الوحدة أكثر من الرجل، وتكثر من الزيارات والمقابلات؛ لأنها تشعر أن الوحدة مع السأم والملل سم قاتل. •••
ومن مظاهر هذا الخلق رغبتها المستمرة في تغيير الزي وابتكار البدع «المودة»، ففي كل سنة بدع جديد في الألوان والأشكال، وفي شكل الشعر، والقبعات، والأحذية ونحوها، على حين أن الرجل قد مرت عليه عشرات السنين لم يغير فيها شكل بذلته وقبعته أو طربوشه؛ تريد المرأة أن تقهر الرجل وترغمه على أن يزيل سأمها بملقه لها وتدليلها، وأن يبتكر لها دائما ما يجدد حياتها، فإن قصر في ذلك فالويل له كل الويل، ثم إذا ترأست عملا فمستبدة قاسية، هي كذلك في البيت إذا تحكمت، وفي المدرسة إذا كانت ناظرة، وفي المصنع إذا كانت مديرة، وهكذا، كأنها تريد أن تبعد مللها بتحكمها واستبدادها، وهي على بنات جنسها أقسى منها على أبناء آدم؛ لأنها في داخل نفسها وفي وعيها الباطن تشعر أن الرجل مظنة أن يزيل سأمها، وليست كذلك المرأة أختها.
وبعد، فما السبب في سأمها هذا ومللها وضجرها؟
يخيل إلي أن أكبر سبب لذلك انطواؤها الدائم على نفسها وتفكيرها المستمر في شخصها، وقلة تفكيرها فيما هو خارج عن نفسها، إلا أن يكون ذلك في خدمتها.
والانطواء على النفس وطول التفكير فيها مدعاة للسأم دائما، ولذلك نرى من فقد بصره أو سمعه أو رجله أكثر سأما ومللا؛ لأنه بعاهته أصبح أقل اتصالا بالعالم الخارجي، وتفاهما معه، واستمتاعا به.
فالمرأة من أول عهدها بالحياة كثيرة التفكير في جمالها وقبحها، كثيرة النظر في المرآة لتطمئن على شكلها، دائبة على تصفيف شعرها وتحلية منظرها، متطلعة دائما لمعرفة مستقبلها، كثيرة الحديث عن زواجها، متخيلة الخيالات العديدة لمن تتزوجه قبل أن تتزوج، متقصية كل حركة من حركاته بعد أن تتزوج، وإذا قرأت في كتاب فأحب شيء إليها فيما تقرأ ما يغذي عاطفتها الشخصية، ويصور حالاتها وحالات مثيلاتها؛ أما العالم الخارجي الذي لا يتصل بها من قريب، وأما المعاني المجردة وأما الفلسفة النظرية فأشياء لا تأبه بها، وقلما تمهر فيها؛ لأنها بعيدة عن شخصها.
فلما أكثرت من التفكير في نفسها، وجعلت شخصها مركز الدائرة التي حولها، وفسرت ما يحيط بها بمزاجها وميولها، ضجرت وملت وسئمت؛ خضوعا للقانون الطبيعي الذي ذكرنا.
هذه ناحية من نواحي حواء، وما أكثر نواحيها وما أعجب شئونها.
البطولة والأبطال
إن لكثير من الكلمات سحرا لا تستطيع معاجم اللغة أن تقبض عليه أو تحدده، فكلمة «بطل» و«حرية» و«جمال» و«ديموقراطية» ونحو ذلك، كلمات قد أحيطت بهالات من نور تؤثر في النفس ولا يستطيع اللغوي أن يحددها، فإذا هو حاول ذلك ظهرت عليه علامات العجز والضعف والكلال.
وشيء آخر، وهو أن لكل لفظة تاريخا كتاريخ الأشخاص والأمم؛ فقد توضع الكلمة لمعنى ثم يتطور المعنى بتطور العصور، فيضيف إليها كل عصر معنى جديدا، فيبقى اللفظ على حاله ويتغير المعنى تغيرا قريبا أو بعيدا، فمساكين هم أصحاب المعاجم الذين ينقل خلفهم ما ذكره سلفهم من غير مراعاة لما طرأ على اللفظ من تغير.
هذه كلمة بطل وبطولة ... ماذا يعنى بها؟ وما الفرق بين البطل والعظيم والنابغة؟ وماذا كان يعنى بالبطل في العصور القديمة وماذا يعنى بها الآن؟ أسئلة محيرة لا تسعفك المعاجم في توضيحها.
إن البطل في كل عصر وعند كل أمة يستمد معناه من حالة الأمة والجماعة، ومن عقليتها، ومن عقيدتها، فاليونان في عصورهم الأولى كانت حياتهم مملوءة بالآلهة وأنصاف الآلهة، لكل قوة طبيعية إله، فخلعوا على البطل نوعا من التقديس، ونسبوا إليه كل ما يتخيلون من وجوه الكمال، وقدسوه تقديس الآلهة، وعبدوه عبادة الآلهة.
والعرب في جاهليتهم لما كانت حياتهم حياة حرب، وكانت أكبر فضائلهم الشجاعة، وكان أفضل رجل في نظرهم من حمى العشيرة وذاد عنها ، ونكل بالقبائل الأخرى وغنم منها، كان البطل في نظرهم هو الشجاع الفتاك بالخصوم، العليم بالحروب، السفاك للدماء، الذي يتمثل في عنترة العبسي وأمثاله.
ولما سادت العقيدة الدينية، في القرون الوسطى، في الشرق والغرب، وزاد بؤس الناس من ظلم الحكام وعسف الأغنياء والأمراء، ورأوا أن الدنيا لا تحقق مطالبهم ولا تضمد جراحهم، وجهوا كل همهم إلى الأخرى يتطلعون إليها، ويطمحون إلى النعيم فيها، ويحتملون العذاب في الدنيا للسعادة في الأخرى، ويصبرون على ظلم الحكام لما سيكون من عدل السماء، فكان المثل الأعلى للرجل هو الرجل المتدين الذي انقطع للدين واقترب إلى الله من طول عبادته وتطهير نفسه، فكان الأبطال إذ ذاك هم الأولياء والقديسين، وأقيمت لهم الأضرحة في كل مكان، والمساجد الفخمة، والكنائس الضخمة، وهرع الناس إليها يتقربون بها ويتمسحون بها ويستنزلون الرحمة والبركة بها.
ثم لما جاء دور العلم في المدنية الحاضرة، واهتم الناس بإصلاح دنياهم، وقدروا الرجال بما يظهر من آثارهم وما ينالون من الخير في الدنيا على أيديهم، تغير مقياس البطولة، فكان البطل هو رئيس الحكومة البارع الحكيم الحازم، أو المخترع الكبير، أو الفنان القدير، أو الفيلسوف العظيم، أو المحرر لوطنه، أو مؤسس الصناعات في قومه، أو نحو ذلك. •••
وهكذا تطورت البطولة بتطور الزمان وتطور العقول وتطور الأنظار، ومن هذا نرى أن البطولة تكاد تكون مطمح أنظار كل أمة في كل موقف من مواقفها، فإذا تغير موقف الأمة تغير تقويمها للبطل والبطولة، فالبطل هو الذي تتبلور فيه آمال الأمة، وتتحقق فيه مطامحها، وتتخلص به من آلامها، والأبطال في الأمة يتفاعلون معها فهي تخلقهم وهم يخلقونها، وهي تكونهم وهم يكونونها، وهي هم وهم يسمون بها.
ومحال أن تجد بطلا لا يتناسب مع قومه، فمن الممكن أن تجد عنترة ينبغ من قبيلة عبس، ولكن من المستحيل أن ينبغ فيها فنان كبير أو فيلسوف كبير، ومن الممكن أن تجد في أمريكا الحديثة ولسن وروزفلت، ولكن ليس من الممكن أن تجد فيها جنكيز خان وتيمور لنك، فكل إناء ينضح بما فيه، والبطل ثمر لا بد أن ينتج من جنس شجرته، ولا ينتج من شجرة غير شجرته، فلا بد أن تتهيأ الأمة للبطل، ولا بد أن يكون البطل صورة قريبة للكمال من جنس صورتها، ثم إذا نبغ البطل فيها كان نورا يضيء حياتها، وكوكبا يلمع في ليلها، ومنهلا يستقي منه كل شعبه، وروحا يستمد القوة منه كل قومه. •••
فإن سألتني عن العناصر التي يتكون منها البطل على حسب ما نفهمه في عصرنا الحاضر، قلت: إننا إن ضربنا صفحا عما ابتذلت فيه كلمة البطل من مثل قولنا: «بطل الملاكمة، وبطل الشيش، وبطل المصارعة، وبطل كرة القدم»، أقول: إن تجاوزنا هذا الابتذال فعناصر البطولة ثلاثة لا بد منها في عدها بطولة، فإن فقد عنصر من عناصرها لم تتحقق، ولم يعد صاحبها بطلا:
الأول:
أن يكون مصدر خير كبير لقومه، فإن اتسعت بطولته وزادت قيمته كان مصدر خير للإنسانية كلها، يستوي في ذلك أن يكون نوع بطولته سياسيا كتحرير أمته، أو اقتصاديا كإغنائها، أو علميا كأن ينبغ في علم من العلوم نبوغا ظاهرا أو يتغلب على داء يفتك بالإنسانية، أو فنانا كبيرا يسعد الناس بفنه من شعر أو أدب أو موسيقى أو تصوير، أو فيلسوفا كبيرا يكشف من حقائق الكون ما كان مجهولا، أو نحو ذلك، فكل هذه الأشياء منابع للبطولة.
الثاني:
قوة الشخصية ... فقد يصدر الخير الكثير من شخص، ولكن لا يكون بطلا لضعف شخصيته؛ لأنه ملحوظ في البطل أن يكون قويا يحمل الناس على إجلاله وإعظامه والاقتداء به، إنه إذا كان مصدر خير وليس له شخصية قوية صح أن نسميه عظيما، ولكن لم يصح أن نسميه بطلا، فكل بطل عظيم؛ وليس كل عظيم بطلا.
الثالث:
ألا يأتي من الأعمال في حياته ما يفسد عظمته أو بطولته، فالنابغة إذا كان وطنيا كبيرا، أو اقتصاديا كبيرا، أو عالما كبيرا، أو فيلسوفا كبيرا، ثم أتى بما يدل على خسته أو نذالته لم يصح أن يسمى بطلا، و«بيكون» الذي قيل إنه: «أكبر فيلسوف وأخس إنسان» يصح أن يسمى فيلسوفا، وأن يسمى نابغة، ولكنه لا يصح أن يسمى بطلا؛ لأنه فقد منزلة القدوة وفقد الاحترام والإجلال، ولا بد للبطل أن يكون مثلا يحتذى ونورا به يهتدى.
أما متى ينتج البطل، وكيف يولد في الأمة؟ فشيء ما زال سرا غامضا ولما يكشفه العلم والبحث، قالوا: «إنه يتبع الصحة الحسنة وجودة الغذاء»، فجاء البطل أحيانا مريض الجسم تربى على سيئ الغذاء، وقالوا: «إنه ينتج من الأسرة الصالحة والأسرة المشهورة بالنبل والذكاء»، فجاء أحيانا من أسرة وضيعة لم تعرف بالنبل ولا بالذكاء وقالوا: «إنه يمكننا حدسه بما اخترعنا من مقاييس الذكاء»، فنجح البطل بعد أن سقط في امتحان مقياس الذكاء، وقالوا: «إنه لا بد أن يكون ذا طلعة بهية ووجاهة جلية»، فظهر البطل كما ظهر سقراط في قبح زري، ومنظر غير بهي، ولكن غطى جلال بطولته على زراية هيئته.
فالحق أن قوانين البطولة لم تستكشف بعد، ولله في خلقه شئون.
صراع الماضي والحاضر
من طبيعة هذا العالم التغير المستمر ، سواء في ذلك شئونه المادية والمعنوية، فمن حين إلى حين تعتور الأرض الزلازل، والبراكين، والفيضان، والمد والجزر، والعواصف والأمطار، ونحو ذلك، فتكون عاملا كبيرا من عوامل التغير المستمر في سطح الأرض.
وكذلك حياة الناس على وجه الأرض في تغير مستمر كتغير سطحها، فكم من الفرق بين بيت الرجل البدوي في سذاجته وبساطة أدواته، وبيت الرجل المتمدن على أحدث طراز، المزود بالراديو، والتليفون، وتكييف الماء، وتكيف الهواء، المؤثث أثاثا فخما فيه كل أسباب الترف والنعيم، وهكذا الشأن في كل مرفق من مرافق الحياة وكل نظام من نظم المعيشة، في وسائل النقل والبريد، وفي المعاملات الاقتصادية، وفي أساليب التسلية، وفي معاهد التربية، وفي نظم الحكومة، وفي كل شيء، ولو قارنت بين شأن الإنسان في أول عهده وشأنه اليوم لرأيت العجب فيما دخل عليه من تغير مطرد.
وقلما يستطيع الإنسان التدخل في أعمال الطبيعة، وإن تدخل فليس تدخله لمنعها، ولكن لاستخدامها في منفعته، فهو لا يستطيع أن يمنع زلزالا أو ثوران بركان، ولكنه يستطيع أن ينظم الفيضان لخدمته، وأن ينتفع بالمطر في شئونه، أما التغيرات التي تحدث من أعمال الإنسان في تنظيم حياته، وتنسيق مرافقه، وما يلحقها من صلاح وفساد، فإن له دخلا كبيرا فيها، وأثر الإنسان فيها يختلف باختلاف الرجال قوة وضعفا، فقادة الحروب العظام غيروا مجرى التاريخ، وكان العالم يسير غير سيرته لو لم يوجدوا، وحسبنا أن نضرب مثلا في عصرنا الحديث بنابوليون وهتلر وكيف غيرا سير العالم، وأحدثا من الأحداث ما لم يكن يحدث لو لم يوجدا.
وكذك الشأن في كبار المصلحين الروحيين والاجتماعيين والاقتصاديين، فإنهم أسرعوا في تغيير العالم وتقدمه، ولولاهم لسار سيرا بطيئا، ولما وصل إلى ما وصل إليه من رقي. •••
وقد دلنا التاريخ على أن الجماعات والأمم تسير على أنماط متشابهة في تغيرها وتطورها وانتقالها من القديم إلى الجديد.
فكل جماعة سرعان ما تتكون لها تقاليد وعادات وأوضاع ومعتقدات، تقدسها وتلتزمها، وتجعل العمل على وفقها فرضا محتوما، وتكره الخارج عليها والعاصي لها، ولكن بمرور الزمان تنشأ عوامل مختلفة تجعل ما كان صالحا من العادات والتقاليد والأوضاع غير صالح، ويبدأ الشعور بنقصها وعدم صلاحيتها ووجوب تغييرها، وتمر الجماعة أو الأمة في هذه الفترة بنوع من الشعور بالقلق والحيرة والغموض، وسبب هذه الحيرة وهذا الغموض يرجع إلى الإحساس بعدم صلاحية القديمة الموجود، مع عدم تحديد الجديد المطلوب وما يجب أن يكون.
في هذه الفترة يظهر أفراد في المجتمع من طبيعتهم أنهم أكثر شعورا بالألم من النظام الموجود، وأكثر علما بعيوبه وما يجلب من مضار، وأوسع خيالا في تصور الأوضاع المستقبلة الجديدة التي يجب أن تحل محل القديم، وعندهم من الشجاعة ما يدفعهم للجهر بهذه الدعوة الجديدة وتصويرها وتلوينها باللون الجذاب، ولكنهم لا يلبثون أن يدعوا دعوتهم حتى يهب في وجوههم المحافظون وأنصار القديم، وهؤلاء أصناف؛ منهم من حمله على الانتصار للقديم غلظ شعوره وتبلده، فهو لا يألم من النظام المألوف وعيوبه؛ لأنه ألفه كما يألف الإنسان المكيفات فلا يشعر بضررها، ومنهم من أصيب بالخمول والكسل العقلي، فليس له من النشاط ما يحمله على النظر في الدعوة الجديدة وحججها - وكل دعوة جديدة تحتاج إلى نشاط جديد في التفكير وبحث في البراهين - وهو ليس قادرا على ذلك، والقديم مألوف معتاد مريح لا يكلف اعتناقه عناء البحث فيركن إليه ويطمئن به، ومنهم من يحمله على الانتصار للقديم منفعته المادية إذا كانت الدعوة الجديدة تضيعها كرجال العقيدة القديمة وموظفي النظام القديم، وهكذا.
إذ ذاك تنشأ معارك بين أنصار القديم وأنصار الجديد، قد تقتصر على الحرب الكلامية، وقد تشتد حتى تكون ثورة دموية كالثورة الفرنسية والروسية والأمريكية في العصور الحديثة، وكالثورة النصرانية على الوثنية، وثورة الإسلام على عبادة الأصنام.
ثم تنجلي هذه المعارك إما عن نصرة القديم وقمع دعوة الإصلاح والتجديد، وعند ذلك يتأجل الإصلاح والتجديد حتى تتهيأ له ظروف أنسب وجو أصلح، وإما أن ينتصر الجديد ويهزم القديم ويتحول المحافظون إلى أحرار ينصرون الجديد بعد أن تتجلى فائدته، ولكن حتى في هذه الحالة لا يمكن انتصار الجديد الصرف، بل لا بد أن يكون مشوبا بشيء من القديم حتى يستطيع أفراد الشعب أن يتذوقوه؛ إذ ليس في استطاعة سواد الناس أن يتذوقوا الجديد الصرف، وقد يتجاهل دعاة التجديد هذه الحقيقة فتصاب دعوتهم بالنكسة، وهكذا يتحرك «بندول» الأمة بين حركة إلى الأمام، وحركة إلى الخلف؛ تبعا لنشاط المجددين وطبيعة المحافظين. •••
ونحن لو نظرنا إلى تاريخ العالم وجدنا أنه لم يسر نحو التقدم والتجدد بخطى ثابتة مستمرة، بل كان أحيانا يرجع إلى الوراء، وأحيانا يتقدم تقدما بطيئا، وأحيانا يقفز إلى الأمام قفزا، ولعل ما أدركه من التقدم في القرنين الأخيرين يعادل تقدمه في الأجيال القديمة كلها، ولذلك التقدم أسباب كثيرة؛ أهمها: أن الإنسان في القرون الوسطى كانت تسوده عقيدة أن عصره الذهبي إنما كان في ماضيه لا في حاضره ولا في مستقبله، وإذا أمل شيئا في المستقبل ففي الحياة بعد الموت لا في الحياة الحاضرة، وأن ما يشقى به في حاضره من ظلم حكام، واستبداد أغنياء بفقراء ونحو ذلك، شيء مقدور فرضه القدر عليه فرضا لا يستطيع أن يدفعه ولا أن يرفعه، وإذا؛ فليرض بالحاضر وليؤمل في الحياة الأخرى ليس إلا.
وكان على هذه العقيدة اليهود والنصارى والمسلمون في عصورهم المظلمة، ثم زاد الظلم وزادت الحال سوءا، ووجد في العصور الحديثة أفراد أدركوا سوء الحال أكثر مما أدركه سواد الشعوب، وجربوا تجارب زادتهم إيمانا بأن الحاضر السيئ يمكن تغييره، وأن الظلم يمكن دفعه، وأنه لا سبيل إلى ذلك إلا بالثورة على النظام الحاضر والنظرة القديمة إلى الحياة، وإحلال النظام الصالح الجديد محل النظام الفاسد القديم، ودعوا إلى أن النظام القائم والفساد الحاضر ليس قدرا مقدورا، ولكنه نسيج من صنع الإنسان يستطيع أن ينقض غزله ويغزل بدله غزلا قويا متينا صالحا، وأن الحكومة الفاسدة، وظلم الأغنياء، والعادات السيئة والتقاليد الرثة، في إمكان الإنسان أن يثور عليها ويغيره ويحل محلها خيرا منها، فعمل المصلحون على ذلك، وتحملوا العذاب في سبيل دعوتهم، وألحوا فيها، فإذا قتلوا أو شردوا خلفهم من يدعو دعوتهم، إلى أن نجحوا فتحقق أملهم، ودلت التجربة على أن الحاضر من صنع أيديهم، وأنهم يستطيعون تغييره، وأنهم غيروه فعلا، فتبعهم المصلحون وتشجعوا على الإصلاح، وغيروا وجه العالم سواء في الماديات أو في المعنويات: في الصناعات، في أسس المعيشة الاقتصادية، في نظام الحكم، في الشئون الاجتماعية، إلى غير ذلك، وكان رائدهم الأعلى الإيمان بقدرتهم، وأن الفساد من صنع أيديهم، وأن الناس قادرون على الإصلاح كما هم قادرون على الإفساد، وأن السلطات التي تكبلهم وتقيد حريتهم وتسومهم سوء العذاب ليست إلا أوهاما يستطيعون التغلب عليها.
وزادهم نجاحا فهمهم للقوى الطبيعية في العالم، وإدراكهم كثيرا من أسرارها، واتخاذهم منها صديقا من الأصدقاء يمكن استغلاله في مصلحتهم بعد أن كان ينظر إليها على أنها عدو مخيف مرعب.
ثم زادهم نجاحا أنهم أسسوا إصلاحهم على العلم لا على الخيال: العلم بالطبيعة التي حولهم، والعلم بالبيئة التي تحيط بهم، والعلم بالناس وطبائعهم، فكانوا إذا دعوا إلى نوع من الإصلاح درسوا واكتشفوا الحقائق، وجربوا وبنوا إصلاحهم على الدرس والإحصاء والتجربة، فكان النجاح مكفولا، ودلهم البحث في مجتمعهم على إدراك نقط الضعف في حياتهم ونقط القوة، ثم وجهوا هممهم نحو نقط الضعف فقووها، ونقط القوة فزادوها قوة؛ حتى سادت الروح العلمية في كل مناحي الحياة الاجتماعية وأنظمتها ومحاولة إصلاحها.
وقد علمتنا الحياة أن النجاح يبعث على النجاح، والفشل يبعث على الفشل، فلما نجحوا في تجاربهم الأولى دعاهم النجاح إلى متابعة النجاح بل مضاعفته، فانتقل العالم في هذين القرنين إلى ما كان يعد حلما من الأحلام أو ضربا من الأوهام.
والشرق لا يزال في حاجة إلى هذه الخطوة الأخيرة التي خطاها العالم الغربي، فيتجه نحو حاضره كما هو متجه نحو ماضيه، ويتجه إلى إصلاح دنياه كما هو متجه إلى أخراه، ويعتقد أن في مقدوره أن يصلح ما فسد، ويجدد ما بلى، ويدرك مواضع قوته ومواضع ضعفه، ثم يعالج ضعفه بالعلم، وإذ ذاك يسير في ركب الحياة مع السائرين ويبني مع البانين.
آفة الشرق التقاليد
لعل أهم سبب في تقدم الغرب وتخلف الشرق هو أن الأول يبني حياته على العلم، والثاني يبني حياته على التقاليد والأوضاع الموروثة وحيثما اتفق.
ويظهر هذا الفرق بين الأسلوبين في كل ناحية من نواحي الحياة.
فالزراعة في الشرق - وهي عماد حياته - تجري على التقاليد الموروثة عن آبائنا الأولين، سواء في ذلك الآلات الزراعية التي عرفت من عهد قدماء المصريين والبابليين والأشوريين، ومنهج الزراعة وأساليبها، وليس يستعمل في الشرق الآلات الحديثة والمناهج الزراعية الحديثة إلا أفراد قليلون لا يمثلون أممهم، والعلم الآن قد قلب كل هذه الأوضاع، وأصبح يستطيع بآلاته ومناهجه أن ينتج أضعاف أضعاف ما تنتجه الأساليب القديمة، ولو اتبع الشرق الوسائل العلمية الحديثة في زراعته لأنتج ما يغنيه عن الاستيراد من الخارج، بل لكان مصدرا كبيرا للتصدير بعد ما يستكفي حاجته.
إن العلم الحديث يستطيع أن يصلح الأراضي البور في أقرب زمن وبأقل تكاليف، ويستطيع أن يضاعف الإنتاج من الأراضي المزروعة، ويستطيع أن يدخل في الزراعة أصنافا جديدة لا عهد للشرقيين بزراعتها، ونحو ذلك، وبهذا كله تنقلب الحياة الاقتصادية والاجتماعية في البلاد؛ لأن الفقر ينهزم أمام هذا العلم، ويجد الناس حاجتهم من الطعام في سهولة ويسر، والفقر أساس الجهل والمرض، فإذا انهزم ... انهزم معه الجهل والمرض.
ويتصل بالزراعة تربية الماشية، فكم من ألوف منها تنفق كل عام؛ لأننا لا نستخدم العلم في تغذيتها ووقايتها، ولو فعلنا لقل موتها، وقوي جسمها، فانتفعنا بلحومها ونتاجها وقوتها وألبانها انتفاعا مضاعفا؛ لا يمنعنا منه إلا أننا نربيها على أساليب العصور القديمة.
بل إن العلم كفيل بقلب الصحراء جنة يانعة، وكفيل بأن يحول الماء المتدفق من الأنهار في البحار سدى إلى ما يمكث في الأرض فيخرج حبا ونباتا وجنات ألفافا. •••
وما قلنا في الزراعة نقوله في الصناعة ... فصناعتنا في الشرق إلى الآن صناعة بدائية وإن تقدمت قليلا، وأكثرها جار على الأساليب العتيقة التي يسخر منها العلم الحديث، فكم في أرض الشرق من منابع ثروة تحتاج إلى صناعة في إخراجها كمناجم الصحراء والقوات الكهربائية من مساقط المياه، وكم فيها من مادة خامة لا ينقصها إلا العلم؛ ليعرف كيف يضع الخطط لاستخراجها واستغلالها، وليس يمكن هذا كله إلا بالمال، والمال كذلك يحتاج إلى علم عميق ... فمعاملتنا المالية إلى الآن معاملة ساذجة، وتدبير المال وتوزيعه واستغلاله والإشراف عليه من أكبر ما ينقص الشرق.
وعلم الاقتصاد إلى الآن علم لم يتقنه الشرق، وليس يعرف أغنياؤنا من المال إلا أنه وسيلة لشراء العقارات، فإن فهموا قليلا فشراء السندات، أما استغلاله في الشركات لكشف منابع الثروة وتقدم الصناعات فشيء لم نألفه إلا قليلا. •••
فإذا نحن جاوزنا الماديات إلى المعنويات، وجدنا المشكلة هي بعينها، والحل هو عينه، أي إننا نسير حيثما اتفق فنتعثر، وينقصنا العلم لنسير على الجادة.
صحتنا العامة في خطر؛ لأننا لا نستخدم العلم في طرق الوقاية وطرق العلاج، وقد تسلط العلم الطبي في الأمم الحية على الحالة الصحية فيها وأخضعها لنظامه ووقاها من كثير من الأوبئة والأمراض، ولا يزال الشرق في حاجة إلى استكثار منه وإحلاله محل طب الركة وطب التقاليد.
فإذا نحن نظرنا من هذه الزاوية إلى الحالة الاجتماعية والسياسية في الشرق، رأينا عجبا أي عجب ... حتى دعوات الإصلاح تبنى على العواطف والمشاعر لا على أساس العلم، فندعو إلى إصلاح المساكن، وإلى توفير الماء الصالح للفلاح، وإلى مكافحة الأمية، وإلى القضاء على الحفاء ... ونحو ذلك، بمجرد العاطفة لا عن درس عميق، فإن الدرس العميق يتطلب تشخيص الداء والاعتماد على الإحصاء، ووجه العلاج، وما يتطلب من مال، وخطوات التنفيذ، وما قد يعترضها من صعوبات، وتهيئة الرأي العام لقبول الإصلاح ونحو ذلك، كل هذا هو الدرس العلمي للمرض الاجتماعي وعلاجه، أما الاكتفاء بالأمل ووضع خطط شعرية للموضوع يهزأ بها الواقع فلا تغني شيئا، ولذلك فشلت كل ضروب الإصلاح المبنية على الخيال لا على العلم.
وكذلك الشأن في السياسة؛ فقد أصبحت السياسة علما بأصول وقوانين مستمدة من التاريخ والتجارب، وقد كشفت الأحداث القريبة في الشرق أن رجالنا ينقصهم علم السياسة، فهم يقابلون الآراء السياسية المبنية على العلم والدرس ووضع الخطط المحكمة، بالآراء المرتجلة التي تعتمد على الآمال، لا على الدرس والتحليل والتعمق ، فيخسرون قضاياهم.
وشأن السياسة الداخلية شأن السياسة الخارجية، كلتاهما علم وفن ما لم يحذقا فالفشل المحقق والاضطراب الدائم. •••
وهكذا غزا العلم كل ميدان، وصار - في الغرب - الأساس لكل حياة ... حياة الزراعة والتجارة والصناعة والاقتصاد والسياسة والتربية وكل شيء، ولا بد لنا ما دمنا قد اعتنقنا المدنية الغربية وسرنا على طريقها أن نسلك خطتها فنبني حياتنا على العلم. •••
إن ما يحتاج إليه الشرق هو بث الروح العلمية في الأفراد والجماعات، فإذا تم ذلك رأينا انقلابا خطيرا في جميع مرافق الحياة ... الأم تربي ابنها على أساس علمي، والزارع يزرع أرضه على أساس علمي، وكذلك المالي والسياسي والمصلح الاجتماعي وهكذا، ولم يعد هناك مجال للخرافات والأوهام والأوضاع العتيقة والتقاليد القديمة، بل إني أرى أن الفوضى في مجالسنا وطول جدلنا وعدم وصولنا - بعد الجدل الطويل - إلى نتيجة، سببها في الأعم الأغلب انعدام الروح العلمية؛ لأن هذه الروح من أهم صفاتها خضوعها للمنطق واستعدادها للتفاهم.
وليست تتم سيادة هذه الروح العلمية في أمة إلا إذا عممت المنهج العلمي في دراستها، ونال كل طالب قسطا وافرا من العلوم كالطبيعة والكيمياء، وأدخل العلم في المدارس الصناعية والزراعية والتجارية، ونشرت بين الجمهور الثقافة العلمية الشعبية، وأجريت أمامهم التجارب العلمية حتى يروا نتائجها بأعينهم ويؤمنوا بها، فتحل العقائد العلمية محل العقائد الوهمية، ثم يكون على رأس ذلك معهد قوي عظيم للأبحاث يكون مرجعا لكل المشتغلين في الصناعة والزراعة والمهن، يستهدونه في أمورهم ويستفتونه في مشكلاتهم، وعلى كل؛ فلا أمل في أمم الشرق إلا إذا بنت حضارتها على هذا الأساس.
موسيقى الحياة
حياة كل فرد موسيقى تصدر من أوتار مختلفة وآلات متعددة، فإذا تناسقت وتناغمت أنتجت صوتا جميلا وكانت السعادة، وإن تنافرت وتخالفت أنتجت صوتا قبيحا وكان الشقاء.
في جسم الإنسان كثير من الأعضاء وعدد عديد من الغدد وما لا يحصى من الأعصاب، لكل منها وظيفة، وكل وظيفة لعضو أو غدة أو عصب يجب أن تتناغم وتتناسق مع وظائف الأعضاء والغدد والأعصاب الأخرى؛ حتى تتوافر الصحة في البدن، فإذا قصر أحدها في أداء وظيفته كان المرض، وليس المرض إلا «نشازا» في النغم وتنافرا في موسيقى الجسم.
كذلك هذا الجسم يحوي عناصر مختلفة من جير وفوسفور وحديد وفحم وهيدروجين وأكسيجين ونتروجين ونحو ذلك، ويجب أن تكون هذه العناصر موزعة على الجسم بنسب معينة، إن زادت اختل، وإن نقصت اعتل، وكل خلية في الجسم وكل ذرة من ذراته يجب أن تؤدي واجبها وتأخذ - بقدر - غذاءها، وجميعها محكومة بقانون واحد لا تستطيع أن تثور عليه ولا أن تخرج عنه وإلا كان المرض وكان الهلاك.
وربما كان أعجب شيء في هذا الباب عمل القلب والرئة، فالقلب قوة كهربائية هائلة بل هو قوة فوق الكهربائية تعمل في استقبال الدم وتوزيعه، وتساعده الرئة بالتنفس في إصلاح الدم وتطهيره.
وفوق ما للقلب والرئة من عمل فيسيولوجي، لهما أيضا قوة روحية عجيبة أعظم من قوة الكهرباء تكون بها الحياة، وإلا كان تحريك القلب والرئة بالوسائل الصناعية وسيلة من وسائل مد الحياة، مع أن الحياة لا يمكن أن تمد بهذا العمل المادي الصناعي؛ لفقدان القوة الروحية العجيبة. وأيا ما كان؛ فالنظر في أعضاء الجسم ومكوناته العديدة يشعرنا بأنه يقوم بحركة موسيقية معقدة أتم التعقيد، لا تنسجم ولا ينبعث عنها الصوت الجميل إلا بشروط كثيرة قلما تتحقق؛ لأنها لا تتحقق إلا بتأدية آلاف مؤلفة من الخلايا وظائفها، أو بعبارة أخرى بتوقيع نغماتها على أكمل وجه وأتم تناسق.
وكما يجب التناسق بين أجزاء الجسم بعضها وبعض يجب التناسق بينها وبين بيئتها الخارجية من حر وبرد، ورطوبة وجفاف، وغذاء وملبس، ونحو ذلك، فإذا اختل هذا التناسق والتناغم اعتلت الصحة، وكل علمنا بوظائف الأعضاء وتكوين الجسم وما يحيط به من بيئة ليس له غرض إلا إيجاد هذا التناسق والانسجام.
فإذا نحن انتقلنا إلى بيان ضرورة التناسق بين الجسم والعقل والنفس فالأمر أصعب وأدق، فكثير من شقاء الناس يرجع إلى أن عقلهم لا يتناسق وجسمهم، أو أن نفسهم لا تتناغم مع أجسامهم، فكل من العقل والنفس والجسم تتفاعل وتكون موسيقى؛ قليلها منسجم، وكثيرها نشاز ، والخلق الفاضل والغرائز المحكومة والشهوات المعتدلة ليست إلا نتاجا لتناسق القوى وتناغم الملكات، والرذائل والغرائز الجامحة والشهوات العارمة ليست إلا نشازا في النغمات نشأ من فقدان التناسق؛ قد يعني الإنسان كل العناية بجسمه ويهمل عقله ونفسه، فتعلو نغمة الجسم وتهبط نغمة العقل والنفس فتفسد الموسيقى ويكون الشكل شكل إنسان والحقيقة حقيقة حيوان، وينعدم التناسق ويختل التوازن، وقد تعلو نغمة العقل وتضعف نغمة الجسم فيكون العكس، وفي كلتا الحالتين لا تناسق.
وبعد؛ فالعالم كله موسيقى ضخمة كبيرة هي أكثر تعقيدا من حياة الفرد؛ لأنها أكثر آلات وأوتارا ... آلات تمثل البدن وآلات تمثل العقل والروح، نغمات اقتصادية، ونغمات اجتماعية وسياسية، ونغمات فلسفية، ونغمات روحية، وما لا يحصى من عوامل منبثة في جميع أنحاء العالم، وكلها تعمل في تكوين الموسيقى العالمية، وتؤلف نغمات مختلفة تتجاوب وتتفاعل.
ومع الأسف لم تكن هذه الموسيقى يوما من الأيام متناسقة منسجمة، ولو حدث هذا يوما لكان أسعد الأيام وأمتعها، لو حدث هذا ما كان جوع بجانب تخمة، ولا نعيم بجانب شقاء، ولا استعمار، ولا رق، ولا إجرام دولي، ولا أمم كبيرة تنتهك حرمة أمم صغيرة، ولا سلاح، ولا حرب، ولا دسائس دولية، ولا مؤامرات أممية؛ لأن هذه الأمور كلها وأمثالها «نشاز» في موسيقى العالم.
إن هذا «النشاز» نشأ من طغيان بعض عناصر الحياة على البعض الآخر، كما يطغى في الموسيقى صوت الرق على صوت العود أو القانون.
إن عناصر الحياة ثلاثة: عنصر مادي يخدم الأبدان، وعنصر عقلي يخدم التفكير، وعنصر روحي يحيي النفس، وجمال الموسيقى في تعادلها وتناسقها، فلما طغى عنصر المادة في المدنية الحديثة على العنصرين الآخرين أفسد الحياة.
إن موسيقى المدنية الحديثة طنانة رنانة مقلقة للراحة مفسدة للذوق، ترتفع بعض آلاتها حتى تكاد تصم، وتخفت بعض آلاتها حتى لا تكاد تسمع، ومن أجل هذا فقدت تناغمها، فضاع جمالها.
تقدمت في الصناعة، ولكن صناعاتها ومخترعاتها كانت لخدمة البدن وما إليه فحسب.
والتعليم في أساسه موجه إلى النجاح المادي في الحياة، ومناهجه في الجغرافيا والتاريخ والرياضة واللغات وسائر مناهج الدراسة تهدف إلى النجاح في الوظيفة أو النجاح في العمل، والعقل ارتقى كثيرا عما كان عليه في القرون السابقة، ولكنه وضع لخدمة الحياة المادية أيضا لا لخدمة التعاون ولا لخدمة الإنسانية.
والأخلاق وجهت هذه الوجهة نفسها؛ فالصدق، والمحافظة على المواعيد، وتقويم الزمن، والثقة بالنفس، ونحو ذلك - وضعت في أعلى قائمة الأخلاق؛ لأنها أخلاق تجارية، أعني أنها تنفع في عالم التجارة وعالم الأعمال، أما الرحمة، والإنسانية، والعطف، والتعاون - فوضعت في أسفل القائمة بعد أن فسرت تفسيرا ماديا، وحسبك أن المدنية الحديثة إذا ربت طيارا مثلا علمته الشجاعة والإقدام والاستعداد لتضحية النفس في الحرب، ولكنها لا تعلمه تقدير حالة من يطلق عليهم القنابل ومن تصيبهم من غير المحاربين، ولا تعلمه أن يرعى الإنسانية كما يرعى القومية.
وهكذا اتجه العلم فنظر إلى المادة ولم ينظر إلى روحها، واستخدم فيما يفيد جسم الإنسان لا ما يفيد قلبه.
أصبح العالم في وضعه الحاضر كجسم اختل توازنه وانعدم تناسقه، فاتسعت إحدى عينيه وضاقت الأخرى، وطالت إحدى يديه وقصرت الأخرى، واستقامت إحدى رجليه وعرجت الأخرى، فكان مشوها يستخرج من الناظر النفور والاشمئزاز، وهذا هو سر ما يعانيه العالم من شقاء: خوف شامل، واستعداد لقتال هائل، واضطراب في نظم الحكم ليس له من قرار، وانقسام العالم إلى معسكرين أو معسكرات، تتهاجى وتتراشق بالتهم ويفر كل من تحمل المسئولية ليلقيها على غيره، وهكذا وهكذا من أنواع الشرور التي تهدد بالفناء، وتكاد تجعل موسيقى العالم كلها «نشازا».
ولا أمل - مطلقا - في صلاحه إلا إذا أصلحت من جديد آلاته، ونظمت أصواته، ونسقت نغماته.
عالم كذاب
ظلم الناس أبريل؛ إذ أضافوا إليه الكذب، فقالوا: «كذبة أبريل»، كأنه الكاذب وحده، أو كأن الكذب يقال في يوم من أيامه وحده، وكأن ما عداه من الأيام مظنة الصدق وقول الحق، مع أن كل الأيام في الكذب سواء، فكل الأيام كاذبة، وكل الأشهر كاذبة، لا يختلف فيها يوم عن يوم ولا شهر عن شهر، بل إن العالم كله كذب في كذب، أسس على الكذب وبني على الكذب، وكيف لا يكون هذا العالم كذابا، وقد خرج إلى الوجود بكذبة كذبها إبليس على آدم وحواء؛ إذ قال لآدم:
هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى * فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما ، ثم ظهر أنها لا هي شجرة الخلد، ولا هو ملك لا يبلى، إنما هي شجرة الكذب، وإنما هو الملك الفاني الزائل.
كل شيء في العالم كذاب، الدنيا نفسها خداعة كذابة، تتبهرج أمام الناس كما تتبهرج المرأة الخليعة، فتفتنهم عن مسلك الحق وعيشة الصدق، تغريهم بمفاتنها ومباهجها؛ حتى يركنوا إليها ويطمئنوا لها، كأنها خالدة وهم خالدون، وتصرفهم عن التفكير في المستقبل والمآل، فهؤلاء فتنوا بالمال ووجهوا كل حياتهم إليه، ينفقون في جمعه أعمارهم؛ يكسبونه ويدخرونه، أو يكسبونه وينفقونه، وهم يتحاربون من أجله، ويتخاصمون من أجله، ويتعادون من أجله، كأنه غاية الغايات في الحياة، وكأنهم خلقوا له، وعاشوا من أجله، هو تفكيرهم بالليل، وهمهم بالنهار، يبيعون من أجله الحق والشرف والخلق والصداقة، وكل هذا من خداع الدنيا لهم وكذبها عليهم، ثم ينتهي الأمر أخيرا إلى عجز أو شيخوخة أو مرض أو موت؛ حيث تنكشف الخديعة بعد فوات الأوان.
وهؤلاء آخرون يخدعون بالجاه، فيتكالبون عليه، ويتنازعون من أجله، ويضيعون مصالح الناس لكسبه، ويبذلون في سبيله الخلق والعزة والنبالة، ثم يستخدمونه في ذل الناس وإهانتهم واحتقارهم، وبعد ذلك كله ينجلي الأمر عن كذبة من كذب الدنيا، وخدعة من خدعها، فإذا كل ذلك هباء.
ومثل الذي قلنا في المال والجاه، نقول في مباهج المرأة وفتنتها، والخمر وشعشعتها، والميسر واستغوائه واستهوائه، فكل هذه لذائذ عارضة، تتزين بها الدنيا لتفتن بها العقول، وتخدع بها النفوس، ثم ينجلي الأمر بعد ذلك كله عن كذبة فادحة، أين منها كل أكاذيب أبريل؟! •••
فإذا نحن انتقلنا من الدنيا إلى أبناء الدنيا، وجدناهم كأمهم؛ رضعوا الكذب، ونشأوا في الكذب، وعاشوا في الكذب، هم كاذبون حتى بما يتزينون من ملابس، وإلا فلماذا زر الطربوش؟ ولماذا رباط الرقبة؟ ولماذا ثنية البنطلون؟ ولماذا الأزرار في جانب اليدين؟! وهم كاذبون في مأكلهم، فلماذا مظهر الكرم، وهو فوق المستطاع؟! والتباهي بالموائد، تقدم للأغنياء وتمنع عن ذوي الحاجات؟! ولماذا الإفراط في تعدد الأصناف، وهي فوق حاجة الجسم؟!
ثم ما هذا الكذب في كل مجتمع صغر أو كبر؟ فالبيت مملوء كذبا، يكذب الرجل على زوجته، والزوجة على زوجها، والأولاد على آبائهم في كل يوم وفي كل ساعة، إما كذبا بالقول أو كذبا بالفعل، ومصالح الحكومة مملوءة كذبا، رئيس يكذب على مرءوسيه، ومرءوسون يكذبون على رئيسهم، ورئيس ومرءوسون يكذبون على من اتصل بهم من أصحاب الحاجات، فكل مصلحة كأنها مصنع كذب، والمتاجر والمصانع كلها كذب في كذب، فمن أساس التجارة الإعلان الكاذب، والعرض الكاذب، والإيهام الكاذب، والأيمان الكاذبة، ويتبادل سوء الظن في المصانع العمال وأصحاب رءوس الأموال، كل فيها خادع ومخدوع.
ثم كل طائفة من الطوائف، وكل طبقة من طبقات الناس، لها كذبها في حرفتها ومهنتها، وسلوكها ومعاملاتها؛ حتى أصحاب الفضيلة ورجال الدين ووعاظ الأخلاق ومن نصبوا أنفسهم لمحاربة الرذيلة، إن أنت كشفت عن مظهرهم البراق، رأيت العجب العجاب، وما يحير الألباب؛ كالذي يقول المعري:
رويدك قد غررت وأنت حر
بصاحب حيلة يعظ النساء
يحرم فيكم الصهباء صبحا
ويشربها على عمد مساء
يقول لكم غدوت بلا كساء
وفي لذاتها رهن الكساء
وإن أنت نظرت إلى رجال السياسة، فالطامة الكبرى والمصيبة العظمى، فاللغة كاذبة؛ لا بأس عندهم أن يسموا الاحتلال انتدابا، بل لا بأس أن يسموه استقلالا، وأن يسموا القوة القاهرة المتغلبة «معاهدة على قدم المساواة»، ويسموا التوجيه بالقوة والقهر مجرد نصح وإشارة، والمستبد المالك للسلطان مستشارا، ولا بأس أن يضعوا المبادئ لتحكم القوي في الضعيف، ويسموها المبادئ العشرة أو ميثاق الأطلنطي، وأن يقولوا في الحرب ما ينقضونه في السلم، ولا بأس عندهم أن يضعوا المبادئ الجذابة والقوانين العادلة، فإذا هم طبقوها نسوا عدالتهم وذكروا ظلمهم، ولسنا ننسى في هذا المقام أفاعيل الأحزاب، وأكاذيب الزعماء والتكالب على الحكم، بدعوى إقامة العدل، وتضحية الجم الغفير من الناس لمصلحة زعيم من الزعماء، تحت ستار رفع الظلم ونصرة الحق ، وتلوين الحق بلون الباطل، والباطل بلون الحق، والنظر إلى الأشياء نظرة ضيقة متعصبة؛ حتى إن الشيء الواحد حق كل الحق إذا صدر من الحزب، وباطل كل البطلان إذا صدر من خصومه، كما لا ننسى كذب التاريخ السياسي مثل ما تكذب السياسة، فمؤرخو الألمان ينسبون سبب الحرب إلى خصومهم، وخصومهم ينسبونه إليهم، ثم هؤلاء وهؤلاء لا يتورعون عن أي كذب في سبيل الدعاية، وهم قادرون على أن يلونوا كل ما يخدمهم باللون الزاهي الجميل وكل ما يضرهم باللون القاتم الأسود. •••
وما بالنا نذهب بعيدا؛ والإنسان لا يكتفي بأن يكذب على غيره، بل هو شر ما يكون حين يكذب على نفسه، وكثيرا ما يكون ذلك، فهو يظلم الناس، ويظن أنه عادل، ويأتي بالشر، ويظن أنه يفعل الخير، ويفعل الفعل تدفعه إلى عمله مصلحة شخصية، ويظن أنه إنما يفعله للمصلحة العامة، وتصدر عنه أسوأ الأعمال فيلونها أمام نفسه بأنها خير الأعمال، فإن تنازل عن ذلك قليلا، واعترف بفعلته أنها جريمة، خلق لنفسه المعاذير أشكالا وألوانا ، وقلما ترى في هذا العالم شريرا يعتقد أنه شرير، أو مجرما يرى أنه مجرم، وهو إلى ذلك يحاول أن يسمي الأشياء بغير أسمائها، فيسمي الرشوة هدية، ويسمي التحايل مهارة، ويسمي ظلم الناس لمصلحة أقاربه أو أصدقائه قدرة على النفع ... حتى الأدباء سموا كذب الشعراء خيالا، والمغالاة في التشبيه مبالغة، وهكذا مما لا يحصى ولا يعد. •••
إن كانت الدنيا تكذب، وكل طائفة تكذب، وكل إنسان يكذب، والعالم كله يكذب، فأين الصدق؟! إن هذا العالم عالم كذاب، بني ما فيه على الكذب؛ حتى لو استطاع إنسان أن يصدق في كل شئونه مع الناس ومع نفسه لعاش غريبا ومات غريبا، ولو تصورنا عالما صادقا كل الصدق لكان عالما مخالفا لعالمنا كل المخالفة، لا يمت إلى عالمنا هذا بسبب، فليست المسألة مسألة كذبة أبريل، بل العالم كله أبريل.
كن سيدا ولا تكن عبدا
أما العربي الأول فقال:
العبد يقرع بالعصا
والحر تكفيه الإشارة
يريد أن العبد جامد الحس، غليظ الطبع، لا يمعل ما يعمل أو يترك ما يترك إلا خوفا من العصا، أما الحر أو السيد فرقيق الحس، لطيف الطبع، يكفيه وحي الضمير، أو اللمحة الخاطفة، أو الإشارة العابرة.
ولو ترجمنا هذا إلى التعبير الحديث لقلنا: إن العبد يعبد القوة ولا يعبد إلا القوة، وإن السيد يخضع للواجب ولا يخضع إلا للواجب.
قد يكون كل يقدس القوة ويخضع لها، ولكن العبد لا يفهم إلا القوة المادية المرموز لها بالعصا، والسيد يخضع لقوة المعاني وقوة الضمير المرموز إليها بالإشارة. •••
يروون أن أبا محجن الثقفي كان يهدد بالجلد إذا شرب الخمر فشربها، فلما عفي عنه تركها؛ لأنه أبى أن يطيع العصا كما يطيع العبد، فلما أمن العصا أنصت لصوت الضمير؛ لأنه سيد.
احتفظ بهذا المعنى، وتعال معي نجل في الأمم؛ لنعلم أيها يتخلق بأخلاق السادة، وأيها بأخلاق العبيد ... فإن رأيت الموظف تكدس أمامه الأوراق تشتمل على مصالح الناس، فإن علم أن ورقة منها تتصل بغني من الأغنياء، أو باشا من الباشوات، أو رئيس من الرؤساء، أو زميل له يبادله الرجاء نفذها في سرعة البرق، وإن كانت لفقير من الفقراء، أو ضعيف من الضعفاء، أو لمن لا حسب له ولا نسب، أهملها وتركها تتراكم عليها الأتربة ... وتنسى في الأدراج حتى يمل صاحبها فييأس، ويفوض أمره إلى المنتقم الجبار ... فهذه أخلاق عبيد لا أخلاق سادة.
وإن رأيت النبيل يسمو فوق القانون فلا تعد مخالفته مخالفة ولا إجرامه إجراما، وإذا جرؤ أحد على سؤاله عما ارتكب، عد قليل الأدب فاقد الذوق، وقد يهان أو يعاقب؛ لأنه تجاوز حده؛ فتجرأ أن سأل النبيل كيف خالف القانون؟!
أو رأيت الغني أو الوجيه يسكن بيتا في شارع؛ فسرعان ما يرصف له الشارع، ويضاء بالكهرباء، ويمد بيته بالتليفون، وتقوم له الدنيا وتقعد، وتسكن أسر وأسر من الفقراء في حي من الأحياء فلا يعنى بحاراتهم، ولا تكنس، ولا ترش، ولا تضاء، وتفتك بهم الأمراض فلا يلتفت أحد إليهم.
وإذا رأيت الغني يتبرع بالألف أو الألوف من ماله للمدير أو الأمير، ولا يتبرع بالدرهم الواحد للفقير إذا لم يتدخل بينهما عظيم، فهو لا يؤمن بخير مستشفى أو ملجأ أو مدرسة أو جمعية خيرية أو مسجد لله، ولكنه يؤمن فقط بسلطة المدير أو الوزير أو الوجيه.
أو رأيت الموظف الصغير يذل ذلا لا حد له أمام الموظف الكبير، ثم هو يطغى أشد طغيان على ذوي المصالح من الجماهير، كالشرطي أذل ما يكون أمام ضابطه، وأقسى ما يكون على الباعة في دائرته، أو كالموظف تدخل عليه تسأله في شأن من شئونك الموكولة إليه، فإن لم يعرفك تجهم لك ونأى بجانبه عنك، ورد - إن رد - في غلظة وجفاء، فإن عرف أنك ذو جاه بلقب أو وظيفة أو ثروة تحول من النقيض، فبش في وجهك، وتظرف في حديثه، وقدم لك سيجارة وقهوة، واعتذر لك؛ لأنه لم يكن يعرفك، كأنه ليس واجبا عليه أن يؤدي عمله إلا لمن يعرفه.
أو رأيت البيت تحت سيطرة مستبد، وسائر من في البيت لا إرادة لهم؛ فإما أن يقوى الرجل فيطغى؛ ولا أمر إلا أمره، ولا نهي إلا نهيه، وإما أن تقوى المرأة فمعاذ الله من سلطانها.
أو رأيت أهلها تخيفهم وتهينهم فيخضعون، وتكرمهم فيتمردون، والناس فيها أحد رجلين: رجل لم يتمكن فيتمسكن؛ فهو ذليل مراء منافق متملق، ورجل تمكن فتجبر؛ فلا قول إلا قوله ولا رأي إلا رأيه.
أو رأيت مجالسها وهيآتها تتخذ شكل الشورى ولا شورى، فأغلبية وأقلية وأخذ أصوات وسماع بيانات؛ وذلك في الظاهر لا الباطن، وإنما تعمل ما تعمل بالوحي الخارجي لا بالوحي الذاتي.
أو رأيت ميزانيتها تؤسس إيراداتها ومصروفاتها على رعاية ذوي الجاه دون عديمي الجاه، وعلى الإسراف في الكماليات قبل استيفاء الحاجيات.
إن رأيت هذا في أمة؛ فاعلم أن أخلاقها أخلاق عبيد لا أخلاق سادة. •••
أما إن رأيت الأمة يسود فيها اعتقاد كل فرد بأنه مثل كل فرد آخر له حقوقه وعليه واجباته، إن اختلفوا في الفقر والغنى، أو اختلفوا بين مرءوس ورئيس، أو اختلفوا في الحرف والمهن، أو اختلفوا في الألقاب، فلم يختلفوا في أنهم ناس؛ لكل حريته، ولكل حقه في الحياة، ولكل حقه في ضروريات العيش، ولكل حقه في أن يحترم، وكلهم أمام القانون سواء، وأمام الموظفين سواء، وكلهم في نظر العدالة سواء، مصالحهم المعقولة مقضية، وأوراقهم أمام الموظف مرتبة حسب دورها لا حسب وجاهة أصحابها؛ فهم في الحياة كفرقة التمثيل، قد يمثل أحدها فقيرا، وقد يمثل أحدها أميرا، ولكن كل يقدر في التمثيل حسبما أجاد؛ لا حسب الموقف الذي مثله، وكلهم أمام رئيس الفرقة إنسان له حقوقه وعليه واجباته.
ورأيت الناس فيها يقدرون بأعمالهم لا بمظاهرهم، وبكفاياتهم لا بأقاربهم ولا بأنسابهم، وبحقيقتهم لا بتهويشهم، والرأي فيها يوزن بحقيقته لا بمن قاله، والقوي الذي أجرم ضعيف أمام القانون حتى ينتصف منه، والضعيف الذي اعتدى عليه قوي حتى يعطى حقه.
ورأيت الناس فيها يؤدون واجبهم لضميرهم لا لخوفهم أو طمعهم، يتبرع الأغنياء للمستشفيات أو الملاجئ أو الجمعيات الخيرية؛ إرضاء لشعورهم لا لمديرهم، ورفقا بالناس لا خوفا من أولي البأس.
ورأيت حب الشورى ونظام الشورى يجري في دمائهم ؛ فالبيت برلمان صغير لا يستأثر بالسلطة فيه رجل ولا امرأة، والمجالس والهيئات كذلك لا يستبد بها الرئيس، ولا توحى فيها الآراء والقرارات من وراء ستار، والبرلمان برلمان حق تصدر فيه الآراء عن بحث ودرس واقتناع، أسخط السلطة التنفيذية أو أرضاها، نقم عليه الرأي العام أو صفق له.
إن رأيت هذا في الأمة فأخلاقها أخلاق سادة لا أخلاق عبيد. •••
العبد لا يعمل إلا بالخوف، والسيد لا يعمل إلا بالرغبة، العبد لا يتحمل المسئولية؛ لأنها تتطلب الشجاعة، والسيد يتحمل المسئولية ويسعى لتحملها؛ لأنها توافق رجولته، الحكومة في نظر العبد جبروت، وفي نظر السيد مشرفة، السلطات في نظر العبد مفزعة مرهبة، وفي نظر السيد موجهة مرشدة، فإن عدت طورها استحقت عزلها. •••
ولكن هل في الإمكان تحويل العبيد إلى سادة، وأخلاق العبيد إلى أخلاق سادة؟
هذا السؤال هو بعينه سؤال هل تتغير الأخلاق؟ ونحن إذا غضضنا النظر عن النظريات الفسلفية في ذلك، ونظرنا إلى الواقع المحسوس وجدنا الإجابة عن هذا السؤال واضحة جلية؛ فالأخلاق في تغير مستمر سواء في ذلك أخلاق الأفراد أو الأسر أو الأمم، فكم رأينا من أفراد كانوا سادة؛ ثم صاروا عبيدا، وبالعكس! وكم من أسر كانت نبيلة ثم صارت خسيسة وضيعة، والعكس! وكانت الرومان - مثلا - سيدة عزيزة يوم كانت تعمل للمجد وتخلق الزعماء وقادة الجيوش والقانون ونحو ذلك، ثم أخلدوا إلى الراحة وأسرفوا في الترف وتركوا الأعمال للأرقاء، فذلوا وغلبت عليهم أخلاق العبيد، وهكذا نرى كل يوم أمثالا من سادة ذلوا، أو أذلة عزوا.
وشواهد التاريخ تدلنا على أن أكبر ما تمنى به السيادة الفقر والجهل؛ فهما إذا سلطا على فرد أو أسرة أو أمة - من ظلم حكامها - هدما سيادتها وحولاها إلى كلب ذليل؛ حتى إذا أيسرت بعد الفقر، وعلمت بعد الجهل، أخذت الحياة تدب فيها، والعزة تتمشى في مفاصلها، ومخايل السيادة تبدو عليها، فمن أراد السيادة فليسلك طريقها.
لو عاد موسى وعيسى ومحمد
يحكى أن موسى وعيسى ومحمدا - عليهم السلام - تواعدوا أن ينزلوا إلى الأرض؛ ليروا أممهم، ماذا صنعوا بتعاليمهم، وكيف اتبعوا أوامرهم ونواهيهم، وكيف أثر فيها الزمان وأحداث الأيام، ورسموا خطة: أن يختار كل منهم دليلا يطوف معه في أهم الأصقاع التي يسكنها قومه، ويوضح له خصائصهم ومسالكهم في الحياة وتقلبهم في شئونها؛ حتى إذا أتموا رحلتهم اجتمعوا في «بيت المقدس»؛ ليقرروا ما يعملون فيما سيعلمون.
فأما موسى - عليه السلام - فصحبه دليل يهودي عليم خبير ... طوف به في أوربا وأمريكا، وأطلعه على براعة قومه في المال وجمعه واسغلاله، كيف يقرضون وكيف يرابون وكيف يؤسسون البنوك، وكيف يستولون بواسطتها على الصناعة والتجارة، وكيف يقبضون على زمام الأمور في الأمم عن طريق المال؛ لأنه عصب الحياة، وكيف أن لهم في كل شركة إصبعا، وفي كل مؤسسة مالية أو تجارية أو صناعية يدا؛ حتى إن لهم في كل الشعوب التي يحتلونها أطايب الكسب، وأعاظم الربح، وليس للشعوب إلا ما يتبقى بعد شبعهم، وما يفيض بعد أن تمتلئ أيديهم.
وقال: إن قومي متواضعون لم يترفعوا عن أية مهنة، ولم يتكبروا على أية صناعة، فأي شيء يدر المال مجال نشاطنا ومبعث همتنا، وبذلك سدنا وسيطرنا ... حتى كان لنا في أمريكا شارع تجاري يسيطر على أمريكا الشمالية والجنوبية كلها، وحتى كان منا ستة ملايين فيها يسيطرون على مئة وأربعين مليونا، وقد وجهنا عناية خاصة إلى الصحافة والسيطرة على كثير منها حتى يكون الرأي العام في قبضة أيدينا ما أمكننا، وأعددنا سجلا في كل مملكة لعظماء الرجال ندون فيه موضع قوتهم وموضع ضعفهم لنستغل ذلك أحسن استغلال إذا دعت الحال، فمن كانت أمنيته الانتخاب هددناه ومنيناه، ومن كانت أمنيته غير ذلك فغير ذلك؛ سيرا على مبدأ «إن الغاية تبرر الوسيلة». ومن أجل ذلك عظم سلطاننا في الدول؛ فمنهم من غار منا فانتقم ... ومنهم من كرهنا وكتم، ونحن لا نعبأ بحبهم أو كرههم ما دمنا نحسن استغلالهم.
قال «الدليل» ذلك كله لموسى - عليه السلام - بلهجة المزهو المفتخر الذي يستخرج إعجاب سامعه ... فسكت موسى ولم يقل شيئا ولم يبد سخطا ولا إعجابا، وكل ما يذكره الراوي أن الدليل مرة أرى موسى بنكا؛ فسأله موسى: أين المعبد؟ وشرح الدليل مرة نجاحهم في أساليب السياسة، فسأله موسى عن وجه الحق فيها، وعلى الجملة فقد تكلم الدليل عن الأرض فسأله موسى عن السماء.
وطار إلى فلسطين، فأراه الدليل نشاط اليهود في إعادة دولة سليمان، وكيف استخدم قومه نفوذهم وجاههم ومالهم؛ لتأسيس هذه الدولة، وكيف حاولوا حمل الدول على الاعتراف بالتقسيم، وسيتلوه الامتداد شرقا وغربا وشمالا وجنوبا حتى يعود لنا ملكنا القديم ونسيطر على العالم أجمع، وهنا لم يستطع موسى أن يكتم اشمئزازه وغيظه، فيدوي اسمكم - يا سيدي - في كل مكان، وأراه مدينة تل أبيب وشرح له كيف شيدت، ثم ختم رحلته معه ببيت المقدس، ولم يزد موسى على أن قال:
آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا . •••
وأما عيسى - عليه السلام - فقد حار دليله قبل مجيئه ماذا يريه، فعقد لذلك مؤتمرا من أقطاب النصارى ظل منعقدا أسبوعا، وأخيرا قر الرأي على أن يكون البرنامج إطلاعه - عليه السلام - على المدنية الغربية ممثلة في نواحيها المختلفة؛ لأنها وليدة النصرانية كما أن النصرانية وليدة عيسى، فأراه الدليل المدنية بعنصريها المادي والمعنوي من آلات وصناعات ومخترعات، ومن علوم وفلسفات، ومن نظم الحكم في شتى أشكالها، وأساليب التربية في مختلف وسائلها، وأراه المدارس والجامعات والبرلمانات، وشرح له كيف أن النصرانية الآن تتوزعها الشيوعية والديمقراطية بعد أن قضت على النصرانية النازية، وأن الخلاف بين النصرانية الشيوعية والنصرانية الديمقراطية قد بلغ في هذه الأيام أقصى حده؛ حتى ليوشك أن تقع بينهما حرب تقضي على العالم.
وبهذه المناسبة أراه معرضا للآلات الحربية من القرون الوسطى إلى اليوم ... من السيف والخنجر والدرع وما إليها، إلى المدافع القنابل وما إليها، إلى الطيارات والغواصات والدبابات والصاروخات وما إليها، إلى القنابل الذرية وما إليها، فقال عيسى - عليه السلام - عند خروجه من المعرض: «مرحى مرحى» ولم يتبين الدليل جيدا، أقالها معجبا أم قالها متهكما؟ لأن نغمتها كانت بين بين، ثم قال الدليل: «إننا يا مولاي بفضل هذه المدنية سدنا العالم وحكمنا الشرق والغرب ... فكل الأمم أتباعنا وكل الأديان خاضعة لنا» وأخيرا طار به إلى «بيت المقدس» فأحب أن يزور أماكنه الأولى أيام كان على الأرض حتى يأتي موعد الاجتماع. •••
وأما محمد عليه السلام فأطلعه دليله على العالم الإسلامي، من تركيا وفارس والهند والعراق والشام ومصر والحجاز إلخ ... وأراه خريطة تدل على اتساع رقعة الممالك الإسلامية في أزهى عصورها، كما أطلعه على المدنية الإسلامية في أوج عزتها من أبنية فخمة، وآثار ضخمة، وفنون رائعة، وعلوم واسعة، وأراه المكتبات وأراه ما أنتجته عقول المسلمين من آراء وأفكار، وكيف سادوا العالم في أيام عزهم، وكيف تقدموا الغرب إذ ذاك فكانوا أساتذته في العلوم والفنون والصناعات حتى كانت حضارتهم أساسا لما بني عليها من حضارات غيرهم.
وكان ماهرا؛ إذ اختار شخصا يعد - بحق - نموذجا للمسلم في العصر الحاضر، وأخذ يحلله لمحمد - عليه السلام - ويشرح له أخلاقه وعقائده ونفسيته شرحا واسعا مستفيضا؛ حتى كأنه في شرحه له، وتحليله لعقائده، قد شرح له حال المسلمين جميعا .
ثم طار به إلى فلسطين؛ حيث أراه النزاع الدائر بين العرب والصهيونيين، وموقف أوربا وأمريكا إزاء هؤلاء وهؤلاء، وأخيرا وصلا إلى بيت المقدس. •••
قال الراوي: «إن الثلاثة - عليهم السلام - اجتمعوا عند الصخرة في بيت المقدس يتداولون بينهم فيما شاهدوا، وما يجب أن يعملوا».
محمد : «لقد رأيت عيب أمتي: إنهم ينظرون إلى ماضيهم أكثر مما ينظرون إلى حاضرهم».
عيسى : «ورأيت عيب أمتي: إنهم ينظرون إلى حاضرهم أكثر مما ينظرون إلى ماضيهم؛ حيث منبع ديانتهم».
موسى : «ورأيت عيب أمتي: إنهم ينظرون إلى جيوبهم أكثر مما ينظرون إلى قلوبهم».
محمد : «ورأيت عيب قومي: إنهم بالغوا في الروحانيات حتى مزجوها بالأوهام والخرافات».
عيسى : «أما عيب قومي: فإنهم أفرطوا في الماديات وأهملوا الروحانيات».
موسى : «وعيب قومي أنهم أخضعوا الروحانيات للماديات، وأخضعوا الماديات للشيكات».
محمد : «وعيب قومي أنهم نسوا
وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ...».
عيسى : «وعيب قومي أنهم بالغوا في الإعداد للقوة؛ حتى صارت موضع الضعف في الحضارة النصرانية».
موسى : «وعيب قومي أنهم فسروا القوة التي يعدونها بكل الوسائل؛ حتى ما كان منها خسيسا وضيعا».
محمد : «وعيب قومي أنهم عددوا الآلهة من جاه وسلطان وحكام، ونسوا أساس الدين وهو لا إله إلا الله».
عيسى وموسى : «ذلك شأن أممنا جميعا».
عيسى : «وهل نعود إلى الأرض نجاهد من جديد؛ لنملأها عدلا كما ملئت جورا؟»
محمد : «قد كان ذلك والناس في غفلة من أمرهم، والحق يعمى عليهم، أما وقد بينا الحق، وتكفل الله أن يحفظه إلى اليوم وبعد اليوم، ونضج عقل الناس، ولكن أعمتهم شهواتهم، فلا سبيل إلا أن يتركوا وشأنهم، يتعلمون السعادة من الشقاء، ويعرفون فضل الجنة بعذاب النار، إن للناس قلوبا ولكن لا يفقهون بها، وعيونا ولكن لا يبصرون بها، وآذانا ولكن يسمعون بها، فليجنوا ثمرة عماهم وصممهم وجحود قلوبهم؛ حتى يستفيقوا من غفلتهم، وماذا نعمل أكثر مما عملنا، وكتب الله بينهم، وعقولهم في رءوسهم، وأفئدتهم بين جنوبهم؟
إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا .
وأمن موسى وعيسى على هذا الرأي، وقالوا جميعا: «إلى السماء».
السينما والشباب
أصبحت السينما في المدنية الحديثة إحدى الدعائم الثلاث التي تكون الرأي العام وتوجهه، وتثقف الشعوب وتغذي عواطفها وتسليها؛ وهي: الصحافة، والإذاعة، والسينما.
وقد أحصى بعض علماء الأمريكيين - وهم المولعون بالإحصاء - دور السينما في العالم سنة 1940 فكانت نحو سبعين ألف دار، منها نحو 29٪ في أمريكا وحدها، وجاء في الإحصاء أن الأمريكيين الذين يغشون هذه الدور بين ستين مليونا وثمانين مليونا في الأسبوع، ومن هؤلاء من يغشونها أكثر من مرة، وأمعنوا في الإحصاء فأحصوا من كان منهم في سن الطفولة والمراهقة، ومن كان في سن الشباب ومن هم فوق ذلك، وحسبنا هذا دليلا على أثر السينما في الشعوب وأهميتها في حياة الناس.
وقد زاد أثرها بتحولها من سينما صامتة إلى سينما ناطقة؛ فقد كانت وهي صامتة تقصر عن عرض بعض العواطف والمعاني الدقيقة فيستعاض عن ذلك بالمبالغات في التمثيل، فلما تحولت إلى ناطقة استكلمت هذا النقص، وكانت وهي صامتة تؤدي المعاني وتغذي العواطف عن طريق النظر وحده، فأصبحت تفعل ذلك عن طريق السمع والبصر جميعا. •••
فإذا نحن نظرنا إلى السينما من حيث موضوعاتها وجدناها تنقسم إلى قسمين كبيرين: قسم يقصد منه التسلية على اختلاف ألوانها وأشكالها. وقسم ثقافي؛ ويشمل الأنباء والأخبار والموضوعات العلمية من زراعية واقتصادية، والموضوعات التاريخية لعرض الحوادث والأبطال، وهكذا.
ولو عدنا إلى الإحصاء أيضا، وجدنا أن الأغلبية الساحقة هي من القسم الأول؛ فقد زادت عن 90٪، منها 25٪ فلما لعرض الجرائم، و45٪ للعلاقات الجنسية، و16٪ كوميديا مضحكة، وباقيها أفلام حرب، وموضوعات أطفال.
ومن الإنصاف أن نقرر أن هذا الإحصاء وهذه النسب كانت قبل الحرب الأخيرة، والزمن يعمل في السينما عملا سريعا كسرعته، عجيبا كطبيعته، فالموضوعات التي يقبل عليها الجمهور اليوم يعرض عنها غدا، وعواطف الناس تختلف أيام السلم عنها أيام الحرب، وهي في البيئة الديموقراطية، غيرها في البيئة النازية أو الشيوعية وهكذا.
ولعل الموضوع المستقر الخالد الذي لا يعتري الناس منه ملل أو ضجر في كل الأزمنة وكل الأمكنة، هو موضوع «الحب»، فشاب قابل شابة، وشابة قابلت شابا فكان بينهما من العلاقات ما يسمى حبا، وتكونت حول هذه العلاقة هالة من خيالات وأوهام ووصل وهجر وانتقام، فهذا هو الموضوع الخالد من عهد آدم وحواء إلى عهد الأفلام الصامتة والناطقة، والإقبال عليه لا ينقطع، ومناظره لا تمل، في سلم أو حرب، وفي نظام ديمقراطي أو شيوعي.
والنقطة الهامة التي يتوقعها القارئ هي أثر السينما في أخلاق الشباب، وهل نشجع السينما أو نقاومها؟
لقد وجه كثير من مدارس علم النفس بحثه إلى هذا الموضوع يدرسه علميا كما تدرس المواد في معامل الطبيعة والكمياء، واتبعت كل مدرسة منهجها الخاص بها، درست مدرسة أثر السينما في نوم النظارة مع اختلاف أسنانهم أطفالا وشبابا وكهولا، ولاحظتهم في نومهم عقب رؤيتهم روايات مختلفة الموضوع، فشاهدت حركات غير عادية من بعض، وأرقا من بعض، وتأثر البعض بموضوعات دون بعض.
واعتمدت مدرسة أخرى على استكتاب بعض طلبة الجامعات تقارير عن حالتهم عقب رؤية الأفلام، وهكذا مما يطول شرحه.
ودرست مدرسة أخرى أثر السينما في أخلاق الشبان في بعض الجامعات، وقارنت بين الطلبة الذين يذهبون إلى السينما ثلاث مرات في الأسبوع، والطلبة الذين يذهبون مرتين في الشهر أو أقل، فرأت أن الأولين أميل إلى مشاهدة الرقص ودور الملاهي، والآخرين أميل إلى الجد في دروسهم، وأن الأولين أميل إلى أن يكونوا مغامرين ورجال أعمال، والآخرين أميل إلى أن يكونوا أطباء ومدرسين ونحو ذلك.
وقد اتخذ بعض رجال الأخلاق ورجال الدين - في كل الأمم - ذلك ذريعة إلى الطعن في السينما والتشهير بها، وذكروا أمثلة كثيرة من شبان تعلموا الإجرام من قصص السينما الإجرامية، وشبان تعلموا المغازلة من روايات السينما الغرامية، وأن السينما كانت مدرسة سيئة لكثير من الشبان والشابات، تعلم فيها كل صنوف الشرور، فهي تثير الغرائز الكامنة، وتفجر الغرائز المكبوتة، وتعلم وسائل الشر لمن يريد الشر ولا يعرف وسائله، ونحو ذلك.
ولكن ما هكذا توزن الأمور وتقدر ويحكم عليها، إن مثل من يقول هذا كمثل من يقترح إلغاء السكك الحديدية؛ لأن القطارات تدوس بعض الناس، ويغلق الجرائد والمجلات؛ لأن منها ما يتهجم على الأعراض ويقذف الأبرياء، أو يقترح أن يسلب الناس حريتهم؛ لأن بعضهم منح الحرية فأساء استعمالها، وهكذا. إنما يقوم الشيء بخيره وشره معا، ومنافعه ومضاره جميعا، وأي شيء في الدنيا خلا من عيب؟ •••
لا يصح أن ننسى أن السينما مدرسة ثقافية بما تنشر من أفلام اقتصادية وزراعية وصحية ونحو ذلك، حتى أفلام التسلية والترفيه لا تخلو من ثقافة فنية وأدبية، أو على الأقل معرفة بما يجري في العالم من شئون اجتماعية، وربما فعل فيلم اقتصادي أو زراعي أو صحي ما لم تفعله المدارس، فإن أساءت الأفلام أحيانا، فكما تسيء المدارس ببعض تعاليمها أحيانا.
والمقاييس الأخلاقية التي قام بها بعض علماء النفس - والتي أشرنا إليها من قبل - ليست دقيقة ولا متناولة جميع النواحي، قد يكون حقا أن الطلبة الذين يذهبون إلى السينما ثلاث مرات في الأسبوع أسوأ خلقا، وأقل في الحياة جدا، ولكن هل هذا بتأثير ذهابهم إلى السينما ثلاث مرات، أو أنهم يذهبون ثلاث مرات إلى السينما لأنهم أسوأ خلقا وأميل إلى اللهو؟ فالحق أن السينما تعكس ما عند الإنسان من غرائز وميول وشذوذ واتجاهات، أكثر مما تكون خالقة لها، ومصدرا لتكوينها، بدليل أن الفيلم الواحد قد يؤثر في متفرج أثرا سيئا جدا ويؤثر في زميله الذي يجلس بجانبه أثرا صالحا جدا.
ومن يك ذا فم مر مريض
يجد مرا به الماء الزلالا
والمغني يغني وكل يبكي على ليلاه.
ولسنا ننكر مع هذا ما للسينما من أثر صالح أو فاسد، فكم رسمت للشبان مثلهم الأعلى في الطموح إلى حياة البذخ والترف والنعيم، ورسمت لآخرين حياة الجد والنجاح في العمل، وللمستعدين للإجرام مغامرات المجرمين! وكم رسمت للفتاة صورة جميلة لحياة زوجية سعيدة، وخففت عن نفسها ألم العزلة والفراغ، أو صورت لها أن تكون يوما من الأيام بطلة لقصة غرام! وهكذا، ولكن مثل السينما في ذلك مثل الجرائد والمجلات، تقول الحق والباطل وتوجه التوجيه الصالح والفاسد، ومثل الإذاعة تقص القصة النافعة والضارة، وتذيع الأغاني الحلوة والمرة. •••
إن الإذاعة والسينما والصحافة في كل أمة انعكاس لثقافتها وعقليتها وأخلاقها وذوقها الفني، وهي كلها نتيجة لأحداث الأمة، ونتيجة للمخترعات والمكتشفات، ونتيجة لما يحدث للأمة من تطورات اجتماعية، فهي أقرب أن تعد نتيجة لعوامل، من أن تعد عاملا من العوامل، أو هي كما يقول الفلاسفة قابلة أكثر منها فاعلة، ولكنها لا تخلو من أثر فعال وتوجيه قوي.
من أجل هذا - أعني ما لها من أثر فعال - يجب على الحكومة مراقبتها؛ فقد تصلح أفلام لسن دون سن، وقد تصلح في ظروف دون أخرى، وقد تدعو إلى التهتك، وقد تدعو إلى هدم ما هو عزيز على الأمة من دين وقومية إلخ.
ثم إن كانت الحكومة يقظة راقبتها من ناحية أخرى، وهي ناحية تعادل موضوعات الأفلام، فلا تكون كلها غراما بحتا أو غراما وإجراما، بل لا بد أن تغذى بمقدار معقول من الثقافة؛ وبعض البلاد الراقية اشترطت على كل دار من دور السينما أن تعرض في كل مرة فيلما ثقافيا يستغرق عشر دقائق على الأقل.
إننا نراقبها كما نراقب الفاكهة تأتي من الخارج؛ فقد تكون متعفنة أو ملوثة، ونراقبها كما نراقب النقود في الداخل فقد تكون مزيفة.
هل يشيخ الأديب؟
نعم؛ كل شيء - متى عاش - يشيخ ... حتى الجبال في صلابتها، والأشجار في ضخامتها، والفيلة في جسامتها، والأسود في قوتها.
ولكن يختلف الأفراد في لبس ثياب الشيخوخة؛ فمن الشباب من يسرع به ضعفه فيرتديها، ومن الشيوخ من يحتفظ بنضارته وفتوته فيصارع الشيخوخة زمانا يطول أو يقصر، ثم يضطر إلى لبسها رغم أنفه، وفي ذلك يقول الشاعر:
يا عز هل لك في شيخ فتى أبدا
وقد يكون شباب غير فتيان؟
ومن أظهر صفات الشيخوخة ضعف الحيوية، وهذا الضعف يعرض لكثير من الألم والضجر والقلق، واستعظام المشاكل ولو كانت صغيرة، واستكبار الأمور ولو كانت تافهة، قد لا يجد الشاب مالا ينفقه، ولا ثوبا يتجمل به، ولا مسكنا يريحه ... ثم قد يجد من مشاكل الحياة ما يتعب أو يضني، ولكن حيويته تهزأ بذلك كله، وتسعد في الشقاء، وتنعم في الجحيم، وتضحك الضحكة العالية من أعماق القلب، ولو لم يجد صاحبها ما يسد رمقه، ويحجز له محلا في «مغنى» ولو لم يكن يملك إلا ثمن التذكرة، أما الشيخ فليس عنده هذا التعويض من الحيوية، ومن أجل هذا يؤلمه الحرمان ويقدر المال أكثر مما يقدره الشاب، ويزيد حرصه عليه، لشعوره بحاجته الشديدة إلى ما يوفر عليه الراحة، وظنه أن المال يحقق له هذه المطالب حاضرا أو مستقبلا.
وحيوية الشباب تجعله مرنا، يواجه الأحداث المختلفة، ويلون نفسه الألوان المناسبة لها، يستطيع أن يتقلب مع الغنى والفقر، والوصل والهجر، والأمل واليأس، والصحة والمرض، من غير أن يذل لها أو يستكين لسلطانها، فهو رافع الرأس ما دامت حيويته، متفتح النفس ما احتفظ بشبابه ... أما الشيخ فقد تحجرت عاداته وتقاليده، وأصبح يعيش على تجارب الماضي من غير أن تؤثر فيه تجارب جديدة، وتحجرت آراؤه وأفكاره ومذاهبه الدينية والسياسية والاجتماعية، فهو لا يقبل تشكلا جديدا ... كالطينة جف ماؤها فتصلبت مادتها، فإن حاولت تجديد شكلها وتغيير صورتها كسرت في يدك، ولم تعد تصلح لقديم أو جديد.
وأخيرا، أن حيوية الشباب تقاوم الخوف وتصده، ومن أجل هذا كان كثير المغامرة والمخاطرة، يغامر بنفسه في الألعاب الرياضية والرحلات الشاقة الخطيرة، ويقدم على الأعمال التي قد تودي بحياته، ويغامر بماله فيدخل في الصفقات التجارية التي قد ترفعه أعلى عليين أو تهبط به أسفل سافلين؛ على حين أن الشيخ - لضعف حيويته - ينهزم أمام الخوف، لا يغامر ولا يخاطر، كثير الحذر، يخاف الفقر؛ لأنه ليس له من الحيوية ما يستطيع به أن يعوضه، وهو يحسب ألف حساب للمستقبل، ويخاف الموت لإحساسه قرب أجله، ولشعوره بغموض مآله، ويخاف كل مشكلة؛ لأنه لا يأنس من نفسه القوة على حلها، وعلى الجملة، فالخوف يهاجمه من كل جانب، وكثيرا ما يفترسه. •••
ومن حسن الحظ أن الشيخوخة لا تنال قوى الإنسان وملكاته وحواسه في زمن واحد ولا دفعة واحدة ولا بنسب واحدة، ولا تحرم الإنسان لذائذه في الحياة جملة، فبعض الحواس والقوى أسرع إلى الشيخوخة من بعض، وبعض اللذائذ أسرع إلى الاختفاء والزوال من بعض، لقد صدق «معاوية بن أبي سفيان»؛ إذ وصف نفسه - بعد أن استمتع بكثير من لذائذ الحياة - بأنه لم يبق له في شيخوخته منها إلا الاستمتاع بالحديث الطيب.
ومن المشاهد أن اللذائذ العقلية والروحية والفنية أبقى زمنا، وصاحبها أطول استمتاعا، وقواها وملكاتها أبطأ شيخوخة، كل لذة مادية - إن صح هذا التعبير - لها حد ضئيل، إذا تجاوزته تقززت منه النفس وانقلب ألما ... كلذة الأكل والشرب وما إلى ذلك، وقد يتطلب الإنسان أقل منها شأنا؛ فرارا من تكرارها، كما تطلب اليهود العدس والبصل؛ فرارا من المن والسلوى، وكما يتطلب بعض المسرفين على أنفسهم في لذائذ المدنية الحديثة الفرار منها إلى المعيشة البسيطة في الصحراء أو الأديرة أو الأماكن المهجورة ... وهذه اللذائذ هي أقرب ما تعدو عليه الشيخوخة.
وليست كذلك اللذائذ العقلية والروحية والفنية؛ فالفيلسوف، والرجل الروحي، والفنان؛ من أديب، أو موسيقي، أو مصور، أو نحات يستطيع أن يستوعب من هذه اللذائذ المعنوية أكثر مما يستوعبه المتلذذ المادي، ثم إن ملكاتهم كثيرا ما تستعصي على الشيخوخة فلا تنالها إلا بعد جهد. •••
كم من الفلاسفة والمصلحين والفنانين طالت حياتهم وشاخت أجسادهم، وبقيت فتية ملكاتهم.
وأحيى مثل على ذلك برنارد شو وهو في الثالثة والتسعين من عمره ... شيخ هرم في جسمه، محروم من أكثر لذائذه المادية، ولكنه شاب فتى في ملكاته الفنية ولذاته المعنوية، وإنتاجه الأدبي، لقد شاهدنا «حافظا» و«شوقيا» و«خليل مطران» تهدمت بنيتهم الجسمية، وتحطمت قواهم البدنية، وبقيت لهم وللناس حياتهم الأدبية.
قد يحسن الأديب الشاب ما لا يحسن الأديب الشيخ، ولكن من نعم الله أن تنوع الأدب وعناصره بما يناسب الشباب والشيوخ.
إن الغزل الحار الرقيق لا ينتج - في صدق - إلا عن عواطف مشبوبة لا يحسها إلا الشباب، فهم الذين يدركون تمام الإدراك لذة الوصل وألم الهجر وعذاب الحب وضناه، فيصوغون كل ذلك في أدب صاف رائق صادق، فإن تعرض لذلك الشيخ كان أدبه أدبا تقليديا أو على حساب الذكريات، ولكن ليس هذا كل الأدب؛ فهناك أدب القصة الفسيح المتعدد النواحي المستمد من التجارب ... وهذا قد يحسنه الشيخ أكثر مما يحسنه الشاب.
وهناك أدب المقال الرزين الذي يسود فيه عنصر العقل عنصر العاطفة، وهذا ميدان قد يجلي فيه الشيخ أكثر مما يجلي فيه الشباب وهكذا، ولكل عنصر في الأدب مزاياه، ولكل نوع من الأدب فضله ... والأدب مائدة شهية لذيذة لا تجمل إلا بتعدد الألوان، أو جوقة موسيقية تبعث الشجا بما تنتج من مختلف النغمات والألحان.
السيف والمدفع
هما اللغة التي يفهمها الغرب
ما أحوج الشرق الآن إلى أن يفكر تفكيرا طويلا عميقا في تربيته الحربية، ووضع خططها ومناهجها ووسائل تنفيذها؛ فقد تبين له بوضوح أنه - بدونها - حمل بين ذئاب، وغنيمة أمام لصوص، ولا تزال طبيعة الناس كما وصفها الشاعر العربي القديم:
تعدو الذئاب على من لا كلاب له
وتتقي صولة المستأسد العادي
كما ظل صادقا قول الشاعر:
متى تجمع القلب الذكي وصارما
وأنفا حميا تجتنبك المظالم
وكما يصدق هذا على الأفراد يصدق الأمم، فالأمة إذا لم تكن ذكية القلب - أو كما نعبر اليوم - عارفة بأساليب الأمم السياسية والاجتماعية، وبالتيارات والاتجاهات العالمية ... وما لم تكن تحمل سيفا أو - على حد تعبيرنا اليوم - ما لم تكن مسلحة التسليح التام ... وما لم يكن لها أنف حمي - أو كما نعبر اليوم - ما لم تكن عزيزة مرهوبة الجانب ... ما لم تكن كذلك فإنها تكون طعمة الطاعم، ونهبة الظالم، وفريسة المعتدي، ولا ينفعها - قدر أنملة - ما تنادي به من طلب مراعاة العدل، والاستغاثة بالإنسانية، والضمير العالمي، والاستصراخ بالمبادئ، فالعدالة والإنسانية والمبادئ، إنما تطبق - إذا طبقت - على الأقوياء لا على الضعفاء، وعلى من استند في دعواه إلى السلاح، لا إلى الصياح. •••
والتربية الحربية التي يجب أن يترباها الشرق، يجب أن تكون على أحداث منهج وآخر طراز، فلا نحارب القنبلة بالسيف، ولا الغواصة بالسفينة الشراعية، ولا الدبابات المصفحة بالطوابير الراجلة، فهذا لا يسمى حربا، ولكن إلقاء بالأيدي إلى التهلكة، وكذلك الشأن في النظم الحربية.
لقد تطورت هذه النظم في كل شيء تطورا كبيرا يفوق ما تطوره أي نظام اجتماعي آخر؛ حتى إن كل حرب في العصور الحديثة كانت تقلب الأوضاع الحربية رأسا على عقب، وتحل الجديد فيها محل القديم، والأمم تتسابق في التجديد؛ علما منها بأن النصر مكفول لمن وفق إلى التجديد النافع.
لقد كانت الجندية تعتمد كل الاعتماد على سلامة الحواس وقوة الجسم وانفتال العضلات وما إلى ذلك، فأصبحت تعتمد أيضا - بتغير آلات الحروب وأساليبها - على الحالة العقلية والنفسية للجنود، وعلى هذا الأساس أنشئت مكاتب الامتحان لمن يهيأ للجندية، فيمر المرشح لها بمكتب الامتحان الجسمي - أولا - فيمتحن قلبه وصدره وقوة عضلاته وسمعه وبصره وسائر أعضائه، ثم يحلل بوله إلخ ... فمن لم ينجح في هذا الامتحان استبعد، ومن نجح فلا بد أن يمر بامتحان آخر عقلي، فيختبر في مقدار استعداده للتعلم، ومدى حله للمشكلات والصعوبات التي تعرض له، ثم يمتحن امتحانا نفسيا في مزاجه وعواطفه وقوة احتماله للصعاب ... فمن نجح في هذه الاختبارات كلها قسم إلى أقسام مختلفة حسب هذه الكفايات، وعهد إلى كل مجموعة من الأعمال الحربية ما يتناسب ومدى كفايته.
ومن ناحية أخرى، كانت الأمم في حروبها القديمة تعتمد على الجيش كأنه وحدة قائمة بذاتها، عليه أن يحرز النصر بمجهوده وحده، ثم تطورت المسألة منذ القرنين السابع عشر والثامن عشر من فكرة «جيش محارب» إلى فكرة «أمة محاربة» وأصبح الجيش من الأمة بمنزلة عقارب الساعة من الساعة، فما لم تنتظم آلات الساعة الداخلية لا يمكن أن تدل العقارب على الوقت الصحيح، فالجيش إذا انتصر فبفضل الأمة أولا وأعماله هو ثانيا، وإذا انهزم فبإهمال الأمة أولا والجيش ثانيا.
وللأمة في الحروب وظائف مادية ووظائف نفسية وخلقية، فلا بد أن تكون لها مصانع وحقول ووسائل مواصلات ونحو ذلك، تمون الجيش؛ حتى يؤدي عمله على خير وجه، وتمون الشعب حتى يطمئن إلى موقفه، وبذلك تأمن الحكومة داخلها وخارجها، كذلك يجب تقوية الروح المعنوية في الشعب؛ وبغيرها لا يمكن أن ينجح جيش في الحروب الحديثة؛ وعماد هذه الروح المعنوية القدرة على التضحية في سبيل نصرة الجيش، وتعاون الهيئات والأحزاب والطبقات من موظفين وصناع وتجار وزراع، فتؤدي كل طبقة واجبها حسب خطة عامة مرسومة ... وذلك كله لا يتم إلا ببرامج للتربية الشعبية يشمل الأسرة وإصلاحها، وتغذية آبائها وأبنائها بالروح الحربية والنزعة الوطنية، ثم نشر الثقافة الشعبية بين أفراد الشعب، وبخاصة معرفة تاريخه في نزاعه الخارجي، وما يريده خصومه منه وما يريد هو أن يكون، وتوضيح الغرض المنشود توضيحا يملأ العقيدة والقلب والنفس حتى يختلط بدمه ... ثم تعويده الثقة بنفسه، والثقة بمواطنه، والثقة بجيشه، والثقة بحكومته.
أما إن ظلت الأمة مبعثرة، عيابة ظنانة، فاقدة الأمل في مستقبلها، معتمدة على المطالبة بقوانين العدل، وما وضعته أوربا وأمريكا في ساعات الحرج من مبادئ، تقولها ولا تؤمن بها، قانعة بموقفها الذليل، جاهلة بشئونها وشئون العالم حولها وما يدبر لها في الخفاء، باردة العواطف نحو مستقبلها وتحقيق عزتها، يعادي بعضها بعضا ولا تعادي أعداءها ... إن ظلت الأمة على هذه الحال، فلا يمكن أن تظفر مهما يكن عدد جيشها وسلاحه وقوته. •••
وهذه التربية الحربية إذا فشت في أمة غيرت أخلاقها ونفوسها ومشاعرها ونقلتها من حال إلى حال؛ فهي تعلمها النظام والطاعة بما اكتسبت أيام التمرن على حياة الجندية، وهي تعلمها التضحية بما ترى من جنود وقادة يبذلون دماءهم وأرواحهم للمحافظة على كيانها وإعلاء شأنها، وهي تعلمها احتمال الشدائد والصبر على المكاره بما تلاقي من عذاب وتواجه من أزمات أيام الحرب والاستعداد لها، وهي تعلمها الاستهانة بالموت وعدم الحرص على الحياة؛ لكثرة ما ترى من ضحايا وما تسمع من أخبار الكوارث، وهي تغسل الأدران التي تعلق بالأمة بسبب ركودها وحياتها السلمية الناعمة، فتقضي على الخلافات الحربية التافهة والنظر إلى صغائر الأمور دون عظائمها، وتحتقر الزعماء الذين ينظرون إلى أنفسهم لا إلى أمتهم، وهي تزيد في روابط المحبة بين طبقات الأمة المختلفة؛ إذ يرون أنهم كلهم اكتووا بنيران الأحداث، وتعاونوا جميعا على الشدائد، وضحوا جميعا لبلوغ الغاية التي ينشدونها، وهكذا مما يطول شرحه ... وعلى الجملة فالأمة الحربية أقوى نفسا وأقوم خلقا وأصح جسما وأصلح للبقاء.
لقد مر زمن طويل على الشرق لم يهيأ فيه لحرب ولم يرب تربية حربية، وذلك منذ أن استعمره الغرب؛ لأن المستعمر - بطبيعة الحال - يكره ممن يستعمره أن يظهر بأي مظهر من مظاهر القوة؛ خشية أن ينقلب عليه يوما ما، فإن سمح يوما بتكوين جيش من الأمة المستعمرة فجيش صوري ... ملابس جميلة، وحركات رشيقة، ونظام دقيق يبهر الناظر يوم العرض، ولا يبهره يوم الحرب؛ فأما روحه الحربية، وأما تعليمه أحدث الأساليب، وكيف يستخدم أحدث الآلات، فحرمته تحريما باتا، تريد الدولة المستعمرة من الجندي الشرقي أن يصلح للسير في حفلة «محمل» أو احتفال في مولد، ولا تريده صالحا لميدان قتال، هذا شأنها مع الجندي وكذلك شأنها مع الشعب، لا تريده موحدا منسجما بعضه مع بعض، ولا تريده يشعر بعزة ولا يطمح لاستقلال، وإنما تريده منحلا متفرقا ذليلا.
فلما بدأت الشعوب الشرقية تحمل عبئها وتشعر بكيانها، كان لا بد لها أن تولي عنايتها للتربية الحربية في جنودها وشعوبها، في أجسامها وعقولها وشعورها، وهو مطلب عسير شاق، ولكن لا بد مما ليس منه بد، فالحمل الوديع لا يصلح للعيش وسط الذئاب، والمستصرخ بالعدالة لا يسمع له إلا إذا حمته الغواصات والدبابات والطيارات، ونحن في عصر خير لك فيه أن يقال إنك ظالم من أن يقال إنك مظلوم؛ «والمؤمن القوي خير عند الله من المؤمن الضعيف».
في الهواء الطلق (1)
التعصب
كانت ثلاثة أيام لطيفة قضيناها على شاطئ البحر ... الجو معتدل يميل إلى البرودة، والسماء صافية، والشمس ساطعة، والبحر هادئ، وكل شيء حولنا جميل، ونزلت أنا وصاحبي في فندق على البحر في رمل الإسكندرية، ننعم فيه بالهدوء وجمال المنظر ... والأناقة تبدو في كل ما حولنا.
ها نحن في الصباح في حديقة الفندق بعد أن تناولنا فطورنا نقرأ الجرائد، وبعد أن فرغ صاحبي من قراءتها، وضعها ... وإذا هو يقول: «شر ما نبلى به اليوم التعصب»، ولا أدري ماذا بعثه على هذا القول مما قرأ ... فقلت: إن التعصب كلمة مصطنعة أطلقها الإفرنج علينا ظلما وعدوانا؛ ليصرفونا عن التمسك بديننا والاحتفاظ بقوميتنا ... فإذا قاومنا أعمال المبشرين قالوا تعصب، وما هو إلا حماية ديننا من الاعتداء عليه، وإذا وقفنا في وجه الاستعمار، وثرنا من أجل استغلالنا واستعبادنا؛ قالوا تعصب ... وما هو إلا المحافظة على كياننا والرغبة في التمتع بحرياتنا، وهم يتمسكون في بلادهم بأشد مما نتمسك به في المحافظة على دينهم وقوميتهم، ولا يخطر ببالهم أن يسموا هذا تعصبا، وإذا صح إطلاق القول، فهم أولى به منا ... إذ يدعوهم تعصبهم لدينهم إلى نشره بيننا وحماية التبشير بالقوة، ويدعوهم تعصبهم لقوميتهم إلى فرض الاستعمار علينا بالسلاح ... فهل نحن المتعصبون؟!
هو :
قد يكون هذا القول صحيحا، ولكن ليس هذا الذي أريد، إنما أريد التعصب الداخلي فيما بيننا، ويظهر ذلك في الجمعيات الدينية، والأحزاب السياسية، والهيئات الاجتماعية، فكل جمعية دينية ترى أنها هي التي على الحق، ومن عداها فعلى الباطل ... وتخاصم من عداها، وقد ترميه بالكفر والإلحاد، وقد تنفذ آراءها بقوة السلاح، وكل حزب سياسي يتعصب لحزبه، ويرى كل ما يصدر عنه حقا، ولا يرى أي حق فيما يصدر عن الأحزاب الأخرى؛ ويتمثل ذلك في قول قائلهم: «الحماية على يدنا خير من الاستقلال على يد غيرنا»، وكل هيئة اجتماعية ترى أنها الوحيدة في فعل الخير وفي الإصلاح ... أما ما عداها من الهيئات فأداة فساد، هذا هو التعصب الذي أعنيه وأكرهه وأمقته، وأدعي أنه كارثة من أكبر كوارثنا.
أنا :
ولكن علمني أستاذي سقراط بأننا قبل أن ندخل في الحوار نحدد الموضوع، فما الذي تعني بالتعصب؟
هو :
إنما أعني به الغيرة العمياء، وأعني بالعمياء أنها غيرة لا تصدر عن تفكير هادئ، ولا منطق سليم ... وإنما تصدر عن تقليد من غير نظر، أو عقيدة من غير تفكير، أو تلقين من غير بحث، وهذا مرض نفسي له أعراض ككل الأمراض، وأهم هذه الأعراض ثلاثة تظهر مجتمعة لا متفرقة:
أولها:
ضيق النظر، فليس يرى المتعصب إلا ما اعتقده أو لقنه أو ألقي في روعه ... أما ما عداه فهو يكرهه من غير تفكير، ويمقته من غير أن يصغي إلى حججه، قد وضع أمام عينيه ما اعتقد، وأبى أن يرى أي شيء عداه، فمهما قال مخالفه فهو باطل قبل أن يدلي بحججه، ومهما قال مؤيده فهو حق ولو لم يأت ببرهان، قد عكس الوضع الطبيعي، فوضع العربة أمام الحصان، فهو يرى الرأي أولا، ثم يتلمس البراهين لتأييده ثانيا؛ وهو يحب كل شيء يقوي رأيه، ويكره من صميم قلبه كل شيء يعاكسه، وقد يغلو في ذلك حتى يصبح أشبه ما يكون بالمجنون.
وثاني الأعراض:
حبه القوي لغلبة فكرته أو عقيدته وهزيمة الآراء المعارضة واندحارها، ليس عنده أي شيء من التسامح فيما يخالفه من آراء؛ حتى كأن مخالفه قد قتل قتيلا له، فهو يريد الأخذ بالثأر منه، فهو متحمس هائج يريد أن يقضي على من يخالفه بكل ما لديه من قوة، ويكون هذا في المعتقدات الدينية وفي الأحزاب السياسية وفي النظريات الاجتماعية على السواء؛ فالمتعصب الديني كاره لمن خالفه، متحمس للقضاء عليه أو على فكرته، والمتعصب الحزبي لا يرى خيرا إلا ما أتى من حزبه، وأما ما أتى على يد الأحزاب الأخرى فشر محض يجب أن يقاوم بكل ما استطاع من قوة ... ولو بإفساد النظام وإشاعة القلق والاضطراب، وهكذا الشأن في النظريات السياسية، كالنزاع بين الديموقراطية والاشتراكية والشيوعية والنازية وأمثالها، يتحمس معتنقوها حتى يصل التحمس إلى سفك الدماء.
وثالث الأعراض:
أن هذه الغيرة العمياء والحماسة الخرقاء تجعل صاحبها لا يقدر ما ينزل بالآخرين من آلام ولا ما يحل بهم من كوارث، فلا يرى إلا تحقيق فكرته مهما ألم الناس، تطغى رغبته في تحقيق الفكرة على كل ما لديه من عواطف، فهو قاس جبار يتشفى بعذاب الناس وإيلامهم في سبيل تحقيق فكرته، ويظهر ذلك بأجلى مظهر من الناحية الدينية في محاكم التفتيش، ومن الناحية السياسية والاجتماعية في الثورة الفرنسية، ففي كل ذلك صار التعصب غيرة يلهبها الحقد. •••
وتركنا مقاعدنا، وسرنا على شاطئ البحر نتمم حديثنا ...
أنا :
ألست ترى أن هذا هو الجانب الأسود من التعصب وأن له جانبا آخر جميلا؟ فكثير من ضروب الإصلاح أتت على أيدي متعصبين، اعتنقوا فكرة وتعصبوا لها، ورأوا الخير فيها، وتحمسوا لها، وتحملوا العذاب في تحقيقها، وكثر أشياعهم وأتباعهم حتى عم الإصلاح، فالحكم على التعصب - كما يؤخذ من كلامك - بأنه شر محض، مبالغ فيه، والعقيدة ما لم تصهرها حرارة الإيمان لا قيمة لها، والفكرة ما لم يتحمس لها صاحبها، وما لم تأخذه الحمية لها، وما لم يدع إليها في غيرة واحتمال آلام، لا تكون ذات قيمة ... وهذا ضرب من التعصب الذي تبغضه.
هو :
قد يكون في هذا شيء من الحق، ولم أدع أن التعصب شر محض، فليس في الدنيا شر محض، وكل ما في الحياة - ماديا كان أو معنويا - مزيج من الخير والشر، ونتائجه كذلك ... وإنما نكره الشيء ونحكم عليه بالشر؛ لأن مضاره أكثر من منافعه والعكس، والتعصب شر ما منيت به الإنسانية، والمتعصب لا يرى خيرا إلا ما لقنه من غير تفكير ولا برهان، وهو بذلك ينقلب وحشا ضاريا، ويصبح وليس أمامه إلا تحقيق نفسه، وينقلب أنانيا بغيضا يتحدى الأفكار المخالفة في عنف، ويريد أن يفرض على الناس رأيه بالقوة لا بالإقناع، وأي ضرر بعد هذا؟! إن المتعصب أبعد ما يكون عن معنى الإنسانية، إنما المصلح الحقيقي من اعتنق الفكرة بعد بحث وتمحيص، وتحمس لها في عقل واعتدال، وحاول بث دعوته عن طريق الإقناع والبرهان لا عن طريق القهر والغلبة.
ويدلنا التاريخ على أن التعصب كثيرا ما يسير سيرا وبائيا كالطاعون ... فينتشر المرض في سرعة عجيبة، وخاصة في الجماعات التي ليس لها رأي عام متنور، ويزيد في انتشار هذا الوباء أن يكون للجمعية الدينية أو الحزب السياسي شعائر ومظاهر تتفق وعقلية العامة في الشعوب الساذجة، وعندما تنتشر هذه الفكرة الناشئة عن التعصب، يفقد جمهور المعتنقين لها الشعور بالمسئولية ... فيأتون من الأعمال ما لا يأتيه الفرد العادي منفردا في حالة وعيه، وقد ينضم إلى الفكرة أفراد مهذبون على درجة ما من الرقي العقلي بسبب قوة التيار، وما في الفكرة أحيانا من بريق ولمعان، وإذ ذاك يكون الخطر ويصبح الناس في حالة هستيرية كالتي كانت في محاكم التفتيش وفي الحروب الصليبية، وأكرر القول بأن هذه هي الأعراض في الجمعيات الدينية والأحزاب السياسية على السواء.
أنا :
هل تضع أمام عينك وأنت تتكلم هذه الكلام طوائف وأحزابا خاصة تستلهم منها هذه الآراء؟
هو :
قد يكون ذلك، وقد يكون مبعث هذا ما قرأته في جرائد اليوم ... ولكني قد ارتفعت في تفكيري عن الجزئيات وحلقت في سماء الكليات.
أنا :
هذه هي عادتك دائما، تفلسف كل شيء حتى تجعل من الحبة قبة، ومن القطرة مطرا، ولكن أترى أن هذا الأمر مقصور على الشرقيين؟!
هو :
كلا ... إني أرى أن دور التعصب هذا دور طبيعي، تمر فيه كل جماعة كما يمر كل إنسان في دور الطفولة، فإذا اتسع أفقه، وزاد علمه، وتأصلت حريته، لم يعد التعصب يجد مجالا لنموه، ولا ميدانا يسبح فيه.
أنا :
ما دمت تتفلسف فلأتفلسف ... ويخيل إلي أن فلسفتك كانت فلسفة نفسية أو سيكولوجية، فلأتفلسف أنا فلسفة اجتماعية، فأقول إن هذا التعصب إنما يسير كما ذكرت سير الوباء في بيئة اجتماعية صالحة له كأن يشيع فيها الفقر والبؤس وسوء الحال وكثرة الضغط وقوة الاستبداد، فتكون هذه الأشياء كلها مرعى خصيبا تسود فيها الفكرة المتعصبة ويدخل الناس فيها أفواجا، وقد يكون كثير ممن يدخلونها لا يؤمنون بها ... ولكن لما رأوها تدعو إلى القلق والاضطراب، أحبوا القلق والاضطراب؛ لأنهم يمنون أنفسهم بإصلاح الحال بعد زوال الاضطراب ... فيشتركون مع أصحاب الفكرة في النتيجة وإن لم يشتركوا في الأسباب والعقيدة، وإذا كان تشخيصك للمرض نفسيا، وعلاجك له علاجا نفسيا، فتشخيصي له تشخيص اجتماعي، وعلاجي له علاج اجتماعي، فلنتحر أسباب القلق والاضطراب ونزلها، يترتب على ذلك حتما حصر المرض في بقعة معينة وعدم سيره سير الوباء.
إن كان منهج فلسفتك النفسية يرسم العلاج بنشر العلم الصحيح بين الأفراد، وتأسيس منهج تربيتهم على البحث والتفكير والشك والتجريب وعدم سرعة التصديق، فليكن منهج فلسفتي الاجتماعية نشر العدالة الاجتماعية، وتأمين الناس على مصالحهم وحرياتهم، وتحقيق العدل بينهم ... فإذ ذاك يتعاون الإصلاح النفسي الذي تذكره، والإصلاح الاجتماعي الذي أنشده، على قطع دابر التعصب، وإحلال التسامح اللطيف محل التعصب السخيف. •••
وشعرت بأن هناك عدم انسجام بين هذا الجو وهذا الحديث، فالجو فرح مرح ونحن جادون، والبحر يضحك ونحن عابسون، والنسيم يداعبنا ونحن لا نجاوبه، وانتهزت فرصة رجوعنا إلى الفندق فحولت الحديث إلى غزل في الجو وصفائه، وابتهاج بالمنظر وجماله.
مظاهر الحياة العقلية للمسلمين اليوم (1)
أول ما يتبادر إلى الذهن السؤال عن معنى الحياة العقلية، وأقرب جواب إلى ذلك أنها هي الثقافة، فالحياة العقلية لأمة هي ثقافتها، وهذه الثقافة تشمل الحياة العلمية والدينية والسياسية والفنية، فإذا أردنا أن نصف الحياة العقلية لأمة أو أمم وجب أن نصف هذه العناصر جميعا.
وعلى حسب اشتراك أمة أو أمم في الثقافة يكون الترابط، فالذي يربط الأمة رباطا محكما هو اشتراكها في دينها وعلمها وفنها وسياستها، وإذا ارتبطت أمم في هذه الأمور كلها فكذلك، فإن تخلف بعضها كان الارتباط بينها أضعف قليلا أو كثيرا حسب العناصر المشتركة أو المختلفة، فارتباط الأمة المصرية بعضها ببعض أتم؛ لأنها تشترك في جميع هذه العناصر، والارتباط بين الأمم العربية قوي متين، ولكنه لا يبلغ ارتباط الأمة الواحدة؛ لاختلافها مثلا في النظم السياسية وبعض التقاليد والأوضاع، والارتباط بين الأمم الإسلامية جميعا لا يبلغ مبلغ هذين، للاختلاف في اللغة ونظم الحكم وهكذا.
الروابط العقلية
ومع هذا فالأمم الإسلامية على العموم يربطها من الناحية العقلية رباط متين؛ لوحدة الدين وهو عامل قوي في حياة المسلمين، وللارتباط الشديد الذي كان بين العلم والدين، ولمرور الأمم الإسلامية جميعا في أدوار من التاريخ واحدة أو متقاربة.
فتاريخ الإسلام يدلنا على أن العرب بعد إسلامهم خرجوا من بيئتهم وانتشروا في البيئات الأخرى وتفاعلوا مع هذه البيئات، أثروا فيها وتأثروا بها وهضموا كل الثقافات التي كانت شائعة في البلاد المفتوحة وكونوا منها وحدة؛ فتشرب العرب في مصر الحضارة المصرية وما ذاب فيها من الحضارة اليونانية والرومانية، وتشرب عرب الشام ما كان فيها من حضارة آرامية اتصلت بحضارة اليونان وفلسفتهم، وتشرب عرب العراق حضارة الفرس، وتشرب عرب الهند حضارة الهند، ومزجوا كل هذه الحضارات وما فيها من ثقافات وصبغوها بالصبغة الإسلامية، ونفوا عنها ما لم يقره الدين الإسلامي، وصنعوا من كل ذلك ثقافة تكاد تكون واحدة للعالم الإسلامي كله، وإن اختلفت لغته، واختلفت بيئته، واختلفت تقاليده.
تقديم الدين والثقافة على الوطنية
وسيطرت هذه الثقافة على الشعوب الإسلامية كلها حتى تقاربت في عقليتها وحتى كانوا يقدمون ثقافتهم ودينهم على وطنيتهم؛ فالمصريون مسلمون أولا ومصريون ثانيا، وكذلك السوريون والفرس والهند والمغاربة والأندلسيون، كلهم يعدون الدين واحدا والثقافة واحدة وأصول الحكم واحدة، وأما ما عدا ذلك من قومية ووطنية ولغة وبيئة ففي المرتبة الثانية؛ حتى كان الرحال كالمسعودي وابن جبير وابن بطوطة وأشباههم يتنقلون في المملكة الإسلامية من أقصاها إلى أقصاها كأنهم يتنقلون في وطنهم لا يحسون شيئا من الصعوبة إلا من ناحية اللغة فإذا سهلت اللغة سهل كل شيء؛ يفهم بعضهم بعضا في دينهم وحياتهم الاجتماعية المتأثرة بالدين ونظم الحكم المتأثر بالدين أيضا، وهكذا.
وتقاربت ثقافة المسلمين في أصولها؛ لأن أساسها الدين الإسلامي، والثقافات المختلفة التي صهرت كلها في بوتقة العالم الإسلامي وكون منها مزيج واحد وزع على المسلمين جميعا، ولذلك نرى الفارسي إذا أحسن اللغة العربية ألف بالفارسية والعربية، والهندي إذا أحسن اللغة العربية ألف بالهندية والعربية، فكان التأليف مستساغا مفهوما وكان موقع كتاب كليلة ودمنة أو الشاهنامة أو نحوهما قريبا إلى النفوس سائغا في العقول، ليس شأنها شأن الإلياذة والأوديسة والفردوس المفقود ونحوها إذا ترجمت إلى العربية؛ لأن روحها غير روح المسلمين، وصادرة عن ثقافة غير ثقافتهم.
نشأة الثقافة الإسلامية
وهذه الثقافة التي يصح أن نسميها ثقافة إسلامية نشأت - ككل حي - بسيطة ساذجة ونمت مع الزمان، وغلب عليها أول الأمر النقل والتقليد، ثم الهضم والتمثل، ثم الطابع الخاص الذي يميزها عما عداها، وهذه الثقافة الإسلامية كان لها أثر متشابه في كل الشعوب التي تدين بها وتخضع لها؛ وقد طبعت هذه الثقافة بالمرونة والبساطة وتطورها مع الزمان في أول أمرها، ثم جمودها وتحجرها وضعفها بسبب ضعف النظم السياسية وظلم الحكام وفساد الحكم وانتشار الجهل، ومع ذلك فقد ظلت ذات أثر كبير في عقلية الناس ومشاعرهم، وظل لها طابع خاص متميز وحضارة خاصة تسمى «الحضارة الإسلامية»؛ تمييزا لها عن الحضارة الرومانية الحضارة اليونانية، والحضارة الغربية.
ظل الحال على هذا المنوال حتى اختلط الشرق بالغرب على أثر فتوح الأتراك في أوربا، وحملة نابليون على مصر، وغزوة أوربا للشرق كله، واستعمار أكثره، وانقسام العالم الإسلامي إلى مستعمرات إنجليزية ومستعمرات فرنسية ونحو ذلك، وكان هؤلاء المستعمرون يحملون ثقافتهم كما يحملون مدافعهم وبنادقهم فيغزون الحياة العقلية كما يغزون الحياة المادية، ونشأ عن هذا اختلاط واضطراب وارتباك بين الحضارتين والعقليتين: الحضارة الإسلامية؛ والحضارة الغربية، والعقلية الإسلامية؛ والعقلية الغربية.
مصادر الحياة العقلية
وعلى الجملة فقد أصبح للحياة العقلية للشعوب الإسلامية في عصرنا الحديث مصدران: الحياة الإسلامية القديمة بآدابها وعلومها وفلسفتها وفنها، والحياة الغربية الحديثة بآدابها وعلومها وفلسفتها وفنها، وأخذ المصلحون في كل البلاد الإسلامية يدعون دعوات متشابهة عمادها أن يأخذوا من المدنية الغربية ما يناسب، وأن يأخذوا من المدنية الإسلامية ما يناسب، والإشادة ببعض نواحي المدنية الغربية والإشادة ببعض ما في الحضارة الإسلامية.
فعل ذلك مدحت باشا في تركيا، والسيد أحمد خان في الهند، والسيد جمال الدين الأفغاني في فارس ومصر، وخير الدين التونسي في المغرب، وهكذا؛ حتى كأنهم كلهم شربوا من منهل واحد وكأن مناهجهم صبت في قالب واحد، إذ ذاك أخذت الحياة العقلية للمسلمين تتغير وتأخذ بطرف من هذا وطرف من ذاك؛ ولكن نظرا للتطورات العالمية التي كسرت الحواجز بين الشعوب وقاربت بين أجزاء العالم بعضها وبعض واختصرت المسافات وسهلت الانتقالات، كان من الطبيعي أن تصل أمواج المدنية الغربية إلى الشرق متتابعة قوية، إذ ذاك أخذت الحياة العقلية للمسلمين تتأثر تأثرا كبيرا بالحياة العقلية الغربية؛ فأنماط التربية والتعليم والاعتماد في جميع مرافق الحياة على العلم لا على التقاليد، وطرق البحث العلمي الغربي ونظام الحكومات الديمقراطية وغير الديمقراطية وتقنين القوانين وعيون الأدب الغربي وقصصه وتغنيه بالحرية، ومبادئه في تحرير المرأة وهدم الاستعباد وتحرر الفكر ونحو ذلك، كلها زحفت على الحياة العقلية الشرقية كما زحفت الصناعات الغربية والمدنية الحديثة المادية، وتأثر المسلمون بهذا وذاك ولم يسلم من هذا التأثر إلا الدين واللغة؛ حتى هذان لم يسلما، فالدين الإسلامي كان قد دخله في العصور المتأخرة كثير من الخرافات والأوهام، بدأت تزول بفضل ما انتشر من العلم، واللغة اضطرت إزاء المدنية الحديثة الواسعة إلى أن تتوسع في ألفاظها وتتجدد في أساليبها.
هذا هو الوضع الحاضر للحياة العقلية عند المسلمين: استمداد من الحياة العقلية الغربية الحديثة، واستمداد من الحضارة الإسلامية القديمة، فإن اختلفت الأمم الإسلامية بعضها عن بعض في ذلك فاختلاف في المقدار الذي يستمد من هذا أو ذاك بحسب القرب من الغرب أو البعد، وبحسب سعة العقل أو ضيقه، أما المنهج فواحد في الجميع.
التقارب بين العقليات نتيجة حتمية
هذا وصف للواقع، وإذا قسنا المستقبل بالحاضر توقعنا أن يزيد الاقتباس من الحديث؛ نظرا لما عند الغرب من قوة، والقوة معبودة أبدا منذ كان الإنسان، ولأن الحضارة الإسلامية قد تعفنت في كثير من نواحيها بسبب ركودها وعدم تجددها، ولأن العالم لما وصفنا من تقارب أجزائه وانعدام مسافاته وكثرة اختلاطه وامتزاجه أصبح من النتائج الحتمية له أن تتقارب عقلياته حتى تتحد، وأن تتنازع مقوماته ثم لا يبقى إلا الأصلح، هذا هو الواقع، أما ما ينبغي أن يكون فإن للمدنية الغربية الحديثة مزاياها وللحضارة الإسلامية مزاياها.
من مزايا الحضارة الغربية: الاعتماد في كل مرافق الحياة على العلم: في التربية، في الزراعة، في الصناعة، في السياسة، في الإصلاح ... إلخ ... لا على الخرافات والأوهام والتقاليد، وهذا جميل، ومن مزاياها: الجد في اكتشاف قوانين الطبيعة واستخدامها في الصناعات ونحوها، ومن مزاياها: تفتح العقل ومرونته واستعداده لقبول كل ما يرى خيره، ونبذ كل ما يرى شره.
ومن مزايا الحضارة الإسلامية والتعاليم الإسلامية: روحانيتها وتقويمها الإنسانية تقويما كبيرا، والنظر إلى الإنسان على أنه أخو الإنسان، والاعتقاد بأن الله فوق الجميع والكل مخلوقاته، وكل مخلوق للمخلوق قريب ونسيب؛ فلو استطاع المصلحون من المسلمين أن يضعوا أسسا للحياة العقلية للشعوب الإسلامية قوامها أخذ ما في المدنية الغربية من محاسن مادية، وأخذ ما للحضارة الإسلامية من محاسن روحية، وتكوين عقيلات إسلامية تأخذ من هذا ومن ذاك خير ما عندهما، وتعمل للدنيا كأنها تعيش أبدا، وتعمل للآخرة كأنها تموت غدا، كان هذا خير ما يسدى إلى الشعوب الإسلامية، بل إلى العالم أجمع.
بقي أن نعرض لكل عنصر من عناصر الحياة العقلية، مبينين موقفه الحاضر والاتجاه الذي يسير فيه؛ وهو موضوع المقال التالي إن شاء الله.
مظاهر الحياة العقلية للمسلمين اليوم (2)
وصلنا في مقالنا السابق إلى أن عقدة العقد في موقف المسلمين اليوم هي التوفيق بين المدنية الغربية والمبادئ الإسلامية، ولنبدأ الآن بالسؤال الآتي: هل هذا التوفيق ممكن أو غير ممكن؟ إن كانت المدنية الغربية مؤسسة على دين يخالف الدين الإسلامي ويناقضه لم يكن التوفيق في الإمكان، بل كان المسلمون مخيرين بين التمسك بدينهم، وبين اعتناق الحضارة الغربية، ولكن من حسن الحظ أن ليس الأمر كذلك ، فمدنية الغرب غير مؤسسة على دين، وإنما هي مؤسسة على العلم والتجربة والاختبار ومحدودة بحدود المادة، فليس هناك مانع من أخذ المدنية الغربية المادية، وصبغها صبغة روحانية إسلامية.
لو تصورنا الحياة الروحانية الإسلامية هرما لكانت قاعدته حب الله والاتصال به والاعتقاد بأنه خالق الكون ومسيره ومدبره، ثم كانت قمة هذا الهرم هي النبوة، ولو تصورنا المدنية الغربية هرما أيضا لكانت قاعدته البحث عن قوانين الطبيعة واكتشافها وتجربتها واختبارها واستخدامها في الحياة، ثم كانت قمة هذا الهرم القنبلة الذرية.
وهنا نتساءل: هل من الضروري أن يكون كل هرم من هذين الهرمين حصنا مسلحا يحارب الهرم الآخر ويلقي عليه بالقذائف من حين إلى حين، أو في الإمكان أن يصطلح هذان الهرمان ويكونا بينهما حلفا ويعترف كل هرم بمزية الآخر ويستفيد منه ويفيده؟ الحق أن الهرمين ليسا متخاصمين بطبيعتهما، وإنما هما متخاصمان من سوء فهم سكانهما، وأن في الإمكان مد السلوك وتوثيق العلاقة الودية بينهما واستعانة كل بما عند الآخر من مزايا.
إن الخصومة بينهما أشبه ما تكون بالخصومة بين من يقول إن الإنسان جسم فقط أو أنه روح فقط، والحق أنه جسم وروح معا، ولا بد للإنسان من أن يجد غذاء لروحه وغذاء لجسمه، والحياة السعيدة في الدنيا تتطلب الاعتماد على الروحانيات والماديات معا، فمن عاش روحانيا فقط كالرهبان والمتصوفة وسكان التكايا والأديرة لم يعش في الدنيا وإنما استعجل الآخرة؛ ومن عاش في الماديات فقط لم يعش في الدنيا الحقة أيضا كإنسان وإنما عاش فيها كحيوان أو نبات؛ وخطأ المدنية الحديثة أنها اعتمدت على العلم فقط فتقدمت في كل مناهجه ومنتجاته؛ فرقت الصناعة، وحسنت الزراعة، وقدمت التجارة، بل وقننت القوانين ونظمت الحكم، غير أن نتاجها يشبه صورة فنية جميلة صنعها مثال ماهر؛ ولكن ينقصها الروح.
لهذا كانت قمة الهرم في المدنية الغربية هي القنبلة الذرية، ولو كان لهذا الهرم روح لم ينتج القنبلة الذرية، ولكن كان ينتج اكتشاف قوانين الذرة واستخدامها في خير الإنسانية، فإن كان ينقص هذه المدنية الحديثة شيء فإنما ينقصها أن تقتبس قبسة من الهرم الثاني الروحاني، أما وهي لم تفعل فخير للعالم الإسلامي اليوم أن يضع خطته على أساس متين، وهو أن يأخذ من المدنية الغربية كل علمها وكل تجاربها في الصناعة والزراعة والتجارة والطب والهندسة وسائر العلوم من غير قيد ولا شرط، ثم يحتفظ مع ذلك بروحانيته التي تلون هذا العلم بلون جميل، وتجعله موجها لخير الإنسانية، لا لغلو في كسب مال، ولا لإفراط في نعيم، ولا للقوة والغلبة؛ ولكن للخير العام.
عيب العلم الغربي أنه خلا من الروح وخلا من النظرة الأخلاقية الإنسانية، فعلم الاقتصاد أسس على قوانين المال من غير أي نظر إلى الأخلاق، وعلى الطبيعة والكيمياء كذلك، ولو لونت كل هذه العلوم بالنزعة الخيرية الروحية لكان لها شأن أي شأن في نفع الإنسانية، وهذا خطأ يصح أن يتداركه المسلمون. •••
هذا المبدأ هو الذي يضيء للمسلمين طريقهم ويبدد حيرتهم ويحل كثيرا من مشاكلهم، وهو مبدأ يقضي بألا يترددوا مطلقا في أن يأخذوا كل ما وصل إليه العلم الغربي، ويستخدموه في ترقية شئونهم الدنيوية، وأن دينهم الإسلام لا يمنعهم أي منع من ذلك، بل إن الإسلام حث على طلب العلم ولو في الصين، لا يخص علما دون علم ولا معرفة دون معرفة، يجب على العالم الإسلامي أن يؤسس حياته الجديدة سواء كانت زراعية أو صناعية أو تجارية على أساليب المدنية الغربية وإلا تخلف عن الركب العالمي، لا يصح أن يزرع أو يصنع أو يتاجر في القرن العشرين على أساليب القرن العاشر أو الحادي عشر وإلا كان أضحوكة العالم.
إن العلم الحديث وما أنتجه من مخترعات لم يصبح ملكا للغرب، وإنما هو ملك للعالم أجمع يجب أن يستخدمه كل ركن من أركانه في مصلحته ومصلحة سكانه، بل يجب على العالم الإسلامي أن يأخذ من ذلك ما وصل إليه الغرب ويحسن فيه ويزيد عليه، فلم يحرم الله العالم الإسلامي من عقول كعقول الغرب، وأيد كأيدي الغرب، ولا شيء يمنعه من ذلك إلا تمسكه بالتقاليد الموروثة وتقديسه للعادات المألوفة ، ودينه براء من كل ذلك.
نعم؛ أخذ العالم الإسلامي شيئا من ذلك؛ فترى في كل قطر آلات صناعية جديدة، وزراعة على النمط الجديد، وصناعة على نمط الصناعة الأوربية، ولكن ليس هذا عاما ولا شاملا، فآلات جديدة بجانبها آلاف من الآلات القديمة، وصناعة جديدة بجانبها صناعات وافرة قديمة، وهذا من أثر البلبلة والحيرة والارتباك الذي ساد سكان العالم الإسلامي، فإذا هم آمنوا بوجوب استخدام العلم الغربي على آخر طراز وجب على زعمائهم وقادتهم أن يقضوا على القديم في ذلك ويعمموا الأساليب الجديدة من غير تردد.
هذه ناحية، وناحية أخرى يجب أن يلفت إليها العالم الإسلامي، وهي ناحية المرأة المسلمة، فالمرأة الأوربية تعد بحق أساسا كبيرا من أسس نهضتها؛ إذ هي التي تربي الأبناء وتبعث الحياة في الجيل الجديد من الرجال والنساء، المرأة هي التي تنظم الحياة الاجتماعية وهي المشرفة على البيت وهي بلسم الهموم وهي عماد الثقافة، فما لم ترتق، وما لم تحرر، وما لم تتعلم، لم يكن هناك أمل كبير في جيل صالح جديد، فماذا على قادة المسلمين لو وجهوا مجهودا كبيرا للمرأة؛ يعلمونها، ويرقونها، ويحررونها، والإسلام في صميم تعاليمه يساعد على ذلك، ويحث عليه؛ وإنما وصلت المرأة المسلمة إلى ما وصلت إليه من ضعف وانحطاط برغم الإسلام لا بسبب الإسلام. •••
لو أخذ العالم الإسلامي كل العلم الغربي وكل ما وصل إليه الغرب من تجارب واعتبر هذا جسما من الأجسام يتقمص الروح الإسلامي الصافي النقي: من اعتقاد بإله واحد بث في هذا العالم قوانينه، وألف بين سكانه، وأعطى كل شيء خلقه ثم هدى، وأمر معتنقيه أن يكونوا رحماء فيما بينهم، لا عصبية لجنس ولا دم، ولا تفاضل بينهم بالنسب ولا بأي سبب آخر إلا العمل الصالح والنية الصادقة؛ لو مزجت هذه التعاليم الإسلامية الصحيحة بهذا العلم الصحيح لأنتجت من غير شك جيلا من الناس من خير الأجيال خلا من مادية الغرب وجفافه، ومن خرافات الشرق وأوهامه، ولكان جيلا يصح أن يكون جيلا نموذجيا للشرق والغرب معا، ولحقق هذا الجيل ما ذكرنا في صدر المقال من اكتسابه خير ما في الهرمين والتوفيق بين المعسكرين.
إن أهم مظهر للعالم الإسلامي اليوم هو مظهر استمداده من الغرب، ولكن عيب هذا الاستمداد أنه مصحوب بالتردد والبطء؛ فنأخذ بعض العلم وندع بعضا، ويقدم قوم على الأخذ ويحجم آخرون، فتجد الآلة الزراعية على آخر طراز أمريكي، وبجانبها الساقية والشادوف، وتجد المدرسة على آخر طراز، والكتاب على نمط القرون الوسطى، وتجد المرأة المسلمة تلبس الثياب الأوربية كما وصل إليه آخر بدع، والمرأة المسلمة المحجبة التي لا يظهر منها إلا عيناها، وهكذا من مظاهر الاضطراب والارتباك؛ وكثيرا ما يكون استمداد العالم الإسلامي من العالم الغربي متجها إلى المظاهر لا إلى الأصول والجواهر، فنؤثث مدرسة على النمط الأوربي ونضع منهجا على النمط القديم وهكذا، كان الواجب يقضي بأن نكون في نقل العلم الأوربي والتجارب الأوربية حازمين مسرعين كما فعل اليابانيون، فننقل طرق الزراعة الحديثة بحذافيرها بمنتهى القوة؛ حتى نقضي على كل الأساليب القديمة، وهكذا الشأن في الصناعة والتجارة وغيرها .
ربما كان للمسلمين بعض العذر في تحفظهم في استقبال المدنية الغربية؛ لأن هذه المدنية من علم وأفكار وتجارب وصلت إلى العالم الإسلامي - للأسف - مع صوت المدافع والقنابل والفتح والاستعمار، فكان طبيعيا أن ينفروا من كل ذلك جملة من غير تفكير طويل وأناة وتنقية لما يؤخذ وما يترك، أما وقد ذهب صوت المدافع، وجاهد أكثر المسلمين حتى وصلوا إلى الاستقلال، وهدأوا مما عراهم أول الأمر من دهشة، فيجب أن يميزوا بين علم لا بد أن يؤخذ، ومدفع ينبغي أن يقاوم.
وقد أصبح برنامج المسلمين اليوم واضحا أمام المدنية الغربية؛ وهو ما كررنا قوله من فتح صدورنا للعلم الغربي واستيعابه بكل قوة وبكل سرعة وأن نجعله شاملا نافذا على الجميع، لا أن نؤسس مؤسسات جديدة على العلم الجديد بجانب مؤسسات على التقاليد القديمة، كما يجب أن نحتفظ بديننا الصافي، فيكون لنا من ذلك كله علم ودين، كما لنا جسم وروح، والله الموفق.
حول الإنسان (1)
يحكى أن جماعة من الفلاسفة ضمهم مجلس ودار الحديث بينهم في مسائل كثيرة، انتهى بهم إلى التساؤل عن أعجب الأشياء، فقال أحدهم: إن أعجب الأشياء صفحة السماء بجمال لونها، وسطوع نجومها، وبهائها ولألائها. وقال أحدهم: إن أعجب الأشياء الشمس بما تبعث من حرارة وضياء وبأفاعيلها العجيبة وتصرفاتها الغريبة. وقال أحدهم: إنه الرزق كيف يأتي لكل حي، وكيف يتوفر للجاهل عديم الكفاية، ويقل للعالم الكفء الذي توافرت فيه كل الأسباب للنجاح. وقال أحدهم: بل أعجب شيء هو الإنسان نفسه وتصرفاته وإراداته وعقليته في منتهى الغرابة، وكلما بحثه الباحثون ازدادوا إيمانا بغرابته، وعجبا من ملكاته، وهذا حق؛ فالإنسان إن لم يكن أعجب المخلوقات؛ فهو من أشدها مثارا للعجب، لقد توفرت في المدنية الحديثة العلوم والبحوث وكان من أكبر ميادين هذه العلوم الإنسان؛ هذا يبحث في حيويته، وهذا يبحث في طبيعته، وهذا يبحث في كيمياء جسمه، وهذا يبحث في عقله الباطن واللاوعي ونحو ذلك، ومع هذا كله ظل الإنسان لغزا.
من خير الكتب الأمريكية التي ظهرت في السنين الأخيرة كتاب للأستاذ ألكسيس كارل عنوانه (الإنسان ذلك المجهول)، ومؤلفه هذا عالم من العلماء يبحث بطريقته العلمية ويضع الإنسان في الأنابيب يسلط عليها آلات المعامل والمخابر كما تسلط على المواد الطبيعية، ويشتغل في معهد روكفلر في نيويورك، فيبحث في هذا المعهد في خلايا الإنسان وكيف تتكون وكيف تتغذى، لعله يستطيع هو وزملاؤه من الباحثين أن يعرفوا الإنسان؛ كيف يتكون جسمه، وكيف تختلف الأجسام، وكيف تختلف الشخصية باختلاف هذه الجزيئات؟
ولكن هل مجموع هذه الخلايا ومجموع هذه الغدد التي وضعت في الأنابيب وجرى عليها الاختبار هي الإنسان؟ هل هي تمثل عقله وتمثل روحه؟ لقد اضطر المؤلف أخيرا إلى أن يعترف بأن خلايا المخ ليست هي العقل، وأن العقل مخبوء وراء هذا الخلايا المخية المادية، وأن علماء الطبيعة وعلماء الاقتصاد أهملوا غالبا هذه الناحية في الإنسان مع أهميتها وعظمتها وخفائها، وأنها أكبر قوة فعالة في هذا العالم، والأنابيب والمعامل لا تستطيع أن تصل إلى سر كنهها.
فإذا نحن جاوزنا العقل إلى الروح فالأمر أصعب وأعسر ، وحينئذ نسبح في مجال بعيد عن المادة كل البعد تبدو آثاره ولا تعرف حقيقته.
لقد اعترف كارل في كتابه هذا بشيء آخر غير العقل، وهو ما يسمى باللقانة أو الإلهام، وهو الذي يتجلى عند العلماء؛ إذ يخطر لهم خاطر لا يعرف سببه يدلهم على استكشاف ما يستكشفون، وابتكار ما يبتكرون؛ ولو سألوا أنفسهم من أين أتاهم هذا الإلهام؟ لم يستطيعوا الجواب، كما يظهر في عمل الفنانين من شعراء ومصورين، كيف ألهموا ما أتوا به من غير مقدمات عقلية ولا نتائج منطقية، كما يظهر في تسلط الأرواح على الأرواح، ومخاطبة الأرواح للأرواح، وما يسميه الأفرنج
Telepathy
ونحو ذلك مما آمن به العلم الحديث؛ فهذه القوة الروحية في الإنسان لها عملها الكبير في هذا العالم، وإن لم تخضع للنظام العلمي والبحث الذي يسود العلماء في درسهم أو في معاملهم؛ وقد اعترف بذلك المؤلف واعترف بعجزه عن تفسيره، وأبان أن المدنية الغربية مخطئة في تأسيسها بناءها على ما للإنسان من مادة، وعلى ما له من جانب عقلي منطقي، مهملة ما للإنسان من جوانب عقلية أخرى، ومن جوانب روحية لا تحصى.
إن الإنسان عجيب في جسمه وعقله وروحه: عجيب في جسمه؛ لأنه أعقد أنواع الحيوان تركيبا، يعرف ذلك علماء الحياة، وعلماء التاريخ، الطبيعي وعلماء الطب، ويتجلى ذلك في قوته إذا عمل، وفي عجزه إذا مرض، وفي حيرة كبار الأطباء في تشخيص بعض الأمراض وعلاجها ونحو ذلك، وعجيب في عقله؛ إذ استطاع أن ينتج هذه الفلسفات العميقة التي وصل إليها سقراط وأفلاطون وأرسطو قديما، وكانت وليبنتز حديثا، والفارابي وابن سينا وابن رشد وأمثالهم في القرون الوسطى؛ وعجيب في روحه؛ إذ استطاع أن يحلق بها في السماء فينتج أروع أنواع الحكم والمبادئ السامية، وأجمل القصائد، وأجمل القطع الموسيقية.
ومما يؤسف في الإنسان أن هذه القوى الإنسانية الثلاث؛ وهي: جسمه، وعقله، وروحه، كثيرا ما تتعاكس وتتعاند؛ فقد يصح عقله ويصل إلى درجة كبرى من السمو، ثم لا تصح روحه ولا يصح جسمه، وقد تصح روحه حتى تصل إلى أعلى درجة في السماء، ثم يضعف جسمه فينزل الروح التي تسكنه من السماء إلى الأرض؛ ومن أجل هذا لا تصلح فلسفة الفيلسوف، ولا تصلح أجمل النوازع الروحانية في الرجل الروحاني إذا أصيب جسمه وتلوى من الألم؛ ولذلك نرى أن هذا العقل المزدهر، وهذه الروح السامية، يضعفان في آخر الأمر إذا ضعف الجسم، وينزلان من على عروشهما ولا يفكران إلا في عضو مرض وكيف حاله كل يوم وما الغذاء الصالح وما العلاج الناجع؟ إلى غير ذلك من مشاغل حقيرة تنسى الفلسفة العالية وتنسى المنازع الروحية السامية؛ وإنما يبلغ الإنسان شأوه إذا صحت فيه هذه القوى الثلاث: جسمه، وعقله، وروحه، وتعاونت تعاونا صحيحا.
وما قلناه في الفرد نقوله في الجماعة ونقوله في المدنية؛ فالمدنية التي تؤسس على المادة وحدها، كالفرد يعتني بجسمه فقط، وكذلك المدنية المؤسسة على المادة والعقل وحدهما، إنها تكون مدنية جافة؛ كالمنظر الجميل الجامد الذي لا روح فيه؛ ولعل هذا هو باب النقص في المدنية الحديثة؛ إذ جعلها ترقى ماديا فتنتج من الصناعات ما تنتج، وترقى عقليا فتنتج من العلوم والمعارف ما تنتج، ولكنها شقية معذبة بفقدان الروح، وإلا فما هذا العذاب في احتمال ويلات حرب، وفزع من وقوع حرب؟ إن النوازع إذا اضطربت صدر عنها انفعالات مضطربة.
ويعجبني أحد الفلاسفة المحدثين؛ إذ وقعت في يده جريدة يوما فشاهد في الصفحة الأولى منها جدالا طويلا حول الأطفال الذين يولدون مشوهين ولا أمل في شفائهم، ولا رجاء في مستقبلهم، هل من الخير أن يعالجوا فيعيشوا عيشة سيئة قصيرة مآلها الموت السريع، أو من الخير ألا يعالجوا ليقضى عليهم سريعا؟ وكانت أغلبية الآراء تقضي بمعالجتهم؛ لأن الحياة في نفسها عزيزة ويجب أن نبذل أقصى جهدنا في المحافظة عليها حتى نستنفد قوانا، والأمر بعد ذلك لله، ثم كان في الصفحة الثانية من الجريدة أخبار عن استعداد أوربا وأمريكا للقتال، وأن أكثر من مليون جنيه يصرف كل يوم للاستعداد، وما هذا الاستعداد إلا استعداد للإفناء وإزهاق الأرواح وتشويه للأجسام وعمى للأبصار؛ فالذين يتجادلون للمحافظة على الحياة المشوهة هم الذين يرتبون الترتيبات القوية لإعداد الأجسام الصحيحة، وهكذا كثير من شئون الحياة يلعب فيها الناس على حبلين بل على حبال ويسيرون فيها تبعا لنوازع متضاربة لا يجمعها أساس معقول.
فما أسعد الإنسان لو استطاع أن يوفق بين قواه! وما أسعد العالم لو استطاع أن يؤسس مدنيته حسبما منح من قوى متعددة، فعمل لجسمه ولعقله ولروحه، وعملت الحكومات للمادة والعقل والروح جميعا!
حول الإنسان (2)
للعالم الكبير بسكال قولة مشهورة؛ وهي:
مهما كان عالم المادة في الحياة قويا وعظيما، ومهما كان عقل الإنسان عاجزا وضعيفا، فإن عقل الإنسان شاعر بعجزه، وعالم المادية شاعر بقوته، ولذلك كان عقل الإنسان العاجز العالم بعجزه، أرقى من الطبيعة القوية الجاهلة بقوتها.
إن شعور الإنسان بضعفه وعجزه وعيوبه هو الذي حفزه على أن يكمل نفسه ويرقيها ويسير بها إلى الكمال؛ ونحن إذا تتبعنا تاريخ الإنسان حتى في عصوره الحديثة فقط وجدناه يقفز قفزات واسعة في سبيل الرقي، لقد شهد القرن التاسع عشر تقدم الإنسان العجيب في تغلبه على المادة، فاستخرج الفحم من أعماق الأرض وصنع من الحديد والفولاذ آلات وأدوات لا عداد لها؛ لتحقيق الأغراض الإنسانية، واكتشف قوة البخار والكهرباء واستخدمها في تحسين حياته، واستطاع بهما أن يسهل الانتقال وينير البيوت والشوارع ويكثر الإنتاجات الزراعية ويحسنها، واستتبع ذلك قلة في الجرائم، هذا إلى ما لا يحصى من اختراع أدوات الترف والترفيه.
وكان من نتائج استيلاء الإنسان على قوى الطبيعة وإخضاعها لإرادته ما نتج عن ذلك من تحسن صحته؛ فقد استطاع أن يتغلب على كثير من الأمراض؛ وقد تسابقت الأمم الحية بمراعاتها للأمور الصحية، فاستطاعت أن تقلل من نسبة وفيات الأطفال، وأن تزيد في متوسط أعمار السكان، وبنيت المساكن الصحية للفلاحين والعمال، وقل عددهم في هذه البيوت الجديدة فاستطاعوا أن يعيشوا عيشة أسعد وأرغد، وشرع كثير من القوانين التي تحمي العمال من أصحاب رءوس الأموال، وقللت ساعات العمل؛ حتى يستطيع العامل أن يجد فراغا لتثقيف نفسه، أو للترفيه عنها، أو الاستمتاع بسائر متع الحياة.
وتغلب الطب على كثير من آلام الإنسان؛ فكم خفف البنج من آلام في حجر العمليات وسهل على الأطباء والمرضى إجراء العمليات في يسر وسهولة، بعد أن كان المرضى يلاقون أشق العذاب وأعظم البلاء!
وارتقى الإنسان في عقليته فاستطاع أن يصل في فهم حقائق العالم إلى ما لم يصل إليه من قبل، وتقدم في القرن الأخير في فهم الذرة وتكونها إلى حد لم يكن يحلم به الأقدمون، واكتشف من قوانين الطبيعة والكيمياء ما عجز عنه الأسبقون، وتقدم في فهم حقائق النفس البشرية، وغطت مذاهبه الفلسفية الحديثة على الفلسفة اليونانية والرومانية؛ وعلى الجملة فقد نال حظا وافرا في ناحيته العقلية، كما نال هذا الحظ الوافر في تسلطه على المادة الطبيعية.
وتقدم الإنسان كذلك في إنسانيته، فنراه قد ألغى عذاب السجون، والضرب في المدارس، وتعذيب المجرمين، وكان آباؤنا الأسبقون يتخذون من أصحاب العاهات والآفات موضعا لسخريتهم وضحكهم، فأصبحت هذه الآفات والعاهات موضعا لرحمتنا وعطفنا، وإذا ابتليت أمة بحادث من حوادث الزلزال أو الحريق أو العواصف أسرعت غيرها لنجدتها، إلى غير ذلك من ضروب الإنسانية، وإن كان هذا الشعور الإنساني لم يرق الرقي المادي ولا الرقي العقلي.
ويتساءل بعض الفلاسفة اليوم السؤال الآتي:
أما وقد رقى الإنسان هذا الرقي الباهر في هذا العصر الحديث، فما الذي ينتظر منه في مستقبله؟ وماذا يجب على القادة حتى يوجهوه نحو الرقي؟ وإلى أية جهة يوجهونه؟ أما برنارد شو فقد أجاب عن هذا السؤال بأنه يتمنى أن يتجه التفكير إلى إطالة العمر، وخاصة عمر العقلاء والحكماء والفلاسفة، وتمنى أن يطول عمرهم أضعاف ما يعيشون، وأن يتعاون العلم والأطباء وغيرهم على اكتشاف ما يطيل أعمارهم؛ لأنه عز عليه أن يبذل الفيلسوف والعاقل والحكيم أعمارهم في التجارب؛ حتى إذا بدأت في النضج وأشرفت على نفع الإنسانية، أتت المنية فاخترمتهم قبل أن ينتفع العالم بتجاربهم ونضجهم، فلو عمر هؤلاء طويلا لكانوا خيرا عظيما للإنسانية.
وقال الأستاذ جود: إنه يتمنى أن يتجه العالم نحو ترقيته في أبحاثه الروحية؛ من تنويم مغناطيسي ، وقراءة للأفكار والآراء بواسطة الإيحاء، ونحو ذلك من العالم الروحي، فيقول: إنه بعد أن تقدم الإنسان في العالم المادي عليه أن يتجه هذا الاتجاه نحو العالم الروحي، وإنه سيكون لهذا نتائج باهرة فنستطيع إذا تقدمنا في هذا العلم أن نقرأ أفكار الناس وآراءهم من غير تلفيق، وأننا إذا تقدمنا في هذا بطل الكذب والنفاق والرياء ولم يعد لها مكان، وأسست الأخلاق على أسس جديدة. ويقول: إن بعض المعاهد في أمريكا تقدمت تقدما كبيرا في هذا النوع من ناحية قراءة الأفكار، وقراءة المغيبات، والإيحاء الروحي ونحو ذلك.
وأنا لا أرى رأي شو ولا رأي جود، فلو عاش الحكماء والفلاسفة والعقلاء عمرا أطول لساعدوا حقيقة في تقدم العالم، ولكن في نفس الطريق الذي يسير فيه العالم وهو طريق المادة والعلم والعقل، ولست أوافق جود على تفسير الروحانية بهذا المعنى الذي فسرها به من قراءة الأفكار والمشاعر الخفية، إنما يجب أن يوجه العالم إلى الروحانية بمعنى آخر، وإن شئت فقل إلى الإنسانية.
لقد عجزت المدنية الحديثة إلى اليوم أن تجعل الإنسان ينظر إلى الإنسان على أنه أخوه؛ بقطع النظر عن فروق الجنسية والدم واللغة والدين وما إلى ذلك، إن الذي نوده في المستقبل أن يتجه العالم إلى الإنسانية مجردة عن اعتبار القومية والوطنية، فيأخذ القوي بيد الضعيف من أي جنس وبأي لون، ويعين من يحتاج إلى العون من أي دين كان ومن أي وطن كان، ويعلم العالم الجاهل ويطب الصحيح المريض، ويسود الشعور العام في العالم بأن الإنسان أخو الإنسان؛ فتنقطع الحروب، ويحل الوئام محل الخصام، ويسود في العالم السلام.
هذا هو ما يجب أن يتجه إليه القادة في رسمهم صورة المستقبل، وإلا فما قيمة التقدم المادي والتقدم العقلي إذا كان الإنسان دائما بين حرب مضت وحرب ستأتي، وفناء في حرب واستعداد لحرب، ليست المدنية تقاس بكثرة المخترعات ولا بعمق الفلسفات، إنما تقاس بما تبعث في النفوس من طمأنينة، وعطف عام، وإنسانية شاملة.
لقد صور هذا المعنى تصويرا باهرا شاعر عربي صوفي قديم ، هو الإمام محيي الدين بن عربي؛ إذ يقول:
لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي
إذا لم يكن ديني إلى دينه دان
فأصبح قلبي قابلا كل صورة
فمرعى لغزلان ودير لرهبان
وبيت لأوثان وكعبة طائف
وألواح توراة ومصحف قرآن
أدين بدين الحب أنى توجهت
ركائبه فالحب ديني وإيماني
لقد ظفر محيي الدين بمعنى لم تظفر به المدنية، ولعلها لا تظفر به إلا بعد مئات من السنين، وبعد أجيال وأجيال.
في الهواء الطلق (2)
لأن تكون الأمة المصرية خمسة ملايين راقين يعيشون عيشة سعيدة، خير من أن يكون عددها عشرين مليونا؛ وهي كما هي: فقر وبؤس وجهل ومرض
دق التليفون صباحا فإذا هو صوت الصديق قال: الجو بارد، واليوم صحو، والشمس تؤذن بأنها ستبعث إلينا دفئا لذيذا، فهل لك أن أمر عليك بسيارتي فنستمتع بالشمس في سفح الأهرام؟
قلت: وهو كذلك.
ها نحن في شمس مينا هاوس، وقد أخذت تدفئنا بأشعتها الذهبية، فلما سخنت رءوسنا، أحسسنا بشهوة الكلام تنبعث من نفوسنا.
هو :
لقد لفت نظري وأنا آت إليك حركة الترام وامتلاؤه بالراكبين، كأنه علب السردين، بل لعل علب السردين أكثر منه نظاما، فليس هناك محل لجالس ولا واقف، ولا يستطيع داخل أن يدخل، ولا خارج أن يخرج إلا بعناء، كما لفت نظري امتلاء الشوارع بالمارين وحركة المرور الفظيعة الشنيعة من سيارات وعربات ومشاة، ولقد زرت لندن وباريس وجنيف، فلم أجد مثل هذا الازدحام، ولا صعوبة الانتقال، فقلت في نفسي: ماذا يكون المصير بعد عشر سنين أو عشرين، وكيف إذ ذاك يستطيع الناس أن يمشوا على أرجلهم، أو يركبوا سياراتهم، أو يقضوا حوائجهم؟ لقد آن الأوان؛ لأن نفكر جديا في تقليل عدد السكان.
أنا :
أتقول إذا بضبط النسل؟
هو :
نعم، بكل قوة وإيمان، إن القول بضبط النسل عندي بديهية من البديهيات، وإذا كان ضبط النسل جائزا في إنجلترا وأمريكا، وهما ما هما في ارتفاع مستوى المعيشة، ورقي الحالة الصحية والاجتماعية، فهو في مصر والشرق واجب لا جائز، إن ضبط النسل يزيد في سعادة الفرد والمجموع، ويقلل من بؤس البائس، وشكوى الفقير، ويحرر المرأة من كثير من أغلالها، ويريح رب العائلة من كثير من أعبائه، إن الرجل إذا كان دخله الشهري ستة جنيهات أو ثمانية أو عشرة استطاع - إذا كان له ولد أو ولدان فقط - أن يعيش عيشة أرقى بدخله هذا مما إذا كان له ستة أولاد أو ثمانية أو عشرة، واستطاع أن يعلم الولد أو الولدين خيرا مما يعلم الأولاد الكثيرين، واستطاع أن يعني بصحة الولد أو الولدين وأن يلبسهما لباسا معقولا، ويطعمهما طعاما معقولا، واستطاعت الأم أن تشرف عليهما، وأن تجد بعض الوقت لراحتها.
أما إذا كان البيت مملوءا بالأولاد، والأم تحمل ولدا، وتفطم ولدا، وتجر بيدها ولدا، فالويل كل الويل لهذه الأسرة، والويل كل الويل للمجتمع من أمثال هذه الأسرة، ولو كانت مرافق الحياة ومنابع الثروة في الأمة تزداد بنسبة عدد السكان لتقبلنا حجج القائلين بإباحة النسل في شيء من سعة الصدر، أما والسكان يتضاعفون ومنابع الثروة لا تنمو بهذه النسبة ولا بقريب منها فضبط النسل واجب لا شك فيه، إن محاربتنا للأعداء الثلاثة؛ من فقر، ومرض، وجهل، عديمة الجدوى ما دام باب النسل مفتوحا من غير حساب؛ فكل جهودنا - إذا - ضائعة أو قليلة المنفعة؛ ومثلنا إذا مثل من يرمي قنطار سكر في النيل ليحليه، أما إذا قل النسل استطعنا أن نعلم النسل الجديد القليل، وأن ننظم حالته الصحية، وأن نعالج فقره وفقر أسرته في الحدود المعقولة.
وإلى جانب هذا وذاك، هناك الحالة النفسية التي تصحب قلة النسل؛ فالأم تهدأ أعصابها إذا اقتصرت على تربية ولد أو ولدين وتجد مجالا لراحتها، والأب تطمئن نفسه - ولو كان فقيرا - بعض الاطمئنان، ويجد فيما يكسبه - ولو قليلا - قدرة على سد الحاجات الضرورية له ولأولاده، هذا من ناحية الفرد، أما من ناحية المجموع فالأمة مجموع أسر، فإذا حسنت حالة الأسرة حسنت حالة الأمة؛ وإذا كانت الأسرة يتعلم أبناءها ويجدون غذاءهم الصحي وملبسهم النظيف وتعلمهم الضروري؛ ارتقت الأمة تبعا لذلك، وليست الأمة تقدر قيمتها بعدد أفرادها، ولكن تقدر بنوع أفرادها، ولا تقدر بكميتها، ولكن بكيفيتها، والنظر الساذج المنحط هو الذي يقدر الكمية، فإذا رقى قدر الكيفية، ولأن تكون الأمة المصرية خمسة ملايين راقين يعيشون عيشة سعيدة، خير من أن يكون عددها عشرين مليونا؛ وهي كما هي: فقر وبؤس وجهل ومرض وشقاء.
لقد كانت الطبيعة تقوم بما يقوم به ضبط النسل، فتبعث من حين إلى حين كوليرا أو مرضا وبائيا يهز الناس ويغربلهم ويقلل من عددهم، فتعيش بعد ذلك عيشة معقولة؛ أما وقد تقدمت شئون الصحة فالأمر من كثرة السكان سيكون مخيفا مرعبا، قد كان يكون معقولا بعض الشيء ألا نحدد النسل لو كانت الأمة المصرية ترحل من بيئتها المزدحمة إلى بيئتها غير المزدحمة، ومن قطر إلى قطر، أما وهي لا يحب أهلها أن يرحلوا من القاهرة إلى طنطا، ولا من المنوفية إلى البحيرة، ولا من أي بلد إلى بلد قريب، فالمسألة أدهى وأمر.
أنا :
ولكن أليس هذا العمل محاربة للطبيعة؟
هو :
محاربة للطبيعة! كيف ذلك؟ إنه تنظيم للطبيعة، لا محاربة للطبيعة؛ فليست المدنية في جميع أشكالها إلا تنظيما للطبيعة، انظر إلى فيضان النيل، هذه هي الطبيعة، ولكن نقيم عليه سدودا تنظمه، والبخار ينبعث من الماء الحار، وهذه هي الطبيعة، ولكن ننظمه فنسير به القطارات وأمثالها، والجو مملوء بالكهرباء وهذه هي الطبيعة، ولكن نأخذها فننظمها، فلماذا يكون هذا وحده هو الذي نقف عنده ونقول: إنه ضد الطبيعة؟!
أنا :
فليكن كذلك، ولكن أليس هذا عصيانا لإرادة الله؟!
هو :
ولا هذا، فإذا تركنا النسل من غير أن نحدده فهذه إرادة الله، وإذا حددناه فهذه إرادة الله أيضا، أولسنا نفعل هذا في كل شيء؟! ألسنا في الزراعة نخفف الزرع إذا وجدناه قد كثر كثرة تضر بالغلة؟! أولسنا ننقي الزرع من الحشائش التي تضره؟ أولسنا في كل ما نعمله في الزراعة نسترشد بالعلم وبالتجارب؛ حتى نأتي بأجود محصول لا بأكثر محصول؟! ولو سرنا على قولك في إرادة الله بالمعنى الذي تتصوره؛ لتركنا كل زرع على طبيعته، وتركنا كل مرض يفتك على طبيعته ، وتركنا كل مجرم وكل فقير وكل جاهل يسير على طبيعته من غير أن نتدخل في شأنه! إن تعاليم الله تقضي بأن نستخدم عقولنا وننظر فيما هو الأصلح لحياتنا، ثم نعمل وفق ما تهدينا إليه عقولنا، وهذه هي إرادة الله ... •••
وهنا أحسسنا الشمس قد اشتدت حرارتها وأخذنا منها بنصيب وافر، فاقترحت عليه أن ننتقل إلى مكان آخر بين الظل والشمس؛ فتظللنا فروع الشجر ظلا متموجا يذهب ويجيء فنكون بين برودة الظل ودفء الشمس ...
هو :
أليس هذا تدخلا في الطبيعة وفي إرادة الله على قولك؟! لا؛ لا، إن النظر إلى الطبيعة وإرادة الله بهذا المعنى نظر غير صحيح، وما نفعله الآن في مراعاة مصلحتنا من انتقالنا من شمس إلى ظل، ومن ظل إلى شمس، هو القانون العام الذي أراده الله في اختيار المصلحة، والعمل على وفقها بحسب عقولنا.
وأحسسنا بالجوع فأكلنا، وبالشرب فشربنا، وبالراحة فاسترحنا، وتحدثنا حديثا خفيفا في الجو الصحة والسياسة، ولم أشأ أن ينقطع الحديث عن ضبط النسل؛ فقلت: وما رأيك في الأضرار الصحية التي تحدث من ضبط النسل؟
هو :
لقد أحس الناس من قديم حاجتهم إلى ضبط النسل؛ فما يروى عن العرب من وأد البنات، وما يروى عن غيرهم من قتل الأولاد صغارا، مما كان يجري في الصين والهند ونحو ذلك، ليس إلا ضربا من ضروب تحديد النسل وإن لم ينطبق عليه هذا اللفظ انطباقا تاما، وقد سار العمل في تحديد النسل وفقا لنشوء الإنسان وارتقائه؛ فقد كان عملا ساذجا في الأمم البدائية، من استعانة على منع الحمل بالطرق السحرية، أو (طب الركة)، أو الإجهاض على شكل شنيع، أو استعمال بعض العقاقير ونحو ذلك مما كان يسبب أضرارا بليغة؛ ولكن بتقدم المدنية والحضارة جعل هذا في يد الأطباء لا في يد الأفراد، وقد كانت أوربا وأمريكا على مثل قولك الآن في محاربة الطبيعة ومحاربة إرادة الله، فكانت تحرم ضبط النسل، وتحاكم من قام بهذه الدعوة، ولكن كانت هذه المحاكمة سببا في انتشار الفكرة لا في إماتتها، واضطرت الحكومات أخيرا إلى الاعتراف بهذا العمل وإباحته؛ فأنشأت المستشفيات الطبية للقيام بهذه المهمة متى وجد أن لا ضرر منها، وألفت الكتب الكثيرة لإرشاد الأمهات إلى ما يجب عليهن عمله، إن أردن تحديد النسل؛ وأذكر أني قرأت أنه كان في إنجلترا في سنة 1929 أربعون مستشفى لهذا الغرض، وأن الجمعية الطبية من المجلس القومي البريطاني المؤسس للنظر في الأخلاق العامة أعلنت بالإجماع أن لا توجد عقبات في سبيل زوجين أرادا أن يعرفا الوسائل لمنع النسل؛ لأسباب صحية، أو لكثرة، أولادهما أو لفقرهما.
أنا :
أشعر أن كلامك - كعادتك - مستقيم مقنع من الناحية العقلية، ولكني أشعر أنه ينقصه شيء من العواطف.
هو :
ومتى كان الإصلاح يبنى على العواطف والمشاعر؟ إن الإصلاح في كثير من الأحيان يلجأ إلى محاربة العواطف والمشاعر، وهل حرمة الإلف والتقاليد إلا عواطف ومشاعر؟! دع عنك هذا واصغ لحكم العقل. •••
وجاء موعدنا فركبنا السيارة وعدنا، وكان من حظه أن وجدنا الترام في الجيزة أسوأ مما وصفنا، فنظر إلي وقال: اسمع، ادع إلى ضبط النسل.
البيوت الثلاثة
لقد أطللت من هذه البيوت الثلاثة على بيوت القاهرة كلها في إجمال ...
أتيح لي في هذه الأيام أن أزور بيوتا ثلاثة في القاهرة، وأتقصى أحوالها، ومظاهرها، ومعيشة أهلها.
فأما أولها فبيت لغني كبير، ورث ثروته عن آبائه، وحسنها ونماها: قصر فخم بني على أحسن طراز، وله حديقة غناء سعدت بأحسن الأشجار، وأجمل الأزهار، أفرد منها مربع للعبة «التنس»، وتدخل القصر فيبهرك جماله وأثاثه، كل حجرة فيه فرشت بعناية على طراز خاص، وروعي في أثائها أن يكون منسجما مع لون الورق الذي كسيت به حيطانها، ومع اللون الذي ينبعث من مصابيحها؛ وقد فرشت أرضها بالسجاد العجمي الذي تغوص فيه قدم السائر عليه، وإذا أضيئت مصابيحها رأيت النور ولم تر مصدره، وأعد الدور الأول للاستقبال، والدور الثاني للنوم، وأعدت غرف النوم بأجمل الأسرة وأفخمها، وأثمن الفراش وأنظفه، وشغلت ملاءات الأسرة بأجمل أنواع التطريز، وبجانب كل غرفة نوم حمام يجري فيه الماء الساخن والبارد، وجهزت بعض الحجر بتكييف الهواء، وبالمدافئ المعدة في الحوائط يستخدم فيها الفحم والمدافئ المتنقلة بالكهرباء، وبه التليفون الثابت والمتنقل والراديو الثابت والمتنقل، وقد علقت في الحوائط لوحات من أجمل ما صنع الفنانون، ووضعت في الحجرات والغرف طرف كثيرة على شكل أنيق ووضع جميل، أما المطبخ فأعجوبة الأعاجيب؛ نظافة وأدوات كهربائية وغير كهربائية وأفران، وقوالب مما يسهل للطهاة إعداد كل ما تشتهيه الأنفس، وبالطابق الأسفل حجرة أعدت للمشروبات إعدادا فاخرا، وملئت دواليبها بمختلف الأنواع، وصففت تصفيفا فنيا يهيم به أمثال أبي نواس ...
لا تشعر بفرق بين هذا القصر وبين أمثاله من القصور العظام في أوربا، إلا بما ترى أحيانا من خدم سود، أو تسمع آونة من لغة عربية.
هذا هو المكان؛ أما السكان؛ فالباشا عميد البيت، والسيدة ربة القصر، وابن واحد، وبنت واحدة، ثم عدد من الخدم: رجال ونساء، كبار وصغار، مصريون وأجانب، هذا طاه، وهذا مساعده، وهذا لإعداد المائدة، وهذه للشراب، وهذا لتنظيف الدور، وهذه لإعداد ملابس الباشا الأول، وهذه لإعداد ملابس السيدة، وهذه تمسك مفاتيح الخزائن من مأكول ومشروب، وهذه لخدمة البيك، وهذه لخدمة الآنسة، وهذه الأوربية للإشراف على جميع خدمة البيت.
أما الباشا فحينا في الوزارة، وأحيانا خارجها، فأما حين يكون في الوزارة فهو لا يعرف ليله من نهاره، بين مقابلات لا تنتهي، وأعمال ليس لها أول ولا آخر، ودعوات تتزاحم في الوقت الواحد، وأما حين يكون خارج الحكم فصباحه في نادي محمد علي، ومساؤه المبكر في زيارات وواجبات اجتماعية، ومساؤه غير المبكر في المنزل مع زواره، وأحيانا يأتي بعض الزائرين والزائرات فيشتركون مع ربة البيت في لعب «الكونكان» إلى الساعة الواحدة أو بعد ذلك.، ومن حين لآخر يقرأ في كتاب، وفي الفترة بعد الفترة يذهب إلى العزبة؛ ليشرف على شئون زراعته.
وأما السيدة ربة البيت فتصحو في الضحى، وتنتهي من إفطارها في العاشرة، ثم تخرج لزيارة بعض صواحبها، وفي بعض الأيام تساهم في بعض الأعمال الاجتماعية، وفي العصر تقابل بعض الزوار، وأحيانا تحيي الليلة في سمر ظريف، وأحيانا في سماع غناء لطيف، وأحيانا تشترك في لعب «الكونكان».
وأما الفتى الشاب ففي كلية من كليات الجامعة، يقضي في كل فرقة سنتين أو أكثر؛ لقلة إقباله على المذاكرة وضعف استعداده، وهو مشترك في نادي الصيد ونادي التجديف، وفي المساء له «غطسات» لا يعرفها أهله ولا «أنا»، وله سيارة خاصة، يسوقها بنفسه، كما للباشا سيارة، وللسيدة سيارة.
وأما الآنسة ففي مدرسة الليسيه، تعرف من الفرنسية أكثر مما تعرف من العربية، وتكثر من قراءة الكتب الفرنسية، ولا تقرأ - أو هي تحتقر أن تقرأ - كتابا عربيا، وتقضي بعض أوقات فراغيها في التطريز والتصوير، وتصرف الزمن الطويل هي ووالدتها في اختيار ما يناسب من الملابس وتفصيلها على أحدث «بدع»، وفي ابتياع أدوات الترف والزينة من المحال الارستقراطية التي لا يضع فيها الجمهور قدمه، وإذا أتت مصر الفرقة التمثيلية الفرنسية لم تفتها أية رواية.
تحريت طويلا عن ميزانية هذا القصر فعلمت بعد أنها لا تقل عن ثمانمائة جنيه في الشهر؛ فمصروف المطبخ اليومي بين ستة جنيهات وثمانية، والطاهي وحده يأخذ ثمانية عشر جنيها، وعلى هذه النسبة سائر الخدم، ولا تسل عما يصرف على الملبس والكماليات.
وأخلاق الأسرة على نمط الأخلاق الأوربية، فهم يتحرون الصدق في القول، والوفاء بالوعد، وتنفيذ الكلمة تصدر منهم كأنها صك، ويؤدون الواجبات الاجتماعية والمالية خير أداء، ويعتزون بالمال والجاه والنسب أكبر اعتزاز، أما الرحمة والشفقة والإحسان والتواضع فأخلاق شرقية لا يعبأون بها.
وأما الدين فليس له مجال في البيت؛ فلا صلاة ولا صيام، وإنما يذكرون الله في المناسبات كدعوة لمريض أو ترحم على قريب أو صديق، والحجرة الوحيدة التي تقام فيها الصلاة لأوقاتها هي حجرة البواب النوبي بجوار الباب. •••
وشاء القدر أن أزور أيضا بيتا لفراش مدرسة، ولزيارة بيته قصة طويلة حرية أن أفرد لها مقالا، مرتبه ستة جنيهات وفيها العلاوة، ولم تستطع سيارتي أن تدخل في زقاقه فترجلت، واضطررت بعد قليل من المشي أن أضع منديلي المعطر على أنفي.
وجدته وأهله يسكنون حجرتين في الدور الأرضي من الدار، قليل ضوؤهما، فاسد هواؤهما، قد رزق ستة من الأولاد، أربعة أبناء وبنتين، يأكلون من الخبز فقط بجنيهين ونصف، وقد لا يكفيهم؛ قد استعان على معيشته بابنه الأكبر، فهو صبي في مطبعة بثمانية قروش في اليوم، يفطرون كل يوم بقرشين فولا مدمسا بزيت، ويعيشون أكثر أيام الأسبوع على الطعمية والعدس والجبن والفجل، ولا يأكلون اللحم إلا ليلة في الأسبوع، لكل واحد منهم ثوب واحد لا يغيره حتى يبلى، يتدفأون في الشتاء (بدفاية) يشعلونها بقليل من الخشب والحطب، وإذا أسعفهم الحال فقليل من الفحم البلدي، أثاث بيتهم حصير في كل حجرة، ومراتب وألحفة تطوى نهارا وتفرش على الحصير ليلا، إضاءتهم بمصباح يوقد «بالجاز»، ولا مطبخ لهم، إنما في ركن من أركان إحدى الحجرتين بعض الحلل وبعض الأطباق و«وابور بريموس» قديم لا يرى نحاسه من كثرة صدئه، يتسلون أحيانا بسماع الراديو من بيت الجيران.
علاقة الأبوين بالأولاد متأثرة بضيق النفس من سوء العيش؛ فضرب كثير، وسباب كثير، وأحد الأبناء رضيع، والثاني فطيم، والثالث في مدرسة أولية، والبنتان تربيهما الحارة ، لا يهم الأسرة من الحكومة ونظامها ومن يتولاها إلا إعانة غلاء المعيشة ومسائل التموين، إذا مرض مريضهم طبوا له بالوصفات البلدية، فإذا اشتد الأمر لجأوا إلى المستشفى في حيهم، فيلقون أشد من المرض؛ حتى يكشف على مريضهم، ويصرف له الدواء.
أخلاقهم خاضعة للعرف والتقاليد والرأي العام لأهل الحارة أكثر من خضوعها للعقل والتربية الصحيحة، يسيرهم في كثير من شئونهم ما يدور بينهم من خرافات وأوهام وجن وعفاريت، في الطب، وفي السعادة، والشقاء، وما يؤكل في المواسم، وما يقال من تعاويذ؛ وسمرهم بالليل إنما هو ما يحدث به الرجل مما جرى في المدرسة، وما حدث من زملائه الفراشين، وما تحدث به المرأة مما جرى في الحارة وما سمعته عن بيوت الجيران، وقد يتحدث الأطفال عما جرى أثناء لعبهم مع أولاد الحارة.
وللدين مجال في البيت، فالرجل لا يحافظ على صلواته كلها في أوقاتها، ولكنه يحرص على صلاة الجمعة، والمرأة لا تصلي، ولكنها وزوجها وكبير أولادها يصومون رمضان، وهم جميعا يذكرون الله ، وخصوصا في تصرفاته في الغنى والفقر، والإسعاد والإشقاء، وقدرته التامة على أن يعز من يشاء، ويغني من يشاء. •••
وتمت فصول الرواية بزيارة بيت ربه موظف في وزارة الداخلية في الدرجة الثالثة، يتقاضى خمسين جنيها في الشهر، قد رزق ثلاثة بنين وبنتين، يسكن شقة بخمسة جنيهات (إيجار ما قبل الحرب)، أعد ثلاث غرف للنوم، وغرفة للاستقبال، وغرفة للأكل، وبغرف النوم مكاتب لمذاكرة الأولاد، والبيت مؤثث أثاثا وسطا أكثره قد قدم به العهد، فهو يصحبهم من أيام الزواج، وقد أدخلت عليه التجديدات الضرورية، وبه راديو ونور كهربائي، وعندهم خادمة واحدة تساعد السيدة في شئون البيت من طبخ وغسل، والمطبخ لا بأس به، ففيه «وابور جاز»، وأدوات الطبخ الضرورية، وأكلهم في الصباح فول وبيض ولبن، ومن حين لآخر يزيدون جبنا ومربى، وغداؤهم طبق لحم وطبق خضار، وطبق أرز، وبرتقال في الشتاء، وبطيخ أو شمام في الصيف، ويومان في الأسبوع لا لحم فيهما، والعشاء من باقي الغداء أو حيثما اتفق.
والبنون أحدهم في كلية التجارة، والثاني في مدرسة ثانوية، والثالث في مدرسة ابتدائية، والبنتان إحداهما في مدرسة ثانوية، والأخرى في الثقافة النسوية، وجميعهم بمصاريف إلا الأخيرة فقد قبلت مجانا.
ولكل من الوالدين والأولاد «بدلتان» شتويتان وأخريان صيفيتان، وهذه الملابس للآباء والأبناء والبنات تفصل ويخيط عند خياط وخياطة ولا تشترى جاهزة.
والأبوان يشكوان مر الشكوى من قلة الدخل وكثرة الصرف، وخاصة في أشهر الأقساط المدرسية، ولا يأتي آخر الشهر حتى يكونا قد لهثا من طول الشوط مع ثقل الحمل.
والسيدة تقضي صباحها في شئون البيت، وعصرها في استقبال زائرة أو رد زيارة، والأب يقضي صباحه في وظيفته، وعصره في مقهى، ومساءه بين أسرته.
والأولاد إذا حضروا من مدارسهم ذاكروا دروسهم، ويوم الخميس يذهبون إلى سينما أو مشاهدة رواية، وسمرهم في المساء يدور حول ما سمعت السيدة من صواحبها، وكثيرا ما يتحدث الرجل في العلاوات والترقيات وفصوله مع رؤسائه ومرءوسيه، وأحيانا يتحدث مع أولاده في تجاربه في حياته، ويقص عليهم ما كان منه من جد ونشاط وتفوق وذكاء أيام دراسته.
وقد لاحظت في هذه الأسرة شيئين لم أرهما في الأسرتين السابقتين: (أحدهما):
طموحها الشديد؛ لأن تتشبه بالأغنياء وخاصة في المظاهر، فهم يقلدون ما أمكنهم معيشة الأغنياء في بيوتهم وإن لم يكن لهم مقدرتهم، وإذا لم يستطيعوا ذلك عملا فلا أقل من أن يقولوه قولا أو يصطنعوه طلاء. (والثاني):
الخلاف الشديد بين الأولاد وأبويهم في عقليتهم ومشاربهم، فالبنت تريد أن تذهب إلى السينما وحدها، والأب لا يرضى، والابن يريد أن يشترك في حزب سياسي، وفي نادي ألعاب، والأب لا يرضى، والبنت الثانية تريد أن تتعلم «الكمان» على معلم خاص، والأب لا يرضى، والابن الثاني يريد أن يشترك في فرقة التمثيل في المدرسة والأب لا يرضى، وأثقل شيء على الأبناء أن يحدثهم أبوهم عن ماضيه، وأثقل شيء على البنات أن تحدثهن أمهن عن ماضيها.
والأم في البيت متدينة، والأب بين بين، والأولاد لا يأبهون بالدين. •••
وقد حمدت المناسبات التي أطلعتني على هذه البيوت؛ لأن أطللت منها على بيوت القاهرة كلها في إجمال.
وتسألني: كيف عرفت دخائل هذه البيوت كلها؟ فأقول: إن المقادير تيسر أحيانا ما لا تيسره التدابير.
اليهود في أمريكا
قد كتب الله على نفسه
أن الأرض يرثها عبادي الصالحون
وليس الصالحون من صلوا وصاموا ثم ناموا، إنما الصالحون من ضموا إلى عبادة ربهم رعاية حقوقهم وواجباتهم
لعل من الخير أن يعرف قراء العربية تفاصيل كثيرة عن مركز اليهود في العالم؛ لأن ذلك يلقي ضوءا على الحوادث التي تقع بين العرب والصهيونيين في فلسطين، وتوضح موقف الدول منهم ولم تناصرهم؛ ولعل الكتاب يكثرون من بحث هذا الموضوع والكتابة فيه؛ لأن مسألته مسألة اليوم وأزمته أزمة الساعة، ولنبدأ اليوم باستعراض لموقف اليهود في أمريكا؛ لأنها أكبر دولة تؤيدهم في السر والجهر، وفي السياسة والمال.
وتاريخ اليهود في كل أمة تاريخ طويل، في بلاد العرب وبين المسلمين، وفي إنجلترا وفرنسا وإسبانيا وروسيا وألمانيا وإيطاليا، وأخيرا في أمريكا، فهم حيثما وجدوا سببوا حركة حولهم وشعور تخوف منهم، وحذر من أعمالهم ؛ وأكبر سبب في ذلك أنهم لا يذوبون في الأمم التي يعيشون فيها، فاليهودي الإنجليزي يهودي أولا، وثانيا، وثالثا، وربما كان إنجليزيا رابعا، وكذلك اليهودي الألماني والأمريكي ... إلخ، وهم لا يقتصرون على المحافظة على شخصيتهم وجنسيتهم من ناحية الدين، بل هم كذلك في ناحيتهم الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، فهم دائما يكونون أمة داخل كل أمة.
هذا تاريخهم قبل النصرانية وبعدها - قبل الإسلام وبعده - في عالم الشرق وعالم الغرب، وقد وضعوا فلسفتهم الاجتماعية والدينية على أساس هذه الفكرة، فكرة الانفراد والانفصال وعدم الذوبان في الأمم التي يعيشون فيها، وتكوينهم نواة منفردة وسط المحيط الذي يعيشون فيه، على نمط لم يعرفه التاريخ لأي مذهب ديني أو اجتماعي آخر، وقد فسر بعضهم هذا بأنه «مركب نقص» دعا إليه شعورهم بقلة عددهم، ولكن هذا تفسير لا يكفي؛ لأن كثيرا من المذاهب الدينية والاجتماعية كان معتنقوها أقل عددا، ومع ذلك لم ينفصلوا هذا الانفصال ويعتزلوا هذه العزلة ويستقلوا بأنفسهم هذا الاستقلال.
ومن أجل هذا الانفصال وجد عند الأمم التي يعيشون فيها نوع من الكراهية لهم، كما يكره من الجماعة الرجل النفور الذي يعيش لنفسه فقط؛ وكان هذا الكره متبادلا، يقتصر أحيانا على ما في النفس، ويتحول أحيانا إلى عسف وعنف، فلما تحولت الدولة الرومانية إلى دولة نصرانية، وسادت هذه الديانة كان اليهود فيها موضع الكره والعسف في كل أقطار المملكة الرومانية، ولما جاء الإسلام عاملهم الرسول أول الأمر معاملة إحسان وإكرام، ولكن سرعان ما تبين ميلهم إلى الوحدة والانفصال وتدبير المؤامرات لبذر بذور الشقاق بين المسلمين؛ فكان الخصام وكان القتال بين المسلمين وبني قريظة وبني النضير من اليهود، ونزلت
لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا .
وهكذا كان الحال بعد بين اليهود والنصارى، واليهود والمسلمين، وإن كان المسلمون أحسن معاملة وأوسع صدرا وأكثر احتمالا، فطالما عانى اليهود أشد العناء من معاملة النصارى لهم، وكثيرا ما حرموا عليهم الملكية واضطروهم أن يسكنوا في أحياء خاصة، ومنعوهم من استعمال حقوقهم المدنية.
واشتهر اليهود حيثما حلوا بحب المال وما يتبع ذلك من مهارة في التجارة والمعاملات المالية من غير رحمة، فإذا أقرضوا استخدموا كل الوسائل لإيقاع المقترض منهم في الشباك، ثم امتصوا دمه من غير رأفة؛ كانوا كذلك في المدينة بين العرب؛ بيدهم الذهب، وبيدهم صناعة الحلي الذهبية، وهم الذين يقرضون بالربا أضعافا مضاعفة، وكذلك كانوا في أوربا، ولسنا ننسى التصوير البديع الذي صورهم به شكسبير في رواية «تاجر البندقية»، من أجل ذلك قوبلوا من الأمم التي يعيشون فيها بالكراهية والنفور والحذر، وهذا ما زاد اليهود حبا في تكتلهم وانطوائهم على أنفسهم وتكوينهم وحدة خاصة بهم.
ولم يستطع اليهود أن يستردوا كثيرا من حريتهم إلا عند الانقلاب الصناعي الذي حدث في أوربا وسيادة الروح الديمقراطية والنظام الديمقراطي وانتشار الدعوة إلى الحرية والإخاء والمساواة؛ ومع ذلك بقي كثير من الجفاء بين النصرانية واليهودية، وبقي تكتل اليهود وانفصالهم عن مجتمعهم إلى حد كبير، وأثار اليهود الضغينة من جديد؛ لأنهم حتى بعد الانقلاب الصناعي تسابقوا مع المسيحيين، وجدوا في أن يكون لهم منزلة ممتازة وسلطة قوية في الصناعات أيضا مع بقاء تكتلهم ومساعدة بعضهم بعضا ضد من يسابقونهم من النصارى.
ونعود إلى موضوعنا فنقول: إن اليهود لم يكونوا كثيري العدد في أمريكا قبل منتصف القرن التاسع عشر، ثم زادت هجرتهم إلى أمريكا من ألمانيا وسائر الممالك الأوربية على أثر الحركات الثورية التي حدثت في أوربا بعد سنة 1848، ومن سنة 1880 إلى الحرب العالمية الأولى هاجر إلى أمريكا آلاف من يهود بولندة وأوكرانيا والبلقان، ونزل أكثرهم في المدن الكبرى على ساحل البحر الأطلنطي، وفي شيكاغو وما حولها؛ وفي سنة 1940 بلغ عدد اليهود في نيويورك مليونين ونصف مليون، وهو نصف عدد اليهود في أمريكا إذ ذاك، وقد زاد عددهم بعد، فبلغ نحو ستة ملايين.
وما هاجر هذا العدد من اليهود إلى أمريكا حتى وضحت الظاهرة المزمنة، وهي الصراع الاقتصادي بين اليهود والمسيحيين، وكان النظام الرأسمالي في أمريكا مرتعا خصبا لليهود يجولون فيه ويسودون ويسيطرون؛ ومن أجل هذا شاع بين الأمريكيين أن اليهود لا يتجهون وجهة قومية، ولكن وجهة يهودية مالية بحتة عمادها السيطرة على البنوك؛ ومن العجيب أنهم اتهموا أيضا بمناصرة الشيوعية ونشر التذمر والقلق والاضطراب في الطبقات الدنيا من العمال وأمثالهم؛ وفسر بعض الأمريكيين ذلك بأن اليهود يلعبون على حبلين، فيناصرون الرأسمالية ويناصرون الشيوعية، وهم يستفيدون من هذا وذاك، وهم الرابحون إذا نال النصر والظفر هذا أو ذاك، وهذه هي بعينها الألعوبة التي لعبها الصهيونيون في فلسطين، وهذا الموقف الغريب من اليهود في لعبهم على الحبلين وانتصارهم للنقيضين، كان أحد الأسباب التي حملت هتلر على اضطهادهم وتشريدهم والتنكيل بهم.
ويهود أمريكا قد حافظوا على الصفة البارزة في يهود العالم، وهي تكتلهم وانطواؤهم على أنفسهم وتكوينهم أمة في الأمة، ومن أبرز ما فيهم أيضا ميلهم إلى الحركات اليسارية الاقتصادية والسياسية، ومن عجيب الأمر أن قد أجرى بعض الباحثين الأمريكيين تجاربهم على عدد من الطلبة في الجامعات الأمريكية، فثبت لهم بالبحث أن طلبة اليهود أقل تمسكا بدينهم من الطلبة المسيحيين، وأسرع إلى اعتناق مبادئ الإلحاد ، وقام الأستاذ كارلسون ببحث 215 حالة من طلبة جامعة شيكاغو، في الصفوف العليا، فوجد أن طلاب اليهود أشد اعتراضا على مبدأ تحريم الخمر، وأنهم أقل إيمانا بالله من أمثالهم من الكاثوليك والبروتستنت، وأنهم أيضا أشد تحمسا لمبدأ ضبط النسل والشيوعية والدعوة إلى السلم، وأن الطلبة الكاثوليكيين أشد تحفظا، والطلبة البروتستنيين وسط بين هؤلاء، وهؤلاء، ومما لاحظه الأمريكيون أيضا، مهارة اليهود - بجانب مهارتهم المالية - في الدراسات الجامعية، وخاصة الطب والقانون والتعليم.
وقد أدى كل ما ذكرناه من مسلك اليهود في الصناعات، والسياسة والمال، والجامعات، إلى تنافس شديد بين المسيحيين الأمريكيين واليهود الأمريكيين تنافسا سبب الخصومة والعداء، وكان لذلك مظاهر كثيرة؛ فبعض الجامعات الأمريكية تحرم الطلبة اليهود من الاشتراك في نواديها والمنظمات الاجتماعية فيها، وبعض الطلبة يعير بعضا إذا صاحب فتاة يهودية، مما اضطر بعض اليهود إلى ترك التعلم في بعض الجامعات؛ فرارا من الضغط الاجتماعي، وهم يلمزون اليهود بأنهم عيابون ظنانون أنانيون لا يتعاونون إلا مع أنفسهم، وكثيرا ما كان اسم اليهودي كافيا لحرمان صاحبه من الدخول في الجامعة أو حرمانه من منصب الأستاذية، أو نحو ذلك، ولذلك لجأ بعضهم إلى تغيير أسمائهم واستعارة أسماء مشتركة بين المسيحيين واليهود؛ للاستفادة من هذا الغموض في أعمالهم الخاصة.
واليهود الأمريكيون مع تكتلهم مختلفون من حيث طبقاتهم الاجتماعية، ومن حيث عقائدهم الدينية، ومن حيث الأمة التي ينتسبون إليها؛ من ألمانية أو بولندية أو نحو ذلك، فاليهودي الغني من الإسبان أو البرتغال يعد نفسه أعلى اليهود نسبا وأعظمهم جاها، ويليه الغني من الألمان، ولكن لكثرة عدد الألمان من اليهود وكثرة غناهم ربما عدوا أعلى طبقة.
وهؤلاء بما كسبوا من ألمانية متفوقة متعجرفة يحتقرون اليهودي الروسي والبولندي.
ولهذه الخلافات الاجتماعية والعنصرية أثر كبير في نشوب الخلافات المتعددة بينهم، ولكنهم مع خلافهم بعضهم وبعض يتكتلون تكتلا قويا إذا حزب الأمر وعرضت منافسة بين اليهود وغيرهم؛ فهم إذ ذاك يكونون كتلة واحدة قوية، ويقفون وقفة واحدة أمام غيرهم، ومهما يكن أمرهم فقد أصبحوا في أمريكا قوة كبيرة بتسلطهم على منابع الثروة والقوة والدعاية، فهم أرباب البنوك وأرباب السينما وأرباب الصحافة، وبذلك كان سلطانهم في أمريكا سلطانا كبيرا.
فهل يتخذ العرب من هذا كله درسا فيكتلوا أنفسهم، ويوحدوا كلمتهم، ويقووا مراكزهم في السياسة والمال وعدد الحرب والدعاية، ويفتحوا أعينهم لكل ما يجري في العالم مما يتعلق بهم وبمستقبلهم، ويدعموا حياتهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والخلقية بدعامة العلم الحديث؟ أو يظلوا متفرقين والعدو مجتمع، متصدعين والعدو ملتئم، قابعين في بيوتهم والعدو ينشط في كل الميادين؟ يسيرون سير الجمال والعدو يقفز بالطيارات، مكتفين بالدعوة بأن الحق معهم، والحق لا يغني ما لم تدعمه القوة، وقد كتب الله على نفسه:
أن الأرض يرثها عبادي الصالحون
وليس الصالحون من صلوا وصاموا ثم ناموا، إنما الصالحون من ضموا إلى عبادة ربهم رعاية حقوقهم وواجباتهم، وعرفوا كيف يسوسون الممالك ويدبرون أمورها على خير وجه وأقوم طريق، وتسلحوا بكل ما يقتضيه الزمان من سلاح مادي ومعنوي، أولئك هم الصالحون الذين يرثون الأرض، أما من عداهم فيرثون الذل والمسكنة في الدنيا والقبور في الأخرى،
إن إلينا إيابهم * ثم إن علينا حسابهم .
مصادفة
هل في الوجود مصادفة؟ أم أن الوجود كله خاضع لقوانين ثابتة نعرف بعضها فتسميه سببا ومسببا، ونجهل بعضها فنسيمه مصادفة؟
خرجت في سيارتي أول أمس، وكان كل شيء على ما يرام: السائق متمرن والسيارة تسير سيرا حسنا والجو معتدل، وأوصلني السائق إلى حيث أريد، ثم استمر في سيره لعمل من الأعمال، وبينا هو يسير إذا غلام يخرج من الشارع فجأة وهو يجري، فيريد السائق أن يتفاداه فيصطدم بعربة ترام فيتهشم الجانب الأيسر من السيارة، ولم أشعر إلا والسائق يكلمني في التليفون؛ ليخبرني بما حدث.
وفي اليوم التالي استدعيت مندوب شركة لإصلاح العربة، فبعد أخذ ورد قرر أن يصلحها بثمانية عشر جنيها، وعدت إلى بيتي فوجدت خطابا مسجلا ففتحته فإذا فهي حوالة مالية بمبلغ ثمانية عشر جنيها، ولم أكن أتوقع هذا المبلغ مطلقا؛ لأني كنت أديت عملا علميا وأعطيت عليه مكافأة، وانتهى كل شيء، فإذا هم يذكرون مع هذه الحوالة أنها بقية المكافأة.
ما هذا؟ وكيف حدث أن الغلام يخرج من الشارع فجأة وقت سير سيارتي ووقت سير الترام، ولم أكن في السيارة، وكيف نجا سائقها، وكيف اتفق مبلغ المكافأة مع مبلغ الإصلاح؟!
فكرت في هذا كله، أهذا قدر قدر أم مصادفة حدثت، وتسلسل تفكيري على النحو الآتي: ما معنى مصادفة؟ إن من العسير تحديد معناها، والناس يطلقونها على معان مختلفة، وكثيرا ما يستعملونها في معنى الخير ومعنى الشر؛ فتهشيم السيارة كان مصادفة سيئة، ونجاتي ونجاة السائق من هذه الصدمة ومجيء الحوالة المالية كان مصادفة حسنة، ولعل المعنى الذي يراد منها هو حدوث شيء غير متوقع وغير مرتبط بشيء آخر سابق عليه في الوجود، وليس له سبب معروف يوجب حدوثه، وكان يمكن أن يحدث ويمكن أن لا يحدث، وليس خاضعا للقوانين التي نعرفها ولذلك لا نتوقعه، فلسنا نسمي تعاقب الليل والنهار، ولا تتابع الفصول ولا غليان الماء بالنار، ولا تبخره إذا غلى، ولا شيئا مما عرفنا سببه مصادفة ؛ لأنها كلها تابعة لقوانين معروفة يمكن أن نتنبأ بها، ونجزم بأنه إذا حدث السبب حدث المسبب، ولكن إذا كنت اعتزمت السفر غدا فجاء الجو جميلا والشمس ساطعة عددت هذه مصادفة حسنة، وإذا جاء الجو عكس ذلك عددته مصادفة سيئة؛ لأني أعرف وقت مجيء النهار فلا أسمي ذلك مصادفة، ولكني لا أعرف أنه سيكون صحوا أو غيما، باردا أو معتدلا، فأسمي هذا مصادفة؛ وما أسميه أنا مصادفة في هذا الباب، قد لا يسميه عالم الأرصاد مصادفة إذا كان يتنبأ بحالة الجو في الغد بناء على علمه، فالمصادفة إنما هي مصادفة عند الجهل بالقوانين، واحتمال أن الشيء يكون أو لا يكون.
وتساءلت بعد ذلك: هل هناك شيء يصح أن نسميه مصادفة؟ أو بعبارة أدق: هل في الوجود مصادفة، أم أن الوجود كله خاضع لقوانين ثابتة، نعرف بعضها فنسميه سببا ومسببا، ونجهل بعضها فنسميه مصادفة؟! هذا السؤال هو بعينه سؤال الجبر والاختيار، أو بعبارة أخرى سؤال الإيمان بالقضاء والقدر وعدم الإيمان بهما؛ وهو سؤال ظل الناس طوال العصور يحارون في شأنه ويختلفون في الإجابة عنه، كان ذلك في العصور القديمة، وفي العصور المتوسطة، وفي العصور الحديثة؛ واتخذ الناس وضع السؤال والإجابة عنه أشكالا مختلفة؛ ففي القديم كانوا يصوغونه: هل قدر على الإنسان كل ما يحدث له أولا؟ وهل إرادة الإنسان حرة أولا؟ وفي العصور الحديثة اتخذ وضعا آخر وهو: هل ظروف الإنسان وبيئته المحيطة به تجعله يتصرف تصرفا ما كان يمكن أن يتصرف غيره، أو أن إرادة الإنسان ليس شأنها شأن النبات والجماد والحيوان تسير في الوجود على وتيرة واحدة وعلى نمط في الحياة لا يتغير، بل هي حرة تمام الحرية، تتجه إلى الشيء وكان يمكنها أن تتجه إلى غيره، وتسلك هذا الطريق وكان في إمكانها أن تسلك الطريق الآخر؟! وهكذا من مختلف الأشكال في السؤال والجواب، والمحور في الجميع واحد.
ولئن كان الفلاسفة في جميع العصور لم يستطيعوا حتى اليوم أن يجيبوا إجابة حاسمة، فإنهم لم يتعبوا من السؤال والجواب، وظلوا يشكلون الصعوبة بأشكال جديدة ويجيبون عنها إجابات جديدة.
ومن المعقول أن من يقول بالجبر لا يقول بالمصادفة؛ فكل شيء مقدر على الإنسان في الأزل، سواء منه ما كان مظهره الاختيار أو مظهره الاضطرار؛ وإن تكلم بالمصادفة فمعناها في نظره شيء لم يجربه الإلف ولم يحدث في العادة، ولكن شأنه شأن غيره من المقدرات الأزلية، أما الذين يقولون بحرية الإرادة وحرية التصرف، فمجال المصادفة عندهم فسيح؛ فإن جميع شئون العالم وخاصة التصرفات الإنسانية كلها عالم مصادفات؛ غاية الأمر أن هناك مصادفات يكثر حدوثها وتكرارها على نمط واحد، فنعدل عن تسميتها بالمصادفات إلى تسميتها بالقوانين، والقوانين في نظرهم يمكن أن تتخلف؛ وهناك أحداث لم تؤلف ولم يكثر وقوعها على نمط واحد، فاكتفوا بتسميتها بالمصادفات.
ومن النتائج المؤلمة للقول بالجبر أن هذا المذهب يسلم إلى القول بأن ما وقع ما كان يمكن أن لا يقع، وأن ما سيقع لا يمكن أن لا يقع؛ وبعبارة أخرى: ما وجد ما كان يمكن أن لا يوجد، وما سيوجد لا يمكن ألا يوجد، فليس لإرادة الخيرين المصلحين تأثير في الإصلاح، إلا على ضرب من التأويل، وهو أن المصلح - هو أيضا - مجبر على الدعوة إلى الإصلاح لتحقيق النتيجة المحتومة؛ وهو مذهب قد يريح معتقده ويبعث فيه الراحة والطمأنينة، ولكنه لا يستفز الإرادة لإصلاح ما فسد وتقويم ما اعوج، ولعل إفراط المسلمين في العصور الأخيرة في عقيدة الجبر وغلوهم في الإيمان بالقضاء والقدر على النحو الذي اعتنقوه أخيرا، كان من أسباب قصورهم في إصلاح حالتهم الاجتماعية وتقدمهم وسيرهم مع الزمان، وربما كان من أكبر الفروق بين الشرقي والغربي، رضاء الشرقي عما كان وسيكون، وقناعته بحالته ولو ساءت، وثورة الغربي على ما يسوءه، وجده في تعرف أسبابه، وعلاج فساده.
كما أن من الصعوبات في هذا المذهب غموض التفرقة بين الخير والشر، فإنه إذا كان الكذب والجبن والظلم مقدرا أزلا، كالصدق والشجاعة والعدل، وأن المجرم في الحالة الأولى، والفاضل في الحالة الثانية، كل قد أتى بالأعمال التي قدرت عليه، فما الوجه للاختلاف في التسمية والاختلاف في التقدير؟ أوليس من غير المفهوم على هذا الأساس تسمية شيء بأنه خير وتسمية آخر بأنه شر؟!
وإذا عدنا إلى مذهب الاختيار وجدناه كذلك معيبا؛ فإن مذهب الاختيار بأوسع معانيه يجعلنا ننكر سير العالم - وخاصة التصرفات الإنسانية - وفق قوانين مضبوطة؛ فإذا كان الإنسان يمكنه أن يعمل وأن لا يعمل، ولا نستطيع أن نتنبأ بما سيعمله؛ إذ يصح أن يعمل غيره، كان المستقبل فوضى لا نستطيع أن نرسم أشكاله، وكان الحكم على الناس بأنهم أخيار أو أشرار مجالا للشك؛ إذ ربما يأتي الخير بأفظع أنواع الشر، ويأتي الشرير بأحسن أنواع الخير! •••
ها أنا ذا حائر في تفكيري بين الجبر والاختيار! وكل ما حدث أن سيارتي تكسرت، وأثار كسرها تكسير عقلي في الجبر والاختيار والمصادفة وعدم المصادفة، وأخشى أن أكون كذلك أتعبت عقل القارئ من غير وصول إلى نتيجة، والأمر لله.
إلغاء البغاء
البغاء نتيجة لا سبب، فإذا أردنا القضاء عليه وجب أن نعمل للقضاء على أسبابه
أصدرت مصر في هذا الشهر أمرا عسكريا بإلغاء البغاء.
والبغاء داء قديم يكاد يكون تاريخه تاريخ الجمعية البشرية، وقد حارت الدول في شأن معالجته في كل العصور؛ فكانت أحيانا تعالجه بإقراره والاعتراف به ثم حصره؛ ووجهة نظرها في هذا الإقرار أنها إنما تفعل ذلك؛ حرصا على الأسر، فإنها رأت أن العهر لا بد منه ولا يمكن اتقاؤه، فإذا حاربته جهرا تسرب سرا، وبذلك ينتشر العهر أو الفجور في أوساط ما كانت لتزل لو وجدت أمكنة للبغاء معينة؛ فالبغي ماهرة ماكرة لها من الوسائل ما تستطيع به أن تنصب شراكها وتنفذ رغبتها سرا إذا عجزت عن تنفيذها جهرا، كما تستطيع أن تندس بين الأوساط الشريفة فتفسد أخلاقها وتضعف من عفافها، وإزاء هذه الحجة مالت بعض الدول في عصور مختلفة إلى الاعتراف بهن، وتخصيص بيوت لهن، وإرغامهن على تسجيل أسمائهن في سجل، وإلزامهن بثياب خاصة بهن حتى يعرفن، ووضع مراقبة شديدة عليهن، ومما احتج به أصحاب هذا النظر أن البغي عرضة للأمراض السرية، فمن الخير أن يعرفن ويحصرن وتقيد أسماؤهن؛ حتى يخضعن للكشف الطبي، وتبعد من ثبت مرضها وتعالج، فلا تنتشر بسببها العدوى.
هذه وجهة نظر الدول التي أقرت البغاء، ولكن نظرت بعض الدول الأخرى إلى المسألة من زاوية أخرى، فرأت أن إقرار الدولة للبغاء اعتراف بالمهانة الإنسانية، وإهدار للكرامة النفسية، وتشجيع على زيادة البغاء وموت الضمير؛ فمن علمت أنها بغي معترف بها قد سجل اسمها في سجل الحكومة تبلد ضميرها وماتت نفسها وزاولت مهنتها - في نظرها - كما تزاول الحرة مهنتها، وقل بعد ذلك أن يحيا ضميرها فتعدل عن عملها الخسيس ورد هؤلاء - على فكرة حصر المرض ومعالجته بالكشف الطبي - بأن هذا الكشف إنما يجري على النساء البغايا، ولا يجري على من يغشون دورهن من الرجال، وقد دلت الإحصاءات الدقيقة في أمريكا - مثلا - على أن عدد المصابات بالأمراض السرية 4,86 في الألف من النساء و10 في الألف من الرجال، والرجال يعدون كما تعدي النساء، وليس عليهم من رقابة ولا كشف طبي، أضف إلى ذلك أن إقرار البغاء يستتبع حتما وجود عدد كبير من الرجال يحترفون حرفا في منتهى الخسة والنذالة، يسقطون بها أكثر مما تسقط البغي؛ كالقواد وحماة البغايا ومحترفي وسائل الإغراء ونحو ذلك، وهم طائفة كالنباتات الطفيلية تمتص دماء السذج البسطاء، وقد تعيش عيشة الترف والنعيم على حسابهم.
ثم قد جربت الدول التي أقرت البغاء وضع هذه البيوت تحت إشراف البوليس لمراقبتها، ولكن دلت الأمور في جميع الدول على أنها تجربة فاشلة، فلم يستطع البوليس إزاء الحيل الدقيقة والألاعيب الخفية، وإزاء المغريات بالمال وغير المال أن يؤدي وظيفته كما ينبغي، فكان الأمر فسادا على فساد.
ثم كان أن إقرار البغاء والاعتراف ببيوت البغايا سبب في اتساع تجارة الرقيق الأبيض حتى إلى عهد قريب؛ فالبيوت إذا أقرت رتب أصحابها الخطط لاستيراد سلع جديدة، فجدوا في الحصول عليها بمختلف الوسائل، أحيانا عن طريق الإغراء، وأحيانا عن طريق التهديد والإكراه؛ وقد لفتت خطورة هذا الأمر نظر عصبة الأمم فدعت إلى اجتماع عقد في جنيف سنة 1921 وبثت خبراءها لكتابة تقارير عن تجارة الرقيق الأبيض في البلدان المختلفة وما يتبع ذلك من فساد، فقرروا «أن وجود الدور المرخصة عامل يزيد في الاتجار بالنساء، وأن التحريات التي أجروها لا تثبت هذا فحسب، بل تدل على أن الدور المرخصة في بعض البلدان تصبح مركزا لكل أنواع الفساد الخلقي».
ومن أجل هذا كان الاتجاه الحديث في الدول المختلفة نحو إلغاء البغاء وعدم الاعتراف به واتخاذ الوسائل لمنع أسبابه أو تقليلها على الأقل؛ حتى إنه في الإحصاء الأخير كان عدد الدول التي تحرمه ثلاثين دولة، والتي تقره ثماني عشرة، وكانت مصر معدودة من الدول التي تقره فنقصت واحدة. •••
ولكن ما الذي يحمل على البغاء؟ لقد قال قوم من علماء البيولوجيا: إن بعض الأفراد يصابون بالشذوذ الجنسي بحسب تكوينهم فيدعوهم ذلك إلى الإفراط في هذا الباب، وإن صح ذلك وصح العجز عن معالجته فهو قليل الحدوث، إنما الأسباب الهامة لذلك ترجع إلى عوامل اقتصادية واجتماعية.
فمن الناحية الاقتصادية كثيرا ما يكون الفقر سببا لهذا السقوط الخلقي؛ امرأة لا تجد من يعولها، ولا تجد حاجتها الضرورية من العيش والملبس، ولا تجد عملا تعمله فتتكسب منه، وليست متعلمة تعلما يمكنها من عمل شريف، وتجد أن الأبواب كلها سدت في وجهها، ثم تجد من يغريها بالفجور فتسقط. وقد دلت الإحصاءات على أن الفقر من أهم أسباب السقوط الخلقي، وأنه يكثر حيث يكثر الفقر، ويقل حيث يقل غالبا، وقد لا يكون السبب عدم حصول الفتاة أو المرأة على القوت الضروري؛ ولكنها ترى مثيلاتها يأكلن أكلا أنعم من أكلها، ويلبسن ثيابا أفخم من لبسها، وينعمن بالحياة أكثر مما تنعم، ولم يكن لها من المبادئ الأخلاقية ما يحصنها ويحميها، فتنزلق عند أول إغراء، ومن أجل هذا كان السقوط في المدن أكثر منه في الأرياف؛ لأن حاجات الإنسان ومطالب الحياة في المدن أكثر منها في الريف؛ ولأن سعة المدينة وكثرة سكانها يمكن المرأة من أن يجهل أمرها ولا تعرف حقيقتها ولا بيتها؛ فتجرؤ على ما لم تجرؤ عليه الفتاة المعروف بيتها المعلوم أمرها.
والأسباب الاجتماعية لهذا المرض كثيرة؛ فسوء التربية، والخطأ في فهم الحرية؛ واعتقاد أنها عمل الإنسان حسبما يشتهي ويهوى من غير قيد ولا رقيب، وانهيار المبادئ الأخلاقية التي تقدس العفة وتجعلها من أقوم الفضائل، وضعف الوازع الديني، وتصدع الأسرة، وكثرة الشقاق بين أفرادها، وانحلال روابط الزوجية فيها، وضعف سلطة الآباء والأمهات على البنات، وفراغ المرأة وعدم استطاعتها أن تجد ما يملأ وقتها بعمل مفيد أو بتسلية بريئة، وعدم تقدير العرف والرأي العام لخطر الزلل تقديرا صحيحا، وعدم استنكاره، واحتقاره للمرأة غير العفيفة، كل هذه أسباب اجتماعية للسقوط الخلقي في هذه الناحية؛ وإن كثيرا من المتعففين والمتعففات لم يحملهم على العفة حب في الفضيلة، ولا ترفع عن الرذيلة؛ إنما يحملهم على ذلك خوف الأمراض السرية الشائعة؛ فقد ظهر هذا الوباء في جنوبي أوربا في القرن الخامس عشر، واجتاح أوربا كلها في القرن السادس عشر حتى كان الموتى به ثلث السكان، وكاد يعم العالم، فعمل الخوف منه في نفوس الناس أكثر مما عملت الحكومات والوعاظ والرغبة في الفضيلة. •••
وبعد؛ فإلغاء البغاء عمل مشكور، يرفع عن مصر وصمة إقرار الرذيلة إقرارا رسميا وتحصيل الضرائب عليها، ويتضمن حسن التقدير للكرامة الإنسانية، ولكن لا بد أن نعترف بأن البغاء نتيجة لا سبب؛ فإذا أردنا القضاء عليه وجب أن نعمل للقضاء على أسبابه، لقد أشرنا من قبل إلى بعض أسباب البغاء، فيجب أن نعمل لإلغائها كما ألغينا النتيجة، وإلا فإن بقيت الأسباب حاولت أن تنتج نتائجها في الخفاء، وفي ذلك الخطر الكبير، فإذا كان هناك مجرى من الماء وسددنا فوهته تجمع حتى يقوى فيزيل السد أو يتسلل في الخفاء حتى يجد له مسربا، يجب أن نعمل على رفع مستوى الحياة الاقتصادية حتى يقل الفقر فيقل العهر، وأن نعني بالتربية كما عنينا بالتعليم، فالتربية غير التعليم؛ فقد يكون الشخص متعلما وليس مربى، كما قد يكون الشخص متربيا غير متعلم، والذي يقف دون العهر هو التربية لا التعليم، وإن إلغاء البغاء ليس يكفي فيه إغلاق دوره وطرد محترفيه وتشتيت أهله، بل يجب مع ذلك توفير أسباب العيش لأهل هذه الحرفة الملغاة ومراقبة أهلها مراقبة دقيقة، والقضاء أيضا على دور الملاهي الخليعة التي هي سبب من أسباب الإغراء على البغاء، ثم إنشاء المستشفيات الصحية لمعالجة الأمراض السرية التي نتجت عن البغاء حتى نخفف نتائجه.
إن البغاء ثمرة شجرة خبيثة، فما لم تقطع جذورها تجددت ثمارها.
من الأدب العربي (1)
حديث أم زرع
من أظرف ما روت كتب الحديث حديث أم زرع، وقد رواه المحدثون عن عائشة، وهي قصة لعلها كانت قصة شعبية عند بعض العرب سمعتها عائشة فروتها كما سمعتها، وتدور القصة على أن إحدى عشرة امرأة من نساء العرب ضمهن مجلس، وجرى بينهن ذكر الأزواج، فتعاقدن أن تصف كل زوجها ولا تكتم من أخباره شيئا، فكان المجلس بذلك معرض أزواج؛ منهن الراضية والساخطة، ومنهن المادحة والقادحة، ومنهن الفصيحة البليغة، ومنهن دون ذلك، وأيا ما كان؛ فالقصة تمثل نظر نساء العرب إلى أزواجهن، وتمثل الصفات الممدوحة والمذمومة في بيئتهن، ونكتفي بما استحسناه من وصفهن ذما كان أو مدحا؛ فبعضهن كانت تافهة لا قيمة لوصفها، وبعضهن أخلت بالوعد فخافت من وصف زوجها.
قالت إحداهن: إن زوجها غث هزيل، يجمع إلى قلة خيره سوء خلقه، لا ينال القليل منه إلا بالكثير من المشقة، وهو مع تفاهته مترفع متكبر يسمو بنفسه فوق موضعها، وقد عبرت عن ذلك بتعبيرها البدوي اللطيف: «زوجي لحم جمل غث، على رأس جبل وعر، لا سهل فيرتقى، ولا سمين فينتقى».
1
وذمت أخرى زوجها بأنه جشع شره، إن أكل أو شرب أتى على كل ما أمامه، وهو مع ذلك لا يسد حاجتها منه: «إن أكل لف، وإن شرب اشتف، وإن اضطجع التف».
وذمت ثالثة زوجها بأنه عيي، أحمق، سخيف العقل، يتخيل كل داء عند الناس داء فيه، طويل اليد؛ يضرب ويكسر، وذلك إذ تقول: «زوجي عياياء طباقاء، كل داء له داء، شجك أو فلك أو جمع كلا لك».
هذا نوع من أنواع الساخطات القادحات، أما من مدحن، فقالت إحداهن : إنه حسن الرائحة، طيب الملمس، وكنت بذلك عن طيب سيرته في الناس وحسن عشرته؛ إذ قالت: «زوجي، الريح ريح زرنب، والمس مس أرنب».
وقدرت أخرى زوجها من ناحية المعنى فوصفته بأنها تسكن إليه وترتاح في جنابه، وتشعر بالطمأنينة؛ إذ كان زوجا لها وكانت زوجة له، لا تشعر من مصاحبته بسأم أو ملل، وعبرت عن ذلك تعبيرا لطيفا فقالت: «زوجي كليل تهامة، لا حر، ولا قر، ولا مخافة ولا سآمة».
ولاحظت أخرى في زوجها معنى لطيفا، وهو أنه لطيف العشرة في البيت، خشن الملمس خارج البيت، لا يسأل عما افتقده في البيت، فقالت: «زوجي إن دخل فهد، وإن خرج أسد، ولا يسأل عما عهد».
ومدحت زوجة زوجها فقالت: «زوجي رفيع العماد، طويل النجاد، عظيم الرماد، قريب البيت من الناد». فوصفته بالشرف وطيب الأصل، والرفعة في قومه، وأنه طويل القامة، كثير الكرم، كثير الضيوف، وأنه اتخذ بيته قريبا من مجتمع القوم، ولا يفعل ذلك إلا كريم؛ لأنهم يأخذون منه ما يحتاجون إليه في مجالسهم.
ومدحت زوجة زوجها بأنه كثير المال، وقد أعد المال لقصاده، فقالت: «زوجي مالك، له إبل كثيرات المبارك، قليلات المسارح، إذا سمعن صوت المزهر أيقن أنهن هوالك»، وتريد بالجملة الأخيرة أنه تعود أن يلقى ضيوفه بالمزاهر، (والمزهر هو العود يغنى عليه) وقد تعودت إبله أنها إذا سمعت صوت العيدان والمعازف أدركت أنهن سينحرن لا محالة.
وجاء دور أم زرع فقالت: إنه زينني بالحلي، ووسع علي في الرزق، وأخرجني مما كنت فيه من ضيق في أهلي إلى نعيم في جنابه، فإذا قلت فيه فمجال القول ذو سعة، فذلك قولها: «أبو زرع وما أبو زرع، أناس
2
من حلي أذني، وملأ من شحم عضدي، وبجحني
3
فبجحت إلي نفسي: وجدني في أهلي في غنيمة بشق،
4
فجعلني في أهل صهيل وأطيط ودائس ومنق،
5
فعنده أقول فلا أقبح، وأرقد فأتصبح،
6
وأشرب فأتقنح».
7
ويروي الحديث أن رسول الله لما سمع هذه القصة من عائشة قال لها: كنت لك كأبي زرع لأم زرع.
وفي هذه القطعة الأدبية مصداق للحياة البدوية، من إبل وخيل وصهيل ونقيق، وفيها أمثلة لما يذم من الأخلاق من بخل وعي وحمق وشره، وما يمدح من كرم ونحر للضيفان، وسعة صدر، وحسن عشرة، وفيها مثل من أمثلة ما يعجب المرأة العربية من الرجل، وما لا يعجبها ... إلخ.
ونقف عند هذا الخبر قليلا لنفكر: هل من المعقول أن يجتمع نساء كهؤلاء، فتقول كل زوجة على البديهة هذا اللفظ المزوق في هذا السجع المنمق، من مثل: عياياء طباقاء، ومن مثل: إن أكل لف، وإن شرب اشتف، وإن اضطجع التف ... إلى آخر الأسجاع، أو أن قصاصا لطيفا سمع بعض الحكايات المألوفة فوضعها في هذه الصيغة البليغة؟
ترى؛ لو اجتمعت إحدى عشرة امرأة حضرية في مجلس في القاهرة أو دمشق أو بغداد فماذا كن يقلن إذا ذممن، وماذا يقلن إذا مدحن؟ ستختلف اللغة كل الاختلاف، وستختلف المعاني أيضا كل الاختلاف، فلا يكون في اللغة بطيبعة الحال جمل ولا خيل ولا صهيل، ولا طويل النجاد ولا كثير الرماد؛ لأن كل بيئة لها حكمها، وكل زمان له لغته ومعانيه، وأكبر الظن أنه إذا اجتمع إحدى عشرة امرأة حضرية فمن الصعب أن يسود النظام والإصغاء؛ حتى يسمعن رأي القائلة في وصف زوجها، ومن الصعب أيضا أن يلتزمن الصدق، فسيكون منهن المتزيدة التي تسرف في مدح زوجها، أو ذمه؛ حتى تخرج عن المعقول.
وهب أننا افترضنا الصدق والنظام فستكون هناك معان للذم جديدة، ومعان للمدح جديدة، خلقتها البيئة الجديدة، وسترى بعضهن يشكون أزواجهن من السهر خارج البيت إلى ما بعد منتصف الليل في سكر أو قمار أو مغازلة نساء أو كيف من الكيوف، وهو معنى لم يتعرض له حديث أم زرع، وقد يشترك بعضهن مع نساء البدو في الوصف بالبخل وسوء العشرة؛ وإذا مدحن فقد يشتركن أيضا في المدح بالكرم وإغداق النعم عليهن ونحو ذلك.
ولكن مما لا شك فيه أن المدنية ستوحي لبعضهن بمعان جديدة؛ فقد تصف الحضرية زوجها بأنه أباح لها الحرية في كل ما تقول وتفعل، كما أباحت له الحرية في كل ما يقول ويفعل، وما يدرينا؟! لعل امرأة حضرية أخرى تصف زوجها الحضري بأنه استنوق فصار الناقة وصارت الجمل، وأصبحت الذئب وأصبح الحمل.
ولعل هذا الحديث يوحي لنا بوصف أحد عشر رجلا يجلسون فيصفون زوجاتهم، ويتعاقدون على الصدق في القول، إذا لكان مجلسا ظريفا يكمل مجلس أم زرع، ولعلنا نفعل.
من الأدب العربي (2)
حكمة على لسان مهرج
من لقادة الأمم جميعا بعقلية أبي دلامة؟!
كان أبو دلامة مهرجا كبيرا في أول العصر العباسي، يضحك الناس بشكله وقوله وفعله وشعره، فكان أسود اللون، قبيح الوجه، سكيرا معربدا، وكان خفيف الروح، لطيف الشعر، حاضر البديهة، عارفا بنفوس الناس وما يسرهم وما يغضبهم، وخاصة الولاة والحكام، خبيرا بطرق اجتذاب المال منهم، وكان يقوم مقام (مضحك الملك)، كان مضحكا للسفاح والمنصور والمهدي، وتشيع نوادره وشعره وأقواله في بغداد فيخفون لها ويضحكون منها، ويخشى كل أمير أو كبير أن يجعله أبو دلامة موضعا لنكتة أو نادرة من نوادره، فيسبغ عليه عطاءه؛ حتى لا يكون موضع السخرية من الناس بما يتناقلونه فيه عن أبي دلامة.
اتخذ من نفسه ومن زوجه ومن ابنه أسرة للحيل والمكر، يبتز بها الأموال من الأغنياء، ويضحك منهم، ويضحك عليهم، ويصفه الجاحظ بخبرته النفسية، ودهائه في الاستجداء، ويستدل على ذلك بأنه أضحك المنصور يوما، فقال له: سلني حاجتك. قال: كلب صيد. قال المنصور: أعطوه إياه. قال: فدابة أتصيد عليها. قال: أعطوه. قال: فغلام يقود الكلب. قال: أعطوه. قال: فجارية تصلح لنا الصيد وتطعمنا منه. قال: أعطوه. قال: لا بد لهؤلاء من دار يسكنونها. قال: أعطوه دارا تجمعهم. قال: وإن لم يكن لهم ضيعة فمن أين يعيشون؟! فأعطاه ضيعة ... إلخ. قال الجاحظ: فانظر إلى حذقه بالمسألة ولطفه فيها؛ حيث ابتدأ بكلب، وانتهى بضيعة، ولو سأله الضيعة ابتداء ما وصل إليها.
وتروي لنا كتب الأدب الكثير من فكاهته ونوادره وشعره الذي يستخدمه في الإضحاك.
ولندع هذا كله؛ ونروي له قصة رائعة حقا حكيمة حقا.
لقد كان أبو دلامة جبانا يخشى الموت، ويخشى أن يحمل سلاحا، ويخشى أن يشهد قتالا، وما له والقتال؟! فليس له إلا نكتة يقولها، أو أضحوكة يضحك بها، أو حانة يحتسي فيها الخمر، أو نحو ذلك من ضروب اللهو، أما ميدان القتال فيهرب منه هروب الفأر من القط، وعرف الخلفاء والأمراء منه ذلك، فكانوا يأمرونه أحيانا أن يتجهز للقتال؛ لينظروا كيف يفعل، وكيف يضطرب، وكيف يستغيث، وكيف يصير أضحوكة للناس بعد أن اتخذ الناس أضحوكة له.
أمره المنصور يوما أن يخرج إلى الشام للقتال، فقال أبو دلامة: يا أمير المؤمنين، أعيذك بالله أن أخرج، فإني والله لشؤم. قال له المنصور: امض؛ فإن يمني يغلب شؤمك. فقال: لعمر الله يا أمير المؤمنين ما أحب لك أن تجرب في مثل هذا الموقف، فإني لا أدري أيهما يغلب! يمنك أو شؤمي؟ وأنا بنفسي أدرى وأوثق وأعرف وأطول تجربة. قال المنصور: دعني من هذا، فما لك بد من الخروج. قال: فإني أصدقك الآن، شهدت والله تسعة عشر عسكرا كلها هزمت وكنت سببها، فإن شئت الآن أن يكون عسكرك العشرين فافعل. فضحك المنصور وأعفاه.
وليس هذا أيضا هو المقصود من هذا المقال، إنما حدث مرة أن أتي به إلى المهدي وهو سكران، فأراد أن يعاقبه، فجنده في جيش مع روح بن عدي بن حاتم المهلبي؛ لمحاربة الخوارج، وهم أصدق الناس قتالا، وأعنفهم حربا، وأنكاهم في عدوهم، وظل أبو دلامة يستعطف ولا يجد سميعا، فخرج مع الجيش وحاول أن يستعطف قائد الجيش روحا بن عدي المهلبي ويقول له:
إني أعوذ بروح أن يقدمني
إلى القتال فتخزى بي بنو أسد
1
إن البراز إلى الأقران أعلمه
مما يفرق بين الروح والجسد
قد حالفتك المنايا؛ إذ صمدت لها
وأصبحت لجميع الخلق بالرصد
إن المهلب حب الموت أورثكم
وما ورثت اختيار الموت عن أحد
لو أن لي مهجة أخرى لجدت بها
لكنها خلقت فردا فلم أجد
وهو شعر لطيف مؤثر، ولكنه لم يؤثر في «روح» ولم يستمع له؛ إذ كان هذا أمر المهدي، وهكذا أرغم على القتال فتقدم إليه كارها ساخطا خائفا، فجمع كل حيلته ودهائه للخروج من هذا المأزق، فماذا صنع؟
كانت عادة الخوارج أن يبدأوا القتال بالمبارزة، فيبرز رجل ويطلب من يبارزه؛ حتى إذا حمي القتال كانت حرب الكر، فخرج خارجي يطلب المبارزة، وأمر أبو دلامة أن يخرج له، وهنا كان الموت لا محالة من نصيب أبي دلامة، فأنى له أن يقف أمام الخارجي؟! قال أبو دلامة: أيها الأمير، إنه أول يوم من أيام الآخرة، وآخر يوم من أيام الدنيا، وأنا والله جائع، فمر لي بشيء آكله ثم أخرج، فأمر له برغيفين ودجاجة، فأخذ ذلك وبرز إلى الصف ووقف أمام الخارجي، وكانت عيناه تتقدان، وأسرع إلى أبي دلامة يقضي عليه، فقال له أبو دلامة: على رسلك يا هذا. فوقف.
أبو دلامة :
هل كان بيننا عداوة قط؟
الخارجي :
لا!
أبو دلامة :
هل تعلم بين أهلي وأهلك وترا؟
الخارجي :
لا!
أبو دلامة :
ولا أنا والله لك؛ إلا على جميل.
أبو دلامة :
أتقتل رجلا على دينك؟
الخارجي :
لا!
أبو دلامة :
إني والله أدين بدينك، وأريد الشر لمن أراده لك.
الخارجي :
جزاك الله خيرا، (وأراد الانصراف) .
أبو دلامة :
قف، إن معي زادا وأريد أن آكله، وأريد مواكلتك لتتأكد المودة بيننا ونري أهل العسكرين هوانهم علينا.
الخارجي :
أفعل!
فتقدم إليه أبو دلامة حتى اختلفت أعناق دابتيهما، ووضعا أرجلهما على معرفتيهما، وجعلا يأكلان، فلما رأى العسكران ذلك جعلوا يضحكون، وعاد أبو دلامة بعد الأكل، وقال للقائد: أنا كفيتك قرني فقل لغيري يكفيك قرنه. •••
هذه هي حكمة أبي دلامة، وهي حكمة العالم كله، وهي الحكمة التي غابت عن الناس جميعا في بداوتهم وحضارتهم، فكانت الحرب المزمنة، ولو عقل الناس لفعلوا فعل أبي دلامة، لم يقاتل الجيش الجيش؟ هل بينهما خصومة؟! لا. هل بينهما ترة؟ لا. لو سأل كل جندي قرنه سؤال أبي دلامة لأجاب إجابة الخارجي، ولو سأل كل جيش الجيش الذي يقاتله هذا السؤال لأجابه هذا الجواب، بل هذه الحكمة هي التي غابت عن رؤساء الحكومات وقادة الحروب؛ فلو تساءلوا سؤال أبي دلامة ، ما كان الجواب الحق إلا إجابة الخارجي.
والحق أن ليس بين الجيوش عداء إلا عداء مصطنع تبثه الوطنية المصطنعة، والناس يحاربون اتباعا لرأي القادة الذين يقعون تحت سيطرة الغفلة، وقد كان الناس قديما إذا نازع فرد فردا تقاتل الفردان، وأخذ أحدهما حقه أو ما يدعي أنه حقه بالقتال، فلما تحضروا حل العقل محل القتال وأنشئت المحاكم وأنشئ القضاء، ولكن عقل الأفراد ولم تعقل الحكومات، فلا تزال الحكومات تأخذ حقها أو ما تدعي أنه حقها بالقوة والحروب، فعل الإنسان المتوحش الأول.
لماذا يتقاتل الناس؟ إنهم يتقاتلون لأن حكوماتهم تريد القتال، ولماذا تتقاتل الحكومات؟ إنها تتقاتل لسبب من أسباب ثلاثة: أولها جميعا: أنها تتقاتل؛ لأن مريدة القتال تريد العظمة والسيطرة واتساع الرقعة، أو تريد زيادة المال لأمتها، واستغلال الغير لفائدتها، وإفقار الأمة المغلوبة لغنى الغالبة، وشرب دم المغلوب لري الغالب؛ أو تريد الفخفخة الكاذبة وحسن الصيت، والتبجح بأنها أعظم دولة، أو أقوى دولة، أو أنها لا تغرب الشمس عنها، أو أنها ذات الكلمة المسموعة في سياسة العالم وتوجيهه.
هذه هي الأسباب التي كانت من أجلها الحرب ولا شيء غيرها؛ فلننظر إليها بعين الحق، وإن شئت فقل بعين أبي دلامة؛ هل شيء منها أو هي كلها تستحق هذا الدمار في العالم، وهذه الدماء تجري أنهارا، وهذا الفزع يملأ النفوس، وهذه الأسر تفقد أبناءها وتشقى بقتل عائلها، وهذا الخراب وهذا الدمار، وهذا النقص في الأنفس والأموال والثمرات؟ إن القادة إنما يفعلون ذلك؛ لأنهم فقدوا عقولهم وغلبت عليهم شهواتهم، ولو عقلوا لرأوا أن لا شيء في العالم يساوي إزهاق روح واحدة، وأن المادة مهما عظمت لا يمكن أن تقوم بإنسانية مهما كانت جزئية.
أما بعد؛ فمن لقادة الأمم جميعا بعقلية أبي دلامة؟!
التجديد والمجددون
حركات التجديد في عصرنا الحاضر أسرع منها في كل عصر مضى؛ لأن العالم أصبح وحدة، والفروق في الأزمنة والأمكنة قد قضي عليها، وما يحدث في أمة ينتقل عنها إلى أقصى العالم في سرعة البرق ... وحسبك في ذلك تطور الشرق في القرن الأخير ...
من الأحاديث الطريفة ما روي عن أبي هريرة عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أنه قال: «يبعث الله لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة من يجدد لها دينها»، وقد أخذ العلماء يبحثون في رأس كل مئة سنة عن هذا المجدد الذي يصدق عليه الحديث، فقال بعضهم إنه عمر بن عبد العزيز على رأس المئة الأولى، والشافعي على رأس المئة الثانية، وابن سريج أو الأشعري على رأس المئة الثالثة، وأبو حامد الإسفرائيني على رأس المئة الرابعة، والخامس الغزالي، والسادس الفخر الرازي، والسابع ابن دقيق العيد ... إلخ. ويعجبني في هذا الحديث طرافته من حيث معناه وتقريره لفكرة تغير التشريع بتغير الزمان، ولكن لم يعجبني من الفقهاء تزمتهم الحرفي في تحديد مجيء المجتهد على رأس كل مئة بالحساب الدقيق، كما لم يعجبني فيهم تعصبهم المذهبي واعتقاد الشافعية أن المجدد يجب أن يكون شافعيا أبدا، وهكذا.
والواقع أن فكرة التجديد لا يمكن أن تقاس بالمتر؛ فقد يحدث من الأحداث ما يستوجب التجديد في زمن قصير، وقد يحدث منها ما يستوجب التجديد في زمن طويل، وليس التجديد مقصورا على الدين، فكل مرفق من مرافق الحياة يتجدد: الدين، والعادات والتقاليد، والأدب والغناء، والنظريات السياسية والعلم، وكل شيء في الحياة يتجدد؛ لأن هذه الأشياء كلها وليدة الزمان، والزمان في تجدد مستمر وحركة دائبة؛ فكم من الفرق بين الأدب الجاهلي والأدب الحديث! وكما قال الجاحظ: «كم من الفرق بين قول امرئ القيس:
تقول وقد مال الغبيط بنا معا
عقرت بعيري يا امرأ القيس فانزل
وقول علي بن الجهم:
فبتنا جميعا لو تراق زجاجة
من الماء فيما بينا لم تسرب»
وفي كل شيء تجد هذا التغير: بين البيت قديمه وحديثه، والملابس قديمها وجديدها، وفن العمارة قديمه وجديده وقد ينضم إلى الفكرة أفراد الأعمال ما لا يأتيه الفرد العادي منفردا في حالة وعيه، والموسيقى قديمها وجديدها؛ وهكذا، وكل تغيير في مرفق من هذه المرفق العالم العالم يسمى تجديدا.
ولكن ما هو التجديد وما هي قوانينه؟ إن التجديد من ناحيته النفسية معناه مرونة العقل لإحلال الأوضاع الجديدة محل الأوضاع القديمة، أو تعديل القديم ليتفق والجديد، ومن ذلك يتضح أن التجديد يتخذ أحد شكلين: إما القضاء على القديم بالوسائل الثورية، وإما أخذ طرف من القديم وطرف من الجديد ومزجهما مزجا متناسبا بوسيلة سلمية هادئة، وقد أشار روسو في القرن الثامن عشر إلى أهم مظاهر التجديد؛ إذ وصفه بأنه «الأخذ بمبادئ الإنسانية والمبادئ العقلية والتسامح الفلسفي، وإحلال ذلك محل الأوضاع القديمة وتقديس السلطات والتعصب الضيق النظر».
وللتجديد قوانين تشبه القوانين الطبيعية في دقتها واطرادها وعدم تخلفها، وإن كان لا يزال بعض هذه القوانين غامضا معقدا.
تبدأ فكرة التجديد عند فرد أو أفراد قلائل، وتأتيهم هذه الفكرة من شدة شعورهم بسوء الحاضر، فيدعون إليها، ويؤلفون الحجج العقلية والشعورية للبرهنة على صحتها، وقد يحدث أن تقبل هذه الفكرة وتنتشر وتتسع كما تتسع الموجات؛ حتى تعم الشعب بأجمعه؛ ولكن كثيرا ما يحدث أن تقاوم الفكرة، ويدعو إلى مقاومتها أنها قد تسلب بعض أصحاب المصالح مصالحهم، وتفوت على المتمسكين بالقديم منافعهم، كما يحدث عادة عند اختراع آلات للنقل تحل محل أدوات النقل القديمة، وكما يحدث عند الدعوة إلى منهج في التعليم جديد يخالف منهجا في التعليم قديما أو نحو ذلك، وقد يدعو إلى اضطهاد الدعوة الجديدة خوف أصحاب السلطان منها؛ لأنها تذهب بجاههم أو سلطانهم، إذ ذاك يقف أصحاب المصالح المهددة وأصحاب السلطات المقررة في سبيل هذه الدعوة، فيضطر الداعون إلى مقابلة المقاومة بالمقاومة ومحاربة الفكرة بالفكرة، وقد يستدعي الأمر محاربة العنف بالعنف، فينقسم الناس إلى معسكرين: معسكر يناصر القديم، ومعسكر يناصر الجديد، والغلبة للقوة، ولسنا نعني القوة المادية فحسب، بل المادية والمعنوية معا.
وقد يجد دعاة التجديد أنفسهم أمام تيارين متناقضين، فيضطرون إلى منازلتهما جميعا، كالذي حدث في الاشتراكية؛ إذ رأى أصحابها أنهم مضطرون إلى منازلة فكرة الشيوعية المتطرفة، وفكرة الرأسمالية الجامدة.
ثم إن هناك ظروفا تساعد على نجاح الفكرة الجديدة؛ منها أن يعم الشعب الملل، والإحساس بسوء الحال، والطموح إلى حال خير من حالهم، ونظام خير من نظامهم، وعدل يحل محل ظلمهم، فتسري الدعوة إلى التجديد وإلى التغيير سريان النار في الهشيم، ويقرب من هذا أن تكون الدعوة إلى الجديد قريبة من أذهان الشعب، محركة لعواطفهم، محققة لآمالهم، أما إن كانت الدعوة تسبق زمنها بوقت طويل، ولا تلتقي مع عواطف الناس وعقليتهم الحاضرة فقل أن يكتب لها النجاح.
ومن المشاهد أن هناك جماعات تكون أسرع قبولا لفكرة الجديد، وجماعات أخرى أشد مقاومة للتجديد، فإذا كانت الجماعة من الجماعات التي تكونت حديثا، ولم تقيد بقيود ثقيلة من الأوضاع، كما هو الشأن في أمريكا، كانت أقرب إلى اعتناق فكرة التجديد، وكذلك الشأن إذا سادت فيها حرية الرأي، وحرية الصحافة، وحرية الخطابة، والتسامح الفكري والديني، كما هو الشأن في إنجلترا، أما إن كانت الأمة بدائية تقدس الآباء وما صدر عنهم كالذين قال فيهم الله تعالى:
إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون ، أو كانت الأمة متدينة دينا جامدا لا تسمح فيه باجتهاد ولا تعمل فيه عقلا، ولا تقيسه بالمصلحة العامة، فهناك يكون الجمود، وسد الآذان، وإغماض العيون عن كل دعوة إلى التجديد.
ومن العجيب أن نرى بعض العادات الجديدة تنتشر في سرعة، وبعضها لا تنتشر مطلقا؛ أو في بطء شديد! فسفور المرأة المصرية كان عادة جديدة سرعان ما انتشرت حتى كادت تعم الشعب بأجمعه، ولكن لبس السيدات للبنطلون وللكورسيه ولعب الرجال للبياردو لم ينتشر، فهل سبب هذا أن العادة الجديدة إذا نبعت من صميم الشعب، ومن الطبقة الوسطى والدنيا كانت أعم، وإذا نبعت من الطبقة الأرستقراطية لم تعم؟ أو أن السبب في ذلك يرجع إلى المواءمة وعدم المواءمة، وتكاليف البدعة الجديدة كثرة وقلة.
وللأزمات فضل كبير على التجديد؛ فالأزمات الحربية مثلا قربت بين أمم ما كان يظن أن يقرب بعضها من بعض، وحملت على التفكير في مثل عصبة الأمم وميثاق الأطلنطي وهيئة الأمم المتحدة ونحو ذلك، وإن كانت ولدت تفكيرا ولم تتحقق عملا؛ والأزمات الاقتصادية كوقوع طائفة كبيرة من الناس في الفقر والمرض والجهل، كثيرا ما تحمل الأمة على التفكير في نظام الثروة وضرب الضرائب ووضع الخطط لمقاومة الفقر والجهل والمرض، وهكذا.
وحركات التجديد في عصرنا الحاضر أسرع منها في كل عصر مضى؛ لأن العالم أصبح وحدة، والفروق في الأزمنة والأمكنة قد قضي عليها؛ وما يحدث في أمة ينتقل عنها إلى أقصى العالم في سرعة البرق؛ ولذلك نرى حركات التجديد في الأفكار والنظم السياسية والنظم الاجتماعية والاقتصادية تغزو العالم بأسرع من غزو الحروب؛ وحسبك في ذلك تطور الشرق في القرن الأخير وقبوله أفكارا كثيرة جديدة من المدنية الغربية في الماديات والمعنويات ما كان يقبلها في العصور الماضية.
وما مظاهر القلق والاضطراب في العالم اليوم إلا مظاهر حرب بين جديد وقديم، وإن شئت فقل بين قديم ظهر فساده، وجديد لما يتضح ولما يحدد، ومن المشاهد أن مرافق الحياة في كل شعب متفاعلة ميالة بطبعها إلى إيجاد الانسجام بينها، فإذا دخل التجديد في مرفق منها فسرعان ما تنفعل لذلك سائر المرافق؛ كحوض الماء يصب فيه ماء بارد وماء ساخن، فسرعان ما يكتسب البارد سخونة والساخن برودة؛ حتى يكون منهما ماء في حرارة واحدة.
قد كان ذلك قديما في كل شعب، أما اليوم فالعالم كله على هذا الحال يتفاعل ويتفاعل ثم ينسجم وينسجم، والطبيعة دائما تميل إلى وحدة الوجود.
مذكرات الأستاذ محمد كرد علي
نشر الأستاذ محمد كرد علي جزأين من مذكراته ضمنهما ترجمة حياته، وهي حياة طويلة حافلة؛ فقد عاش الأستاذ في أوساط مختلفة، ورحل رحلات كثيرة في الشرق والغرب، وانغمس في السياسة واكتوى بنارها، واشتغل بالصحافة مدة طويلة، والصحافة من أكبر المدارس في معرفة الحياة وألوانها، وصادق كثيرا من رجال الأدب والسياسة والعلم والمال والأعمال، وخبرهم وأطال عشرتهم، وعمر بحمد الله عمرا طويلا؛ فقد ذكر في مذكراته أنه في عشر الثمانين، وتقلب في مناصب كبيرة حتى كان وزيرا أكثر من خمس سنوات، فالمذكرات مظنة الإفادة والإمتاع.
وقد صاحبت الأستاذ كرد علي مدة طويلة، جالسته في مجمع فؤاد الأول في مصر، واستمعت إلى آرائه وبحوثه ، وجالسته في لجنة التأليف والترجمة يوم كان يغشاها، وفي مجمع دمشق أيام كنت أزورها، وكونت فيه رأيا بعد طول الخبرة، هو أنه واسع الاطلاع على الكتب العربية، عليم بمصادر الموضوعات المختلفة وبخزائن الكتب، وهي شيمة أخذها عن أستاذه الشيخ طاهر الجزائري؛ فقد كان رحمه الله بحاثة في الكتب، عليما بخفاياها، حسن التقدير لغثها وسمينها، وقد أفاد الأستاذ كرد علي العالم العربي بما ألفه في هذه الناحية ككتابه «خطط الشام»، وبما نشر من كتب من مثل: رسائل البلغاء، وأخبار أحمد بن طولون.
ولكنه إذا عدا هذا الطور فتعرض لبحث مبتكر أو لنقد لما قرأ، أو تعقيب على قول لم يعجبني كثيرا، لا في آرائه، ولا في أسلوبه، فآراؤه لا تصدر عن أفق واسع ولا نظر شامل ولا عمق كاف، وأسلوبه متعثر ليس فيه رونق أو صفاء، ونكاته ونوادره تستجلب الضحك عليها لا الضحك منها، وكنت لا أرتاح لكثير من تصرفاته، فهو إذا لقي أحدا من معارفه عانقه وبالغ في مدحه في وجهه حتى يخجله، وأثنى على تآليفه وكتبه؛ ولو لم يكن له تأليف ولا كتاب، والله أعلم بما يقوله من ورائه.
وجاءت مذكراته هذه مصداقا لما أقول، من قلة في الذوق، وسخافة في الحكم، وتقويم ما ليست له قيمة، وتحقير ما له قيمة.
وهؤلاء المصريون الذين كان يلقاهم فيعانقهم ويشيد بذكرهم، قد انقلب عليهم انقلابا عجيبا؛ لسبب عجيب أيضا!
أسوق لذلك مثلا لطيفا، فقد كتب في الجزء الثاني مقالا عنوانه: «كتاب إلى حبيب»، كتبه إلى معالي محمد حلمي عيسى باشا، يصب فيه نقمته على أدباء مصر، ويسبهم ويقدح فيهم أفظع القدح، لماذا؟ لأنهم لم يقرظوا كتبه ولم يشيدوا بذكره أو نحو ذلك من توافه الأسباب، اسمعه يقول: «وماذا أقول في مجلاتكم وصحفكم و«أحمد حسن الزيات» صاحب مجلة الرسالة بعد أن كان يكتب لي أنه كان لقى فرفعته، تنكر لي بأخرة وأعمته التجارة وجمع الأرباح، ونسي أصحابه ومن عاونوه على اكتساب الشهرة». «وصديقي أحمد أمين كأكثر المشتغلين بالعلم في مصر وغير مصر «أشغل من ذات النحيين»، ما سمعت منه كلمة طيبة لا باللسان ولا بالقلم منذ عرفته، وأنا - شهد الله - ما تركت بابا من أبواب الدعاية له منذ ظهوره في التأليف، سأله في الجامعة أحد تلاميذه من الحلبيين عن رأيه في، فقال: تسألني رأيي في بلديك؟ إنه أعرف المعاصرين بالمصادر». «وهناك في مجمع فؤاد الأول من هم عجيبة الزملاء، هناك رئيسه أحمد لطفي السيد باشا الفيلسوف، وكثيرا ما نوهت به، وأردت إخواني في المجمع العلمي العربي من أول تأسيسه أن يختاروه عضوا مراسلا فانتخبوه، وما تنازل أن يحييهم بكلمة شكر فيما أذكر، ولم يغلط خلال خمسين سنة أن يقابل جميلي بمثله، كأنه يعتقد أن ما أقوم به نحوه هو واجبي، وأنه من عالم غير هذا العالم، وشتان بين ثقله وخفتي، وفرق بين جنسيتي وجنسيته، هو مصري وأنا شامي». ثم أبان سبب سخطه عليه، فذكر أن لطفي باشا دعاه وزملاءه إلى نادي محمد علي، فلحظ لطفي باشا أن بين الأعضاء الأجانب رجلا له لقب وزير؛ فدعاه إلى الجلوس في مقام التكرمة، وترك كرد علي.
ونقم على المازني وهيكل لمثل هذا السبب فقال: «إن رصيفي المازني وهيكل ما أضاعا قط كلمة في التعرض لعملي وعمل إخواني في الشام، انتخبهما مجمعنا عضوين مراسلين، فلم يتنزلا أن يكتبا له سطرا، وكيف يرتكبان هذا الإثم؛ والمازني دأب حياته يكتب المقالات للصحف والمجلات، ودأب يستوفي المكافآت عليها، وهيكل أصبح بقلمه وحزبه ممن يدير دفة السياسة المصرية، وأي نفع يأتي من كرد علي وصحبه؟!».
وأغرب من ذلك كله قسوته على الأستاذ محمود شلتوت، أتدري ما السبب؟ إنه سبب يستوجب الاستغراق في الضحك من غير شك، قال - حفظه الله - «كان الشيخ محمود شلتوت لي صديقا قديما، عرفته في دار آل عبد الرازق الأكارم، ولما اضطهده الشيخ الظواهري في الأزهر كنت من أول الحانقين عليه، ولما نفس خناقه وأعيد إلى منصبه فرحت له فرحا كثيرا، أتدري ماذا كان مقامي عند عضو جماعة كبار العلماء؟ كان منه أن أهداني كتابا له وكتب على ظهره: «آية الإخلاص لصاحب العزة فلان». هذا ما جناه الأستاذ شلتوت وما استحق من أجله من الأستاذ كرد علي اللوم والتعنيف والتأنيب؛ حتى ختم ذلك بقوله: «إن المباينات بين أرباب العمائم وأرباب الطرابيش قديمة لا تحتاج إلى بيان»، وهكذا وهكذا من أمثال هذه الأحكام العجيبة للأسباب الغريبة.
ألا يدري الأستاذ أن الحكم على الأشخاص إذا كان ميزانه مدحا لكتاب أو عدم مدحه أو الإفراط في الألقاب أو التقصير فيها، أو نحو ذلك من توافه الأمور، كان حكما سخيفا لا يقام له وزن، وكان أشبه ما يكون بحكم الأطفال؛ إذ يحبون شخصا؛ لأنه يضحك في وجوههم أو يقدم لهم قطعة من الحلوى، ويكرهون آخر؛ لأنه عبس في وجوههم أو لم يقدم لهم حلوى، أما الرجال العظماء أمثال الأستاذ فميزان الأحكام عندهم يجب ألا يكون الأحداث الشخصية الصغيرة، وإنما قيمتهم الحقيقية وصفاتهم الذاتية.
ولو حكم على جمال الدين الأفغاني ونابليون وبسمارك، بل لو حكم على الأنبياء والمرسلين بميزان الأستاذ هذا لكانت النتيجة غريبة عجيبة، فليس منهم إلا من عبس ولم يقرظ، وانتقد أحيانا في مرارة، وعاقب أحيانا في شدة، ومع كل هذا لم تدخل هذه الأعمال كلها في الميزان الصحيح للحكم عليهم؛ لأنها توافه لا يأبه بها إلا التافهون، ومن أجل هذا النظر التافه لم ينل أحد من إعجاب الأستاذ محمد كرد علي في مصر ما نالته جمعية «البعكوكة»؛ فقد كتب في محاسنها صفحات ثناء وإعجاب لم ينلها أحد من الكبراء ولا العظماء ولا المؤسسات العلمية والأدبية.
ثم في الكتاب مصداق لقلة الذوق، فهو يصف المشتغلين بالعلم في مصر وغير مصر بأنهم أشغل من ذات النحيين، وأحيل الأستاذ الكبير على أي كتاب في الأمثال أو على لسان العرب في مادة «نحي»؛ ليعلم مضرب المثل، وليعلم أيضا أنه لا يصح أن يستعمله في مثل هذا الموضع إلا من تجرد من كل ذوق.
ويشاء أدبه أيضا بعد أن مدح لجنة التأليف وذكر فضلها عليه في أنها طبعت له ثلاثة كتب، وأعادت طبعها ، وعاملته معاملة حسنة، شاء أدبه بعد كل هذا أن يصفها في ثنايا المدح بأنها «عصابة» ولكن لا بأس، فالذوق شيء ليس في الكتب.
ويحاول الأستاذ في مذكراته أن يظهر بمظهر الوطني الكبير، والمصلح العظيم، والأخلاقي المثالي؛ ولكن لا يلبث أن يخونه قلمه فيكشف عن نفسه، ويذكر مثلا أنه عمل وزيرا مع حقي بك العظم، والشيخ تاج الدين الحسني خمس سنين وسبعة أشهر في ظل الانتداب الفرنسي، ثم هو يطلق قلمه فيهما بالنقد واللذع والتجريح، ويصفهما بضعف الشخصية والمحسوبية والخضوع للسلطة الفرنسية خضوعا تاما مطلقا، وتنفيذ أوامرها مهما كانت ضارة بالبلاد ... إلى آخر ما قاله فيهما، والرجل الأخلاقي المثالي لا يبيح لنفسه أن يشغل الوزراة أكثر من خمس سنين مع مثل هذين الرجلين لو صدق قوله فيهما، إن الرجل الأبي الشجاع يرفض أن يعمل مع من يعتقد أنه يضر البلاد مهما ادعى أنه يريد الإصلاح، وأنكى من ذلك أنه يذكر أنه كان يشتغل معهما رغم أنفهما ولم يكن يحميه في الوزارة ويضغط عليهما في إبقائه إلا السلطة الفرنسية! أيرى الأستاذ أن حب الفرنسيين لبقائه كان صادرا عن غفلة منهم، فيظنوا فيه أنه يشايعهم وهو في الحقيقة يناهضهم؟! أو أنهم يعلمون حق العلم حقائق الرجال ومن ينفعهم ومن يضرهم، وأنهم لولا ما يجدون فيه من خدمة كبيرة لهم ما أبقوه لحظة ولانتهزوا فرصة غضب رؤسائه عليه فأخرجوه من الوزارة مغتبطين مسرورين؟!
الحق أنه قد تم في عهد وزارته أكبر مصائب سورية وهو تقسيمها إلى دويلات أربع، وتمزيقها إلى وحدات متعددة، لكل دويلة علم ولكل دويلة إدارة، وما تحرك الأستاذ ولا حدثته نفسه بالاستقالة رغم كل هذا، وإنما بقي مطمئنا راضيا عما يجري حتى نحى الفرنسيون الوزارة كلها.
وقد كان الأستاذ - كما ذكر في مذكراته - يدعى عند رئيس الوزارة الشيخ تاج الدين الحسني؛ ليؤنس الذين يدعوهم الرئيس من سيدات الفرنسيين وسادتهم؛ كما كان يدعى لاستقبال المندوب السامي في بيروت عند حضوره من فرنسا، فيلبي الأستاذ هذه الدعوات راضيا مغتبطا فخورا، وهكذا وهكذا مما تتكشف عنه المذكرات.
وآخر ما كنت آمله فيه أن يتحرى الصدق فيما يقول، ولكن خاب أملي في هذا أيضا؛ فقد رأيته يذكر عني حادثتين أشهد بالله أنهما كاذبتان؛ كما يذكر كثيرا من الأحداث عن أشخاص متعددين في مصر والشام يكذبونها وينكرونها.
وأسوأ ما في هذا أنه يشكك القراء في كل ما صدر عنه حتى في كتابه تاريخ خطط الشام، والحضارة الإسلامية، فمن يدري! لعله استباح لنفسه من خلق الأحداث ما استباحه في الرواية عن الأحياء، وبهذا لم يكن أساء إلى نفسه فقط، ولكنه أساء إلى المؤرخين جميعا، ولعل كثيرا ممن ورد ذكرهم في الكتاب واتهموا بالجهل أحيانا، والجاسوسية أحيانا، والرشوة وقلة الذمة أحيانا، لم يكن فيهم شيء من هذا، وإنما نشأت من سوء ظن الأستاذ، أو اختراع خياله، أو فساد حكمه على الأشياء.
وعلى الجملة فهذه المذكرات لم تصدر إلا بخذلان من الله كبير، فالله يعفو عنه ويغفر له.
روح السماحة
قرأت اليوم وصفا لناد في واشنطن إذا ترجمنا اسمه إلى العربية سميناه «نادي السفود»
1
عدد أعضائه خمسون، يختارون على أساس مراكزهم الاجتماعية، ومقدرتهم الصحافية، ومهارتهم التهكمية.
ولهذا النادي تقاليد؛ فالأعضاء يلبسون في الاجتماع «الفراك» وربطة الرقبة البيضاء، ولهم شارة هي عبارة عن صورة «سفود» تعلق على السترة، فيعلم أن صاحبها عظيم من العظماء؛ إذ كان عضوا في هذا النادي.
وعمر النادي الآن خمس وستون سنة، يقيم أعضاؤه حفلتين كل عام، إحداهما في إبريل، والأخرى في ديسمبر، وفي كل حفلة يدعى رئيس الجمهورية، ورئيس الحزب المعارض، وكبار موظفي الدولة، وقد لبى الدعوة رؤساء الجمهورية جميعا، ما عدا الرئيس «كليفلاند»، وفي كل اجتماع يعد برنامج حافل يشتمل على أغان وموسيقى وتمثيل، ونكات رائعة، وكلها ترمي إلى نقد الرئيس ورئيس المعارضة وكبار الموظفين نقدا تهكميا لاذعا، واستعراض المشاكل التي تشغل بالهم، وتشغل الرأي العام، وكيف تصرف فيها هؤلاء الكبار، ثم وضع ذلك كله في قالب فكه ساخر، وبعد أن ينتهي هذا البرنامج الذي يشوى فيه هؤلاء الكبار على السفود، يقف رئيس الجمهورية ورئيس الحزب المعارض، فيخطب كل منهما عشر دقائق شاكرا للنادي تهكمه، مقابلا السخرية بالسخرية، والتهكم بالتهكم، واللذع باللذع، وبذلك ينتهي الاحتفال بعد أن يكونوا قد عرضوا للمشاكل والرؤساء من الجانب التهكمي، فأبانوا مثلا كيف كبر هؤلاء الكبار صغار الأمور، وعدوها مشاكل عظمى وهي في ذاتها تافهة، وكيف تصرفوا فيها تصرفات مدوية، وكان يمكن أن يتصرف فيها على أبسط وجه وأخصر طريق، وكل ذلك في ثنايا الضحك اللطيف، والتهزيء الطريف.
ويقول أحد رؤساء الجمهورية في مذكراته: «يزودنا نادي السفود بقدر كبير من المرح، وقد روضت نفسي على الابتسامة العريضة من النكات اللاذعة التي تقال عني ... ويغريني على ذلك علمي أن كل رئيس غيري - مهما بلغت منزلته - سيلقى ما لقيت في سبيل المرح في هذا المساء».
وقد حدثني من تخرج من جامعة أمريكية أنه فوجئ آخر العام الدراسي بورقة وزعت عليه وعلى سائر الفصل، تسأله فيها الجامعة عن رأيه في الأستاذ فلان من حيث كفايته العلمية، ومن حيث طريقة تدريسه، ومن حيث معاملته الطلبة ... إلخ، والطلبة يجيبون في صراحة من غير ذكر أسمائهم، والجامعة والأساتذة يتقبلون هذا في سماحة.
هذا ما أسميه «روح السماحة»، وهي روح لا يمكن أن تسود في أمة إلا إذا ربي الأفراد فيها على الديمقراطية الحقة؛ فلكل شخصيته، ولكل رأيه، ولكل أن ينقد ما يشاء، ومن يشاء، وعلى المنقود أن يكون واسع الصدر في سماع النقد، ولكن على الناقد - أيضا - أن يكون لديه من حسن التقدير ودقة الذوق، ما يصوغ به نقده في أسلوب مؤدب، ولذلك عرف أعضاء نادي «السفود» بأنهم يستطيعون أن يمزجوا الفكاهة والسخرية بالرزانة والذوق السليم.
وليست تستطيع أمة أن تعتنق «روح السماحة» إلا إذا عودت سعة الأفق وعدم التزمت، واحترام الفرد رأي غيره، كما يحترم رأي الآخرين، وإيمانه بأن رأيه وإن ظهر له صوابه قد يكون خطأ، ورأي غيره وإن ظهر خطؤه قد يكون صوابا، وأن من الصعب رؤية الحق من جميع زواياه، فليس يرى الفرد الحق إلا من زاوية واحدة، وقد يراه الآخر من زاوية أخرى؛ ومن أجل ذلك فهو واسع الصدر للنقد، مقدر للناقد محترم له؛ لأنه يزيده في رأيه ثروة.
أما المتعصب فضيق النظر، شديد الحقد على مخالفه، ساد سمعه ومغمض بصره عن أي حجة لخصمه، لا يرى إلا أن تسير الدنيا على رأيه، وإلا استحقت الخراب، ولذلك كان فاقدا لروح الفكاهة، لا تصدر عنه، ولا يستسيغها من غيره؛ لأن روح الفكاهة وروح السماحة منزلة أسمى من منزلته. •••
في الأدب العربي كثير من الشعر والأخبار التي تمثل روح السماحة، كالذي يروى عن الأحنف بن قيس، ومعن بن زائدة وغيرهما، ينقدون فيحلمون، ويتهكم عليهم فيسمحون، ويقابلون السخرية بالابتسامة، ولكن لسنا الآن بصدد أفراد، وإنما نحن بصدد روح عامة في الأمة.
والحق أن الأمم العربية اليوم في أشد الحاجة إلى روح السماحة، فهي تقربهم إلى التفاهم، وتبعدهم عن التقاطع؛ نحن أحوج إليه في علاقة الحاكم بالمحكوم؛ فالمحكوم ينفس عن نفسه بنقد ما لا يستصوبه من أعمال الحاكم، ولكنه نقد مؤدب، وقد يكون فكها فرحا ، وقد يكون فيه سخرية لطيفة، أو نكتة رائعة، والحاكم من جانبه واسع الصدر لسماع النقد، سمح في قبوله، يجيب عن نقده في رزانة، وقد يقابل التهكم بالتهكم، والسخرية بالسخرية، وروح الجميع سليمة من الحقد، لا تنطوي على الشر، وقد فرج ذلك كله على الحاكم والمحكوم، فبينهما - برغم النقد والسخرية - صفاء متبادل.
ونحن في حاجة كذلك إلى روح السماحة في العلاقة بين الدول العربية والشعوب العربية بعضها وبعض، ولو سادت هذه الروح ما رأيت ما يحدث بينها كل حين من سباب وغضب، وتهديد بقطع العلاقات، وسد الطرق، وانسحاب من الجامعة العربية، وما إلى ذلك؛ فمثل هذه الأمور كلها مظهر من مظاهر فقدان «روح السماحة»، ودليل على ضيق العطن، والانطواء على الحقد والضغينة، أو العزة الكاذبة.
لكم نرى في التاريخ الماضي وفي الحاضر من أزمات حادة، عولجت بكلمة سمحة فرجت الأزمة، أو نكتة بارعة أعادت إلى النفوس صفاءها، أو احتمال الرئيس للنقد اللاذع؛ تحقيقا للمصلحة العامة.
إن روح السماحة هي أشبه ما تكون بالروح الرياضية، يلعب اللاعبون في ميدان اللعب، فيتبارون ويتسابقون، ولكن لا يحملون حقدا، ولا ينطوون على ضغينة، فإذا انتهى اللعب وضع المغلوب يده في يد الغالب مهنئا له، وخرجوا جميعا من الميدان بنفوس صافية وقلوب راضية.
وهل الحياة كلها إلا ميدان لألعوبة لا تستأهل احتمال الهم والانطواء على الضغن.
يحكون أن المهدي أراد أن يغزو أهل الشام لخطأ ارتكبوه، فقال له «ابن خريم»: يا أمير المؤمنين، عليك بالعفو والتجاوز عن المسيء، فلأن تطيعك العرب طاعة محبة؛ خير لك من أن تطيعك طاعة خوف.
لماذا - ولأن
لماذا ترى الرجل عاقلا حكيما، صادق الرأي في الحكم على الأشياء، صحيح التقويم لها، عادلا في تقديرها؛ وذلك كله إذا كان الشيء الذي يحكم عليه أو يقدره غير متصل بذاته، ولا يمس مصلحة من مصالحه، ولا يناله منه خير أو شر؛ فإذا اتصل هذا الشيء بنفسه، أو كان يتوقع منه ضرا أو نفعا، فسد حكمه، وساء تقديره، وفقد حكمته، وأصبح مثله مثل السفيه في الرأي، الكاذب في النظر، السيئ التقدير؟
لأن الإنسان في الأعم الأغلب لا يستطيع أن يجرد الأشياء عند الحكم عليها من عواطفه؛ وقد لاحظ الفلاسفة هذا الخطأ في الأحكام، فحاولوا تجريد الأشياء المحكوم عليها مما يتصل بها من العواطف؛ وأدرك هذا علماء المنطق، فرأوا أن الألفاظ في القضية قد يتصل بها شيء من العواطف يفسد حكمهم، فحاولوا أن يعبروا عن هذه القضايا ب: أ، ب، ج، د؛ حتى يكون حكمهم مجردا فيكون أقرب إلى الصدق.
والدنيا مملوءة بالأحكام الفاسدة، والتقويم الفاسد، وكان سبب الفساد وسوء التقويم دخول المنفعة الشخصية في التقويم والحكم؛ حتى في القضية الواحدة، والمثل الواحد، ينظر إليه الإنسان في غيره فيصدر حكمه صحيحا، فإذا اتصل هذا الأمر بشخصه نفسه أصدر حكما آخر، وتقويما آخر.
وهذا ما حدا بطائفة من الفلاسفة أن يقولوا: إن الإنسان لم يمنح العقل لمعرفة الحقائق، ولكن لخدمة المصالح.
ومما يؤسف له أن مداخل العواطف في تقويم الأشياء والحكم عليها مداخل في منتهى الخفاء ؛ وليس الكذب مقصورا على الكذب على الآخرين، بل أشد منه خطرا كذب الإنسان على نفسه؛ فهو يخدعها، ويظن أنه ينصحها؛ ويجور في حكمه، ويظن أنه يعدل، ولم يستطع أن يتحرر من هذا إلا القليل النادر.
وما سبب النزاع في العالم إلا الوقوع في هذا الخطأ، وما ملأ المحاكم بالقضايا إلا هذا الخطأ؛ فليست المحاكم والمجالس القضائية وغير القضائية مقصورة على الشريرين والباغين الذين يدعون الحق ويعلمون أنهم مبطلون، ولكن أكثر من هؤلاء المتخاصمون الذين يختلفون على الأمر الواحد، ويعتقد كل منهم أنه على حق؛ ذلك أن كلا منهم ينظر إلى المسألة من زاويته هو، لا من زاوية خصمه، والزاوية التي ينظر منها كل متخاصم عمل في تكوينها عقله ومنطقه وبواعثه وعواطفه، والخير الذي يرتجيه والشر الذي يهرب منه.
وهذه المصيبة الكبرى تطالعك كل يوم في الخلاف المالي بين الأشخاص والخلاف بين أعضاء المجالس؛ حتى في الهيئات التي تتكون من أرقى الناس عقولا، وأكثرهم ثقافة، وأوسعهم إدراكا؛ فإنك إذا فتشت عن أكبر سبب للخلاف بينهم وجدته في لعب العواطف والمصالح الشخصية الخفية في أعماق النفوس.
وهذا هو ما يطالعك كل يوم في الجرائد في أكثر ما تكتب يوميا؛ فالمسألة الواحدة تعرضها جريدة بشكل، وتحكم عليها بشكل، وتخالفها في كل ذلك الجريدة الأخرى؛ وكلا الكاتبين عاقل ممتاز، كان من الممكن أن يتفق مع صاحبه في نظره وحكمه، لو تجرد من عواطفه وهواه؛ ولكن تدخلت في حكمه على الشيء مصلحته الشخصية، أو مصلحته الحزبية، فلونت عرضه للمسألة، وحكمه عليها؛ حتى رآها أحدهما سوداء، والآخر بيضاء، وحتى عجب القارئ على الحياد من بعد ما بين الفريقين من الخلاف، وكيف لعبت المصالح بالعقول؛ حتى صارت موضع الهزء والسخرية.
بل هذا ما يطالعك أيضا في شئون السياسة العامة؛ فخروج الروس من إيران صواب في نظر الإنجليز، خطأ في نظر الروس، وخروج الإنجليز من مصر صواب في نظر الروس، خطأ في نظر الإنجليز، والتعدي على أية أمة ولو صغيرة بتقسيمها خطأ في نظر جميع الأمم، ولكن تقسيم فلسطين صواب عند أغلب الأمم، ووجود منفذ على البحر الأبيض لروسيا خير لا بد منه في نظر الروسيين، شر لا بد من مقاومته في نظر الإنجليز والأمريكيين، وهكذا.
ذلك لأن العقل ليس هو الذي يحكم وحده، ولكن تدخلت العاطفة الوطنية والمصالح القومية، فلونت المسألة الواحدة عند كل فريق بلون يخالف تمام المخالفة اللون الذي صبغه الفريق الآخر.
وهذا هو سر الخلاف بين الشرق والغرب، بل سر الخلاف بين الدول كلها الآن، وانقسام العالم إلى معسكرين، كما كان من قبل؛ بل هو سر الخلاف بين الممثلين لهذه الأمم، مع أن المفروض فيهم أنهم من أرقى الناس عقلا، وأصدقهم حكما، وأعدلهم تقويما للأشياء؛ وإنما المسألة أن العقل وحده ليس الذي يحكم، وليس الذي يقدر، ولكن العامل الأكبر في الحكم والتقدير هو ما تراه كل أمة ومن يمثلها، مراعيا ما يعود من الرأي على أمته من مصالح أو مضار؛ ولو أنك جمعت هؤلاء الممثلين، وجردتهم من عواطفهم لاتفقوا على رأي واحد في تقدير الأشياء وخيرها وشرها، وما يجب أن يعمل، وما يجب أن يترك، في أقرب زمن.
وإن شئت فقل إن الحروب في العالم وويلاتها سببها هذا الخطأ في الحكم من حفنة من قادة الرأي والسياسة، قدر كل زعيم أمة مصلحة أمته، وما ينالها في الحرب إن دخلت الحرب، أو السلم إن جنحت إلى السلم، ثم أصدر حكمه غير مصغ إلى عقله المجرد، وغير مقدر للحقائق كما ينبغي أن تقدر، وقد يؤثر في رأيه هوى شخصي، أو ناحية من نواحي ضعفه الخلقي، أو رغبته في المجد الوطني الكاذب، أو خضوعه تحت تأثير قوم من الرأسماليين الشريرين، أو نحو ذلك من شهوات أو مطامع ومطامح، يتأثر بها عدد قليل من القادة، فيوقعون العالم الإنساني كله في كوارث لا تقدر خطورتها.
ولو أتيح للعالم يوما من الأيام أن يكون قادته من المناطقة أو الفلاسفة الذين يستطيعون أن يتجردوا في حكمهم على الأشياء من هوى أو مطمع أو مطمح، وأن يقدروا المسائل حسب قيمتها الذاتية لا حسب ما يغلفها من أعراض وأغراض، فإن كان ولا بد من اشتراك العواطف والمشاعر في الحكم، فالعواطف للإنسانية لا للوطنية، والمشاعر للعالمية لا للقومية، لنعم العالم بالسلم، وعاش في رفاهية، وكان الناس بنعمة الله إخوانا.
ولكن أنى لنا ذلك؛ والقول ما قال بديع الزمان: «والله ما فسد الناس، ولكن اطرد القياس».
محنة العالم الإسلامي
يجتاز العالم الإسلامي اليوم محنة من أشق المحن وأقساها، تختلف في مظاهرها وتتحد في أهم أسبابها، العراق ومصر يرفضان المعاهدة التي تعرضها عليهما إنجلترا، فيضطربان من حين لآخر، وتقوم المظاهرات وتكثر الضحايا، وفلسطين تثور لما لحقها من ظلم، وما فرضته عليها الأمم المتمدنة من سلبها أخصب جزء فيها، ويثور معها العالم الإسلامي بأجمعه، والمغرب يجوع من فرنسا، ويئن تحت حكمها، فإذا تحرك للخلاص منها، عومل أقسى معاملة وأفظعها، وليس القسم المغربي الذي تحتله إسبانيا بخير مما تحتله فرنسا، وطرابلس تعاني ما تخيط لها إنجلترا وأمريكا وإيطاليا من شباك، وأندونسيا تشكو من هولاندة ما يشكو المغرب من فرنسا ، من عسف وجور وفتك وانتقام، والباكستان تعاني الأمرين مما يحيق بها من جيرانها الهنود، ومن السياسة الإنجليزية العامة، وهكذا وهكذا، في كل قطر إسلامي مأتم، فمظاهر العالم الإسلامي كله قلق واضطراب.
وأهم سبب لهذا القلق والاضطراب أن العالم الإسلامي دب فيه الوعي القومي وتوالت عليه ألاعيب السياسة الأجنبية، ولم يكن يفهمها، ففهمها، وتوالت عليه الوعود أيام الحرب، وخلفها أيام السلم، فأدرك كذبها، ورأى بعد التجارب الطويلة أن الحجج العقلية لا تقنع السادة المستعمرين، وأنهم لا يفهمون من الأساليب إلا أساليب القوة ولا من الحجج إلا حجج القتال؛ ولم يعد يصدق لغة السياسة المزوقة، ولا أساليبها المنمقة، ولم يعد يخدعه ما كان يخدع به من قبل من تغيير لفظ الاستعمار بالانتداب، ولا لفظ الانتداب بالمشاركة والمساواة، أو نحو ذلك من أساليب تختلف ألفاظها ويتحد مدلولها.
ليست هذه أول محنة لقيها العالم الإسلامي من العالم الأوربي؛ فقد امتحن من قبل بغزو أوربا له، وهجومها عليه، وتسليطها الحديد والنار على أقطاره؛ حتى سقطت في يدها؛ فقد كانت هذه محنة عظمى، ولكنها أصابته وهو نائم، فلم يشعر بها الشعور التام، ولم يقاومها المقاومة الواجبة، بل خضع لطغيانها، وامتثل لأوامرها؛ حتى إذا توالى عليه الطغيان، وتتابعت عليه الكوارث، أخذ يستفيق ويقاوم، ويشعر أن استعماره مذلة، واستغلاله عبودية، وأنه يجب أن يفك هذه القيود التي كبلته، ويتحرر من العبودية التي نكبته، وعلى الجملة فقد أدرك أنه إنسان يجب أن تحترم إنسانيته، وأنه حر يجب أن تقدر حريته، فقلق واضطرب.
هذا من ناحيته، أما من ناحية أوربا؛ فقد استعذبت سيادتها، واعتزت بسلطانها، وبنت حياتها الاقتصادية والسياسية على الانتفاع بموارده، والاستفادة من تصريف تجارتها فيه، وتلذذت من امتصاص دمائه، ومضت فترة طويلة وهي تحقق أغراضها منه في سهولة ويسر؛ حتى ظنت أن هذا هو المنهج الأبدي، والطريق المعبد السوي، ولكن ما لبثت أن رأت العقبات تعترض حكمها على أشكال شتى، وجاءت الحروب فأشعرتها بالحاجة إليه ضد خصومها، فبذلت له الوعود تلو الوعود، تمنيه بمستقبله وحريته واستقلاله؛ غير أن الحرب ما تهدأ ويحل السلم؛ حتى يعز عليها أن تفرط في شيء مما تستمتع به، وأن تتنازل عن شيء من سيادتها.
هذا كان شأنها عقب الحرب العالمية الأولى، وعقب الحرب العالمية الثانية، وهذا هو الموقف الآن؛ قلق واضطراب من العالم الإسلامي؛ لأنه يريد أن يعتز بإنسانيته، ويريد أن ينتفع بما أودعه الله في أرضه، ويريد أن يشارك في بناء الإنسانية، ويريد أن يقف على قدم المساواة مع أوربا؛ إذ يرى أنه لا يقل عنها عقلا وذكاء واستعدادا، وقد شاركها من قبل في بناء الحضارة القديمة والحضارة الوسطى كما شاركت أوربا، بل أحسن مما شاركت، وتريد أوربا أن لا تتزحزح خطوة عما ألفت، ولا تتخلى عن شيء من سيادتها وسيطرتها وظلمها واستعبادها، وتدرك أوربا الخطوب المقبلة والحروب القادمة، فتود أن تخدع العالم الإسلامي خدعة جديدة بالأساليب والألفاظ والمعاهدات الناعمة، من غير أن تتنازل عن شيء حقيقي من سلطانها، ويدرك العالم الإسلامي هذه الخدعة، فلا يأبه بها، ولا يقع في شركها ، تريد إنجلترا أن تصادق العراق ومصر، وأن تعقد معهما معاهدة، ولكن لا على أساس المساواة الحقيقية، بل على أساس المساواة الشكلية الوهمية، ولا تريد أن تترك شيئا من سيادتها الفعلية، وإنما كل ما تريد أن تتركه شيء قليل من سيادتها الشكلية، وتريد فرنسا أن تصادق المغرب، ولكن على أساس أن يذوب المغرب في فرنسا، وأن يكون مزرعتها وحقلها ومستغلها دون أن ترد عليه شيئا من حقوقه؛ وتريد هولندة أن تصالح الأندونسيين على أساس أن تمنحهم شيئا من المظاهر مع الاحتفاظ بالجواهر؛ وهكذا شعور من العالم الإسلامي بالاعتداء والسيطرة غي المشروعة ولا المعقولة، وشعور من أوربا بحب الغلبة والاستغلال والسيطرة كما ألفت منذ عشرات السنين؛ لهذا كان القلق والاضطراب والاحتكاك الدائم والثورات والمظاهرات من جانب العالم الإسلامي؛ ولا حل لذلك إلا أحد أمرين: إما أن يموت الوعي القومي الذي تنبه عند العالم الإسلامي، ولكن لا أمل في هذا؛ لأنه يزداد يوما بعد يوم على ضوء الحوادث، ولأنه من المستحيل أن يرضى العاقل يوما ما أن يكون عبدا أو يرضى الشاب أن يكون في سلوكه طفلا؛ وإما أن يضطر الغرب إلى التنازل عن سلطانه، والتخلي عن سيادته، ويدرك أن مصادقة الإنسان للإنسان خير من استعباده، ومعاملته معاملة المثل خير من استغلاله؛ وإذا كان الحل الأول مستحيلا، فالحل الثاني لا بد أن يكون، ولأن يكون قريبا خير من أن يكون بعيدا، ولأن يكون بالرضا والاختيار خير من أن يكون بالقهر والاضطرار، ولكن هل يدرك العالم الغربي هذا، ولما يزل يكفر بكل شيء إلا القوة، ويغضي عن كل شيء إلا مصلحته الذاتية العاجلة التي يمليها النظر القاصر القريب، لا النظر الحكيم البعيد؟!
وشيء آخر هو أن العالم الإسلامي وقد أدرك أن الغرب لا يؤمن إلا بالقوة - إذ دلته التجربة تلو التجربة على أن كل أمة من أمم العالم الإسلامي تكتفي بالحجج العقلية لا يسمع لقولها، ولا يلتفت لمطلبها؛ حتى إذا لجأت إلى القوة دعيت للتفاهم، كما كان الشأن في أندونسيا والباكستان وفلسطين والعراق ومصر - يجب عليه أن يزداد من الحجج التي توصله إلى غرضه، دون الحجج التي تذهب مع الريح، وتطير في الهواء، وللقوة مظاهر متعددة وأساليب مختلفة، فنشر العدل في البلاد قوة كقوة السلاح، والاتحاد بين الزعماء وطبقات الشعوب قوة كقوة الدبابات، والإلحاح في طلب الحقوق كاملة غير منقوصة دون المساومة قوة كقوة الطائرات والغواصات، وهكذا كل ضرب من ضروب نشر الحكم الصالح في البلاد، واتحاد الزعماء، ومراعاة المصلحة العامة لا الخاصة، قوة معنوية لا تقل شأنا عن جميع ضروب القوة المادية.
وشيء ثالث؛ وهو أن كل قطر من أقطار الشرق قليل بمفرده، كثير بإخوانه، وأن التعاون بين جميع الأقطار الشرقية يعود بالنفع العظيم على كل قطر، والعالم الإسلامي سائر في هذا الطريق، لقد أدرك بصحة نظره، وصدق شعوره، أن الأمم المستعمرة تتعاون، فيوم تبدو حركة وطنية في المغرب تتحد فرنسا وأسبانيا وترسمان الخطط المشتركة للقضاء عليها، ويوم تريد هولاندة أن تبسط سلطانها على أندونسيا تجد من الدول المستعمرة ما يؤيدها، ويوم تريد إيطاليا أن تبسط سلطانها ثانية على طرابلس ترى من الدول المستعمرة تأييدا لها، وهكذا؛ علما منهم بأن الاستعمار نظرية واحدة وفكرة واحدة وملة واحدة، إذا انهارت في جانب سرت عدوى الانهيار في الجوانب الأخرى، فإذا كان الاستعمار الظالم الباطل المخالف للطبيعة الإنسانية والقوانين البشرية يتعاون، فكيف لا يتعاون أصحاب فكرة الاستقلال، وهو العدل، وهو الحق، وهو الأليق بالإنسانية؟!
قد بدا هذا التعاون على شكل ما في فكرة الجامعة العربية، ولكن لا يزال في مبدأ أمره، وفي مستهل حياته، والتعاون الذي نرجوه تعاون أوسع من ذلك وأشمل وأعمق، تعاون يجعل الأقطار العربية والإسلامية كلها تخاصم فرنسا إذا ظلمت فرنسا المغرب، وتخاصم أمريكا إذا ظلمت أمريكا فلسطين، وتخاصم هولندة إذا ظلمت هولندة أندونسيا، تعاون يشمل الاقتصاد؛ فلا بترول يقدم لأمريكا من أي قطر عربي حتى تعدل عن ظلمها لفلسطين، ولا معاهدة تجارية مع فرنسا حتى تعدل عن ظلمها للمغرب ... إلخ، وتعاون سياسي؛ فلا معاهدة مع دولة عربية إلا إذا علمت بها جميع الأمم العربية وأقرتها جامعة الدول في ضوء المصالح المشتركة ... إلخ.
وهذا مطلب قد يبدو عسيرا، وقد يصيب الأمة من الأضرار ما يصعب احتماله، ولكن ما دامت هذه اللغة هي اللغة الوحيدة التي يفهمها المعتدي، فلا بد من استخدامها واحتمال أضرارها، ثم إذا هي نفذت لا تحتاج إلى زمن طويل؛ لقرب نتائجها، وسرعة الفائدة منها، وإذا كانت الأمم الغربية ترسم الخطط المحكمة المشتركة للاستعمار، فأحرى أن ترسم الدول المظلومة الخطط المحكمة المشتركة للاستقلال، وعجيب أن يصر الظالم على ظلمه ولا يمعن المظلوم في الدفاع عن حقه.
أدب الحرب (1)
عاش العرب طوال حياتهم عيشة حربية سواء في جاهليتهم أو إسلامهم، فحياتهم في الجاهلية كانت حياة حروب مستمرة بين القبائل المختلفة، إما للإغارة وإما لدفع الإغارة، بل كانت الحروب وسيلة من وسائل العيش، وفي الإسلام اضطر المسلمون للحرب من أجل وقوف أعدائهم أمامهم في نشر الدعوة أولا، وللفتح ثانيا، حتى إذا مد في سلطانهم ما شاء الله أن يمد، وقفوا أمام خصومهم الذين يريدون نزع ملكهم من روم وتتر وصليبيين، ولم يدعوا القتال إلا في فترات قليلة في العصور الأخيرة.
وللأمم الحربية أخلاق تخالف أخلاق الأمم المسالمة، ولكل أدب يخالف أدب الأخرى؛ لأن الأدب ظل الحياة وسجلها، وإذ كان العرب أمة حربية غني أدبهم في هذا الباب غنى كبيرا، وسلكوا في القول في الحرب كل مسلك؛ ونحن نعرض صورا من أدبهم في هذا الباب:
من ذلك أنهم صوروا لنا المثل الأعلى للفتى العربي المحارب، فوصفوه بأنه حديد الفؤاد، ضامر الجسم، أخمص البطن، لم ترهل جسمه الحياة الوادعة الهنية المطمئنة، كما وصفوه بأنه يقظ متوثب، لا ينام كما ينام ثقيل الجسم الكسول، إنما هو نوم خفيف، يزول لأقل حركة؛ حتى لو رميت بجانبه حصاة لسمع لها وقعا كوقوع الهدة العظيمة، فيثب وثوب الطير، ثم إذا هب من نومه هب مستويا في غير كسل ولا التواء، وإذا دفعته إلى الحرب خاض غمارها، واندفع فيها اندفاع الصقر على فريسته، ثم هو لا يعبأ بمكاره الحرب، ولا ويلاتها وغمراتها، فهو في أحلك الأوقات، وأشد الأزمات، منبسط أسارير الوجه، يلمع جبينه كما يلمع البرق، ولا يستطيع أن ينال منه نائل، وهو ينال من كل من أراده، فإذا عزم لا يصده صاد عن عزمه، وكان كالسيف القاطع، وهو ردء في الحرب لصحبه ومن يقاتلون معه، وموئل في السلم لذوي الفاقة والحاجة، فذلك قول أبي كبير الهزلي:
وأتت به حوش الفؤاد مبطنا
سهدا إذا ما نام ليل الهوجل
فإذا نبذت له الحصاة رأيته
ينزو لوقعتها طمور الأخيل
وإذا يهب من المنام رأيته
كوثوب كعب الساق ليس بزمل
ما إن يمس الأرض إلا منكب
منه وحرف الساق طي المحمل
وإذا رميت به الفجاج رأيته
يهوى مخارمها هوي الأجدل
وإذا نظرت إلى أسرة وجهه
برقت كبرق العارض المتهلل
صعب الكريهة لا يرام جنابه
ماضي العزيمة كالحسام المفصل
يحمي الصحاب إذا تكون عظيمة
وإذا هم نزلوا فمأوى العيل
ووصفوه بأنه يضع حياته في كفه، يحرص على الشرف أكثر مما يحرص على الحياة، لا يمل الحرب وإن طالت، ولا يمل الأخطار وإن عظمت، ثم لا تنسيه شجاعته عدله ونبله، فهو لا يجزي حسنا بسيئ، ولا يقابل غلظا بلين، ولا يكفون عن بطولتهم؛ لكثرة ما يتعرضون له من محن، ولا يملون الحرب؛ لتعاقبها حينا بعد حين، فشجاعتهم خالدة، وبطولتهم لا تنفد، لا يركنون إلى الدعة، ولا يتلمسون الراحة، فذلك قوله:
فوارس لا يملون المنايا
إذا دارت رحى الحرب الزبون
ولا يجزون من حسن بسيئ
ولا يجزون من غلظ بلين
ولا تبلى بسالتهم وإن هم
صلوا بالحرب حينا بعد حين
ولا يرعون أكناف الهوينى
إذا حلوا ولا أرض الهدون
ثم هم يهزأون بالموت حتى كأن المنية لم تخلق:
قوم إذا لبسوا الحديد حسبتهم
لم يحسبوا أن المنية تخلق
إذا دعوا للقتال لبوا الدعوة من غير ريث، وأسرعوا إلى النجدة من غير تلمس علة، وجوه مشرقة، ونفوس مستبشرة، فذلك قوله:
وإذا دعوتهم ليوم كريهة
سدوا شعاع الشمس بالفرسان
لا ينكتون الأرض عند سؤالها
لتطلب العلات بالعيدان
بل يسفرون وجوههم فترى لها
عند السؤال كأحسن الألوان
يفخرون بالدم يجري على أقدامهم؛ لأنه دلالة الطعن والإقدام، ويستنكرون الدم يجري على أعقابهم؛ لأنه دلالة الفرار والإحجام:
ولسنا على الأعقاب تدمى كلومنا
ولكن على أقدامنا تقطر الدما
وهم ذوو نسب في الحروب عريق، إذا أفنى القتال منهم جيلا خلفه جيل، وإذا أفنى القتال شيوخهم أورثوه شبابهم، قد وهبوا نفوسا عزيزة غالية، ولكنهم أرخصوها في الحروب، مرنوا نفوسهم على القتال ومواجهة الحرب، فلا يجزعون من موت ولا يبكون ميتا، ثم هم يواجهون المكاره فيكشفونها بالسيوف في أيديهم والحمية في نفوسهم؛ فذلك قوله:
وليس يهلك منا سيد أبدا
إلا افتلينا غلاما سيدا فينا
إنا لنرخص يوم الروع أنفسنا
ولو نسام بها في الأمن أغلينا
إني لمن معشر أفنى أوائلهم
قيل الكماة ألا أين المحامونا
ولا تراهم وإن جلت مصيبتهم
مع البكاة على من مات يبكونا
ونركب الكره أحيانا فيفرجه
عنا الحفاظ وأسياف تواتينا
تلك صورة للمثل الأعلى الذي كانوا ينشدونه لفتى الحرب ورجال الحرب ، عزة نفس واسترخاص للحياة، وبذل للنفس في سيبل المجد، وحفظ الأعراض وطيب الأحدوثة، وهو ما توحيه دائما الحياة الحربية، وهناك صور أخرى في أشعارهم الكثيرة على هذا النحو، نجتزئ منها اليوم بهذا القدر، ثم نعرض لظواهر أخرى من أدب الحرب فيما بعد.
أدب الحرب (2)
من أوضح خصال الأمم الحربية الاستهانة بالموت، وقلة الحرص على الحياة؛ لكثرة ما يرون من القتال، ووقوع أعينهم كل حين على صرعى الحرب؛ فلو فزعوا لرؤية القتيل، وبكوه البكاء الطويل؛ لفسدت حياتهم، وعظم خطبهم، وكان يدعوهم إلى الاستهانة بالموت في الجاهلية أنهم يخشون العار، أكثر مما يخشون الموت؛ فلو قعد العربي عن نجدة مستنجد، أو صراخ مستصرخ، أو لم يدفع الشر عن عرضه، أو وقع أسيرا لخصومه؛ لكانت الطامة الكبرى، ولعاش ذليلا، مطأطئ الرأس، يعير هو وقبيلته بأسوأ أنواع العار، فالموت في عزة أحلى عنده من الحياة في ذلة، وفي ذلك يقول المتلمس:
ألم تر أن المرء رهن منية
صريع لعافي الطير أو سوف يرمس
فلا تقبلن ضيما مخافة ميتة
وموتن بها حرا وجلدك أملس
وما الناس إلا ما رأوا وتحدثوا
وما العجز إلا أن يضاموا فيجلسوا
وزاد الموت هوانا عندهم أن الموت سبيل كل حي، فمن لم يمت في الحرب مات في السلم، وما الفرق بين ميت يموت كريما دفاعا عن قبيلته، أو عن شرفه أو عن عرضه، وبين جبان يحمل العار، ويحرص على الحياة، ويعيش ذليلا، إلا أيام أو سنون؛ والنتيجة المحتومة واحدة، وهي الموت؟! يقول عنترة:
بكرت تخوفني الحتوف كأنني
أصبحت عن غرض الحتوف بمعزل
فأجبتها: إن المنية منهل
لا بد أن أسقى بكأس المنهل
فاقني حياءك لا أبا لك! واعلمي
أني امرؤ سأموت إن لم أقتل
وكثر شعرهم في هذه المعاني من استخفاف بالموت وكره للحياة الذليلة، واستفظاع للذلة والهوان، يقول قائلهم:
وإنا لتستحلي المنايا نفوسنا
وتترك أخرى مرة ما تذوقها
بل رأوا بالتجربة أن الشجاع ليس أكثر تعرضا للخطر من الجبان، فقالوا إن الشجاعة وقاية والجبن مقتلة، وقالوا: إن من يقتل مدبرا أكثر ممن يقتل مقبلا.
وكان من أثر ذلك أن افتخروا بالموت في ميدان الحرب، وكرهوا أن يموتوا على الفراش حتف أنوفهم.
يقول شاعرهم:
وما مات منا سيد حتف أنفه
ولا طل منا حيث كان قتيل
تسيل على حد الظباة نفوسنا
وليست على غير الظباة تسيل
فلما جاء الإسلام بقيت النفوس الحربية على طبائعها الموروثة؛ من حب للقتال، وخوف من العار، وزادهم استهانة بالموت عقيدتهم في الحياة الأخرى، وأن قتيل الحرب شهيد، كما طمأن نفوسهم الاعتقاد في القدر؛ فمن مات مات بالقدر، ومن عاش عاش بالقدر، وفلسفوا هذا المعنى، فقالوا: إذا قدر عليهم الموت فلا مفر، وإذا قدر لهم الحياة فلا موت، وقال قائلهم في ذلك:
أي يومي من الموت أفر
أيوم لا يقدر أم يوم قدر
يوم لا يقدر لا أرهبه
ومن المقدور لا ينجي الحذر
وأكثروا من القول في هذا المعنى وأشباهه؛ ففخروا بالموت كما يفخر غيرهم بالحياة، قال قائلهم:
نحن بني ضبة أصحاب الجمل
الموت أحلى عندنا من العسل
نحن بنو الموت إذا الموت نزل
لا جزع اليوم على قرب الأجل
وقال آخر:
يغشون حومات المنون وإنها
في الله عند نفوسهم لصغار •••
وكان من أبواب أدب الحرب عندهم التوسع في وصف آلات القتال المستعملة، فأغنوا لغتهم بأسماء السيف وأوصافه وأجزائه وقرابه، والرمح ونعوته، والقوس ووترها وأصواتها وتركيبها، والسهم، والنصل، والترس، والبيضة، والدرع، فكان لكل أداة من هذه الأدوات أسماء مفرطة في الكثرة.
ثم بجانب هذا الغنى اللغوي؛ الغنى الأدبي، فوصفوا كل آلة من هذه الآلات أدق وصف وأحكمه؛ حتى لو جمع ما قيل في ذلك لبلغ مجلدات ضخمة، ولو عاشوا إلى زماننا هذا ببلاغتهم وأدبهم، لقالوا في المدرعات والغواصات والطائرات والقنابل الذرية ما لم يقله أحد اليوم.
يقول قائلهم في السيف:
ماض، وإن لم تمضه يد فارس
بطل، ومصقول، وإن لم يصقل
يغشى الوغى، فالترس ليس بجنة
من حده، والدرع ليس بمعقل
مصغ إلى حكم الردى، فإذا مضى
لم يلتفت، وإذا قضى لم يعدل
متألق، يفري بأول ضربة
ما أدركت، ولو انها في يذبل
وإذا أصاب فكل شيء مقتل
وإذا أصيب فما له من مقتل
ويقول آخر:
جردوها فألبسوها المنايا
عوضا عوضت عن الأغماد
وكأن الآجال ممن أرادوا
وظباها كانت على ميعاد
ويقول آخر:
وصقيل مدارج النمل فيه
وهو مذ كان ما درجن عليه
أخلص القين صقله، فهو ماء
يتلظى السعير في صفحتيه
إلى كثير من مثل ذلك.
بل اعتزوا بآلات القتال كاعتزازهم بأبنائهم، وسمى فرسانهم وشجعانهم آلات القتال بأسماء، كما يسمى الناس، واحتفظوا بها احتفاظهم بأرواحهم، وتوارثوها كما يتوارث المال العزيز، كسيف عمرو بن معديكرب؛ فقد سماه الصمصامة، وشاع ذكره وعظم أمره، وظل محتفظا به منوها بذكره إلى أن تقدمت به السن وضعفت يده عن حمله، وكان وزنه فيما يقال ستة أرطال، فقال له سعيد بن العاص: «هب لي الصمصامة، فإنك قد ضعفت عن حمله!» فقال عمرو: «ما ضعفت قناتي ولا جناني ولا لساني، وإن اختل جثماني، وهو لك!»، ثم قال:
خليل لم أهبه من قلاه
ولكن المواهب في الكرام
خليل لم أخنه ولم يخني
على الصمصام أضعاف السلام
وظل الصمصامة في يد سعيد بن العاص، ثم توارثه ولده طوال العهد الأموي، وصدر من الدولة العباسية، إلى أن اشتراه الخليفة الهادي بمال كثير.
وهكذا اشتهر كثير من آلات القتال، من خيل وسلاح بأسماء خاصة، حفظت على مر الأزمان، وذكرت على ألسنة الشعراء، وطال ذكرها في الأدب العربي.
وكما أكثروا من وصف السلاح وأدواته، أكثروا من وصف المعارك، من كثرة الجيوش وما تثير من غبار، وما تسد من أفق، وما يلمع فيها من سيوف، وما تبذل فيها من أرواح؛ وإذ كانت حروبهم في الجاهلية وفي صدر الإسلام حروبا برية كانت أوصافهم في هذا العصر لهذه الجيوش البرية، فلما عظمت جيوشهم البحرية، كما عظمت جيوشهم البرية أخذ الشعراء يصفون الأسطول والمعارك البحرية، كما فعل البحتري في قصيدته المشهورة التي يقول فيها:
إذا زمجر النوتي فوق علاته
رأيت خطيبا في ذؤابة منبر
إذا عصفت فيه الجنوب اعتلى له
جناحا عقاب في السماء مهجر
وحولك ركابون للهول عاقروا
كئوس الردى من دارعين وحسر
تميل المنايا حين مالت أكفهم
إذا أصلتوا حد الحديد المذكر
إذا رشقوا بالنار لم يك رشقهم
ليقلع إلا عن شواء مقتر
يسوقون أسطولا كأن سفينه
سحائب صيف من جهام وممطر
كأن ضجيج البحر بين رماحهم
إذا اختلفت ترجيع عود مجرجر
فما رمت حتى أجلت الحرب عن طلى
مقطفة فيهم وهام مطير
على حين لا نقع يطرحه الصبا
ولا أرض تلفى للصريع المقطر
أدب الحرب (3)
ومع أن العرب أشادوا بذكر الحرب، وتغنوا بوقائعها، وفخروا بالبطولة فيها، لم ينسهم ذلك أن يلتفتوا إلى الجانب السيئ منها، وهو ما ينال الناس من ويلات وما يصيبهم من كوارث؛ فأبان شعراؤهم شدتها، والأضرار التي تحيق بالناس منها، وتمنوا أن لم تكن، ولكنها سنة الدنيا، ولا بد من أن تربى الأمة تربية حربية ما دام في الدنيا ظلم واعتداء، ورأوا أن الظلم لا يدفع إلا بالظلم، والحرب لا تدفع إلا بالحرب، ولو عقل الناس لما ظلم الظالم، ولدفع عن ظلمه بالتفاهم؛ ومن خير ما ورد في ذلك المعنى أنهم شبهوا الحرب في أول أمرها قبل اندلاع نارها بغادة حسناء تتزين للناس، ويودها كل من رآها؛ لأن كل حزب يتصور الحرب قد وقعت، وقد انتصر فيها، ونال الغنائم من أسلابها؛ حتى إذا دخلوا في معمعتها، ورأوا ضحاياها، وشعروا بأخطارها، انقلبت هذه الغادة الحسناء عجوزا شمطاء يفزع منها كل من رآها، ويعزب عن رؤيتها كل من شاهدها، سواء في ذلك المنتصر والمنهزم، فالضحايا من كل جانب، والغنائم مهما بلغت لا تساوي خسائر الأرواح مهما قلت، وفي ذلك يقول شاعرهم:
الحرب أول ما تكون فتية
تسعى بزينتها لكل جهول
حتى إذا حميت وشب ضرامها
عادت عجوزا غير ذات خليل
شمطاء جزت رأسها وتنكرت
مكروهة للشم والتقبيل
ودعاهم إلى طول التفكير في هذا أن النصر لا يعرف لمن يكون، مهما درست الظروف وامتحنت القوى، فنتيجة الحرب تخفى حتى على الطب العليم، ولا يدرك نتائجها إلا الخبير المجرب ، الواسع النظر، العميق الفكر، وهو مع ذلك شاك في النتيجة؛ حتى إذا انتهت الحرب، رأى عواقبها الجهول والعليم، والغر والعاقل، يقول الكميت:
والناس في الحرب شتى وهي مقبلة
ويستوون إذ ما أدبر القبل
كل بأمسيها طب مولية
والعالمون بذي غدويها قلل
وأدرك العرب من مساوئ الحرب أن أضرارها لا تقتصر على المحارب، ولا تقف مهما كانت الحيطة على المقاتل، فأقل ما في الأمر أن قتيل الحرب له أسرة تكتوي بفقد راعيها، وتبتئس من فقدان عائلها؛ ولذلك كان من أقوالهم المشهورة (الحرب غشوم)، وفسروا غشمها بأنها تنال غير الجاني.
وربما كان من أقدم الشعراء، وأبرعهم في وصف ويلات الحرب زهير بن أبي سلمى؛ حيث يقول في معلقته:
وما الحرب إلى ما علمتم وذقتم
وما هو عنها بالحديث المرجم
يقول إن الحرب قد ذقتم مرارتها، وعلمتم أضرارها، والحديث عن ذلك حديث صدق ويقين، لا حديث ريب وظنون.
متى تبعثوها تبعثوها ذميمة
وتضر إذا ضريتموها فتضرم
أي متى تثيروها لا تحمدوا مغبتها ، وإذا شببتموها ضريت كما تضرى النار، أو كما يضرى الكلب العقور، فتحرق من فيها.
فتعرككم عرك الرحي بثفالها
وتلقح كشافا ثم تنتج فتتئم
يقول: إن الحرب متى ضريت تطحن الناس كما تطحن الرحى ما يلقى فيها، وتحمل في أشد أوقاتها استعدادا للحمل، فتلد توأمين، فهي تحمل في قوة، وتلد في قوة، تحمل وتلد الشر مضاعفا.
فتنتج لكم غلمان أشأم كلهم
كأحمر عاد ثم ترضع فتفطم
1
أي إنها تلد أولاد شؤم، كلهم في الشؤم كأحمر عاد، ثم هي ترضع أولادها وتتعهدهم؛ حتى ينموا فيفطموا.
فتغلل لكم ما لا تغل لأهلها
قرى بالعراق من قفيز ودرهم
يريد أن هذه الحروب تغل من الشرور ما لا تغله أرض العراق الخصبة المنتجة للخيرات الكثيرة.
وهو تصوير بدوي طريف للحرب وويلاتها، وكثرة ما تنتجه من شرورها، وتسلسل ما يولد من أضرارها.
وهو قول ينطبق على الحرب في هذه الأيام كما كانت في أيام زهير؛ فالطبيعة الطبيعة، والشرور الشرور، وكلما تقدم الناس في أفانين الحرب كثرت شرورها ، وازدادت كوراثها، وتوالدت مفاسدها، واتسعت الأضرار بغير جناتها.
وأدرك العرب معنى لطيفا، وهو أن ضحايا الحرب أرواح، وضحايا غيرها أموال، وأين الأموال من الأرواح؟! فقال قائلهم: «دافع الحرب ما استطعت، فإن النفقة في كل شيء من الأموال، إلا الحرب، فإن نفقتها من الأرواح».
وفي بعض القطع الأدبية معان لطيفة من الدعوة إلى السلم، فإن لم يجنح الخصم لها فالحرب، ومن خير ما قالوا في ذلك قول الشاعر:
دعاني أشب الحرب بيني وبينه
فقلت له: لا؛ بل هلم إلى السلم
فإن يظفر الحزب الذي أنت منهم
وينقلبوا ملء الأكف من الغنم
فلا بد من قتلى لعلك فيهم
وإلا فجرح لا يكون على العظم
فلما أبى خليت فضل ردائه
عليه فلم يرجع بحزم ولا عزم
وكان صريع الخيل أو وهلة
فبعدا له مختار جهل على علم
فقد أدرك الشاعر في هذه الأبيات أن كل حزب مقضي عليه بالخسارة حتما، وأن النصر محتمل، ولكن الخسارة محققة، وغنم المال لا يساوي في شيء خسارة الأرواح، وقال: إنه لم ينصحه هربا من الحرب، ولكن إدراكا لعواقبها المحتومة، فلما بين له الرشد من الغي، وأبى صاحبه إلا الغي، نازله عن بينة، وكانت الدائرة على خصمه.
وهذا يرينا أن الناس من قديم؛ حتى العرب في جاهليتهم أيام كانت الغارات وسيلة من وسائل العيش، كانوا يرون أضرار الحروب ومفاسدها؛ وكان عقلاؤهم يتمنون أن لو زالت الحروب؛ ولكن ظلت هذه النزعة الصادقة خافتة لا تلقى سميعا إلى يومنا هذا، والفرق الكبير بين الأمة الحربية وغير الحربية: أن الأمة الحربية الراقية تفضل السلم وتدعو إليه، ولكنها مع هذا تعد للحرب ما استطاعت من قوة، فإذا لم يسمع صوت الحق فليسمع صوت السيف، أما إن هي استسلمت، ولم تأخذ عدتها، واعتمدت على العقل وحده، والحكمة وحدها، افترسها عدوها المسلح، كما يفترس الأسد الضاري الحمل الوديع.
في الهواء الطلق (3)
كان خروجنا هذا اليوم إلى «ذهبية» على النيل؛ إذ بلغ الفيضان مداه، ووصل في المجد إلى منتهاه، فلما أخذنا مجلسنا قال صاحبي: ما أجمل هذا المنظر، ماء نجاشي متدفق، وزرع ونخيل، ومنظر - من الماء الذهبي وراءه الخضرة الممتدة إلى الأفق - رائع جميل، ومرأى لعين الشمس - وهي تغرب - مهيب جليل، ونسيم وادع هادئ عليل.
أنا :
أنا لا أحب وصف النسيم بالعليل، كما لا أحب وصف العين الناعسة بأنها مريضة أو ذابلة، وأرى أن الأدباء خانهم التوفيق في هذا، فيجب أن تكون أوصاف الحسن متميزة عن أوصاف القبح، ويجب أن نستقل في ذوقنا ولا يستعبدنا ذوق غيرنا، وكما أن لكل عصر ذوقه في مأكله وملبسه، فلكل عصر ذوقه في فنه ومنه الأدب.
ولماذا نحرص على الاستقلال السياسي والاقتصادي، ولا نحرص على الاستقلال الفني والأدبي؟! هل يجب أن نتقيد في الغناء بغناء الموصلي أو عبده الحمولي؟! فلماذا لا نفعل ذلك في الأدب، فنرفض من التعبيرات الأدبية ما ينفر منه ذوقنا، ونبتكر ما يتفق ومشاعرنا؟! ومن أمثال ما نرفضه «النسيم العليل» و«العيون المراض».
هو :
هل تريد الاستقلال التام في الأدب، فلا يكون بيننا وبين القديم نسب؟!
أنا :
بالطبع لا أريد ذلك، وإنما أريد أن ينمو الأدب كما ينمو كل فن، وأن يتحرر من القيود التي تكبله وتخمله وتميته؛ فيتطور مع الزمن في تعبيراته وتشبيهاته واستعاراته وموضوعاته وأساليبه، ويتبع ذوق العصر فيما يحيى وما يموت، وما يستحسن وما يستهجن؛ وهذا هو الشأن حتى في السياسة، فالأمة التي تنال استقلالها لا تستطيع أن تتخلى عن كل تقاليدها الماضية، وإنما تغربل قديمها وتبني عليه جديدها. •••
لا أذكر - بالضبط - كيف تنقل الحديث، ولكن أذكر أني وجدت أننا نتكلم في استقلال مصر ومشكلة فلسطين، وأن صاحبي انتهى في حديثه إلى أن يقول: «إن مصر ستنال استقلالها حتما، وإن فلسطين ستحل مشكلتها كما يقضي العدل حتما؛ لأن الحق لا بد أن يسود، وإذا تصارع الحق والباطل غلب الحق لا محالة».
أنا :
هل «قضية غلبة الحق» حق لا شك فيه، أو هي ككثير من المسائل التي يأخذها الناس قضايا مسلمة من غير جدل ولا بحث، ويسلمون بها تسليما أعمى، مع أنها أسطورة؟ أفي الحق قوة كامنة وفي الباطل قوة كامنة كذلك، ولكن قوة الحق أضعاف قوة الباطل، فإذا تحاربتا انهزمت قوة الباطل الضعيفة أمام قوة الحق القوية؟ أهذه القضية حقيقة ثابتة، أم هي من اختراع الساسة أو الحكماء؛ حتى يشجعوا المحق على التشبث بحقه، والإلحاح في المطالبة به، ويفتوا في عضد المبطل حتى يتخاذل ويستخذي؟
هو :
أرى أن الأمر كما قلت في قوة الحق الكامنة فيه بطبيعته، وضعف الباطل بطبيعته.
أنا :
إن كان الأمر كذلك كذبه الواقع، ففي كل يوم نرى باطلا ينتصر وحقا ينهزم، ففي المحاكم لا يستطيع أحد أن يقول: إن أحكامها كلها صحيحة، وما كان منها غير صحيح فهو انتصار للباطل، وفي حياة الأفراد كثيرا ما يرقى وينجح المبطل الخائن، وينهزم ويفشل المحق الأمين، وفي السياسة كثيرا ما ينتصر اللسن الجدل الفصيح وهو يخدم الباطل، وينهزم الرزين الرصين وهو يدافع عن الحق، أو يتغلب المبطل يؤيده السلاح، وينخذل المحق وليست وراءه قوة، وفي الحروب كثيرا ما ينتصر من ينتصر للباطل؛ لأنه أقوى عدة وأكثر دعاية وأمهر في الأساليب، وينهزم المحق لأنه لم يبلغ مبلغه في كل ذلك.
بل إننا نرى أن ما يسود العالم من الأباطيل أكثر مما يسود من الحق، فأكثر أهل الأرض خاضع لعقائد باطلة وخرافات وأوهام فاسدة، ونظريات سياسية واجتماعية تدعمها الدعاية المختلفة المصطنعة لا الحق المتين، ولو غربلت ما عليه الناس من عقائد وعادات وأوضاع وتقاليد وسلوك وأخلاق ومعاملة، لرأيت ما فيها من الحق كالشعرة البيضاء في الثور الأسود، أو كحبة قمح تائهة في تل من تبن.
والدنيا كلها جارية على سنن واحد، وهو أن قليلا من القمع بالقوة والتشريع الظالم تحميه القوة التنفيذية كاف لإماتة الحق، ثم إذا سار الناس زمنا على ذلك ألفوا هذا الباطل وعدوا المنادي بالعدل والحق ثائرا أو خائنا أو زنديقا أو مجنونا، فأين - إذا - غلبة الحق وانتصاره؟
هو :
قد يكون قولك صوابا إذا نظرت إلى المسائل الجزئية كحكم محكمة في ملكية أو حكمها بإعدام بريء، أو انتصار جيش مبطل على جيش محق، أو نحو ذلك مما ذكرت من أمثلة، وكذلك إذا نظرت إلى محاربة حق وباطل في عصر معين، ولكن هذه الجزئيات كلها ليس لها قيمة كبيرة أمام من ينظر إلى نظام العالم الكلي، ومبدأ انتصار الحق إنما يطبق على الكليات والمسائل العامة، وهذا هو ما يحدث في العالم: تظهر فكرة حقة يدعو إليها مصلح، ثم قد تخنق الفكرة ويقتل صاحبها، ولكن لا تلبث أن تظهر ثانية على يد مصلح آخر في عصر آخر وقد يفشل أيضا، ولكن لا بد أن يأتي يوم يدعى إلى الفكرة في ظرف مناسب فتتحقق وتثبت؛ وهذا هو تاريخ كل الدعوات الصالحة من دعوات الأنبياء والمصلحين، وهذا هو - أيضا - تاريخ حقوق الإنسان والمبادئ السياسية والاجتماعية السامية، فلا يفت في عضدنا ما نشاهده أحيانا من هزيمة الأفكار الحقة وتأييد المظالم بالقوة وإنكار العدالة، فلكل هذا نهاية، ثم ينتصر الحق، ولكن قد يكون ذلك في أجيالنا، وقد يكون في أجيال بعد أجيالنا.
وهذا الذي أقوله هو بعينه فكرة «بقاء الأصلح»؛ فليس حتما إذا أخذنا شجرتين أو حيوانين أو إنسانين معينين أن يموت أضعفهما ويحيا أقواهما؛ فقد يعرض عارض يميت القوي فيبقى الضعيف، ولكن مع هذا «بقاء الأصلح» صحيح عند النظرة الكلية.
وهذا - أيضا - هو الذي يتمشى مع نظرية رقي العالم رقيا دائما وسيره إلى غاية، وذلك في كلياته دون جزئياته؛ فقد تنحط أمة بعد رقيها، ولكن العالم - من حيث هو كل - لا يتأخر أبدا.
وشيء آخر أحب أن أقرره من الناحية العملية، وهو أن تراخي الأفراد والأمم في تأييد الحق؛ اعتمادا على أنه بذاته سينتصر، تصرف سيئ باطل، يشبه من كل الوجوه التوكل على الله من غير أخذ في الأسباب، فالحق محتاج إلى قوة وراءه تدفعه وتحميه، والحق غير المسلح إذا وقف أمام الباطل المسلح انهزم، وظل في انهزامه حتى ينازل الباطل في مثل عدته وسلاحه؛ ولذلك لم تثبت النصرانية الأولى وتنتصر وتنتشر إلا بعد أن تسلحت، ولم ينتصر الإسلام في بدء حياته ويدخل فيه الناس أفواجا إلا بعد أن تسلح، بل إنا نرى أن الحق - أحيانا - يحتاج إلى أن يعتمد في حربه على شيء من الباطل كالذي قال معاوية: «إنا لا نصل إلى الحق إلا بالخوض في كثير من الباطل». •••
وهنا دق الناقوس يدعونا للعشاء فقال صاحبي:
وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا
صدق الله العظيم. •••
وقضينا سهرة جميلة على ظهر «الذهبية»، عشاء لذيذ وسمر ممتع، يتخلله سماع موسيقى شجية، واختلاس نظرات للنيل، وقد سطع عليه القمر فلونه لونا فضيا رائعا بعد لونه الذهبي الجميل في الأصيل، وانصرفنا بعد أن جددنا نفوسنا، هو إلى بيته في مصر الجديدة، وأنا إلى بيتي في الجيزة، وإلى اللقاء.
الحروف العربية والحروف اللاتينية
كان من جملة المشروعات التي وضعتها هيئة «اليونسكو» لدراستها هذا العام مكافحة الأمية في العالم ونظم التعليم الأساسي.
ومن مقتضى هذا - بطبيعة الحال - أن يشمل ذلك العالم العربي، فينظر في كيفية تخليصه من أميته، وفي مناهج التعليم الأساسي له.
والأمر يبدو بسيطا واضحا لو أن هيئة «اليونسكو» - وهي الهيئة الثقافية التابعة لهيئة الأمم - ركزت نفسها في التربية والتعليم ولم تتأثر بالسياسة، فما عليها إذا أخلصت النية إلا أن تدرس - فيما تدرس - الأمية في الأمم العربية، وتنصح بالوسائل لمكافحتها ومدى الإعانة التي تستطيع أن تقدمها، ولكنها ستصطدم حتما بالسياسة فتتأثر بها.
ذلك أن الاستعمار حليف الأمية ونصيرها ومؤيدها، وعدو التعليم وعدو مكافحة الأمية؛ وهذا هو تاريخ الاستعمار دائما، فإذا سمح المستعمر بالتعليم فتحت ضغط الرأي العام ومطالبته الملحة بنشر التعليم، ومع ذلك إذا سمحوا بشيء منه ففي حدود ضيقة ومع تقييد البرامج بما يفقدها روحها.
هذا هو تاريخ الاستعمار الإنجليزي لمصر والسودان، والاستعمار الفرنسي لتونس والجزائر ومراكش، والاستعمار الإيطالي لبرقة وطرابلس، والاستعمار الهولندي لأندونسيا.
فإذا أرادت «اليونسكو» مكافحة الأمية في الأمم العربية اصطدمت بالاستعمار.
وقد كنت أظن أن العقبة الوحيدة هي أن الاستعمار يكره محاربة الأمية؛ لأن الجهل ييسر للاستعمار طريق الحكم، ويجعل المستعمرين عبيدا أذلاء أو حيوانات طيعة، وما كنت أظن أن هناك سببا أعمق من هذا وأنكى، حتى قرأت كلمة لمسيو رينو بينون المحرر السياسي لمجلة العالمين الفرنسية يقول فيها:
إن مكافحة الأمية من القضايا التي تولد مشاكل عديدة مع الدول؛ لأنها تثير مسائل دقيقة جدا ... من ذلك أنه في بعض الأقطار الإسلامية تكون الحروف العربية أداة لحب الفتح وانتشار الدين الإسلامي.
وقفت عند هذه الجملة طويلا؛ لأنها صادرة من رجل خبير بالسياسة العالمية وبالسياسة الاستعمارية، وعلى الأقل بخفايا النيات الفرنسية وأساليبها في استعمار بلاد المغرب.
فأما «الفتح» فأي فتح يريد؟ لم نعهد أمة عربية مسلمة منذ قرون، فتحت قطرا جديدا غير عربي وغير مسلم، وإنما عهدنا أن الحروف اللاتينية هي التي اعتدت ففتحت آسيا وإفريقيا، واستخدمت النار والحديد لإذلال أهلهما وتسخيرهم للحروف اللاتينية، والعالم العربي كله يئن ويصرخ منذ قرن من الحروف اللاتينية وأهلها، فأي فتح يريد؟!
هو - في الحقيقة - لا يريد فتحا بالمعنى الذي نفهمه من الكلمة، وإنما يريد أن الحروف العربية أداة للقراءة العربية وقراءة القرآن، وكلاهما لا يريد لأهله أن يخضعوا للأجنبي يحكمهم، ولا للحروف اللاتينية تستغلهم، وإنما يريد لأهله أن يتحرروا وأن يستقلوا وأن يحكموا أنفسهم بأنفسهم؛ وهذا مطلب كريه عند الفرنسيين وأمثالهم من المستعمرين، فإذا أراد مسيو رينو بالفتح أن يفتحوا بلادهم ويخرجوا الفرنسيين منها فأي عار في ذلك؟! أعار أن توحي الحروف العربية بحب الاستقلال، وليس عارا أن توحي الحروف اللاتينية بحب الاستعمار؟! إنه من العجب العاجب أن يصل إلى هذا الحد قلب الحقائق، والتلاعب بالألفاظ، وتسمية حب الاستقلال فتحا، وتخبئة اسم الفتح عما يفعله الاستعمار.
إن هذه الكلمة القصيرة تكشف عن حقيقة نية أمم الاستعمار نحو التعليم، وتوضح سياستها التعليمية: فإيطاليا في طرابلس وليبيا حاربت الحروف العربية أقسى حرب، وأيدت الحروف اللاتينية أقوى تأييد، وفرنسا في تونس طبقت هذا المبدأ في إحكام، فأماتت اللغة العربية وأحيت اللغة الفرنسية؛ وكان مديرو التعليم - وهم فرنسيون - ينشئون المدارس للجاليات الأجنبية والمواطنين في المدن على نمط مدارس فرنسا وبرامجها؛ لينشئوا الأطفال جميعا نشأة فرنسية خالصة لا تشوبها شائبة من القومية أو العربية، ووضعوا في أيدي الأطفال نفس الكتب الفرنسية التي تشيد بفرنسا وعظمتها؛ ولم يتزحزحوا عن ذلك قليلا إلا بهيجان الرأي العام وإلحاحه في جعل اللغة العربية مادة من مواد التعليم؛ ولذلك نعجب أشد العجب من رؤية شبان متنورين من المغاربة يتقنون اللغة الفرنسية كل الإتقان، ولا يحسنون التعبير عما في نفوسهم بلغتهم العربية، وعلى الإجمال كان محور السياسة الفرنسية إحلال الحروف اللاتينية الجميلة، محل الحروف العربية الملعونة.
هذه هي العقدة الأولى في نفوس المستعمرين، وأما العقدة الثانية فهي الدين الإسلامي، وهم يكرهونه أشد الكره؛ لأنه يثير العزة في نفوس معتنقيه، ويدعوهم للتحرر من يد الأجنبي.
وعلى هذا سارت إيطاليا في معاملتها لأهل طرابلس وبرقة؛ فقد كتب الدكتور مافريسي سنة 1931 يقول: «لا تدهشكم هذه الخطة التي سلكها الاستعمار الإيطالي، فإن للفاشيست غرضا يرمون إليه؛ هو تحويل جميع أهالي البلاد التي وقعت بين براثنهم إلى إيطاليين بكل الوسائل، سواء كانت مشروعة أو غير مشروعة، وهم لا يبقون على دين أهل البلاد التي تقع تحت عبوديتهم، ولا على لغتهم».
وقد صدق فيما قال، ولكن ليست هذه السياسة سياسة الفاشيست وحدها، بل هي السياسة العامة للاستعمار، وخاصة الاستعمار الإيطالي والفرنسي.
وأخيرا؛ يتبجح كل هؤلاء بدعوى الحرية والإخاء والمساواة والحريات الأربع وحقوق الإنسان، كأن كل هذه الألفاظ لا مدلول لها إلا بشرط أولي؛ وهو ألا يكون المطالب بها عربيا ولا مسلما! والأمر لله.
الشيخ حسن البدري الحجازي
المتوفي سنة 1131ه
شخصية غريبة من شخصيات أواخر عصر المماليك في مصر، من أصل حجازي، وكان من علماء الأزهر، يدرس فيه عند الدكة القديمة، يألف العزلة، ويرضى بالقليل من وسائل العيش، ويقرأ كثيرا في التصوف، ويضع فيه أرجوزة تبلغ نحو ألف وخمسمائة بيت، ومثله الأعلى في الحياة رجل تقي ورع يبعد عن الناس ويقرب من الله، تجرد من الأطماع ورضي بالقليل؛ وفي ذلك يقول:
وخير عباد الله من لازم التقى
شكور العطايا صابرا للمصائب
عريا عن الأطماع قنعا قد اكتسى
رقيبا على الأنفاس خوف المراقب
فذاك لعمري أربح الناس صفقة
إذا سقطت في الخسر صفقة ناكب
وإن رمت أن تحيا عريا عن الردى
وتظفر في الأخرى بأسنى المكاسب
مكانك فالزم واعتزل سائر الورى
وسدد، وعنهم سد كل المسارب
وقد غلب عليه التشاؤم، فكان سيئ الظن بالناس، قل أن يرضى عن أحد، وهذا ما دعاه للعزلة.
وقد امتاز في هذا العصر بكثرة شعره، وعلى الأصح بكثرة نظمه، فكان النظم طيعا في لسانه، ينظم في التصوف وفي المنطق وفي الفلسفة وفي النحو وفي الحديث؛ ولكن أهم من ذلك كله نظمه في نقد الناس وفي أحداث التاريخ المعاصرة، وهو بهذا يرينا صورا متعددة من صور الناس في ذلك العصر، وعيوبهم الاجتماعية والأخلاقية، فإذا نظم في الأحداث التاريخية شرح الحادثة، وأبانها في وضوح وجلاء، ووصف الممثلين على مسرحها وأدلى برأيه في كل ذلك، وقد روى لنا الجبرتي بعض نماذج من شعره في هذه الأحداث، فكان إذا ذكر حادثة روى ما قاله (الحجازي) فيها.
وخلف لنا ديوانا كبيرا مرتبا على حروف المعجم يعد بحق مصدرا من المصادر التي تشرح الحياة الاجتماعية، كما أنه يقدم لنا صورة من صور الأدب في ذلك العصر، فشعره ليس بالجيد في أسلوبه، ولا بالغني في خيالاته، ولا بالمحكم في نسجه، ولكنه على كل حال صورة من أرقى ما أنتجه عصره، وربما كانت قيمته التاريخية والاجتماعية أكبر من قيمته الأدبية؛ وهو مع ذلك يمتاز بعدم التكلف والبساطة وصدق الوصف، كما أن أسلوبه في النقد لاذع حاد صريح، وهي ميزات في الأدب لها شأنها، فينقد مثلا علماء عصره في التفافهم حول الغني وتمجيده واللياذ به والخضوع له، فيقول:
ليتنا لم نعش إلى أن رأينا
كل ذي جنة لدى الناس قطبا
علما هم به يلوذون بل قد
تخذوه من دون ذي العرش ربا
إذ نسوا الله قائلين: فلان
عن جميع الأنام يفرج كربا
وإذا مات يجعلوه مزارا
وله يهرعون؛ عجما وعربا
بعضهم قبل الضريح وبعض
عتب الباب قبلوه وتربا
هكذا المشركون تفعل مع أص
نامهم تبتغي بذلك قربا •••
كل ذا من عمى البصيرة والو
يل لشخص أعمى له الله قلبا •••
جعل العلم فخ صيد لدنيا
ه فساوى في صنعه السوء كلبا
لا، بل الكلب منه خير؛ إذ الكل
ب عديم العقاب في يوم عقبى
ويقول في المرائين من العلماء أيضا:
احذر أولي التسبيح والسبحه
والصوف والعكاز والشمله
حوت أباليس بتعداد ما
حوت شعورا بل بلا عده
والمكر فات الحصر كالبحر بل
يعد فيه البحر كالقطره
فصار إبليس لهم تابعا
يقول: يا للعون والنجده
مما حويتم علموني فما
لي عنكم في المكر من غنيه •••
فتية سوء فقها نسبة
انتهبوا الأموال بالفتيه
عمائما والكم قد كبروا
فاستكبروا عن شرعة الشرعه
في هيئة يمشون مع هينة
تخشعا من غير ما خشيه
لجمع الأموال وكيما يقا
ل أهل الهدى والدين والتقوه
في الظالمين انجحروا مثلما
تنجحر الحية في الجحره ... إلخ.
وينقد الحارات البلدية وقذارتها وضوضاءها وسوء حالها؛ فيقول:
حارات أولاد العرب
سبعا حوت من الكرب
بولا وغائطا كذا
ترب غبار، سو أدب
وضجة وأهلها
شبه عفاريت الترب
ويصور لنا في شعره لوحة طريفة من الأقارب وسوء علاقاتهم، واحترامهم للغني منهم لغناه، واحتقارهم للفقير منهم لفقره، وتطلعهم لموت الغني؛ لينتهبوا ميراثه ... إلخ.
ويصف ما جرى لمصر في حادث من حوادث نزاع المماليك، وما أصاب الشعب من خصومتهم وقتال بعضهم بعضا؛ فيقول:
قد فعلوا مناكرا شنيعة
بأهلها تفت منها الأكبد
ضرب مدافع ودور حرقت
وسادة قد قتلت وأعبد
وفي الرعايا النهب والقتل فشا
والجوع والظما وما لا يعهد
وجملة القول عن الذي جرى
لا تسألن فشرحه لا ينفد •••
نعوذ بالله من أهل ذا الزمن
فإنهم في الظلم شخص أوحد
أعدلهم من عن صواب عادل
ومن على العدل لديهم أحيد
وفي موضع آخر يقول:
قد نصبوا فوقنا المدافع
ترمي بأعلى البروج جمرا
فأحرقونا وأحصبونا
وأعطشونا بالمنع قسرا
عن نيلنا ثم قد شربنا
ملحا فزاد الكبود حرا
وعلى الجملة فشعره يصور لنا عصره في كثير من نواحي الحياة الاجتماعية، كما يصور الأدب في ذلك العصر من حيث أسلوبه وموضوعه.
ولعل المؤرخين لو عنوا بديوان هذا الشاعر وأمثاله من الشعراء، وبالتراجم من مثل من ترجمهم الجبرتي في تاريخه، وعلي باشا مبارك في خططه، كما عنوا بكتب الفتاوى الفقهية التي كان الشعب يستفتي فيها فقهاء عصره في المسائل التي تحدث، من مثل (الفتاوى المهدية)؛ لكان لهم من ذلك مادة صالحة لتأريخ الحياة الاجتماعية، ولما وقع أكثرهم في الخطأ من اقتصارهم على مصادر الأحداث السياسية والحربية.
تقديس العظماء
هل حقا أن الإنسان إما أن يكون ملكا كريما أو شيطانا رجيما؟ أو أن فيه ملكا وشيطانا معا يتصارعان دائما؛ فقد يغلب فيه الملك فيأتي بالخير، وقد يغلب الشيطان فيكون الشر، وفي كل إنسان مسرح لكفاحهما وصراعهما وتغالبهما؟!
ومع ظهور الحق في أن الإنسان يحوي العنصرين معا ويأتي بالمتناقضين جميعا، فسرعان ما ننسى هذا وننظر إلى الإنسان على أنه ملك كريم أو شيطان رجيم، وليس عجيبا أن يقع في هذا الخطأ العامة وأشباههم، ولكن العجيب أن يقع فيه الخاصة من المؤرخين ومؤلفي التراجم والأخلاقيين وأمثالهم.
هل حقا كان عمر بن عبد العزيز - مثلا - ملكا كريما، وكان الحجاج شيطانا رجيما؟ وهل حقا كان المأمون في كل أعماله حكيما، وكان الأمين في كل تصرفاته سخيفا؟ وهل حقا ما نقرؤه في كتب التراجم، فنرى في بعضها صورا جميلة زاهية لا قبح فيها، وصورا قبيحة لا جمال فيها؟ إن العقل يأبى ذلك، ويحكم بالخطأ بداهة على هذه الأحكام الصارمة التي ترسم حدا فاصلا بين الرجل والرجل؛ بل نرى الصالحين أنفسهم - وهم أدرى بأعمالهم - كانوا يخافون العاقبة، ويطلبون من الله المغفرة على ما جنوا.
وفي هذا الخطأ نفسه وقع الأدباء والفنانون، وظنوا أن الشاعر الكبير لا يأتي بشعر سخيف، والكاتب الكبير لا يصدر عنه تخريف، وكان الروائيون إلى عهد قريب يصورون بطل الرواية عظيما كل العظمة، لا يصدر عنه إلا كل عظيم، أو مجرما أثيما، لا يصدر عنه إلا كل فظيع.
وينشأ هذا الخطأ عند الناس من غلبة الوهم وسيطرة الخيال، كما تنظر إلى رجل وجيه في مظهره فتضفي عليه - من غير شعور - صفة العقل والحكمة وحسن التصرف، والعكس؛ وقد يكون الأمر كما قال القائل:
ترى الرجل النحيف فتزدريه
وفي أثوابه أسد مزير
وعلى كل حال فما أعظم الفرق بين المظهر والمخبر! •••
ثم ما أصعب الحكم على الإنسان! وما أشبه الإنسان بالإنسان، إن المرء قد يأتي بالعمل العظيم، فإذا دققت فيه النظر رأيته قد يصدر عن باعث حقير، فيساوي في ذلك المجرم الخطير، بل قد يصدر عن الإنسان الواحد العمل العظيم للغرض الرفيع، ويسمو في الباعث عليه والغرض منه سمو الملائكة، وفي اللحظة الأخرى يأتي هو نفسه بالعمل الحقير وينحط فيه انحطاط المجرم الأثيم، فترى الوطني الكبير المخلص لأمته المضحي في وطنيته، وهو هو المقامر الحقير أو الشهواني الدنيء، وترى شاعرا كبيرا كالمتنبي يترفع عن مدح أحد إلا الملوك وأشباههم، ويحتقر شعر الشعراء بجانب شعره، ويتطلب الملك أو على الأقل الولاية، ويقول: «ما أبتغي جل أن يسمى»، ثم يبدر سيف الدولة بدرة فيقوم المتنبي يحني رأسه ويذل نفسه؛ ليلتقط منها دينارا أو دينارين، وترى موسى قاتلا، وترى فرعون يحدب على موسى الرضيع، وترى المجرم السفاك قد ينقذ أسرة من الموت أو الفقر، وترى المصلح الكبير قد يعشق زوجة جاره، فما أعجب الإنسان وما أظلم الحكم عليه بأنه خير أو شرير!
من السهل أن تحكم على قطعة من الزجاج، أو حجر من الأحجار، أو شجرة من الأشجار، أو حيوان من الحيوان حكما ثابتا؛ وليس كذلك الحكم على الإنسان، والوهم يربط عادة بين الفضائل بعضها وبعض، ويربط بين الرذائل بعضها وبعض؛ ولكنه قلما يربط بين الفضائل والرذائل معا؛ فإذا رأيت شجاعا وهمت بأنه ذكي كريم، مع أنه قد يكون شجاعا غبيا بخيلا، وإذا رأيت لصا وهمت أنه دنيء خسيس، وقد يكون هو «اللص الشريف».
بل الخلق الواحد في الإنسان الواحد لا يستقر على حال واحد، فكريم يبخل وبخيل يكرم، وشجاع يجبن وجبان يشجع؛ وكثيرا ما ترى لؤما وكرما، ونذالة ونبالة، وشحا وإسرافا، وأثرة وإيثارا، قد جمعت كلها في شخص واحد وانسجمت فيه على شكل عجيب، كما يؤلف المصور الماهر صورته العجيبة من ألوان متناقضة.
ولو اخترع شريط سينمائي يبلغ من الحساسية مبلغ القدرة على تسجيل الأفكار والخواطر والبواعث والأغراض، وسجلنا عليه ما عند العظماء والكبراء ومشهوري الناس، وعرض علينا لأخذنا العجب كل العجب مما نرى، ولرأينا أعمالا نظن أنها جليلة، فإذا هي ببواعثها التافهة وأغراضها الدنيئة تنعكس قيمتها ويذهب جمالها وجلالها، وتنكشف عن قبح كريه بغيض، ورأينا «شرائط» الناس وليس يخلو أحدها من بقع سوداء قلت أو كثرت؛ وإلى هذا المعنى يشير القول المأثور «لو تكاشفتم ما تدافنتم» أي لو عرف كل منكم بواعث الآخرين ونياتهم وخواطرهم، ما دفن بعضكم بعضا عند موته؛ بغضا له واستخفافا بشأنه.
ولكن لم لا يتدافنون والكل سواء في وجود البقع السوداء؟!
إن الإنسان الواسع النظر العميق الفكر لتغمره الرحمة حتى على المسيء في إساءته والمخطئ في خطئه؛ إذ يرى أن مجال الحرية والاختيار في الإنسان مجال ضيق محدود، وأكثر أعماله ليست إلا نتيجة لوراثته وبيئته، وهذه البيئة تشمل البيت الذي نشأ فيه، والمدرسة التي تعلم فيها، والكتب التي قرأها، ونظام الحكومة التي عاش في كنفها، والدين الذي تدين به؛ وهكذا، ولو وضع زيد الصالح مكان عمرو الطالح في كل هذه الظروف لأتى - تقريبا - بمثل عمله، وإذا أردت الإصلاح فأصلح الشجرة تصلح الثمرة، وأزل ما أمام الماء من سدود يتدفق.
إن غمر هذا النظر إنسانا استشعر قلبه الرحمة والعطف والإشفاق على الجميع، ولم يحقد على عدو أو أثيم، وأنشد مع عمر الخيام قوله:
أحسن إلى الأعداء والأصدقاء
فإنما أنس القلوب الصفاء
واغفر لأصحابك زلاتهم
وسامح الأعداء تمح العداء •••
قال صاحبي: لعل للأخلاقيين ومترجمي العظماء عذرا، فهم يقصدون إلى الناحية التعليمية، فيقتصرون على ذكر النواحي الطيبة في الإنسان وأعمال البطولة في العظماء؛ حتى يقتدى بهم ويأتي من بعدهم بمثل أعمالهم، فإذا ذكرت رذائلهم بجانب فضائلهم، وزلاتهم بجانب مفاخرهم، قللت من قيمتهم وأضعفت حماسة التقليد في نفوس الناشئين؛ وكل ما يطلب من المترجم أن يقول الصدق فيما يروى عن البطل من أعمال جليلة، ولكن لا يطلب منه أن يأتي بكل ما يعلم عنه من أعمال دنيئة، قد يطلب هذا من المؤرخ، ولكن لا يطلب من الأخلاقي ومترجم العظماء.
قلت: هذا رأي له وجاهته، ولكن ألا ترى معي أنا لو أضفينا على العظماء والأبطال صفة التقديس، وأوهمنا الناشئين أن هؤلاء العظماء لم يأتوا بشر، فت ذلك في عضدهم وأيأسهم من نفوسهم؛ إذ يعتقدون أن العظماء من طينة أخرى غير طينتهم، وأنهم هم - وفيهم عيوب - لا يصلحون بعد أن يكونوا عظاما؟! أما إن أفهموا أن العظيم لم يخل من عيوب كعيوبهم أحيا ذلك أملهم وأبعد عنهم اليأس والذلة وشجعهم على الطموح أن يكونوا عظماء، رغم ما جنوا وما ارتكبوا؟
وشيء آخر وهو أن العظيم إذا قدس في حياته ونسبت إليه العصمة في كل تصرفاته، ووكلت إليه مقاليد الأمة حسبما يرى من غير اعتراض ولا نقد، تعرضت الأمة لخطر زلته الكبرى أو طغيانه الجامح، أما إن كان الرأي العام يقظا يحصي عليه مساوئه كما يحصي محاسنه وينقده ويقرظه، وقف عند حده ففكر طويلا قبل أن يقدم، وحال ذلك بينه وبين الطغيان.
نعم إن للعظماء عيوبا شخصية خاصة بهم، قد أكون معك في إغفالها وعدم التشهير بها، أما عيوبهم التي تتصل بأعمالهم العامة ومسلكهم في الأمة، فيجب أن تقال وأن تنقد وأن تؤرخ؛ لأن العظيم - وقد نصب نفسه للأمة - يجب أن يشرح من الأمة ويحكم له أو عليه، ويقال له فيما أساء: أسأت، وفيما أحسن: أحسنت.
التعاون الثقافي بين الأقطار العربية
لقد تغير منهج الحياة ووضعت لها أسس جديدة، فبعد أن كان أساس الحياة التقاليد والعرف والعادة وأقوال السلف؛ أصبح أساسها العلم.
لئن كان التعاون بين الأقطار العربية في الشئون السياسية والحربية صعبا معقدا وطريقا مملوءا بالأشواك، فإن التعاون الثقافي أيسر وأسهل وطريقه ممهد، بل هو كالأصل للتعاون السياسي والاقتصادي والحربي؛ فما لم تتقارب العقليات وتتوحد النزعات ويتحد الغرض، فالتعاون السياسي والاقتصادي والحربي جد عسير، والذي يقوم بالعبء الأول في توحيد الأفكار والمشاعر والأغراض هو الثقافة، وما فرق بين الأمم وأوقع بينها الخصومات والنزاع وجرها إلى الحروب إلا اختلاف نزعاتها واختلاف مطامحها التي أتت من اختلاف مناهجها في التربية؛ وهذا ما دعا عصبة الأمم أولا، وهيئة الأمم المتحدة ثانيا إلى إنشاء فرع يعنى بالثقافة بين الأمم وتقريب المناهج وتوحيد الأغراض، ولم يفسد على الهيئات الثقافية في عصبة الأمم أولا، وهيئة اليونسكو الحاضرة ثانيا أمرهما إلا لعب السياسة بهما؛ ولو خليتا وشأنهما لأفادتا العالم فائدة كبرى، والمطمح الوحيد لعقلاء العالم الآن هو أن يكون في العالم هيئة قوية لا تخضع للسياسة؛ ولكن تسمو فوقها، ولا تخدم الدول الكبرى؛ ولكن تخدم الفكرة الإنسانية؛ وما لم توجد هذه الهيئة فسيظل العالم في نزاع دائم وشقاق متواصل وحروب مخربة.
وإذا كان من العسير أن تكون هيئة واحدة ممسكة بزمام الثقافة في العالم، فمن الممكن أن يقسم الاختصاص بين كتل متجانسة، وكل كتلة تضع خطتها للتعاون ورسم المنهج، وتتفاهم مع الكتل الأخرى في الأصول الأساسية لبناء العالم الجديد على أساس جديد.
والأمم العربية كتلة واحدة متجانسة، وحد بينها وبيئاتها الطبيعية المتقاربة، وتاريخها الذي مر عليها بأحداث متجانسة أو متشابهة، ولغتها الواحدة، ودينها الواحد غالبا؛ فكل هذه عوامل قاربت بين عقلياتها وثقافتها وأغراضها ومطامحها، فيجب أن تتعاون في هذه الناحية الثقافية لتحقيق غايتها، ولم يعد في الإمكان أن تنفرد كل أمة عربية بنفسها وترسم خطتها الثقافية مستقلة عن غيرها بعد أن أصبح العالم يميل إلى التكتل لا إلى العزلة والانفراد. ثم إن كل أمة عربية لها نقط ضعف يمكنها أن تعالجها بما تستمده من غيرها من الأمم، ونقط قوة يمكن أن تفيد بها غيرها، وهي فوق ذلك إذا تكتلت ووحدت أغراضها كان لها من القوة ما يجبر العالم على سماع صوتها ورعاية حقها.
وقد تخلف العالم العربي عن العالم الغربي في ثقافته، فلم ينهض بتعليم أبنائه إلا من عهد قريب، وعندما بدأ نهضته وجد أن العالم الغربي قد سبقه بقرون وبمراحل، فكان واجبا عليه أن يعوض أزمان الخمود والسير البطيء بسرعة في السير ومضاعفة الجهد؛ حتى يقف بحذاء العالم الغربي يبني معه ويتقدم بالعالم معه ويبتكر كما يبتكر ويخترع كما يخترع، وهو مطلب عسير، لا بد فيه من تكاتف القوى ومن عقول جبارة لرسم الخطط واستنهاض الهمم والسير في الطريق القويم.
ليس يصح الآن أن تتفرق الدول العربية فتضع كل أمة منهاجها في التعليم وأغراضها من التربية، بل لا بد أن يكون لها غاية واحدة تضع كلها مناهجها على وفقها، فإن اختلفت في شيء فإنما تختلف في التفاصيل والتوسع في دراسة بيئتها الخاصة وشئونها الخاصة، أما الغرض فيجب أن يكون واحدا، ليس من حق أية أمة عربية أن تعلم على نمط التعليم في القرون الوسطى، ولا أن تضع منهجا مثله الأعلى حياة العرب في العهد الأموي أو العباسي، بل لا بد أن يكون منهجها وفقا لما دل عليه العلم الحديث والتربية الحديثة، وإلا رجعنا إلى الوراء.
أمامنا ثروة كبيرة لما أنتجه العالم الغربي من أيام نهضته إلى الآن، وهي ما تسمى بأمهات الكتب، جدت كل أمة حية في ترجمتها إلى لغتها، والعالم العربي لم يحقق هذه الغاية ولم يقم بهذا الواجب إلا على نطاق ضيق جدا، وهو يسير فيه من غير منهج معروف ولا خطة مرسومة.
وكل أمة حية وضعت لها أنسيكولوبيديا، أو بعبارة أخرى (دائرة معارف) بل دوائر معارف، في كل شأن من شئون العلم دائرة، بجانب الدائرة الواسعة الشاملة؛ وهي من حين إلى آخر تجدد معارفها حسب ما وصل إليه العلم الحديث وتجدد نشرها، والعالم العربي كله إلى الآن ليس له دائرة معارف عربية واحدة، ولا يكون هذا إلا عن طريق التعاون؛ ولا يمكن وضع دائرة معارف عربية إلا إذا اتفق قادة العلم في الأمم العربية على وضع المصطلحات الحديثة للعلوم والفنون الحديثة، وهذا ما لم يتيسر إلى الآن.
أمام العالم العربي الآن أرض بكر؛ هي أرضه، في كل بقعة منها من المواد الخامة ما تتلمظ له أفواه الغربيين، وما يكفي لإسعاد أهلها جميعا، ومع ذلك نتركه في يد غيرنا يستغلون القليل منه، ونترك الكثير ضائعا مع ما بنا من فقر وعوز وحاجة، ولا يمكن علاج هذا الإهمال إلا بالتعاون العلمي بين المثقفين ثقافة علمية واقتصادية؛ حتى يضعوا الخطط لدراسة هذه الثروة وكيفية استغلالها والانتفاع بها بيدنا لا بيد غيرنا.
إن قوى المفكرين منا قوى لا بأس بها، يمكن الاستفادة منها، ويمكنها أن تحقق الأغراض التي نرمي إليها، ولكن كثيرا منها قوى ضائعة، إما بمحاربة بعضها بعضا، وإما باستقلالها بنفعها وعدم تعاونها مع غيرها، وإما بضعفها الخلقي بما ينتابها من كسل وخمود وتراخ وتوان؛ فإذا تعاونت وخرجت عن خمودها أمكنها على الأقل أن تحقق بعض غايتها.
في كل يوم من الأيام دليل واضح يقوم على وجوب هذا التعاون، وصيحة تنادي بأن العالم الغربي لا يسمح لأمة بالوقوف ولا بالتقهقر، وأن من لم يعمل كان عرضة لأن يستعبد ويستذل ويستغل ويداس بالأقدام؛ فكيف نسمح لأنفسنا أن نقف هذا الموقف الذليل، ولا نبذل كل جهدنا ونستخدم كل قوانا لتحطيم القيود التي كبلتنا أزمانا طويلة، ثم نسير إلى الأمام في سرعة وإقدام؟!
لقد تغير منهج الحياة ووضعت لها أسس جديدة، فبعد أن كان أساس الحياة التقاليد والعرف والعادة وأقوال السلف، أصبح أساسها العلم، في كل شيء؛ في تربية الطفل، في الزراعة، في الصناعة، في الشئون الاجتماعية والصحية؛ فما لم نؤسس حياتنا الجديدة على هذا الأساس الجديد لا يمكننا أن نسير مع السائرين.
لو كنا في عزلة عن العالم لوجب أن نعمل ولوجب أن نرقى ولوجب أن ننهض، فكيف ونحن محاطون بالأعداء ينعمون بجهلنا، ويرتقبون أخطاءنا، ويعدون علينا كسلنا وخمولنا؟! ولا أمل في الخروج من هذه المآزق التي نقفها إلا بالتعاون الصادق في رسم الخطط وتنفيذها، وأولها الخطط الثقافية بجميع أنواعها.
التاريخ يعيد نفسه
جملة مشهورة، كثيرة الدوران على الألسنة، ولكن ما معناها وما مدى صحتها؟
أما إن أريد أن الحوادث نفسها بأشخاصها وزمانها ومكانها تعود مرة ثانية وثالثة، فهذا ظاهر البطلان، فمحال أن يعود الإسكندر أو نابليون أو تيمورلنك فيفتح فتوحه، ومحال أن يعود سقراط في أثينا ويعيد دروسه، ومحال أن يعود المتنبي إلى مصر فيلقى كافورها، أو إلى حلب فيلقى سيف دولتها، أو نحو ذلك، فالجملة على هذا المعنى سخافة ظاهرة.
أما المعنى المقبول والذي يظهر لي أنه صحيح، فهو أن كل حدث من أحداث الزمان نتيجة لمقدمات، فإذا تمت المقدمات ظهرت النتيجة لا محالة، وإذا تشابهت المقدمات تشابهت النتائج، وهذا الأمر يتكرر دائما على نمط مطرد؛ فكلما حدثت مقدمات من نوع خاص حدثت النتيجة بعينها، خذ لذلك - مثلا - الثورات، فالثورة إنما هي نتيجة لمقدمات كثيرة، مثل حال سيئة اجتماعية تسود الشعب، ودرجة عالية من غليان الشعب، وزعماء يوقدون النار تحتها، ونحو ذلك من مئات العوامل، وهذه هي المقدمات، فإذا حدثت كلها ولم يتخلف شيء منها حدثت الثورة لا محالة، وقلنا حينئذ إن التاريخ يعيد نفسه.
قد يكون التعبير نفسه مضللا، فالتاريخ لا يعيد نفسه بالمعنى الحرفي الدقيق للجملة، ولكنه يكرر نفسه أو يعيد مثله أو نحو ذلك من التعبيرات الدقيقة.
إن أحداث التاريخ - على هذا النظر - مثلها مثل كل القوانين الطبيعية، إذا حصلت أسبابها حصلت مسببانها، فإذا وجد الحديد ووجدت الحرارة تمدد الحديد لا محالة، وأمكننا أن نقول إن تمدد الحديد يعيد نفسه، كما نقول التاريخ يعيد نفسه، وكذلك كل القوانين الطبيعية المتصلة بالكهرباء والضوء والجاذبية والمغناطيسية ... إلخ.
وإن كان هناك فرق بين الأحداث التاريخية وبين القوانين الطبيعية فمن جهتين: (1)
أن الأحداث التاريخية لها أسباب كثيرة معقدة مشتبكة قد يخفى بعضها على العلماء المدققين؛ فالثورة الفرنسية لها أسباب لا تزال إلى اليوم موضع بحث الباحثين مع الاختلاف الشديد بينهم، ولكن مهما كان هذا الغموض وهذا الاختلاف فلا بد أن يكون هناك أسباب حقيقية إذا حدثت في أي زمن آخر حدث مثل هذه الثورة، فإذا لم تحدث فمعناه أن الأسباب لم تستكمل. (2)
أن من ضمن الأسباب التي تنتج الأحداث التاريخية النفس الإنسانية، وهي حرة قد تعمل العمل في ظرف، ولا تعمله في الظرف نفسه، وإذا لا يعيد التاريخ نفسه، وردنا على هذا أن من رأينا أن النفس الإنسانية مجبرة في شكل مخيرة؛ فهي بحكم قوانين الوراثة والبيئة وما إليهما لا يمكنها أن تفعل غير ما فعلت؛ فمحال أن يكون هارون الرشيد غير هارون الرشيد، ومحال أن يكون أبو العلاء المعري وأبو نواس غير ما كانا.
فإذا سلمنا بهذين المبدأين آمنا بأن التاريخ يعيد نفسه على هذا المعنى، وهو أن المقدمات المتساوية تنتج نتائج متساوية، فإن اختلفت النتائج فسببه اختلاف منا في التقدير والحساب وحصر الأسباب وكميتها وكيفيتها، لا في القوانين الاجتماعية التي تشبه القوانين الطبيعية في عمومها وشمولها وصدقها الدائم.
إن هذا المعنى هو الذي سما به ابن خلدون على من سبقه من المؤرخين، فنظروا هم إلى المسائل الجزئية على أنها مسائل منفردة؛ مستقل بعضها عن بعض، ونظر هو إلى أن المسائل الجزئية راجعة إلى أصول كلية وأسباب عامة شاملة أبانها في مقدمته.
بل إن المؤرخ الذي ينظر إلى التاريخ على أنه علم، ويبلغ من ذلك مبلغا راقيا، يستطيع بفضل ما وصل إليه من حقائق العلم أن يكذب بعض ما يرويه المؤرخون؛ لأنه لا يتفق والقوانين الطبيعية للإنسانية، بل ويمكنه أيضا أن يكمل النقص في أحداث التاريخ التي غفل عنها المؤرخون، كما يستطيع الخياط الماهر أن يتصور ثوبا كاملا إذا عثر على جزء منه، بل أكثر من ذلك يمكنه أن يتنبأ بأهم ما سيحدث قبل أن يحدث، لرؤيته الدقيقة لأسباب الأحداث في حين تكونها، وعلمه بأن هذه الأسباب ستنتج حتما نتائج معينة؛ قياسا على الماضي، وإيمانا بالقوانين الطبيعية.
وفي هذين اليومين قرأت الكتاب القيم الذي ألفه الأستاذ محمد عبد الله عنان وعنوانه: «نهاية الأندلس» قرأته وأنا أحمل في ذهني أيضا صورة «فلسطين» وموقف العرب منها، وموقف العالم الأوربي والأمريكي منها أيضا، واسمعه يقول: «ولم يك ثمة شك في مصير غرناطة بعد أن سقطت جميع القواعد الأندلسية الأخرى في يد العدو القوي الظافر، وليس من شك في أن الأواخر من ملوك غرناطة يحملون كثيرا من التبعة في التعجيل بوقوع المأساة، فنحن نراهم يجنحون إلى الدعة والخمول ويتركون شئون الدفاع عن المملكة، ويجنحون إلى حروب أهلية يمزق فيها بعضهم بعضا، والعدو من ورائهم متربص ومتوثب يرقب الفرص، وقد كان هذا شأن مملكة غرناطة وشأن بني الأحمر، ولا سيما منذ أوائل القرن التاسع الهجري أو أوائل القرن الرابع عشر الميلادي، ومنذ عهد الأمير علي أبي الحسن تبلغ الحرب الأهلية ذروتها الخطرة ... وقد شاء القدر أن يكون السلطان أبو الحسن وأخوه الأمير محمد بن سعد المعروف بالزغل وولده أبو عبد الله محمد أبطال المأساة الأخيرة، حملتهم نفس الأطماع والأهواء الخطرة فانحدروا إلى معترك الحياة الأهلية، وشغلتهم الحرب الأهلية طول الوقت عن أن يقدروا حقائق الموقف وأن يستشعروا الخطر الداهم وأن يستجمعوا قواهم المشتركة لمواجهة العدو المشترك» إلخ إلخ.
وهكذا وهكذا؛ تقرأ في هذا الكتاب صفحات متعددة، فكأنك تقرأ نكبة فلسطين وأسبابها ونتائجها؛ حتى لو أنك غيرت اسم فلان وفلان بفلان وفلان، وغيرت اسم إسبانيا بإنجلترا وأمريكا إلى نحو ذلك ، رأيت أن التاريخ يعيد نفسه بالمعنى الذي ذكرنا.
ثم إنهم كثيرا ما يذكرون أن التاريخ عظة وعبرة، وهذا صحيح أيضا، ولكن عظة العامة وأشباههم من التاريخ غير عظة الخاصة وأشباههم منه؛ فالعامة يتعظون منه كما يتعظون من دروس الوعظ، يرون ملكا زال وأبهة وغنى وعظمة فارقت أهلها، فيتعظون من ذلك ويقولون: «ما لشيء دوام»، أما الخاصة فعظة التاريخ عندهم أنهم يقرءون أحداث التاريخ العظمى ويتعمقون في دراسة أسبابها الأصلية، ويستخلصون من ذلك قواعد كلية عامة كقواعد الطبيعة والكيمياء وعلم الأحياء وعلم الاجتماع، ويتعظون من ذلك بمعنى أنهم إذا رأوا الأسباب تتكون؛ قرءوا النتائج قبل حدوثها وأنذروا بها قبل أن تكون، وطالب المصلحون منهم الأمة بأن تستأصل الأسباب قبل أن تحدث النتائج الخطيرة، فدفعوا الشر قبل وقوعه، إذا سمع الناس لقولهم وأصغوا لإنذارهم، وهذا منتهى العظة.
في ضوء المصباح
كتب الدكتور زكي نجيب محمود مقالا في العدد الماضي من الثقافة؛ تطبيقا على المذهب الجديد في الأدب، الذي يرى أن الأديب يجب أن يسجل مجرى خواطره كما تقع في شعوره، من غير أن يتخير منها شيئا، ومن غير أن يفرق بين هام وغير هام؛ ولا مانع من أن تكون الأفكار غير مرتبة ولا خاضعة للمنطق؛ ولا مانع من أن تسجل الأفكار التافهة والمشاعر الوضيعة بجانب الأفكار القيمة والمشاعر الرفيعة؛ ولا مانع - كما قال - من أن يسجل الأديب شيئا تافها جدا بجانب شيء جيد جدا، وأن يفكر في لحظة في السماء، ثم يفكر في لحظة أخرى في الأرض، كما فعل أحد زعماء هذه المدرسة؛ وهو (ت. س إليوت) من كلامه عن السماء أمطرت أو لم تمطر، ثم أعقب ذلك بقوله: إن الفطيرة عجنت ببيضة أو بيضتين.
وهو مذهب لا أراه صالحا، وأسأل الله ألا يبلى به أدباء العرب فيقلدوا هذه المدرسة ويزيدوا على عيبها الأصلي عيب التقليد، وقد بدأت طلائع هذا التقليد عند بعض كتاب القصص اللبنانيين والعراقيين.
إن الفرق بين هذا المذهب وما قبله من المذاهب، أن المذاهب التي جرى عليها الأدب إلى اليوم كانت تتصور الأدب على أنه سجل خير الأفكار وخير المشاعر في خير أسلوب، وهذا المذهب الجديد يرى أن الأدب هو سجل لخواطر الأديب عن نفسه أو غيره كائنة ما كانت، تافهة أو قيمة، وضيعة أو رفيعة، والرأي الأول أعقل وأعدل وأصح؛ لأن هذا المذهب الجديد يهدم فكرة التخير التي يمتاز بها الفن كما يمتاز بها فنان عن فنان، إن ميزة الفنان الكبرى هي في تخيره نماذج وألوانا، وانسجام الألوان واختيار الأوضاع، فإذا عدم هذا الاختيار عند الفنان لم يكن فنانا، وكذلك ميزة فنان على فنان أنه أرقى ذوقا في اختيار موضوعاته، وفي اختيار ألوانه، وفي تنسيق هذه الألوان؛ وأساس المدرسة الجديدة هدم فكرة الاختيار والتجويد، وعرض كل ما يجول بخاطر الأديب حيثما اتفق، فمثل من يتبع هذه المدرسة مثل من يضع أثاث الحجرة حيثما اتفق؛ من غير إعمال ذوق ولا فن.
ثم إن كل أديب مهما رقي، ككل إنسان تأتي عليه لحظات يفكر فيها أفكارا سخيفة ويشعر مشاعر سخيفة، وتأتي عليه لحظات أخرى يسمو في أفكاره ومشاعره، بل قد تتقارب هذه اللحظات، فيمتزج السخيف بغير السخيف والرفيع بالوضيع من الأفكار والمشاعر، فأي خير للناس في أن يعرفوا ما سخف من أفكاره، وما وضع من مشاعره؟ إن فضل الأديب أن يسمو بالناس فيما يسمو به من أفكار، لا أن ينحط مع الناس فيما انحطوا فيه من أفكار، وإلا فلا معنى للتجويد، ولا لحصر الذهن، ولا الأناقة، ولا أي شيء من ذلك، ما دامت وظيفة الأدب كما تقول المدرسة الجديدة هي عرض كل الأفكار والمشاعر؛ بل إن واجب الأديب أن يستر بعض مشاعره وأفكاره إذا أحس بضعتها ونقصها، كما يجب أن يستر كل إنسان مخازيه ومعايبه.
إن هذا المذهب في الأدب والفن على العموم يشبه مذهب العري في الأجسام، فلا عورة ولا استحياء؛ وكما أن مذهب العري في الأجسام يذهب الروعة ويقضي على كثير من الشعور بالجمال، فهذه المدرسة تقضي على الأدب؛ إذ تجعله شيئا عاديا تافها.
بل إني لأعجب من أصحاب هذه المدرسة، ومن بينهم الأديب ت. س. إليوت، كيف يجرون في أدبهم على سنن اختيار الأسلوب وتنميقه وتجويده، ولا يطبقون ذلك على المعنى، فلا يجودونه ولا يتخيرونه، والمعنى أليق بالاختيار وأحق بالتجويد.
إني أفهم أن يكون هذا المذهب مذهبا في علم النفس، لا مذهبا في الأدب؛ فالكاتب الذي يصف كل مشاعره، وتنقلاته في خطراته، وقفزه في أفكاره، يتيح لعالم النفس مجالا كبيرا في تحليل نفسه والوقوف على عيوبه وتحقيق شخصيته، أما الأديب فلا يهمه الوقوف على تفصيلات الشيء، وإنما يهمه الوقوف على ما فيه من جمال: لا يهم الأديب شجرة الورد، وكيف تنبت، وكيف تنمو، وكيف يتكون برعومها، وإنما يهمه من كل ذلك جمال زهرتها؛ فهذه المدرسة الجديدة تريد أن تعنى في الوردة بأشواكها، كما تعنى بجمال زهرتها، وبجذورها المدفونة في الأرض، كما تعنى بزهرتها المتفتحة المتطلعة للسماء، وهذا سوء إدراك لفهم معنى الأدب، وخلط بين العلم والفن، وقضاء على تذوق الجمال.
وكما هدم هذا المذهب التخير والانتقاء؛ فقد هدم فكرة التسلسل: تسلسل الأفكار، وتسلسل المشاعر وانتظامها كلها في سلك واحد، ورأى أن لا بأس من أن تكون القصيدة أو المقالة أو القصة مجموع طفرات قد لا يربط بينها رابط، بحجة أن هذا تمثيل للواقع؛ إذ الأديب قد يتنقل ذهنه تنقلا غير منطقي، ولكن إهدار هذا التسلسل يضع من قيمة الأدب، وليس الغرض من الأدب أن نعرف ما يجول بخاطر الأديب بالدقة والضبط مهما كانت طفراته، ومهما كان شطحه، إنما نريد أن نعرف خير ما ينتجه الأديب إذا حصر ذهنه وحصر عواطفه وعرضها في شكل مفهوم؛ على أن هذا الشطح الذي دعا إليه هذا المذهب أوقع إنتاج أصحابه في الغموض، فكثير من شعر (ت. س إليوت) غامض لا يفهمه إلا القليل، والذين يفهمونه لا بد أن يكون عقلهم من جنس عقله، ومشاعرهم من جنس مشاعره، وشطحاتهم من جنس شطحاته؛ لأن هذه الشطحات والطفرة في الانتقالات تكاد تكون شخصية، والتسلسل والمنطق هو القدر المشترك بين الناس؛ فإذا سلسل الأديب أفكاره ومشاعره استطاع أن ينقلها إلى الناس، أما إذا لم يسلسلها فلا بد أن تنتظر عقلا شطاحا كعقل الأديب؛ ليتقابل معه في الفهم؛ وقد جربنا ذلك في شطحات الصوفية، فكثير منها عز على فهم جمهور الناس، ولم يفهمه إلا من ذاق ذوقهم، وشرد ذهنه شرودهم.
إن من أهم وظائف الأدب نقل المشاعر ونقل الأفكار؛ فالأديب لا يغني لنفسه، ولكنه يغني للناس، فإذا سجل كل شحطاته كان مغنيا لنفسه، وباعد بينه وبين الناس، وكان خيرا له ألا ينشر ما يكتب، وأن يغني في حجرته الخاصة.
هذا ما فهمته من القدر القليل الذي قرأته عن هذا المذهب، والذي عرض له الدكتور زكي نجيب محمود، ولعل بعض الكتاب أو الدكتور نفسه يشرحه شرحا أوفى، ويعرض لنا نماذج من نتاج زعماء هذه المدرسة؛ ليتضح لنا المذهب على حقيقته.
أما رأيي في المقال الذي كتبه الدكتور زكي تطبيقا على هذا المذهب، فهو كرأيي في المذهب نفسه:
مقال يعجبني من ناحية دلالته النفسية على كاتبه لا من ناحية جماله الأدبي؛ فقد فهمت منه ما تنطوي عليه نفس الكاتب من قلق وتبرم بالحياة، وتبلبل في المشاعر، وغلبة اليأس عنده على الرجاء، ودواعي الحزن على دواعي الفرح؛ وإصابته بصدمة نفسية استلزمت حزنه وقلقه، وهو يعجبني كطرفة جديدة لا كمذهب يتبع؛ يعجبني كلعبة الحاوي تسر ناظرها لأول مرة، ثم لا يلتفت إليها فيما بعد، ولو أبيح هذا المذهب لرأينا الكثير من سخافات وغموض وإبهام يطلع علينا بها المشعوذون بدعوى أنها أدب على المذهب الجديد، كما صدعونا من قبل بما سموه الأدب الرمزي الذي لا معنى له ولا طعم له.
روح المجالس
لعل للمجالس روحا كالتي للأفراد؛ فقد تكون روح المجلس مرحة فكهة، وقد تكون متزمتة جامدة؛ ثم قد تكون أحيانا خفيفة رقيقة، وأحيانا ثقيلة غليظة؛ ثم قد تكون أحيانا ضاحكة مستبشرة، وأحيانا عابسة مكتئبة.
وروح المجالس كروح الأفراد، صعبة التعريف، غامضة التعليل، فمن أين تتكون؟ هل تتكون من روح الأفراد الذين يضمهم المجلس، فتكون روح المجلس حصيلة روح الأفراد ؟ الظاهر أن ليس الأمر كذلك؛ لأنا نرى أن روح المجلس تتأثر أكثر ما تكون بفرد أو فردين؛ لامتيازهما بشخصية قوية، أكثر مما تأثر ببقية الحاضرين، فإنا نرى المجلس يحضره نابغة في الفكاهة فتكون روح المجلس فكهة ضاحكة؛ حتى ليضحك الحاضرون من أتفه شيء وأخف نكتة، ويضفي هذا النابغة على المجلس من روحه حتى تتلاشى كل روح ما عداه؛ وقد يكون في المجلس نابغة في العقل أو في التفكير فيصطبغ المجلس كله بروح العقل والتفكير مهما كان فيه من أشخاص قليلي العقل قليلي التفكير.
فليست روح المجلس حصيلة روح الحاضرين إلا إذا قلنا إنها تتكون من الحاضرين، ولكن لا بمقدار واحد، بل بمقدار ما لهم من شخصية قوية أو ضعيفة.
وتختلف روح المجلس كذلك باختلاف طبائع الحاضرين، فالمجلس إذا تكون من نساء فقط كان له روح خاصة غير روح المجلس إذا تكون من رجال فقط، وهما غير روح المجلس يتكون من رجال ونساء؛ وروح مجلس الصبيان غير روح مجلس الشبان، غير روح مجلس الشيوخ، فكل مجلس يستمد روحه من طبيعة نوع أفراده.
وشيء آخر: وهو أن روح المجلس ليست تعتمد على روح أعضائه فقط، بل على مزاجهم أيضا، ولذلك نرى أن المجلس قد يضم أفرادا معينين فيكون فكها مرحا مرة، وعابسا مكتئبا مرة أخرى، والحاضرون هم هم، لم يزد عليهم ولم ينقص منهم، ولكن اختلف مزاجهم، فكان مرة مزاجا فكها، ومرة مزاجا عابسا، فاختلفت روح المجلس باختلاف أمزجتهم.
ومن العوامل أيضا في تكوين روح المجلس موضوع الحديث؛ فقد ينقل الحديث وقد يخف، فتكون روح المجلس ثقيلة أو خفيفة؛ وقد يكون موضوع الحديث خفيفا لطيفا فتخف روح المجلس وتلطف، وأكبر دليل على ذلك أن المجلس قد يتغير حاله وتختلف روحه مع بقاء الجالسين كما هم لم يزيدوا ولم ينقصوا؛ لتنقلهم في موضوعات مختلفة؛ فقد يثيرون موضوعا فكها يستخرج الضحك من أعماق صدورهم فتستولي على المجلس روح فكهة ضاحكة، ثم ينتقلون إلى حديث ديني وقور فيتوقر المجلس وتتوقر الروح؛ وقد ينتقلون بعد ذلك إلى حديث آسف حزين فتحزن نفوسهم وتتغير روح المجلس إلى روح حزينة، وهكذا.
بل إن مكان المجلس وزمانه عاملان كبيران في روحه؛ فإذا كان المجلس في بستان على نهر والشمس ساطعة والجو جميل والمناظر فتانة، اكتسبت روح المجلس من هذا المنظر واصطبغت بصبغته، وعلى العكس من ذلك إذا كان المجلس في حجرة ثقيلة في أثاثها وخمة في هوائها، فإن هذا المكان يشع ثقلا على الروح وانقباضا في الصدر؛ وكذلك شأن الزمان، فالسمر لا يحسن إلا ليلا، فإذا أنت عقدت مجلس سمر قبيل الظهر أو بعد الغداء كان المجلس أثقل ما يكون.
كذلك يتحكم في روح المجلس عدد الحاضرين؛ فالمجلس من اثنين له روح غير روح المجلس من ثلاثة، وللأربعة روح غير روح الخمسة، فإذا زاد العدد زيادة مفرطة ضاعت الروح ولم يعد مجلسا، بل كان جماعة.
ثم إذا كان المجلس مجلس (كيف) من الكيوف تحكم هذا الكيف في روح المجلس؛ فمجلس الشاي مثلا يشعر شرابه بحاجتهم إلى الهدوء والطمأنينة والحديث الهادئ المطمئن ، ويفسده صخب الأولاد، وحتى جلبة الموسيقى، وإذا وجد في مجلسه صاخب أو كثير الحركة أو عالي الصوت في الجدل أفسد روحه وأفسد طعمه، وعلى العكس من ذلك مجلس الشراب، تجمله الموسيقى والغناء، وتحييه الحركة والنشاط، وتبهجه النكتة، وتؤنسه الضحكة.
بل إن المناظر الطبيعية الجميلة تختلف روح مجالسها، فجلسة القمر تحتاج إلى هدوء وتفكير في الفلسفة أو تساقي الغرام، ومنظر البحر الهائج يعدي النفوس فتحتاج إلى مجلس هائج ونفوس متحركة؛ وكذلك قل في منظر الزرع والشجر أو قمم الجبال أو طلوع الشمس أو غروبها في البحر، فكل من هذه لا يناسبه إلا منادمة خاصة وحديث خاص، وإلا فسد الطعم وساء الذوق.
وكما تموت روح الفرد قد تموت روح المجلس؛ فقد ترى جماعة اتخذوا شكل مجلس، ولكنه مجلس بلا روح، كمجلس لا تعارف بين أصحابه، أو هم متعارفون ولكنهم متناكرون، أو هم متعارفون متحابون ولكن انقبضت صدورهم لسبب ما، فنفروا من الحديث ولجأوا إلى الصمت؛ فإن شئت فقل في هذا المجلس: إنه مجلس بارد، وإن شئت فقل: إنه مجلس ميت.
كل هذا أدركه من قبلنا، ولكن لم يعبروا عنه تعبيرنا؛ فقد أدركوا المعنى الجزئي ولم يدركوا ما نسميه اليوم روح المجلس، والأدب العربي مملوء بهذه النظرات؛ فكم قال عشاق الشراب في وصف النديم وشروطه وما يجب أن يكون عليه، وأبدع في ذلك أبو نواس أيما إبداع، وحذا حذوه الشعراء والكتاب؛ حتى لقد فضلوا لذتهم من النديم على لذتهم من الشراب إذا خلا من نديم؛ وما النديم في نظرنا إلا التماس لروح المجلس وما تبعثه من سرور يحيط بالشراب، ولولا هذا النديم الذي يخلق الروح ما التذ الشاربون من شرابهم هذه اللذة.
لقد أعجبتني حكاية ظريفة، وهي أن زوجة ساءها ما ينفقه زوجها كل ليلة في الخمارة، فطلبت إليه أن يشرب في بيتها وبيته، وعاهدته أن تعد له أحسن شراب وأنظف مائدة وأجمل أزهار، فقبل ذلك منها، وشرب في بيته على هذا الوضع ليلتلين أو ثلاثا، ثم فر من ذلك وعاد إلى الخمارة وقال: «أين ضحك الندمان، وأين مماكسة الخمار؟!». وهو محق في ذلك؛ لأن لذة الشراب ليست في الشراب وحده، بل في الندمان وما يحيط به وبالندمان.
ولعلك شهدت جماعة يسمعون أسطوانة موسيقية لمغن مشهور أو مغنية مشهورة، فيطربون لها طربا مختلفا يزيد عند بعضهم وينقص عند الآخرين، وليس الطرب الشديد عند من يطرب يرجع إلى حاسته الموسيقية فقط، ولكن لأنه يذكر أنه سمع هذه الأسطوانة مرة في مجلس غني بالمناظر الجميلة والحركات الجميلة، فإنما هو يستوحي روح المجلس الذي سمع فيه هذه الأسطوانة فيزيده ذلك طربا.
وأدرك العرب أيضا اختلاف روح المجلس بقلة العدد أو كثرته، فقال إسحاق النديم في الندماء: «واحد هم، واثنان غم، وثلاثة نظام، وأربعة تمام، وخمسة مجلس، وستة زحام، وسبعة جيش، وثمانية عسكر، وتسعة اضرب طبلك، وعشرة ألق بهم إلى حيث شئت». واستعاض بعضهم عن النديم بالكتاب يقرؤه، أو الكتاب يؤلفه، كما حكوا عن ابن سينا والفارابي؛ فقد رووا أن كلا منهما كان يجلس إلى الشراب ويكتفي بمنادمة الكتاب.
وكانوا يستحسنون الشراب يوم الدجن، وفي البساتين أيام الربيع على مناظر الزهور الجميلة، وهكذا.
ومع ذلك كله فلا تزال روح المجالس يكتنفها الغموض، شأنها شأن روح الأفراد؛ فقد تتفتح روح الفرد وتنتعش وتغمر بالسرور من غير سبب واضح، وقد تنكمش وتنقبض ويعلوها الحزن والضيق من غير سبب واضح أيضا، كذلك الشأن في روح المجلس، قد يجتمع إخوان على أصفى ما يكونون روحا وتجانسا وألفة، وتتهيأ جميع ظروف الزمان والمكان ويتنبأون جميعا بمجلس سار ممتع، وإذا روح المجلس تنقلب ثقيلة بغيضة كريهة كأسوأ ما يكون، وقد يخلو المجلس من شروط صفائه ومجلبة سروره، ثم يكون مجلسا سارا ممتعا؛ كل ذلك لأسباب قد تعرف وكثيرا ما تجهل.
في الربيع
يعز علي أن يأتي موسم الربيع ولا أكتب فيه، وكل عام أكتب ولم تفرغ معانيه، فالأفكار والمشاعر تتجدد كما يتجدد الربيع، وكم للربيع من معان يفنى الكتاب والشعراء ولا تفنى جدتها، وتعسا لمن لم يهتز قلبه للربيع، ولم تبتهج مشاعره بجماله ، ولم يجاوبه بعواطفه! إن من حرم العين الفنانة والأذن الموسيقية والشعور بجمال الأزهار والأشجار حرم الخير الكثير، ودل ذلك على أنه جامد القلب، غليظ العاطفة، مادي الحياة، كثيف الطبع.
ها أنا ذا اليوم في حديقتي الصغيرة والجو جميل والربيع ناضر والأزهار ضاحكة، فليكن حديثنا هذا العام في الأزهار:
إنها لا شك عالم وحده، كعالم الطيور وعالم الإنسان، تتعدد مناظرها ويتنوع جمالها، ويمكنك الحديث عنها من وجوه مختلفة؛ أولا من ناحية رائحتها، ففيها قوي الرائحة كالفل والياسمين، ومتوسط الرائحة كبعض أنواع الورد والقرنفل، وضعيفها كالأقحوان، وعديمها ككثير منها، وليس يتوقف الجمال على الرائحة، فالرائحة تتصل بالشم، وهو أقل الحواس قيمة إذا قيس بالسمع والبصر، بل ربما سمت قيمة الزهرة إذا عدمت رائحتها؛ لأن الرائحة مقرونة بالنفع، فإذا تجردت من الرائحة كان تقويم الجمال للجمال، كالقطعة الموسيقية والغناء الجميل، فالغناء الجميل ذو المعنى يوزعك بين لذة العقل ولذة السمع، والموسيقى الجميلة ينحصر جمالها في جمال توقيعها، وعندي أن الجمال المحدد خير من الجمال الموزع.
ثم هذه الأزهار أمامي كأنها جمع من الفتيات الفاتنات المتنوعة السمات؛ هذه زهرة تلفت النظر في قوة إلى جمالها فتأسرك حتى لا تود عينك التحول عنها؛ جمالها ظاهر بين، واضح جذاب، كالفتاة التي تملك عليك قلبك ومشاعرك، قد لا تكون هذه الفتاة أجمل من في الجمع، ولكن لها من السحر والفتنة ما يبطل سحر غيرها، وهذه زهرة أخرى جمالها في وداعتها وهدوها، كالفتاة لا تلهبك نارا، ولكن تغمرك حنانا.
وهناك في زاوية من زوايا الحديقة زهرة منعزلة مستترة لا يلتفت الناظر إليها إلا بالبحث عنها، كالفتاة الحيية الخجول، المنطوية على نفسها، العازفة عن عرض جمالها.
ثم هذه الأزهار يختلف وحيها باختلاف نقوشها وألوانها، فهذه زهرة توحي الطهر والعفاف، وهذه زهرة توحي النقاء والصفاء، وهذه زهرة توحي القوة والجبروت، وهذه زهرة توحي تفتح الرغبة، وهكذا.
للأزهار لغات ودلالات، تعجز عنها معاجم اللغات؛ إذ كيف تنجح اللغات في دلالات العواطف؟! إن اللغة وسيلة قد تكون جيدة في نقل الآراء والأفكار ، ولكنها وسيلة جد فقيرة في نقل العواطف والمشاعر.
وللأزهار دلالتها الخاصة على ما يرتبط بها من أحداث وما تظهر فيه من مواسم، فأزهار الشتاء تدل على الشتاء، وأزهار الصيف تدل على الصيف، وأزهار الربيع تدل على الربيع، ولكل زهرة معنى عند صاحبها يوحي إليه تداعي المعاني؛ فمن رأى طاقة زهر في حفل بهيج ارتبطت هذه الطاقة ومنظرها بهذه الحفلة وبهجتها، ومن رأى زهرة على صدر فتاة جميلة ذكر الفتاة إذا رأى الزهرة، ومن رأى الزهرة في مكان ذكرته الزهرة بالمكان، وكذلك تدل الزهرة دائما على بيئتها وزمانها ومكانها وأحداثها.
والفنانون يختلفون في تقويم الأزهار اختلافهم في تقويم جمال الإنسان وجمال الطبيعة؛ وقد روي لنا الكثير عن اختلاف الشعراء في تمجيد بعض الأزهار؛ هذا يمجد الياسمين ويفضله على سائر الأزهار، وهذا معبوده النرجس، وهذا هواه البنفسج، وقرأت مرة عن فنان بغدادي استهواه الورد وجن به حتى كان إذا جاء موسمه انقطع عن عمله وخرج إلى حدائق الورد يتنقل فيها ، ويتغزل في محاسنها، إلى أن ينتهي الموسم فينصرف إلى عمله.
هذه الأزهار منتثرة حولي في حديقتي، يتنوع جمالها وبهاؤها، من جمال بساطة إلى جمال تعقيد، ومن جمال لون إلى جمال نقش، ومن جمال صارخ إلى جمال خافت، ومن جمال معربد إلى جمال متستر، ومن جمال ناعم إلى جمال شائك، وكلها في تنوع جمالها منسقة منسجمة، كأنها موسيقى تنوعت آلاتها وتناغمت ألحانها.
وهذه الأزهار تخالفت أعمارها كما اختلفت أعمار كل حي؛ فزهرة سرعان ما تذبل، وزهرة تطول حياتها ويطول جمالها، ويكاد يكون أجملها شكلا أقصرها عمرا، كالشأن في الإنسان قل أن يعمر نابغ ويهرم عبقري، كأن الطبيعة تغار من نبوغه أو عبقريته، أو كأنها تضن به عن أن يكون نعمة جيل؛ فتخترمه؛ ليكون مفخرة دهر.
إني لأضن بجمال الأزهار عن أن يقطفها قاطف أو يعبث بها عابث؛ وكلما رأيت باقة مجموعة ذكرت من جناها وجنى عليها، ولئن عذرنا الإنسان يجني على الحيوان والثمار؛ يتبلغ بها ويعيش عليها، فكيف نعذره في قطف الجمال وليس له كبير قيمة إلا في مكانه وعلى أغصانه؟!
وبقدر ما أبتهج بالجمال واكتماله، أرثى للجمال وذبوله؛ فأحزن لذبول الزهرة وتناقص القمر وشيخوخة المرأة، ولا يعزيني عن ذبول الزهرة إلا أنها تموت لتحيا، وتذبل لتزهر، وتتناقص لتكمل.
في جمال الأزهار معنى غامض كجمال النساء؛ فقد تبلغ الحسناء أقصى درجات الجمال، ثم لا تملأ قلبك ولا تسلب لبك، وإذا بمن دونها حسنا وجمالا تأسرك وتستولي عليك وتغمر مشاعرك، كذلك الشأن في أزهار حديقتي؛ هذه زهرة منتحية منعزلة، ليست أجمل الأزهار، ولكن هي أحبها إلى نفسي وأقربها إلى قلبي.
إن الشعور الحق بالجمال لا يتجزأ؛ فمن أحب جمال الأزهار أحب جمال النساء وأحب جمال الطبيعة، ومن لم يشعر بجمال الأزهار فقد الشعور بالجمال عامة، فإن رأيته وقد استهوته المرأة فهو استجابة للغريزة لا حب في الجمال.
إن الله خلق الإنسان والعالم ليتجاوبا ويتناغما، فإذا لم يهتز القلب لجمال الأزهار؛ ففيم خلقها؟! وإذا لم يبتهج بالسماء ونجومها؛ ففيم لمعانها وضياؤها؟! وإذا لم يتأثر بالطبيعة وجمالها؛ ففيم البحار وأمواجها، والمياه وخريرها، والجبال الشامخة وجلالها؟! فحيث وجدت العين الناظرة وجد المنظور، وحيث كانت الأذن كان المسموع، وإلا كان سؤالا بلا جواب، وعينا تقرأ ولا كتاب.
ليت لستالين وترومان وبيفن وأمثالهم مشاعر يدركون بها جمال الزهر، ويفهمون بها وحيه، ويصغون بها إلى حديثه، ويأنسون بها إلى وداعته ولطفه، إذا لتغير وجه الأرض وسادت الدعوة إلى السلام، وتغلبت بواعث الإنسانية، وإذا لاشمأزوا من رائحة القنابل وحديث الذرات واعتمادات الحروب، ولفكروا فيما يسعد لا ما يشقي، وفيما يخلد لا ما يفني، ولكن عدموا الذوق فاستأنسوا بالبارود، ونسوا الزهور فنسوا أنفسهم، وعبدوا الشيطان فصدهم عن الجمال.
وأخيرا ليت الزمان ربيع كله.
حول المدنية الحديثة
في صيف عام لا أذكره ذهبت إلى الإسكندرية؛ لأبحث عن بيت أصيف فيه، فكان مما عرض علي بيت كان يسكنه رجل إنجليزي، وقد تركه للإيجار؛ فاستعرضت غرفه، ولفت نظري غرفة صغيرة رأيت فيها قطة سوداء؛ فسألت عنها فقيل لي: إنها قطة ذلك الرجل الإنجليزي صاحب البيت وهي عزيزة عليه يعني بها، ويرعي شئونها، فلما ترك البيت أوصى بها خيرا، ورتب لها من يقوم على أكلها وشربها والعناية بشأنها، فسألت: وأين ذهب الرجل صاحب البيت؟ قالوا: إنه ذهب إلى ميدان الحرب متطوعا، فدار بخلدي هذا السؤال: كيف يعني بالقطة السوداء، ويحافظ على حياتها، ويرعاها حق رعايتها، ثم يذهب إلى القتال طوعا ليسفك دم أخيه الإنسان، ويقتل من يستطيع قتله، ويجرح من يستطيع جرحه؟! أيمكن في الإنسان الواحد أن تنقلب عاطفة الرحمة التي يبلغ من سموها العطف على القطة، إلى عاطفة قسوة تقتل وتبيد، وتتقمص أحيانا روح ملك فتفيض رحمة، وأحيانا روح ذئب فتنهش وتفتك؟! كيف تتلون العاطفة الواحدة هذه الألوان المتناقضة؟!
وكم في المدنية الحديثة من متناقضات من هذا القبيل! إن المدنية التي يؤلمها الرقيق فتسعى جهدها إلى إلغائه، وتعقد المعاهدات للقضاء عليه، وتبذل الجهود الجبارة في البر والبحر للتخلص منه، لا يفسر عملها إلا بأنها تعشق الحرية لبني الإنسان جميعا، وتكره الرق وتمقته؛ لأنه عدو الحرية؛ ولكن نرى هذه المدنية بعينها تسترق من الأمم أكثر مما تحرر من الأفراد، فهي من جانب يؤلمها الرق فتحرر، وهي من جانب آخر تؤلمها الحرية فتسترق، وإلا فما بالها هجمت على الشرق كله فاسترقته، ووضعت في رجله القيود، وفي عنقه الأغلال، ولم تمكنه من أي نوع من أنواع الرقي، وكان إذا طالب بحريته في التعليم، أو بحريته في استغلال موارده، أو بحريته في التسلح، أو بحريته في الخطابة والكتابة، قاومت ذلك كل المقاومة، وضغطت عليه كل الضغط، ولو أدى ذلك إلى استعمال الحديد والنار؟! فكيف تعشق الحرية وتمقتها، وتبكي عليها وتخنقها؟! هذا أيضا ضرب من المتناقضات!
والمدنية الحديثة الآن تظهر العطف على الشرق، وتدعي أنه يؤلمها أن تراه متأخرا، وتعلن أنها مستعدة للأخذ بيده والنهوض به، وأنها على استعداد أن تمده بالإخصائيين من رجال الزراعة والاقتصاد والمال؛ ليبحثوا حالته وينتشلوه من ورطته، ويعينوه بالأموال إذا اقتضى الحال؛ ولكن في الوقت نفسه، يرى أهل هذه المدنية ما تفعل فرنسا في المغرب من خنق للحرية، وحجر على التعليم، ومقاومة كل حركة وطنية بالقنابل والمدافع والطيارات، ويؤيدون ما يفعل الصهيونيون بالمسلمين من اغتصاب ديارهم، وتشريد مئات الألوف من سكانها، وتركهم يتضورون جوعا، ويتحملون أشد أنواع العذاب؛ من قسوة البرد، ولهيب الحر، ثم لا تأخذهم رحمة، ولا يتحرك قلبهم لعطف، فكيف يعطفون عليهم في الأولى، ويعلنون أنهم يضعون الخطط للأخذ بيدهم، ومد يد المساعدة لهم، وينكلون بهم في الأخرى حتى كأنهم يريدون القضاء عليهم، ومحوهم من على وجه الأرض؟! أليست هذه متناقضات؟!
الحق أنهم في سلوكهم في الشرق يعيثون مع الذئب ويبكون مع الراعي، ويتظاهرون بالعطف ويضمرون البغض، ويعلنون المعونة ويبطنون الاستغلال، ولم يتحركوا حركتهم الأخيرة بدعوى الأخذ بيد الشعوب المتأخرة؛ إلا خوفا من روسيا، وخوفا من أن يؤدي سوء الحالة الاجتماعية في الشرق إلى إفساح المجال للمذهب الشيوعي، ولولا خوفهم على أنفسهم ما فكروا في الشرق إلا لاستغلاله ولا أمدوه بشيء إلا ليأخذوا منه أكثر مما أعطوا، أما الإنسانية أو الإخاء أو العطف على البائس الفقير أو تعليم العالم الجاهل أو مساعدة القوي الضعيف أو نحو ذلك من المعاني السامية؛ فآخر ما يمكن أن تفكر فيه المدنية الحديثة.
وتقرر هيئة الأمم مبادئ سامية في حقوق الإنسان ومساعدة كل أمة تريد أن تحكم نفسها، فإذا هبت أمة شرقية للمطالبة بتطبيق هذه القواعد سدت الهيئة آذانها وكأنها لم تصدر قرارا ولم تضع مبادئ، بل إن الفعل الواحد قد تفعله روسيا فتقوم عليها الأمم الديموقراطية معنفة مشهرة، ثم تقدم على مثله أمة ديموقراطية، فلا نقد، ولا تعنيف، ولا تشهير، وكأن القضية الواحدة يحكم فيها بالنظر إلى من ارتكبها، فإن كان مرتكبها أسود كانت جريمة كبيرة، وإن كان أبيض لم تعد جريمة.
وتضع اليونسكو قرارا بأن كل أمة لها الحق في أن تعلم أبناءها بلغتها، فإذا رفع المغاربة صوتهم عاليا بأنهم محرومون في بلادهم من تعليم العلوم بلغتهم، وأن العلوم في بلادهم تعلم باللغة الفرنسية لا بلغتهم القومية العربية، وأن اللغة العربية تصلح كل الصلاحية أداة لتعليم العلوم كما هو الحال في الأقطار العربية الأخرى، لم يسمع لقولهم ولم يلتفت إلى ندائهم.
فالحق أن المدنية الغربية تسير على المبدأ القديم الذي حكاه القرآن عن اليهود بأنهم قالوا:
ليس علينا في الأميين سبيل
وأن الحق لا ينظر إليه في المدنية الحديثة على أنه حق في ذاته، ولا الباطل باطل في ذاته، وإنما الحق والباطل يقوم باعتبار من صدر عنه، مثلهم في ذلك مثل البدوي البدائي الذي سئل عن العدل والظلم؛ فقال: إذا أخذت جملا من قبيلة غير قبيلتي فعدل، وإذا أخذ رجل من غير قبيلتي جملا من قبيلتي فظلم.
وعلى الجملة فقد كل الشرق يصدق زعماء الغرب في دعاويهم منذ نادى الرئيس ولسن بمبادئه، وظنوا أن ويلات الحروب قربت الزعماء السياسيين من فهم الأخوة والإنسانية، فلما كثرت أقوالهم وكذبتها أعمالهم في دعوى ولسن وأقوال عصبة الأمم وأقوال هيئة الأمم ومبادئ روزفلت وما إلى ذلك، لم يعودوا يصدقون هذه الأقوال وأخذوا يسمعونها على أنها أمثلة من النفاق لا تدل ألفاظها وجملها على معانيها الحقيقية، وإنما هي ألفاظ مزوقة، يضحك بها على ذقون البله والمغفلين فترة من الزمان.
والآن إذا نشبت حرب أخرى - لا قدر الله - وقيلت مثل هذه الأقوال ووضعت مثل هذه المبادئ وأعلنها الزعماء السياسيون؛ لم تجد من الشرق إلا ضاحكا أو ساخرا، وهذا شأن كل من يتوالى قوله، ولا يصدق فعله.
وليس هذا سلوك المدنية الحديثة مع الشرق وحده، بل هو المسلك نفسه مع أمم الغرب بعضها وبعض، فمظهر النفاق والتناقض بين الأقوال والأفعال واضح في كثير من التصرفات؛ فعندما أعلن موسوليني ضمه للحبشة وخرج من عصبة الأمم، أعلنت عصبة الأمم أنه يريد تغيير خريطة العالم بالقوة، واستنكرت فعله، كأنه وحده هو الذي فعل هذا، وكأن لم تفعل إنكلترا وفرنسا مثل عمله، فكانت كل حين تغير خريطة العالم بالقوة، وكأن موسوليني أتى بدعا جديدا، ولم يكن مسبوقا بأمثلة كثيرة من الأعمال، فعلتها كل الدول الأوربية القوية قبله، فكأنهم لصوص استولوا على الغنائم ووزعوها بينهم واطمأنوا إليها، فلما ظهر لص جديد ثار عليه اللصوص القدماء واتهموه بالسرقة والغدر والخيانة!
وفي كثير من أحداث التاريخ كانت بعض الأمم تظلم وتعتدي وتلقي القنابل على البلاد المطمئنة الهادئة غير المسلحة، فيرتفع الصوت عاليا من الأمم الأخرى بالاستنكار والاستفظاع والوصف بالوحشية، ومع ذلك يتبين أن هذه الأمم المستنكرة تمد الأمة المعتدية بالذخيرة والسلاح.
لقد استنكرت عصبة الأمم فعل إيطاليا بالحبشة، ومنعت عنها كثيرا من المواد إلا البترول الذي يستخدم في الحرب، واستنكرت بعض الأمم رمي فرانكو القنابل على البلاد الآمنة في إسبانيا، ومع ذلك كانت هي التي تمده بالسلاح ولم تقطعه عنه، وهكذا، وهكذا من ضروب الاضطراب والتناقض والنفاق.
وعلى الجملة، فإن كانت المدنية الحديثة صناعة فنعمت هذه الصناعة، وإن كانت علما وبحثا واكتشافا، فنعم العلم والبحث والاكتشاف، وإن كانت سلوكا وأخلاقا من قادة السياسة وزعمائها فبئست هي.
الحياة والموت
كان العرب مرهفي الحس دقيقي الذوق؛ إذ مدوا (الحياة) وقطعوا (الموت) والحياة قصيدة، لها مطلع ومقطع وبيت القصيد، وقد يسوء المطلع أو يحسن، وقد يسوء المقطع أو يحسن، وقد يسوء بيت القصيد أو يحسن، وقد تأتي القصيدة جميلة المعاني، حسنة الأسلوب، جيدة الوزن، وقد تسوء في كل ذلك أو بعضه، هكذا أنواع الحياة، وهكذا أنواع القصائد.
مطلع الحياة الطفولة، ومقطعها الشيخوخة، وبيت القصيد الشباب.
والحياة السعيدة قصيدة حسن معناها وجمل إيقاعها وانتهت بسلام، والحياة الشقية قصيدة ساء مطلعها أو مقطعها أو بيت قصيدتها، في المعنى أو في الوزن أو في حسن الترتيب والانسجام، أو في كل ذلك.
والحياة قصيدة، طويلة وقصيرة، وقصيدة كألف، وألف لا تساوي واحدة، والحياة قصيدة، منها الضاحكة المبتهجة كقصائد الفخر والفكاهة والحب السعيد، ومنها كئيبة حزينة كقصائد الرثاء والشكوى والحب اليائس.
والحياة قصيدة، أكثرها عادي مألوف، وقد تسمو إلى حد الإعجاز، وقد تنحط إلى درجة النفور والاشمئزاز.
والحياة حياتان: حياة عابرة، وحياة خالدة، كالقصيدة قد لا تعيش ساعة، وقد تبقى على مر الأزمان.
والحياة قصيدة: جميلة وقبيحة، وقوية وضعيفة، وواضحة وغامضة، وسهلة وعسيرة، وضخمة ورقيقة.
والحياة لا تتساوى أيامها في القيم؛ فيوم نحس، ويوم سعد، ويوم بين بين، كالقصيدة تختلف أبياتها، فبيت رائع، وبيت ساقط، وبيت بين بين.
والحياة قصيدة، حياة تروعك وتبهرك، وحياة تسوؤك وتجرحك، وحياة لا تشعر بها ولا تحس بوجودها.
وخير الحياة ما أمتعت صاحبها ومن حوله، وخير القصائد ما أمتعت صاحبها ومن حوله. •••
وإن شئت فقل إن الحياة قطعة موسيقية، باسمة وحزينة، وخالية من النشاز، ومملوءة بالنشاز، وعذبة مستساغة، وكريهة منفرة، وجيدة التوقيع، ورديئة التوقيع، ومنسجم بعضها مع بعض، وينقصها الانسجام، وعالية ومنخفضة، ورقيقة وغليظة، وقوية وضعيفة، وتبتدئ لتبلغ الأوج، وتنحدر لتبلغ النهاية.
وحياة الناس جوقة موسيقية لا تحسن في السمع إلا إذا انسجمت، وقلما تنسجم، ولا تلذ سامعها إلا إذا خلت من (النشاز) وقل أن تخلو، ولا تصلح في الذوق إلا إذا شدت أوتارها على أساس واحد، ووقعت نغماتها في تجانس واحد، وقل أن يكون ذلك. •••
وإن شئت فقل: إن الحياة فصول متعاقبة محتومة: خريف وشتاء وربيع وصيف، إنما يسعد الإنسان فيها بالسير على قوانينها، فإن تدثر في الصيف وتخفف في الشتاء، وصيف في مشتى وأشتى في مصيف؛ فالعيش ثقيل، وهو كذلك إذا تشايخ في صبى، أو توقر في شباب، أو تصابى في شيخوخة.
إن أكثر الناس يشقون في الحياة؛ لأنهم لم يستطيعوا أن يجيدوا قصيدتهم، أو يوقعوا موسيقاهم، أو يلائموا بين أنفسهم وموسمهم. •••
والموت هو النهاية المحتومة لكل حياة، كمقطع القصيدة، أو خاتمة الأغنية، أو نهاية الموسم.
إنا نموت؛ لأننا منحنا جسما يتحلل على الزمان، غدد يضعف إفرازها، وقلب يتعب من طول ما نبض، ومعدة تكل من طول ما هضمت، ورئة تخمد من طول ما تنفست، وأعصاب تتحطم من طول ما احتملت.
والموت أكبر ديمقراطي في الوجود، ليس يفرق بين شريف ووضيع، وغني وفقير، وملك وسوقة؛ فكل يموت، وكل يدفن في مساحة لا تتجاوز ستة أشبار أو سبعة، وكل لا يتجاوز عمره السبعين أو الثمانين إلا قليلا، وكثير من الفلسفات والأشعار والحكم بني على هذه الحقيقة البديهية، «فليملك الإنسان ما يملك، ولينعم ما شاء أن ينعم، وليطل عمره ما شاء الله أن يطول، فهو لا بد أن يموت، وليس له إلا ستة أشبار يمد فيها» والملكية غرض زائل، وخيال خادع.
ويقول داري من يقول وأعبدي
مه فالعبيد لربنا والدار
إن ديمقراطية الموت هي التي أوحت إلى الناس فكرة المساواة في الحقوق والواجبات، فلو كان هناك دم شريف ودم خسيس، وكان للاعتزاز بالأنساب قيمة حقة، ولو كان للأرستقراطية أية مزية ذاتية، لاستطاعت أن تقف أمام الموت أو تعدل قانونه أو تغير من طبعه، فإن لم تفعل فالناس سواء، والأرستقراطية طلاء كاذب، وذهب مزيف.
بل لو أمعنا النظر لوجدنا المدنيات قديمها وحديثها، والأدب وفنونه، وسلوك الناس وأخلاقهم، كلها لونت بلون الموت، ولولاه لكان للناس شأن آخر ومدنية أخرى وسلوك آخر، ما الضمان الاجتماعي؟ ما الحروب والإعداد لها؟ ما العلم في خدمتها؟ ما الزواج والأنسال؟ ما ترجمة الأبطال، وإقامة التماثيل لهم، وإعلاء شأنهم؟ ما الشجاعة والجبن؟ إنها تنقلب أوضاعها، ويختل تقويمها؛ لولا الموت .
ولو أن الحياة تبقى لحي
لعددنا أضلنا الشجعانا
وإذا لم يكن من الموت بد
فمن العجز أن تكون جبانا
من فهم الموت فهم كوميديا الحياة: عظيم متكبر، وفاتح متجبر، وغني يعتز بثروته وجاهه، ومخترع يملأ الدنيا باختراعاته، ومكتشف يثير العجب من مكتشفاته، وبعد قليل يتخلون عن سلطانهم، ومالهم، وجاههم، وعلمهم، ويتحولون إلى وزن درهم من تراب، يكون جزءا من أديم الأرض؛ كما قال أبو العلاء:
خفف الوطء ما أظن أديم ال
أرض إلا من هذه الأجساد
أو يسد ثلمة في دن خمر، كما قال شيكسبير:
يعتري قيصر العظيم حمام
وتحيل الوجود أيدي الفناء
فإذا قيصر المعظم طين
سد في ثلمة ممر الهواء
أو كما قال الخيام: «كان بهرام يصيد الوحوش، فأضحت الوحوش تدوس قبر بهرام».
ومن غفلة الناس أن يتصوروا أن الكوميديا إنما تمثل على مسرح في دار تمثيل، أو على شاشة بيضاء في دار السينما، ولو عقلوا لفهموا أن الأرض كلها مسرح تمثيل، وكل من عليها يمثل دوره المضحك، وقد يكون في دور بعضهم ما يثير من الضحك، ويستخرج من العجب ، ما لا يناله أكبر مهرج على مسرح التمثيل أو الشاشة البيضاء، والروائي البارع من استطاع أن يستخرج من حياة كل إنسان رواية مضحكة.
لقد زرت مرة دير الطور في سيناء، ورأيت في جانب من جوانبه حجرة كدست فيها جماجم، فوقفت عندها طويلا، وتخيلت تاريخها، وماذا كان يعمل أصحابها؛ هذا كان منهمكا في لذته، وهذا كان منهمكا في عبادته، وهذا قاس، وهذا رحيم، وهذا متجبر، وهذا مسكين، ثم زالت هذه الفروق الكاذبة، وختمت الروايات كلها بهذه الجماجم المكدسة الفارغة المتماثلة.
الزهرة تتفتح وتنضر ثم تذوى، والجمال يروع ثم يزول، والنبات يكون أخضر يانعا ثم أصفر يابسا ثم هشيما تذروه الرياح، والقمر يبدأ هلالا ثم يتكامل بدرا ثم يصيبه المحاق.
والإنسان يبدأ طفلا يحبو، ثم يكون شابا مكتملا، ثم شيخا هرما، ثم يدركه الموت، وكل شيء هالك إلا وجهه.
خواطر (1)
حدثني قاض فاضل جليل أنه عرض عليه يوما قضية غريبة طريفة.
ذلك أن رجلا ادعى على آخر أنه بينما هو يسير في الطريق؛ إذ صفعه المدعى عليه صفعة قوية على قفاه من غير أن يكون هناك أي سبب يستدعي ذلك، فلما سئل المدعى عليه: هل صفعت هذا الرجل؟ قال: نعم. أتعرفه من قبل؟ قال: لا. هل بينكما معاملة تستدعي أن تصفعه؟ قال: لا. هل حدثت بينكما مشادة ترتب عليها الصفع؟ قال: لا.
فما السبب إذا؟ قال: كنت سائرا في الطريق، فلفت نظري عظم قفاه وامتداده واستعراضه، فأوحى إلي هذا القفا أنه صالح كل الصلاحية للصفع، فلم أدر إلا وقد تحركت يدي من جنبي وصفعته صفعة قوية شفيت بها شهوتي. •••
ربما كانت هذه ظاهرة - في الظاهر - غريبة، وربما ظن الناس أنها ظاهرة قل أن تحدث في الوجود، ولكن بالتأمل فيها نجد أنها هي وأمثالها تحدث كل ساعة وكل يوم، فيكاد كل إنسان تراه يوحي إليك معنى من المعاني، يتطلب منك سلوكا خاصا به.
ترى سائلا يوحي إليك بالرحمة فتحسن إليه، وسائلا يوحي إليك بالقسوة فتقسو عليه، وقد لا يكون هناك فرق بينهما من حيث البؤس والشقاء ومظهر الفقر والحاجة، لكن معنى خفيا أوحى إليك بالعطف في الأولى، والقسوة في الثانية.
ويتقدم إليك إنسان يطلب قضاء مصلحة مما هو في دائرة اختصاصك، فتشعر أن حافزا قويا يحفزك إلى قضاء مطلبه، والسرعة في إنجاز مصلحته، ويجيئك آخر فيوحي إليك منظره بالنفور منه والكره له، والتثاقل في قضاء ما يبتغي.
هل يرجع ذلك إلى حسن المنظر أو قبحه، أو إلى اللباقة في الطلب أو عدمها، أو إلى حسن الأداء وسوئه؟ كلا، قد لا يكون شيء من ذلك، بل قد يكون العكس؛ فتقضي الأمر لمن قبح شكله، أو ساء هندامه، أو كان على الفطرة في عرض مطلبه، أو نحو ذلك، إنما هو معنى خفي، وسر من أسرار الإنسان يحنن القلب أو يقسيه، ويبعث على العطف أو النفور.
ولو دققت النظر في سلوكك مع أصدقائك ومعارفك لوجدتك تسلك مع كل منهم مسلكا خاصا يتفق وما يوحيه إليك هذا الشخص من معنى: هذا صديق ما تراه في مجلس إلا بعث في نفسك حب السخرية به، والضحك منه، والاستهزاء بقوله أو فعله؛ وهذا آخر ما تراه إلا يبعث عندك التفكير الجدي، والاهتمام به، والإصغاء إلى قوله، والاستجابة إلى أمره ونهيه، وتقدير كل كلمة تصدر عنه؛ وهذا ثالث تجلس معه، فيبعث في نفسك السرور والمرح، وتحب أن تسمع قصصه وتضحك منه، ولو كان قصصه كسائر قصص الناس، ونكاته ونوادره كسائر ما يصدر من الناس، ولكن فيه خاصة غريبة تبعثك على الاستعداد للضحك والسرور من كل ما يصدر عنه؛ وهذا رابع لا تراه إلا وينفتح له قلبك، وتحب أن تكشف له عن كل سرك، وتستشيره في كل ما شق عليك؛ وهكذا من صفات لا تنتهي مما يوحيه إليك كل شخص تعرفه أو تقابله أو تجلس إليه.
وقد عرفنا ذلك ولمسناه، وإن لم نلتفت إليه، أيام كنا تلاميذ حتى في المدرسة الابتدائية؛ فكان يدخل علينا مدرس جديد لا يعرفنا ولا نعرفه؛ فما تمر علينا دقائق إلا ويوحي إلينا هذا المدرس بالهزء به والسخرية منه، ويستمر هذا الإيحاء ما بقي هذا المدرس معنا، ويأتي بعده آخر فما نراه إلا ويملأنا هيبة وإجلالا واحتراما ووقارا، ويستمر هذا أيضا ما بقي معنا، كل هذا كان ونحن أطفال لا نحسن التفكير، ولا نجيد التقدير؛ وإنما هو الوحي أو الإلهام، أو الخاصية أو ما شئت من الأسماء، هي التي توحي بالمعاني المختلفة للأشخاص المختلفين. •••
بل ليست هذه الخاصية مقصورة على موقف الإنسان نحو الإنسان، فإنك تزور بيتا أو تغشى حديقة، أو تدخل مسجدا، أو ناديا، فتشعر بانقباض في صدرك، ونفور من بقائك، ورغبة ملحة في الهروب من مكانك؛ وتجد عكس هذا في بيت آخر، ومسجد آخر، وناد آخر؛ إذ تشعر بالراحة والاطمئنان والسرور وحب البقاء، فإذا أنت حاولت أن تعلل هذا بحسن الهندسة أو قبحها، وانطباق فن العمارة أو عدم انطباقه، أو وجود الضوء أو الهواء أو عدمهما، لم تجد ذلك كافيا في التعليل ولا مقنعا في التفسير.
فأما الصوفية فقد فسروا هذه الظاهرة بأن الله تعالى يتجلى على الأشياء بصفاته وأسمائه فتظهر فيها معاني هذه الصفات وهذه الأسماء؛ فقد يتجلى على إنسان باسم القابض، وعلى آخر باسم الباسط، فتنقبض من الأول، وتنبسط للثاني؛ وقد يتجلى باسم الرحمن الرحيم، أو المتكبر الجبار، أو الواهب الرازق، أو المعز المذل؛ فتنعكس كل صفة وكل اسم على الشيء المنظور حسب ما انطبع فيه من صورة صفة المتجلي.
والناس - عادة - يدركون هذا المعنى ويعبرون عنه تعبيرا يدل عليه، فيقولون: إن هذا الرجل أو المرأة أو الشيء خفيف الروح أو ثقيله، خفيف الدم أو ثقيله، خفيف الظل أو ثقيله، وهي كلمات لا تسعفك في الإيضاح، بل هي غامضة غموض الأصل، فما خفة الروح؟! وما خفة الدم؟! إن الروح بالمعنى المعروف شيء وراء المادة ليس له وزن ولا حجم حتى يكون خفيفا أو ثقيلا، وأنت لو وزنت قيراطا من ثقيل الدم لوجدته يساوي مثله من خفيف الدم، فكل هذه الاصطلاحات اصطلاحات غامضة لمعان غامضة ، بدليل أنك قد ترى امرأة انطبق عليها كل شروط الجمال كما يفصله علماء الجمال، ومع ذلك تقول: إنها فقدت خفة الروح؛ فإذا سئلت عن تحليل هذا اللفظ أجبت بكلمات مترادفة لا تشرح ولا تعلل، وقد تفضل عليها امرأة أخرى لم تبلغ هذا المبلغ من الجمال، بل قد يكون فيها قبح في بعض أجزائها، وذلك لما تدعيه من خفة روحها.
هذا ما فكرت فيه عند سماعي القصة التي رويتها، وأخيرا أوصلني هذا التفكير إلى الحيرة والغموض، فهل عند السادة علماء النفس المتخصصين فيها، المتبحرين في دراستها، ما يذهب بهذه الحيرة ويكشف هذا الغموض؟
بين الماضي والمستقبل
اعتاد الإنسان أن يقلل من شأن حاضره ويعلي من شأن ماضيه أو مستقبله، وسبب ذلك أن الحاضر هو الواقع وهو الملموس وهو المحسوس، وأما الماضي وأما المستقبل فيلعب فيهما الخيال ويسبغ عليهما كثيرا من الجلال.
والإنسان هو الوحيد بين مخلوقات الأرض الذي يشعر بنفسه، ويشعر بالعالم حوله، ويستطيع أن ينظر من خارج نفسه إلى نفسه، وينظر من نفسه إلى العالم الذي يحيط به، فدفعه ذلك إلى كثرة السؤال: من أنا في العالم؟ ما علاقتي به؟ ما معنى هذه الحياة القصيرة التي يعقبها الموت؟ كيف كان العالم قبلي؟ كيف يكون العالم بعدي؟ ... إلى كثير من مثل هذه الأسئلة.
وقد اشتركت الأساطير والفلسفة والدين في الإجابة عن هذه الأسئلة، وتطورت نظرات الناس إلى الماضي والمستقبل حسب اختلاف البيئة الاجتماعية، فكثير من الأمم قدسوا الماضي وعدوه هو العصر الذهبي، ورأوا أن العصر الذي يعيشون فيه عصر انحطاط وتدهور؛ ففي عهد الأساطير عند اليونان كانوا يعدون عهد (كرونوس) عصرا ذهبيا، ويعتقدون أن الناس كانوا يعيشون فيه عيشة الآلهة أو ما يقرب من الآلهة؛ فلما تجاوزوا عصر الأساطير كانوا يعتقدون أن عصر المشرعين أمثال ليكورغ وصولون هو العصر الذهبي لليونان، وأن أملهم وطموحهم إنما هو في عودة ذلك العصر السعيد.
ثم جاءت النصرانية، وجاءت القرون الوسطى، واضطهد الناس أشكالا وألوانا، وفقدوا حريتهم، ووقعوا تحت نير الاضطهاد والاستعباد، فرأوا أن الحياة التي يعيشونها لا قيمة لها، ولا أمل فيها، فوجهوا نظرهم إلى الحياة الأخرى وحدها؛ حيث النعيم المقيم، والسعادة الأبدية، واعتقدوا أن العيشة الحاضرة ليست إلا فترة ضئيلة من الحياة تنقضي على أي شكل كان، فما هي إلا قنطرة يعبر عليها السائر إلى الآخرة.
حتى جاء العصر الحديث؛ ونهض الأوربيون نهضتهم، وتحرروا كثيرا من ظلم حكامهم، وسلطة كنيستهم، وأصبحت حكومتهم في أيديهم، يسيرونها وفق رغباتهم، فتحول الناس من النظر إلى العصر الذهبي الماضي أو الحياة الأخرى بعد الموت، إلى النظر لحاضرهم في الدنيا ومستقبلهم فيها.
وأكبر عامل في عصر النهضة لهذا التحول هو العلم التجريبي الذي فتح مجال الأمل لتحسين الحياة الحاضرة التي نحياها، وبشر بأن في استطاعة العقل الإنساني بعلمه وتجاريبه أن يسيطر على البيئة التي حوله؛ لينظمها في تحقيق سعادته.
وأخذ ينظر إلى الطبيعة على أنها محكومة بقوانين ثابتة يمكن استكشافها، وأن من الممكن للإنسان أن يصادق هذه الطبيعة ويستخدمها في منفعته متى استكشف قوانينها.
وكفر المحدثون بخرافات العصر الذهبي الماضي؛ وقالوا: إن عقولنا أنضج من عقولهم، وإذا كان زمنهم زمن الطفولة فزماننا زمان الشباب، وإننا بعقولنا نستطيع أن نصل إلى خير مما وصلوا إليه، وأن نقرأ كتاب العالم خيرا مما قرأوه، ونفسره خيرا مما فسروه، وإن هذه القداسة للقديم خرافة لا يصح أن يستنيم إليها العقل الحاضر؛ وعلى هذا الأساس عمل الناس على إصلاح حاضرهم والتغلب على مشاكلهم، ولم تعد الرهبنة أخلاقية راقية، وإنما الأخلاقية الراقية هي بذل الجهد في إصلاح الحاضر.
وشاع في الناس - على أثر ما شاهدوه من تقدم - الأمل في مستقبل باهر على ظهر هذه الدنيا ينعم فيه أجياله بالسعادة والهناء، وزادهم طمأنينة إلى حاضرهم ومستقبلهم ما شاهدوه من عجائب المخترعات، وزيادة الثروة، ونمو المدن، وتقدم وسائل النقل والمواصلات، وإمكان الوقاية من الأمراض وتحسن الصحة، ووسائل الراحة في الحياة البيتية، وغير ذلك.
وظلت هذه الآراء والأمل في المستقبل سائدة على العالم الأوربي؛ حتى صدمته الحرب العالمية الأولى، فأخذ يفكر من جديد: ماذا عسى أن يكون المستقبل والحروب بين الناس طاحنة، وويلاتها مرعبة؟! واشتد ضعف الأمل في المستقبل بالحرب العالمية الثانية وما أعقبها من اكتشاف القنابل الذرية، وتوقعهم حربا شعواء تجتاح الأخضر واليابس، بل لعلها تقضي على المدنية بأكملها؛ وبذلك تزعزع الإيمان بالحاضر والمستقبل، وبعد أن كان العلماء الاجتماعيون يقولون بأن التقدم حاصل لا محالة، وأن الحاضر خير من الماضي، والمستقبل خير من الحاضر من غير قيد ولا شرط، إذا بهم يضعون القيود والشروط لسعادة الإنسان المستقبلة، ويقولون: إنما يسعد إذا سلك سبيل العقل والحكمة، ولكن أنى له هذا العقل وهذه الحكمة؟!
فإذا نحن نظرنا إلى العالم الإسلامي في ضوء هذا وجدنا أن العرب في جاهليتهم كثيرا ما كان يرد على ألسنتهم النظر إلى الماضي وإكباره، والنظر إلى الحاضر واستصغاره، من مثل قول لبيد:
ذهب الذين يعاش في أكنافهم
وبقيت في خلف كجلد الأجرب
ومثل ما عند العرب من أساطير تشير إلى ضخامة أجسام الأقدمين، وطول أعمارهم، ونحو ذلك.
فلما جاء الإسلام احتقر الماضي العربي وسماه الجاهلية، واحتقر مبادئه وتعاليمه وأصنامه، ووضع أسسا جديدة للحياة؛ عمادها - من حيث موضوعنا - النظر إلى الدنيا وإلى الآخرة جميعا؛ ويتلخص هذا المبدأ في قوله عليه السلام: «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا». لقد كره الإسلام الرهبانية واعتزال الحياة، وسمح لكل امرئ أن يعمل حسبما يسر له، وأن يستمتع بالحياة كما يشتهي في الحدود المشروعة؛ فله أن يأكل أحسن المأكل، ويلبس أحسن الملبس، ويسكن أحسن المسكن، ولكن يراعي الله في تصرفاته، فلا يفرط فيفقد رجولته، ولا يسرف فيظلم غيره؛ ويجب أن يراعي في كل تصرفاته أن وراء الحياة الدنيا حياة أخرى يواجه فيها ربه؛ فيسأله عما عمل في حياته.
وقد بلور القرآن هذا المعنى بقوله:
وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا . ولذلك كان كثير من كبار الصحابة الذين لا يشك في فهمهم للإسلام حق الفهم والتزامهم لمبادئه؛ يستمتعون بالحياة الدنيا أحسن استمتاع؛ مع التزامهم حدود قوانين العقل والشرع، ويرون أنه من الممكن لهم أن يبلغوا الكمال من غير أن يميتوا شهواتهم، أو يتجردوا من ملاذهم، على عكس ما كان من المبادئ البوذية والمسيحية التي ترى أنه من المستحيل بلوغ الكمال إلا بإماتة الشهوات؛ وبذلك ساير الإسلام الغرائز الطبيعية، ولم يقض عليها؛ بل حد من سلطانها، وأوسع المجال أمام كل فرد أن يكمل نفسه حسب استعداده وحسب مزاجه وملكاته، فمن شاء فليزهد، ومن شاء الاستمتاع بالحياة فليستمتع؛ ومن شاء التوسع في مجال الحياة فليتوسع، ولكن يجب أن يكون كل ذلك في الحدود المشروعة، ومع مراعاة الآخرة.
ومن أجل ذلك أيضا اتجه المسلمون في أول أمرهم إلى أن يعيشوا عيشة العزة، وأن تكون كلمتهم العليا، وكلمة غيرهم السفلى، وأن يتوسعوا في الفتح ما أمكن، لا للاستعمار المعروف اليوم في القضاء على الأمة المفتوحة واستغلالها في مصلحة الفاتح، ولكن لنشر الدعوة، وأن يكون لأهل البلاد من الحقوق والواجبات ما للفاتحين؛ فإن حصل خطأ في تاريخ الإسلام في سوء المعاملة؛ فالذنب ذنب المسلمين، لا ذنب الإسلام نفسه.
إلى جانب ذلك نظر الإسلام إلى العالم على أنه كتاب الله المفتوح، الذي تتناغم كل أجزائه وتنسجم؛ لأنها من تأليف إله واحد، وقد أودع فيها من القوانين ما يجب على الإنسان أن يتعرفها ما استطاع، لذلك هجم المسلمون الأولون على العلم الذي كان معروفا عند غيرهم فاقتبسوه، سواء ما كان عند الفرس، وما كان عند اليونان، وما كان عند الهنود، وكل ما فعلوا أن صبغوا أن هذه المعارف بصبغة تتناسب مع لون الإسلام والعقيدة الإسلامية، من توحيد الخالق وعظمته وسلطانه؛ ولذلك بلغوا في هذه العلوم ما جعلهم أعلم أمة في عصرهم، ولو سارت الأمور على طبيعتها لاستمروا في درسهم وبحثهم، واكتشاف القوانين المبثوثة في العالم في نمو واطراد.
فالمسلمون بلغوا ما بلغوا من العلم بداعي دينهم، على حين أن الأمم الأوربية سارت إلى العلم على الرغم من كنيستها.
وفي هذه الأثناء كان المسلمون ينظرون إلى الماضي - أعني إلى عصر النبوة والخلفاء الراشدين - على أنه العصر الذهبي، وهم محقون في هذا من الناحية الدينية؛ لأن العصر الذهبي للإسلام من حيث منبع الدين ومن حيث اتباع تعاليمه كان في ذلك العصر، لكن ليس هذا عصرا ذهبيا من ناحية العلوم والمعارف الأخرى.
فلما انحط شأن المسلمين - بما توالى عليهم من ظلم الحكام وفساد الحكم، وتملك زمام المسلمين من ليسوا مسلمين إلا بالاسم، وطال عليهم الأمد في ذلك - فقدوا عزتهم، وفقدوا تقويم حاضرهم، وأصبحوا لا يملكون إلا افتخارا بالماضي وأملا مشوها في الحياة الأخرى، واستخدم هؤلاء الحكام الظلمة علماء الدين في أن يبثوا بين العامة الزهادة في الحاضر، واحتقار الدنيا وشئونها والهرب منها، وتوجيه كل رغباتهم وآمالهم وسعادتهم إلى الحياة الأخرى، ولتكن الدنيا بعد ذلك ما تكون، لا بأس من قضائها في شقاء أو فقر أو بؤس، فهي قصيرة الأمد، وكانت هذه كلها دعوة ماكرة من ظلمة الحكام؛ ليستأثروا بالسلطان والجاه والغني والثروة، وغفلة من العلماء الذين تحمسوا لهذه الدعوة في سذاجة، أو خداعا بعرض من الدنيا قليل.
نعم؛ إن في الإسلام ما يدل على أن الدنيا قنطرة الآخرة، وأن الحياة الأولى دار ممر لا دار مقر، ولكن مجموع تعاليم الإسلام تدل على أن الدنيا قنطرة لها قيمتها، ودار ممر؛ ولكن يجب أن يعمل لها وتوجه العناية بها، ويسودها العدل ما أمكن، وتقاوم الظلم ما أمكن، ويعيش الناس فيها أسعد ما يكونون ما أمكن، أما التعاليم الأخيرة فتقضي بأنها قنطرة لا قيمة لها، ودار ممر لا يؤبه بها، وفرق كبير بين التعليمين والمبدأين.
كان من نتيجة هذا الفساد أن عدم المسلمون النظر إلى حاضرهم، ولم يكن يروح عن نفوسهم إلا النظر إلى الماضي، والافتخار به، والاعتزاز بروايته، كالتاجر الذي أفلس فأصبح يقلب في دفاتره القديمة، وإلا النظر إلى المستقبل رجاء السعادة في الآخرة، ولعبوا بفكرة المهدي المنتظر، وتوسعوا في وصف نعيم الآخرة، وأصبحت الحياة حياة أحلام، ولم يسمعوا لقول الشاعر:
إذا أنت لم تحم القديم بحادث
من المجد لم ينفعك ما كان من قبل
ولذلك لما هاجمت المدنية الغربية العالم الإسلامي كانت عبارة عن مدافع تهاجم أحلاما، وقوى مسلحة تلاقي أوهاما، فلما بدأوا في النهضة - بعد أن أفاقوا من ضربة الاستعمار - بدأوا ينظرون إلى حاضرهم في الدنيا، ولكن رأوا حاضرهم ضعيفا هزيلا بجانب حاضر الغربي، فاعتراهم مركب النقص، واتخذوا الحضارة الغربية إمامهم يقتبسون منها لتحسين حاضرهم، مع إحساسهم بذلتهم.
وكان هناك فرق كبير بين المسلمين الأولين يوم كانوا يقتبسون من حضارة الفرس والروم، والمسلمين اليوم وهم يقتبسون من الحضارة الغربية؛ كانوا أول أمرهم يقتبسونها اقتباس المعتز بدينه، وعقليته، وقوته، وحاكميته، وهم اليوم يقتبسون وهم يشعرون بشيء من الذلة، والمحكومية.
والحق أن لا بأس من اقتباس العلم الغربي، بل هو واجب، فالحياة لا يمكن أن تكون سعيدة إلا إذا أسست على العلم، وعلى إصلاح الحاضر، وعلى النظر إلى الحاضر في الدنيا، والمستقبل في الدنيا؛ ولكن يجب أن يضاف إلى ذلك عند المسلمين محاربتهم لمركب النقص هذا، وشعورهم بأنهم يرثون من دينهم قوة روحية فقدها الغرب، وأنهم يستطيعون بفضل تعاليم الإسلام أن يلونوا العلم الأوربي لونا روحيا خيرا يصح أن يستخدم في خير الإنسان، إن العلم الذي لا دين له ينتج القنبلة الذرية؛ لإهلاك الإنسانية، ولكن العلم الذي له دين ينتج اكتشاف قوانين الذرة؛ لخير الإنسانية.
نظرية طريفة
قرأت هذه الأيام كتابا طريفا لكاتب صيني،
1
يرى في أحد فصوله أن لكل أمة مزاجا، وهذا المزاج يتكون من عناصر أربعة: عنصر الواقع، أو بعبارة أخرى: النظر إلى الوجود كما هو موجود، وعنصر الحلم أو الخيال أو المثالية، وعنصر المرح أو روح الفكاهة، وعنصر الحساسية أو قوة الشعور بالأحداث، وأن الواقعية والمثالية هما العاملان الأساسيان في حياة الأمم وتقدمها، وأن طينة الإنسانية تندى وتلين وتقبل التشكل بفضل عنصر المثالية، ولكن مادتها تبقى متماسكة مصونة بفضل عنصر الواقعية، ولا بد منهما معا في حالة تعادل، وبنسب صحيحة؛ حتى تبقى الطينة متماسكة وتبقى ندية لينة، فإن غلبت الواقعية كانت الطين جافة أو قريبة من الجفاف، لا تقبل التشكل، وإن غلبت المثالية كانت مائعة أو قريبة من الميوعة، لا تقبل التشكل أيضا.
وهذان العنصران في حالة مشادة دائمة في الأفراد والجماعات والأمم، وكلما اعتدلت نسبة التمازج كان التقدم أوضح وأسرع، وهو يرى أن الأمة الإنجليزية - من بين الأمم - أعدل مزاجا، وأصح نسبة بين الواقعية والمثالية، وكأن طينتها لا قست ولا ماعت، على حين أن بعض الأمم كثيرة الاضطرابات أو الثورات؛ لأنها حقنت بمادة مثالية غريبة عنها لم تهضمها، جعلت طينتها أقرب إلى الميوعة، غير مستطيعة أن تحتفظ بشكلها.
وكثيرا ما يطير الإنسان على خياله الجامح ويتعلق بأحلامه الواهية؛ فمن حسن حظ الإنسان أنه منح روح الفكاهة، ووظيفتها أن تنقد الجامح في الخيال، المتعلق بأوهام الأحلام؛ لترده إلى الحقيقة وتنزله إلى أرض الواقع، نعم؛ إن من حق الإنسان أن يحلم، ولكن من واجبه أن يسمع الضحك على أحلامه، وهذا ما تفعله الفكاهة، فالفكه أو المازح يحذر الحالم الهائم أن يصطدم بصخرة الواقع.
ثم قال: إنه يود أن يضع لهذه العناصر قوانين أشبه بما يضعه علماء الكيمياء، ولكن حذار أن تنتظرها قوانين دقيقة كقوانين الكيمياء، أو أن تأخذها قضايا لا تقبل الزيادة والنقص، ولا التعديل والتغيير كقوانين الطبيعة، فقوانينه قوانين مرنة، قابلة أن يشكلها الباحث حسب بحثه واقتناعه، فمن قوانينه التي ذكرها: (1)
واقعية من غير مثالية = حياة حيوان. (2)
واقعية + أحلام = مثالية. (3)
أحلام + فكاهة = أوهام. (4)
واقعية + أحلام + فكاهة = حكمة ... إلخ.
واصطلح على أن يجعل كل عنصر من هذه العناصر الأربعة (الواقعية والمثالية والفكاهة والحساسية) إذا بلغ درجة (4) فشاذ، أعلى مما يلزم، وإذا بلغ (3) فمرتفع، وإذا بلغ (2) فمعتدل، وإذا بلغ (1) فمنخفض، وكل أمة لديها هذه العناصر الأربعة ولكن بأقدار مختلفة، وهي تسير في الحياة وتتصرف في الأحداث وفق امتزاج هذه العناصر ومقاديرها، وضرب أمثلة لذلك حسب رأيه ودرسه كما يأتي:
واقعية (3) مثالية (2) فكاهة (2) حساسية (1) = الإنجليز.
واقعية (2) مثالية (3) فكاهة (3) حساسية (3) = فرنسيون.
واقعية (3) مثالية (3) فكاهة (2) حساسية (2) = أمريكيون.
واقعية (3) مثالية (4) فكاهة (1) حساسية (2) = ألمان.
واقعية (2) مثالية (4) فكاهة (1) حساسية (1) = روس.
واقعية (4) مثالية (1) فكاهة (3) حساسية (3) = صين.
وعلل بعض ما يبدو في الأمم من مظاهر بهذا المزاج؛ فالفرنسيون - مثلا - يميلون إلى النظريات المجردة وسعة الخيال، كما تتجلى في أدبهم وفنهم وكثرة حركاتهم السياسية، وذلك ناشئ من علو درجتهم في المثالية، والصينيون أعرق الناس في الواقعية، والألمان أحوج الناس إلى روح الفكاهة، قال: «ولقد كدت أعطيهم في ذلك صفرا». وهذا ما أتعبهم في السياسة في الماضي والحاضر، ولو منحوا قدرا كافيا منها لتغير تاريخهم وتغير وجه الحرب.
ثم ذكر أن المثل الأعلى لأمة أن يكون قانونها: واقعية 3 مثالية 2 فكاهة 3 حساسية 2
وأقرب الأمم إلى هذا المثل الإنجليز.
ولقد وضعت الكتاب من يدي بعد قراءة هذا الفصل وتساءلت: كم نضع من الدرجات للمصريين في هذه العناصر الأربعة؟ ووجدت السؤال صعبا، ولكن لم أيأس من محاولة الإجابة عنه.
في نظري أن المصريين يغالون في الواقعية ويقصرون في المثالية، فلو نالوا أربع درجات في الواقعية نالوا درجة واحدة في المثالية، ومن أجل هذا يغلب عليهم احتذاء التقاليد، والأوضاع القديمة؛ حتى التي كانت في عهد قدماء المصريين التزاما للواقع، وهم بطيئو التغير والتحسن في نظم حكومتهم، وفي مرافقهم السياسية والإدارية والاجتماعية؛ لأن هذا التحسن ينشأ أولا من الأحلام، أو بعبارة أخرى من المثالية: ثم ينقلب الحلم إلى واقع، فلما نقصهم الحلم نقصهم التغير، وطبعوا بطابع «إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون»، ودع عنك حفنة من الناس في المدن يحلمون ويتغيرون، فالحكم على الأمة يجب أن يكون على الأعم الأغلب؛ من فلاحين وصناع وهم جمهور الشعب، وهؤلاء لو قارنتهم بأمثالهم من قدماء المصريين لم تجد بينهم كبير فرق.
وحتى الآداب والفنون عندهم تنقصها الأحلام والخيالات، ولذلك ضعفت القصة في أدبهم، وكثرت الحكم؛ لأن الحكم واقعية والقصة خيالية، والأدب المصري يسير سيرا تقليديا، إما تقليدا للأدب العربي القديم، أو للغربي الحديث؛ وقل فيه الابتكار؛ لأن الابتكار خلق، والخلق يحتاج إلى تصميم، والتصميم يحتاج إلى خيال أو مثالية.
ولعل هذا هو شأن الشرق بأجمعه، لا المصريين وحدهم، فإن صح هذا وجب على المصلحين أن يؤسسوا إصلاحهم وبرامجهم على الإقلال مما يسبب الواقعية والإكثار مما ينمي المثالية.
قد أكون مخطئا في تقديري؛ ولكني أقول كما يقول زميلي الصيني: إن هذه الأحكام لم تبلغ من الدقة مبلغ قوانين الطبيعة والكيمياء.
أما روح الفكاهة فهي نامية عند المصريين، وقد خففت عنهم كثيرا من متاعبهم، بل وقد تكون حفظت عليهم وجودهم؛ فما تحملوه من ضغط آلاف السنين كان يكفي للقضاء عليهم لولا روح الفكاهة، فأنا أقدر روحهم الفكاهية بثلاث درجات لا أقل، وإذا احتاج هذا العنصر إلى إصلاح فليس أن يزيد أو ينقص، ولكن أن يشذب ويهذب، ويرقى في موضوعاته وأساليبه.
ثم إن المصريين كالفرنسيين ينالون ثلاث درجات في الحساسية، فهم سريعو الرضا، سريعو الغضب، سريعو الانفعال في شدة؛ وقد يلاحظ عليهم أنهم ينفعلون لدواعي الحزن، أكثر مما ينفعلون لدواعي السرور؛ لأسباب تاريخية عميقة، وينفعلون للمسائل الشخصية، أكثر مما ينفعلون للأسباب السياسية والاجتماعية؛ ولكن كلامنا الآن في وجود العنصر ومقدار كميته، لا كيفيته واتجاهاته.
واستمر المؤلف في تطبيق نظريته، فطبقها على الكتاب والشعراء، ورأى أنهم يختلفون في مقادير هذه العناصر الأربعة، ولكن لا بد أن يكون الشاعر - مثلا - على قدر كبير من الحساسية، وإلا لما كان شاعرا، وقال: إنه درس طويلا ليصل إلى تقدير بعض الشعراء بهذه المقاييس فوصل إلى النتائج الآتية:
شكسبير:
واقعية 4 مثالية 4 فكاهة 3 حساسية 4.
هيني:
واقعية 3 مثالية 3 فكاهة 4 حساسية 3.
شيلي:
واقعية 1 مثالية 4 فكاهة 1 حساسية 4.
وجاء دوري في التفكير في بعض شعرائنا، فاخترت ابن الرومي والمتنبي، وأعطيتهما هذه الدرجات:
ابن الرومي:
واقعية 2 مثالية 3 فكاهة 3 حساسية 4.
المتنبي:
واقعية 3 مثالية 3 فكاهة 2 حساسية 3.
وهذه النظرة تفتح لنا بابا واسعا في تقدير الكتاب والشعراء على هذا الأساس، وتبعثنا على التفكير: ما الدرجات التي يحوزها المثل الأعلى للشاعر؟ وأي الشعراء أفضل؛ من زادت مثاليته وأحلامه، أو من زادت حساسيته؟ إلخ.
وهي أسئلة تحتاج إلى درس طويل وتفكير عميق.
وأيا ما كان؛ فهذه النظرية التي عرضها الكاتب أطالت تفكيري، وأجالت خيالي، فأحببت أن أشرك القراء معي.
الحكمة في الأدب العربي
تحديد معنى «الحكمة» من أصعب الأمور؛ شأنها في ذلك شأن الكلمات المعنوية العامة، كالحرية، والجمال ، والعدل، وكل ما يستطيعه المعرف أن يذكر أهم الخصائص المميزة للكلمة.
لقد عرفها بعضهم تعريفا تقريبيا فقال: إنها «نظرة - عميقة عملية مباشرة - إلى معاني الأشياء وأغراضها، تصدر عن ذكاء حاد نفاذ دقيق الملاحظة، يستمدها من تجارب الحياة ومن مخالطته العملية بالحياة اليومية»، ويسمى الرجل ذو النظرات هذه حكيما، وتسمى الكلمة المشتملة على هذه النظرة حكمة، ومن هذا قيل: «إن من الشعر لحكمة»، وقيل: «الحكمة ضالة المؤمن»، وأحيانا يلحظ في «الحكيم» أنه يضيف إلى هذه النظرات الصائبة العمل على وفقها، ومن ذلك قوله تعالى:
ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا ، وسمي لقمان حكيما؛ لأنه ينطق بالحكمة ويعمل بها. •••
وأيا ما كان؛ فهناك فرق كبير بين الفلسفة والحكمة من وجوه؛ أهمها: أن الفلسفة تفكير منظم مبوب، تبنى مسائله على أساس منطقي يأخذ بعضه برقاب بعض، ويوضع لاحقه على أساس سابقه، أما الحكمة فنظرات لامعة خاطفة من هنا وهناك، وطابع الفلسفة طابع تحليلي، تأخذ الفكرة وتحللها وترجعها إلى أصولها وتبين نتائجها، وطابع الحكمة تركيبي يركز التجارب في جملة، ويجمع خلاصة التفصيلات في «برشامة»، ويعصر السحاب المنتشر، في قطرات المطر، والفلسفة تعتمد على التأمل، والتفكير العقلي، والقانون المنطقي، والحكمة تعتمد على الإلهام، والاستعداد الشخصي - مضافا إلى ما ورثه من أمته - لاجتذاب المعنى العميق من الأحداث السطحية، واستخراج حبة الذهب من تل الرمال، واللؤلؤة الثمينة من أكوام الصدف؛ ثم إن الفلسفة أسلوب الخاصة وعقلية الخلاصة، فلا عجب أن يلفها الغموض وتعقد الأسلوب، أما الحكمة فثقافة شعبية يدركها الخاصة والعامة على قدر زكانتهم وأحيانا تكون في شكل جمل مركزة رزينة جميلة، ويفسرونها بمقدار مواهبهم، ومن أجل هذا صيغت الفلسفة صياغة معقدة ثقيلة، وصيغت الحكمة صياغة خفيفة رشيقة.
إن شئت مثلا للموازنة فاقرأ باب السياسة في كتاب «عيون الأخبار» لابن قتيبة، أو «العقد الفريد» لابن عبد ربه، وهو الباب الذي سمياه «كتاب السلطان»، ثم اقرأ فصلا من فصول كتاب السياسة لأرسطو؛ تخرج بالنتائج التي ذكرتها؛ نظرات عملية، تجريبية، ملهمة، مفرقة، مركبة، مصوغة صياغة جميلة (في الأول )، ونظرات منطقية، تحليلية، تأملية، مرنة، معقدة (في الثاني)؛ فالأول حكمة، والثاني فلسفة. •••
والأمثال يعد كثير منها ضربا بدائيا من ضروب الحكمة، وهي والحكمة - عامة - تكاد تكون في كل جماعة، وكل أمة؛ بدوها وحضرها.
ولكن ما يلفت النظر ويبعث على التفكير غزارتها وكثرتها في الأمم الشرقية كالمصريين، والبابليين، والصينيين، والهنود، والعبرانيين، والعرب، بل أحزر - وإن لم أتيقن بعد - أن الأمثال والحكم اليونانية صدرت عن اليونانيين الذين كانوا في آسيا الصغرى، أكثر مما نبعت من اليونانيين في أوربا، فتلحظ الكثرة الوافرة من الحكم الهندية في مثل كليلة ودمنة، والعبرية في كثير من أجزاء التوراة، والمصرية فيما يرويه علماء الآثار المصرية من أمثال؛ ولعل الأمم السامية في ذلك أوفر حظا، ولعل العرب من بينهم أعلى شأنا؛ فحكمهم تمتاز مع كثرتها؛ بلمعان الفكرة، وجزالة العبارة، وتركزها، وشدة العناية بالناحية الخلقية، كما يقرر ذلك بعض علماء المقابلة بين الأمثال.
وهذا يدعو - بحق - إلى التفكير في علة غزارة هذا النوع من الأدب في هذه الأمم الشرقية؛ ولعل مما يلفت النظر أيضا ظهور الأديان العظيمة في مواطن الحكمة، فالأديان أقرب إلى الحكمة منها إلى الفلسفة.
قد يقال: إن كثرة غزارة الحكمة في الشرق، وتفوقه على الغرب، أن الحكمة - كما قلنا - تنبع من الإلهام، والفلسفة تنبع من المنطق والتفكير العقلي، والشرق معروف من قديم بأنه موطن الإلهام، فكان أكثر حكمة.
وقد يقال: إن مزاج الشرق تركيبي، ومزاج الغرب تحليلي، فازدهرت الحكمة في الشرق؛ حيث المزاج التركيبي، وازدهرت الفلسفة في الغرب؛ حيث المزاج التحليلي؛ ولكن التهجم في تعيين خصائص للأجناس أو للأقطار في منتهى الخطورة، ويجب أن يعالج بكثير من الحذر.
قد قال قوم: إن الحكمة خاصة البدائيين، وإنها المادة الأولى التي يبني عليها الفلاسفة فلسفتهم، فإذا وفق البدائيون للحكمة؛ أخذها الفلاسفة وحللوها ورتبوها وشرحوها وعللوها وأنتجوها، فكانت الفلسفة، ولكن لا أظن هذا صحيحا، فالفلسفة غير الحكمة، وهما مختلفان في المنبع والمصب، ولكل طريقه، ولكل أدواته، وليست الفلسفة طبقة عليا بنيت على الحكمة، ولكن الفلسفة والحكمة بيتان عاليان مختلفان . •••
والحق أن الأدب العربي غني بالحكم غنى عظيما، ولئن تفوقت الآداب الغربية بالقصص، فالأدب العربي يتفوق بالحكم، وتعليل ذلك يحتاج إلى درس طويل.
وسواء في غنى الأدب العربي نثره وشعره في جميع العصور؛ ففي النثر نجد الخطيب قد يخطب وخطبته كلها ليست إلا حكما متراصة، وأبدع في الجاهلية كثير من أمثال أكثم بن صيفي، وتتابع التدفق في الإسلام من أمثال حكم الأحنف بن قيس، وما روي عن علي بن أبي طالب من الحكم، وما ملئت به كتب الأدب أمثال عيون الأخبار والعقد الفريد، حتى البله، والمجانين، والحمقى، والمغفلون رويت لهم الحكم الرائعة.
وتنوعت مناحي الحكم تبعا لتنوع مناحي الحياة؛ من حكم خلقية، ودينية، واقتصادية، وسياسية، واجتماعية، وفنية، ومن الأسف أنها لم تدرس في الأدب العربي دراسة عميقة تكافئ ما لها من أهمية، كما تنوع شكل صياغتها؛ فأحيانا تكون في شكل جمل مركزة رزينة جميلة، وأحيانا تكون في شكل قصص قصيرة، وأحيانا في شكل حوار ظريف ... إلخ.
والشعر العربي مليء كذلك بالحكم العظيمة من عهد لبيد وزهير بن أبي سلمى، وأبدع فيه أبو العتاهية حتى كانت له الأرجوزة الطويلة المعدودة بالمئات ليس فيها إلا حكم، ولا ننسى حكم المتنبي القوية الرائعة، ولا حكم المعري الزاهدة اللاذعة الحزينة ... إلى كثير من أمثال ذلك مما لا يعد ولا يحصى، والذوق العربي العام يأنس بالحكم ويهتز لها، من حين شغف الناس بقصيدة زهير «ومن، ومن» إلى وقتنا هذا؛ حيث يصفق الجمهور لسماع أم كلثوم تغني بقول شوقي:
وما نيل المطالب بالتمني
ولكن تؤخذ الدنيا غلابا
وتجد أكثر شعراء العرب يقطعون شوطا طويلا أو قصيرا في موضوعهم، ثم يرتاحون عندما يختمون هذا الشوط بحكمة، ولا تجد لذلك نظيرا في الأدب الإنجليزي - مثلا - مما يدل على شدة تأثر الذوق العربي بالحكم.
وعلى الجملة فهذه الثروة العظيمة من الحكم في الأدب العربي جديرة بالدرس، والغربلة، والاختبار، ولفت الأنظار.
الأمثال في الأدب العربي
أما وقد قلنا كلمة في الحكمة، فلنقل كلمة في الأمثال، وبينهما علاقة وثيقة، ولكن ليس كل مثل حكمة، ولا كل حكمة مثلا؛ فقولهم: «لا سلطان إلا برجال، ولا رجال إلا بمال، ولا مال إلا بعمارة، ولا عمارة إلا بعدل» حكمة لا مثل؛ وقولهم: «هو لا في العير ولا في النفير» مثل لا حكمة؛ وقولهم: «رأى الشيخ خير من مشهد الغلام» مثل وحكمة.
ذلك أنه يلحظ في المثل - عادة - الإيجاز، والمغزى، والطعم اللاذع أو الروح الساخر، والذيوع أو الشعبية، وبعض هذه مما يشترط في الحكمة، وبعضها مما لا يشترط، كالطعم اللاذع، فإنه شرط في المثل لا في الحكمة، وهو العنصر الفكاهي فيه الذي ينقد الحياة ويسخر من جانب من جوانبها، وهو الذي يجعل للمثل قوة التأثير وسهولة التعلق بالذاكرة، ويمهد له سبيل الذيوع، وشرط الشعبية لا بد منه في المثل لا الحكمة، فلا بد أن يدمغ بدمغة الشعبية ليكون مثلا.
ثم إن صحة المعنى ومطابقته للحقيقة يلحظ في الحكمة أكثر مما يلحظ في المثل، فالمثل قد يدل على وجهة نظر قائليه، أكثر مما يدل على صحة معناه، ولذلك تجد المعنى الواحد قد عبر عنه بمثلين متناقضين، مثل: «اصرف ما في الجيب يأتك ما في الغيب»، و«القرش الأبيض ينفعك في اليوم الأسود» وهكذا.
والأمثال أكثر تأثيرا في الشعب من الحكمة؛ لأن الأمثال نبعت منه، ووعيت في ذاكرته، واحتضنها في قلبه، وكثيرا ما تصرفه في سلوكه، سواء في ذلك الخاصة والعامة؛ فالخاصة كثيرا ما تسمعهم يقولون: «في المثل كذا»، والعامة يقولون: «على رأي المثل كذا»؛ تبريرا لسلوكهم، أو برهانا على صحة كلامهم، أما الحكمة - إذا لم تكن مثلا - فأثرها والاستشهاد بها من شأن الخاصة وحدهم. •••
وإذ كانت الأمثال نتاج الشعب كله، وملك يديه جميعه، كان من الطبيعي أن يختلف مصدرها؛ فأحيانا ينبع المثل من الطبقة الجاهلة غير المثقفة، وأحيانا ينبع من الطبقة الراقية المثقفة، شأنها في ذلك شأن جميع أنواع الأدب الشعبي، كالأزجال، والمواويل، والأغاني، والقصص الشعبي، ولذلك تجدها أحيانا وضيعة المعنى، وضيعة الأسلوب؛ مثل: «إذا دخلت على ناس يعبدون العجل حش وادي له» وأحيانا تكون رفيعة المعنى عالية الأسلوب مثل «نفاق المرء من ذله»، «حسبه صيدا فكان قيدا» ... إلخ.
ونبع المثل من الشعب أضفى عليه حلة جميلة؛ وهي اختفاء القائل وظهور المقول، كأنه الجندي المجهول،؛ فتراك تقول: قال فلان؛ وتنسب إليه شعرا، وقال فلان؛ وتنسب إليه حكمة، ولكن قل أن تقول: قال فلان؛ وتنسب إليه مثلا، كأن الشعب يريد أن يحتفظ في المثل بملكيته العامة.
وأحيانا ينبع المثل إثر حادث تاريخي؛ كأمثال العرب التي قيلت يوم «داحس والغبراء»، والأمثال التي نسبت لقصير بن سعد اللخمي مع جذيمة والزباء؛ مثل: «خطب يسير في خطب كبير»، وقول جذيمة: «دعوا دما ضيعه أهله» ... إلخ، وكثير من الأحداث الإسلامية التاريخية كانت مثار أمثال، وأحيانا ينبع المثل إثر حادث جزئي؛ مثل قولهم: «ارقب البيت من راقبه» قيل بمناسبة أن رجلا خلف عبده في بيته يحرسه، فرجع وقد ذهب العبد بجميع أمتعته، وأحيانا يكون أصل المثل لغزا أو رمزا لشيء، ثم نسي الأصل وبقي المثل، أو رمزا لقصة أو نحو ذلك. •••
وصياغة المثل كثيرا ما تحلى ببعض أنواع المحسنات، فأحيانا تكون حليته السجع مثل: «يستف التراب، ولا يخضع لأحد على باب»، «موت في عز، أصلح من حياة في حجز»، وأحيانا يتخذ شكل الحوار القصير مثل: «قيل للشحم: أين تذهب؟ قال: أقوم المعوج»، «قيل للشقي: هلم إلى السعادة، قال: حسبي ما أنا فيه»، وأحيانا جماله في فكاهته مثل: «ثقيل واسمه صخر بن جبل»، «رأوا شيخا يتهجى قالوا: يختم على الصراط»، «طفيلي ويجلس في الصدر» وأحيانا في وزنه الشعري مثل: «كالكبش يحمل شفرة وزنادا»، «ما الحب إلا للحبيب الأول» إلخ ... إلخ ... وهذا كله يحتاج إلى درس مستقل. •••
وتلحظ في الأمثال ما لحظنا في الحكمة من أنها في الشرق أغزر منها في الغرب، وأن العرب من أكثر أمم الشرق أمثالا، وأنها ظلت نحو ألف وخمسمائة عام تزيد في ثروتها المثلية، وكتاب ككتاب مجمع الأمثال للميداني على وفرته وغزارته وعظيم قدره، لا يمثل إلا جزءا قليلا من أمثال العرب؛ فقد كانت اللغة العربية لغة أمم مختلفة ؛ من فرس، وهند، ومصريين، وسوريين، وعرب خلص، ولكل من هذه الأمم أمثال طبعت بطابعها، ونشأت في حالات اجتماعية مختلفة؛ من ذل، وعز، وكبرياء، وخضوع، واستبداد، واستعباد، وغنى، وفقر، وكانت هذه الشعوب تنفس عن نفسها بأمثالها، وقد صيغت الأمثال العربية أحيانا باللغة الفصحى، ورويت كذلك في مثل كتاب الميداني، وأحيانا رويت باللغة العامية؛ كما في الفصل الذي عقده الأبشيهي في كتابه (المستطرف في كل فن مستظرف)؛ فقد نقل فيه صورة طريفة من الأمثال التي تجري على ألسنة الناس في عصره وفي بيئته، بجانب ما رواه من الأمثال باللغة الفصحى. •••
وأهمية الأمثال تأتي من ناحية أنه لو عرفت أمثال كل أمة في عصر من العصور؛ أمكن الاستدلال بها على كثير من شئونها الاجتماعية، والدينية، والاقتصادية، والسياسية، والخلقية، فهناك أمثال تمثل حياة البدو، وأمثال تمثل حياة الحضر، وهناك أمثال تمثل حياة أمة في حالة العز والمجد، وأخرى في حالة التعفن، وهكذا.
كما يمكن درس الأمثال من حيث تأثيرها في سلوك الشعب ، واستجابته لها، وخضوعه لتعاليمها، فالأمم الإسلامية تأثرت تأثرا كبيرا بأمثال القرآن؛ مثل:
لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ،
وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم ، و
كل نفس بما كسبت رهينة ،
ما على المحسنين من سبيل ... إلخ، وبالأمثال الواردة في الحديث مثل: «اليد العليا خير من اليد السفلى»، «يد الله مع الجماعة» ... إلخ، وبالأمثال الدائرة على الألسنة من أمثال العرب أو المولدين أو العامة، وكانت كلها دروسا أخلاقية تلقن للشعوب في جميع الأجيال، ثم هي موضع خصب لدراسة أدبية من ناحية أسلوبها، وفنها، وطابعها، وخصائصها التي تمتاز بها عن موضوعات الأدب الأخرى.
وقد يكون مما يستحق النظر أني ألحظ قلة أثر الأمثال ودورانها على الألسنة، والاستشهاد بها في السلوك عما كانت عليه منذ جيل؛ فقد كنت أسمع جدتي ووالدتي وأهل حارتي يكثرون من استعمال الأمثال والاستشهاد بها، فقل ذلك في عصرنا الحاضر، وهي على ألسنة المثقفين اليوم أقل منها على ألسنة العامة، فهل هذا أثر من طغيان المدنية الحديثة التي لا تقوم الأمثال كثيرا؛ وقد نحا أدباء العربية منحى أدباء الغرب وتذوقوا بذوقهم، فقللوا مثلهم من الاعتماد على أمثالهم، وحذا المثقفون حذوهم، أم أن الاعتماد على الأمثال وكثرة اقتباسها ضرب من ضروب البدع (المودة) نستخدمها في حال، ونهجرها في حال، وكل يوم هي في شأن؟!
كل هذا وأمثاله مجال للنظر العميق والدرس الدقيق.
ويكفيني الآن أن أوجه النظر وأثير التفكير.
سؤال وجواب
كتب إلي شاب سوري يقول:
نحن الشباب المتعلم تغمرنا موجة من الحيرة والاضطراب والقلق، ننظر في كل ناحية من نواحي الحياة فينقبض صدرنا ولا ينطلق لساننا، سواء في ذلك حالتنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتعليمية؛ وما يزيدنا أسفا شعورنا بركود الأحوال، والخوف من سوء المآل، وقلة الرجال؛ ثم ننظر إلى أنفسنا فنجدنا مملوئين غيرة وحماسة وحبا للإصلاح، ولكنا لا ندري ماذا نعمل وكيف نعمل، فتخمد غيرتنا وتفتر حماستنا ويستولي علينا ما يشبه اليأس، ثم سرعان ما يجري الدم حارا في عروقنا؛ فننفض هذا الشعور اليائس البغيض ونستعد للعمل، ثم لا نجد ما نعمل، وهكذا أصبحت حياتنا ذبذبة بين اليأس، والرغبة في الإصلاح، وهي حال تستوجب الكرب، وتحرج الصدر، فهل عندكم من علاج؟!
الحق أن سؤالك حير الكهول والشيوخ كما حيركم - أيها الشباب - وليس الأمر مقصورا على قطركم، ففي كل حارة مأتم، وفي كل شارع جنازة، والمصائب موزعة، والكوارث مقسمة، والشرق كله في أزمة، أزمة اقتصاد، وأزمة أخلاق، وأزمة رجال؛ وقد دلت الحوادث على أن قادتنا أقصر باعا وأضعف قوة، وأنهم يهزلون في الجد، ويلعبون يوم الروع، وقصاراهم أن يلفوا حول العقد ولا يحلوها، ويدعوها للزمن يحلها، والزمن يزيدها تعقدا، وينتهزوا الفرص لجر المغانم لأنفسهم وأهليهم؛ ولو على حساب أمتهم، ثم لو كانوا منتحين ناحية من العالم وحدهم، لهم خيرهم وعليهم شرهم لهان الأمر، ولكن العالم حولهم متربص بهم، يفتح عينه كالصقر، فإذا رأى غفلتهم افترسهم، وإن أحس نومهم دارسهم وسار إلى الأمام على جثثهم؛ وما ظنك بقوم يتنازعون على التاريخ ولا يهمهم إصلاح الحاضر، أو يترامون بالتهم ولا يجتهدون في إزالة الأحقاد، أو يتركون النار تشتعل في البيت ويتخاصمون على ترقية فلان وتعيين فلان، أو يفرون من مواجهة الصعاب إلى مجادلات أفلاطونية، أو نحو ذلك من سفاسف الأمور؟! لئن ضاق صدرك - يا بني - لقد بكيت، وإن ألمت مما ترى فقد جزعت، ولكن لا بد أن أمسح الدموع وأتفاءل بكم، وأطرد الجزع وآمل في شبابكم، فحيرتكم علامة الحياة، وقلقكم دليل الغيرة، واضطرابكم آية الحب لبلادكم، وقوة الشعور بالألم بشير نهضتكم.
ربما كان سبب قلقكم وحيرتكم أنكم تريدون الإصلاح كاملا لا ناقصا، وغدا لا بعد غد، وهذا ما تدعو إليه حماسة الشباب، ولكن تأباه طبيعة الأشياء.
مشكلة كثير من الشباب الصالح أنه ينطوي على نيات حسنة، ولكنه لا يحدد غرضه ولا يرسم الطريق إليه، ثم هو يستصغر نفسه وقوته إزاء العيوب الثقيلة التي يريد إزالتها، وإحلال النظام الصالح محلها؛ يضاف إلى ذلك أنه لم يرزق من القادة من يحدد له الغرض ويرسم له الطريق المستقيم، بل هو قد يصاب أحيانا بقادة يضلونه ويغوونه، ويستغلون سذاجته، وطهارة قلبه؛ لخدمة شهواتهم، لا مصالح أمتهم.
إن الإصلاح - أيها الشباب - عسير؛ لأنه يحتاج إلى تغيير الروح السائدة في الأمة، والتي توجه الإدارة والسياسة والاقتصاد والتعليم، وهذه الروح متأصلة في الأعماق، متوارثة من عهد طويل، وتغيير الأرواح أصعب من تغيير الأشكال، ولكن يجب ألا تيأسوا، ويجب أن تعتقدوا أن في إمكانكم الإصلاح وإن لم يكن شاملا كاملا سريعا؛ فمتى بدأتم في جيلكم؛ فسيسير خلفكم على منهجكم فيكملون الناقص، ويعدلون المعوج، ويغيرون من الروح، والتاريخ يدلنا على أن كثيرا من أنواع الإصلاح في العالم كان فكرة نبتت في رأس فرد أو قليل من الناس، ثم كان من قوة الإيمان بها أن سادت الأمة، بل سادت العالم، هكذا كانت فكرة التسامح الديني، والديمقراطية، والعدالة الاجتماعية، وحرية المرأة وتعليمها، وحقوق الإنسان، وكثير من مثل هذه الأفكار نادى بها أفراد قليلون، ثم اضطهدوا واضطهدت أفكارهم، ثم نجحت الفكرة وكادت تعم العالم.
إن الروح السائدة على المفكرين في الشرق اليوم هي روح النقد والهدم والشكوى من الحاضر، وقد يكون هذا حسنا وجميلا، ولكن يجب أن يكون بجانبها روح الإنشاء والتعمير والبناء، وأن نتعلم دائما أن نسائل أنفسنا ونقول: إذا نقدنا نظاما؛ فما الذي نريد أن يكون بدل هذا المعيب المنقود؟ فإن هذا يحدد الغرض، ويسرع إلى الإصلاح، كلنا ينقد الحكومات في طريق سيرها، والمصالح في بطء أعمالها، والعدالة في نقصها، والمال في تبذيره في غير محله، والتقتير به في محله، والمحسوبية وفشوها، والإذاعة وسوء برامجها ونحو ذلك، ولكن كم منا وقف طويلا أو قليلا وتساءل: كيف يصلح هذا العيب؟ وما الجديد الصالح الذي يحل محل القديم البالي؟ وكيف العمل للوصول إلى هذه الغاية التي حددت؟
أؤكد لك - أيها الشاب السائل - أن هذه الروح لو سادت فيك وفي إخوانك وحددت خطة البناء كما حددت خطة الهدم، وبذل الجهد في عمل ما آمنتم به، لتغير وجه الأمة في كثير من الأمور؛ ولكن وجه النقص أنكم تألمون ألما عاما مائعا غير محدود ولا مدروس ، ولذلك يسرع إليه التبخر والفناء؛ فكم رأينا من شباب نقموا على الحاضر كما تنقم، وتمنوا الإصلاح كما تتمنى، فلما أفسح لهم الطريق، وشغلوا مراكز حكومية أو غير حكومية؛ تمكنهم مما كانوا يدعون من إصلاح، لم يأتوا بأي إصلاح، وجرفهم التيار السيئ، بل وفيهم من كانوا أسوأ من سلفهم، وشرا على الأمة ممن كانوا هم ينقدونهم.
إن نقد الحكومة والمصالح والهيئات ونحو ذلك، إذا كان صادرا عن مجرد الغرائز بالحب أو الكره، والميل أو النفور، والاستحسان أو الاستهجان، كان أليق بالحيوانات المتوحشة أو الإنسان البدائي؛ أما الإنسان المتمدن فيبني حبه وكرهه وميله ونفوره ونقده وتقريظه على الحجج المنطقية، والعلل العقلية، والبحوث العلمية، وهذا يسلمه إلى أن يبني إذا هدم، ويحيي إذا أعدم؛ فالشاب المثقف يجب أن ينقد نقدا علميا، ويؤسس حياته، ويوجه نفسه، حسبما درس ونقد؛ وإذ ذاك لا يسمح لنفسه أن يشتغل صحافيا في جريدة لا يوافق على خطتها، أو ينتسب إلى حزب سياسي لا يرضى عن مبادئه، أو يقبل وظيفة، ثم يعمل ما عابه على أسلافه من تأخير في مصالح الناس أو قبول المحسوبية، أو يكون آلة في يد الرؤساء يسخرونه لقضاء مآربهم ولو خالفت العدالة والقوانين.
إن الشاب الصالح يرفض كل ذلك في إباء، ولو أدى إلى حرمانه من مرتب كبير، أو ترقية سريعة؛ فإن فعلت أنت وأمثالك ذلك أصلحتم من الأمة قدرا لا يستهان به، وكونتم نواة لرأي عام صالح يجرف المفسدين والضالين.
قديما قالوا: إن الصبر عند الصدمة الأولى، فمتى انحنى الشاب في مستقبل حياته للتقاليد القديمة التي يمقتها، ومنى نفسه بالصلاح بعد الفساد، والاستقامة بعد الخنوع؛ فقد انهار كيانه وتقوض بنيانه، وخير لمن أراد أن يكف عن التدخين أو الخمر أن يكف بتاتا من أن يتذبذب بين الشرب والإقلاع، وخير لمن أصيب بحب خائب أن يقطع حبله من أن يؤسس حياته على أوهام.
إن للشرق - أيها الشاب - فلسفة للحياة يجب أن تتغير، عمادها نظرة الأقوياء إلى أنفسهم دون الضعفاء حولهم، وانتهاز الفرص للإكثار من دخلهم والاستمتاع به، ولو من غير أداء واجب، ورضا الضعفاء عن حالهم من غير سعي في تحسينه، أو جد في تقويمه؛ ولا بد من تعديل هذه الفلسفة إلى فلسفة أخرى، عمادها أن الضعيف إنسان كالقوي له حقوقه، والعدالة حق مشترك لكل مواطن، وضرورات الحياة يجب أن تتوافر للجميع، والحكومات خادمة للشعب لا مسيطرة عليه، وإنما الذي يسيطر على الحكومة والشعب العدل والقانون.
قد كان مبلغنا - نحن الشيوخ - نحو هذه الفلسفة الجديدة أن نتصورها، فليكن مبلغ الشباب مثلك أن يحققها، والسلام.
المراهقة1
أصل رهق في اللغة بمعنى دنا وأزف، يقال: رهق مجيء فلان، إذا دنا وأزف، ويقال: صلى العصر مراهقا، أي مدانيا للفوات، فاستعملوا كلمة المراهق لمن دنا بلوغه، ولما لحظوا أن سن المراهقة طيش وخفة، قالوا: رهق الرجل إذا سفه وخف.
وهي بهذا الوضع ليست مساوية تماما لكلمة
adult
الإنجليزية؛ لأنهم يطلقونها على ما قبل البلوغ إلى سن النضج، فهي في اللغة الإنجليزية أطول منها زمنا.
ولا بد لنا من دراسة الأمور الآتية حين نريد أن نقرر القيمة الاجتماعية لجيل من ذوي الأسنان المتحدة: (1)
دراسة علمية للتطور البدني والعقلي. (2)
موقع أهل السن الواحدة من القوانين المنظمة للعلاقات الاجتماعية، والواجبات، والامتيازات. (3)
مدى اشتراكهم في نواحي النشاط الاجتماعي والاقتصادي. (4)
الأفكار الدينية والأخلاقية الناتجة عن سلوكهم وقيمتهم الاجتماعية.
على هذه الطريقة درست فترة الطفولة، فعرف مثلا أن التقدم البدني والعقلي في السنين الثلاث الأولى أكبر منه في سن السادسة إلى التاسعة أو من البلوغ إلى سن الحادية والعشرين، وكان لدراسة الطفولة دراسة علمية أعمق الأثر في نظامنا الاجتماعي الحديث.
أما المراهق فتعيين موقعه وتأثيره أصعب، فهو قادر بدنيا وعقليا، حين يكون مراهقا طبيعيا لا شذوذ فيه، على أن يقوم بما يقوم به الكبير، كما يفعل ذلك في الأمم البدائية على وجه الخصوص، فهو يستطيع أن يكسب عيشه، وينتج نسلا، ويقاتل، ويشارك في النشاط الاجتماعي والديني، غير أنه يظهر فجا فيما يتعلق بالنواحي الاجتماعية الدقيقة، وهو يبدو كبيرا، وإن كان في حقيقته غير ذلك، وقد حرمته الشعوب - بدائية أو متحضرة - الاشتراك السياسي التام، وأعفته من كثير من المسئوليات الاجتماعية والقانونية، وهذا التصرف القائم على العرف ليس له ما يبرره من وجهة علمية.
وقد مرت دراسة المراهقة في أربعة أطوار: (1)
الاتجاه نحو النمو البدني، وهو الاتجاه الفيزيولوجي. (2)
اتجاه علماء النفس لدراسة الخلافات الفردية، والتطور المستمر. (3)
تحليل ما اكتشف في الخطوتين السابقتين، وقيام نظرية أن دور المراهقة هو «دور العاصفة والكبت». (4)
التعريف بمشاكل المراهق من وجهة النظر الاجتماعية.
وقد وجدت طلائع الباحثين في الميدان الفيزيولوجي منذ 1835 ونشطت الدراسات الفيزيولوجية بعد ذلك في كثير من الأقطار، وقد درس ب. ت بلدوين 5385400 حالة، وخرج بعدة استنتاجات قيمة، فوجد أن هناك تذبذبا في النمو والطول والوزن قبل البلوغ، ووجد بطئا في النمو في نهاية الفترة السابقة للدراسة، وتصاعدا فيه حوالي السابعة عند البنات والثامنة عند الأولاد، وانخفاضا ملحوظا في الزيادة المئوية للنمو في التاسعة عند البنات والحادية عشرة عند الأولاد، ويتبع ذلك طفرة من النمو تبلغ أشدها في الخامسة عشرة عند الأولاد، وفي -13 عند البنات، ووجد أن أول حيضة عند البنت الأمريكية الطبيعية تتراوح بين العاشرة والسابعة عشرة.
وهناك إسراع في الطول والوزن والقدرة على التنفس في فترة المراهقة، وتغير عميق كذلك في النظام البدني؛ فالنمو عند البلوغ يترك أثرا في كل جزء من الجسم - قل أو كثر - ولكن بنسب مختلفة، فبينا تكبر العضلات والقلب، يكاد الدماغ لا يتأثر أبدا، وإذا بكر البلوغ صحبه توقف سريع في نمو القامة، ولكن يظل فعل النضج ساريا في النواحي الأخرى.
وفي سنة 1915 قامت هلن تومسن وولي بدارسة 5483 مراهقا بين الرابعة عشرة والثامنة عشرة مقسمين إلى فئتين في العمل والمدرسة، وأجريت لهم اختبارات بدنية وعقلية سنويا لمدة خمس سنوات، وحصرت الدراسة على البيض الوطنيين في سنسناتي وأهابو، وأخذت لأول مرة في التاريخ قيود للمنزلة البدنية والعقلية عند نماذج من المراهقين من عام لعام، وسجلت تواريخ حياتهم المدرسية أو الصناعية، وأحوالهم البيتية وتواريخهم الاجتماعية إن كان ذلك مستطاعا.
واحتوت اختبارات سنسناتي على قياسات للطول والوزن والطاقة والقوة اليدوية والثبات والسرعة والانسجام بين اليد والعين، واختبارات للذكاء شملت الذاكرة والإدراك والتمييز والتفكير ... ودلت المقارنة بين طلاب المعمل وطلاب المدرسة أن الفريق الثاني أعلى من الأول في المقاييس البدنية والعقلية من 14-18. وهناك ما يشير إلى أن النمو العقلي يستمر عند أبناء المدارس عمرا أطول منه عند الأطفال العاملين، ومع ذلك فنتائج هذه الدراسات ليست حاسمة ولا تزال نسبة النمو متوقفة على عوامل من الجنس والعمر والتنشئة البيتية ...
وفي ميدان الكفايات البدنية تتم البنات دورة النمو السريع في الخامسة عشرة أو السادسة عشرة، ولا يكسبن إلا قليلا بعد السابعة عشرة، وبذلك يسبقن الأولاد بسنة أو اثنتين، أما في النمو العقلي فليس هناك مثل هذا الاختلاف القائم على الاختلاف الجنسي؛ فالأولاد والبنات متوازون في كسبهم السنوي، كما يدل على ذلك ما لدينا من اختبارات، وليس لدينا في الحاضر ما يحدد السنة التي يتم عندها التطور العقلي، ولكن هناك ميلا لاعتبار 14 و15 هي السن لتوقف النمو العقلي عند الجنسين، والممتازون من الأطفال يستمر نموهم هذا أكثر من البلداء.
وقد كانت الدراسة النفسية نافعة جدا في أمور التعليم، ولكنها تلقي ضوءا خفيفا على مشكلة المراهق في الهيئة الاجتماعية.
وقد وصف الكتاب الأقدمون فترة المراهقة بأن نسبة الوفيات تقل فيها، وأن الشواذ في النمو تقل عند البلوغ، وأن الأمراض المعدية نادرة، وأضافوا إلى ذلك وصفهم لهذه الفترة بأنها تتميز بالطيش وسوء الترتيب، وأوحت المظاهر الروائية للبلوغ بالقول: إن البلوغ ميلاد جديد تظهر فيه العلامات الإنسانية الكبرى، وأوحى عدم التناسب في نمو العظام والعضلات وغيرها من غدد وأعضاء بأن هناك عدم انسجام في الناحيتين العاطفية والعقلية وأن ذلك يحتوي على أخطار، واعتبر المراهق «عائدا على بدئه»
nes-atavistic [وفي البيولوجيا
ativiam
هي عود الخلف إلى ما كان عليه السلف من تركيب بنية] أو «نازعا به عرقه»، وأنه عرضة «للعاصفة والكبت» اللذين ينازعان موروثه من أجداده في التحكم والسيادة.
وقد نشر ستانلي هول هو وتلامذته كثيرا من المسائل حول المراهق وشئونه، كالخيال، وأحلام النهار، والتروض، وحب الحياة، والاتجاه الديني، وبعض الكفايات الأخرى، ودرست تراجم الرجال العظام والنساء، ولوحظت خصائص فترة الشباب عندهم، ومن هذه الدراسات وضع هول عشر خصائص للبلوغ؛ هي: (1)
الانشغال الداخلي والاستغراق في التفكير، وهو ما عبر عنه بالرقابة المزدوجة على الشعور. (2)
تولد الخيال وكثرة الرؤى والأحلام والأوهام. (3)
انتقاء النفس والشكوك والريب. (4)
المغالاة في الفردية. (5)
التقليد في أشد حالاته. (6)
تمثيل دور روائي، والتشبث بعادة ما. (7)
الحماقة، والتفاهات، والاستسلام للنزوات. (8)
وجدان كلامي جديد. (9)
الانهماك في الصداقة. (10)
تعطيل التوجه نحو الزمان والمكان، وتشكل فكري وعاطفي عظيم.
وبالإجمال يجب أن نعتبر فترة المراهقة مميزة بفك الروابط القائمة بين العوامل القوية للذات؛ جسميا ونفسيا، وهكذا نجدهم جعلوا مظاهر المراهقة شبيهة بالأعراض الهستيرية، وذهبوا إلى أن المتعصبين من المتدينين ليسوا إلا مراهقين؛ تضخمت عندهم المميزات والخصائص التي تكون طبيعية في غيرهم.
وقد اتجهت الدراسة الحديثة نحو المظهر الاجتماعي للمراهقة، وقد دلت الدراسات على أن في طور الطفولة وما بعده بقليل يحدث عدم الانسجام
malad Justment . وحين يكون المراهق شاذا غير طبيعي فمرد ذلك إلى الحالة الاجتماعية، ويقول و. توماس: إنه إذا تطورت بذور الاجتماع ببطء أكثر من الحيويات الفردية والابتكارات؛ فنتيجة ذلك مرحلة من الفوضى تظهر في الأفراد كما تظهر في المجتمع، وحين لا تظل العادات القديمة ملائمة، تتحطم وتنشأ عادات جديدة، ولكن لا بد قبلها من فترة يظهر فيها عدم الاستقرار، والشاب في القرن العشرين، في صراع دائم مع القيم الأخلاقية في البيت، والمدرسة، والكنيسة، والمجتمع، أضف إلى ذلك الفوضى في مسائل اللباس والعادات ونواحي النشاط التي ينتحلها الكبار؛ حتى إن الشباب لم يعودوا يعرفون لهم أهدافا واضحة من النضج؛ لينسجوا على منوالها، واليوم قد زادت العناية بالأطفال وصغار الطلاب في المدارس أكثر من قبل؛ بالاعتماد على المناهج العلمية المتبعة في التغذية والنوم والتمرين، أما المراهق فهو معرض للاعتماد المبكر على نفسه.
ومع ذلك فالعقبات التي قلنا: إنها مسببة عن خصائص إنسانية أساسية ليس لها وجود عند جماعة كأهالي ساموا، إن المدنية قد فرضت قيودا من جهة، وزادت في التنبه من جهة أخرى، وليس هناك من دليل على أن المكافحات والعقبات أمام المراهق ضربة لازب، إن سلوك المراهقين في المجتمع الحديث وأعراض القلق وعدم الانسجام ليست براهين على أنها خصائص عادية في جيل من ذوي السن الواحدة.
وكثيرا ما أولت الشعوب الساذجة لمظاهر البلوغ في البنت والولد اهتماما واضحا بمزاولتها بعض أنواع البتر العضوي (الختان ...) وفرض الصيام وإقامة الأعياد؛ وذلك ليدلوا على أن هذه الفترة مرحلة مهمة من مراحل الحياة، وبعض هذه الطقوس موجود في أفريقيا وآسيا وأندونسيا وأستراليا وأمريكا الشمالية والجنوبية؛ وهناك إلى جانب هؤلاء أقوام بدائية أخرى لا تعير البلوغ اهتماما، ويعلل ذلك بعض الدارسين بأن الهيئة الاجتماعية الساذجة تشغل المراهق بمشاريع وأهداف مختلفة، فلا تترك له فرصة للتعبير عن نفسه، ولكن العالم الأنتروبولوجي يشك في صحة هذه الدعوى، والذي يتغلغل في بيئة ساذجة ويعرف لغتها ويتغلغل في حياة الناس فيها وشعورهم؛ يجد تلك البيئة تقدر تماما المراهقة وتهتم بالتكون الفردي للمراهق، كما تحسب حساب ميله إلى الاستقلال والحرية.
أما القيمة الاجتماعية الجديدة فتظهر في نواح مختلفة في تغيير المسكن، وفي الدخول في هيئات الشباب، وفي اختبارات المهارة الشخصية ومدى الاحتمال، والنظر باهتمام إلى أحلام المراهق ورؤاه، والانفصال من العائلة، والانعزال في غابة أو صحراء، والتحرر من قيود الطفولة، واستعمال الزينة.
وقد دلت الدراسات العصبية الحديثة على أن النضج عملية دقيقة تمتد إلى فترة طويلة بعد استكمال الحجم والوزن، وقد فهم رجال القانون هذه الحقيقة فترددوا في إعطاء الشبان أمر إدارة الأمور الكبيرة حتى يبلغوا سن الحادية والعشرين، ومع ذلك فإننا نرى بعض التشريع يحمل ابن الرابعة عشرة أو السادسة عشرة، يحمله مسئولية في الأمور الجنائية، ولا تزال البراهين القاطعة غير موجودة، ولكن تتفق كل الدراسات على أن كمال النظام العصبي لا يتم حتى منتصف العقد الثالث (سن 25).
وليس ينتظر ما يسمى في العادة حكمة وتعقلا من المراهق الطبيعي في العقد الثاني (12-19).
وقد مدت الشعوب المتمدنة في أوربة وأمريكا فترة التعليم الإجباري إلى 16-18، وأخذت الدولة على عاتقها أمر الإرشاد الدراسي والمحصني للمراهقين، وقد أخذت الشاب يستمتع بالتحسن في مناهج الاجتماع، ويهتم بالسلم والحرب والمساواة الاقتصادية والديموقراطية.
نعم؛ إن الموقف الاجتماعي معقد، ولكن الشباب يظل هو الشباب، فترة من الحياة يكون فيها النشاط البدني والعقلي على أشده، ويصبح دور الكبير متمثلا أمام عيني الشاب، ولكنه لا يستطيع الاشتراك التام في النواحي الاجتماعية؛ لعدم نضجه في نواح بيولوجية، وما دامت الحال الاجتماعية في أيامنا مرضية نوعا؛ فسيظل الشباب في صراع مع المعايير الاجتماعية السائدة.
الاتجاهات الحديثة لدراسة اللغة (2)
الاتجاه النفسي والمنطقي والفلسفي
وتخصصت طائفة أخرى من علماء الغرب لدراسة اللغة دراسة فلسفية من حيث علاقتها بالنفس، ومن حيث علاقتها بالمنطق وغير ذلك؛ فقد رأوا - مثلا - أن دراسة الكلمة ليست كدراسة أي شيء مادي كالعصا والكرسي والقلم والدواة، فهذه الأشياء ونحوها لا يحتاج في دراستها إلا لتحليل الشيء المادي نفسه، ومعرفة عناصره، وما يجري على الشيء الواحد يجري على أمثاله، أما الكلمة أو اللفظة فلها روح، لها معنى، فإذا قلت: محمد يقرأ، فلا بد لفهمها من ثلاثة أشياء: عقل القائل، وعقل السامع، والفكرة التي انتقلت من عقل القائل إلى السامع، وكذلك لا بد من لفظة هي التي نطق بها القائل وسمعها السامع، ومن ناحية ثالثة لا بد من الحقائق نفسها وهي حقيقة محمد وحقيقة القراءة والعلاقة بين محمد والقراءة، وبالإجمال لا بد من ثلاثة أنواع: الفكرة، واللفظة، والشيء ذاته المتحدث عنه، وعلى هذه الفكرة الأساسية البسيطة قاموا بأبحاث قيمة عميقة - هل كانت اللغة حادثا فجائيا عارضا في تاريخ الإنسان، أو نشأت عن قصد وتعمد؟ هل يمكن التفكير من غير ألفاظ؟ هل يمكن أن تكون لغة من غير ألفاظ؟ ما العلاقة بين اللفظ والمعنى؟ ما معنى المعنى؟ ما الذي يجعل لغة أرقى من لغة؟
إن اللغات القديمة كاللاتينية واليونانية تركيبية أكثر منها تحليلية، واللغات الحديثة تحليلية أكثر منها تركيبية، فهل الانتقال من التركيبية إلى التحليلية رقي أو تدهور؟ هل يمكن وضع لغة عالمية أولا؟ وإذا أمكن فهل هو في صالح الجنس البشري أولا؟ وهكذا من أبحاث لا عداد لها، وبعضها بل أكثرها لم يجد الإجابة الحاسمة عنه، وإني أدخل في باب عريض لو عرضت لحضراتكم ملخصا للنظريات التي أثيرت حول كل موضوع.
واتجهت طائفة أخرى إلى العلاقة بين اللغة والمنطق؛ فاللغة ليست وظيفتها - فقط - نقل المعنى من ذهن إلى ذهن، ولكن لها وظيفتان أساسيتان: فهي إما إخبارية تنقل المعنى من ذهن إلى ذهن؛ ككلامنا العادي، وكصحيفة الحوادث الداخلية والخارجية في الجرائد، وكتب العلوم؛ في الرياضة والطبيعة والفلك وما إلى ذلك، وإما «ديناميكية» قوة محركة للعواطف، والناحية الأولى فعلية، والناحية الثانية شعورية للإخبار عن العواطف أو تهييجها، فإذا قلت: إن الإنسان حيوان ناطق، فهو من الضرب الأول، وإذا قلت: إنه حشرة، أو قلت: إن النساء ملائكة أو شياطين، فهو من الضرب الثاني.
وكان هذا أساسا لبحوث كثيرة واسعة للتفريق بين القضايا الإخبارية والقضايا الديناميكية أو العاطفية وما تؤديه كل منها، وهل قضايا الأخلاق من النوع الأول والثاني، وبيان أن لغة الشعر من الضرب الثاني، وما يتطلب ذلك من ألفاظ خاصة وأسلوب خاص، وبيان الخطأ في استعمال اللغة الإخبارية محل العاطفية والعكس، كما أداهم هذا إلى البحث الواسع في معاني الألفاظ على هذا الأساس، وأثر القضايا المختلفة على العقل وعلى المشاعر، وكيفية بناء اللغة وتركيبها، وكيفية بناء الحقائق وتركيبها، وكيف يتلاقى بناء اللغة مع بناء الحقائق، ولماذا تتبع اللغة قواعد خاصة في بنائها دون غيرها، وهل لذلك سبب نفسي؟ ... إلخ.
وناحية أخرى توجه إليها بعض الباحثين؛ وهي أن أهم بحث في الفلسفة نظرية المعرفة، أي كيف نعرف الحقائق، ولهذا اتصال وثيق باللغة، فما لم يعبر عن الحقيقة لا يمكن أن يقال: إنها حق أو باطل، وقد ذهب بعض الفلاسفة المعاصرين إلى أن أكثر مشاكلنا الاقتصادية والسياسية والاجتماعية يرجع إلى استبداد الألفاظ بنا، وتحجرها، وضياع الحقائق وراءها، وفلسفة اللغة كفيلة بإظهار هذا؛ ثم بحثت هذه الطائفة أيضا في الرمزية، وفي نظرية أن كل لغة ليست إلا رمزا للحقائق والأشياء والمعاني، وإن كانت تختلف الموضوعات في مقدار الرمزية فيها، فلغة الشعر ولغة الدين ولغة ما وراء الطبيعة أكثر رمزا، وبحثوا - خاصة - في لغة ما وراء الطبيعة ورمزيتها؛ إذ بدون شرح الرمزية فيما وراء الطبيعة يصبح الكلام فيها ضربا من الخيال، وسبحا في الأوهام، لا يدل على حقائق ثابتة معينة، وهكذا.
الاتجاه الاجتماعي
هناك اتجاه ثالث وهو الاتجاه الاجتماعي، ذلك من حيث إن اللغة نظام اجتماعي؛ كالأسرة، والدين، والحكومة ... إلخ، لها أثر كبير في حياة كل جماعة وكل أمة، فهي واسطة الاتصال بين كل شخصين وكل جماعة، وهي التي تمد الإنسان بالمعلومات والمعارف التي وصلت إليها الأجيال السابقة والحاضرة، وهي التي ترقي الإنسان وتتعهده بالرقي من حين طفولته إلى حين وفاته - ومن عوامل رقي الأمم وانحطاطها لغتها، فأدب كل أمة قويا أو ضعيفا يطبع الناس بطابعه، ولو نزل غريب ببلدة وكان يعرف لغتها واطلع على جرائدها ومجلاتها وكتبها المؤلفة في عصرها الحاضر وأساليب أحاديثها - لاستطاع أن يحكم لها أو عليها حكما صادقا بدرجة رقيها أو انحطاطها؛ فاللغة هي التي تصور رغبات الأمة، وعواطفها ، ودينها، وعقليتها، وشهواتها، وكل شيء فيها، وتنقل ذلك من الفرد إلى المجموع ومن المجموع إلى الفرد، فيتفاعلون كما تتفاعل عناصر الكيمياء، وبدون اللغة (وأعني باللغة كل وسائل التفاهم من إشارة، وإيماء، وكلام) يكون الإنسان بجانب الإنسان كالحجر بجانب الحجر، إنما يربط بينهما اللغة وهي التي توحد بين الجماعة في المشاعر والأفكار؛ ولذلك تجتهد كل أمة حية قوية أن تنشر لغتها في أوسع مدى، ممكن علما منها بأن ذلك من وسائل التفاهم، وسهولة التعامل، وعظم التقدير، وخاصة من الضعيف للقوي.
هذه الناحية التي عرضتها عرضا بسيطا كانت مجالا لطائفة من العلماء بحثوا فيها كثيرا من المسائل اللغوية الاجتماعية بحثا مستفيضا: ما الذور الذي تقوم به اللغة في مجال الرقي العقلي؟ إن اللغة نتيجة طبيعية من نتائج الحياة الإنسانية، فكيف تستمر الحياة في تغذية اللغة من بداوة إلى حضارة، ومن حضارة أولية إلى حضارة راقية حتى تساير الإنسان في نموه ورقيه؟ لقد راقبوا اللغة مراقبة دقيقة في نشوئها ورقيها، وعرفوا كيف نمت بنمو الحياة، وكيف تدرجت من تعبير عن العواطف إلى لغة عمل وأمر ونهي، إلى لغة علم وأدب وهكذا، وسجلوا في ذلك نتائج قيمة في هذا التطور.
واللغة مع أنها من نتاج الحياة وخاضعة لها؛ فيها صفة المحافظة والتخلف والميل إلى الوقوف، لا تندفع مع الحياة وتسايرها إلا بدفعة من أبنائها الأقوياء.
ثم اللغة تختلف معاني كلماتها باختلاف الأفراد والطبقات مهما جهدت المعاجم في تحديد معانيها، وتختلف عند العامة والخاصة؛ فكل لغة ليست لغة واحدة، وإنما هي في الحقيقة لغات، وقد يكون للكلمة معنى عند بعض الجماعات في مستوى عقلي خاص، فإذا انتقلت الكلمة إلى جماعة أرقى عقليا تطور معناها، وبالغ بعضهم فقال: إن لكل إنسان لغته كما له وجهه، وعلماء اللغة ميالون إلى مراعاة وجوه الاتفاق أكثر من مراعاة وجوه الخلاف، ومراعاة التعميم أكثر من مراعاة التخصيص.
إن كل جمعية حية تعمل للانتفاع بلغتها وتسييرها في خدمتها وتبذل جهدا كبيرا لتكميلها من النقص وجعلها صالحة للحياة المتجدة.
وكذلك بحثوا بحثا مستفيضا في علاقة اللغة بالمدنية، أكلما رقيت المدنية رقيت اللغة؟ وأداهم ذلك إلى الوقوف عند المدنية ما معناها، واللغة ما معنى تقدمها، إلى كثير من أمثال ذلك.
فإذا نحن نظرنا إلى اللغة العربية في ضوء ما عرضنا تولانا الجزع من تخلف لغتنا عن مسايرة حياتنا؛ فالمعاجم التي هي سجل للكلمات المستعملة الصحيحة لا تفي بحاجاتنا ولا نصفها، ووقفت عند العصر العباسي، بل إن واضعي المعاجم في تلك العصور أبوا أن يدخلوا فيها كلمات كثيرة وردت في كتب الأدب والعلوم مما كان يستعمله العلماء والأدباء العباسيون، وأغمضوا عيونهم عن الأشياء المادية والمعنوية التي خلقتها الحضارة العباسية، وأبوا أن يعترفوا إلا بالألفاظ البدوية، وما استعمل قبل الاختلاط بالأعاجم، وغفلوا عن أن اللغة تابعة للحياة؛ يجب أن تنمو بنموها، وأن الأمة إذا تقدمت لا يصح أن تكون أسيرة لآبائها قبل أن يتقدموا، وأن ما يملكه البدائي في خلق اللغة، يجب أن يملكه وأكثر منه المتحضر العالم، ولعل ما أداهم إلى هذا الموقف إيمانهم بالنظرية الساذجة، وهي أن اللغة توقيف لا وضع، وأنها خلقت دفعة واحدة وانتهت، وقد كان عمل الأقدمين في قصر ما يأخذون عن القبائل التي لم تختلط بغيرها عملا جليلا من ناحية فهم اللغة العربية في أصلها، وفهم الكتاب، والسنة، والشعر القديم، ولكن قصر مؤلفي المعاجم أنفسهم على هذا خلط بين غرضين: فالغرض الأول معرفة اللغة في أصل استعمالها، والغرض الثاني تسجيل ما يصح بتكلم الناس، وفي الغرض الثاني تكون لغة الحضر أوفى وأنفع في الاستعمال من لغة الوبر، فبحثنا اللغوي الاجتماعي البسيط سيؤدي بنا حتما إلى المناداة بدفع اللغة أن تقفز من العصر العباسي إلى يومنا، وأن تفسح صدرها لحاجاتنا وأن تتطور لتكون في خدمتنا، وأن يقر أهلها بأن رجال لغتها لهم الحق أن يعربوا كلمات، وأن يخلقوا كلمات، وأن يشتقوا كلمات؛ حتى يواجهوا موقفهم الحاضر؛ فلا تتخلف عقليتهم كما تخلفت لغتهم.
كما سيتضح من أول بحث لغوي اجتماعي أن تقدم الأمة تقدما حقيقيا مستحيل، ما لم تتقدم اللغة وتستخدم في مصلحتها، وتملأ كل فراغ موجود الآن؛ من أسماء الماديات والمعنويات، وما ولدته القرون الأخيرة من أفكار ومخترعات، كما سيتضح أن الأمة لا ترقى إذا كانت لغتها لا تصلح إلا لخاصتها دون عامتها؛ فالعصر الذي نعيش فيه ديمقراطي، لكل فرد الحق في أن يتعلم وأن يتثقف، وواجب الحكومات فيه أن تعلمه وتثقفه، ولا يمكن تثقيف الشعوب وتعليمها إلا بمرونة اللغة وتبسيطها، وجعلها صالحة للشيوع والذيوع، وحمل المعاني والأفكار والعلوم حملا قريب المنال. •••
ثم آخرون من اللغويين الاجتماعيين اتجهوا في بحثهم إلى الناحية الاجتماعية الروحية؛ فللكلمات والجمل روح فعالة في النفوس، غير معانيها التي في المعاجم، والفرق بين المعنى المعجمي، والمعنى الروحي؛ كالفرق بين النحوي في نظرته إلى تركيب الجمل وعوامل الرفع والنصب والجر والجزم، وبين الفنان الذي يتذوق جمال الكلمات وجمال الأسلوب، وهذه الناحية الروحية للغة هي التي استخدمها ومهر فيها المتصوفة في أساليبهم، ورجال الدين في وعظهم وإرشادهم وأمرهم ونهيهم وترغيبهم وترهيبهم، ورجال الشعر في خيالهم، ورجال الخطابة في خطابتهم، وكما كان في كل ناحية من النواحي مهرجون ومزيفون، كان مزيفو هذه الناحية المشعوذين بالرقى والتعاويذ وأسماء الجن التي لا معنى لها، وهي - مع ذلك - تؤثر بروحها الضالة في النفوس الضعيفة.
عكف هؤلاء الذين اتجهو هذا الاتجاه الاجتماعي الروحي على البحث في الدور الذي تقوم به اللغة في الأديان، وفي الشعر، وفي العلم، وما للغة من ناحية باطنية تخلقها عواطف الفرد والأمة، وناحية ظاهرية يتفاهمون بها في معاملتهم ومحادثاتهم، وأن هناك صراعا دائما بين الناحيتين، وهذا قادهم إلى البحث في لغة الأمة وأثرها في عواطفها وعقلياتها.
وعلى الجملة فقد كان من مباحثهم - أيضا - اللغة الشفوية في المحادثة، واللغة المكتوبة، والفرق بينهما من حيث التأثير النفسي، واللغة والبيئة الطبيعية والاجتماعية التي نشأت فيها، واللغة والدين، والناحية العملية والناحية الميتافيزيقية للغة، واللغة والشعور القومي، واللغة والشعر ... إلخ.
وإذ كان هذا البحث حديثا فقد وصلوا فيه إلى نظريات لا تزال مجالا للأخذ والرد ولم تستقر بعد. •••
لعل في هذا العرض السينمائي عبرة ، فلغتنا العربية العزيزة علينا، والتي تكوننا ونكونها، والتي يبلغ عدد المتكلمين بها نحو سبعين مليونا، تتطلب من أبنائها البررة مجهودا جبارا في مثل هذه النواحي التي ذكرت.
تتطلب معجما واسعا تستغل فيه كل الدراسات التي عملت في اللغات المختلفة، وخاصة اللغات السامية والفارسية، لمعرفة أصل الكلمة، ومم أخذت، وكيف تطورت على مر الزمان ، معجما لا يقف عند كلمات العرب الأقدمين، ولا كلمات واستعمالات العباسيين، بل نجتذبه حيث وقف على بعد ثمانية قرون، إلى حيث نحن، وحيث نحيا، وحيث نستعمل، وحيث نفكر.
وتتطلب اللغة العربية دراسة نفسية وفلسفية واجتماعية على النحو الذي ذكرت، وتتطلب من رجال التربية أن يقولوا بعد البحث والتجارب كيف نعلم لغتنا على خير وجه، وكيف نتغلب على صعوبتها.
إن اللغة العربية تتطلب منا ذلك، وليس إصلاح اللغة العربية من هذه الجهات ينتج تقويما للقلم واللسان فقط، بل هو - أيضا - إصلاح للأمة في تفكيرها، وفي خلقها، وفي عقليتها، وفي مشاعرها، إن تعليم عدد قليل من الأمة لغات أوربية يقرءون فيها، ويستنيرون بها؛ قليل الأثر في حياة الأمم، إنما الأثر الأكبر للغة القومية التي تكون فكر الشعب بأجمعه، وترفعه أو تضعه، وتحيي عقله وشعوره أو تميته، وليست الأمة تصلح بنقل بعض أفرادها إلى حيث النور، ولكن بنقل النور إلى حيث الأمة كلها؛ حتى يتبدد الظلام.
والله ولي التوفيق.
مركز مصر الأدبي (4)
في الوقت الحاضر
في رأيي أن كل أدب كحوض الماء، إذا لم تمده من حين لآخر بماء جديد تعفن وأنتن، وكالأسرة الكبيرة إذا ظل أفرادها يتزاوجون فيما بينهم هزلوا وذبلوا وشاعت فيهم الأمراض، ما لم يتزاوجوا من غيرهم، وكعمر الفرد: صبا؛ فشباب؛ فكهولة؛ فشيخوخة، ولكنه يمثل الدور ثانية في بنيه، لا يكون ذلك إلا بالتزاوج.
هذا في نظري تاريخ كل أدب؛ شرقي أو غربي.
فإن نحن نظرنا إلى الأدب العربي وجدنا أن الأدب الجاهلي وامتداده في العصر الإسلامي بدأ يركد حتى امتزجت الأمة العربية بغيرها من الفرس والروم والهند وغيرهم، وامتزجت الثقافة العربية بالثقافة الفارسية وبالثقافة الهندية وبالثقافة اليونانية، فبدأ الأدب العربي حياة جديدة، ظهر أثرها في مثل الجاحظ وتآليفه.
وقد يبدو غريبا أن أقول: إن الأدب العربي قد ركد في العصر الإسلامي قبيل هذا الامتزاج مع ما عرف عنه من جزالة اللفظ، وجودة السبك، وفصاحة اللسان؛ ولكن مظهر الركود في نظري كان قلة المعاني الجديدة، وتكرار المعاني القديمة، واقتصار الأدب على الأقوال المأثورة في الموضوعات الموروثة؛ حتى طلع الجاحظ وأمثاله بموضوعات جديدة، ومعان جديدة، وأساليب جديدة، فكان هذا هو التجديد الذي أتى به الامتزاج الجديد، وكانت العودة إلى الشباب بعد الشيخوخة.
ثم صار هذا الجديد قديما، وركد ماء الحوض لما انقطع المدد، وأصبح الشاب هرما؛ ذلك أن الشرق بعد الحروب الصليبية أغلق على نفسه، وضعف اتصاله بالغرب، ولم يكد يعلم شيئا مما يجري في أوربا. نعم؛ كان هناك قناصل للدول، وتجار أجانب، ولكن هؤلاء كانوا يعيشون في شبه عزلة، ولا تشعر الشعوب الشرقية بهم وخاصة من الناحية الثقافية، ولما بدأ الغرب في القرن الخامس عشر والسادس عشر يضع أساس نهضته في العلوم والفنون والسياسة والاجتماع والاقتصاد وغير ذلك؛ مما غير وجه حياته تغييرا تاما، لم يصل إلى الشرق شيء منها، ولم يشعر بها، واستمر في دائرته المغلقة، يقلد حياة الشرق الأولى من غير روح، ويعيش على الثقافة القديمة بعد أن صارت تماثيل.
في الغرب كان بدء النهضة والثورة على القديم ووضع أسس جديدة لحياة جديدة، وتحكيم العقل فيما يعرض من مشاكل وتحرير العواطف من كثير من القيود، ووضع كل قضية موضع البحث والتجربة، وفي الشرق كان الجمود، وظلم الحكام، مع الاستكانة من الشعب، وترف الأمراء وحواشيهم، مع فقر الشعب، قد كان الشرق والغرب يسيران متحاذيين، ولكن اختلف فيما بعد الاتجاه، فسار الغرب إلى الأمام، وسار الشرق إلى الوراء، وتنبه الغرب فطالب حكامه الظالمين بتحقيق العدل، واستنام الشرق على الظلم راميا عبئه على القدر.
وأصاب الأدب من ذلك ما أصاب سائر مناحي الحياة؛ فقد كان من أكبر أسباب النهضة الأدبية الأوربية التفاتهم إلى وجوب الاستمتاع بالحياة الدنيا ونعيمها ، بعد أن كان المثل الأعلى هو الزهد والانقطاع للحياة الآخرة؛ وعلى هذا الاتجاه سار الأدب يقوم الحياة الدنيا ونعيمها تقويما كبيرا في القصص وسائر أنواع الأدب؛ ثم من المظاهر الجديدة كانت عندهم في الأدب ثورتهم على الفوارق بين الطبقات، فبعد أن كانت الروايات إنما تتعرض لوصف الحياة الأرستقراطية، فإذا عرضت لحياة الطبقة الوسطى أو الدنيا؛ فلإضحاك الطبقة العليا، ثار الأدباء على هذه الأوضاع، وصار كوخ الفلاح موضوعا للأدب كبلاط الملك، واستمدت المآسي والملاهي موضوعاتها من الحياة المألوفة عند أوساط الناس وفقرائهم.
ومظهر آخر في الأدب الغربي حدث، وهو استنزال الأدب إلى عالم الواقع، فالقطعة الأدبية صارت تقوم بمحصولها الفكري، لا بجمالها الفني وحده، وعد من الأدب: الرسائل السياسية، والمقالات الاجتماعية.
وفي الشرق كان الأدب حائرا بين الزلفى إلى الأغنياء والكبراء في المديح، أو الترفع عن ذلك إلى الانصراف إلى الحياة الآخرة بإنتاج الأدب الديني في المدائح النبوية ونحوها، أما الأدب الدنيوي - يصور حياة الشعوب ويعرض للمسائل الاجتماعية والسياسية ويفتح آفاقا جديدة - فلا إلا في القليل النادر؛ ولذلك أنتجت النهضة الأوربية أدب شكسبير وراسين وجوته وأمثالهم، في حين أنتجت الحياة الشرقية أدبا يعنى بأنواع البديع كابن حجة الحموي، أو أدبا يعنى بمدح الأمراء كالأرتقيات لصفي الدين الحلي؛ فقد أنشأ 29 قصيدة، كل قصيدة 29 بيتا، وكل قصيدة لحرف من حروف الهجاء يبتدئ كل بيت به وينتهي به، وكلها في مدح الملك المنصور الأرتقي، أو أدبا يعنى بالناحية الدينية كالهمزية والبردة للبوصيري.
أما الأدب الذي يمثل الشعب في بؤسه، والحكام في ظلمهم، أو الذي ينفخ في الأمة روح الثورة على الظالمين، أو الأدب الذي يدعو إلى أن يتبوأ الشعب مكانته؛ فقلما نظفر به إذا استثنينا ابن خلدون؛ ومع هذا فابن خلدون أبدع في النظريات الاجتماعية ولم يستنزلها كثيرا للتطبيق على حياة زمنه وعصره الواقعية.
ومع هذا كله كانت مصر بعد سقوط بغداد في يد التتار أقوى الضعفاء، أو أصحى السكارى. •••
كان أول مدد لهذا الحوض الراكد هو اتصال الشرق بالغرب بحملة نابليون على مصر ، قد نكره هذه الحملة من الناحية السياسية؛ إذ كانت عدوانا على استقلالنا وانهزاما لقوتنا الحربية، ولكن الثقافة أسمى من الحرب، لا تعرف عداء ولا خصومة، وإن حدثت تحتقرها، وقد كانت هذه الحملة تحمل بإحدى يديها عدد القتال، وبالأخرى العلم والعرفان؛ فأما اليد الأولى فقابلت يد مراد عند الأهرام فقطعتها، وأما اليد الأخرى؛ يد جومار ومونج وأمثالهما؛ فصولحت، ولئن لم يطمئن المصريون إلى الفرنسيين الحربيين، وما زالوا في نزاع معهم حتى خرجوا؛ فقد اطمأنوا إلى الفرنسيين العلميين فبقوا - باسم المجمع العلمي الفرنسي - ولما بعث القائد البريطاني إنذاره الأخير إلى القائد الفرنسي في الإسكندرية كان من بين ما اشترط على الفرنسيين «تتعهد لجنة العلوم والفنون ألا تنقل معها في عودتها إلى فرنسا شيئا ما من الآثار العامة، ولا الكتب الخطية العربية، ولا المصورات الجغرافية، ولا الرسوم، ولا المذكرات، ولا المجموعات، وأن تترك كل هذا تحت تصرف القواد البريطانيين» وقد قبل القائد الفرنسي هذا وأمضاه، ولكن المجمع العلمي الفرنسي رفض، وأخيرا هدد بإلقائها في البحر؛ فتنازل البريطانيون عن طلبهم.
ومن ذلك الحين بدأت مصر تتصل بالغرب سياسيا وثقافيا - والذي يعنينا هنا هو الناحية الثقافية - وظل هذا المدد يتدفق في عهد محمد علي بإحضاره الأوربيين، والاستعانة بهم في تنظيم مرافق الحياة؛ ومنها الثقافة، وبإرساله المبعوثين من المصريين إلى أوربا؛ لتعلمهم، وسال هذا السيل بعد في عهد إسماعيل، ثم إلى الآن.
هذا الامتزاج والاتصال غير الحياة العامة فتغير الأدب العربي على أثرها، فالأدب - كما قالوا قديما - سجل الحياة.
فمن عهد حملة نابليون زالت سلطة المماليك، وتفتحت عيون الشعب المصري لتحسين حاله، وترقية معيشته، والوقوف على حقوقه، وتكوين جامعته الوطنية، وتأسيس حياته الاقتصادية ، بدأ كل هذا نواة، واستمر ينمو إلى اليوم.
ومن ناحية أخرى أخذ يقلد المدنية الغربية في الصحافة والتمثيل والطباعة والمطالبة بالحقوق، ويقرأ خاصته ما ينشر في الغرب، ويدرسون ما درسوا، ويطلعون على حركاتهم في بناء قومياتهم، وينشرون ذلك في عامة الشعب ما استطاعوا.
ومن ناحية ثالثة تأسست الملكية الفردية ونمت وتقاربت الطبقات، ولم يعد للطبقة الأرستقراطية هذه المنزلة المحلقة في السماء، ولم تعد العلاقة علاقة عبيد بسادة، وضعف سلطان الحاكم على المحكومين، وسلطة الآباء على بيوتهم، وتطورت الحياة الاجتماعية تطورا كبيرا، نشأ عنها تطور الأدب.
كان الأدب أوتقراطيا، ثم اتجه باحتكاكه بالغرب إلى الديمقراطية، كان الأدب كالدرة الكريمة أو التحفة الغالية، يقصد بها صاحبها إلى قصور الأمراء، ثم تحول يقصد الشعب، كان الأدب لا يسمح للفرد بالتفكير الحر، ولا يقدر إلا الشخصية الأرستقراطية، ثم أخذ يمجد الحرية، ويمجد الفرد؛ ولو كان في كوخ، ويعنى بالموضوعات التي تمس الشعب ، وتجددت للشعوب آمال في استقلالها وفي تحقيق العدل من حكامها، فكان الأدب خير ما يصور ذلك.
وكان طبيعيا أن يكون في الأدب مخضرمون كما في الحياة الواقعية مخضرمون عاشوا في القديم والجديد معا، وتربوا في المدرسة القديمة ناشئين، ورأوا المدرسة الجديدة كهولا أو شيوخا، فكان أدبهم نتاج الحياتين، تتجلى هذه الخضرمة مثلا في الشعر عند البارودي؛ فقد تحرر من زخرف اللفظ ، والتحسس على محسنات البديع، وبث في الشعر روحا، ولكنه نهج منهج أبي فراس والمتنبي والشريف الرضي، وقلدهم في فحولة اللفظ، وفي أغراض الشعر ومعانيه؛ وكذلك شوقي وحافظ - على سمو قدرهما في الشعر - كان قديمهما أكثر من جديدهما، وإن كان جديدهما أكثر من جديد البارودي في الأغراض والمعاني، وكذلك كان المنفلوطي في النثر مخضرما، وهو إلى الأسلوب القديم أقرب.
ثم تلا هذه الخضرمة التجديد في الأسلوب، وفي الموضوع؛ ولكن يعاب عليه في الأكثر أنه ليس تجديدا مبتكرا، بل هو تجديد تقليدي، غاية الأمر أنه بدل أن يقلد شعراء العرب الأقدمين، قلد شعراء الغرب المحدثين؛ حتى في العنوانات؛ كوادي الدموع، والشاطئ المجهول، ونحو ذلك، ولذلك لم تستسغه الأذن العربية، كما لم تستسغ الموسيقى الغربية الصرفة إلا بعد مران طويل، ولا يزال التجاذب بين القديم والحديث إلى اليوم.
وكما كانت الخضرمة في الشعراء، كانت الخضرمة في الموضوعات، ثم التجديد، فترى مثلا شعر المديح أتى به المخضرمون أمثال شوقي وحافظ، وكان يستساغ منهما، ثم مجه الذوق بالتقدم في فهم الديمقراطية وتذوقها، ولم يعد المديح - كما كان - غرضا كبيرا من أغراض الشعر، وصار إذا قيل اليوم فإنما يقال على سبيل الطرافة أو الملحة، ولم يعد يصح مطلقا أن يسمى شاعرا فحلا من كان أكبر نتاجه شعر المديح. وأهم من هذا كله أن الشاعر لم يعد هذا الذي يتصنع الشعر ويتكلفه في المناسبات والحفلات؛ إنما الشاعر من شعر قلبه، وغنى لنفسه أولا، وللناس ثانيا، ولم يكن قصده الكسب، وإنما قصده الاستجابة لعواطفه، والتعبير عنها في صدق وإخلاص.
فأما ما يلازم الإنسان في جميع حياته سواء كان الحكم أوتوقراطيا أو ديمقراطيا كالحب والغزل فظل في الجديد، كما كان في القديم؛ ويغنيه شوقي في القصر، وإسماعيل صبري في وكالة الحقانية، كما يغنيه شاعر الربابة؛ وإنما حدث له التجديد من ناحية أن المجددين من شعراء الغزل تركوا التكلف والتقليد، وعبروا عن عواطفهم هم، وحللوها، وصاغوها في فن رقيق دقيق، وأفاضوا عليها من إحساسهم وشعورهم.
ثم كان جديدا الإفاضة في شعر السياسة والاجتماع بما يعبر عن آلام الأمة وآمالها، ويتغنى بالحرية، وينعى على الظالمين ظلمهم، وينادي بتحرير المرأة، وإغاثة البؤساء، وهكذا.
كما اتجهوا - وإن لم يكن كافيا وافيا - إلى شعر الطبيعة وجمالها؛ كوصف شوقي لدمشق ولبنان ... إلخ.
وكان من أثر احتكاك الشرق بالغرب أيضا ظهور الشعر التمثيلي في الأدب العربي، كما يتجلى في اتجاه شوقي الأخير، فقد اتجه آخر أمره إلى الشعر التمثيلي، وفي رأيي أنه لو اتجه إليه في شبابه لكان أكثر إجادة، فحرارة الشباب، وحركاته الرشيقة التمثيلية، لا تغني عنها حكمة الشيوخ ورزانتهم ووقارهم؛ وفي الحق أنه بدأ هذا الاتجاه وهو شاب في فرنسا فنظم قصة علي بك الكبير، ولكنه لما عاد حكم عليه منصبه في القصر أن يقول في الشعر التقليدي، وأخيرا جدا عاد سيرته الأولى؛ فألف مجنون ليلى، وقمبيز، ومصرع كليوباتره، وعنترة، وأميرة الأندلس - والأخيرة نثرية - وقد قفا أثره في عصرنا عزيز أباظة. •••
لئن كان الشعر في مصر يزحف زحفا، ويسير الآن جيشا بلا قائد، فإن النثر يقفز قفزا، ويؤدي أغراضه في نجاح أتم وأوفى.
والسبب في سرعة تقدم النثر عن الشعر - فيما يظهر لي - أن النثر أمس بالحياة الواقعية والناس إليه أحوج؛ في الصحافة إذا حرروا، وفي الخطابة إذا خطبوا، وفي القصص إذا قصوا ... إلخ، والحاجة تفتق الحيلة، وتكثر المران، وتجعل الناثرين أكثر عددا من الشعراء؛ فيزداد مقدار الإنتاج ويجود، حاجة الناس إلى النثر كالغذاء على المائدة، والشعر كالأزهار عليها، ولا يستطيع الناس الاستغناء عن الغذاء، ولكن قد يستطيعون أن يستغنوا عن الأزهار؛ ثم إن الشعر أكثر قيودا من النثر؛ بقوافيه وأوزانه وخيالاته وأساليبه، والنثر يستطيع أن يتحرر من قيود السجع والمحسنات البديعية، ثم يكون نثرا مرسلا جميلا، أما إذا تحرر الشعر من الأوزان والقوافي فلا يسمى شعرا بالمعنى الدقيق للشعر، وشتان - في السير - بين رجل مقيدة، ورجل طليق.
ثم إن النثر يستساغ إذا كان وسطا، وإذا كان جيدا، ولكن الشعر يصعب أن يستساغ وسطا، فإما أن يكون جيدا وإما لا، كالزهرة لا تحب إلا ناضرة، فإن ذبلت فخير منها عدمها.
على كل حال إذا نحن قسنا النثر في عهد الشيخ حسن العطار، بالنثر في عهد الشيخ رفاعة الطهطاوي، بالنثر في عهد عبد الله باشا فكري، بالنثر في عهد السيد مصطفى لطفي المنفلوطي، بالنثر اليوم، رأينا مصداق ما أقول من أنه يقفز قفزا؛ سواء من ناحية أسلوبه، أو موضوعه، كان أهم تقدم للنثر تحرره من طريقة ابن العميد، والقاضي الفاضل، وتكلف السجع وتحري فنون البديع، ففك عنه هذه الأغلال وجرى في سلاسة وطلاقة، وهو مدين بهذا لعاملين: اطلاع الأدباء على الأدب الغربي، وقد رأوا فيه البساطة، والترسل، والعناية بالمعاني أكثر من العناية بالبديع، ثم رجوعهم إلى النثر القديم في العصر العباسي الأولى مثل ابن المقفع والجاحظ والأصفهاني، قبل أن يغرقه في الزينة الحريرى وابن العميد وابن عباد.
ثم إنه قد حدث للنثر الحديث ما حدث في العصر العباسي الأول؛ لقد نقل الجاحظ الأدب على أثر امتزاج الثقافات، فجعل كل شيء صالحا لأن يكون موضوع أدب، حتى اللصوص والبخلاء، وحتى الحيوانات؛ فلما جاءت النهضة الحديثة كان الأمر كذلك؛ فقد كاد موضوع الأدب ينحصر فيما يسمونه بالإخوانيات؛ من لوعة اشتياق، أو شكر على إهداء كتاب، أو عتاب على تقصير في زيارة، أو نحو ذلك، فاتسع معنى الأدب، واتسع موضوعه، وصار النثر أداة للصحافة في شتى الموضوعات، وأداة للقصص والتمثيل، والبحوث الاجتماعية والأدبية والنقدية، وكان أثر الغرب واضحا فيه في معالجة موضوعاته وفي تحليلها وبسطها، وأثر الأدب العربي القديم في الأساليب، كل أديب على قدر ثقافته، واستمداده من هذا المنبع أو ذاك.
فالصحافة في مصر جارت الصحافة الأوربية وقطعت شوطا كبيرا في التقدم، تغذيها أقلام الكتاب المنشئين والمترجمين، ولو جمعت ما يخرج منها كل يوم لأخذك العجب من كمها وكيفها، وقد أثرت أثرا كبيرا في نشر الثقافة بين الشعب، كما أثرت في تمرين أقلام الكتاب وصقلها وتدفقها، وكان لها أكبر الفضل في تحويل النثر من مقيد إلى مرسل، فالأسلوب الصحفي أسلوب يجب أن يكون متدفقا سريعا؛ ليماشي سرعة الحوادث وسرعة الحركة، وقد أشعلها وملأها حرارة نهضة المصريين في طلبهم الاستقلال، وطموحهم إلى الإصلاح الاجتماعي؛ وخاصة بعد الحرب الماضية، فكانت مصر والصحافة كل منهما فاعل ومنفعل، مؤثر ومتأثر، وتفننت الصحافة مع الزمن فنوعت موضوعاتها؛ من سياسة وأدب ونقد وفكاهة، وقل أن ترى أديبا لم يتصل بالصحف من قريب أو من بعيد، فهي تغذيه وتتغذى منه.
كذلك نشطت حركة الإنتاج القصصي والتمثيلي، وكان تأثير الأدب الغربي في هذا الباب واضحا؛ فلم يعتمدوا كثيرا على القصص العربي القديم؛ كالمقامات، وألف ليلة، وكليلة ودمنة، وإنما وجهوا وجهتهم نحو الأدب الغربي يحتذونه، وإن كانوا قد اتخذوا الحياة المصرية أو الشرقية موضوعهم، فاتخذ جورجي زيدان أهم الحوادث الشرقية موضوعا لرواياته التاريخية، وكانت عنايته بالأحداث التاريخية أهم من عنايته بالأسلوب الأدبي، وقد جمع بين العناية بهما معا الأستاذ محمد فريد أبو حديد في ابنة المملوك والملك الضليل وزنوبيا والمهلهل.
ثم قصص آخر في نقد العادات القومية، افتتحه المويلحي في حديث عيسى بن هشام، وجاء بعده كثير من الكتاب القصصيين ، رقوا بالقصة المصرية خطوات بعيدة، كزينب لهيكل، والأيام لطه حسين، وسارة للعقاد، والقصص الكثيرة البديعة لمحمود تيمور، وتوفيق الحكيم، ولا أريد أن أحصي ولكني أريد أن أمثل، وبجانب هؤلاء طائفة من أدباء الشباب ينتجون ويجودون.
ويطول بنا القول لو فصلنا كل ناحية من نواحي الأدب كالمقالات الأدبية والاجتماعية؛ فقد خطت في العشرين سنة الأخيرة خطوات واسعة، وبلغت شأوا بعيدا في الأدب العربي بفضل المجلات الأدبية ونجاحها.
ثم التأليف الأدبي من دراسة للأدب في العصور المختلفة، أو في عصر خاص، أو أديب بعينه، أو مشاهير الرجال، أو نحو ذلك، وربما لفت نظر مؤرخ الأدب في مصر تخلف حركة النقد الأدبي عن غيرها من الحركات، وليس يؤدي الأدباء هذا الواجب حتى تكون لدينا مجلات تعنى العناية التامة بتعريف الناس بما تخرجه المطابع في فنون الأدب تعريفا صحيحا، ونقده نقدا مخلصا، فيعكف الناقد على الكتاب يقرؤه في دقة وإمعان، ويبين منزلته مما سبقه في بابه، ويذكر محاسنه وعيوبه في صدق وإخلاص وصراحة.
بذلك يهدي القراء إلى ما يجب أن يقرءوا وما لا يقرءون، ويحمل المؤلفين على أن يجودوا ما يؤلفون، أما التقريظ المطلق أو التجريح المطلق فليس من النقد في شيء، وهو يضر القراء والمؤلفين، والحركة الأدبية نفسها ضررا بليغا؛ ونحن إلى الآن لم نبلغ هذه الدرجة المنشودة ولا قربنا منها، بل لم نتقدم في العشرين سنة الأخيرة تقدما يتناسب وتقدم الإنتاج الأدبي؛ وعلة ذلك كسل الناقد، وقلة شجاعته، وضيق صدر المنقود، وعدم قدرته على تقبل النقد بنفس رياضية، ولا تزال الحركة الأدبية تنتظر المهدي الهادي في هذا الباب. •••
ثم لمصر شخصية خاصة في أدبها؛ فالطبيعة التي ميزت وجوه أهلها عن وجوه الشاميين والعراقيين والحجازيين، وميزت نفسيتهم عن نفسية الآخرين، ميزت كذلك أدبهم؛ فلإقليم الأمة أثره، ولتاريخها المتتابع أثره، ولقانون الوراثة أثره، غاية الأمر أن الأمر في النفس والأدب أغمض من الأمر في اختلاف الوجوه والملامح.
ومع هذا فيمكننا أن نلمح هذه الشخصية الأدبية في الأسلوب، فنحن إذا قرأنا أو سمعنا أساليب لأمم شرقية مختلفة أمكننا أن نميز ما كان منها مصريا أو شاميا أو عراقيا، فالأسلوب المصري سهل كسهولة أرضه، جار مع الطبع جري النيل، خفيف اللفظ خفة الهواء، تفيض فيه العواطف من غير ضبط، فيضان النيل إبانه، وتسيح سيحانه.
شعر قارئه بما يعانيه من فك القيود التي قيده بها التاريخ، وظلم الحكام، والطبقات الأرستقراطية، وهو - لذلك - ينفس عن نفسه بالنكتة الحلوة، والنوادر المستملحة، وهو - في هذا - لا يجاريه أي شعب عربي آخر، فجرائده ومجلاته الفكهة لا تبارى، وله في هذا الباب وغيره ذوق مرهف يتجلى في حسه الدقيق بجمال الفن؛ من غناء، ونكت، ونوادر، وأدب.
وعلى كل حال فهذه المسألة - مسألة الشخصية المصرية - تحتاج إلى دراسة عميقة طويلة وبحث مستقل، وهي عرضة للأخذ والرد وتضارب الآراء، فنكتفي منها بهذه اللمحة.
أما بعد؛ فما مركز مصر الأدبي الآن؟
إن نحن نظرنا إلى إنتاجها مقارنا بالأمم الأوربية كإنجلترا وفرنسا وألمانيا وأمريكا، بل ما هو أقل منها مساحة وعددا كبلجيكا ، رأيناها متخلفة تخلفا كبيرا؛ حتى لو راعينا نسبة الإنتاج إلى المساحة، وعدد السكان، سواء ذلك في الكم والكيف.
وسبب ذلك يعود إلى أمور؛ أهمها في نظري: (1)
أننا أحدث عهدا بالمدنية الحديثة، فهذه الأمم بدأت نهضتها من نحو ستة قرون، على حين أن نهضتنا لم يمض عليها قرنان؛ وفي هذه القرون الستة جربوا، واستمدوا، وأنتجوا، وسايروا مدنيتهم، وجودوا إنتاجهم، وانتفعوا بكل جديد؛ وإذ كانت هذه الأمم مشاركة في بناء المدنية الحديثة، كانت مشاركة - أيضا - ومستفيدة ومتعاونة، بعضها من بعض؛ فالثقافة الفرنسية لا تلبث أن تنقل إلى الإنجليز والألمان وهكذا، مما جعل العقول والأفكار والفنون والآداب يعمل في خلقها كل هذه الأمم، فتتقارب وتتمازج وتتساقى وتتزاوج وتتوالد، أما نحن فنعمل بأيدينا وحدنا، وهي لا تزال غضة ناعمة. (2)
ثم إن ثقافتهم وأدبهم منهم، ومن نتاج أنفسهم، ومشتق من جنس حياتهم، ونحن في كثير من الأمر نعتمد على التقليد، وأنماط الحياة مختلفة، والتاريخ مختلف، والظروف الاجتماعية مختلفة. (3)
ثم يجعل تقدمنا بطيئا أن أدبنا مزدوج، وأدبهم موحد، والموحد أسرع سيرا من المزدوج، فنحن - بحكم ظروفنا - بين أدبين، قديم نرجع إليه بحكم أنه أصل أدبنا، وجديد نستمده من الأدب الغربي، وهناك أدباء هم - في الأكثر - نتاج الأدب القديم، وأدباء نتاج الأدب الحديث، وعملية المزج التام والتوحيد لم تتم بعد، وإن كانت سائرة في بطء.
ثم مسألة شائكة جدا معقدة جدا، وهي أن أدبهم يغذي جميع شعوبهم؛ فالأدب الإنجليزي يغذي كل الإنجليز، والفرنسي كل الفرنسيين، ويتنوع حسب مقدار الثقافة لأفراد الشعب، فما على الفرد إلا أن يقرأ ويكتب - وليس هناك أمي - حتى يجد غذاءه الأدبي المناسب له، للقرب بين لغة الكلام، ولغة الأدب المقروء والمسموع، أما نحن فالنتاج الأدبي كله، مهما خف وزنه، ومهما عددت فيه من الجرائد والمجلات الخفيفة، لا يغذي - على أكثر تقدير - إلا خمس الأمة أو 20٪، وهم الذين يقرءون ويكتبون، مع أن كثيرا منهم لا يتذوق هذا الأدب المعرب، والأربعة الأخماس الباقية تعيش من غير غذاء أدبي مطلقا، للأمية أولا وللفروق السحيقة بين لغة التخاطب ولغة الأدب ثانيا ، ولسنا نبذل أي جهد في معالجة هذه المشكلة، فلا نحن مستطيعون أن نجعل السواد الأعظم من الشعب يقرأ ويفهم اللغة الكلاسيكية المعربة، ولا نحن مستطيعون أن نغير اللغة إلى لغة الشعب أو ما يقرب منها، مع أن أدب كل أمة لا يصح أن يكون أدب خاصة لا عامة، فللشعب حقه في الأدب والغذاء العقلي، كحقه في الغذاء المعدي.
أما إن نحن نظرنا إلى مصر كوحدة في الأمم العربية، فإن كان أساس المقياس قلة الأميين وعدد المثقفين بالنسبة إلى عدد الأمة، فمصر في المرتبة الثالثة بعد لبنان - أولا - إذ يبلغ عدد الأميين فيها 18٪ فقط، وبعد سوريا ثانيا.
أما إن نحن اتخذنا المقياس وفرة النتاج الأدبي وقادة الحركة الأدبية على اختلاف أنواعها فمصر - بحق - هي زعيمة العالم العربي؛ فصحافتها أرقى صحافة عربية، ونتاجها في البحوث الأدبية والقصص والمقالة ونحو ذلك أرقى من غيره، ولست الآن بمستطيع أن أجزم بزعامتها الشعرية.
ومن آثار ذلك أن الكتاب الأدبي الذي يطبع في مصر أكثر انتشارا مما يطبع في أي بلد آخر، وكذلك مجلاتها وصحفها، والعالم العربي أكثر معرفة، وأشد تعلقا، وأقل تأثرا بالأديب المصري.
ولعل سبب ذلك واضح؛ فقد سبقت مصر العالم العربي في تاريخ نهضتها، وفي وفرة ثروتها، وفي شدة اتصالها بالغرب، وكثرة عددها لا بد أن ينتج عنه كثرة المتفوقين فيها.
ومع هذا - فمن الأسف - أنها لم تشعر شعورا قويا بمركزها الأدبي هذا كما يشعر به غيرها، ولو فعلت لزاد شعور قادتها بالمسئولية كما ينبغي.
ولنا كبير الرجاء في أن نسرع الخطا، وخاصة بعد نيل استقلالنا الصحيح؛ حتى نعالج وجوه نقصنا، ونستكمل مزايانا. والسلام.
وظيفة الدين في المجتمع
لنتصور مدينة من المدن عاش أهلها من غير دين، لا مساجد ولا كنائس ولا شعائر، ولا اعتقاد بإله ولا بيوم آخر، ولا جزاء من ثواب أو عقاب، ولو ساروا في حياتهم وفق العقل، فماذا يكون شأنهم؟ وهل يكونون سعداء؟!
إني أتصورهم يعيشون عيشة جافة شقية، أفقهم في الحياة ضيق محدود بعمرهم القصير في الحياة الدنيا، إذا مرضوا أو أصيبوا بفقد عزيز عليهم جزعوا أشد الجزع؛ إذ لا حياة بعد هذه الحياة، في نظرهم، وإذا تقدمت بهم السن شعروا بفراغ لا يملؤه شيء، وجمهورهم لا يجد سندا للأخلاق، فالفضائل والرذائل ليس عليها مكافأة إلا في هذه الحياة، فمن استطاع أن ينجو من عقوبة القانون أو عقوبة الرأي العام، ارتكب من الجرائم ما استطاع؛ إذ لا وازع له من دين أو ضمير، فعاشوا من أجل ذلك كله عيشة تعيسة لا يلطفها الأمل، ولا تريحها الطمأنينة.
إن الإنسان يتكون من عقل وشعور، ولا يستطيع أن يعيش بدونهما، أو بدون أحدهما، ولا بد من إمدادهما بالغذاء الدائم، وغذاء العقل العلم، وغذاء الشعور الدين، والحياة على أساس العقل وحده والعلم وحده حياة خالية من عطف ورحمة وإنسانية، وفي ذلك البلاء المبين، وإذا كان الإنسان قد خلق وله عقل يتغذى بالعلم، وشعور يتغذى بالدين، يتبين لنا أن التدين من طبيعة الإنسان، كما أن العقل من طبيعته، ولهذا لازم التدين الإنسان منذ عرف تاريخه، بدويا أو حضريا في كل الأقطار والأقاليم، مهما اختلف مقدار رقيه، ومهما اختلفت أشكال عبادته ومعابده.
والدين يكون جزءا هاما من مدنية كل شعب وحضارته، ويؤثر أثرا كبيرا في حركاته السياسية والاجتماعية؛ حتى في المدنية الغربية الحديثة مع إيمانها التام بالعلم وانطباعها بطابعه، لا يزال للدين الأثر البالغ في منازعها السياسية والاجتماعية، فعلاقة أمم النصرانية بعضها ببعض، وعلاقتها بغيرها من أهل الأديان الأخرى وفهمها الحقوق والواجبات والمبادئ التي تسيرهم في مجتمعهم وهكذا، كلها متأثرة بالدين، ومهما تنازع العلم والدين ودعا دعاة منهم إلى الإلحاد فإن الدين يمس قلوب الناس حتى الملحدين، وهم يأبون أن تتخلى قلوبهم عنه؛ لأن هذا هو فطرتهم وطبيعتهم، ومن تجرد منه أحس القلق والاضطراب إحساس من شوهت طبيعته.
أساس الدين الإيمان بقوة فوق المادة، وفوق أن يدركها العقل، وأنها المدبرة للعالم، السائرة به إلى نهاية المنبع الذي تصدر عنه الأخلاق التي تنظم حياته من حيث هو فرد، ومن حيث هو عضو في مجتمع.
وفي هذا اتفقت كل الأديان تقريبا وإن اختلفت في تفاصيلها وشعائرها.
هذا الدين على هذا الوضع كان سببا في تقوية الروابط بين الجماعات والأمم، فكل جماعة تدين بدين، يؤلف بينها الدين، ويوثق بين أفرادها، ويشعرهم بالوحدة ويكون أساسا بينهم للترابط والتعاون؛ وهذا سبب - من غير شك - يسلمهم إلى الرقي؛ كذلك كان الأمر بين أهل الديانات القديمة كديانة قدماء المصريين والصينيين، ثم بعد ذلك في اليهودية والنصرانية والإسلام، فإذا نحن عددنا من الروابط المدنية بين أفراد الأمة الواحدة اللغة والجنس والإقليم، وجب علينا أن نعد من أهمها رابطة الدين، وكما كانت كل رابطة من هذه الروابط سببا في تقدم الجنس البشري، فكذلك كانت رابطة الدين.
ثم إن الدين أهم باعث على الأخلاق، فهو يدعو إلى الأخلاق دعوة حارة، دعوة ممزوجة بالعاطفة، ممزوجة بالإيمان، قد يدعو العقل والفلسفة والعلم إلى الفضيلة من حيث هي حق ومن حيث هي نافعة، ولكن دعوة الدين إليها أقوى؛ لأنه يسبغ عليها من روحانيته، ويربطها بالثواب في الدنيا والآخرة، ويربط بينها وبين الضمير فيجعلها مطلوبة لذاتها، ومطلوبة لثوابها، ولذلك كانت دعوة الدين إلى الأخلاق مناسبة للخاصة والعامة، بينما دعوة الفلاسفة والعلماء للفضيلة لا تناسب إلا الخاصة، ثم الفرق بينهما كالفرق بين ما يصدر عن العقل من نظريات علمية هادئة باردة، وبين ما يصدر عن القلب من حب ممزوج بالحرارة والقوة والحماسة، ولذلك كان تغيير وجه البشرية صدر عن رجال الدين أكثر مما صدر عن الفلاسفة ورجال العلم، بل إن الدين يمد الفلسفة والعلم والفن بروح منه، ويجعلها أقرب إلى إدراك الحق والجمال.
الدين هو الذي أنشأ المعابد تهتز فيها ولها قلوب الناس، وتتحرك عواطفهم في لذة واشتياق إلى هذا المعبود الذي فوق الطبيعة، وهو الذي حرك العواطف لإنشاء معاهد البر والإحسان والملاجئ والمستشفيات، فخفف بؤس البائسين وعوز المحتاجين، والدين هو الذي حرك نفوس الفنانين، فصاغت عواطفهم أروع الآثار الفنية من مساجد وكنائس ومعابد، وهز نفوس الأدباء، فأنتجوا لنا روائع الأدب الصوفي، والشعر الديني، والابتهالات التي تفيض بالعواطف وتسيل عذوبة ورقة، والدين كان عماد التربية والتعليم بفتح المدارس ونشر التعليم، وكانت الدراسة الدينية باعثة على الدراسة الدنيوية، وكان مثارا للبحث والجدل، وبعث العقول على التفكير، سواء في تأييد العقائد أو تفنيدها، مما بث في العقول حياة لولاه لخمدت، واعتبر ذلك بالثروة الكبيرة في التأليف الديني وما حوله عند كل الأمم المتحضرة، واعتبر ذلك أيضا عند المسلمين؛ فقد كان جمع اللغة لفهم القرآن، ودراسة النحو والصرف لتقويم اللسان للقرآن، ووضع علوم البلاغة لفهم إعجاز القرآن، وهكذا.
والدين هو الذي يتجلى في أسمى مظاهر الإنسانية ولا سيما في أوقات الشدائد، من عطف على الفقراء، ومواساة الجرحى والمنكوبين، ومن أصيبوا بزلزال أو بركان أو حريق أو غرق، فإذ ذاك تتحرك النفوس للنجدة يحدوها الدين.
فلنتصور - إذا - ما يكون شأن الإنسانية إذا فقدت كل هذه النظم والمؤسسات والعواطف والمشاعر والأخلاق، إن العالم بلا دين عالم بلا قلب، إنه جفاف، إنه نظريات هندسية لا روح لها.
نعم ... حدث في التاريخ أضرار كثيرة باسم الدين كالغلو في العصبية الدينية، وما نشأ عنها من تعذيب، وسفك دماء، واضطهاد، وكانتشار الخرافات في بعض الأديان، وكضيق النظر واضطهاد العلم والعلماء، والجمود على بعض النصوص إلى درجة التحجر؛ ولكن أكثر هذه الأضرار يرجع إلى فساد يعتري المتدين، أكثر مما يرجع إلى الدين نفسه ... وإلى سوء فهم بعض رجال الدين أو مكرهم، أكثر مما يرجع إلى الدين نفسه.
وبعد؛ فالدين نعمة على المجتمع الإنساني، وهو طبيعة من طبيعة الإنسان، وخير الأديان ما سما بالعاطفة، وأوسع المجال للعقل، وبنيت تعاليمه على خير الفرد، وخير الإنسانية.
يوم عرفات
في هذا اليوم يقف المسلمون من جميع أقطار العالم على جبل عرفات، يؤدون شعيرة من أهم شعائر الإسلام، ولست أنسى ذلك اليوم وقد وقفت فيه هذا الموقف منذ ثلاث سنوات، فكان موقفا رائعا جليلا لا تغيب ذكراه على مدى الأيام؛ ففي السابع والثامن من شهر ذي الحجة يخرج الناس من مكة قاصدين عرفة؛ وهم محرمون؛ قد لبسوا لباسا ساذجا بسيطا ، رداء أبيض، ونعلين بسيطين، قد عريت رءوسهم، وتجنبوا لبس المخيط، يرمزون بلبس البياض إلى طهارة القلب، وطهارة الأعمال، ونقاء السر والعلن، ويتجنبون المخيط؛ ليدلوا بعملهم على بساطتهم الأولى، وتجردهم من زخرف المدنية وتعقيد الحضارة، ويمثلون بفعلهم ولباسهم ما كان يفعله ويلبسه أبوهم إبراهيم - عليه السلام - وهو الذي أذن في الناس بالحج؛ فأتوه من كل فج؛ فهم بإحرامهم هذا قد ذكروا الإنسان في بساطته قبل أن تقيده المدنية بقيودها الثقيلة وتقاليدها المتعبة؛ حتى كأنهم يقولون: إننا رجعنا إلى الله كما خلقنا، متساوين في مظاهر العيش، متخلين عن الأبهة الكاذبة، والمعيشة المصطنعة، لقد أخرجنا الله إلى هذا الوجود متساوين في التجرد، فلبسنا في مهدنا أبسط اللباس، وسنموت فنكفن في أبسط لباس، فلنذكر ذلك كله الآن في ملبسنا البسيط المتساوي، ونكون أقرب إلى الله قرب المولود من خالقه، والميت من ربه، ونحن زاهدون في زخرف الحياة كما يزهد الراهب الصادق في ترهبه، أو كما يزهد المتصوف المخلص في تصوفه.
يخرج الناس من مكة على هذا الوضع، لا تتبين منهم غنيا ولا فقيرا، ولا شريفا ولا وضيعا، فالغنى والفقر والشرف والضعة، أوضاع خلقها الناس، واصطنعوها وزيفوها، يخرجون على إبلهم ودوابهم، وحبذا لو استمر ذلك؛ فالمظهر كله منسجم، أبسط ثياب على أبسط دواب، ولكن في السنين الأخيرة زاحمت السيارات الإبل فغلبتها، وأضاعت انسجام الحياة، فتميز غني من فقير، ومكثر من مقل.
يتجه الخارجون من مكة إلى عرفة نحو الشرق، ثم يميلون ميلا خفيفا إلى الجنوب، وإذ ذاك يسيرون في واد بين جبلين، وبعد مسافة ليست بالطويلة تجد على يسارك جبلا سمي جبل النور، بني على قمته العالية قبة يلمع بياضها.
هناك في هذه القمة غار يبلغ ثلاثة أمتار في مترين، كان يخرج إليه النبي
صلى الله عليه وسلم
فيقضي فيه الأيام ذوات العدد؛ حتى قد تبلغ الشهر، كان يفر إليه من الناس وضوضائهم وباطلهم، كان يشرف من أعلى هذا الجبل على العالم من تحته؛ فينعم بالطبيعة وجمالها، والليل وهدوئه، والسماء ونجومها، ثم يفكر في الناس فيهزأ بسخافاتهم هزؤا مشوبا برحمة، واستخفافا ممزوجا بعطف.
كان يهرب إلى هذا الغار؛ لأنه عرف باطل الناس وأراد الحق، وعرف ما هم فيه من ظلام، وطلب النور؛ حتى إذا تهيأت نفسه للحق، واستعدت روحه لليقين، نزل عليه الوحي فلمع في قلبه النور الإلهي، فإذا الحق واضح، وإذا الله معه، ونزل من الغار يدعو الناس أن يستضيئوا بضوئه وأن يحيوا قلوبهم من حياة قلبه، وأن يروا عظمة الله في كل أثر من آثاره.
ذلك هو جبل النور الذي يمر عليه السالك من مكة إلى عرفة، وهذا هو غار حراء الذي في قمته.
ثم ينعطف السائر نحو الجنوب ويسير نحو خمسة كيلو مترات فيصل إلى منى، وعند دخولها يجد السائر على يساره جمرة العقبة، وهي حائط من الحجر ارتفاعه نحو ثلاثة أمتار، وعرضه نحو مترين، أقيم على قطعة من الصخر، وبني أسفل هذا الحائط حوض يسقط فيه الحصى الذي يرميه الحجاج، هذه هي جمرة العقبة التي يرميها الحجاج بما يجمعون من حصى بعد عودتهم من عرفة ؛ رمزا إلى أنهم قد قويت إرادتهم، وغزوا بواعث الشر في نفوسهم، ورجموا الشيطان؛ فلم يستمعوا لدعوته، ولم يقعوا في حبائله التي ينصبها عن طريق الشهوة.
ومنى مكان متسع يخيم فيه الحجاج قبل رحيلهم إلى عرفة وبعد عودتهم، وفيها سبيل يمجد ذكر مصر، وينتفع به الحجاج من سائر الأقطار، يتزودون من مائه الذي جلب إليه من عين زبيدة، فيوفر عليهم كثيرا من العناء، ويسبغ عليهم الرخاء والهناء.
وفي اليوم التاسع من ذي الحجة - أي في مثل يومنا هذا - يخرج أكثر الحاج من منى قاصدين عرفة، فيسيرون في واد بين جبلين يتسع حينا، ويضيق حينا، يمرون فيما يمرون على المزدلفة بعد ساعتين من منى، وعلى مسجد نمرة، وبعد قليل من المسجد تجد العلمين؛ وهما عمودان من البناء يبعد أحدهما عن الآخر، يرتفع العمود نحو خمسة أمتار في عرض نحو ثلاثة، وهما يدلان على حدود عرفة فيما وراءهما؛ وإذ ذاك تجد جبلا قد حلق على الوادي وأقفله في شكل قوس كبير؛ هو جبل عرفة، وفي الجهة الشمالية منه لسان يبرز إلى الغرب يسمى جبل الرحمة، وفيه صخرة كان يقف عليها الرسول
صلى الله عليه وسلم
وعليها يقف الخطيب اليوم.
في هذا المكان في جبل عرفة يقف الحجاج جميعا على اختلاف مذاهبهم يوم التاسع، وجزءا من ليلة العاشر، يعجون بالتلبية والدعاء، والتسبيح والتهليل، ومن قول لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير.
عند ذاك ترى منظرا عجبا؛ قد تجمع آلاف الناس في هذا الجبل وحوله بملابسهم البيضاء، واتحدوا في التوجه إلى الله على اختلاف ألسنتهم وألوانهم، قد ربطتهم وحدة الدين، وألفت بينهم وحدة القصد، اتجهوا كلهم إلى الله يزلزلون الجبل بدعائهم وتلبيتهم، قد نسوا دنياهم، ونسوا أنفسهم وتعلقت أرواحهم بربهم، يتجلى على وجوههم الوجد والهيام، وتغلبت روحانيتهم على ماديتهم، وانقلبوا ملائكة أطهارا؛ هذا يستغفر مما جنى، وهذا يندم على ما فات، وهذا يعاهد الله على الطهر الدائم، وهذا يبكي ندما، وهذا يستبشر أملا؛ وكلهم متعلقون بربهم، يرجون افتتاح حياة جديدة؛ عمادها التقوى والإخلاص، وهم يتنقلون من نوع من الهتاف إلى نوع آخر، هؤلاء يعجون: لبيك اللهم لبيك، وهؤلاء يتلون آيات من القرآن في عظمة الله ووحدانيته.
وعلى الجملة يغمر الناس نوع من الفيض، يعجز القلم عن وصفه.
وبعد صلاة العصر من ذلك اليوم ينهض خطيب عرفة، ويصعد بناقته على الجبل، ويقف على الصخرة التي وقف عليها رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، ويخطب خطبة يعلم فيها الناس مناسك الحج، ويكثر فيها من التلبية والدعاء، ومن دونه قوم يبلغون قوله للناس، ويلوحون بمناديل يشيرون بها إلى التلبية، فيتابعه كل الناس بتلبيتهم؛ فتتحد نداءاتهم، ويغمر الناس شعور غريب.
وهو موقف يمكن أن يستغله المسلمون أحسن استغلال، فيؤتى بالمكبرات الصوتية، وتعد فيه الخطب الرائعة باختلاف اللغات؛ متضمنة نصيحة المسلمين بما ينفعهم في دينهم ودنياهم، وما يوقظ هممهم، ويحيي آمالهم، ويوحد صفوفهم، ويوجههم أصلح وجهات الحياة؛ وفي هذا الاجتماع فرصة كبيرة لتلاقي ذوي الرأي من المسلمين في الأجناس المختلفة، يتبادلون الرأي فيما يصلح أممهم، وينير السبيل لمستقبلهم.
إذا لأدى الحج خدمة كبرى اجتماعية، بجانب الشعائر الدينية.
حتى إذا غابت الشمس في الأفق أعلن تمام الموقف، فينفر الناس من عرفات هاتفين هتاف الفرح والسرور على ما وفقهم الله من أداء الفرض.
هذا ما يفعل الحجاج في هذه الليلة، وهم قد أتموا وقوفهم بعرفة، وسعدوا بهذا المنظر الجميل، وامتلأت نفوسهم؛ رغبة في الخير، وحبا في الله، وهم في مثل هذا الوقت يفيضون من عرفة عائدين إلى المزدلفة؛ ليتموا شعائر الحج.
هذا هو الوقوف بعرفة، وهو أهم ركن من أركان الحج، من فاته الوقوف بعرفة فقد فاته الحج؛ والعلة في ذلك أنه أهم جزء في الحج يحقق حكمته، ففيه يجتمع المسلمون من جهات العالم في وقت واحد، ومكان واحد، يتجهون اتجاها واحدا ويهتفون هتافا لغرض واحد؛ متضرعين إلى الله، راجين منه تكفير خطاياهم، راغبين توالي نعمه عليهم، والنفوس إذا تجمعت بهذه الكيفية لا يخليها الله من رحمته، ولا يحرمها من إجابة ما تطلبه؛ وقد رمز رسول الله
صلى الله عليه وسلم
إلى ذلك بقوله: «ما رؤي الشيطان يوما هو فيه أصغر ولا أدحر ولا أحقر ولا أغيظ منه في يوم عرفة»؛ فقد تطهرت النفوس فيه بالندم على ما جنت، وعقدت فيه العزم على افتتاح صفحة جديدة في حياتها تتجنب الإثم، وتفعل ما أمرت به، وهذا المكان لم يصل إليه الحجاج إلا بكثير من المشقة، وكثير من الشوق، فتتفتح النفوس لتحقيق هذا الغرض، وتتوالى عليها رحمة الله ومغفرته.
وفي الحج كل عام رباط بين المسلمين وتوثيق لصلاتهم، وتعظيم لشعائر الدين التي توارثها الناس جيلا عن جيل إلى إبراهيم وإسماعيل - عليهما السلام - واجتماع كلمة المسلمين، ومجال للتفكير في شئونهم، ومداولة الرأي فيما جد من أمورهم، ومداواة ما لحق بهم، والعمل على إنهاضهم.
وبينما يقف الحجاج بعرفة ويتمون مشاعرهم بالمزدلفة ومنى، يشترك من لم يقدروا على الحج بهذه الذكرى، فيتخذون هذه الأيام أيام عيد، ويصلون صلاة العيد، ويهتفون هتاف الحجاج : الله أكبر الله أكبر الله أكبر ولله الحمد، فتتجاوب هذه النداءات في جميع الأقطار، ويهتفون: لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده؛ فتتلاقى قلوب المسلمين وهتافاتهم على معنى واحد، واتجاه واحد؛ وذلك أحرى أن يتعاونوا على الخير، ويتواصوا بالحق وبالصبر، يهتف القوم في أماكن الحج، فيردد المسلمون نداءهم في بقاع الأرض.
بساطة العيش
تعجبني الحياة البسيطة لا تعقيد فيها ولا تركيب، وأكره ما أكره التكلف والتصنع، وتعقيد الحياة وتركيبها.
ويظهر - مع الأسف - أن المدنية والحضارة تميل دائما إلى تعقيد الحياة، وكلما قرأت في الحضارات المختلفة؛ رومانية، أو إسلامية، أو أوربية حديثة، وجدتها جميعا تتشابه في الميل إلى التعقيد والتركيب، والإسراف في البذخ والترف والرفاهية؛ ففي الحضارة الإسلامية - مثلا - قرأت أن الوزير ابن الفرات تناهى في الترف حتى ما كان يأكل إلا بملاعق البلور، وما كان يأكل بالملعقة إلا لقمة واحدة، فكان يوضع له على المائدة أكثر من ثلاثين ملعقة، وذكروا عن المأمون أن مائدته كانت تبلغ في بعض الأحيان ثلاثمائة لون، وكان راتب أبي طاهر وزير عز الدولة من الثلج في كل يوم ألف رطل، ومن الشمع في كل شهر ألف من، وغضب المأمون على جارية له فأرسلت إليه تفاحة من العنبر مكتوبا عليها بالذهب «يا سيدي تبت».
وكانت أم الخليفة المقتدر تعمل نعالها من ثياب تسمى الثياب الديبقية؛ تقطع على قدر النعال، وتطلى بالمسك والعنبر المذاب، ويجعل بين كل طبقتين من الثياب مسك وعنبر مجمدان، وكان لا يمكث النعل في رجلها إلا أياما ثم ترميه للخدم، وكان النساء المترفات يشترين جلود الثعالب يحضره التجار من سيبريا يبطن به ثيابهن في الشتاء، وقد ذكر المسعودي أن إبراهيم بن المهدي استزار الرشيد: يوما فقدم له على المائدة فيما قدمه له: طبقا فيه قطع من سمك، فقال له الرشيد: لم صغر طباخك قطع السمك؟ قال له: يا أمير المؤمنين هذه ألسنة سمك، فاستحلفه الرشيد أن يخبره عن ثمن هذه الألسنة، فقال له: أكثر من ألف درهم. فرفع الرشيد؛ وأبى أن يأكل منها.
ويشبه هذا ما قرأته مرة في بعض الصحف أن أحد اللوردات من كبار الأغنياء عمل وليمة لبعض الكبراء فقدم فيها طبقا فيه ألسنة بعض الطيور النادرة.
وقرأت مرة أن أمريكا في سنة 1899 كانت اعتزمت أن تقيم في معرض باريس عمودا من الذهب يساوي ما فيه مئتي ألف جنيه؛ إشارة إلى أنها مملكة الذهب.
ومثل ذلك ما جاء في تاريخ الوزراء للصابي أن المعتضد اجتمع في خزائنه تسعة ملايين من الدنانير، فأمل أن يتمها عشرة ويسبكها سبيكة واحدة ويضعها في مكان بمرأى من الناس؛ ليسير في الآفاق أن للمتعضد عشرة ملايين دينارا من الذهب هو في غنى عنها، فاخترمته المنية قبل أن يحقق غرضه.
وأمثلة ذلك في الحضارات القديمة والحديثة، وهي في الحديثة آنق وأترف وأعقد، وقد شمل التعقيد والتصنع والتكلف كل مناحي الحياة، وشمل كثيرا من الأوساط، بعد أن كان في الحضارات القديمة مقصورا على بعض الملوك والأمراء.
هذا فرح يقام في بيت الأغنياء حتى والأوساط فتقوم دنياهم وتقعد وترتبك حياتهم وترتبك، ويمر الشهر والشهران والأسرة لا تعرف للحياة طعما، من خطبة وجهاز وإعداد حفلة وطبع تذاكر الدعوة وتنظيمها ونحو ذلك من مشاكل لا عداد لها، ولا ينتهي الزواج حتى تكون الأسرة كلها قد تهدمت أعصابها وماليتها من كثرة ما لاقت من العناء، وما تحملت من أعباء، وما سبب ذلك إلا ما اندفع فيه الناس من تعقيد وتكلف وتصنع.
وهذه مظاهر الحياة كلها معقدة؛ فالمرأة تقضي نصف عمرها أمام المرآة متصنعة متجملة، وهذه مائدة الأكل يقضى الوقت الطويل في إعدادها وتصفيفها، وهذا الأكل يقضى فيه كل مرة ساعتان أو أكثر في وضع صنف ورفع صنف وتغيير الأطباق وما إلى ذلك.
وهذه الملذات ووسائلها كلها تعقدت وتركبت؛ فالذهاب إلى التمثيل يكلف كثيرا من العناء في المظهر والملبس والمركب، ويحب كل ذاهب إلى التمثيل أن يكون هو في نفسه رواية يتفرج عليه المتفرجون في ملبسه ومشيته ونظراته وما إلى ذلك.
وكل ملذة من ملذات الحياة مشروعة أو غير مشروعة لا تنال على بساطتها وسذاجتها، وإنما تنال على ضروب من التعقيد والتكلف لا نهاية لها.
ومن الغريب أن المتلذذ بهذه الضروب من التكلف لا يلبث أن يعتادها ويألفها على أنها بسيطة ساذجة؛ فيبحث عن وسائل أخرى لزيادة تعقيدها!
ولو كان تعقيد الملذات يزيد في السرور بها لهان الأمر، ولكن الواقع أن تعقيدها يضيع بهجتها ويقلل الاستمتاع بها؛ فالعامل البسيط يتلذذ من منظر رواية بسيطة أكثر مما يتلذذ الغني المترف من رواية معقدة، والمرأة الفقيرة تفرح بجلبابها الجديد البسيط أكثر مما تفرح امرأة غنية بفستانها الأنيق الموشى.
هذا فضلا عما يستوجبه هذا التكلف والتعقد من أسباب التعاسة؛ فكم بيت شقي بسبب امرأة في البيت تتكلف أكثر مما تحتمل ميزانيتها في الملابس وأدوات الزينة! وكم أسرة شقيت؛ لأن رجلا يحتفل بسكره أو قماره أكثر مما يحتفل بضرورات بيته! وكثير من البيوت بائسة؛ لأن حاجة المعيشة تعقدت وتركبت فأصبحت ميزانياتها لا تكفي لضروراتها، وكثيرا ما تضطر تكاليف الحياة وتعقدها أن يسلك الناس سبلا غير شريفة في الحصول على المال الذي تتطلبه تعقدات الحياة، ومن استطاع أن يحتفظ بشرفه عاش في قلق وهم من المطالب الكثيرة التي تحيط به، والتي يستطيع أن يحتملها في نفسه، ولكنه لا يستطيع أن يحتملها في أهله وولده.
حتى المعاملات بين الناس سادها التكلف والتصنع؛ فهذا الغني يتظاهر بغناه بكل مظهر، ويعامل الناس لا كما ينبغي أن يعاملوا به، ولكن على مقدار القدرة المالية، فهو يوزع احترامه واحتقاره بنسبة ما يملك من يعامله من مال أو لا يملك.
وقل أن تجد غنيا بسيطا في عيشته، بسيطا في معاملته؛ والواقع أن الأمر سلسلة متصلة، يتلقى الاحتقار ممن هو أغنى منه، ويوزعه على من هو أدنى؛ حتى نصل إلى الفقير الذي لا يملك شيئا، فهو يحتقر ليس إلا.
وضروب المعاملة والسلوك يسودها التصنع والتكلف ومظاهر الرياء؛ في الوظيفة وفي المصالح الحكومية، وفي المحال التجارية، وفي الحفلات والولائم والأفراح والمآتم، لا شيء من البساطة، ولا شيء من الرجوع للفطرة.
وحتى الآداب والفنون دخلتها الحضارة فعقدتها وملأتها زينة وصناعة ومحسنات لفظية ومحسنات معنوية واستعارة ومجازا وتكلفا في التعبير لا يجري مع الطبيعة، والروائي لا يكون روائيا حقا حتى يغرب، والممثل لا يكون ممثلا حقا حتى يتصنع ويتكلف البكاء والضحك والصياح ولي اللسان والتشدق في الأداء.
وحتى الناس في مخاطبتهم لا يسلكون أقرب طريق للفهم والإفهام، ولا أصدق عبارة وأبسطها للتعبير عما في النفس؛ حتى ليصعب علينا في كثير من الأحيان معرفة الحق في الموضوع لما تمتزج به الحقيقة من شكوك وغموض وإبهام وتصنع وتزويق، مع أن البساطة في التعبير هي خير وسيلة للإقناع والإفهام، ورب كلمة صريحة صادقة بسيطة فعلت ما لا تفعل الخطب المزوقة والأحاديث المنمقة، وخير الأدب ما مال إلى البساطة، وخير التمثيل ما جرى على الطبع، وخير الفن ما عبر عن النفس في بساطة ويسر.
من كل هذا نرى أن الحضارة صحبها في كل نواحيها تعقيد وتكلف ورياء وتصنع وبعد عن البساطة، وأن هذا التكلف والتصنع قد جر من الشرور على العالم ما لا يحصى؛ ولكن هل هذا عرض ملازم للحضارة لا يمكن أن تنفك عنه، أو هو كما يقول المناطقة عرض مفارق يمكن أن يكون ويمكن ألا يكون؟
إن الحضارة درجة في الرقي طبيعية، فلا يمكن ولا من الخير أن يتبدى الناس بعد أن تحضروا، ولكن ألا يمكن أن نتحضر وأن نتبسط معا؟!
لست أرى أن الحضارة من لوازمها التعقيد، بل إني أتصور حضارة سامية تعنى ببساطة العيش، مع انتفاعها بما وصل إليه العلم.
وقد قرأنا أخبارا عن قوم نبلاء عاشوا عيشة البساطة وسط الحضارة، كما فعل تولوستوي في حياته الأخيرة، وقد قرأت قصة لطيفة في كتاب «أدب النديم»؛ إذ حكى أن عبد الله بن طاهر دعاه غني إلى وليمة، ثم أخر الأكل لإعداده إعدادا يتناسب ومقام ابن طاهر فطال غيابه، ثم أحضر من الألوان والتصنع والتكلف ما لا حد له، فلما هم ابن طاهر بالانصراف سأله الداعي: أيأمر الأمير بشيء؟ قال: أن تذهب إلى فلان وتتعلم منه الفتوة، فذهب إليه وكان الوقت وقت غداء، فأمر الخادم أن يحضر ما عنده من غير أن يزيد شيئا، فحضر طعام نظيف بسيط لساعته، ثم قال له: هذه هي الفتوة التي أراد ابن طاهر أن أعلمكها.
على أنا نجد اليوم نزعة ظاهرة في المدنية الحديثة، وهي كراهية التكلف، والسآمة من التعقيد في المعيشة، والإمعان في الملذات، والتصنع في الفن والأدب، والتشدق في الكلام، وهي نزعة ظهرت في نواح كثيرة؛ نرجو أن تعم وتتسع.
ليست البساطة التي نعنيها أن يعيش الناس حياتهم الأولى الساذجة، فليس ذلك في الإمكان، ولا نريد أن يتساوى الناس في المأكل البسيط والملبس البسيط، بل إن البساطة حتى في التفاوت؛ فقد يستطيع الغني في أكله الدسم وسيارته الفخمة أن يعيش مع هذا عيشة بسيطة، وقد يكون فقيرا وهو يعيش عيشة متكلفة، فالغني الذي لا يمعن في الترف، ويأكل ويلبس ويركب خير الأنواع، ولكنه سمح في تصرفاته، بسيط في مبائه، وطرق معيشته، عاطف على الفقراء في ماله، غير ممعن في شهواته، يعيش على قدر دخله، ويحسن بما يحتمله ماله، نقي القلب نحو الناس، لا يتظاهر بغير ما يبطن، وتجري أموره بسيطة سهلة ، يقال: إنه يعيش عيشة بسيطة؛ وقد يكون فقيرا يتظاهر بأكثر من معيشته، ويتكلف أكثر مما يحتمله دخله، ويمعن في لذته ومظهره، وينطوي قلبه على أنه لو نال المال لأمعن في الترف، فهو في هذه الحال أعقد، وأكثر تكلفا من ذلك الغني.
أريد من البساطة الصراحة في القول، والطهارة في التفكير، وعدم الإمعان في المظهر، والتصرف في بساطة ويسر، ونظافة الفكر من كراهية الناس، والتعالي عليهم، والسير في الحياة كما هي من غير كلفة ولا رياء، ولا تظاهر ولا تعقيد؛ فقد تكون مائدة نظيفة بسيطة أشهى عند العاقل من مائدة معقدة مركبة، وقد يكون جمال الفتاة في بساطة حليها وبساطة ملبسها خيرا من حلي مكدسة وثياب مزركشة.
في بساطة العيش راحة النفس، وحفظ الصحة، وحسن التفاهم، والتخفف من الأعباء المالية، وشعور بأن الحياة المادية ليست كل شيء في الحياة؛ حتى يضيع كل الزمن في تعقيداتها وتركيباتها، فهناك حياة روحية سامية جميلة تستحق أن يوفر لها جزء من الزمان، ويخصص لها وقت من التفكير.
غاندي، ذلك الضعيف الجبار
غاندي هو أعظم رجل أنجبته الهند بعد بوذا، ولا يرتاب العارفون بنزعات الهنود في أن غاندي بعد موته سيبلغ ما بلغه بوذا من عبادة وتقديس، ولقد يزعم بعض الزاعمين أن غاندي قد ضؤل اسمه، وانكمشت سطوته، وانمحى كثير من مجده، ولكنه زعم باطل موهوم، فهو عظيم الهند غير مدافع، وحسبك أن ترى بني قومه يتسابقون ليظفروا بتقبيل موطئ قدمه!
ولعل أروع ما يأخذ العين من هذا الجبار العجيب مزجه السياسة بالدين مزجا رفعه إلى منزلة القديسين الأطهار والساسة الأفذاذ في آن معا؛ ولو أمعنت النظر إلى سيرته لألفيتها مجموعة من متناقضات ظاهرة، لا تلبث النظرة الفاحصة أن تتبين فيها اتساقا وانسجاما ووحدة ... فهو مسالم وادع منذ الطفولة الأولى، ولكنه إبان إقامته بإفريقيا الجنوبية أخذ يحشد الجنود لتخدم في إسعاف المحاربين في حرب البوير؛ وهو الذي أخذ يصارع إنجلترا صراعا متصلا، ولكنه اليوم أكبر أصدقاء الإنجليز في ظل الدستور الجديد؛ لأنه ارتأى أن استقلال الهند في الظروف الحاضرة يحققه التعاون مع إنجلترا أكثر مما يحققه استئناف الكفاح؛ وهو ينظر إلى العلم الحديث نظرته إلى الكارثة الفادحة حلت بالبشر، ولكنه يسافر بالقطار والسيارة، ويستعين على ضعف بصره بالمنظار؛ وقد كان من المؤتمر الوطني الهندي بمثابة الروح من الجسد، ومع ذلك لم يكن عضوا فيه؛ وهو يمس كل موضوع من ناحيته الدينية، ولكن أحدا لا يدري من يعبد وبمن يدين ... وهكذا؛ كلما أخذت في دراسة الرجل تبينت فيه مواضع تناقض تقتضيك البحث والتفكير.
وأهم ما يشغله اليوم مشكلة المنبوذين الذين آلى على نفسه أن يرفع من شأنهم ما استطاع إلى ذلك سبيلا؛ ففي الهند أربع طبقات وراثية أنشأها الآريون الغزاة في عصر راسخ في القدم، أنشئوها لتكون لهم بمثابة الحصن المنيع يصون دماءهم أن تمتزج بدماء الأهلين ... وأولى هذه الطبقات: طبقة البراهما؛ ومنهم القساوسة والعلماء، ثم: طبقة الكشاتريا؛ وهي تؤلف فريق المحاربين، والثالثة: طبقة الفيسيا؛ ويشتغل أبناؤها بالتجارة - وهذه هي الطبقة التي خرج منها غاندي - والرابعة: طبقة السودرا؛ ومنهم يخرج العبيد والخدم.
ومما يلفت النظر أن طبقة البراهما وهي أرفعها ينشأ منها أغلب الطهاة في الهند، والأصل في ذلك أنها طبقة الأطهار؛ فلا خوف أن يدنس أبناؤها الطعام والشراب، ولذلك ترى الأسر من سائر الطبقات تؤثر أن يكون طهاتها من أولئك الأنقياء ... أما المنبوذون فهم فريق لا يدخل في هذه الطبقات الأربع، وهم يبلغون واحدا وخمسين مليونا من سكان الهند؛ الذين يقرب عددهم من 350 مليونا.
ليس أمر المنبوذين مقتصرا على فقرهم المدقع، بل هم إلى جانب هذا يقاسون الزراية والامتهان، فلا يجوز لأبناء المنبوذين في بعض جهات الهند أن يلتحقوا بالمدارس، ولا يسمح للمنبوذين أن يستمدوا ماء شرابهم من البئر التي يستمد منها سائر السكان ماءهم؛ وأقسى من ذلك وأمر أن المنبوذ في جنوبي الهند لا يؤذن له أن يبدو أمام أنظار الناس؛ لأنهم يعتقدون أن دنسه يلوث أبناء الطبقات؛ حتى لو كان سائرا على بعد فسيح، فإذا ما أبصر المنكود أحد السادة في أقصى الطريق وجب عليه أن يرجع ليستتر في عشب الحقول، والأغلب ألا يسمح للمنبوذين أن يغادروا أوكارهم إلا في ظلمة الليل؛ حتى لا يكشف عن دنسهم ضوء النهار!
فماذا يرى غاندي في هذا المشكل الجسيم؟! إنه يؤمن إيمانا راسخا بنظام الطبقات ولا يحب أن يمحو منه شيئا، ولكنه يعتقد كذلك أن النبذ زراية لا تليق بالبشر؛ حتى قال: «لأن يفنى الهنود على بكرة أبيهم خير من أن يحيا بينهم نظام المنبوذين»، وهو يسمى النبذ «زائدة فاسدة» يجب أن تبتر من جسم الهند في غير إبطاء، وخطته التي يسعى جاهدا لتحقيقها هي أن تنشأ بالهند طبقة خامسة من هؤلاء البائسين، وبذلك يكون قد احتفظ بنظام الطبقات الذي يؤمن به، ويكون في الوقت نفسه قد أرضى هذه الفئة المبنوذة في جسم المجتمع.
ألا إن هذا الجهاد وحده لخليق أن يسلكه في عقد النوابغ الأبطال! وإنه لبطل بكل ما في الكلمة من معاني البطولة! أليس عجيبا أن ينهض هذا الرجل الضئيل وهو يتلفع بثوب من غزله ونسجه، ليهاجم أعظم إمبراطورية شهدها التاريخ؟!
إن له في قلوب الهنود لمكانة دونها كل مكانة، فهو فيهم دكتاتور من نوع لم يعهده الإنسان، دكتاتور يحكم أتباعه بالحب! فترى صورته عالقة على جدر الأكواخ محفوفة بالإجلال والتكريم، يتشفع بها المرضى ليبرءوا! ويتيمن بها الصغار؛ ليبلغوا منشود الأمل! وما أروع الزراع حين يسلمون أقدامهم إلى الريح زرافات زرافات ... إلى أين هذه الجموع الحاشدة؟! إلى مكان يبعد عشرين ميلا؛ ليشهدوا قطارا فيه زعيمهم غاندي! إنه في قومه نبي المعجزات، إن شاء أشار بخنصره إلى الناس أن شقوا عصا الطاعة للحكومة، فما هو إلا أن ترى القوم من فورهم قد صدعوا بالأمر عن رضا وطواعية.
فمن عسى أن يكون هذا الرجل الذي يحرك خمسين وثلاثمائة مليون من البشر بلفظة واحدة تنحدر من بين شفيته، من هذا الجبار الذي يتحكم في خمس سكان الأرض بأسرها؟!
هو «مهانداس كرمشاند غاندي» الذي ولد في الثاني من شهر أكتوبر عام 1869، أي إنه قد أوشك على السبعين ... وهو سليل أسرة تولى أبناؤها أرفع المناصب، فأبوه وجده كانا رئيسي وزارة الإقليم؛ وقد تزوج أبوه أربع مرات، وكان غاندي أصغر أبناء الزوجة الرابعة؛ وهي امرأة اشتدت فيها النزعة الدينية فأثرت في ابنها أثرا عميقا.
نشأ غاندي قوي العقيدة راسخ الإيمان، لا يكاد ينحرف عن الجادة حتى يعود في توبة وعزم جديد ... قال له أحد أصدقائه في صدر الشباب: إن ضعف الهنود يعزى إلى امتناعهم عن أكل اللحم، وإن الإنجليز لم يحكموا الهند إلا لأنهم من أكلة اللحوم، فاعتزم غاندي أن يذوق هذا الطعام الممنوع، ولم يكد يفعل ذلك حتى وخزه الضمير وخزا أنزل به العلة، وانتابه في المساء حلم فظيع رأى فيه عنزة حية تتقيأ في جوفه ... وأغراه صديق آخر واقتاده إلى بيت داعر، وفي ذلك يقول: «كاد يصعقني الخرس والعمى حين وطئت قدماي وكر الرذيلة، لقد زللت بين أنياب الخطيئة، ولكن الله عاجلني برحمته» ... وحدثته النفس مرة أن يدخن لفيفة - وهي محرمة - فكاد بعدئذ يزهق نفسه من تأنيب الضمير ... ويروى أنه لم يكذب في حياته قط!
وتزوج غاندي في سن الثالثة عشرة من فتاة في العاشرة من عمرها، وفي ذلك يقول: «لم يدر بخلدي يوم الزفاف أن سيأتي يوم أوجه فيه إلى أبي مر النقد على تزويجه إياي في سن الطفولة؛ فقد كان كل شيء يبدو في ذلك اليوم سارا جميلا، وكنت شديد الرغبة في الزواج» ... وكانت زوجته أمية فأراد أن يعلمها، ولكنه وقف في ذلك عند الكتابة والقراءة.
وكأنما أراد غاندي أن ينتقم لنفسه من هذا الزواج الباكر، فلم يكد يبلغ سنته الأولى بعد الثلاثين حتى اعتزم كبت شهوته، وفرض على نفسه عزوبة امتدت إلى يومه هذا، وإنما فعل ذلك ليكون خطوة نحو تملكه زمام نفسه، وسيطرة إرادته على جموح شهوته، ويقول مؤرخو حياته إن ذلك هو المبدأ الأول الذي انتهى به آخر الأمر إلى إعلان المقاومة السلبية السلمية.
ولما أكمل دراسته في جامعة «أحمد أباد» قصد إلى لندن؛ ليتمم دراسة القانون، ولم يكن ذلك أمرا يسيرا؛ لأن عبور البحر، عند الهنود المستمسكين بتقاليدهم، مجلبة للدنس؛ ولذا قضى عليه أولو الأمر في طبقته بالطرد من عشيرتهم، والحرمان من كل حقوقه، ولكن ذلك لم يحل دون سفره، فنذر أمام أمه ألا يأكل لحما، ولا يشرب خمرا، وألا يقرب النساء، وانطلق في سبيل العلم إلى كعبته المنشودة.
وعاد إلى أرض الوطن بعد أعوام ثلاثة، واشتغل بالمحاماة في بومباي، ويروى أنه حين نهض في أولى قضاياه ليسأل شاهدا، اعتراه خجل عقل لسانه، واضطر إلى الجلوس دون أن يلقي سؤالا واحدا ... ومضت أعوام لم يزدهر فيها الأمل، فشد رحاله إلى أفريقيا الجنوبية لعله يصادف فيها ما لم يستطعه في الهند، وهكذا كان، فإنه لم يلبث أن استقر في تلك البلاد حتى علا صوته فيها، فقضى هنالك عشرين عاما راضيا سعيدا؛ وهذه الأعوام العشرون كانت بمثابة فترة يتأهب فيها لما ألقي على عاتقه فيما بعد ... ففي جنوبي أفريقيا أخذ التياران الأساسيان اللذان يكونانه يظهران ويشتد مجراهما من نفسه: الأول: اتجاهه إلى مذهب المسالمة؛ فقد طالع رسكن وتولستوي، وأخذ بمثلهما العليا، والثاني: عنايته بالقومية الهندية، وأخذ منذ ذلك الحين يدافع عن حقوق الهند، فأسس صحيفة «الرأي الهندي» وأصدر أول كتبه «استقلال الهند»، وأصبح زعيما غير مدافع للجالية الهندية في جنوبي إفريقيا، وهي كثيرة العدد، وقد أودع السجن هنالك ثلاث مرات.
وقد أخذ غاندي يروض نفسه ويغذي روحه ويكتسب الدربة العملية؛ ومن طريف ما يذكر في هذا الصدد أنه اعتزم أن يزداد دراسة للكتب المقدسة الهندية؛ ليشتد قربه من روح الهند، ولكنه لم يجد في وقته من الفراغ ما يحقق له أمنيته، أوتدري ماذا فعل؟ إنه علق بعض آيات الكتاب التي يريد حفظها في أعلى الحوض الذي يقف أمامه عند غسل أسنانه؛ ليتلوها في الدقائق التي خصصها لذلك من كل صباح!
ويجدر بنا أن نذكر عنه نبأ آخر يلقي ضوءا على جانب الإيمان منه ؛ فقد روى عن نفسه في كتاب سيرته أنه خاطب نفسه ذات يوم قائلا: «إنه لو أدركني القضاء المحتوم لوقع عبء زوجي وأبنائي على أخي المسكين» وأمن من فوره على حياته بمبلغ جسيم؛ ليضمن لأهله رغد العيش من بعده، ولكنه ما لبث أن قال: «لماذا أفرض أن الموت سيدركني قبل سواي؟ إن الله وحده هو الذي يرعى زوجي وأبنائي، وليس أخي براعيهم، إنني إذا أمنت على حياتي من أجل زوجي؛ فقد أحرمها بذلك كما أحرم أبنائي من نعمة الاعتماد على النفس، ولماذا لا أتوقع منهم أن يعنوا بأنفسهم؟ ماذا جرى للأسر التي لا يحدها الحصر؛ والتي لا تملك من حطام الدنيا شيئا؟ ولم لا أعد نفسي واحدا من هؤلاء؟»
وأما طعامه فقد اختار لنفسه بعد سلسلة طويلة من التجارب، لبن الأغنام؛ لما رآه فيه من صفات تمكنه من ضبط نفسه، وقرر أن يصمت عن الحديث يوم الاثنين من كل أسبوع؛ ليكون وسيلة أخرى لضبط النفس؛ وهكذا مضى وهو في جنوبي أفريقيا حتى اشتد مراسه، وازداد صلابة فيما يمس مبادئه، ولينا وهوادة في توافه الأمور.
هذا هو غاندي في سن الخامسة والأربعين، حين عاد إلى الهند عام 1914؛ حيث بدأ جهاده الأكبر.
عاد غاندي إلى أرض الوطن، وقضى عامه الأول متنقلا بين ربوع الهند؛ ليساهم في بعض الخدمات الاجتماعية؛ لكي يمس شئون بلاده عن كثب، ولم يكد يسلخ بعد عودته عاما حتى أنشأ لنفسه صومعة أطلق عليها اسما معناه بلغة بلاده «قوة الروح» ولكن اللفظة أسيء استخدامها فيما بعد، وأصبحت تعني «العصيان»، وحج إليه الأتباع ومن بينهم نفر من المنبوذين، وأخذوا على عواتقهم بين يديه ألا يقولوا إلا الصدق، وأن يسلكوا في الحياة طريق المسالمة، وأن يأخذوا بالمبدأ النباتي في الطعام، وأن يرفضوا الملك، وألا يتزوجوا، وأخذ اسم غاندي يرن في جوانب الهند من أقصاها إلى أقصاها؛ حتى أطلق عليه اسم «المهاتما» ومعناها «الروح العظيم».
وما كادت تضع الحرب الكبرى أوزارها حتى أخذ الهنود يطالبون الإنجليز الحاكمين بحصر نفوذهم، فأجاب الإنجليز ولكن في كز وتقتير، فلم يرض الهنود بما منحوه من حكومة ذاتية مغلولة الأيدي، فنهضت إنجلترا من فورها تشكم هذه الحركة النامية بيد من حديد، فأثار هذا العنف نفوس الهنود، وهبوا جادين عازمين؛ وعلى رأسهم غاندي.
وأصدرت إنجلترا قانونا فيه روح القسوة، فقابله الهنود بإضراب عام، وما جاءت سنة 1919 حتى نزلت النازلة ووقعت المأساة الفادحة؛ إذ أمر قائد إنجليزي أن يطلق الرصاص على حشد من الهنود العزل، رجالا ونساء وأطفالا، وكانوا بحيث لا يستطيعون الهروب، فقتل منهم مئات وجرح مئات، فقامت الهند، ولكنها قومة هادئة صامتة لا يصحبها الصخب والزئير؛ إذ أعلنت على الحاكم عصيانا مدنيا، وما هو إلا أن ذاع العصيان في ربوع الهند ذيوعا قويا سريعا، وقد اتخذ منه غاندي أداة سياسية وقوة روحية في آن معا ... هكذا دعا المهاتما قومه إلى المسالمة وضبط النفس وإنكار الذات، فكانت دعوة صائبة من زعيم يفهم شعبه، دعوة يفهمها الهنود الذين مرنت نفوسهم على الرياضة العنيفة، فمست منهم حبات القلوب؛ لأنها جاءت من طبيعة دينهم في الصميم، وخلقت من الهنود أسودا.
ماذا يصنع الإنجليز أمام شعب صمم أن يقابل العنف باللين، والقسوة بالعصيان الصامت الذي لا يرفع إصبعا لمقاومة؟ ماذا يصنع الإنجليز، وهم يشهدون ألوف الألوف من الشبان الهنود الذين تقاطروا زرافات إلى السجون؛ يطالبون الحكومة أن تودعهم بين أغلالها مختارين طائعين؟ إن العقل الأوربي لم يكد يفهم هذه الدعوة التي وجهها غاندي إلى أمته، أن يتخذوا موقف المقاومة السلمية السلبية! نعم؛ لم يفهمها العقل الأوربي حتى شخصت نتائجها أمام بصره وسمعه!
وأمعنت الحكومة في عنفها، فأعلن المؤتمر الهندي مقاطعته للبضائع الإنجليزية، وقرر الأعضاء أن تمنع ناشئة الهند من مدارس الحكومة، وأن تسحب القضايا من المحاكم، وأن يتخلى الموظفون عن وظائفهم الحكومية، وألا يدفع الأهلون الضرائب، وألا يلبس الهندي إلا قطنا غزلته أيدي الهنود.
وقبض على غاندي في عام 1922، فاستمع إلى هذا الجبار يخاطب الاتهام قائلا: إن جريمتي أكبر جدا مما ذكرت في دعواك! ثم نظر إلى القاضي وتوسل إليه أن يقضي بأقصى عقوبة يبيحها القانون!! وحكم القاضي بسجنه ست سنوات، فأجابه غاندي بالشكر، وقد أتاح له السجن عزلة أحبها، ويقول في ذلك: «كنت في السجن سعيدا كالطائر المرح»، ولكن الحكومة أطلقت سراحه بعد عامين اثنين.
وحدث بعد ذلك بسنة واحدة أن اشتبك الهندوس والمسلمون في خصومة وعراك، فقرر غاندي أن يصوم واحدا وعشرين يوما؛ ليحتج بصومه على نزاع ينشأ بين فريقين من أبناء الوطن، فلبثت البلاد كلها تنتظر هذه الأيام وهي مقطوعة الأنفاس من خشية الخطر، وانقضت أيام الكفارة بخير، وقطروا في فم الزعيم قطرات من عصير البرتقال، ولكنه لم يقو على الكلام والحركة إلا بعد حين.
وجاءت بعد ذلك سنوات خمس شداد؛ إذ أرسل الإنجليز بعثة سيمون إلى الهند؛ لتمهد الطريق لوضع دستور جديد، ولكن المؤتمر الهندي لم يعد يرضى القليل، وطالب للبلاد باستقلال تام، فاشتد الحاكمون، فبدأ العصيان المدني من جديد، وافتتح غاندي عصيانه هذه المرة بما يسمى «غزوة الملح»، فقد كان الملح ولا يزال محتكرا في يد الحكومة تفرض عليه ضريبة باهظة يقع عبئها على الفقراء، فأخذ المهاتما يشق طريقه إلى البحر في جمع من أعوانه، واخترق البلاد من شرقيها إلى غربيها سيرا على قدميه، وكانت نار الثورة تشتعل في إثره أينما سار، وهكذا مضى حتى بلغ شاطئ البحر، فركع وأخذ يستخرج من الماء ملحا لا تثقله ضريبة الحكومة، واحتذاه قومه، فكانت ضربة قاسية على الحكومة، وضربا نادرا من الاحتجاج والعصيان!
وانتهت الموقعة آخر الأمر إلى اتفاق تسامح فيه الإنجليز بعض الشيء، وتنازل فيه الهنود بعض الشيء، وهو الموقف القائم اليوم.
ويقضي المهاتما الآن عامه في قرية منعزلة تسمى «سيجاون»، تقع في أكثر جهات الهند انحطاطا وبعدا عن المدنية، وقد اختار هذا المكان القصي الذي يطوقه الوحل أربعة أشهر من السنة، وليس فيه طبيب ولا بريد، اختاره عامدا؛ لأن أغلب سكانه من المنبوذين، وقد أطلق عليهم اسم «أبناء الله»؛ ليدعو بذلك إلى دمجهم في جسم الأمة، وليقيم البرهان على أن المذهب الغاندي لا يصلح للطبقات المستنيرة وحدها، بل تنبت بذوره في أشد جهات الوطن تأخرا وجهلا.
يستيقظ غاندي كل يوم في الساعة الرابعة والنصف؛ ليؤدي صلاة الصبح، ثم يرتاض سيرا على أقدامه سيرا سريعا، لا يحول دون ذلك انهمار المطر، وهذه عادة نشأ عليها منذ شبابه، ويروى في ذلك نبأ ظريف؛ وهو أن غاندي كان يؤدي رياضته هذه وهو في لندن، وكان يسير كعادته سيرا سريعا قلما يلحقه أحد فيه، فشكا رجال الشرطة المكلفون بحراسته ما يكلفهم من جهد وإعياء حين يحاولون متابعته في سيره!
وإن له لإيمانا قويا لا يفتر؛ فهو يؤدي شعائر صلاته إذا حل موعدها مهما تكن الظروف المحيطة به؛ فقد كان وهو في لندن لا يأبه بمكانة من يجالسهم، ولا بمنزلة المكان الذي يحل فيه إذا جاء وقت الصلاة، فتراه ينزل إلى أرض الغرفة؛ حيث يجلس مشبوك الساقين مطأطئ الرأس؛ حتى إذا ما فرغ من فريضته عاد إلى كسريه واستأنف الحديث، فعل ذلك حتى وهو في مجلس العموم البريطاني! وهو يصلي مرتين في كل يوم، عند الشروق مرة وعند الغروب أخرى.
وإن هذا الرجل الذي يأكل الحد الأدنى من الطعام، لا يفتأ في عمل متصل لا ينقطع؛ فهو يستقبل الزائرين، ويتحدث إلى مستشاريه، وينجز ما يعرض له من أمور كثيرة، وما أكثر ما يعرض له من الشئون؛ لأن عاصمة الهند القومية تكون حيث يكون؛ وقد اختار لنفسه من ألوان الراحة والاستجمام أن يجلس في حوض من الماء الساخن أربعين دقيقة قبل أن يأوي إلى مخدعه، وكثيرا ما يطالع وهو مغمور في حوضه بالماء!
ويتلخص برنامجه الذي يوجه إليه مجهوده اليوم في خمسة أشياء: تشجيع الغزل والنسج، وجعل التعليم في القرى تعليما صناعيا، وتحسين الحالة الصحية، ودمج المنبوذين في جسم المجتمع، وتنشيط الصناعة القروية.
يقول غاندي: «إنني أرى كل شيء يتغير ويموت، ولكن وراء هذه الظواهر المتقلبة قوة حية لا تخضع للتغير، قوة تمسك بيدها كل شيء، تخلق وتميت، وتعيد الخلق؛ تلك القوة هي الله ... إنه خير مطلق؛ لأنني أرى الحياة ظافرة رغم تتابع الموت، وأرى الصدق منتصرا رغم ما يكتنفه من أكاذيب، وأرى النور ساطعا رغم ما يحجبه من ظلام، ومن هذا أستنتج أن الله هو الحياة والصدق والنور، هو الحب، هو الإله الأعلى».
وعلى الرغم من أن غاندي هندوسي متدين، إلا أنه يعتقد أن الكتب المقدسة كلها على اختلاف دياناتها، هي كلمة الله؛ القرآن والإنجيل والتلمود والأفستا وكتاب بوذا؟!
هذه صورة لغاندي الجبار الذي نفخ في الهند روحا، فأحياها بعد موت، وعلمها كيف تعرف حقها، وتزهى بنفسها، إنه رجل؛ والرجال قليل.
العصر الأموي وخلفاؤه (1)
من قديم في العصر الجاهلي كان يتنازع الشرف فرعان من قريش من ولد عبد مناف، لا يدانيهما في ذلك بيت؛ وهما بيت هاشم وبيت أمية، وكان بنو أمية أكثر عددا وأوفر رجالا، وكثيرا ما تنافر هاشم وابن أخيه أمية إلى حكم يحكم بينهما أيهما أشرف، على عادة العرب في الجاهلية، وكان هشام له الرفادة والسقاية في البيت الحرام، وكان رجلا موسرا، وكان كريما، وكان يوسع على العرب عند حجتهم، ويطلب من ذوي المقدرة أن يتبرعوا بما في استطاعتهم، ويخرج هو عن كثير من ماله، فينظم إطعام الطعام والتروية بالماء، ويعد الحجيج ضيف الله وضيفه؛ فمن أجل هذا كان يحكم له بالشرف، كما كان من الأمويين من نال السيادة وسودته قريش كلها، كحرب بن أمية؛ فقد كان رئيس قريش في حرب الفجار، ورووا أن قريشا تواقعوا ذات يوم؛ وحرب هذا مسند ظهره إلى الكعبة، فتبادر إليه غلمة منهم ينادون: يا عم، أدرك قومك، فقام يجر إزاره حتى أشرف عليهم من بعض الربا، ولوح بطرف ثوبه إليهم أن تعالوا، فبادرت الطائفتان إليه بعد أن كان حمي وطيسهم.
إذا؛ كان كل من البيتين الهاشمي والأموي عظيما في الجاهلية.
فلما جاء الإسلام زاد البيت الهاشمي شرفا بمحمد رسول الله الهاشمي، ولكن الإسلام لم يعبأ بالعصبية القبلية الجاهلية، وجاء يزن الناس بميزان آخر غير الدم والجنس والقبيلة؛ هو ميزان العمل الصالح، لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى، ولما هاجر رسول الله إلى المدينة ساوى بين الناس، وآخى بينهم، وترك مكة للمشركين تعمل فيهم العصبية الجاهلية، وخلا الجو بمكة ممن ينازع الأمويين الشرف من عظماء بني هاشم؛ فقد مات أبو طالب الهاشمي وهاجر بنوه إلى المدينة، وهاجر حمزة الهاشمي والعباس وأكثر بني عبد المطلب، فتزعم أبو سفيان الأموي أمية كلها والمشركين كلهم من قريش، وكان رئيسهم في غزوة أحد، بل تزعم المشركين أيضا من غير قريش فكان قائدهم كلهم في غزوة الأحزاب.
ولما فتح النبي
صلى الله عليه وسلم
مكة قال له العباس: إن أبا سفيان رجل يحب الفخر فاجعل له ذكرا، فقال: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن. وأراد مشركو مكة وعلى رأسهم أبو سفيان بعد الإسلام أن يعوضوا ما فاتهم، ويكفروا عن سيئاتهم؛ فأبلوا في حروب الردة وفي الفتوح الإسلامية بلاء حسنا.
ولكن العصبية التي دعا الإسلام إلى إماتتها لم تمت، وظلت تعمل عملها وتشرئب بعنقها كلما دعا داع إليها.
ومما يلاحظ أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
استعمل على البلدان كثيرا من بني أمية؛ فقد مات
صلى الله عليه وسلم
وعامله على مكة أموي؛ وهو عتاب بن أسيد بن أبي العيص بن أمية، وقسم اليمن على خمسة رجال؛ أحدهم خالد بن سعيد بن العاص بن أمية، واليا على صنعاء، وأبان بن سعيد بن العاص بن أمية واليا على البحرين، وعمر بن سعيد بن العاص بن أمية واليا على تيماء وخيبر وتبوك وفدك، وأبو سفيان بن حرب واليا على نجران؛ وهكذا، وليس من بينهم هاشمي.
وكذلك فعل أبو بكر وعمر، فلم يكن في أعمال رسول الله ولا في أعمال أبي بكر وعمر أحد من بني هاشم.
ومن الجلي أن هذا لم يحدث عفوا، وهو أمر يلفت النظر، فهل كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يريد أن يفهم الناس أن أمر الولاية لا يرجع إلى بيت ولا إلى عصبية ولا إرث، وإنما الأمر للمسلمين يختارون من يرونه أحق بالولاية وأقدر على الصالح العام، وأكفأ للمهمة التي ينتدب لها، فإن كانت مهمة حربية اختير لها أكفأ الرجال في الحرب، وإن كانت سياسية اختير لها أسوس الناس وأصلحهم لتدبير الأمر، كما يريد أن يعلمهم درسا راقيا وهو أنه فوق أن يتحزب لبيته وأن يتعصب لقومه، وأنه عادل عدلا مطلقا، سواء عنده أهل بيته وغيرهم، إنما تهمه دعوته وتعاليمه وتطبيقها على أحسن وجه على أي يد كانت! لعله أراد ذلك كله.
جعل عمر الخلافة بين ستة، وكان أظهر هؤلاء الستة علي الهاشمي وعثمان الأموي، فتحركت العصبيات القديمة، ولم يضع المسلمون أول أمرهم نظاما محكما لمن يلي الخلافة، ولا وضعوا نظما للشورى، ولا أهل الحل والعقد، ولا غير ذلك من المسائل الهامة، فمني المسلمون بالخلاف على الخلافة طوال العصور، روي أن معاوية سأل من في مجلسه يوما عما شتت أمر المسلمين وخالف بينهم، فأجيب إجابات لم تقنعه، فقال هو: لم يشتت أمر المسلمين إلا الشورى التي جعلها عمر في الستة، فلم يكن منهم إلا رجاها لنفسه، ورجاها له قومه، وتطلعت إلى ذلك نفسه، ولو أن عمر استخلف عليهم كما استخلف أبو بكر؛ ما كان في ذلك اختلاف.
لما ولي عثمان الأموي الخلافة تغلب الحزب الأموي، وكان أكثر عمال الولايات منهم؛ فعلى الشام معاوية بن أبي سفيان، وعلى البصرة عبد الله بن عامر الأموي، وعلى مصر عبد الله بن سعد الأموي؛ وهذه هي الولايات العظام، فإن كان كثير من الولاة من غير الأمويين فهي ولايات فرعية يرجع أمراؤها إلى هؤلاء الأمويين العظام؛ ففارس تابعة للبصرة، وإفريقيا تابعة لمصر، وأقسام الشام تتبع والي الشام؛ وهكذا.
فطابع عهد عثمان طابع حكم حزبي، وهذا يخالف الطابع الذي كان في عهد النبي
صلى الله عليه وسلم
والخلفاء قبله، فإنه كان غير ملون بلون حزبي.
قتل عثمان الأموي فتشتت أمر المسلمين تشتتا فظيعا لم يعهدوه من قبل:
الحزب الأموي وهو يطالب بدم عثمان، ويضم الأمويين وأتباعهم وصنائعهم ومن استخدمهم ولاة الأمصار من الأمويين، وهؤلاء كانوا أول الأمر لا ينادون بخليفة معين، ولا باسم بالذات، إنما يطالبون بدم عثمان، ويناهضون عليا، ثم تطورت الأمور حسب الأحداث، وتركزت حول «معاوية» ونودي به في حزبه خليفة، وعماد هذا الحزب «الشام».
حزب طلحة والزبير، ويضم هذا الحزب أنصارهما وأتباعهما، وعائشة أم المؤمنين.
حزب علي، ويضم الهاشميين وكثيرا من كبار الصحابة كأبي ذر الغفاري، وأبي أيوب الأنصاري، وكان له أنصار كثيرون بالمدينة والعراق.
حزب أبناء عمر بن الخطاب، وكان له دعاة قليلون: من أظهرهم أبو موسى الأشعري؛ يدعو لعبد الله بن عمر بن الخطاب، وإن لم يكن هو يدعو لنفسه.
وأخيرا حزب الخوارج، وهم لا ينادون بشخص معين، ولكنهم يرون أن الحق في الخلافة ليس مقصورا على قريش، وإنما هي عامة في جميع المسلمين، وأن الأحق بالخلافة أصلح الناس ومن رآه المسلمون أحق بالخلافة ولو كان عبدا حبشيا، فإذا اختير فهو أمير المؤمنين، ويجب عليه أن يحكم بكتاب الله وسنة رسوله، ومنهم فرقة كانت ترى أن ليس من حاجة إلى خلافة، وعلى الناس أن يسيروا على الحق من أنفسهم ونادوا: «لا حكم إلا لله».
تناحرت هذه الأحزاب وتقاتلت، وسفكت فيها الدماء أنهارا مما لا محل لذكره، ولم ينج من هذا القتال إلا قوم غسلوا أيديهم من هذه الفتن كلها، وامتنعوا أن يدخلوا في نزاع بين المسلمين بعضهم وبعض، وكان من هؤلاء: أبو بكرة، وعمران بن الحصين، وعبد الله بن عمر، وسميت هذه الفرقة بعد بالمرجئة.
بعض هذه الأحزاب انقضى سريعا واختفى من ميدان القتال؛ كحزب طلحة والزبير، ولكن القتال العنيف كان بين علي الهاشمي، ومعاوية الأموي، وأخيرا وأخيرا جدا صفا الجو لمعاوية وأسس الدولة الأموية.
ولانتصاره أسباب لا بأس من الإشارة إليها:
فمن ذلك ما أشرنا إليه قبل من كثرة الأمراء الذين حكموا الأمصار من الأمويين وتسلطوا عليها وبثوا نفوذهم فيها، خذ مثلا الشام؛ وهي أهم عنصر في نصرة الأمويين؛ فقد وليها يزيد بن أبي سفيان، ثم لما مات وليها معاوية عشرين عاما قبل الخلافة، والأمويون على وجه العموم كانوا في سياستهم أكثر تمشيا مع الزمن، يعرفون نفسية العرب وعصبيتها ومنازعاتها وخصومتها، وكيف يستجلبونها لناحيتهم بالمصاهرة أحيانا، وبالمال أحيانا، وبالمداراة أحيانا، وبالحلم أحيانا، وبالشدة أحيانا، كما هو شأن السياسة دائما، وعنوان سياستهم ما قاله زعيمهم معاوية: «إنا لا نصل إلى الحق إلا بالخوض في كثير من الباطل»؛ ولكن عليا وحزبه يريدون أن يسيروا على الخط المستقيم فقط من غير لف ولا دوران، والسياسة كثيرا ما تحتاج إلى لف ودوران، ويعجبني ما قرأت من أن عليا سئل عن بني أمية وبني هاشم؛ فقال: بنو أمية أكثر وأنكر وأمكر، ونحن أفصح وأصبح وأسمح.
وكان من أساليب الأمويين؛ وعلى الأخص معاوية؛ أنه استطاع أن يضم إليه دهاة العرب وأمكرهم كعمرو بن العاص، وعبد الرحمن بن خالد، وحبيب مسلمة الفهري، وبسر بن أرطاة، والضحاك بن قيس، وشرحبيل بن السمط الكندي، وهؤلاء كانوا من كبار قواد العرب في الجيوش، ومن كبار الدهاة في السياسة والإدارة، وقد عرف معاوية أن يضمهم إليه بأساليبه، ويستخدمهم لتحقيق أغراضه، فأبلوا في ذلك بلاء عظيما، وكون منهم ومن أمثالهم مجلس شورى يجمعهم ويعرض عليهم الأمر فيقلبونه على جميع وجوهه في تنظيم محكم وترتيب دقيق وسرية منيعة.
أضف إلى ذلك الفرق الكبير بين جند معاوية وجند علي، فطالما شكا علي (رضي الله عنه) من جنده، وفخر معاوية بجنده، لقد كان جند علي تغلب عليهم البداوة، وكانوا في العراق تتوزعهم العصبية القبلية والأهواء المختلفة، يصعب جمعهم على كلمة، واتفاقهم على رأي، ولذلك لاقى منهم علي الأمرين في الآراء المتناقضة: هؤلاء يقولون بالتحكيم، وهؤلاء يرفضونه، وهؤلاء يقولون بمداومة القتال، وهؤلاء يقولون بوقف القتال، وإذا جاء دور التحكيم اختلفوا اختلافا شديدا على من يمثلهم: الأشتر النخعي، أم أبو موسى الأشعري؟ أم لا هذا، ولا ذاك؟ إلى كثير مما رواه التاريخ من وجوه الخلاف التي لا حد لها، أما جند معاوية فنواتهم الشام، وأكثر عربهم وجندهم كان من اليمن، وقد ألفوا روح النظام قديما، واتصلوا بالرومان من عهد الغساسنة، فلم نسمعهم اختلفوا في الآراء اختلاف جند علي، ينادون بالتحكيم، فيقولون به جميعا، ويسمعون بمن يمثلهم، فيقولون به جميعا، والجندية عمادها النظام والطاعة.
ويعجبني ما روي عن معاوية أنه قال: «أعنت على علي بثلاث: كان رجلا ظهرة علنة، وكنت كتوما للسر، وكان في أخبث جند وأشده خلافا، وكنت في أطوع جند وأقله خلافا، وخلا علي بأصحاب الجمل، فقلت: إن ظفر بهم أعددت ذلك عليه وهنا، وإن ظفروا به كانوا أهون شوكة علي منه».
على كل حال تم الأمر لمعاوية، واجتمع الناس عليه خليفة للمسلمين بعد أن تنازل الحسن بن علي، وبايع له سنة 41، وسمي هذا العام عام الجماعة، وظل معاوية بعد ذلك خليفة نحو تسعة عشر عاما يؤسس الدولة ويضع دعائمها.
لقد كان منذ صغره تظهر عليه مخايل السيادة، نظر إليه أبوه فرأى عظم رأسه ومخايل سيادته، فقال: إنه لخليق أن يسود قومه، فقالت هند أمه: قومه فقط! ثكلته إن لم يسد العرب قاطبة! وتفرس فيه رسول الله
صلى الله عليه وسلم
ذلك فقال له يوما: يا معاوية إن وليت أمرا فاتق الله واعدل. وكان عمر إذا دخل الشام ورأى معاوية قال: هذا كسرى العرب، وقال عبد الله بن عمر: ما رأيت أحدا بعد رسول الله أسود من معاوية. فقيل له؟ فأبو بكر وعمر وعثمان وعلي، فقال: كانوا والله خيرا من معاوية، وكان معاوية أسود منهم. وذمه قوم عند عمر، فقال عمر: دعونا من ذم من يضحك عند الغضب، ولا ينال ما عنده إلا على الرضا، ولا يؤخذ ما فوق رأسه إلا من تحت قدميه.
بانتقال الخلافة إلى معاوية أخذت شكلا جديدا لا عهد به للمسلمين من قبل؛ أهمها: حصر الملك في أسرة واحدة، وهي أسرة الأمويين، وقد كانت قبل تعتمد على اختيار الخليفة، أو اختيار أولي الحل والعقد، بل جعلها معاوية كذلك وراثية، فعهد بالأمر من بعده لابنه يزيد، وكان لهذا الاتجاه أضرار كثيرة، ومنافع كثيرة لا مجال لشرحها، كما انطبعت الدولة الأموية من عهد معاوية بالطابع العربي، والأرستقراطية العربية، وتفضيل الدم العربي على غيره من الدماء، وتلا ذلك نظرهم إلى الموالي من الأمم الأخرى نظرة حاكم لمحكوم، وقاهر لمقهور، كما أن انتقال العاصمة من المدينة إلى دمشق مسكن الرومانيين من قبل، مهد للعرب أن يقتبسوا من المدنيات القديمة في نظمهم وسياستهم؛ كل هذا كان مظهرا من مظاهر انتقال الحكم إلى الأمويين.
العصر الأموي وخلفاؤه (2)
تحدثت عن البيت الأموي إلى أن بويع لمعاوية بالخلافة عام الجماعة سنة إحدى وأربعين.
وقد دامت الخلافة فيهم نحو تسعين عاما.
لجأ البيت الأموي في تأسيس ملكه إلى استعمال الدهاء والقوة والعنف، وكان عنوان سياستهم المبدأ الذي وضعه رأسهم معاوية؛ إذ يقول: «إنا لا نصل إلى الحق إلا بالخوض في كثير من الباطل»، وأخطأوا في بعض الأحيان في عدم الموازنة بين مقدار الحق الذي يريدون الوصول إليه، ومقدار الباطل الذي يخوضونه، ولم يكتفوا أحيانا بالوصول إلى الغرض من أقرب طرقه وألبقها، بل عمدوا إلى أعنف الطرق وأكثرها إثارة للنفوس وهز المشاعر، كحادثة مقتل الحسين، ورمي الكعبة بالمنجنيق.
وجعلوا نظام الحكم هو نظام البيعة بولاية العهد، بعد أن كان بانتخاب الأصلح من غير تقيد بأسرة، وجر هذا إلى أن الخليفة قد تحمله عاطفة الأبوة على أن يعهد بالأمر من بعده لابنه؛ وقد يكون أبعد الناس لصلاحيته للخلافة، كما أنه أدى إلى نوع من اليأس في البيوت الأخرى التي كانت تطمح إلى الخلافة؛ كالبيت الهاشمي، وبيت الزبير.
أضف إلى ذلك أن الحرب بين علي ومعاوية أوجدت معسكرين إقليميين؛ وهما: الشام، والعراق، بينهما ترات كترات الشخصين المتقاتلين، كل منهما يريد أن يثأر لنفسه من أعمال خصمه، فإذا انتصرت الشام طوى العراق نفسه على الغل وانتهاز الفرص، وأحست الشام بذلك فكانت تبعث إلى العراق جبابرتها من أمثال: زياد بن أبيه، وابنه، والحجاج، فكان هؤلاء يحكمون حكم قمع وجبروت وانتقام وأخذ بالظنة، في غير هوادة، ولا رحمة.
ومن ناحية البيت الأموي نفسه كان نظام البيعة بولاية العهد يثير الخلاف بين الابن الذي يعهد إليه، وإخوته الذين قد يرون أنفسهم أحق بالأمر منه؛ لكفايتهم وعظم صلاحيتهم.
كل هذا وأمثاله جعل الدولة الأموية لم تهدأ من ثورات تكاد تكون مستمرة؛ فالبيت الهاشمي ينتهز كل فرصة للثورة؛ لاسترداد الموقف، وينظم دعوته السرية، ويسبب متاعب للبيت الأموي لا تنتهي، فالحسين يخرج ويقتل، والمختار يطالب بثأر الحسين، ويدعو لمحمد ابن الحنفية، وكلما قتل إمام دعا إمام هاشمي إلى نفسه سرا، ثم جهرا، فيحبس أو يقتل طوال العهد الأموي.
وعبد الله بن الزبير يحل في خلافه مع البيت الأموي محل أبيه الزبير بن العوام في منازعته عليا حتى يقتل.
والخوارج لا ترضى عن هؤلاء جميعا، وتريد خليفة ينتخب انتخابا حرا، أو لا خليفة.
والعراقيون لا ينسون ما فعله الأمويون معهم؛ فيتربصون بهم الدوائر، ويشجعون الأحزاب المعارضة، وكان من أكبر ثوراتهم ثورتهم مع عبد الرحمن بن الأشعث؛ فقد أدركوا أن الأمويين قد اختطوا وسيلة من وسائل التنكيل بهم، وهي تسييرهم إلى البلدان البعيدة للفتح، حتى إذا نجحوا غنم الأمويون، وإذا انهزموا استراح منهم الأمويون، فأخرج الحجاج منهم نحو عشرين ألفا لفتح تركستان وعلى رأسهم ابن الأشعث، فانتهز الجيش الفرصة ونادوا بالثورة، وخلعوا الحجاج أولا ، ثم عبد الملك بن مروان ثانيا.
والبيت الأموي نفسه ينقسم على نفسه؛ فمروان يناهض خالد بن يزيد ويبعده عن الحكم، وينقل الدولة من فرع إلى فرع، وعبد الملك بن مروان يقتل عمرو بن سعيد بن العاص، وهو من أكبر زعماء البيت الأموي، ومن كانت له اليد الطولى في نقل الحكم إلى فرع مروان، وهكذا.
كل هذا كان جديرا أن يعوق الدولة الإسلامية عن التقدم والرقي، ويمكن أعداءها الخارجين من استراد ملكهم، ولكن كانت الأمة مملوءة قوة وحيوية، فلم يكسر ذلك كله من قوتها، ووجد من رجالها أمثال: معاوية، وعبد الملك بن مروان، والوليد بن عبد الملك، وعمر بن عبد العزيز، وهشام بن عبد الملك؛ فهؤلاء بسياستهم وقوة شخصيتهم وحسن اختيارهم لرجالهم وقوادهم؛ استطاعوا أن يزيدوا رقعة المملكة الإسلامية إلى مدى بعيد، وأن يرقوا بنظام الحكم وبالفنون، وأن يقطعوا في ذلك شوطا بعيدا.
هذه ساحة الأناضول؛ ما يهدأ معاوية من الحروب الداخلية حتى يغزيها جيشه ويفتح «ملطية»، ويشحنها بالجند والسلاح، ويجعلها قاعدة يضرب منها المسلمون البيزنطيين أو الروم على حد تعبير العرب، وأنشأ أسطولا هزم به الأسطول الروماني، واستولى على عدة جزر من جزر الأرخبيل وأسلم أهلها، وفتح خلفاؤه المنطقة الواقعة بين الأسكندرونة وطرسوس، وتقدم مسلمة بن عبد الملك إلى فناء القسطنطينية، وحاصرها نحو ثلاثين شهرا.
وفي الساحة الشرقية وجه معاوية جيشا لفتح طبرستان، وتم ذلك فيما بعد على يد يزيد بن المهلب؛ ففتح طبرستان وجرجان.
كما فتحوا ما وراء النهر؛ ويراد به المقاطعة الواقعة شرقي نهر جيحون، فوجه معاوية عبيد الله بن زياد لفتحه، وفي عهد عبد الملك تولى قيادة الجيوش المهلب بن أبي صفرة، ومحمد بن القاسم، وقتيبة بن مسلم الباهلي، فما زالوا في فتوحهم حتى وصلوا إلى الصين.
وفتح محمد بن القاسم الهند.
وفي عهد معاوية فتح عقبة بن نافع إفريقية، وفي عهد عبد الملك وجه أخوه عبد العزيز بن مروان موسى بن نصير لإتمام فتحها ونشر الإسلام بين ربوعها، ثم في عهد الوليد عبر البحر وفتح هو ومولاه طارق بن زياد إسبانيا والأندلس.
بهذا تضاعفت رقعة المملكة الإسلامية على يد هؤلاء الأمويين، بل إن المملكة الإسلامية لم تزد شيئا يذكر فيما بعد الفتوح الأموية، وأخذت الحركة بعدهم تتجه نحو الجزر لا المد، ولم تكن فتوحهم مجرد فتح حربي، بل هو إخضاع حربي، ودعوة إلى الدين، وتنظيم سياسي، ووضع قواعد للسير تتفق وما أمر به الدين من العدل، فإن حدثت أحداث جزئية لا تنطبق على قواعد العدل فهي الطبيعة البشرية التي لا تخلو من نزعاتها أمة؛ ومما يزيد في مقدار عظمتهم أن هذه المملكة كلها مع اتساع رقعتها وترامي أطرافها لم يخرج من يد الأمويين منها شيء، ولم يحدث قطر من أقطارها نفسه باستقلال، كما كان الشأن في العصر العباسي، بل كانت كلها دولة ملتئمة، تخضع لخليفة واحد، يتربع على عرشه في دمشق.
ثم هم جاروا الرومانيين في فنونهم وعمارتهم؛ فهذا الجامع الأموي الذي بناه الوليد قد بز به الكنائس الرومانية، بالقواعد الضخمة، وأساطينه الفخمة، ومحاريبه المزينة، وقبابه البديعة، وأروقته المرصعة بالفسيفساء الملونة، والنقوش المتنوعة، والفصوص المذهبة، والمرمر المصقول، وقد حشد لبنائه وتزيينه مهرة المهندسين والفنانين من الهند وفارس والمغرب وبيزنطة.
وعمر هشام رصافة الشام في غربي الرقة، واتخذها مصيفه، وبني فيها قصوره، وعمر سورها، وأنشأ فيها البساتين البديعة.
ومصر سليمان بن عبد الملك الرملة في فلسطين، وبنى فيها القصور والمساجد، وحفر فيها الآبار والأقنية.
وأنشأ الحجاج مدينة واسط بالعراق بين البصرة والكوفة، وأنشأ مسجدها وقصورها، وشحنها بالجند؛ يقمع بهم الثورات.
وأسس عبد الملك بن مروان جامع بيت المقدس، أو جامع الصخرة.
وعني الخلفاء الأمويون بالحرمين المكي والمدني وتوسيعهما وتزيينهما، يصرفون في ذلك الأموال الطائلة، ويجدون في استحضار التحف الفنية من جميع الأقطار.
وصبغوا الأعمال الرسمية بالصبغة العربية، فعمدوا إلى أهم مظهرين من مظاهر الدولة فعربوهما؛ وهما: النقود؛ وكانت أخلاطا من نقود فارسية ورومانية ومصرية، فعربها عبد الملك بن مروان ووحد صبغتها وقيمتها، وأمر بإنشاء دار لضرب السكة، وكتب على أحد وجهيها بسم الله الرحمن الرحيم، وعلى الآخر الله أحد الله الصمد، وكذلك الدواوين وهي الدفاتر الحكومية، فكانت تكتب باليونانية في الشام، والفارسية في العراق، والقبطية في مصر، فنقلت جميعها إلى العربية، وبذلك أمكن ضبطها والإشراف عليها إشرافا صحيحا من الدولة، واتسع المجال أمام متعلمي الكتابة العربية أن يتولوا هذه الأعمال ويشرفوا عليها.
ووفد على دمشق المغنون والمغنيات من الحجاز، وبهم ارتقى فن الموسيقى والغناء، ونظمت لهم المجالس، وتربى في الناس ذوق السماع، وبجانبهما الشعر يمدهما بالأبيات الرقيقة المختلفة التفاعيل، المنسجمة مع الأصوات.
وأنشأ هشام حلبة سباق للعناية بالخيل وتوليدها.
ولكن - مع الأسف - تخلل عظمة هذه الدولة الفتية أسباب فنائها، فلم تعمر إلا نحو تسعين عاما.
ونحن إذا أجملنا أسباب سقوطها أمكننا أن نقول:
إن الأحزاب التي أشرنا إليها قبل، وخصوصا الحزب الهاشمي الذي يجمع العلويين والعباسيين، ظل يعمل في قلب الدولة الأموية في صبر وجلد، وكلما قتل منهم إمام حل محله آخر، والعذاب والعنف والقسوة لا تزيدهم إلا رغبة في الانتقام وأخذا بالثأر، وهم يحكمون دعوتهم، ويبثونها سرا في الأقطار، ويقولون بالتقية أي السرية وإخفار الأمور وإظهار غير ما يخفون؛ وكان الخلفاء الأمويون أحيانا يقسون عليهم قسوة تستوجب عطف بعض الناس عليهم والميل إليهم، وقد كان الخلفاء الأمويون الأولون يقظين يتتبعون كل حركة ولو صغيرة ويقضون عليها في حينها، فلما أخلد متأخروهم إلى اللهو والترف عميت عليهم هذه الحركات حتى استشرى شرها؛ وقد اختار الدعاة أخيرا خراسان؛ لتكون عش الدعوة، وقد قال محمد بن علي بن عبد الله بن عباس: «عليكم بأهل خراسان؛ فإن هناك العدد الكثير، والجلد الظاهر، وهناك صدور سليمة، وقلوب فارغة، لم تتقسمها الأهواء، ولم تتوزعها النحل، وهم جند لهم أبدان وأجسام ومناكب وكواهل وهامات ... وأصوات هائلة، ولغات فخمة، تخرج من أصوات منكرة».
فلما أحسنوا قيادتهم وبذروا فيهم أفكارهم وتولى زعامتهم دهاة من أمثال أبي مسلم الخراساني اكتسحوا الدولة.
وساعد على نمو الثورة أن الأمويين أفرطوا في العصبية العربية، فكانوا يشعرون المفتوحين بأنهم أقل منهم شرفا ونسبا وحسبا ودما، عكس الدعوة الإسلامية التي تتطلب الدعوة إلى المساواة؛ وقد أضرت هذه العصبية من ناحية أخرى، فالعرب لم ينسوا الخصومة بين يمنيهم ومضريهم، فكان إذا ولي يمنى تعصب لقومه من اليمن، وتعصب على غيرهم من مضر، وهي حال لا تبشر بخير.
ثم إن الدولة الأموية اتسعت اتساعا عظيما فجائيا؛ فما بين النهرين وما وراء النهر وجزء من الأفغان والهند وشبه جزيرة العرب والشام ومصر وفارس والمغرب والأندلس ، كل هذه بلاد كانت تحكمها الدولة الأموية الفتية في عصر تقطع المسافات فيه على الخيل والإبل، ونظم الحكم لم تحدد، ولم تثبت تقاليدها، وهذا الملك الواسع يحتاج إلى رجال أقوياء مخلصين لأمتهم ولعرشهم، وقد كان في الدولة الأموية رجال عظام أخلصوا هذا الإخلاص في صدر الدولة ووسطها كزياد بن أبيه، وعبيد الله بن زياد والحجاج، وكان الخلفاء يكافئونهم على إخلاصهم بمؤازرتهم والإغداق عليهم وعدم سماع وشاية فيهم ونحو ذلك، ثم رأينا آخر الأمر أن الأمة ينبغ منها العظماء ويأتون بالأعمال العظيمة ثم يكون جزاؤهم من الخلفاء قتلهم أو تعذيبهم؛ فهؤلاء الفاتحون العظام أمثال قتيبة بن مسلم ويزيد بن المهلب يقتلون لوشايات يسعى بها الساعون، وموسى بن نصير فاتح الأندلس العظيم يزج به في السجن، وخالد بن عبد الله القسري الرجل الإداري الحازم يقتل، فإذا كانت هذه نهاية العظماء ومن يخدمون الدولة أكبر خدمة، فمن أين يأتي الإخلاص للدولة، والحرص عليها، والغيرة على مصالحها؟!
تجمعت هذه الأسباب كلها وتضخمت في آخر الدولة الأموية، وكان تفشيها يتطلب حزما شديدا وقوة بالغة، ولكن اقترنت هذه الأدواء بضعف الخلفاء الأخيرين؛ أمثال: الوليد بن يزيد، ويزيد بن الوليد، فجاء مروان بن محمد وكان حازما قويا، ولكن لم ينفع حزمه وقوته أمام عوامل الثورة التي فاقت كل قوة، فسقطت، وكان في سقوطها عبرة لقوم يعقلون.
في الحج1 (1)
في هذا الموسم - موسم الحج - أحدثكم ثلاثة أحاديث عن الحج.
والحج رياضة روحية ورحلة دينية، طالبت به الأديان على اختلاف أشكالها وأزمانها؛ فالمصريون القدماء كانوا يحجون، واليونان كانوا يحجون، والصينيون، والهنود، والنصارى، واليهود، كل أولئك يحجون؛ لما في الحج من مزايا روحية لا تنال بغير الحج.
وكان العرب قبل الإسلام بقرون يحجون إلى الكعبة، ويأتون بأعماله من طواف وسعي ووقوف بعرفة وغير ذلك من شعائر الحج، فجاء الإسلام وأقر بعض الشعائر مما يتفق مع تعاليمه، وأنكر بعضها، ولكنه - على العموم - غير النية وهي أساس العبادات، فبعد أن كانوا يتقربون للأصنام المنصوبة في الكعبة كسر هذه الأصنام، وجعل العبادة لله وحده، وليس الحج إلى الكعبة إلا تعظيما لبيت من بيوت الله، ورمزا إلى الأمكنة المقدسة التي عبد الله فيها إبراهيم وإسماعيل وغيرهما من الأنبياء والصديقين.
طهره الإسلام من الأوثان وجعله رمزا لعبادة الله، وجعل ما فيه من الشعائر ذكرى لأبينا إبراهيم - عليه السلام - في سعيه وطوافه، ومجتمعا للنفوس الطاهرة؛ تدعو ربها، وتطلب منه الرحمة والمغفرة، وتتقرب إليه بهيئات مأثورة عن أسلافهم، ويسعد به المسلمون بالهجرة من ديارهم في سبيل الله وتحمل المشاق لمرضاته، ومجاهدة النفس بتركها شهواتها، والتفرغ لعبادة الله وحده، وليجتمع الحجاج من أقطار الأرض في مكان فسيح واحد، يتبادلون فيه الرأي في خير المسلمين ومصالحهم ومشاكلهم، ويتجاوبون فيه الإيمان بالله والصدق في عبادته والدعوات لتوفيقه، إلى غير ذلك من مزايا للحج لا تحصى.
ولقد كان النبي
صلى الله عليه وسلم
يحرص على الحج من مبدأ الإسلام، حج وهو في مكة وحج لما هاجر إلى المدينة، وكان يحج ومكة في يد المشركين فإذا منعوه رجع وترك حسابهم لربهم، وفي السنة العاشرة من الهجرة حج
صلى الله عليه وسلم
بالمسلمين حجة الوداع وخطب فيها خطبته المشهورة، ونزل قوله تعالى:
اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا .
وعد الحج ركنا من أركان الإسلام الخمسة؛ وهي: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلا.
وليس ذكر الحج في آخر الأركان إلا لأنه عبادة العمر، وختام الأمر، وتمام الإسلام، وكمال الدين.
وفي الحق؛ إن في الحج فوائد دينية عديدة؛ فالحاج إذا نوى السفر من وطنه استحضر أعماله واستذكر سيئاته وندم عليها وتهيأت نفسه لقبول الخير، فكان في ذلك طهارة من ذنوبه وحسن استعداد لطهارة نفسه وقربها من الخير وبعدها عن الشر، والتجأ إلى الله أن يحفظه في أهله وماله وولده، وأن يوفقه للبر والتقوى، وأن يرزقه في سفره سلامة البدن والدين والمال، ويبلغه حجه على أحسن وجه وأكمله؛ وفي هذا كله طهارة لنفسه وقوة لروحانيته.
فإذا تقدم في أعمال الحج فأول ما يواجهه الإحرام وهو أن يتجرد الرجل من كل ثوب مخيط ويلبس إزارا ورداء ويلبس في رجليه نعلين، وتلبس المرأة ثيابها وتكشف وجهها وكفيها، ويعجون إذ ذاك بالتلبية: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك. فترى الناس إذا أحرموا لبسوا ملابس إبراهيم - عليه السلام - فلباسنا يذكرنا به، وكان إبراهيم من الكلدانيين الذين اعتادوا لبس البسيط من الثياب؛ واختير اللون الأبيض؛ لأنه أدل على الطهارة والنظافة، والطهارة والنظافة في الثياب تشعران بالطهارة والنظافة في النفس، وحرم المخيط من الثياب؛ رمزا إلى أن الإنسان خرج إلى ربه من زخارف الدنيا وما فيها، ولأن لبس المخيط من الثياب وسيلة التفاوت بين اللابسين، فيكون الحج مظهرا للأزياء المختلفة والصناعات المتفاوتة، والإسلام يريد في مثل هذا الموقف إشعار الناس بأنهم أمام الله سواء؛ لا فرق بين غنيهم وفقيرهم وملكهم وصعلوكهم، وهذا مظهر من مظاهر المساواة في الإسلام، وكثيرا ما قصد الإسلام إلى المساواة في أكثر العبادات؛ تأكيدا لمعنى أن الله لا يعبأ بالغني لغناه، ولا يصد عن الفقير لفقره، وأن القيمة الحقيقية للإنسان في نفسه وفضائله، لا في ماله ولا في ملبسه ولا في جاهه.
ومن أجل هذا كان منظر الإحرام للحجاج إذا وصلوا إلى نقطة معينة في السفر منظرا آخذا بالنفس، يشعر فيه المسلمون كلهم بالمساواة، ويدل بياض ثيابهم على بياض نفوسهم، ويشعرون بالأخوة التامة؛ لا فرق بينهم في الجنس ولا في اللغة، ولا في أي عرض من أعراض الدنيا، وشعارهم الدائم هو التلبية، ومعناها رجوع النفس لربها ، وسؤال الله أن يوفقها للخير، ويمن عليها بالطاعة، ويطهرها مما علق بها من زخرف الدنيا وأباطيلها.
ومن أجل هذا عد الإحرام ركنا أساسيا من أركان الحج؛ إذ به تتهيأ النفس لما يلي من أعمال.
وهو - إذا أحرم - نوى أنه يحرم للحج، والجملة المأثورة في هذه النية أن يقول: «اللهم إني أريد الحج فيسره لي وتقبله مني، وأعني على أداء فرضه، وتقبله مني، اللهم إني نويت أداء فريضتك في الحج، فاجعلني من الذين استجابوا لك، وآمنوا بوعدك واتبعوا أمرك، اللهم قد أحرم لحمي ودمي وعصبي وعظامي، وحرمت على نفسي النساء والمخيط والطيب؛ ابتغاء وجهك والدار الآخرة».
وهو في هذه الحال كلما قابل أحدا أو دخل مجتمعا أو صعد أو هبط كرر: لبيك اللهم لبيك؛ ليذكر دائما موقفه أمام ربه، وليحفظ على النفس طهارتها وصفاءها وشوقها إلى خالقها.
ولا يزال الحاج على هذه الحالة النفسية، بين إحرام وتلبية، وتفكر في الله وتضرع إليه حتى يدخل مكة، ويصل إلى الحرم المكي وفيه الكعبة.
وهو في هذا كله يرتاض رياضة بدنية إلى جانب هذه الرياضة الروحية؛ فهذا العيش البسيط والملبس البسيط والحركة الدائمة والسفر ومتاعبه، تجعل من الإنسان رجلا قادرا على احتمال المشاق، غير منغمس في النعيم الذي يذهب بالرجولة، وتعده للقدرة على العمل الصالح إذا دعا داعي الوطن أو داعي الدين، وهو بمثابة التمرين العسكري الذي تفرضه الأمم الحية على أبنائها فترة من الزمن كل سنة فيتعودون خشونة العيش، ومواجهة الصعاب؛ وهذا الإحرام يفوق التجنيد في أن التجنيد رياضة جسمية، في أكثر حالاتها، وأما رياضة الإحرام فهي فوق ذلك تجنيد روحي، في تعود العمل لطاعة الله، ونصرة الحق وإعلاء كلمته، والتعهد الجازم بالائتمار بأمره، والانتهاء عما نهى عنه؛ فهو يخرج من ذلك قوي الجسم قوي الروح معا.
وتنتهي هذه المرحلة بوصوله إلى مكة - عبر الصحراء - فإذا شاهدها ثارت في نفسه الذكريات؛ هذه مكة التي كانت واديا غير ذي زرع، هبط إليه إبراهيم وابنه إسماعيل نحو سنة 1892 قبل الميلاد، وأخذا يرفعان قواعد البيت كما يقول الله تعالى:
وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم * ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم
وهذه هي مكة التي أخذت شهرتها تنمو وتتسع؛ حتى قصدها الناس من كل فج عميق، وهذه مكة التي سكنتها قريش واعتزت بما كان في يدها من مفاتيح الكعبة.
هي مكة التي ولد فيها النبي
صلى الله عليه وسلم
في بيت من بيوتها، وشعب من شعابها، يمشي في شوارعها وأسواقها ويقضي فيها شبابه وكهولته، وهذا بالقرب منها غار حراء، وهو الغار الذي كان يتعبد فيه النبي، وفيه نزل الوحي عليه لأول مرة.
وهذه هي مكة التي تتابع الوحي فيها ثلاث عشرة سنة، نزلت فيها كل السور المكية تدعو إلى ترك الأصنام وعبادة الله وحده.
وهذه هي مكة التي جرت فيها الأحداث الأولى للإسلام، فكان النبي يدعو قومه وهم عنه معرضون، يجاهد فيهم ويصبر على أذاهم ويلتف حوله أتباع قليلون يؤذون في أموالهم وأنفسهم؛ فيحتسبون ذلك عند ربهم.
وهذه هي مكة التي كان فيها دار الأرقم المخزومي التي كان يختبئ فيها رسول الله في صدر بعثته هو ومن آمن معه، وكانوا يصلون بها سرا حتى أسلم عمر فجهر رسول الله بالدعوة وتعرض للأذى.
وهذه مكة التي هاجر منها رسول الله بعد أن ألح قومه في إيذائه، وأبوا نصرته، وجاهروه بالعداء، وأرادوا أن يحبسوه أو يقتلوه أو يخرجوه، ثم هذه مكة يدخلها رسول الله فاتحا وينزل عليه في ذلك:
إذا جاء نصر الله والفتح * ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا * فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا .
وأخيرا هذه مكة التي ظلت مقصد الناس في حجهم من عهد إبراهيم إلى اليوم، أي ما يقرب من أربعة آلاف عام، وهذه هي مجتمع المسلمين اليوم من جميع أقطار الأرض يهتفون هتافا واحدا، ويلبون تلبية واحدة، وتدوي في أرجائها: «لا إله إلا الله محمد رسول الله».
هذه مكة التي يقصدها الحجاج فيرونها واديا منحصرا بين سلاسل جبال متصلا بعضها ببعض، قد عمرت سفوح هذه الجبال بالمساكن متدرجة عليها إلى الوادي، كل هذه ذكريات تملأ النفس وتأخذ بمجامع القلب، وتدخلها في موسم الحج فترى عجبا أي عجب، مئات الألوف من الناس في ثوب الإحرام مغمورون بالشعور الديني، يعجون بالدعاء والتلبية، وترى معرضا يفوق كل معرض من الأجناس البشرية، مختلفي الألوان، مختلفي الألسنة، مختلفي العادات، ولكنهم قد وحد بينهم الغرض الديني، ووحدت بينهم العقيدة، كلهم يعبد الله وحده، وكلهم يشعر نحو الآخرين بالأخوة الإسلامية.
هذا الجمع الحاشد يشيع فيه الحب والإخاء والمساواة والتعاطف ويغمرهم شعور ديني نبيل يهز القلب ويبعث الرحمة.
وفي وسط مكة تقريبا تقع العين على المسجد الحرام بقبابه ومآذنه ونورانيته، وهو ما أحدثكم عنه في الحديث القادم إن شاء الله.
في الحج (2)
وصلنا في حديثنا الماضي عن الحج إلى المسجد الحرام بمكة.
والمسجد الحرام أو الحرم المكي في وسط مكة تقريبا على شكل مربع تقريبا طول ضلعه نحو مئة وأربعة وستين مترا، له أبواب ثمانية ، وست منارات، وأربعة أروقة، عليها قباب كثيرة، وصحن كبير غير مسقوف فرشت بعض أرضه بالبلاط وبعضها بالحصباء، وهو بسيط في بنائه، جميل في منظره، يشعر المؤمن بجلاله وعظمته ويهتز فرحا بالوصول إليه.
وما يدخل الداخل باب الحرم حتى يقع نظره على بناء أسدل عليه ستار أسود موشى بطراز من ذهب.
هذه هي الكعبة، وما إن يراها الرائي حتى يشد إليها نظره ويخفق لها قلبه وتتحرك نحوها قدمه، وتمتلئ نفسه خشوعا ورهبة وإعظاما وإجلالا، ويرى نفسه ذاهلا مندفعا مع الداعين والمبتهلين سابحا في ذكريات ما قرأه من الدين والتاريخ.
هذه هي الكعبة التي أسسها إبراهيم - عليه السلام - وجعل الله موضعها وما حولها مثابة للناس وأمنا.
هي بناء مربع تقريبا يبلغ طول كل ضلع نحو عشرة أمتار، وارتفاعها نحو خمسة عشر مترا، وفي زاوية من زواياها الحجر الأسود.
كان إبراهيم وقومه يعبدون عندها الله وحده، ثم خلفهم خلف لعب الشيطان في رءوسهم؛ فتحولوا من عبادة الله إلى عبادة الأصنام وأقاموا فيها التماثيل للات والعزى، ومناة الثالثة الأخرى؛ حتى جاء الإسلام فرجع الدين إلى أصله وأحيا سنة إبراهيم، ولما فتح النبي
صلى الله عليه وسلم
مكة في السنة الثامنة من الهجرة أزال ما بها من أصنام وجعلها الله قبلة للمسلمين يتجهون إليها من جميع أقطار الأرض في صلاتهم، يذكرها نحو ثلاثمائة مليون مسلم في بقاع الأرض المختلفة، كل يوم خمس مرات حين يتجهون إليها في صلاتهم، ويدعون الله بدعواتهم:
قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره .
هذه هي الكعبة التي يقصدها كل عام مئات الألوف من الحجاج؛ طوعا لأمر ربهم، وتطهيرا لنفوسهم، ورياضة لقلوبهم.
يطوفون حولها وقلوبهم تفيض توبة واستغفارا وابتهالا إلى الله أن يغفر ذنوبهم فيما مضى، ويوفقهم للعمل الصالح فيما يأتي:
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار .
هنا تتساوى الرءوس، وهنا يقوم الإنسان قيمته الذاتية، فلا فضل لأحد على أحد بماله أو جاهه أو لونه أو أي عرض من أعراض الدنيا، إنما قيمة الإنسان ما كسب من خير، ولا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى، وقد يكون أشعث أغبر، وهو عند الله خير من ملك متوج وغني مترف.
حول هذه الكعبة يلف الحاج سبع لفات يعبر عنها في لغة الدين بالطواف، سبعة أشواط؛ تقليدا لإبراهيم - عليه السلام - في عمله، والنفس إذا امتلأت بحرارة الإيمان، وجدت لذتها في الحركة، وكلما مر بالحجر الأسود استلمه إن أمكنه، أو سلم عليه بيمينه إن لم يمكنه من الزحام حوله؛ وتعظيم الحجر لا لذاته فإن الإسلام تنزه عن عبادة الأحجار، وحارب الأصنام والأوثان على اختلاف أشكالها وألوانها، ولكن ينظر إليه الإسلام على أنه أثر من آثار أبينا إبراهيم، فنحبه ونحب ذكره وآثاره، كما يحب الإنسان أثر من كان عزيزا عليه، ولهذا كان عمر بن الخطاب لما حج ووقف عند الحجر الأسود قال: «اللهم إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله يقبلك ما قبلتك».
وفي هذا الطواف كله يحلو للحاج أن يمعن في الدعاء، يجد فيه راحته وسعادته، ويشعر وهو يشترك مع الحجاج في الدعاء بلذة روحية ممتعة، وهناك أدعية مأثورة في هذا المقام؛ مثل: اللهم إن بيتك عظيم، ووجهك كريم، وأنت أرحم الراحمين، اللهم إني أعوذ بك من الشرك والشك والكفر والنفاق والشقاق وسوء الأخلاق وسوء المنظر في الأهل والمال والولد، وهكذا من دعوات صالحات.
ويلي هذا من أعمال الحج السعي بين الصفا والمروة، وهو طريق طوله نحو أربعمائة وعشرين مترا تقريبا، ينتهي من ناحيتيه بربوة تسمى الصفا، وربوة تسمى المروة، وكانت الربوتان في الأصل تشرفان على الصحراء، ولكن الطريق اليوم أصبح وعلى جانبيه المباني والبيوت ودكاكين التجارة، وكل ربوة جعل عليها درجات يصعد عليها الحجاج، والسعي شعيرة من شعائر الحج، قال الله فيه:
إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم ، وعدد أشواطه سبعة كالطواف .
وهذا المسعى تجده مزدحما بالحجاج في كل لحظة من اليوم ليلا أو نهارا، يعج بالساعين داعين مكبرين، وقد حث الإسلام على السعي في بعض أجزاء الطريق في إسراع؛ لإظهار المسلمين جلدهم وقوتهم أمام عدوهم، وبقيت هذه سنة الإسلام.
في هذا المسعى ترى جميع أصناف العالم الإسلامي، من تركي، وهندي، وشامي، ومصري، ومغربي، ويمني، وفارسي، وياباني، وتسمع اللهجات المختلفة والألسنة المتباينة، وكلها تذكر الله، وتلجأ إليه، وتتجاوب الأصداء بالدعاء إلى الله بالتوبة والغفران.
وفي هذا الفيض من الشعور ينسى المرء نفسه، وينسى تعبه، ويرى الشيخ المسن وقد دفعته حرارة الإيمان للسعي الطويل مع الجلد والصبر الجميل، وفي هذا المسعى ذكرى إبراهيم وما صنع، فمن المأثور أن المروة هي المكان الذي أمر إبراهيم بتضحية ابنه فيه، والصفا هو المكان الذي بحثت فيه أم إسماعيل عن الماء يوم كان الوادي قفرا، فالمكان مليء بالذكريات؛ من التضحية، والطاعة لله، وشفقة الآباء والأمهات، ورحمة الله بالناس.
وبعد هذا السعي يقضي الحاج فترة من الزمن يتذوق ما أنعم الله به عليه، ويشعر بنوع من الغبطة كأنه كان يحمل حملا ثقيلا من الأوزار والخطايا رفعت عنه، وكأنه خلق خلقا جديدا في صفاء نفسه وطهارته.
حتى إذا كان اليوم الثامن من ذي الحجة، ويسمى يوم التروية، يخرج الحجاج إلى جبل عرفات، فيتجهون إلى الشرق في واد بين جبلين ويزدحم الناس في الطريق، هذا يسير بجمله، وهذا يسير على قدميه؛ احتمالا للمشقة في سبيل الله، وهذا يسير بسيارته، فترى الإبل تسير قوافل، والسيارات كذلك، والسائرون على أقدامهم في وسط ذلك، أو على جانبي الطريق، والناس يسيرون بالنهار وبالليل في ضوء القمر، والوادي يسيل بالناس سيلا، وتسير هكذا حتى تصل إلى منى، فترى قبيل دخولك جمرة العقبة، وهي حائط من الحجر ارتفاعه نحو ثلاثة أمتار في عرض مترين، أقيم على قطعة من صخرة مرتفعة؛ ليرجمها الناس بالحجارة إذا رجعوا من عرفات؛ تمثيلا لقوة نفوسهم وتجسيمهم الشيطان ورميه بالحجارة، وبعد الخروج من منى والمرور بواد ضيق؛ يتسع الوادي وتنفتح أرجاؤه إلى الشمال والجنوب.
وترى علمين وهما عمودان بعيدان عن بعضهما قد أقيما في فضاء الوادي الواسع للدلالة على حدود عرفة.
هذا واد فسيح لا حد لسعته، وهنالك جبل حلق على الوادي، وأقفله أمامك من الشرق على شكل قوس كبيرة، هو جبل عرفات، وهناك من ناحية الشمال لسان يمتد إلى الغرب هو جبل الرحمة، فيه صخرة عالية كان يقف عليها النبي
صلى الله عليه وسلم
عندما يخطب.
كل هذا جبل عرفات ووقفة عرفات، في هذا الوادي المتسع تنصب الخيام التي لا عداد لها للناس من جميع أقطار الأرض، وفي سفح الجبل وأعلاه يقف الحجيج، في هذه الأمكنة الفسيحة يزدحم الناس حتى لا تكاد ترى مكانا خاليا.
هنالك يرى الحاج مجرى عين زبيدة وحاجة الحجاج إليه، فيشعر بالعمل العظيم الذي قامت به هذه السيدة زوج الرشيد من تيسير على الناس في أهم ضرورات الحياة.
يجتمع الناس في هذا المكان في اليوم التاسع من ذي الحجة مع قليل من ليلة العاشر، فترى منظرا عجبا، لا أذكر في حياتي أني رأيت منظرا أرهب منه ولا أجل منه، عصبة أمم لا عصبة حكومات، يجمعهم غرض واحد ولا تشتتهم الأغراض، يرجون التخفف من الدنيا ويندمون على التفاني في أعراضها، يحتقرون أصنام الناس من مال وجاه وشهوات، ويسمون إلى طلب رضا الله بطاعته، ويشعرون بالسعادة الحقيقية وهي السعادة الروحية الباقية، لا السعادة المادية الفانية، ويؤمنون بإله واحد فوق المادة وفوق البشر وفوق كل القوى، له وحده يخضعون، وبه وحده يستعينون؛ أما الخضوع لغيره فضرب من الإشراك، وأما التذلل في سبيل المال والجاه وأعراض الحياة فضرب من العبودية لا يرضاه دين الإسلام، كلهم ينادي: لبيك اللهم لبيك، فتتجاوب بهذه الكلمة الأرجاء وتدوي بها الأصداء، فتتغلب روحانيات الناس على مادياتهم، هنالك يتطلع الناس إلى رحمة ربهم، ويطلبون منه العون على صفاء نفوسهم، ويحتقرون أنفسهم الماضية التي خضعت للشهوات وأفسدتها اللذات، ويسمون إلى مثل أعلى فيه حب الخير وبغض الشر، والرجاء إلى الله أن يوفقهم إلى حياة من نوع آخر؛ فيها الطاعة والإخلاص وعمل الخير للخير ولله.
في الحج (3)
وصلنا في حديثنا الماضي عن الحج إلى الوقوف بعرفة؛ وقد احتشدت مئات الألوف من الناس في اليوم التاسع من ذي الحجة بملابسهم البيضاء، يعجون بالتلبية والدعاء والتسبيح والتهليل حتى يزلزلوا الجبل بدعائهم وابتهالهم، قد نسوا دنياهم ونسوا أنفسهم وتعلقت أرواحهم بربهم، هذا يستغفر مما جنى، وهذا يندم على ما فات، وهذا يعاهد الله على الطهر الدائم، وكلهم يرجون افتتاح حياة جديدة عمادها التقوى والإخلاص.
وبعد صلاة العصر من ذلك اليوم ينهض خطيب عرفة ويصعد بناقته على الجبل ويقف على الصخرة التي وقف عليها رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فخطب خطبة الوداع، فيخطب الخطيب خطبة يعلم فيها مناسك الحج ويكثر فيها من التلبية والدعاء، ومن دونه قوم يبلغون قوله للناس ويلوحون بمناديل يشيرون بها إلى التلبية، فيتابعه كل الناس بتلبيتهم فتتحد نداءاتهم ويغمر الناس إذ ذاك شعور غريب.
وحبذا لو استخدمت في هذا الموقف المكبرات الصوتية، وحبذا لو أعدت فيه الخطب الرائعة باختلاف اللغات المشهورة متضمنة نصيحة المسلمين بما ينفعهم في دينهم ودنياهم، ويوقظ أممهم، ويحيي آمالهم، ويوحد بين صفوفهم، ويوجههم أصلح وجهات الحياة ، وفي هذا الاجتماع فرصة كبيرة لتلاقي ذوي الرأي من المسلمين في الأقطار المختلفة، يتبادلون الرأي فيما يصلح أممهم وينير السبيل لمستقبلهم، حتى إذا غابت الشمس في الأفق أعلن تمام الموقف؛ فينفر الناس من عرفات هاتفين هتاف الفرح والسرور على ما وفقهم الله من أداء الفرض.
هذا هو الوقوف بعرفة؛ وهو أهم ركن من أركان الحج، من فاته فقد فاته الحج؛ لأنه أهم جزء في الحج يحقق حكمته؛ ففيه يجتمع المسلمون بعد الرياضة الروحية الطويلة والأسفار الشاقة، ويتجهون اتجاها واحدا، ويتبادلون النصيحة، والشعور بالأخوة، ويرغبون زوال الشرور عنهم، وتوالي نعم الله عليهم، ولهذا جاء في الحديث: «ما رؤي الشيطان في يوم هو فيه أصغر ولا أدحر ولا أحقر ولا أغيظ منه في يوم عرفة».
والمسلمون في جميع أقطار الأرض ممن لم يقدروا على الحج يشتركون فيه بالذكرى؛ فيتخذون هذه الأيام أيام عيد ويصلون صلاة العيد ويهتفون هتاف الحجاج: الله أكبر الله أكبر الله أكبر ولله الحمد، لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، فتتلاقى قلوب المسلمين وهتافاتهم على معنى واحد واتجاه واحد، وذلك أحرى أن يتعاونوا على الخير ويتواصوا بالحق والصبر.
بعد هذا ينفر الحجاج من عرفات إلى منى، وفي طريقهم يمرون على المزدلفة وينزلون بها ويقيمون بها إلى ما بعد صلاة الصبح، وفي هذه المزدلفة المشعر الحرام، فضاء من الأرض أحيط بجدار قصير، تتوسطه مئذنة تضاء أيام الحج، بجواره مجرى عين زبيدة، وسمي المشعر؛ لأن العرب كانت قد اعتادت أن تشعر جمالها عنده، أي تضربها في سنامها؛ حتى يسيل منها الدم في التضحية.
والحجاج يجمعون من هذه الصحراء حول المشعر الحرام تسعا وأربعين حصاة صغيرة في حجم الفولة؛ ليرموا بها الجمرات بعد وصولهم إلى منى.
يصل الحجاج إلى منى وينصبون خيامهم في فضائها الواسع، ومنى ليست مجرد صحراء كعرفات والمزدلفة، وإنما هي قرية بها مبان ومساكن يقيم بها بعض الناس طوال العام، وبعضهم في موسم الحج، وينزل بعض الحجاج في هذه المساكن بدل الخيام.
ويقيم بها الحجاج إلى عصر اليوم الثالث عشر من ذي الحجة فيذهبون إلى الجمرات يرجمونها، وكأنهم يرمزون برجمها إلى أنهم حاربوا الشيطان وانتصروا على نوازع الشر في نفوسهم، وكبحوا جماح شهواتهم ورجموها وتغلبوا عليها، فلم يعد في نفوسهم إلا الطهارة والطاعة وعبادة الله وحده.
والرجم عادة عربية، وطريقة من طرق إعلان السخط عندهم، فهم يرجمون قبر أبي رغال؛ لأنه كان يقود جيش أبرهة، ويرجمون قبر أبي لهب خارج مكة لما فعل النبي، والإسلام أقر الرجم في الحج؛ لأنه مظهر لتجسيم الشر والتبرؤ منه.
والحجاج كذلك في أيام منى يضحون في صبيحة العيد وينحرون، ولقد أبطل الإسلام القرابين والنذور، ونهى عما اعتاده العرب من ترك الماشية في البادية لله كالسائبة والبحيرة والحامي، ولكنه أقر التضحية في العيد؛ ذكرى لإبراهيم، وعونا للفقراء والمساكين، وتقريبا بين القادرين وغير القادرين، ولذا أوجب ذكر اسم الله عليها؛ حتى لا تكون قربانا لصنم ولا عبادة لوثن، وإنما هي لله وفي سبيل الله، للمحتاجين والمعوزين.
فإذا تمت هذه الأعمال، نزل الحجاج إلى مكة فطافوا بالكعبة طواف الإفاضة، وسعوا وتحللوا، وبذلك يتم الحج.
بعد هذا يقصد أكثر الحجاج إلى زيارة رسول الله
صلى الله عليه وسلم
في المدينة.
وهم الآن يقصدون المدينة عن طريق جدة، فيمرون على آثار مشهورة في تاريخ الإسلام كمسجد الشجرة التي قال الله فيها:
لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا
وقد خشي عمر تقديس المسلمين للشجرة فقطعها حتى لا يتجه المسلمون في شيء إلا إلى الله وحده، ثم يصل السائر إلى جدة، ومنها يتجه إلى المدينة فيقرب من شاطئ البحر حينا، ثم يمعن في الصحراء، ويضرب في الرمال فيسهل السير حينا ويصعب حينا.
في بعض هذا الطريق مر النبي
صلى الله عليه وسلم
وهو صغير مع أمه حين خرجت به لزيارة قبر أبيه بالمدينة، ومر به مع عمه وهو فتى حين خرج إلى الشام، ومر به وهو شاب في تجارة لخديجة، ومر به مهاجرا من مكة، ومر به عام فتح مكة، ومر به عائدا بعد الفتح.
وأخيرا تظهر القبة الخضراء، قبة الحرم النبوي فيخفق القلب فرحا، ويود أن يطير شوقا.
هذه هي المدينة بأسوارها وأبوابها، وهذه هي القبة الخضراء تدلنا على مكان الحرم منها، هذه هي المدينة التي كان يقيم فيها الأوس والخزرج، وهم أول من قبلوا الدعوة الإسلامية من القبائل العربية، وبايعوا رسول الله على أن يؤمنوا بدعوته ويحموه ويحموا دعوته مما يحمون منه أنفسهم وأموالهم وأولادهم، وسموا من أجل ذلك بالأنصار، وهذه هي المدينة التي استقبلت النبي حين هاجر إليها استقبالا رائعا، واستقبلت من أتى معه، ومن أتى بعده من المهاجرين، وأشركوهم في ديارهم وأموالهم وعقدوا الأخوة بينهم وبينهم، وهذه هي المدينة التي تسلحت حربيا لما لم تفد دعوة السلم، فكسرت قريشا في غزوة بدر، ثم تتابع انتصارها حتى دخل العرب في دين الله أفواجا، وحتى فتحت مكة نفسها، وهذه هي المدينة التي لبث فيها النبي
صلى الله عليه وسلم
عشر سنين يدعو ويتلقى فيها الوحي وتنزل فيها كل السور المدنية؛ تشرع النظم، وتبين الأحكام، وتنظم الغزو، وتؤلف الأمة، وتقيم الحدود، وتسمو بالروح.
وهذه هي المدينة التي كان لها شرف وجود رسول الله بها حيا وميتا، ثم كانت عاصمة الخلفاء الراشدين قبل دمشق وبغداد، وفيها رتبت الترتيبات لإخضاع أهل الردة، وفيها رتب عمر وعثمان نظمهما لفتح أكبر دولتين في عصرهما؛ وهما: فارس، والروم؛ حتى أخضعوها، واستولوا على بلادهما.
هذه هي المدينة التي لا تنتهي ذكرياتها وأحداثها التاريخية المجيدة.
في وسط المدينة تقريبا يقع الحرم المدني بمنظره الجميل، وهيئته المستطيلة، وقبابه الكثيرة المستندة على أقواس قامت على عمد مكسوة بالمرمر، وفيه الروضة الشريفة بين قبر الرسول
صلى الله عليه وسلم
والمنبر، وفي ركنه الجنوبي الشرقي المقصورة الشريفة؛ حيث توفي رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وحيث دفن أبو بكر وعمر (رضى الله عنهما) وبالقرب منه ضريح السيدة فاطمة (رضي الله عنها).
هنا يرقد صاحب الدعوة الإسلامية التي غيرت مجرى العالم، وأنزلت التاريخ على حكمها، ولا تزال إلى اليوم تنمو وتعمل في الحياة الإنسانية عملا مجيدا، هنا يرقد من علم الناس الحرية والمساواة والعدل وكسر الأصنام على اختلاف أشكالها وألوانها، ودعا الناس لعبادة إله واحد هو رب العالمين، هنا يرقد من لم يعبأ في حياته بمال ولا ولد، وإنما عبأ بدعوته؛ لم يعقه فيها عائق من تهديد ووعيد، ولم يلهه عنها وعد بمال أو سلطان.
في هذا المسجد كان يسكن رسول الله في حياته ويعيش عيشة بساطة لا تكلف فيها، ولكنه يدعو دعوة خالدة على الدهر، يحمل علمها أقوام سادوا الدنيا حينا في قوتهم وفي علمهم وفي روحانيتهم، فإن تقلب لهم وجه الدهر الآن فسيعودون إلى قوتهم، يبنون في العالم مع البانين، ويشيدون المجد مع المشيدين، ويصلحون مع المصلحين.
هذه كلها ذكريات مرت بذهني وأنا أدخل المدينة، وأزور الحرم، والقبر الشريف، وهذه الذكريات وأمثالها يذكرها الذاكرون من عباد الله المخلصين.
هذا ما اتسع له الوقت من الحديث في الحج في موسم الحج، أعاده الله على المسلمين، وعلى سكان العالم الإسلامي بالخير والسعادة والعزة، والسلام عليكم ورحمة الله.
الإسلام والمسلمون
موقف المسلمين إزاء المدنية الحديثة
أسباب انحطاط الثقافة عند المسلمين في القرون الوسطى
التقليد والابتكار
مادية الغرب وروحانية الشرق
تنظيم الإحسان
الثقافة الأدبية والثقافة العلمية
أنا ... ونحن
سنن الله في الأمم
سنن الله في الكون
منهج الفلسفة القديمة والفلسفة الحديثة
الإيمان ينبوع السعادة
الحرية الدينية والاجتماعية بين جمال الدين الأفغاني وقاسم أمين
عيسى وعيسى
جزيرة بلا سياسيين
الشيطان رجل الساعة
الجاحظ البطل
يضحك ناس ... ويبكي آخرون
ابن دانيال ومسرحياته
الدنيا حر!
أحلام الشيوخ
الدنيا رواية
الشافعي الأديب
التسلح الخلقي قبل التسلح العسكري
حديث إلى نفسي
الاجتهاد في نظر الإسلام
التسامح الديني في الإسلام
ما نعلم وما لا نعلم
الأدب الشعبي بين الحرفشة والفصحى
خواطر في الانقلاب الحديث
جمهوريتنا الأولى
غيروا مناهج الفن والتاريخ يتحقق لكم السلام
لو كنت شيخا للأزهر!
لماذا كفر الشباب بالزعماء؟
شعورنا الوطني لا تطفئه المدافع الرشاشة
الابتكار
البرنامج اليومي للسعادة
أمي!
كتاب
عيدان الذرة
ساسة العالم منافقون ...
أدب المستقبل
الربيع الباكر
أساس الإسلام
عينية ابن سينا
النظام المالي في الإسلام
الحياة الروحية
ستة أيام في حياتي
اعترافاتي
المعتزلة والمحدثون
الإسلام والمدنية الحديثة
الجامعة الإسلامية
النهضات الفكرية في الإسلام
جمع اللغة العربية1
ضيعة الأدب
كيف تتغير الأمم
مستقبل العالم
خواطر
لماذا كان الدين؟
تربية الإرادة
هل نحن مسئولون عن حياتنا الاجتماعية؟
الاحتكام إلى العقل
مركب النقص
الحياة السعيدة
صورة لغاندي وأخرى لستالين
ورقة بن نوفل
أسس الأخلاق في الإسلام
الإسلام والمسلمون
موقف المسلمين إزاء المدنية الحديثة
أسباب انحطاط الثقافة عند المسلمين في القرون الوسطى
التقليد والابتكار
مادية الغرب وروحانية الشرق
تنظيم الإحسان
الثقافة الأدبية والثقافة العلمية
أنا ... ونحن
سنن الله في الأمم
سنن الله في الكون
منهج الفلسفة القديمة والفلسفة الحديثة
الإيمان ينبوع السعادة
الحرية الدينية والاجتماعية بين جمال الدين الأفغاني وقاسم أمين
عيسى وعيسى
جزيرة بلا سياسيين
الشيطان رجل الساعة
الجاحظ البطل
يضحك ناس ... ويبكي آخرون
ابن دانيال ومسرحياته
الدنيا حر!
أحلام الشيوخ
الدنيا رواية
الشافعي الأديب
التسلح الخلقي قبل التسلح العسكري
حديث إلى نفسي
الاجتهاد في نظر الإسلام
التسامح الديني في الإسلام
ما نعلم وما لا نعلم
الأدب الشعبي بين الحرفشة والفصحى
خواطر في الانقلاب الحديث
جمهوريتنا الأولى
غيروا مناهج الفن والتاريخ يتحقق لكم السلام
لو كنت شيخا للأزهر!
لماذا كفر الشباب بالزعماء؟
شعورنا الوطني لا تطفئه المدافع الرشاشة
الابتكار
البرنامج اليومي للسعادة
أمي!
كتاب
عيدان الذرة
ساسة العالم منافقون ...
أدب المستقبل
الربيع الباكر
أساس الإسلام
عينية ابن سينا
النظام المالي في الإسلام
الحياة الروحية
ستة أيام في حياتي
اعترافاتي
المعتزلة والمحدثون
الإسلام والمدنية الحديثة
الجامعة الإسلامية
النهضات الفكرية في الإسلام
جمع اللغة العربية1
ضيعة الأدب
كيف تتغير الأمم
مستقبل العالم
خواطر
لماذا كان الدين؟
تربية الإرادة
هل نحن مسئولون عن حياتنا الاجتماعية؟
الاحتكام إلى العقل
مركب النقص
الحياة السعيدة
صورة لغاندي وأخرى لستالين
ورقة بن نوفل
أسس الأخلاق في الإسلام
فيض الخاطر (الجزء التاسع)
فيض الخاطر (الجزء التاسع)
وهو مجموعة مقالات أدبية واجتماعية
تأليف
الدكتور أحمد أمين
الإسلام والمسلمون
من البديهي أنه يجب التفريق بين الإسلام في مبادئه وتعاليمه، كما يدل عليه القرآن الكريم، والسنة الصحيحة، وبين أعمال المسلمين من وقت أن اعتنقوا الإسلام إلى اليوم، فمن أراد الحكم على الإسلام فليرجع إلى أصوله الأولى، وينظر إلى جوهر تعاليمه ويزنها بميزان الحق والعدل، ومن الخطأ الفاحش أن يحكم على الإسلام بالمسلمين؛ فقد يكون الدين صحيحا، ومعتنقوه خارجين عليه، منحرفين عنه، فيكون الخطأ خطأ أصحابه لا خطأه هو، بل أحيانا يكون الدين فاسدا في جوهره وتعاليمه، ويرتقي معتنقوه، فتصدر عنهم أعمال فاضلة، لا تمت إلى دينهم الأصيل بسبب، وإنما هم الذين حوروا دينهم، وصاغوه صياغة خيرا مما كانت عليه - والحق أن الفرق كبير بين الإسلام نفسه، وعمل المسلمين في مختلف العصور، وأكاد أجزم بأن الإسلام لم يحي حياة عملية صحيحة طبق مبادئه إلا عصرا قصيرا جدا، وهو عصر الرسالة وما بعدها بقليل، وأما ما عدا هذه الفترة؛ فقد عاش المسلمون عيشة منحرفة عن الدين، وإن اختلف هذا الانحراف قلة وكثرة أو شدة وضعفا.
لننظر قليلا في أهم عنصر من عناصر الإسلام، وهو التوحيد الذي تبلور في قولنا: «لا إله إلا الله» فهل سار المسلمون عمليا واقتصاديا على هذا المبدأ، وإلى أي حد؟ - إن هذا المبدأ يدعو إلى اعتقاد أنه لا يصح تأليه غير الله، وعبادة غير الله، وأما من عداه من الناس فسواسية لا إله ولا مألوه، قد يختلفون في النسب، وقد يختلفون في الثورة، وقد يختلفون في غير ذلك، ولكنهم كلهم إخوة فيما بينهم، وعبيد لله وحده.
ولكن هذه العقيدة بعدم تأليه أحد من الناس، تحتاج إلى جهد جهيد في تطبيقها في الحياة العملية؛ إنها تحتاج إلى رياضة قوية، تحتاج إلى أن يحتفظ الضعفاء بإيمانهم، فلا يركعوا للأقوياء ، وتحتاج إلى أن يلجم الأقوياء غرائزهم، فلا يحاولوا السيطرة على الضعفاء، وهذا مطلب ليس باليسير، وإن كان هو جوهر الإسلام.
ومن أجل هذا كان أسرع الناس إلى الإسلام أكثرهم من الضعفاء - لا من أصحاب السيطرة - كبلال وأمثاله؛ لأنهم وجدوا في الإسلام تحررا من عبوديتهم لغير الله، وكان أكبر المعاندين أصحاب السيطرة والتأله من مثل صناديد قريش، فلم يسلموا إلا أخيرا، وبعد عناد طويل، كأبي سفيان بن حرب في مكة، أو إسلاما ظاهرا بعد أن سدت الأبواب في وجوههم، كعبد الله بن أبي في المدينة، وأكبر سبب في تأخرهم، أنهم رأوا الإسلام يفقدهم تألهم وعظمتهم وربوبيتهم.
ولما فتح المسلمون فارس والروم، كان أغرب ما استرعى أنظارهم، عبادة الرعية لسادتهم؛ لما وقر في نفوسهم بسبب الإسلام من أنه لا معبود إلا الله، والقرآن مملوء بلعن الذين اتخذوا سادتهم أربابا، أو خلعوا القدسية والربوبية على رؤسائهم الدينيين، وكانت دعوة الإسلام دائما دعوة إلى عبادة الله وحده وعدم الاعتراف بربوبية أحد غيره
يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله .
ولذلك حارب الإسلام الاعتزاز بالنسب، والاعتراف بالجاه، والاعتزاز بالمال؛ لأن كل ذلك من ضروب التأله، والإسلام عدو كل تأله.
ولكن لم يستطع كثير من المسلمين أن يحتفظوا بهذا المبدأ الجليل القويم، وظهر التراجع من أول عهد معاوية أو قبله أحيانا، فعاد الاعتزاز بالحسب والنسب، وأصبح ملك معاوية - كما عبر كثير من المسلمين - ملكا عضودا؛ فيه اعتساف، وفيه تأله، وخاصة من أهل بيته، وعادت الفروق بين الطبقات قريبا مما كانت في الجاهلية، وتتابع الأمر على هذه الحال، وكلما تقدم الزمن نمت غريزة التأله، كما كان في العصر العباسي وبعده؛ وبلغ ذلك التأله أوجه في مثل جنكيز خان وتيمورلنك وأشباههما.
إن نظرة الإسلام إلى الألوهية، والدعوة إلى إله واحد يتساوى أمامه الناس جميعا تقضي على كل فكرة من شأنها وجود طبقة يكون لها الشفاعة أو الوساطة بين الله وخلقه ، ولكن ما لبث المسلمون أن عادوا إلى سيرتهم الجاهلية الأولى، فاتخذوا أصنافا من الناس شفعاء يستشفعون بهم عند الله ويتقربون بهم إلى الله، متأثرين بالديانات القديمة، أما الإسلام نفسه فيدعو إلى أنه لا حجاب بين أي عبد مهما ضعف وبين الله، وقد عاب على النصارى واليهود اتخاذهم أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله.
ولعل السبب في ذلك، أن هذه العقيدة الصحيحة، عقيدة الإيمان بالله وحده، والخضوع له وحده، وعبادته وحده، تحتاج إلى رياضة شديدة في تصفية النفس من الشوائب، والنفوس القوية عادة تعشق التأله والاستعلاء، والنفوس الضعيفة سرعان ما تستسلم، وهذا مشاهد في كل أمة، وفي كل جماعة، وفي كل عصر، من عهد أن قال فرعون: «أنا ربكم الأعلى» ومن قبله ومن بعده.
وهؤلاء الأقوياء يتخذون لتألههم أشكالا وألوانا من المظاهر، فمنهم من يتأله بجنوده وبنوده، وكثرة ماله ونحو ذلك، ومنهم كبار المستبدين في أممهم مثل نابوليون، ومثل هتلر وستالين، ومنهم كبار أصحاب رؤوس الأموال في كل أمة، ونحو ذلك، كلهم يتألهون، وكل الناس حولهم تؤلههم، وإن لم يسم الأولون أنفسهم آلهة، وإن لم يسم الآخرون أعمالهم عبادة، ولكن العبرة بالحقيقة لا بالأسماء، والإسلام يكره هذا التأله بجميع أشكاله وألوانه، والمسلمون - مع الأسف - في كل عصورهم ما عدا الفترة الأولى لم يخل سلوكهم من تأله من جانب القوة، وعبادة وخضوع من جانب الضعف.
هذه ناحية من نواحي التأله والعبودية، يصح أن نسميها ناحية سافرة، وهناك ناحية أخرى من التأله والعبودية يصح أن نسميها محجبة؛ ذلك أن هناك قوما لم يكن لهم من قوة السلطان، وكثرة المال والجنود والعصبية، ما يمكنهم من الاستعلاء في الظاهر، فبحثوا عن وسائل للاستعلاء من طريق خفي، ولهؤلاء أمثلة كثيرة كالسحرة والمشعوذين والدجالين من رجال الدين الذين يدعون الاتصال بالغيب والاستمداد من السماء، وأن بينهم وبين الله نسبا، أو بينهم وبين الجن صلة، وأنهم يستطيعون بذلك أن يقربوا إلى الله من يشاءون، ويحرموا من الجنة من يشاءون، أو أنهم يستطيعون أن يسيطروا على قوانين الطبيعة في هذا الكون بسحرهم وتعاويذهم وتعزيمهم وما إلى ذلك، كل هؤلاء وأمثالهم لما فقدوا السلطة الظاهرة والقوة الدنيوية، لجئوا بمكرهم وحيلهم إلى ادعاء سلطة خفية يستمدون منها سلطانهم، ويبسطونها على السذج والبله، وكان من سوء الحظ وضعف العقل أن قبلت دعوتهم، وتألهوا هم الآخرون، وعبدهم أتباعهم، فكان في الدنيا مملكتان: مملكة السلطنة المادية، ومملكة السلطنة الغيبية، والناس موزعون في العبادة بين هؤلاء وهؤلاء، وكل هذا حرب على الإسلام في جوهر تعاليمه وهو الذي ينادي دائما، ويجعل شعاره دائما: أن لا إله إلا الله، وأن كل تأله باطل، وأن كل عبادة لغير الله باطلة، ولكن كم من المسلمين في العصور المختلفة استطاعوا أن يحتفظوا بهذه الوحدانية خالصة لم يشبها شيء من عبادة وتأله.
ومن الأسف أنه في كثير من عصور تاريخ المسلمين، تعاونت القوتان، الظاهرة والباطنة، والمادية والغيبية، على إفساد حال المسلمين، فتحالف الملوك الظلمة والسلاطين الغاشمة مع الدجالين من رجال الدين، والدجالين من المتصوفين، وأعملوا قوتهم في إفساد عقيدة الوحدانية، وفي تعديد الآلهة وعبادتها، واتخذوا لذلك وسائل لا تحصى، فالسلاطين الغاشمة تحيط مظاهرها بكل أنواع الجبروت والطغيان، ورجال الدين تضع لهم من الأحاديث مثل «السلطان ظل الله في أرضه» والخطباء والوعاظ يصرفون الناس عن المطالبة بحقوقهم بإفهامهم أن الفقر من الله والغنى من الله، وليس للجد ولا للعمل أي دخل في الغنى والفقر، وأن ظلم الظالمين إنما هو انتقام من الله لسوء سيرة المسلمين، ونحو ذلك من تعاليم تفسد الروح، وتذل النفس، وتمكن المتألهين من التأله، وتوجه الأذلة إلى عبادة المتأله، ولم يكن هذا من جوهر الإسلام في قليل، ولا كثير.
ولو نحن نظرنا نظرة شاملة، لرأينا أن أكثر شرور العالم في الشرق والغرب، وفساد حال الأمم يرجع إلى هذا التأله من جانب، والعبادة والضعف من جانب آخر، فالعلاقات بين الأمم، والحروب المتتابعة إنما يبعثها في الغالب حب الاستعلاء، أو بعبارة أخرى التأله ومحاولة الدولة القوية أن تسيطر على العالم لتكون إلهته، وليكون غيرها عبادا أذلة، وكان كل هذا يزول لو اعتنق الجميع أن لا إله إلا الله.
وبعد، فهذا أصل من أصول الإسلام، رأينا كيف انحرف المسلمون عنه، فساء حالهم، وانحط شأنهم، ولعلنا نتبع ذلك ببيان بعض الأصول الإسلامية الأخرى، ونبين كيف عطلت وأهملت، والله الموفق.
موقف المسلمين إزاء المدنية الحديثة
تسربت المدنية الحديثة إلى المسلمين في جميع الأقطار على حسب استعدادها، سواء في ذلك ماديتها ومعنويتها؛ من تلغرافات وإذاعات ودساتير ونحو ذلك، وكان ذلك في أول الأمر لا عن وعي وتفكير؛ لأن المدنية الحديثة غزت المسلمين وهم يغطون في نومهم، ولما يفيقوا من سباتهم العميق، فلما فتحوا عيونهم على طلقات المدافع رأوا المدنية قد غزتهم ودخلت في ديارهم وحكوماتهم وكل شيء عندهم، وبدأ المفكرون يفكرون فيما يجب أن يكون موقفهم بإزائها: هل يسمحون أن تدخل بحذافيرها، أو يمنعونها بتاتا، أو ماذا يعملون؟ لقد انقسم المصلحون في تلك المشكلة أقساما ثلاثة.
فمثلا رأى مصطفى كمال أن ينقل إلى أهله في البلاد العثمانية كل المدنية؛ مادية ومعنوية، من تنظيم البيوت، وخلق برلمان يسير على دستور، وتقنين مدني، وتقنين للعقوبات وللزواج والطلاق والمواريث، ونظم اجتماعية واقتصادية، حتى لبس القبعة، والكتابة بالحروف اللاتينية. •••
ورأى غاندي عكس ذلك، فقاوم المدنية الحديثة بجميع ما فيها، ودعا قومه الهنود إلى الغزل باليد حتى لا يتصلوا بمصانع لا نكشير في إنجلترا، وحتى لا تتسرب إليهم الخمور والملاهي التي تسود المدنية الحديثة، وظل متمسكا بدينه يدعو إليه، ولكن تيار المدنية الحديثة جرفه، فتقبل أهله المدنية الحديثة في كثير من شؤونهم، وهو نفسه لم يسلم من ذلك؛ فقد كان يتكلم اللغة الإنجليزية، ويضع على عينيه منظارا من اختراع المدنية الحديثة، وهكذا. •••
ويرى مصلحون آخرون أنه تجب عملية الاختيار، اختيار الصالح من المدنية الحديثة واجتناب الضار، واختيار الصالح من المدنية القديمة، فليس كل الجديد نافعا، ولا كل القديم ضارا، ففي القديم ما يفوق الجديد بمراحل، فماذا علينا لو اخترنا من القديم التسامح والتأمل الروحي والسماحة، واخترنا من الجديد بناء الحياة على العلم وحرية الفكر ونحو ذلك؟ إننا نصل إذا سرنا على هذا إلى مدنية خير من المدنية القديمة والحديثة، فيها خير القديم والحديث، وليس فيها شرهما. •••
نعم، إن كثيرين حاولوا هذا الاختيار فلم ينجحوا، كما فعل المسلمون في بعض شؤونهم، في الزراعة والتعليم والقضاء، فطورا يعلمون في مدارسهم على النمط الأوروبي، وطورا على نمط القرون الوسطى، وطورا يزرعون بأحداث الأدوات، وطورا بالساقية والشادوف والاتكال على القدر، وعندهم محاكم شرعية ومحاكم وطنية، وبعضهم يلبس الملابس الأوروبية، وبعضهم يلبس الملابس البلدية، وبعضهم يربي الأطفال على أحدث الأنظمة، وبعضهم يربيهم على الخرافات والأوهام وهكذا، فكان من ذلك كله مجموعة متنافرة تؤدي إلى نتائج متعاكسة، فإن أريد الإصلاح الحقيقي وجب أن يكون ذلك في يد مصلحين ماهرين، يعرفون أي العناصر ينسجم، وأيها يتنافر. •••
وهناك أمور أخرى يجب أن تراعى، وهي أن تكون عين المصلح على ما يأخذ من المدنية القديمة والحديثة، وعينه الأخرى على ظروف بلاده، وبيئتها الطبيعية والاجتماعية؛ فقد يكون شيء يناسب أمة ولا يناسب الأخرى، وشيء يناسب الغرب ولا يناسب الشرق، فيكون الفشل، كالذي شاهدت أن صديقا سافر إلى إنجلترا؛ ليدرس كيفية عمل الملابس الجديدة من الصوف القديم، فرأى أنهم في إنجلترا يجمعون الملابس الصوفية القديمة ويدخلونها في آلات ويضيفون إليها بعض المواد الكيمياوية فتخرج ناصعة بيضاء، ثم يلونوها كما يشاءون، ويبيعونها جديدة رخيصة، ودرس صاحبنا كل ذلك، ولما عاد إلى مصر تزود بالآلات، وأتى بصناع مهرة، وعملوا كما يعمل الأوروبيون، ولكنه فشل؛ لأنه نسي شيئين هامين: الأول: أن ملابس الإنجليز الصوفية كثيرة؛ لبرودة جوهم، وهي قليلة في مصر؛ لحرارة جوهم، والسبب الثاني: أن الإنجليز يخلعون ملابسهم الصوفية وفيها بعض الرمق، وأهل مصر لا يخلعون ملابسهم إلا إذا تهلهلت، فكان الفشل لاختلاف عادة الأقاليم، ولو أنه درس المسألة من جميع نواحيها ما أقدم على ما أقدم عليه، وهكذا شأن المصلحين، قد تغيب عنهم الأشياء الدقيقة في اختلاف الزمان والمكان، فيقعون في مثل هذا الخطأ، ولو أحسن الاختيار، وعرفت العناصر الصالحة تمام المعرفة، ودرست علاقاتها بعضها ببعض، فلم يسمح بانضمام عنصر إلا ما كان ملتئما مع العناصر الأخرى، وروعي النظام الدقيق في تطبيق الإصلاح على الأمم، لم أر وجها للفشل.
أسباب انحطاط الثقافة عند المسلمين في القرون الوسطى
يرجع انحطاط المسلمين في القرون الوسطى إلى عدة أسباب:
السبب الأول انهيار المعتزلة، وغلبة المحدثين عليهم؛ فقد كان المعتزلة يحملون راية العقل، فهم يفسرون آيات القرآن بما يتفق والعقل، بل يفسرون آية
وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا
بأن معنى الرسول هو العقل، ولا يقبلون من الحديث إلا ما اتفق والعقل، فليس يكفي في صحة الحديث صدق الرواة، بل يجب أن نتحقق من أن المتن أيضا مقبول عند العقل، فإذا سمعوا حديث البخاري «من أكل سبع بلحات عجوة، لم يمسسه سم»، ورأوا أن من أكل سبعين بلحة لا يصيبه السم، استنتجوا من ذلك أن الحديث كاذب؛ لأنه ضد العقل، وضد الواقع، وإذا سمعوا حديثا يقول: «لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة» عرضوه على الواقع، فإذا رأوا أن حكم فكتوريا في إنجلترا هو العهد الذهبي لها، لم يقبلوا هذا الحديث؛ لأنه يخالف الواقع ، ولكنهم مع الأسف مزجوا العلم بالسياسة، وأدخلوا المذهب في الدولة، وأسرفوا في حمل الخلفاء على معاقبة مخالفيهم، فكرههم الرأي العام وأسقطهم، فلما رأى المعتصم ذلك تقرب إلى الرأي العام بطردهم وتقريب المحدثين، فكان هذا نقمة على الثقافة الإسلامية؛ لأن منهج المحدثين تحكيم الرواية والاعتماد عليها لا تحكيم العقل.
وطبيعة منهج المحدثين تنافي الابتكار، وأحسن الناس في نظرهم أكثرهم رواية، وأكثرهم تحريا للسند، لا أكثرهم استقلالا، لذلك نرى من ينيغ بعد ذلك هم الذين ينتسبون إلى المعتزلة أيضا، كالزمخشري، وابن جني، وأبي علي الفارسي، وقليل من غيرهم كابن خلدون.
ومن أسباب انحطاط الثقافة عند المسلمين أيضا: سقوط بغداد عند غزو التتار لها، فكانت هذه حادثة روعت المسلمين، وأفزعتهم، وخلعت قلوبهم؛ لكثرة ما سفك من دماء، وكذلك أثرت على ثقافتهم لقتلهم كثيرا من العلماء، وإتلافهم كثيرا من الكتب القيمة، يضاف إلى ذلك أنه ترتب عليها إقفال باب الاجتهاد في الفقه وغيره، ذلك أن العلماء لما رأوا انحطاط العلم يئسوا من أنهم يبتكرون مثل ما ابتكر من قبلهم من الفقهاء، وتمنوا أن يصلوا فقط إلى درجتهم من الاجتهاد المقيد، فأغلقوا باب الاجتهاد، وقصروا كل جهدهم على التقليد، فإن توسعوا قليلا، فالاجتهاد اجتهاد مذهب، لا اجتهاد مطلق، وهكذا كان الشأن في اللغة والتاريخ وغيرهما من العلوم.
فلما تجمعت هذه الأسباب وغيرها، وكان للمسلمين بحكم الطبيعة نشاط عقلي، لا بد أن يتجه اتجاها ما، لم يتجهوا إلى الابتكار، ولكن اتجهوا إلى تأليف الموسوعات، كصبح الأعشى، ونهاية الأرب، والمسالك والممالك، لا تكاد تجد فيها جديدا، ولكنها جمع لما تفرق في الكتب في الموضوع الواحد، وهو على كل حال نشاط، ولكنه ليس من الصنف الأول.
فإن نحن تساءلنا: كيف ننهض بعد هذا الخمول؟ قلنا: إننا إذا عرفنا الداء، سهلت معرفة الدواء، بإزالة الداء، فلا بد من غلبة طائفة من المسلمين يقولون بسلطان العقل كما يقول المعتزلة، وتكون لهم الكلمة العليا والسيطرة، وتكون بجانبهم طائفة مجتهدة اجتهادا مطلقا يقدرون على أن ينظروا في حال المسلمين اليوم، ويعرفوا ما يناسبهم وما لا يناسبهم، لقد وجد مجتهدون فعلا بين المسلمين، ولكن مع الأسف، بدل أن يقلدوا أسلافهم قلدوا الغربيين، ووضعوا في نفوسهم سؤالا دائم التردد على أفكارهم، وهو: ماذا فعل الغربيون في هذه المسألة؟ وللاجتهاد الحكيم أن يتساءل: ماذا يجب أن يحكم به العقل ويشرع في هذه المسألة؟ إن لكل زمن رجالا، لهم علم واسع، بالشرق والغرب، وما يناسب الشرقيين وما لا يناسبهم، فيستطيعون أن يحكموا: أين الصالح العام للمسلمين وللأمة التي يتبعونها، وإلا كانوا كالغراب الذي نسي مشيته وقلد مشية غيره، فلا هو أحسن هذا، ولا هو أحسن ذاك.
التقليد والابتكار
أما التقليد فالجري على سنن السابقين من غير تحوير ولا تبديل، وخير تعبير عنه قوله تعالى:
إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون ، وأما الابتكار فهو إبداع الشيء لا على مثال سبق، هذا هو المعنى المفهوم من التقليد والابتكار، والذي نلاحظه أن المسلمين في أول أمرهم كانوا مبتكرين، ولولا هذا الابتكار ما استطاعوا أن يفتحوا هذه الفتوح الكبيرة وينظموها، ويديروا شؤونها، مع العلم بأن كثيرا منهم ومن عظمائهم كانوا نتاج الجزيرة العربية البدوية، فكانوا يقابلون مدينتي الفرس والروم، ويواجهونهما بأحسن ما يكون من المهارة واللباقة والذكاء، هذا عمر بن الخطاب مثلا يعرض في حكومته لأدق المسائل السياسية والاقتصادية والإدارية التي تواجهه عند فتح مصر والشام وفارس والعراق، فيصرفها كلها تصريفا صحيحا دقيقا، مع أنه نشأ نشأة بدوية صرفة، إنما وسع عقله الإسلام، وجعله صالحا لأن يسوس الناس، حتى المتمدنين، وهؤلاء الفاتحون أمثال: خالد بن الوليد، والمثنى بن حارثة، وأبي عبيدة، وقتيبة بن مسلم، وموسى بن نصير، كلهم واجهوا مشاكل كبيرة في كيفية القتال، وفي أدوات الحروب، وفي تنظيم البلاد المختلفة بعد فتحها، فلو لم يكن لهم قوة ابتكار تسهل لهم حل المشاكل التي يواجهونها ما نجحوا، وقد واجهوا مشاكل كثيرة بحكم ضيق أنظمة البداوة وبساطتها وسعة أنظمة الحضارة وتعقدها.
وفي العلم كانوا يبتكرون، ومن أجل هذا اخترع الأئمة المشرعون القياس والاستحسان والمصالح المرسلة إلى غير ذلك ، فواجهوا كل الجزئيات الحادثة بأحكام إسلامية تليق لها، وكان طابع المعتزلة الابتكار، ففلسفوا الحجج الدينية واعتمدوا على الشك والتجارب، فنرى الجاحظ مثلا لا يؤمن بكل ما قاله أرسطو في الحيوان والنبات؛ بل يجرب ذلك في بيته الخاص، وحديقته الخاصة، فإذا قيل له: إن الثعابين تهرب من رائحة الشيح، جرب ذلك بنفسه، فوجد أن بعض الأقوال في هذا غير صحيحة، وإذا قيل له عادة من عادات النبات أو الحيوان، لم يعتمد على أقوال أرسطو في ذلك، بل لم يؤمن بها حتى يجربها، وقد يتعارض عنده قولان: قول لأرسطو، وقول لعربي جاهلي بدوي، فيفضل قول ذلك العربي؛ لأن التجربة أثبتت صدقه دون قول أرسطو، وكان النظام يمتحن الحديث المروي، ويعرضه على العقل، فما وافق منه العقل قبله، وإلا فلا، وكان المعتزلة على العموم لا يؤمنون كما يؤمن العامة برؤية الجن، وما حيك حولها من خرافات، بل يستندون إلى قوله تعالى:
إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم
فينكرون رؤيتهم، ويضحكون من العامة؛ لخوفهم منهم، إلى نحو ذلك.
وعلى العموم فطابع العصور الإسلامية الأولى طابع ابتكار ونشاط عقلي، ومما يدل على ذلك اختراعهم للعلوم المختلفة لا على مثال سبق، فاخترعوا النحو والصرف والعروض، وعمل المعاجم، والنقد الأدبي، والبلاغة بأقسامها إلخ، ولكن مما يؤسف له أن طابع العصور الوسطى والمتأخرة طابع تقليد لا ابتكار، ومن مظاهر ذلك أن العلوم كلها وقفت عند نتاج هؤلاء المبتكرين الأولين، ولم تتقدم إلى الأمام خطوة، وكان التأليف عبارة عن جمع متفرق، أو تفريق مجتمع.
وليس أدل على ذلك من كتب الموسوعات، كصبح الأعشى، ونهاية الأرب، والمسالك والممالك، ونحوها، فكلها جمع لما تفرق في الكتب، وحسبنا دليلا على ذلك أن العلوم التي بين أيدينا ليست إلا صدى لما ابتكره الأولون، فالنحو جار على ما كتبه سيبويه؛ إلا ما اعتراه من التبسيط، والبلاغة جارية على ما كتبه عبد القاهر؛ إلا قليلا من الزيادة، أو الجمع، والعروض هي عروض الخليل بن أحمد، وعلى هذا القياس.
وإذا فتشنا في التاريخ فقلما نجد مبتكرا، مثل ابن خلدون في تأسيسه علم الاجتماع، وأبحاثه الجديدة المبتكرة، ومثل ابن مضاء الأندلسي الذي أراد أن ينشئ نحوا جديدا، على غير فكرة سيبويه في بنائه على العامل الظاهر أو المقدر، وقليل جدا أمثال هؤلاء، أما الباقون فكلهم مقلدون لا ابتكار عندهم، وحتى النشأة الحديثة من الشرقيين، فهي أيضا مقلدة، غاية ما في الأمر أنها لم تشأ أن تقلد أسلافنا من المتقدمين، بل قلدت الأوربيين في أفكارهم وبحوثهم، ولكن مع الأسف الكل تقليد، وإن اختلف المقلد، والمنطق الذي يجري بين المثقفين اليوم في الأمم الشرقية مرتكز على السؤال الأتي: إذا عرض موضوع من الموضوعات عليهم تساءلوا: «ماذا فعلت الأمم الأوربية فيه؟».
وأمامنا مجال الابتكار كبير، فعندنا وجوه الإصلاح المختلفة في كل النواحي تحتاج إلى ابتكار، وعقل فعال، وليس يغني فيها التقليد للأوربيين، فموقفنا غير موقفهم، وظروفنا غير ظروفهم، كما لا يغني فيها التقليد للأقدمين؛ لأن الزمن تغير، والبيئة تغيرت.
والباحث يعجب من وقوع الشرقيين في هذه المصيبة الكبرى، والتجائهم إلى التقليد في كل شيء، مع أن كتابهم الكريم ينعي على المقلدين الذين قالوا: «إنا وجدنا آباءنا على أمة، وإنا على آثارهم لمقتدون»، ويشجع على إعمال العقل ويمدح العقلاء المفكرين الذين يستعلمون عقولهم في أحكامهم على الأشياء، والقرآن والأحاديث مملوءة بهذا النحو، فما الذي أصابهم؟ الذي يظهر أن تتابع الظلم عليهم، وما أصابهم من غزوات التتار، وما أتعبهم من الحروب الصليبية، ونحو ذلك، كله فت في عضدهم، وكسر من نفوسهم، فالابتكار يحتاج إلى سرور بالحياة، وتفتح لها، وأما من لم يسر بالحياة، ولا يستمتع بها، وينتظر الموت إن عاجلا وإن آجلا، فلا تتفتح نفسه لابتكار ولا تفكير فيه، يضاف إلى ذلك أن غلبة منهج الحديث مع الأسف على منهج الاعتزال يحمل على اتباع الرواية أكثر مما يحمل على الدراية، ومن أجل هذا نشأت عبادة عبارات الكتب؛ لأن الذي لا يخطو خطوة إلا بحديث مروي يسلمه ذلك إلى الاتباع لا الابتداع، وشاع بينهم ذم البدعة والابتداع، والقديم على قدمه، ونحو ذلك من الأقوال التي تكسر النفس وتصدها عن الإبداع والابتكار.
وما أحوج المسلمين اليوم إلى أن ينفضوا عنهم غبار الماضي؛ فيخلعوا التقليد، ويقدسوا الابتكار، ويعملوا عقلهم في كل شيء، ماديا كان أو معنويا، ويأنفوا أن يقلدوا أسلافهم، أو يقلدوا الأمم الحية الأخرى، فكل تقليد معيب، وحتى التقليد للأوربيين لا يخلو من خطأ؛ لأن معيشتهم غير معيشتنا، وقد يكون الشيء عندهم نافعا، فإذا نقل إلينا كان ضارا، والعكس، وحبذا لو نادى الزعماء طويلا بالحث على الابتكار، والدعوة إليه، والتنبيه على أضرار التقليد، ووضعوا في برامجهم التعليمية تعويد الناشئين أن يتساءلوا دائما عندما يروى لهم خبر أو سير على طريقة خاصة: «لم هذا؟ وما برهانه؟ وما الفائدة منه؟ ولعل هذا هو المعقول أو عكسه»، إنهم إن عودوهم ذلك وهم ناشئون شبوا وعقلهم ناضج؛ فأحبوا الابتكار، وسعوا إليه، وعملوا به، كما يجب على الزعماء أن ينقوا الأقوال القديمة والشعر القديم والأدب القديم من كل ما يحث على الاتباع والتقليد، وينفر من الابتكار والتجديد، فيحذفوها من تراثهم، ولا يستبقوا من التراث إلا ما كان صالحا لبرنامجهم الجديد، والله يوفقهم.
مادية الغرب وروحانية الشرق
اعتاد الكاتبون أن يصفوا الشرق بالروحانية والغرب بالمادية، حتى قال فيدلبند في كتابه تاريخ الفلسفة: إنه قد التقى في الإسكندرية أيام أينعت فلسفتها مادية الغرب بروحانية الشرق. وجرى على أثره كثيرون، وقد طعن في هذا المعنى بعض الكتاب في العهد الحديث؛ إذ قالوا: إن الغرب يفوق الشرق أيضا في المعنويات، كما يفوق في الماديات، فتجد أن عواطفه أرق، وأن عنايته بالمستشفيات والملاجئ وتنظيم الإحسان أرقى.
فإن أريد بالروحانيات الخرافات والأوهام؛ كتحضير الجن، والجن، والسحر، والعزائم، فذلك صحيح في الشرق، وهو أكثر منه في الغرب، أما إن أريد بالروحانية رقي العواطف وأعمال البر والإحسان، على أساس معقول، فذلك في الغرب خير منه في الشرق، وبناء على ذلك يكون الغرب أرقى في الماديات والروحانيات جميعا، ولكن يظهر أن للمسألة وجها آخر غير الذي قصد إليه الأديب الحديث: وهو أن الناحية الروحانية غير الناحية العقلية، وغير الناحية العاطفية، ويتجلى ذلك في الشرق في أمور:
الأول:
أن الشرق منبع الديانات الكبرى فاليهودية والنصرانية والإسلام، وهي الثلاثة الأديان الكبرى في العالم، بل ومذهب بوذا وكنفوشيوس، كلها نبعت في الشرق، وانتقلت منه إلى الغرب، وقد كانت ولا تزال في الشرق أعظم منها في الغرب، ولا شك أن هذه الأديان كلها تبعث في النفس الروحانية، على نحو غير الناحية العقلية والعاطفية.
الثاني:
أنه من أثر انتشار الأديان والتعمق فيها، قيست أمور الحياة بمقياس غير مادي، فالعمل في الغرب يقاس بنفعه أو ضرره فقط، أما في الشرق فإنه يقاس بمقياس حليته وحرمته، أي أنه يرضى الله عنه أو لا يرضى.
وقد بلغ من الغرب عند مقياسه بالنفع والضرر أن نشأ مذهب كبير يرى قياس الأمور خيرها وشرها بمقياس اللذة والألم، فإذا رجحت كفة اللذائذ لأكبر عدد ممكن، فالعمل فضيلة، وإلا فرذيلة، ومن أجل هذا رتبت الفضائل في الشرق ترتيبا غيره في الغرب ، فالمروءة والسماحة والنبل والطاعة من أكبر الخصال الحميدة في الشرق، بينما حفظ الوقت والاقتصاد والصدق في المعاملة من أكبر الفضائل في الغرب.
الثالث:
أن الناس في الشرق - عادة من أثر الأديان أيضا - يمزحون في أعمالهم وغاياتهم من أعمالهم الحياة الأخرى بجانب الحياة الدنيا، فهم إذا قدروا عملا راعوا ذلك كل المراعاة، فحسبوا حساب ما ينالهم من الجزاء الأخروي بجانب الجزاء الدنيوي، وأضافوا على أعمارهم الآخرة على الدنيا، ولا شك أن هذا نوع من الروحانية، أما في الغرب فيكادون يقصرون حسابهم على الدنيا وحدها.
الرابع:
أن الشرقيين يبنون حياتهم على أن هناك عالما آخر هو المسمى بعالم الغيب، فيه الجنة والنار، وفيه الملائكة والجن، وفيه المعجزات إلخ، وكلها أمور روحانية لا مادية، إذا استفتي فيها العلم المادي يقف أمامها حائرا.
نعم ... إننا لا ننكر أن بين الغربيين من يبني حسابه على جنة أو نار، وعلى دنيا وآخرة، ولكنهم ليسوا كالشرقيين في ذلك، وحتى هذا القدر كان نتيجة للاعتقادات الدينية التي انتقلت من الشرق للغرب.
الخامس:
أن من مظاهر الحياة الروحانية في الشرق الاعتقاد بالقضاء والقدر والحظ، وكرامات الأولياء، ونحو ذلك مما ليس له نظير في الغرب، هذا ما أظن أن القائلين بروحانية الشرق ومادية الغرب يقصدونه، يضاف إلى ذلك ما يظهر في أعمال الغربيين عادة من إمعان في المادية، فالعمل يعمل بعد حساب ما ينتجه من الفوائد، وما ينفق عليه قبل الإنتاج، فإن رجحت كفة الفوائد بعد النفقات أقدموا على العمل، وإلا لا، يظهر ذلك في أعمال الشركات ودور الصناعات والنقابات وغير ذلك، وبعبارة أخرى: إن حسابهم غايته الأخيرة هي مقدار الربح المادي، ولا نظر في ذلك إلى خير الإنسانية أو ضررها، فالدور الكبيرة لإنتاج الآلات الحربية من مدافع وطيارات وغواصات ونحو ذلك، تقوم على أساس مقدار ما تنتجه من الربح، ولو أهلكت الملايين من الناس، والنظر الروحاني في هذه الأعمال يختلف كل الاختلاف عن النظر المادي، فهو لا يبيح مصانع آلات القتال؛ لأنها تبيد الإنسانية، وإن أربحت مالا وفيرا.
وكثيرا ما نعى المصلحون على أوروبا إفراطها في المادية، وعبروا عن ذلك بقولهم: إن الغرب قد اختل توازنه، فنما عقله، ونمت صناعته، ونما علمه، ونمت عنده كل مرافق الحياة، ولكنه لم ينم قلبه. وهذا التعبير يساوي ما نقوله من نقص الغرب في الحياة الروحانية.
نعم ... إن الروحانية في الشرق بولغ فيها كما بولغ في مادية الغرب، فاعتراها كثير من الخرافات والأوهام من تدجيل وتخريف واعتقاد شديد في الأرواح، وغير ذلك من مظاهر الأوهام، ويظهر ذلك أكثر ما يظهر في الناحية التي تشيع فيها الروحانية في التصوف، فكم مني التصوف بالدجالين؛ لأن التصوف مبني على الذوق، لا على العلم والعقل، كالفلسفة، وإذا بني على الذوق أمكن فيه الادعاءات الكاذبة والأقوال الفاسدة.
ومن النتائج السيئة لهذه الروحانية المفرطة الكسل والقعود عن العمل، والضعف وعدم الأخذ بأسباب القوة مما جعل حياتهم في عزلة، يعيش أكثرهم عالة على الناس، والحق أن هناك روحانية صادقة تدعو إلى العمل لا إلى الكسل، وتؤمن بالقدر، بقدر.
فإن نحن نقدنا المادية في جفافها، وقصرها حسابها على الظاهر دون الباطن، وعلى الربح دون خير الإنسانية، فإننا ننقد الروحانية في أنها سمحت للأفكار الضالة أن تتسمى باسمها، وتعيش بجانبها، وإذا نحن تمنينا شيئا في هذا الموضوع، فإننا نتمنى أن تطعم روحانية الشرق بالمادية العاقلة التي تدعو إلى القوة واستخدام العلو في مرافق الحياة، كما نتمنى أن تطعم مادية الغرب بشيء من الروحانية الصادقة، لا دجل فيها ولا خرافات ولا أوهام.
إنه إذا حصل ما نتمنى، أضفنا إلى روحانية الشرق يدا عاملة، وقوة حاسمة، وأضفنا إلى مادية الغرب قلبا نابضا، وشعورا فياضا، ولكن أنى لنا ذلك، والمطلب عسير، والطريق شاق؟! وكان حكيما من الإسلام أن يطلب في كل صلاة الدعوة بالهداية إلى صراط مستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم، غير المغضوب عليهم ولا الضالين.
تنظيم الإحسان
استعملت كلمة الإحسان في معان كثيرة، فاستعملت بمعنى الإتقان مثل قوله تعالى:
ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا ، وقوله
صلى الله عليه وسلم : «إذا قتلتم فأحسنوا القتلة».
وتستعمل بمعنى الفضل والزيادة عن أداء الواجب، فأداء الواجب عدل، والزيادة عنه إحسان، وعلى هذا المعنى قوله تعالى:
إن الله يأمر بالعدل والإحسان .
وتستعمل بمعنى التصدق على الفقير والمسكين.
والإحسان قديم وواجب ما دام في المجتمع غني وفقير، ومحتاج وغير محتاج، وربما كان الباعث عليه أول الأمر سد رب الأسرة حاجة أفرادها من أطفال وعاجزين عن الكسب، والإشفاق على ذوي القربى وصلتهم، ثم اتسعت حتى شملت المجتمع بأسره، ثم اتسعت حتى شملت الإنسانية كلها، وحتى شملت الحيوان والنبات، وقد تبنى الإحسان الدين، وجعله إحدى وسائله وربطه بالجزاء الأخروي، والثواب بعد الموت.
وفي العصور الحديثة ربط بالمجتمع واتخذ أشكالا مختلفة مثل رفع الضرائب عن الفقراء، ومصادرة الأغنياء فيما زاد عن حاجتهم وإعطائه للفقراء، وفتح المدارس لأولاد الفقراء، والملاجئ للعجزة، والمستشفيات للمرضى، وغير ذلك.
وقد كان ينظر إليه على أنه إعطاء مال من فرد لفرد أو جماعة يدا بيد، وكان عيب هذه الطريقة أن المال قد يعطى لغير مستحقه، ولمن يدعي الفقر وليس فقيرا، ولمن يتظاهر بالمرض وليس مريضا، ثم في العصور الحديثة نظم الإحسان حتى حرمت بعض الأمم الإحسان الفردي، وأعطي الإحسان للجمعيات الخيرية والهيئات التي تعنى بذلك، فهي التي تعني بدرس الأفراد وحالاتهم المختلفة، وتتلقى الإحسان من المحسنين، وتتصرف كما ترى.
وأعرف أن بعض الممالك الأوروبية قسم البلاد إلى أجزاء، وخصوصا المدن الواسعة، وتبرع أفراد، وخصوصا من السيدات، للقيام بهذا العمل، أعني التبرع بدراسة أحوال الفقير، فكل جماعة تخصصت لحي من الأحياء، وتدخل السيدة منهن بيت الفقير في هذا الشارع فتدرس حالته وأسباب فقره وتقترح العلاج اللازم؛ فقد يكون السبب تعطل رب الأسرة، وقد يكون السبب إدمانه على نوع من المخدرات، وقد يكون السبب التبذير وعدم الحكمة في الإنفاق، إلى غير ذلك من أسباب، وبعد الدرس تقترح نوع العلاج المناسب، من إمداد الأسرة بمال أو معالجة المدمن على نوع من المخدرات، أو النصيحة بالاقتصاد في الإنفاق، أو نحو ذلك، ثم تراقب الحالة وما ترتب على العلاج من نتائج، ونظروا أيضا في حالة أولاد الفقراء، حتى لا يؤول أمرهم من الفقر إلى ما آل إليه أمر آبائهم، فعلموهم حسب استعدادهم، ووجهوا اهتمامهم إلى نوع العلم الذي ينفعهم في حياتهم، فوضعوا نصب أعينهم أن العلم للحياة لا للترف العقلي.
على هذا النحو تكونت الجمعيات المختلفة لتنظيم الإحسان، وتبين أن هذا خير من الإحسان الفردي يدا بيد.
وتعددت أنواع الإحسان في الأمم طبقا لما يظهر من حاجات، فبعض الأمم جعلت مقدارا معينا من اللبن مثلا من حق كل محتاج - وخصوصا الفقراء وأطفالهم - تدفع ثمنه الحكومة مما تحصله من الضرائب على الأغنياء.
وبعض الأمم جعلت علاج كل مريض من حقه على الحكومة، والحكومة تعالج الفقير كالغني مما تحصله من الضرائب، ومن ذلك تعليم أولاد الفقراء مجانا، وعلى العموم نظر إلى الإحسان نظرة اجتماعية خلاصتها تحمل الأغنياء المسائل الضرورية للفقراء.
والإسلام نظر إلى هذه المسألة نظرة جديدة بأشكال مختلفة، فأولا: فرض الصوم حتى يشعر الغني بحاجة الفقير، وثانيا: فرض الزكاة على كل من يملك نصابا حال عليه الحول ، وجعلها بمقدار 2,5٪ من رأس المال، وثالثا: دعا إلى عدم الاكتفاء بهذا الفرض؛ بل الإكثار منه والزيادة عليه بحسب الاستطاعة، فوجدت على أثر ذلك الأوقاف المختلفة الخيرية، عدا الملاجئ والمدارس والمستشفيات وغير ذلك، حتى إن بعض الوقفيات جعلت جزءا منها يصرف في إطعام الحيوانات، وكلما سرت في شوارع المدن مثلا ترى الأسبلة المختلفة لري الحيوانات، حتى قال بعضهم: إن الزكاة والإحسان لو نفذا بإحكام ما وجد فقير محتاج ولا حيوان محتاج.
وقد عقدت الحياة المدنية الحديثة، وجعلت أنواع الحاجات تختلف وتكثر، ولا بد أن يقابلها الإحسان بأشكاله المختلفة المناسبة، وليس كل الإحسان أكلا وشربا؛ فقد يكون الإحسان بالتعليم، وقد يكون بنشر الكتب وترقية العقل، وقد يكون بمنع التعطل، وقد يكون بالتوجيه إلى نوع العمل، وأقدر الناس على ذلك هي الجمعيات التي تدرس البيوت المختلفة في الأحياء، وتضع العلاج لكل حالة، وليس يقدر الأفراد على ذلك.
وفي ضوء هذا إذا نظرنا إلى ما يصرف من أموال الإحسان في العالم الإسلامي وجدناه كثيرا جدا، ولكن ينقصه التنظيم، فهناك أموال تصرف في بعثرة على الفقراء أمام الأضرحة، وهناك الإحسانات الكثيرة على المقابر، وهكذا كلها محتاجة إلى التنظيم، فكل زمن تظهر فيه أشياء كثيرة تحتاج إلى إحسان، وهناك أوقاف كثيرة على مشاريع خيرية بعضها أتخمت بالوقوف عليها وبعضها في حاجة إلى المعونة، فيجب أن ينظر إليها كوحدة، يؤخذ من الجهات الخيرية للجهات الفقيرة، بل إن لولي الأمر أن يوحد أموال الأوقاف ويصرف منها على جهات لم ينص عليها متى ظهرت فائدتها، فلكل زمن حكمه، ولكل زمن حوائجه.
تغير النظر إلى الإحسان من جهتين: الأولى: أنه كان ينظر إليه على أنه تفضل من الغني على الفقير؛ يفعل إن شاء ويترك إن شاء، فجاءت العصور الحديثة وجعلته واجبا محتوما لا يفعله الغني تفضلا بل يفعله أداء واجب، وكان جميلا تعبير القرآن عن ذلك بقوله:
وفي أموالهم حق للسائل والمحروم .
والثانية: أنه كان ينظر إلى الإحسان على أنه علاقة بين فرد وفرد، فجاءت العصور الحديثة فرأت أنه واجب اجتماعي، فوجود الفقراء في مجتمع مظهر مرض له، والإحسان علاج اجتماعي، ولا يصح المجتمع إلا إذا عولج مرض الفقر فيه، وكما أن الفقر مرض اجتماعي فالإحسان كذلك علاج اجتماعي.
وقد يلحق بهاتين الجهتين مسألة ثالثة، وهي أن الإحسان لا يصح أن يقتصر على المال؛ فقد يكون الإحسان بتوجيه الفقير حتى يكسب، وبتعليم الجاهل حتى يقدر، وبمعالجة المريض حتى يصح، بل قد يكون سلبيا لا إيجابيا، بمنع المخدرات عن الفقير، ومحاربة الأمراض قبل تفشيها، بل رأى المفكرون في العصور الحديثة أن الإحسان قد يكون جريمة إذا كان إلى شخص كبير أو صغير يحمله الإحسان إليه على أن يتخذ السؤال حرفة، أو يأخذ الصدقة فيتكيف بها، ومن أجل هذا كله أصبح الإحسان لا ينظر إليه بالسهولة التي كان ينظر إليه بها، فيجب أن يوضع محله بعناية وبدقة؛ حتى لا يسبب مرضا أعظم.
لا يكفي أن يتلذذ المحسن من إحسانه بل لا بد من أن يقابل مرضا اجتماعيا يعالجه.
والأدب العربي مملوء بالشعر الذي يمدح العطاء الفردي، ولكن لا أذكر أني رأيت شاعرا ينظر إلى الإحسان على أنه واجب اجتماعي، فيجب أن يتحور النظر بتحور الزمن، والله الموفق.
الثقافة الأدبية والثقافة العلمية
نعني بالثقافة الأدبية المعنى الواسع الذي استعمل فيه كلمة كلية الآداب؛ إذ تشمل الدراسة الأدبية من شعر ونثر والجغرافيا والتاريخ والفلسفة وآداب اللغات، كما نعني بالثقافة العلمية المعنى الذي استعملت فيه كلمة كلية العلوم من طبيعة وكيمياء ورياضة وجيولوجيا ونحوها.
والحق أن لكل ثقافة من هاتين الثقافتين ميزات وأضرارا، فمن ميزات الثقافة الأدبية توسيع الذهن وتربية العواطف وفهم الحياة الاجتماعية على وجهها، ومن أضرارها عمومها وعدم دقتها وقبول من تثقف بها للجدل وقدرته عليه واستطاعته إقامة البرهان المنطقي على الشيء ونقيضه إلخ.
ومزية الثقافة العلمية التحديد والدقة؛ إذ كلها تقريبا مثل 1 + 1 = 2 أو مضاعفات ذلك، هذا إلى أن عقلية أصحاب الثقافة العلمية عقلية لا تقبل الجدل، فالمسألة إما صحيحة أو خاطئة، وليس هنالك رأي وسط، ومن عيوبها خلوها من العواطف واقتصار صاحبها على دائرة معينة لا يسبح في غيرها إلا إذا تثقف ثقافة أدبية، ولذلك نرى رياضيين أو مهندسين بارعين وهم ماهرون في فنهم، ولكنهم إذا خرجوا عنه قيد شعرة كانوا أشبه بالعوام.
والثقافتان معا لازمتان للأمة؛ إذ لا يمكن أن تخلو أمة حية من ثقافة أدبية تغذي العواطف، وثقافة علمية تغذي العقل، ولذلك حرصت كل الأمم تقريبا على أن يكون لها كلية آداب، وكلية علوم؛ كلية آداب لتحيي الأدب والشعر وتدرس التاريخ اتعاظا بالماضي، والجغرافيا للثقافة العامة، وكلية علوم تضبط الذهن وتقوي العقل.
ولكننا مع الأسف نرى أن العالم الإسلامي من أوله عنى بالآداب أكثر من عنايته بالعلوم، ومصداق ذلك أننا لو دخلنا مكتبة عربية وجدنا ما يساوي واحدا في المائة علما والباقي أدبا، ولو حصرنا ما في كتب التراجم مثل ابن خلكان وجدنا أن أكثره أدباء بالمعنى الواسع، وأقله علماء، وبينما نجد مئات الأدباء من شعراء وكتاب، نجد بينهم قليلا من أمثال ابن الهيثم وأبي الوفاء الجوزجاني.
والسبب في هذا على ما يظهر أن الأدباء بطبيعة أدبهم وبطبيعة طول لسانهم كانوا أقرب إلى الملوك والأمراء يمدحونهم ويتزلفون إليهم، بينما لا يستطيع العلماء أن يفعلوا شيئا من ذلك؛ إذ هم قاصرو اللسان لا يتكلمون إلا بقدر، والأدباء عادة أقدر على السمر اللطيف والحديث الممتع والنكت الطريفة، على حين أن العلماء عادة متزمتون ثقيلو اللسان غير قادرين على النكات.
وكان مظهر غلبة الأدب على العلم إلى عهد قريب أن طلبة الآداب البكالوريا في المدارس المصرية يفوقون بكثير طلبة العلوم عددا، ومجال الوظائف أمامهم أوسع، فإذا نحن عددنا الدراسة القانونية من الآداب - على توسع كثير في ذلك - وجدنا أن معظم أعضاء البرلمان من المثقفين القانونيين، وكذلك الأمر في معظم الوزارات، حتى لقد يكون من المضحك أن نرى وزير الأشغال أو وزير صحة أديبا، بينما لا نجد مثلا وزير معارف أو وزير عدل عالما. •••
وإذا نحن نظرنا إلى المدنية الحديثة وجدناها مؤسسة على العلم أكثر من الأدب، فالصناعات والمخترعات الحديثة والطب وما يحتاج إليه من كيمياء وتشريح وغير ذلك كلها مبنية على العلم، نعم؛ إن المدنية الحديثة لم تهمل الأدب ولكنها مع ذلك قومت العلوم تقويما كبيرا، فما أحوج الشرق وهو يحذو حذو المدنية الغربية ويبني أساسه على أساسها أن يكثر من عنايته بالعلم ويقبل عليه إقبالا أكثر مما هو عليه الآن، فلدى الشرقيين على العموم موارد خامة غنية يجب أن تبحث وأن تستثمر وتبنى حياتهم الاقتصادية عليها، ثم لا يصح أن يظلوا عالة على غيرهم، بل لا بد أن ينهضوا نهضة الغرب فيبارونه ولا يقفوا مقلدين له.
ثم إنهم - لثقافتهم الأدبية - كثيرو الكلام، كثيرو الجدل، ولا يتناسب محصول فعلهم مع محصول كلامهم، ومجالسهم مملوءة بالجدل والمناقشة، ومشروعاتهم مملوءة بالبحث من غير نتيجة، وأظن: لو أنه زادت ثقافتهم العلمية أمنوا كل هذه الأخطاء.
بل نرى أن اتجاه الغربيين إلى العلوم وتوسعهم فيها جعلت أدبهم ملونا بلون خاص، وهو كونه ذا موضوع، على حين أن الأدب الشرقي عبارة عن ألفاظ لا موضوع لها، فنرى مثلا في المكتبة الغربية كتابا أدبيا في الفلك ككتاب الكون الغامض للأستاذ «جونز» وكتابا أدبيا في العلوم مثل كتاب «العلم من كرسي مريح» إلى كثير من مثل هذه.
ولو ثقف الأديب بعض الثقافة العلمية الواسعة لامتلأ الأدب بالتشبيهات بالمعاني الحديثة، فكم في الكهرباء والمغناطيسية من ذخيرة أدبية، ولو تثقف العالم بعض الثقافة الأدبية العامة لحسن تعبيره ووضح مقصده.
ونحمد الله أن نجد طلبة البكالوريا العلمية قد ازداد عددهم عما كان وطغى على البكالوريا الأدبية، ولكننا نحتاج إلى زمن حتى نجني ثمار ذلك، فلا يزال خريجو الكليات العلمية أقل مما تتطلبه المدارس، وهم تتخطفهم الشركات بأعلى الأجور.
وإذا كثر العلماء بحق رأينا ذلك يتبعه لا محالة نهضة قوية في الصناعات والاختراعات، بل أظن أن ذلك يتبعه أيضا رقي في الأخلاق، فالمتأدب أقدر من العالم على تسامحه في الأخلاق؛ لأنه أقدر على التأويل، ومصيبة الناس عادة في المتأولين، كما قال البوصيري في إحدى قصائده:
وما أخشى على أموال مصر
سوى من معشر يتأولونا
ونحن لو درسنا الشرق لرأينا فيه من الكفايات ما يكفي للعلم والأدب جميعا، فالجو الذي أخرج ابن الهيثم والجوزجاني وإسماعيل باشا الفلكي وشفيق بك يكن الرياضي يستطيع أن يخرج غيرهم من العلماء لولا أنهم يوجهون إلى الأدب فيخرجون متوسطين في الأدب، ولو وجهوا إلى العلم لكانوا نابغين، ومن الأدلة على ذلك أن الشرقيين الذين يرسلون إلى أوربا يجلسون مع الطلبة الأجانب فيجارونهم أو يسبقونهم وربما كان أهم عامل في ضعفهم لا قلة عقلهم، ولكن مركب النقص عندهم، فعندهم حالة نفسية يشعرون معها أنهم أقل من أمثالهم من الغربيين، وأنهم لا يحسنون إلا تقليدهم، ولو زال مركب النقص هذا لكانوا مثلهم في الابتكار والاختراع. •••
إن مشكلة بلاد الشرق على العموم أنها إلى الآن لم تطبق الطرق المتبعة في تقويم ملكات الناشئين، فتوجه بعضهم إلى أدب، وبعضهم إلى علم، وبعضهم إلى صناعة أدبية، ولو فعلت لزاد عدد النابغين، وأخذ كل مكانه الصالح له، أما أن يوجهوا أو يتركوا وشأنهم، تلعب بعقولهم الوظائف الخالية، أو الطموح إلى درجة جامعية، فضرر كبير، نظيره كما إذا أعطيت أديبا كتاب فقه، وفقيها كتاب أدب، وشاعرا كتاب رياضة، ولو وزع كتاب الرياضة على الرياضي، وكتاب الشعر على الشاعر، وكتاب الفقه على الفقيه، لكان ذلك أكثر فائدة، وأطيب إنتاجا.
وكم في كل أمة من كنوز مدفونة، في الفلاحين والعمال وعامة الشعب، لا ينقصها إلا اكتشافها، والله الحكيم لم يخل أمة من ملكات مختلفة، تكفي لسد حاجاتها، كما أنه لم يخل طائفة ممن يعدون نوابغ في كل ناحية، ألا ترى حقل القمح أو الذرة أكثره وسط، ولكنه على ذلك لم يعدم فروعا تعلو غيرها، وتسمو فوقها، ولا يكون اكتشاف ذلك إلا بتوفيق من الله.
أنا ... ونحن
«أنا»، كما هو واضح، تدل على الفردية، و«نحن» تدل على الاشتراك، وقد اشتقوا من «أنا» الأنانية بمعنى حب الذات والاستئثار بمصالحها الشخصية، ولا أدري لماذا لم ينسبوا إلى «نحن»، فيقولوا: «النحنية» للدلالة على الشخص وغيره، أو للدلالة على شعور الشخص نحو مجتمعه .
وبعد هذه المقدمة القصيرة نقول: إنه مما يلاحظ أن الشعوب المتأخرة يغلب عليها الشعور ب «أنا»، والشعوب الحية المتقدمة يغلب عليها الشعور ب «نحن»، وأعني بالشعور «بنحن» شعور الفرد بالمجموع البشري الذي ينتسب إليه، سواء كان جميعه أو ناديا أو أسرة أو قبيلة أو أمة، وكل إنسان عنده الشعوران معا: الشعور «بأنا» والشعور «بنحن»، ولكن تختلف الأفراد في ذلك اختلافا كبيرا، فترى بعض الناس يشعرون شعورا قويا «بأنا»، ويوجهون كل أعمالهم وتفكيرهم نحو مصالحهم الشخصية، بل لا يعملون عملا ما إلا إذا لمحوا فيه منفعة لهم شخصية، ومن الناس من يقوى عنده الشعور «بنحن»، فهو دائما يعمل الخير للناس، ويسعى في إيصال الخير إليهم، ودفع الشر عنهم، ويجد لذته في ذلك، ومن الناس من هو بين بين، وكذلك الشأن في الأمم، أمة يغلب عليها الأنانية، وأخرى يغلب عليها الشعور بالغيرية، كالذين وصفهم الله سبحانه بقوله:
ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ، والذي يلاحظ أنه في الشرق تغلب الأنانية على أفراده، وفي الغرب تغلب الغيرية على أفراده، ولذلك عدة مظاهر: (1)
شعور الفرد في الشرق بناديه أو بحزبه أو بالجماعة التي ينتسب إليها أو بأمته شعور ضعيف، على عكس ذلك في الغرب، فشعور الفرد هناك نحوها كلها شعور قوي، ولذلك تنجح في الشرق أعمال الأفراد أكثر مما تنجح أعمال الجماعات، كالشركات والنوادي والجمعيات، وكم سمعنا بجمعيات وشركات تأسست في الشرق، ثم أفلست، وحتى الجمعيات التي تنجح إنما تنجح لفرد قوي يرأسها، ويوجهها، ويحمل أكثر أعبائها، في حين أن باقي الأعضاء يتكلون عليه، فهو في الواقع عمل فرد في شكل جمعية؛ لأن نجاح الجمعية كجمعية معناه أن أفراد الجمعية كلهم يعملون، كآلة الساعة: عقرب وبندول ورقاص وغيرها، كل يعمل عمله، فيكون من جراء ذلك ساعة مضبوطة، وهي درجة ما أظن أن الشرق وصل إليها، وهي أشياء لا بد منها في حياة المجتمع الراقي. (2)
ومن مظاهر ذلك أيضا أننا في الشرق نحترم الملكية الخاصة، ولا نحترم الملكية العامة، مثال ذلك: أننا في الشارع لا نشعر بأنه ملك للناس كلهم، وكأنه ملك لنا وحدنا، فنرمي فيه بالأوراق وبقشور الفاكهة وبالقاذورات، ولو كنا نشعر بأنه ملك عام للناس كلهم ما أجزنا لأنفسنا ذلك، بل ونستجيز لأنفسنا أن نقطف وردة من حديقة عامة، مع أن الوردة ليست ملكنا، ولكنها ملك للناس كلهم، يتمتعون بمنظرها ورائحتها، وتعجبني حكاية لطيفة أن الشيخ محمد عبده كان يركب سفينة مع صديق له فسار الصديق في السفينة حينا وعاد، فوجد الشيخ محمد عبده يبكي، فقال له: مم تبكي؟ قال: رأيت مربية إفرنجية على السفينة تربي طفلا صغيرا، فجرى الطفل نحو وردة في أصيص من الأصص وقطفها، فأنبته على عمله تأنيبا شديدا، وكان مما قالته له: إن الوردة ليست ملكك حتى تقتطفها، ولكنها ملك لركاب السفينة جميعا، بل ولركابها غدا، فأنا أبكي لأن هذه المعاني الراقية لم يفهمها حتى علماؤنا.
ومن هذا القبيل ما نراه في حفلات السينما والتمثيل وحفلات الموسيقى، فكل فرد منا يشعر «بأنا» على حين يشعر الغربي «بنحن»، ونتيجة ذلك أن الشرقي يستبيح لنفسه في هذه الحفلات أن يتكلم مع صديقه بصوت عال يشوش على من بجواره، خصوصا إذا كان من الطبقة الأرستقراطية، فيشعر بأنه فوق القانون وفوق الجميع، من غير أن يشعر أن عليه واجبا أن يحترم حقوق الآخرين، فإذا أنت نبهته إلى ذلك برفق تجهم، وقال: إنه حر يفعل ما يشاء، نعم؛ إنه حر، ولكن حريته مقيدة بمصالح الآخرين، ككل حرية، ونحن نرى أن الغربي إذا أراد أن يحدث صديقه في سينما أو تمثيل أو في ترام حدثه همسا، بحيث لا يشعر بذلك من بجواره؛ وذلك لقوة شعوره «بنحن». (3)
وحتى في العمال الخيرية، كالإحسان على الفقير، يشعر الشرقيون «بأنا» لا «بنحن»، فالشرق في الغالب لا يحسن إلا إذا فاجأه الفقير وألح عليه بالسؤال، وهو إذا أعطاه أعطاه يدا بيد، وكل هذا من غلبة الشعور «بأنا»، أما الغربي فيشعر «بنحن»، فهو يشعر بالفقراء لا بالفقير، وبالمرضى لا بالمريض، فهو يتبرع للجمعيات الخيرية التي تصرف أموالها على الفقراء والمرضى ؛ إذ إن شعوره «بنحن» يشعر بأن في أمته طبقة من الفقراء والمرضى يجب عليه أن يشاركهم في شعورهم، ويتبرع بجزء من ماله لهم.
وهذا الشعور غير الشعور بالفردية وأرقى منه، كالذي قاله علماء النفس في الأطفال: إن الطفل يبدأ فيفهم الأبيض ولا يفهم البياض؛ لأن الأبيض جزئي، والبياض كلي، وفهم الجزئي يتقدم فهم الكلي. •••
من أجل ذلك كله وجب على القادة في الشرق أن يضعوا أمام أعينهم التربية الاجتماعية، في الأسر، وفي المدارس، وفي المحال العامة، فلا يسمحوا للأفراد أن يسيروا حسب ميولهم الفردية، بل يشعروهم بأنهم جزء من مجتمعهم الذي هو المدرسة أولا، والأسرة ثانيا، والمجتمع العام ثالثا، ولا يسمح لفرد أن يسير وفق هواه، فإذا اعتاد العمل والتفكير في المجموع وهو طفل سهل عليه أن يراعي ذلك وهو كبير، بل نستطيع أن نعودهم ذلك في ألعابهم، فإذا لعب الكرة مثلا قوينا في نفسه أنه مسئول عن فرقته اللاعبة معه، وأنه إذا غلب فغلبته لفرقته، وإذا قصر أو لعب لعبة رديئة أثر ذلك أثرا سيئا في فرقته، فذلك يشعره «بنحن» أكثر من شعوره «بأنا»، وعلى هذا ما جرى عليه العمل الآن مبدئيا في بعض المدارس من تقسيم الطلبة إلى فرق: فرق تعنى بالفن، وأخرى بالتاريخ، وثالثة باللغات، وهكذا، وكل فرقة لها شارة معينة، وكل طالب من فرقة يفتخر بأن فرقته نجحت، ويخجل أن فرقته فشلت، وفي هذا كله درس قوي من الشعور «بنحن».
ومما ساعد الغربيين على هذا الشعور «بنحن» التربية العسكرية، فالجندي في الفرقة يشعر بأنه جزء من الفرقة كلها، في نظامها وألعابها وحربها، وأنه مسئول عن كل شيء يصيب الفرقة.
وفي الحديث الشريف أن جماعة ركبوا سفينة فأخذ أحد الركاب يكسر لوحا من ألواحها، قال الحديث: فإن أخذوا على يديه نجا ونجوا، وإلا هلك وهلكوا. وفي هذا شعور كبير بالتضامن؛ وبعبارة أخرى: شعور «بنحن»، وفي القرآن الكريم:
واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ، أي أن الظالم والجاهل والسيئ العمل لا تعود نتيجة عملهم على أنفسهم فقط، بل تتعدى إلى جميعهم ومن يشاركونهم في حياتهم الاجتماعية.
وأنت إذا أردت أن تحسب قوة أسرة أو فرقة عسكرية، أو حتى قوة أمة، فلا تحسب ذلك بعددها وثروتها، وإنما تحسب ذلك بالحبال التي تربطها، فإن كانت الحبال متينة فاعلم أنه مجتمع قوي متين، وإنما أتيت الأمم من قبل ضعف الروابط بين أفرادها، وانحلال عرواتها.
فإذا أرادت أمة أن تنهض فلتجعل من أول واجباتها البحث في عوامل انحلالها، ولتعن بالروابط بين أفرادها، ولتعالج هذا الأمر، في أطفالها في مدارسهم وألعابهم، وفي جنودها بالنظم المحكمة التي تزيد من روابطهم وتجعل كل جندي يشعر «بنحن» أكثر مما يشعر «بأنا»، ولتنشر التربية العسكرية بين كل شبانها، ولتجعل من أهم أغراضها تقوية الشعور «بنحن» إلى أبعد حد، ووقف الشعور «بأنا» إلى الحد الذي يتطلب المحافظة على الذات، ولا شك أن هذا مطلب شاق عسير، ولكنه في الإمكان.
والتربية الإسلامية الأولى نجحت في ذلك نجاحا كبيرا، فكم من أمثلة كثيرة ضحى فيها الأفراد بمصالحهم الشخصية للمصلحة العامة، فهذا عمر يرضى أن يعيش عيشة في منتهى البساطة ليسعد الناس، وهذا عثمان يتبرع بالمال الكثير لإنشاء جيش، وأمثالهما كثير مما لا يعد ولا يحصى، ولكن من الأسف خلف من بعدهم خلف لم يكن أمام أعينهم إلا «أنا»، وقال قائلهم: «ومن بعدي الطوفان»، فيستبيح لنفسه أن يظلم ما استطاع أن يظلم، وأن يجني لنفسه المال ويتمتع بالشهوات ما أمكنه ذلك، وأن يعيش عيشة في منتهى الترف ولو تضور الناس من حوله جوعا، فكان من ذلك تدهور الشرق على النحو الذي رأيناه، وهو لا يصلح إلا بازالة كل عوامل الفساد، وتأسيسه على أسس جديدة أولها وضع «نحن» موضع «أنا».
سنن الله في الأمم
يسير العالم على نظم دقيقة في كل شيء، سواء في ذلك النبات والحيوان والإنسان، وكما أن للأفراد سننا ثابتة، من صبا وشباب وكهولة وشيخوخة، ومن صحة ومرض وقوة وضعف، كذلك شأن الأمم، لها قوانين لحياتها وفنائها وصحتها ومرضها، وقد نبه القرآن الكريم على كثير من هذه القوانين، نتعرض لبعضها اليوم.
من تلك القوانين: (1)
حفظها بالصالحين من أبنائها، ومعنى ذلك أنه لا بد لحياة الأمم من طائفة فيها يكون عملها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبعبارة أخرى: الدعوة إلى الإصلاح، واستنكار الفساد، وهذه الطائفة تأخذ أشكالا مختلفة، ففي العصور الإسلامية الأولى كان ذلك وظيفة من يسمون أهل الحل والعقد، وفي العصور الحديثة كان ذلك وظيفة البرلمانات ورجال الصحافة ورجال الإذاعة ونحو ذلك، على كل حال لا بد من قوم يتولون هذه الوظيفة بجد واجتهاد وأمانة وإخلاص، قد بلغوا من حسن النية مبلغا كبيرا، ووصلوا في الثقافة واستنارة الأذهان وطهارة الشعور ما يستطيعون به أن يوجهوا قومهم إلى ما ينفعهم، ويحذروهم مما يضرهم، سواء كانوا زعماء أو أعضاء مجالس نيابية أو صحفيين أو نحو ذلك، فإن هم قصروا عن ذلك تخبطت الأمة وسارت في ظلام، وكان عاقبتها الفناء، يقول الله في ذلك:
فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون ، ويقول:
فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض ، وقد جاءت هذه الآية عقب حكاية أقوام أهلكهم الله؛ لظلمهم وفسادهم فيقول: إنه لو كان فيهم جماعة أو جماعات تنهاهم عن الفساد وتحثهم على الفضائل لما هلكوا. أي أن الصالحين المصلحين هم الذين يحفظون الأمة من التردي والهلاك، شأنهم في ذلك شأن الأطباء للأفراد، فالأفراد إذا مرضوا استدعينا لهم الأطباء، فشخصوا أمراضهم، ووصفوا لهم علاجهم، فإن ساروا عليه نجوا، وإلا هلكوا، والمريض إذا لم يستطب طبيا أو استطبه ولم يسمع بقوله كان مصيره الهلاك، وهذه الطائفة هي التي سماها الله في القرآن بالصالحين فقال:
ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون ، وقال في آية أخرى:
وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم ، غاية الأمر أن الناس غيروا معنى الصالحين، ففهموا منهم الذين يكثرون الصلاة والصيام ويكثرون من تلاوة القرآن، ولو اكتفوا بذلك وقضوا فيها حياتهم، على حين أن المراد بالصالحين الذين يستخلفهم الله في الأرض هم الصالحون لإدارتها، القادرون على تدبير شؤونها، الذين يستطيعون تنظيم أحوالها، أما الذين يقتصرون على الصلاة والصيام وتلاوة القرآن من غير أن يكون لهم حسن تصرف في الإدارة، وعجزوا عن القيام بشئون الناس وتدبير أحوال الأرض، فليسوا هم الذين يقصدهم الله بالصالحين، فلكل شيء وجه يطلق عليه أن الرجل صالح له أو غير صالح، فالصالح في السياسة غير الصالح في تدبير الأموال غير الصالح فقط للصلاة والزكاة، ولكل موضعه، ومن أجل هذا الخطأ ركن قوم إلى دفع العدو بقراءة الأوراد والبخاري وتلاوة القرآن، مع أن الذي يصلح لاتقاء العدو هو محاربته بمثل سلاحه، لا بمجرد الجلوس في المساجد وقراءة الدعوات والابتهالات من غير أن يعدوا لهم ما استطاعوا من قوة، والخلاصة من كل هذا أن من سنن الله في الأمم أنه ما لم يكن في الأمة قوم يفهمون أمتهم، ويعلمون علما تاما ببيئتهم، وما تقتضيه من أعمال، فينبهونها إلى واجبها، ويحذرونها من مفاسدها، لم يكن لها بقاء، هكذا يقول الله تعالى وهؤلاء هم الذين يسميهم الله الصالحين.
وبقدر جد هؤلاء الصالحين ونشاطهم وأعمالهم تكون حياة الأمم، وبقدر قلتهم يكون ضعف حياتها، وبقدر عدمهم يكون فناؤها. (2)
من سنن الله أيضا في الأمم أن الأمة إذا طغى أمراؤها، وانغمسوا في الترف والنعيم، ولم يأبهوا لمصالح شعبهم، ولم يأخذ العقلاء فيها على أيديهم، كان مصيرها الفناء، يقول الله تعالى:
ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار ، ويقول:
وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا ، أي أن أولي الأمر في الأمة لو جروا وراء شهواتهم، ولم ينظروا إلا إلى ترفهم ونعيمهم، بادت دولتهم؛ لأنهم إن فعلوا ذلك أنفقوا الأموال في ملاذهم، ولم يقيموا وزنا لقوة الشعب الحربية ولا لقيمته العلمية والأدبية، فكيف تبقى الأمة مع ذلك، أما إن صلح أمراؤها، وساروا بالعدل مع شعوبهم ومع أنفسهم، وأعطوا لكل ذي حق حقه، وأعطوا لأنفسهم حقوقها ، والتزموا بواجباتها، أبقاها الله ولم يفتتها، وهذا هو الشأن في كل عصر، ظلم الحكام يرديها ويهلكها، وعدل الحكام يعليها ويصلحها، يقول الله تعالى:
وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون
أي أن الله لا يهلكها إذا صلح أهلها، وتجنبوا الفساد والظلم، والمراد بكونهم مصلحين: أنهم مصلحون في أعمالهم الاجتماعية والعمرانية، فلا يبخسون الحقوق، ولا يرتكبون الإثم والعدوان والطغيان، إن شئت فانظر في ظل هذين المبدأين الكبيرين إلى الأمم التي حولك، واستعرض قويها وضعيفها، تر أن الأمة إذا سارت على هذين المبدأين قويت وبقيت، وإذا أهملتهما فشلت وضعفت، وبقدر قوتهما وضعفهما تضعف الأمم وتقوى، إن خير الأمم الحالية من قوي برلمانها، واستطاع أن يشرف على حكومتها، ووجهها الوجهة الصالحة، وحذرها من التردي في المهالك، ولم ينكص عن قول الحق والجهر به والدعاء إليه، لا يخاف من قوي لقوته، ولا من فاسد لفساده، ولا من غني لغناه، وإذا خالف رأيه رأي الحكومة قال ذلك في صراحة، وسمع في ذلك صوت ضميره ودينه، لا صوت شهواته ومغنمه.
كذلك من ميزان حياة الأمم الآن مقدار نزاهة حكامها وأمرائها، وعدم وقوعهم في الطغيان والإسراف في الترف والنعيم، إننا نرى أن الحكومات الصالحة في الأمم المختلفة تسيطر حتى على الملوك والأمراء، فتمنعهم من أن يطغوا، وتمنعهم من أن يبذروا أموال الشعوب في ملاذهم وشهواتهم وشرهم، فإن هي فعلت ذلك سمح الله لها بالرقي والبقاء، ونحن نرى إلى الآن أنها إن لم تفعل حاق بها وبهم الهلاك، ونرى في القرآن إشارة كريمة في قوله تعالى:
ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار ، أي أنه لا يصح لأولي الحل والعقد والممتازين من الأمة من علماء دين ورجال سياسة وأعضاء برلمان أن يركنوا إلى الملوك والأمراء الطغاة، ومعنى الركون إليهم تشجيعهم على ما هم فيه من فساد، أو تركهم يعبثون كما يشاءون، بل يجب الضرب على أيديهم، وإقناعهم بالعدول بالحسنى إن أمكن، وبغير الحسنى إن لم يمكن، فإن فعلوا نجا الأمراء والملوك ونجوا، وإلا هلك هؤلاء وهؤلاء.
هذان قانونان من قوانين التي سنها الله لحياة الأمم وفنائها، وهناك قوانين أخرى نتحدث عنها في فرصة أخرى إن شاء الله.
سنن الله في الكون
كتبنا في المقال السابق عن بعض سنن الله في الأمم، واليوم نذكر طرفا آخر من هذه السنن.
من ذلك أنه إذا فسد الرؤساء وسكت أهل الرأي عن النصيحة، استشرى الفساد، وعم الأمة كلها، وأما إن اجتمع أهل الرأي وأرباب الهمة من أفرادها وتعاونوا على اجتثاث هذه الشجرة الخبيثة واستئصال جذورها بقيت وصلحت، ومن أجل هذا تجتهد الأمم المستعمرة أن تولي رجلا يكون طوع أيديهم، فيستعمرون الأمة عن طريقه، وقد أوجب الله على نفسه عقاب الأمم المذنبة، ولا يرتفع العقاب إلا بالتوبة، لذلك لما قدم عمر بن الخطاب العباس للاستسقاء؛ لقرابته من النبي
صلى الله عليه وسلم
قال: «اللهم إنه لم ينزل بلاء إلا بذنب، ولم يرفع إلا بتوبة».
ومن القوانين العامة في الأمم أن الظلم والبغي والفساد سبب في انحطاط الأمم وضعفها وهلاكها، بل ورد في القرآن أن ذلك سبب لقلة المطر وللقحط ولفساد الزرع وهلاك الحرث والنسل.
ومن هذه القوانين أن الأمم تهلك لسيطرة أصحاب الأموال ورغبتهم أن يفعلوا بأموالهم ما يشاءون، وقد ضرب الله مثلا أمة شعيب؛ إذ كانوا يستبيحون تنمية الثروة بكل الطرق الممكنة؛ كالتطفيف في الكيل والميزان، وبخس الناس أشياءهم، فكان شعيب - عليه السلام - ينهاهم عن ذلك كله، ويوصيهم باجتناب أكل أموال الناس بالباطل وقناعتهم بالحلال، وهم يقولون: إنهم أحرار في أموالهم يفعلون بها ما يشاءون:
قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء ، فعاقبهم الله بضياع أموالهم، ولا تزال المشكلة المالية وحرية التصرف من أعقد المشاكل الاجتماعية اليوم، يرى أرباب الأموال أنهم أحرار في مالهم يفعلون فيه ما يشاءون، ويرى المصلحون والأخلاقيون أن المال لا بد أن يخضع للأخلاق، فلا يستغل الفقير استغلالا يضر به، وقد جعل الله من أسباب صلاح الأمم قيامها بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجعله أمرا لازما لصلاح الأمة، فإذا قاموا به نجوا، وإلا هلكوا، وقد ذم الله اليهود بقوله:
لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داوود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون * كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون .
ومن سنته تعالى ابتلاؤه للأمم بالنعم والنقم، فالله يختبر المؤمنين الصالحين الأخيار، والمجرمين الأشرار بكثير من مصائب الدنيا، فالمؤمن البصير يراها تربية وتهذيبا وتمحيصا له تزيده إيمانا وبصيرة يقول الله تعالى:
لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور
فيرى المؤمن في هذه الدنيا مظاهر كثيرة لتنعم المجرم وكثرة ثروته حتى يستفزه ذلك المنظر، ويرى المؤمنين الصادقين في بلاء ومحنة، فإن صبر لهذه المناظر اجتاز هذه المرحلة بنجاح.
كذلك من سنن الله في الأمم أنه إذا تفرقت الأمم شيعا وأحزابا؛ يضرب بعضهم بعضا، ويحارب بعضهم بعضا، حق عليها الفناء، وإذا توحدوا وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر وتعاونوا وحمل كل عبئه، وساعد الباقين على تحمل أعبائهم نجحوا وكونوا أمة صالحة، وهذا ظاهر في تاريخ الأمم؛ قديمها وحديثها، غربيها وشرقيها، وعبر الله عن نتيجة الذين يتحدون ويتعاونون بقوله:
يوم تبيض وجوه وتسود وجوه
وابيضاض الوجوه من ارتياحهم لحسن النتيجة، واسودادها لما يرون من سوء النتيجة، ثم إن الله جعل لحياة الأمم مقومات؛ كتربية النشء تربية صالحة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة نظام العائلة، ونحو ذلك، فإذا تمت مقومات الأمة صلحت، وإذا لم توجد أو لم يوجد بعضها لم تتكون أمة صالحة، وكذلك للأمة قوانين لارتقائها، لا ترتقي بدونها، كبنائها الحياة على العدل، وتدعيمها بالقوانين الاقتصادية التي تكفل رفاهيتها وثروتها، فمن عمل بتلك القوانين نجح وارتقى، وإلا ضعف وفني، كذلك نرى أن الأمة إذا أخذت بمبدأ الشورى ومبادلة الرأي وخصوصا في جلائل الأعمال ارتقت، وإذا استبد حكامها بالرأي وفرضوا آراءهم من غير مناقشة ضعفت وانهارت؛ لأن المستبد مهما عقل فليس بمأمون الزلل.
تلك بعض قوانين الله في الأمم ، أبانها القرآن الكريم والسنة الصحيحة، فمن اتبعها وعمل بها أمن الفناء وضمن الرقي والبقاء، ومن تهاون فيها كان عرضة للضعف والفناء، وهذه القوانين دائمة لا تتغير، ولن تجد لسنة الله تبديلا، كانت فيما مضى، ولا تزال باقية إلى اليوم، وستظل باقية في المستقبل.
لقد غير علماء الاجتماع صيغتها وأسماءها، ولكن الحقيقة واحدة مهما تغيرت الأسماء، والأمم تحافظ على بقائها بمقدار اتباعها لها، وتنحط بنسبة ضياعها لها، وهي قوانين ثابتة ثبوت القوانين العادية، كالتمدد بالحرارة والانكماش بالبرودة.
لا يهم هذه القوانين إلا السير عليها لتؤدي نتيجتها سواء علم أصحابها أنهم يسيرون عليها أو لا، شأن الشخص يتعاطى سما فتكون له نتيجته المحتومة ولو لم يعلم أنه سم، ويتعاطى الدواء الناجع، فيشفى ولو لم يعلم أنه دواء، وهكذا شأن القوانين الطبيعية.
لقد سار على مقتضاها المسلمون الأولون ففازوا بنتيجتها، اتحدوا ولم يتفرقوا، وعدلوا ولم يظلموا، واتبعوا القواعد الاقتصادية في الشئون المالية فنجحوا نجاحا باهرا، وفتحوا ما لم يكن في الحسبان، وهرع الناس إليهم من ظلم الفرس والرومان، وكانوا في كثير من المواقف يعينونهم على عدوهم ويعرفونهم بمواضع الضعف عند حكامهم، كما فعل الإسبانيون في إسبانيا والأقباط بمصر، وليس يصلح المسلمون إلا بما صلح به أولهم، انظر إلى الأمم المختلفة ترها كلها واقفة على سلم ذي درجات، بعضها أرفع من بعض، وسبب هذه الرفعة تمسكها بهذه القوانين الطبيعية التي أوجبت رقيها، وسبب وقوف بعضها على درجات أدنى من السلم تهاونها في بعض هذه القوانين، وسواء في ذلك الأمم الشرقية أو الغربية، فاتباع هذه القوانين يؤول إلى الرقي بقطع النظر عن مسلم وكافر، شأن ذلك شأن القوانين المادية تماما، فالأسرة تسعد بالصدق والعدل كائنة ما كانت وعلى أي دين كانت، وهي تنحط بالكذب والظلم كائنة ما كانت وعلى أي دين كانت، فالقوانين الطبيعية لا تفرق بين دين ودين، ولا جنس وجنس، إنما يهمها اتباع القانون أو عصيانه وكفى.
منهج الفلسفة القديمة والفلسفة الحديثة
ظلت الفلسفة منذ عصر اليونان، إلى عصر الرومان، إلى العصر الإسلامي ، متأثرة كل التأثر بتعاليم أفلاطون وأرسطو، وخاصة أرسطو، واعتقد الناس أن ما جاء به أرسطو هو الحق، وما بحث فيه، فهو مجال البحث، وما تركه، فهو مجال الترك، وبذلك أجلسوه على عرش يشبه عرش الألوهية، حتى إنه لو قام البرهان المحسوس على فساد زعمه، شكوا في عقولهم، دون عقل أرسطو؛ فقد حكوا أن أرسطو قال: إن الشيء الثقيل والخفيف إذا ألقيا من مكان عال نزلا في زمن واحد، والتجربة تدل على أن الشيء الثقيل ينزل قبل الشيء الخفيف، ومع ذلك صدق الناس ما قال أرسطو وكذبوا عقولهم! فإن قلنا: إن أرسطو شل عقول الناس قرونا طويلة، لم نكن بعيدين عن الصواب! وقد بحث أرسطو في كل الأشياء: من نبات، وحيوان، وأرض، وسماء، وإلاهيات، ونفوس كلية، ونفوس بشرية، وأخلاق، واجتماع، وغير ذلك، ولكن المكانة الأولى كانت لما بعد الطبيعة؛ لأنها متصلة بالأديان، والأديان لها تأثير كبير في النفوس، فكان الفلاسفة يمرون مر الكرام على النبات والحيوان والطبيعة، ثم يضعون أكبر اهتمامهم فيما بعد الطبيعة، فعل ذلك الكندي والفارابي، وابن سينا وابن رشد، والقديس توما النصراني وغيرهم، وبحث أرسطو فيما بعد الطبيعة هذه في أشياء كثيرة؛ من أهمها: هل المادة قديمة أو حادثة؟ وذهب إلى أنها قديمة، كما بحث في: كيف صدر العالم عن الله، وكيف تطور؟ كما بحث في النفس الإنسانية، وهل تخلد بعد الموت؟ وإن كانت تخلد فهل الذي يخلد هو النفس الكلية، أو النفوس الفردية؟ وذهب إلى أن الذي يخلد هو النفس الكلية، وإذا كان كذلك، فما معنى الثواب والعقاب؟ وأن كل إنسان يجازى بعمله، إلى أمثال ذلك من المباحث التي تعرض لها الدين أيضا، فمن أهم أسس الدين خلق الله للعالم، وأنه هو وحده الأزلي الأبدي، وأن النفس الفردية تبعث بعد الموت، وتجازى على عملها، وقد ذهب في هذا فلاسفة المسلمين إلى ثلاثة أقسام: قسم كابن سينا وابن رشد وإخوان الصفاء حاولوا أن يوفقوا بين الفلسفة والدين، كما فعل ابن رشد في تأليفه كتاب «فصل المقال، فيما بين الشريعة والفلسفة من الاتصال» فقالوا: إن الدين صحيح، والفلسفة صحيحة، فيجب أن نوفق بينهما! وقسم كالغزالي ندد بالفلسفة وأنكرها، وقال: إن تعاليم الدين هي الصحيحة، وتعاليم الفلسفة خطأ في خطأ. وألف في ذلك كتابه «تهافت الفلاسفة»، وقسم قالوا: إن التوفيق بين الدين والفلسفة خطأ، وإن الدين صحيح، والفلسفة صحيحة، ولكن لكل منهما منطقة نفوذ، لا يصح أن يعتدي أحدهما على الآخر! فالعاقل يتبع الدين في مجال الدين، والفلسفة في مجال الفلسفة! فما أتى به الدين في البعث والنشر واليوم الآخر، وخلق العالم يؤخذ قضية مسلمة متى اعتنق الإنسان الدين، وما أتت به الفلسفة من طبيعيات وكيماويات ومنطق، ونحو ذلك يفهم ويبحث وينسق، ومن أمثلة هذا القسم أبو سليمان المنطقي؛ فقد عاب على إخوان الصفاء منهجهم، وقال: إنهم حاولوا التوفيق عبثا. وأيا ما كان؛ فقد ظلت تعاليم أرسطو مقدسة، عند فلاسفة المسلمين، وانتقلت منهم في القرون الوسطى إلى علماء اللاهوت في أوربا، وعلى الأخص ابن رشد، ووفقوا بين الدين والفلسفة كما قال ابن رشد، ومن أثر هذه الفلسفة أنها تجعل صاحبها أميل إلى تصديقها أكثر من الدين، والاعتقاد بأن الدين للجماهير والخاصة، والفلسفة للخاصة، وأخيرا وبعد قرون طويلة حدثت النهضة في أوربا، وجاءت فلاسفة لم يخضعوا لأرسطو، وإنما خضعوا للحقيقة، وكان على رأسهم الفيلسوف بيكون، قال: إن عقل الإنسان تتحكم فيه أوهام، ومن ضمن الأوهام تقديس أرسطو وأمثاله، وأرسطو حقا عقل كبير، ولكنه يخطئ أيضا ويصيب.
قالوا: ونحن لا نريد أن نؤمن إلا بما تدل عليه المشاهدة والتجربة، ووضعوا مكان أرسطو المعامل التجريبية، يجربون فيها نظريات الطبيعة والكيمياء وحتى نظريات علم النفس، فما لم تدل على صحته هذه التجارب لا نصدق به؛ فقد كان أرسطو يسرف في استعمال القياس في المنطق، فمثلا يرى أن الماء إذا غلى مرارا يتبخر، وأن اللبن كالماء إذا غلى مرارا يتبخر، فوضع نظرية تبخر الماء واللبن، ولكن بيكون قال: إن هذا لا يكفي في التجربة، بل لا بد من تجارب إيجابية، وتجارب سلبية، حتى تثبت النظرية ، فمثلا إذا سخن الماء مرارا تبخر، فهذه تجربة إيجابية، ويجب أن يضاف إليها تجربة أخرى عكسية، وهي تبريد الماء فيتجمد، ثم رأوا أن البحث في الأشياء الإلهية التي بحث فيها أرسطو وأتباعه، كخلق العالم، والبعث والنشور، ونحو ذلك، أمور لا يمكن العلم إثباتها ولا نفيها، وإنما هي أمور يمكن تصديقها عن طريق الدين، فمتى اعتقد الإنسان بإله ونبي وأتى النبي بهذه التعاليم، أمكن التصديق بها تصديقا مسلما به، ومن أجل ذلك سميت الكائنات الطبيعة عالم الشهادة، والموجودات الأخرى الغيبية عالم الغيب، والعلم في عالم الغيب يدور حول نفسه ولا يتقدم؛ لأن المشاهدة والتجربة لا تعملان فيه شيئا، ولذلك قسم اسبنسر الموجودات إلى ثلاثة أقسام: معلوم كالطبيعيات، وغير معلوم كذات الله تعالى وصفاته، وما لا يمكن معرفته بوسائلنا الخاصة، كالموت والحياة واليوم الآخر وأمثال ذلك، ولما أيقنوا أن البحث فيما بعد الطبيعة غير ذي فائدة اتجهوا أكثر ما اتجهوا إلى الطبيعيات، وبنوا عليها نظرياتهم واكتشافاتهم، فتقدموا تقدما كبيرا في بحث المادة وخصائصها، وبنوا عليها المخترعات الحديثة مما بهر الأنظار، وأصبحت الفلسفة تبنى على المشاهدة والتجربة، وأكملوا منطق أرسطو الصوري بمنطق المادة، كالبحث في الفروض والنظريات، والحقائق، ولم يكتفوا بأشكال القياس مثلا، بقطع النظر عن المقدمات: هل هي صحيحة أو ليست صحيحة؟ وقالوا: إن عقل الإنسان عقل قاصر، لا يستطيع البحث إلا في العيش ووسائل العيش، أما ما عدا ذلك من البحث في أصل الحياة، والحياة بعد الموت، واليوم الآخر، فهذه أمور لم يمنح العقل البشري القدرة على إثباتها والبرهنة عليها، فهي تؤخذ عن طريق الدين، ويصدق بها على أنها قضايا مسلمة، وبعضهم تغالى، وأنكر ما ليس مادة تخضع للمشاهدة والتجربة، ولذلك قالوا: إن الدين يبتدئ حيث ينتهي العلم، ومعنى ذلك أن العلم لا يستطيع السير إلا في المادة بسيطها ومركبها، فإذا هو تجاوزها، فلا يستطيع السير، ويمكن الإنسان أن يكون عالما ومتدينا في وقت معا، فيذهب إلى المسجد ليصلي، ويخرج منه ليشتغل في المعمل، يرى ويجرب، وهذا شيء، وهذا شيء، وهذه منطقة نفوذ، وهذه منطقة نفوذ، وليس يسلم العلم دائما إلى الإلحاد، بل كثير من العلماء رأوا في المادة ما يعجزهم عن فهمها فهما حقيقيا، إلا إذا فهموا أن وراءها إلها مدبرا، وقد كان ابن رشد يقول: إن اشتغاله بتشريح أعضاء الجسم الإنساني أكسبه إيمانا فوق إيمانه، وغيره زاده إيمانا اشتغاله برصد الكواكب وحركتها، وغيرهما زاده إيمانا رؤية العالم وما فيه من نظام وتناسق، فحيث لا تكون للطفل أسنان يكون هناك لبن، وحيث توجد له أسنان توجد لحوم وبقول، وعلماء الذرة اليوم يقفون على أشياء في الكون تستوجب العجب، ومن وراء العجب الإيمان.
على كل حال نريد أن نقول: إن البحث في الفلسفة القديمة كان دائرا حول نفسه، لم يقدم الناس شيئا، ومنهج البحث في الفلسفة الحديثة من عدم تقديس ما قاله العلماء، وبناؤه على المشاهدة والتجربة، قدم العالم تقدما كبيرا، وأسوق هذا لأنصح المسلمين أن يبنوا بحوثهم ويتجهوا في اتجاهاتهم إلى ما ينبني عليه في الحياة عمل، دون ما يقتصر على سفسطة أو جدل، وفي ذلك يعجبني الإمام مالك؛ فقد كان لا يفرض فروضا، وإذا عرضت عليه مسألة سأل: أينبني عليها عمل أم لا؟ فإن كان ينبني عليها عمل أفتى، وإلا لا.
الإيمان ينبوع السعادة
يروى عن عمر بن الخطاب أنه دعا الله أن يرزقه إيمانا كإيمان العجائز، ولم يقل كإيمان العلماء ... لأن إيمان العجائز إيمان عميق، هادئ مطمئن، لا يرقى إليه الظن، ولا يحوم حوله الشك، دينهم شعور عميق بإله بلغ النهاية في الكمال، والغاية في الطيبة، وعن هذا تصدر أعمالهم، وبلقائه تتعلق آمالهم، أما العلماء فقد اعتادوا الشك واعتمدوا على الحجج العقلية، فكان إيمانا مقلقلا، يحول بينهم وبين تمام اعتقادهم، صعوبة إدراكهم لحقيقته بعقولهم.
ثم إن خير الدين ما أتى عن طريق القلب، والعجائز إيمانهم عن طريق قلوبهم، والعلماء إيمانهم عن طريق عقولهم، والعقل عادة مصدر للشك والتردد، والقلق والحيرة، والقلب لا يعرف شكا ولا ترددا.
وإيمان العجائز إيمان بسيط سهل، فهم يدركون أن الإيمان بالله معناه أن الله خالق كل شيء، ومدبر كل شيء، يعطف على من يحبه بالخير، وينتقم ممن لا يؤمن به، إن عاجلا وإن آجلا، وهذه العقيدة على بساطتها كافية في سير الشخص سيرا حسنا حميدا، يفعل الخير ويجتنب الشر.
إن الإيمان بالدين مبني على أساسين: رغبة، ورهبة. فالإنسان يعمل الخير؛ رغبة في ثوابه، وأملا في جنته، وهو يخاف عقوبته، ويخاف ناره، وبين الرغبة والرهبة تصلح الأعمال وتتم السعادة.
ما الحياة بلا إيمان بالله؟ ... إن الإنسان خلق في هذه الحياة وسط تيار جارف، وجو عاصف، تنتابه الأحداث العظام، وتحل به الكوارث، فما لم يعتقد في إله يتخذه ملجأ له، وركنا يعتمد عليه، ومعزيا له في المصائب، ومساعدا له في المتاعب، ومأمنا له ضد الأخطار، ومواسيا له عند الحزن - كان كبناء لا يستند إلى أساس، وبيت ليس له دعامة، ومن أجل ذلك نرى أشقى الناس في الحياة أكثرهم إلحادا: إنهم قد يملكون المال الكثير، ويحصلون على الرزق الوفير ، ولكن لا يلبثون إذا حلت بهم مصيبة أن يأخذهم الجزع؛ لأن من طبيعة النفس الخوف من العدم، أما المؤمن فيحمد الله في السراء والضراء، ومهما فعل ومهما حل به، فهو يعتمد على ركن ركين، وملجأ حصين، إن فاته الخير في الدنيا أمل في الآخرة، وإن لم تسعفه ظروف اليوم، أمل في الله غدا. •••
وتجاربنا في الحياة تدلنا على أن الإيمان بالله مورد من أعذب موارد السعادة ومناهلها ... فالدين يكسب النفس قوة وسلوى وعزاء، وذلك ظاهر في الدين القلبي، أما الدين العقلي فمبني على الجدل وحجج المنطق، وهما يفقدان الشخص حماسته: ومن أراد الهدى في أعماله، والتدين الحق في عقيدته، فليعتمد على ضميره أكثر مما يعتمد على عقله، وليس الدين بالمساجد والمعابد والأديرة، إنما الدين بحياة القلب، وكم في الدنيا من مدن غصت بالمعابد والمساجد والمظاهر الدينية، وهي أبعد ما تكون عن الدين، وفي التاريخ أناس شقوا بالدين من تعصب وقتال على المذاهب وحروب صليبية ومحاكم تفتيش؛ لأنهم انحرفوا عن الدين الصحيح، ولم يسمعوا لصوت ضميرهم ... فضلوا في طريقهم، والدين الصحيح سهل سمح لا يضمر عداء، ولا خصومة، كما قال محيي الدين بن عربي:
لقد صار قلبي قابلا كل صورة
فمرعى لغزلان ودير لرهبان
وبيت لأوثان وكعبة طائف
وألواح توراة ومصحف قرآن
أدين بدين الحب أنى توجهت
ركائبه، فالحب ديني وإيماني
لقد منح الناس شعورا بإله يؤمنون به ويعتمدون عليه، فإذا تحول ذلك إلى بحث في من هو وأين هو، وما صفاته، حار الإنسان واضطرب، وتعجبني في ذلك حكاية قرأتها عن فيلسوف يوناني سئل مرة: «من هو الله؟ وأين هو الله؟» فطلب أن يمهل يوما أو يومين، يفكر في الإجابة ... فلما لقيه السائل وطلب منه الجواب قال له: «لقد رأيت ظاهرة غريبة وهي أني كلما فكرت في الجواب ازددت حيرة»؛ ذلك لأنه سلك سبيل التفكير العقلي، وكان أسهل عليه أن يسمع لصوت قلبه.
وكان القرآن حكيما في مخاطبته للشعور في مثل قوله:
أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت * وإلى السماء كيف رفعت * وإلى الجبال كيف نصبت * وإلى الأرض كيف سطحت ، ودعوته إلى النظر في خلق السموات والأرض، واختلاف الليل والنهار، واختلاف الألسنة والألوان، أكثر من اعتماده على مقدمات منطقية، وأقيسة جدلية؛ لأن آيات القرآن هذه تخاطب الشعور والقلب، والأقيسة المنطقية تخاطب العقل، وكل إنسان صالح لأن يوجه الحديث إلى قلبه، وليس كل إنسان صالحا لأن يوجه الحديث إلى عقله.
نعم، إن العلم قد يخدم الدين، ولكن لا يبعثه ... فتقدم الناس في العلم اليوم خفف آلام البشرية من اعتقاد في السحر والرقى ووجود أرواح شريرة تتسلط على البشر وتعذبهم حسبما تشاء، فكل هذه اعتقادات أزالها أو مزقها نور العلم، فخدم الدين بذلك خدمة جليلة، فإذا اجتمع في الناس قلب ينبض بحب الله، وعقل يزيل الخرافات والأوهام عنه، كان ذلك منتهى السعادة ومنتهى الرقي. •••
لولا الدين ما كانت سعادة، ولا كانت للحياة قيمة ... بل نحن نرى أن آباءنا كانوا أسعد منا بإيمانهم، وشباننا أشقى منهم بشكهم، أو على الأقل بعدم اكتراثهم، وإن شئت فقارن بين أسرتين: أسرة أسست حياتها على الدين والتزمت به، وأسرة أضاعت الدين ولم تلتفت إليه، وأجبني: أي الأسرتين أسعد؟ إني أعتقد أن أكبر سبب لشقاء الأسر وجود أبناء وبنات فيها لا يرعون الله في تصرفهم، وإنما يرعون هواهم وملذاتهم، فهم يركبون رءوسهم، ويروون رغباتهم، من غير وازع ديني يزعهم، أو نظرة في العواقب تردعهم، فإذا فشا الدين في أسرة، فشت فيها السعادة ... وخاصة إذا كان دينا راقيا تجرد عن الخرافات والأوهام وتدعم بالعلم، وحكم أفرادها دينهم في سلوكهم.
إن أهم ركن في السعادة راحة البال ... والدين أكبر دعامة لراحة البال؛ إذ يظهر أنه من طبيعة النفس الإنسانية أن تشعر بوجود إله تعتمد عليه، فإذا لم يكن ذلك، قلقت واضطربت؛ لأنها خالفت طبيعتها، ولذلك نجد أكثر الملحدين يعيشون عيشة مضطربة، وإذا جد الجد وحضرهم الموت، كانوا كفرعون، لما أدركه الغرق، قال: «آمنت أن لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين.».
وهذه هي السعادة في الحقيقة ... فليست السعادة في كثرة المال، ولا في عظم الجاه، إنما هي في أنفسنا وفي داخل قلوبنا، وشيء آخر، وهو أن من مزية الدين الإيمان باليوم الآخر، فهو بذلك يضم حياة أبدية إلى حياته القصيرة الدنيوية، وذلك من غير شك يدعوه إلى أن يفكر فيما يعمل؛ لاعتقاده في الجزاء العادل، إن لم ينله في الدنيا ناله في الآخرة، ويكفه عن عمل الشر؛ لأن وراءه إلها يجازيه على عمله مهما أسر، ومن طبيعة الإنسان حب الحياة، ولذلك يرتعد فرقا إذا قيل له: إن حياته في الدنيا هي الحياة؛ لأن معنى ذلك أنها حياة قصيرة، تنتهي بعدم مفزع، وسعادته الحقة في أن يعتقد أن وراء هذه الحياة حياة أبدية، يتسلط عليها إله عادل ... من يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره.
هذه هي الطبيعة الإنسانية التي خلقنا عليها، وأي تنح عنها يفسدها، وقد علمتنا الحياة أن الخروج على الطبيعة الإنسانية - ولو قيد شعرة - مدعاة للحيرة والاضطراب.
وبعد، فإن الدين يجعلني أنا والإله على متاعب الحياة، والإلحاد يجعلني أنا وحدي ضد الله، وضد متاعب الحياة، وشتان ما بين الوضعين.
الحرية الدينية والاجتماعية بين جمال الدين الأفغاني وقاسم أمين
أما حرية جمال الدين، فكانت حرية عقل، وحرية سياسية ولغوية.
كان يرى أن أولى الأمور بالتحرير، تحرير العقل من الخرافات والأوهام، بل كان يرى أننا ما لم نحرر العقل، فالمجالس النيابية عمل ضائع، ومجهود فاشل.
فقيمة المجالس النيابية برجالها، ويقول: «هبوا أن مجلسا نيابيا أنشئ من قوم جامدين فستجدون أن حزب الشمال لا أثر له، وسيفر الأعضاء كلهم إلى حزب اليمين «المناصر للحكومة»، وسيكونون كلهم آلة صماء، وسيرى كل عضو أن مناقشة الحاكم الحساب قلة أدب وسوء تدبير وتهور لا محل له، لذلك يجب تحرير العقول والنفوس قبل إنشاء المجالس، ولذلك كانت أكثر دروسه وأحاديثه في المجالس دعوة إلى تحرير العقول.
وأما حريته الدينية فتظهر في أنه لم يفهم من الحرام ما فهمه الناس فقط، من ترك الصلاة، وأكل الربا ومال اليتيم، ولحم الخنزير، بل رأى الحرام أكبر من ذلك، وأن هناك أيضا أشياء تحرم لأنها تضر الوطن، فعدم الجهاد لتحرير البلاد، والاستكانة للأجنبي المحتل، والشح بالمال عما ينفع الوطن، والرضا بحكم الحاكم الظالم، وعدم الثورة عليه، كل ذلك أيضا حرام دينا، كحرمة أكل الربا ومال اليتيم، ولذلك هب في الناس يدعوهم إلى الثورة على الظلم، وخطب فيهم يقول: «إنكم - معاشر المصريين - قد نشأتم في الاستعباد، وربيتم في حجر الاستبداد، وتوالت عليكم قرون وأنتم تحملون عبء نير الفاتحين، وتحتملون وطأة الغزاة الظالمين، تسومكم حكوماتكم الحيف والجور، وتنزل بكم الخسف والذل، وأنتم صابرون، بل راضون، وتستنزف قوام حياتكم الذي يجمع من عرق جبينكم بالعصا والمقرعة والسوط، وأنتم صامتون، فهل أنتم صخرة ملقاة قي الفلاة، لا حس لكم ولا صوت؟!».
بل من أجل ذلك انتسب إلى حزب الماسونية؛ لأنه يدعو إلى الحرية والإخاء والمساواة، فلما دخل فيه رآه يحرم الكلام في السياسة، فقال لهم: «أول ما شوقني للعمل معكم عنوان كبير خطير، حرية وإخاء ومساواة، وإعلان أن غرض الماسونية منفعة الإنسان وسعي لدك صروح الظلم وتشييد معالم العقل، ولكن راعني أنها تقول: إنها لا تتدخل في السياسة، وإذا كانت - وبين أعضائها كل بناء حر - لا تستعمل آلاتها في هدم القديم وبناء الجديد على أساس من الحرية الصحيحة، فلا كانت الماسونية، ولا حملت يد الأحرار مطرقة، ولا قاموا ببناء».
ومن اجل ذلك استقال من هذه الجمعية، وأسس جمعية ماسونية جديدة على مبادئه، ومن أجمل ما صنع أن خصص جماعة لكل مرفق من مرافق الحياة العامة، فقوم يشرفون على الحقانية، وقوم على المالية، وقوم على الأشغال العمومية، وقوم على الجهادية، إلخ.
وكان كل قوم مخصصين لمرفق من المرافق عليهم أن يدرسوه، ويعرفوا نقائصه، ويطالبوا بإصلاحه حسبما يتبين لهم من دراستهم.
ورأى أنه لا بد أن يدعم كل ذلك برأي عام متنور، وأنه إذا تم ذلك من تكون دارسين للمسائل، ورأي عام يسندهم أمكن المجلس النيابي حينئذ أن يتكون، وأن يكون له صوت مسموع، وكان محتويا على أعضاء اليمين وأعضاء اليسار، وأمكن أن يفهم أن له حقا في الرأي وحقا في الحكم وحقا في التنفيذ، ومن غير ذلك، يكون مجلس النواب لا قيمة له ... ضعيف اليقظة، قليل الشجاعة. •••
وكان يرى - رحمه الله - أن الدين لا قيمة له إلا إذا علم أتباعه ثلاث خصال: «الحياء، والأمانة، والصدق» وأن هذه الأسس هي علة العمران، وعليها تتوقف سعادة الإنسان.
وكان يرى أن واجبه أن يشيع بين المصريين الأمل في النجاح، وأن يزيل ما حل بهم من اليأس، وأن يكونوا على استعداد دائم لصد من هاجمهم، وطرد من احتلهم أو استعمرهم، فلا حياة مع الذل، ولا سعادة مع اليأس.
وكان يرى أن موقف المسلمين من حيث اللغة يجب أن يكون حرا أيضا، فكان يرى أنه إذا جاز للبدوي العربي أن يخلق كلمات، وأن يحور كلمات، فلماذا لا يجوز له هو ذلك، وهو متعلم أكثر من البدو، ومتحضر لا كالبدو ...؟! ولذلك قال: «ما المانع من أن أقول: بقروت، كما قال العربي: جبروت»، ومن كلماته البديعة قوله: «اللغة العربية وسعها البدو في البراري والقفار، وضيقها الحضر في المدن والأمصار» وقال له رجل - وجمال الدين ينطق بكلمة لم ترد على لسان العرب: «إن هذه الكلمة لم تسمع» فهز كتفه؛ استهزاء به. •••
وأما قاسم أمين فكانت حريته من نوع آخر: حرية اجتماعية، لا سياسية ولا دينية، وذلك بفضل نوع تعليمه؛ فقد تعلم في مصر تعليما عصريا، وتعلم في أوربا تعليما مدنيا، والذي يعيش في أوربا - ولو زمنا قصيرا - يدرك ما للمرأة فيها من أهمية، ويكاد أن لا فرق بين الشرق والغرب إلا المرأة، فالمرأة هي التي تربي أبناءها وبناتها وهي بهجة حياتهم، وعماد شؤونهم كلها.
وليس هناك ما يمنع المرأة المصرية من أن تكون كالمرأة الأوربية، فهي جميلة ذكية مرحة خفيفة الروح، ليس يصدها عن تبوء مكانتها إلا الجهل والحجاب، وكلاهما يمكن التغلب عليه، فلأدع إلى السفور، ولأدع إلى تعلم المرأة، فإذا نجحت في الدعوة خطوت بمصر وبالعالم العربي خطوة كبيرة، ليست قاصرة على النساء، بل هي للرجال أيضا، فالرجل ابن المرأة، فدعا دعوته المشهورة في كتابه «المرأة الجديدة»، وكم لاقى من عناء، وكم سب وكم أهين، وكم رد عليه الجامدون ردودا شديدة، ولكنه تحمل كل ذلك في ثبات، حتى نجحت دعوته، وبدأ نجاحها في حياته، واستمر نجاحها بعد مماته، وسيتطور السفور من حسن إلى أحسن.
جزى الله جمال الدين الأفغاني وقاسم أمين عن النداء بالحرية بأنواعها أحسن الجزاء.
عيسى وعيسى
اشتدت الحروب بين الصليبيين والمسلمين: كل يريد الاستيلاء على بيت المقدس وما حوله، وكل يدفعه الدين إلى ذلك ... والحروب إذا انبعثت عن الدين كانت قوية قاسية، لذلك أتى فيها الفريقان بالأعاجيب، وهذه الحروب عادة تلد الأبطال، ولذلك رأينا هذه الحروب تخرج أبطالا من الفريقين عرف بعضهم وغمر بعضهم، ها هو مثلا ملك الألمان يخرج من بلاده إلى بيت المقدس ومعه مائتا ألف مقاتل ومقاتلة، وكعادة الألمان جهز هذا الجيش بآلات الحرب التي لم يكن يعرفها المسلمون ... هذه دبابات قوية لدك الأسوار والحصون، لم تكن تسير بالبخار أو الكهرباء؛ إذ لم يكن ذلك معروفا، ولكن تسير بالجنود في خارجها وداخلها، وهذه الأبراج العالية الضخمة المصفحة بالحديد تنصب عليها المجانيق لدك الحصون، وما إلى ذلك مما لم يكن للمسلمين به عهد.
فما أن يرى المسلمون هذه الآلات العتيدة حتى يفكروا في إتلافها، فيعد صلاح الدين بأن يكافئ من يقدر على إحراقها مكافأة حسنة ... فيتقدم شاب شامي من أهل دمشق، فيدعي أنه اكتشف بعض العقاقير القادرة على إتلافها، فيصرف عن ذلك بحجة أن الإخصائيين لم يستطيعوا ذلك، وهو ليس منهم، ولكنه يصر ويصر، فيسمع لقوله، فيحضر القدور بالعقاقير ويرمي قدرا على البرج الأول فإذا هو عمود من نار أتى عليه وعلى من فيه، ثم يرمي بالقدر الثاني فيكون له هذا الأثر في البرج الثاني، والثالث في الثالث وهكذا ... فكان اختراع البرج عظيما، واختراع ما يتلفه عظيما.
كان من أثر هذه الحرب ظهور أبطال عظماء كهذا، منهم العيسيان: فأما عيسى الأول فهو الفقيه عيسى الهكاري أكبر أمراء صلاح الدين ، وكان من أكبر من عمل في إجلاسه على عرشه، ولذلك كانت له دالة كبيرة عليه، يأمره وينهاه، ويقضي حوائج الناس عنده فلا يرد له طلبا، وكان لكبر عقله بمنزلة المستشار المؤتمن لصلاح الدين، يستشيره في السلم والحرب والسراء والضراء، وقد جمع بين الفقه والكفاح في الحرب.
قتل أخوه في الحرب، فذهب الناس يعزونه، فنهرهم ولم يقبل عزاءهم ... وأبى إلا أن يهنئوه لموتته هذه الموتة السعيدة، ثم قتل هو أيضا في حصار عكا، بعد أن أبلى بلاء حسنا، وله آراء في الفقه قيمة، وآراء في السياسة قيمة، ويترجم له في طبقات الفقهاء وطبقات المجاهدين، فهو قرين أسامة بن منقذ، ومعاصره: عيسى فقيه فارس، وأسامة أديب فارس. •••
أما عيسى الآخر فكان عواما، واشتهر من أجل ذلك ب «عيسى العوام»، لقد حوصرت عكا من الصليبيين حصارا شديدا حتى أكل أهلها الدواب، وتدفأوا بحرق الموتى، وعز الماء وعز اللباس، وصعب عليهم أن يستنجدوا بالمسلمين، وكل يوم تزيد أساطيل العدو وتحكم الحصار.
انتدب عيسى العوام نفسه لإخراج أهل عكا من هذا المأزق ، فرسم لنفسه خطة ماهرة، فأولا: ألف عمارة بحرية هو وأمثاله من العوامين، وأمر البحارين أن يحلقوا لحاهم ويتشبهوا بالإفرنج في ملابسهم ونوع ألويتهم، حتى إن الفرنج لما شاهدوها لم يشكوا في أن هذه العمارة صليبية، ثم استطاع أن ينفذ بأسطوله من بين العمارات الصليبية، حتى أوصل ما فيه من مؤمن وذخائر إلى أهل عكا، فأنقذهم من بأس شديد كانوا فيه، ثم استدار هو وأصحابه على المراكب الإفرنجية يحرقونها بالنفط، فنجحوا نجاحا باهرا.
وثانيا: كان غواصا ماهرا، فهو يتخذ حزاما من الجلد لا ينفذ منه الماء ويحفظ فيه الكتب من صلاح الدين بالخطط الحربية التي يجب أن يسلكها العكاويون، والرسائل الهامة، والدنانير الكثيرة من الذهب، ويغوص بها تحت أساطيل العدو حتى يصل إلى ساحل عكا فيخرج، وكان إذا خرج أطلق حمامة زاجلة، إذا رآها الناس علموا أنه قد حضر، فيخرجون إليه لتلقي رسائلهم وذهبهم، وظل على ذلك مدة طويلة يؤدي أجل خدمة.
وأخيرا ترقب الناس عيسى فلم يحضر، ونظروا إلى السماء ليروا الحمامة فلم يروها، فلعبت بأنفسهم الظنون: هل قبض عليه وهو عائم؟ أو طمع فيما معه من المال فهرب؟ أو أدركه الأعداء فقتلوه؟ وكانوا كل يوم يخرجون إلى الساحل ينتظرونه على غير جدوى، وفي اليوم السابع من غيابه خرجوا إلى البحر ينتظرونه كعادتهم، فرأوا جثته يقذف بها البحر وعلى وسطه الرسائل والدنانير.
لقد كان أمينا في حياته ... أمينا في مماته!
والشهرة كالرزق لا حد لهما ولا قانون، توزع على الناس الشهرة كما توزع الأرزاق:
كم عاقل عاقل أعيت مذاهبه
وجاهل جاهل تلقاه مرزوقا
هذا الذي ترك الأوهام حائرة
وصير العالم النحرير زنديقا
فكم غير عيسى وعيسى منح شهرة واسعة ورزقا واسعا، وعيسى وعيسى والفتى الدمشقي الذي أحرق الأبراج بمادته المخترعة مغمورون محرومون، وهكذا الدنيا: أذن ولا حلق، وحلق ولا أذن، ولله في خلقه شؤون.
جزيرة بلا سياسيين
كان الشيخ محمد عبده يقول: «لعن الله السياسة وساس ويسوس وسائس ومسوس، وكل ما اشتق من السياسة، فإنها ما دخلت شيئا إلا أفسدته ».
كل شيء في العالم يتغير حتى الأهرام، عريت بعد أن كانت مكسوة، وحتى «أبو الهول» كسرت الأيام أنفه وعلته الرمال، إلا السياسة الاستعمارية فإنها لم تتغير بوجه من الوجوه، وعقلية الساسة في القرن الثامن عشر هي عقليتهم في القرن العشرين، يظنون أن التهديد والوعيد يرهب الأمم ويقضي عليها وينفذ رغبة المستعمرين ... وبعد ضرب الإسكندرية بسبعين عاما ظلوا يفهمون أن ضرب الإسماعيلية أيضا ينتج نفس النتيجة مع اختلاف المقدمات اختلافا كبيرا؛ فقد كان الرعب يستولي على النفوس، ولم يكن وعي قومي يفهم ألاعيب السياسة ولا شيء من ذلك، ولكن عقلية الإنجليز فهمت أن ما جرب أمس ونجح يجرب اليوم وينجح، أما الفوارق الكبيرة وخصوصا الفوارق النفسية فقد أغمضوا أعينهم عنها.
كم أود أن أعيش في جزيرة مطمئنة هادئة ليس فيها ساسة، ولكن مع الأسف لا يمكن أن يعيش الإنسان من غير حكومة ومن غير ساسة يسوسون الناس، فكل مجتمع لا بد فيه من مجرمين وأشرار وطامعين ونهابين، فما لم تأخذ الحكومة على يدهم عاثوا في الأرض فسادا، فلا يمكن لجزيرة أن تعيش من غير حكومة، وكل كتاب اليوتوبيا أو بعبارة أخرى المدن الفاضلة، وأفلاطون نفسه في جمهوريته، لم يخلوا بلادهم التي عدوها مثلا أعلى من ساسة ومن حكومة.
غاية الأمر أنهم أملوا أن تكون الحكومة فيها حكومة عادلة، حكومة ترعى الأمة ولا تستبد بها، وتأخذ بيدها ولا تمحقها، حكومة متسعة العقل مرنة تتطور مع الأحداث وتعلم أن ما صلح أمس لا يصلح اليوم لا كساسة الإنجليز والفرنسيين لا يتحولون عما في أذهانهم مهما تغيرت الظروف.
ومن أجل ذلك تمنى أفلاطون وأرسطو أن يحكم الأمم فلاسفتها، فهم أطيب نفسا وأبعد نظرا، ووجدت الآن حركة ترمي إلى طلب حكومة الفلاسفة، ولكن مع الأسف قد جربت حكومة الفلاسفة فلم تنجح كثيرا؛ لأن الفيلسوف في العادة واسع النظر، شكاك بحكم فلسفته، وقد دلتنا الخبرة على أن بعيد النظر ضعيف الإرادة، وأن الشكاك عديم الحزم، فلو حكمت الأمم بالفلاسفة دلهم بعد نظرهم على الرحمة بالمجرمين، واعتقدوا أن إجرامهم نتيجة لبيئتهم، وقادهم شكهم إلى التردد في الحكم وعدم التصميم على العقوبة، فكانت الفوضى التي لا نرى مثلها في الساسة غير الفلاسفة، إنما نريد حكاما لم تخربهم الفلسفة ولا أقعدتهم الصلابة، تنزهوا عن سعة عقل الفلاسفة فقومت إرادتهم، وبعدوا عن الشك فصحت عزيمتهم، وتنزهوا عن ضيق عقل ساسة اليوم فرأوا نتائج الغد على غير ما يرى ساسة اليوم، ولم يشكوا فعظم تصميمهم وكافأوا المجرم على إجرامه والمحسن على إحسانه، نريد ساسة يعلمون أن لكل زمان حكما ولكل تطور علاجا، وقد قرأت أخيرا كتابا يدعو إلى علاج الأمور التي تحدث علاجا مؤسسا على العلم والدرس لا على البديهة ولا على التقاليد القديمة.
ويحكي هذا الكتاب أن إضرابا حصل في أمريكا بين صانعي الأحذية مع أن كل المظاهر تدل على أن لا وجه للإضراب، فأجور العمال معتدلة وساعات العمل قليلة، والعمال في رخاء، وعندهم من أوقات الفراغ ما يكفي لمتعتهم ورفاهيتهم، فانتدب جماعة من العلماء القائلين بهذه النظرية للبحث في السبب العميق لهذا الإضراب فانتهوا إلى أن يبحثوا صناعة الأحذية من أساسها؛ ليعرفوا ما الذي سبب الإضراب، فرأوا أن صانع الأحذية في القديم كان يمر على الناس في بيوتهم فيضيفونه أياما ليست بالقليلة ويكرمونه إكراما زائدا، ثم يطلبون منه ما يشاءون من الأحذية فكان فخورا بذلك، ثم تطور الأمر ففتح صاحب هذه الصناعة دكانا، وكان يصنع أحذية الناس بيده وبعماله، ثم كان يفخر أيضا بالحذاء الذي يصنعه، وبعد مرور أدوار طويلة حكاها المؤلف اخترعت الآلات التي تصنع الأحذية، فلم يبق للعامل شيء من فخره فساءت نفسيته وتألم من انحطاطه، فكان هذا هو السبب الحقيقي للإضراب. •••
نتمنى أن يتعلم الساسة من هذا الدرس، فإذا نفرت أمة من الاستعمار فلا يمكن أن يفرض عليها بالإكراه، وهذا ما يقوله البحث العلمي، فالطفل إذا شب لم تعد تصلح له ثياب الطفولة، والأمة إذا وعت لم تعد تطيق الأساليب العتيقة التي كانت تتحملها من قبل، وخير للأمة المستعمرة أن تجري مع التيار من أن تقف ضده وأن تمرن طائعة من أن تتحول كارهة.
تريد فرنسا أن تستعين على استعمارها بلاد المغرب بالإنجليز المستعمرين لمصر؛ لأن الاستعمار في الأمم كلها نظام واحد، كالعقد إذا انفرطت منه حبة تداعت سائر الحبوب، ومهما كان هذا التعاون فلن يفيد شيئا في الموقف الحاضر مهما سلحت الأمم المستعمرة بالطيارات والدبابات والمدافع الثقيلة والخفيفة؛ لأن هذه الآلات كلها إن أخمدت الأجسام فلن تخمد النفوس.
يقلد الإنجليز مثلا في الاستعمار أمة الرومان في استعمارها القديم، ولكن يواجه ذلك أيضا أن الأمم المغلوبة على أمرها تسلك نفس السبيل الذي سلكته الأمم التي نالت استقلالها، فهي تضحي كما ضحت، وتبذل الأموال كما بذلت، وتستهين بكل ما تبذل في سبيل حريتها.
لا ... لا أريد جزيرة بلا ساسة، بل لا أريد جزيرة حكامها عقلاء مدربون، فإن هذه عيشة رخيصة لا يرضاها إلا الخاملون، إنما أريد أمة يحكمها الساسة المستبدون فأحاربهم ويحاربونني وأقاتلهم ويقاتلونني، وأنتصر عليهم وينتصرون علي، وأبذل ما في وسعي من التضحية فإن مت مت موتة كريمة، وإن ظفرت عشت عيشة كريمة.
الشيطان رجل الساعة
بني العالم على أساس أن الخير فيه ممزوج بالشر مزجا تاما، فلا تكاد تجد خيرا محضا ولا شرا محضا ... فالنار التي تنضج تحرق، والماء الذي يروي يغرق، والسكين التي تقطع تذبح، وهكذا، وكل شيء في العالم فيه خير وشر، حتى الجمادات ... فالزهر الناضر والربيع المنعش والشمس المدفئة والنجوم الزاهرة كلها خير، ولكن بجانبها الصواعق والزلازل والبراكين ونحو ذلك، فإذا انتقلنا إلى النبات، وجدنا الدواء النافع والسم الناقع، وفي الحيوانات الحمل الوديع والأسد الضاري، فإذا وصلنا إلى الإنسان كان ذلك أوضح، فالشرير والمجرم والشهواني بجانبه الراهب والولي والقديس، ولكن الرجل الصالح في العالم كالشعرة البيضاء في الثور الأسود، حتى لا يستطيع الرجل الطيب مهما بلغت طيبته أن يعيش هادئا مطمئنا، ألا ترى إلى غاندي كيف زهد في أعراض الدنيا، وقنع من الحياة بكوب من الماء وكوب من اللبن، وعمل لمصلحة بلاده حتى أوصلها إلى الاستقلال وعمل عملا صالحا في الدعوة إلى العطف على المنبوذين والمسلمين ... ماذا كان جزاؤه؟ كان جزاؤه القتل من يد شيطان رجيم، ولم ينفعه في الحياة كل ما قدم من خير.
ولما سمع برنارد شو بقتله قال: «إني كنت أقول دائما: إن الرجل الطيب عرضة للشر في هذا العالم، وهذا دليل جديد».
وانظر من جهة أخرى كيف أن الإنسان لم تكفه آلات الشر التي اخترعها في الحروب لسفك الدماء وتخريب المدن من غواصات ودبابات، حتى اخترع أخيرا القنبلة الذرية التي لا تأتي على شيء إلا جعلته كالرميم، ولا يدري إلا الله ماذا سيكون من اختراعات لم تخطر بعد على بال، وبجانب ذلك كله رأسمالية تمتص الفقراء، وأقوال معسولة لا شيء وراءها إلا الشر، وسياسة تحتوي أنواعا عديدة من الفساد، حتى العلم حوله الإنسان من خير إلى شر، فسخرته الحكومات لاختراع آلات الهلاك، وسخر الساسة التاريخ لخدمة الأغراض حتى قلبوا الحقائق وجعلوها محشوة بالأباطيل ... فإلى أي جهة ننظر نرى الشيطان باسطا جناحيه ، يغزو الخير دائما وينتصر عليه دائما، والناس عادة يقولون: لا بد من أن الحق ينتصر، ولكن أين ذلك، ونحن نرى دائما الحق للقوة، وقلما نرى خيرا في القوة؟ إن كان ذلك حقا فصبر طويل جميل حتى يخمد صوت الشيطان وتضعف سلطته، وهيهات أن يكون ذلك. •••
إن في استطاعة الإنسان أن يحول كل خير إلى شر، فهو يحول السكين إلى قتل، والقلم إلى سب وهجو، والنار إلى تدمير، والدين إلى تدجيل، وأي شيء في الوجود لم يفسده الإنسان؟ وآية ذلك أنك لا تستطيع إن سألتك أن تدلني في العالم على خير محض، بل كان من شرور العالم أنه في كثير من الأحوال لا ينال الإنسان الخير إلا بالشر، كالذي قال معاوية: «إنا لا نستطيع الوصول إلى الحق إلا بالخوض في كثير من الباطل».
ألا ترانا في هذه الأيام لا نستطيع الحصول على حريتنا إلا بضحايا كثيرة: من سفك دماء وتخريب وضياع أنفس وأموال، واستمرار في ذلك عهدا طويلا وأمدا بعيدا؟ وحتى الظالم الذي يظلم، والمستبد الذي لا يرحم ، والمستعمر الظالم لا يتأتى له الوصول إلى غرضه إلا بقتل وتخريب وتعذيب، فهو أيضا عرضة للقتل كالذي يدافع عن حريته، ونتيجة ذلك أن المطالب بحريته - وهي خير - لا بد له من شر، والكابت للحرية - والكبت شر - لا بد أن يكبتها بالشر، فالشر لا بد منه في الحالين.
والإنسان دائما تتعارك في نفسه دواعي الخير ودواعي الشر سواء كان خيرا أو شريرا ... غاية المر أن الرجل الخير من أجاب دواعي الخير أكثر مما يجيب دواعي الشر، والرجل الشرير من أجاب دواعي الشر أكثر مما يجيب دواعي الخير، فليس الإنسان ملكا كريما ولا شيطانا رجيما، بل أحيانا يتصف بصفات الملائكة وأحيانا يتصف بصفات الشياطين، ودواعي الشر هذه هي نوع مما اصطلح الناس على تسميتها بالشياطين، وهي أكثر أنواع الشياطين تلعب على الإنسان في كل حين وتضل العابد وتذل الراهب.
وعمل الأنبياء والمصلين دائما أن يقووا في الإنسان دوافع الخير ويضعفوا فيه دوافع الشر. •••
وكما في الجن شياطين ففي الإنس شياطين، وعلى رأس هؤلاء الشياطين رجال السياسة في الأمم المستعمرة ... فقد لبستهم شياطين الجن، فكانوا إنسا في الظاهر شياطين في الباطن، وبذلك كانوا أسوأ من شياطين الجن، لا بأس عندهم أن يسخروا أفراد أمتهم للعسف والقتل ويزهقوا أرواحهم في التنكيل بالأمم الأخرى، وهم متربعون على كراسيهم غارقون في ترفهم ومتعهم ... فحفنة قليلة من قادة الساسة تلعب بملايين البشر وتضحك على عقولهم بالنياشين والرتب والألقاب، وأحيانا بما يسمونه الوطنية، وقد قدروا بذلك على التنكيل بالناس أكثر مما قدر شياطين الجن، والناس بعد لم يفهموا أن قادتهم السياسيين يضلونهم ويسممونهم بالأفكار، ولو عقلوا لالتفتوا إليهم قبل أن يتجهوا إلى الأمم المستعمرة، فينكلوا بهم ويطيحوا برؤوسهم ويستريحوا منهم، ونحن على الآن سننتظر أن يحل محلهم ساسة تتقمصهم الملائكة فيدعون إلى الإنسانية لا إلى الوطنية، ويستخدمون الذرة في العمران لا في التخريب، ولكن مع الأسف قد يطول انتظارنا طويلا وطويلا جدا. •••
وليس عصرنا هذا ببدع، فالعالم دائما تتنازعه هاتان القوتان وتغلب فيه قوة الشر، وقد كتب بديع الزمان الهمذاني رسالة لطيفة أبان فيها أن الناس من عهد آدم كانوا أشرارا حتى نسبوا إليه أنه قال:
تغيرت البلاد ومن عليها
فوجه الأرض مغبر قبيح
وبعد ذلك قال الشاعر:
ذهب الذين يعاش في أكنافهم
وبقيت في خلف كجلد الأجرب
ويوم فتح مكة، قالت امرأة لأخرى: «اسكتي يا فلانة؛ فقد ذهبت الأمانة»، ولا زال يتتبع حوادث الشر في العالم جيلا بعد جيل بأسلوب جميل، ولو عاش في عصرنا لتمثل بشرور الحرب العالمية الأولى والثانية، ولتمثل بقتل الناس لرجل كبير داع إلى الخير واقف في وجه الشر محرر للبلاد من الأعداء ... ولعجب أن يقتل مثل هذا وينعم داعي الشر محب الفساد ناشر الضلالة في العباد، ثم ختم رسالته البديعة بقوله: «والله ما فسد الناس، ولكن اطرد القياس». •••
كم أتمنى أن يبعث إلى الأرض سليمان من جديد فيحبس الشياطين في القماقم، ويسخرهم في الأعمال الشاقة، ويطلق الملائكة من عقالها فتسرح في الأرض وتمرح، وتميت دوافع الشر وتحيي دوافع الخير، وتهدم الاستعمار من أساسه، وتقضي على الرأسمالية ومفاسدها وتدعو دعوات جديدة ليست بهذه ولا بتلك.
إن الناس المتفائلين قد أملوا ذلك ورجوا أن يأتي يوم يغلب فيه الخير الشر، ولكن هل يتحقق أملهم، ويسود ظنهم إن قريبا وإن بعيدا، أو سيكون الأمر كما قال بديع الزمان، فيستمر فساد الناس ويطرد القياس؟! علم ذلك عند الله ...!
الجاحظ البطل
اعتاد الكتاب أن يعدو نابغة السياسة بطلا، والقائد الحربي العظيم بطلا - كما فعل «كارليل» في كتابه «الأبطال» - ولم يعدوا النابغة في الثقافة والتفكير بطلا، فها نحن نكمل نقصهم فنعد ناشر الثقافة العظيم بطلا، وقد كان الجاحظ - في رأينا - بطلا حقا لا يقل شأنا عن القواد، فلئن كان خالد بن الوليد فاتح ممالك وغازي أمم ... فقد كان الجاحظ غازي جهل وفاتح عقول.
لقد استطاع الجاحظ بقوة عقله أن ينقل الأدب العربي نقلة كبيرة من ناحيتين:
الأولى:
أنه جعل للأدب موضوعا محدودا؛ فقد كان الأدب قبله عبارة عن جمل مرصوصة وضع بعضها بجانب بعض، كالذي نراه في كتاب أبي بكر إلى المهاجرين، وكتاب عمر بن الخطاب في القضاء إلى شريح، وحتى كتابة ابن المقفع كانت عبارة عن جمل رصينة لم يربط أكثرها بفاء أو واو، فأخذ الجاحظ يجعل كتابته ذات موضوع غير الجمل الحكيمة، وأخذ يربط جمله بحروف العطف المختلفة، ويسترسل في الكلام استرسالا عجيبا، ويولد المعاني ويستقصيها حتى يأتي على آخر معنى فيها.
والثانية:
أنه استطاع أن يجعل من كل شيء موضوعا لأدبه ... فالحشائش، والأشجار، والحيوانات، والمعلمون، واللصوص، والجواري، والنجار يستدعيه في البيت، والديك يصيح، والطفل يناغي النور ... كل هذه وأمثالها كتب فيها وجعلها موضوع أدبه، فزاد العقل ثقافة من ثقافته، ووسعه، وفتح بابا أمام الأدباء يقلدونه فيه، ولذلك قالوا: إن كتبه تغذي العقل أولا.
واستطاع ذلك لأنه بدأ فثقف نفسه ثقافة واسعة إلى آخر حد ... وما سمعنا قبله أحدا يستأجر دكاكين الكتب ويسهر عليها حتى يلتهمها، في اللغة، والشعر، والنثر، والفلسفة، والدين، وكل شيء إلا الرياضيات.
وكان الأديب قبل زمنه - كالمفضل الضبي - يقتصر على الشعر يرويه، أو كالأصمعي، يقتصر على اللغة يحفظها ويرويها، وعلى القصص اللطيفة يمتع بها سماره.
أما هو ... فقد اخذ من كل شيء بطرف، فكان دائرة معارف في رجل، تشمل دائرة معارفه الرجال، والأدب والبلاغة، وعلوم الدين، والتاريخ، والطبيعة، والكيمياء، والفلسفة، والدين، والاجتماع، والحيوان، والنبات، والفن، والفكاهة، حصل ذلك كله أولا لنفسه، ونشره ثانيا في الأقطار المختلفة، وظل ينشره قرابة قرن كامل، ولا تنقص معلوماته أن تكون «دائرة معارف» إلا ترتيبها على حروف الأبجدية. •••
ولم يكتف بالكتب، بل كان يذهب إلى «المربد» بجانبه يأخذ اللغة والأدب بالمشافهة عن أهله، ويذهب سحرا إلى علماء الحديث يأخذ عنهم، وفاق غيره في شيء عزيز، وهو تثقفه عن طريق الشك والتجربة، فكان له منهما ما فخر بهما «بيكون» وأمثاله، فكان إذا رأى شيئا في النبات أو الحيوان أو غيرهما حكاه أرسطو أو غيره في كتبهم، لم يصدقهم تقليدا ولكنه جرب، وبعد التجربة صدقهم أو كذبهم، فإذا قالوا: إن الثعبان يفر من رائحة السداب، أتى بالثعبان والسداب، وجرب ... هل يألف الثعبان أو يفر منه؟ فلما رآه لا يفر كذب قائل هذا القول.
والحق أن كل شيء وقع تحت حسه أو تحت تفكيره كان موضع تجربته، وقد رزق دقة ملاحظة في طبائع الأشياء وفي نفوس الناس وفي طبيعة المجتمعات، فاستخرج من ذلك أدبا، على حين أننا نجد علماء عصره - كابن قتيبة - لم يمنحوا هذه الملكة فلم يجربوا تجربته ولم يستفيدوا استفادته، يسمع الديك يصيح فلا يلبث عقله أن يصيح كذلك ويتساءل: هل يصيح الديك بالتجارب أو بطبيعته؟ ... وبناء على ذلك، هل إذا وجد منفردا يصيح؟ ويبحث، هل هناك علاقة بين كثرة الدجاج وكثرة أفراخها، فإذا قلت قلت؟
ويتساءل عن النبات الذي نسميه نحن بالمنثور ... لماذا ينضم ورقه بالليل وينتشر بالنهار؟ ويضع في برنية كبيرة من زجاج عشرين عقربا وعشرين فأرا، ويراقب نتيجة لسع العقارب للفيران.
ويعلل مناغاة الطفل للنور بأنه يهيج همته ويترك في نفسه أثرا كريما، ويفتق لهاته ويشد لسانه، ويعجب من أن بعض الناس إذا رأى حيوانا قبيحا - كالكلب أو الذئب - يشرب الماء لا يشربه هو، وإن كان عطشان؛ لقبح مشربه، وأما إذا رأى حماما يشرب دعاه إلى الشرب ولو كان ريان؛ لجمال منظره.
وليست معرفته بالحياة الاجتماعية بأقل من معرفته بالحياة النفسية والعقلية ... فقد وصف وصفا بديعا نوادي القمار وعمل الخاطبات في البيوت، وحياة الفتيان، وطمع التجار، وطائفة المعلمين، وجوقة المغنين وما إلى ذلك.
وساعده على ذلك اتصاله بالناس على اختلاف طبقاتهم ... من الخليفة إلى الباعة المتجولين؛ فقد استكتبه الخليفة في ديوان الرسائل فخالط الكتاب، وكان نديم ابن الزيات الوزير المشهور فعرف مجتمعات الوزراء، ويشهد العداء الحار بين ابن الزيات وابن أبي دؤاد، فيعرف عداوة الأرستقراطيين، وينادم الفتح بن خاقان الوزير العظيم، وينادي في بيته النجارين والحواة ويسامرهم ويعرف أخبارهم، وكان هو نفسه يبيع الخبز والسمك في طبلية على رأسه، فكان له من ذلك كله معرفة بالطبقات على اختلاف أنواعها ...
ويزيد إلى ذلك خبرة برحلاته ... فيرحل من بغداد إلى دمشق، ومن دمشق إلى حمص، ويدرس بعقله الفاحص كل بلد رحل إليه حتى ليعرف الفرق بين براغيث حمص وبراغيث العراق! ويتساءل: لماذا لم يجد في حمص عقارب؟ ويقولون: إن بحمص طلسما يمنع العقارب. فلا يرضيه هذا التعليل، وإنما عنده أن العلة الصحية أن جو حمص لا تناسبه العقارب، أو أن بها حيوانات تأكلها فهي تهرب منها ... هذا هو المعقول. •••
ومن أجل ثقافته الواسعة وعقله الواسع كان يقارن في الموضوع الواحد بين البدوي الجاهلي في شعره وبين أرسطو الفيلسوف العظيم، ولا يقر بعظمة لأحد تشل عقله؛ فقد يفضل قول البدوي الجاهلي على أرسطو الفيلسوف اليوناني، ولئن كان بعض الناس يختزن ما شاء الله أن يختزن، ثم لا ينتفع بما اختزن، فالجاحظ عرف كيف يختزن وعرف كيف يعرض ما اختزن كالتاجر الأفرنجي الماهر اليوم: يعرف كيف يشتري السلع وكيف يعرضها في وجهة دكانه ويشوق إليها زبائنه، فهو نابغة في الجمع، نابغة في الإنفاق.
ثم هو في عرضه لا يتكلف الغريب ولا يأتي بمعميات، إنما هو واضح سهل بسيط خفيف الروح ممتع، استقى معلوماته من العرب والفرس واليونان، ثم مزجها كلها مزجا عجيبا، ثم هضمها ثم أخرجها في شكل جذاب، وأكثر في ذلك حتى عد له ياقوت نحوا من مائة وسبعة وعشرين كتابا في الموضوعات المختلفة: في التاريخ ككتابه في الإمامة، وفي الكلام كالرد على المخالفين كالنصارى واليهود، وفي الأخلاق كالحاسد والمحسود، وفي البلاغة كالبيان والتبيين، وفي الاقتصاد كتحصيل الأموال، وفي النفس ككتابه في نظرية المعرفة، وفي الصناعة كغش الصناعات، وفي الجغرافيا ككتابه البلدان، وحتى في الطب، فلا يعجبه الأطباء، فيؤلف كتابا في نقض الطب. •••
ألا ترى معي أنه بذلك يعد بطلا من أكبر الأبطال؟ أليس ظلما أن يعد من يميت النفوس ويزهق الأرواح ويخرب البلاد بطلا، وأن نقدر بطولته كلما أمعن في القتل والسلب والنهب والتخريب، ثم لم نعد بطلا من أحيى النفوس الميتة بدل أن يميت النفوس الحية، ويغذي العقول بدل إتلافها؟! ما أظلم الناس للناس!
يضحك ناس ... ويبكي آخرون
خلق الله هذا العالم ومزج فيه الخير والشر مزجا غريبا، حتى لا تكاد تجد خيرا محضا، ولا شرا محضا، على أن الخير والشر أمور اعتبارية، أي أنها خير باعتبار من استفاد منها، وشر باعتبار من تأذى بها، فلو أن جرف جبل سحيق انهار فلم يتضرر به أحد، ولم ينتفع به أحد، لا حالا ولا مستقبلا، ما كان خيرا ولا شرا، إنما هو خير أو شر اعتباري، ولذلك قد يكون الشيء خيرا لبعض الناس، شرا لآخرين، وقديما قالوا: «مصائب قوم عند قوم فوائد».
وفي الناس خير وشر ... فمحسن كريم، ومجرم كبير، بل في الطبيعة نفسها خير وشر، فسماء تبكي وتدمع، وشمس تشرق وتسطع، وشتاء مجدب، وربيع مخصب.
ونفوس الناس ترى الشر فتنقبض، وترى الخير فتنبسط، هذه طبيعتها، وهذا ديدنها، غاية الأمر أن بعض النفوس يبالغ في رؤية الخير فيكثر فرحه، ويقل ترحه، ونسمي مثل هذا متفائلا، وآخرون على العكس من ذلك يبالغون في رؤية ما يحزن والإحساس به، ويستقلون دائما ما يفرح ، ويقتصدون في السرور به، ونسمي مثل هذا متشائما، وقد يحدث أن شيئا واحدا يقع أمام اثنين فيضحك منه أحدهما، ويبكي منه الآخر تبعا لطبيعته، وقد قرأت في ذلك حكاية فرنسية لطيفة، وهي أن دلوين ركبا في بكرة على بئر، فكان الرجل الذي يملأ يشد الحبل لينزل الدلو الفارغ إلى البئر ليمتلئ، ويطلع الدلو الممتلئ ليصبه، قال الراوي: «فتقابل الدلوان في منتصف الطريق: هذا ممتلئ وهذا فارغ، قال الفارغ للممتلئ: لم تبكي؟ ... (لأنه وقد امتلأ تنزل منه قطرات أشبه بالدموع) قال: ولماذا لا أبكي، وقد ملئت ماء صافيا، وسيفرغني صاحبي إذا طلعت، ثم يعيدني إلى قاع البئر المظلم، وأنت لم ترقص؟ (لأن الدلو الفارغ يتلاعب وقت النزول لعبا يشبه الرقص) قال: ولم لا أرقص، وسأنزل في البئر فأمتلئ ماء صافيا ثم أطلع إلى صاحبي في الهواء الطلق؟».
تلك عملية واحدة أداها أحد الدلوين ففرح، وأداها الدلو الأخر فبكى ... وهكذا الناس، تمر عليهم الحوادث، فيحزن لها قوم حزنا شديدا، ويفرح لها آخرون فرحا شديدا.
ويروون أن فيلسوفين يونانيين - هما هيروقليطس وديموقريطس - كانا ينتظران إلى سخافات الناس فيختلفان في التأثر بها، أحدهما يضحك لسخافتهم، والآخر يبكي لها، وبعبارة أخرى: أحدهما متفائل، والآخر متشائم.
ولما ركب في طبيعة الناس الأمل في المستقبل وعماده التفاؤل، والحذر وعماده التشاؤم، اعتمد المربون والزعماء والمصلحون والأنبياء على هاتين الغريزتين في الإنسان، أليس من دعامة الأديان الجنة والنار؟ فالجنة تؤمل وتبعث التفاؤل، والنار تحذر وتبعث التشاؤم.
ولو أن عامة الناس حرموا الأمل في الجنة والخوف من النار ما استقامت أمور الدنيا ... بل لو لم تكن عقيدة الجنة والنار، لحرم التاريخ من خير أمثلة المضحين الذين يضحون رغبة في الجنة وهربا من النار. •••
ومما نستغرب له أن أكثر الفلاسفة في القديم والحديث متشائمون، كشوبنهور، وكارلايل، ونيتشه، وكذلك أكثر فلاسفة اليونان، وربما كان السبب في ذلك أن الفلاسفة ممعنون في قراءة نتائج الأشياء، واسعو التفكير، شديدو الإحساس، فهم يرون أن في العالم شرورا أكثر مما فيه من خيرات، فلذلك يحزنون ويتألمون وقد يبكون وتسألني: «ما رأيك في عمر الخيام، وهو لا يرى في الدنيا إلا الخمر والنساء؟»؛ فأقول: «لعله كان من أكبر المتشائمين، ولعله لم يلجئه إلى الخمر والنساء في شعره، إلا آلام نفسه من شرور العالم، فلجأ إليهما لعلهما ينسيانه ما يحس من آلام، ولذلك لما أعيى بعضهم الأمر في الدنيا الواقعية لجأوا إلى اليوتوبيا، أو المدينة الفاضلة يؤلفون فيها، ويرسمون فيها عالما خياليا خيرا من عالمهم الواقعي؛ إذ لما بالغوا في التشاؤم من العالم الواقعي هرعوا إلى عالم خيالي يجدون فيه تفاؤلهم». •••
وقد نجحت الأديان أكثر مما نجحت الفلاسفة؛ إذ عادلت بين طبيعة الإنسان في الأمل، وطبيعته في الحذر، فرغبت ورهبت، ووعدت وأوعدت، على حين أن الفلاسفة غلبت جانب التشاؤم وأفرطت في الحذر ... إن شئت فانظر إلى أبي العلاء المعري، كيف تألم من كل شيء في الدنيا، ولم يعجبه شيء فيها، وأخذ في شعره يعدد مآسيها، ويتمنى الموت والخروج منها، فإن كانت الفلسفة متشائمة، فالدين بطبعه عادة أقرب إلى التفاؤل، وربما كان من الأسباب الفارقة بين الفلسفة والدين أن الفلسفة تعتمد أكثر ما تعتمد على العقل، والعقل جامد جاف، والدين يعتمد على الشعور، والشعور مرن، قد يكون مرحا، وقد يكون حزينا، والدين متى صار شعورا اطمأن صاحبه وهدأ، والفلسفة إذا صارت عقلا حارت واضطربت.
ما أكثر ضحايا العقل، وما أكبر نعمة الإيمان!
وبعد ... فالتشاؤم في الحياة مزاج، وأنت إذا نظرت إلى بعض الوجوه فوجدتها ضاحكة مستبشرة علمت أنها سعيدة متفائلة، وإذا نظرت إلى وجوه عليها غبرة ترهقها قترة، فهي الشقية المتشائمة، والتفاؤل في الحياة من أكثر أسباب السعادة والنجاح، والتشاؤم من أكبر أسباب الفشل والشقاء، والأمم كالأفراد، تشقى بتشاؤمها، وتنجح بتفاؤلها، فاللهم اجعلنا من المتفائلين المؤمنين، ولا تجعلنا من المتشائمين الطعانين الذين لا ترى عيونهم إلا العيوب، ولا يؤمنون بأي خير أو إصلاح.
ابن دانيال ومسرحياته
كثير من الناس يظن أن المصريين خاصة - والعالم العربي عامة - عالة على الإفرنج في مسرحياتهم وتمثيلياتهم، وأننا لم نعرف المسرحيات إلا بعد أن اقتبسناها منهم، وسبب هذا، على ما يظهر، أن رجال الأدب العربي حين عرضوا منتجاتهم، اختصروا فيها على أبواب الأدب العربي المعروفة، من غزل وهجاء ورثاء، ولم يتعبوا أنفسهم في البحث عن أبواب أخرى، مع أن أمامهم المسرحيات العربية الصميمة ...
فقد كان عندهم خيال الظل أو ما يسمى «القره جوز» وكانت تمثل فيه الروايات الشعبية؛ وكان لا بد لخيال الظل هذا من أدباء يغذونه، وكان من أكبر من نعرف أنه غذاه ابن دانيال، وهو من أصل موصلي ... ولكنه سكن القاهرة أيام الظاهر بيبرس، وفتح دكانا بالقرب من باب الفتوح، يكحل فيها الناس، وكان يقول: إنني آخذ القرش من عيون الناس، وقد ملأ القاهرة فكاهات رائعة وتمثيليات تمثل على خيال الظل، وتمثل هذه الروايات بأنها تعطينا فكرة صحيحة عن الحالة الاجتماعية للشعب أيام الظاهر بيبرس ... ففيها عادة مهارشة الديوك، وبعض حوادث العصر، وشرح حوادث الغرام.
نعم، إن خيال الظل هذا كان شعبيا لا يقبل عليه إلا أفراد الشعب ... ولكن كان من حين إلى حين، يسمع الملوك والأغنياء عنه فيحضرونه ليمثل أمامهم، وقد روي أنه أحضر خيال الظل للسلطان سليم عند فتح مصر ومثل أمامه روايات سر بها، فأخذ فرقة منه إلى إستنبول؛ ليفرج عليه ابنه الذي كان يسمى فيما بعد السلطان سليمان.
ومن هنا، انتشر خيال الظل في إستنبول وسماه الأتراك «قره جوز» ومعنى «قره» أسود، ومعنى «جوز» العين، «فقره جوز» هي العين السوداء، وممن أعجب به الخديو توفيق باشا؛ فقد كان يحضره عنده، ويشهد رواياته، ولذلك يخطئ مؤرخو المسرح إذا ظنوا أن المسرح العربي اقتبس من أوربا وحدها، بل أقدم من ذلك قرأت فيما قرأت أنه كان يوجد رجل في العصر العباسي، يمثل فيحضر رجلا يطلق عليه أبا بكر، وآخر يطلق عليه عمر وهكذا، ثم يستحضر كل رجل من هؤلاء الممثلين ويعدد له أعماله، ويشكره على ما فعل من خير، ويؤنبه على ما عمل من شر، وهذا من غير شك بدء للتمثيل.
على كل حال كان ابن دانيال الحلقة الثانية أو الثالثة في بناء التمثيل العربي، وحبذا لو نما نموا مستمرا ... إذن لكان عندنا تمثيل ذو شخصية شرقية، له طابع خاص غير الطابع الغربي.
ويظهر أن ابن دانيال ألف مسرحيات كثيرة بقي منها ثلاثة: «خيال الظل، وعجيب وغريب، والمتيم»، وكان يسمي كل مسرحية بابة لا مسرحية، وقد ألفها باللغة العربية الفصحى، نظما ونثرا، حاكى فيها الحريري في مقاماته، وقد عثر عليها الأستاذ كالي وطبعها في مصر، وعلم أن هناك شخوصا وأدوات عند رجل بالمنزلة فسافر إليه واشتراها منه «ببنتو»، وأخذها الأستاذ الألماني جاكوب أو (يعقوب) وظل في دراستها نحو عشرين عاما، يشرح ألفاظها ويفسر ما تدل عليه من أحوال اجتماعية قاهرية، ولما مات أوصى غيره بمداومة دراستها ...
فأما تمثيلية «خيال الظل» فتدور حول أمير يسمى الأمير وصال، يفتخر على الناس بأعماله، ويقول: إنه يريد أن يتزوج، ويعيش عيشة مستقيمة، بعد ما كان فيه من فساد، فطلب إلى الخاطبة أن تختار له امرأة يتزوجها، ووصف ما أراد، ويتزوج، ثم تمرض زوجته، فيستدعي لها الطبيب، ويعالجها، فلا ينفع العلاج وتموت ، وفي أثناء ذلك كله صور هزلية مضحكة كثيرة، ووصف لحالات اجتماعية مختلفة، كوصف الخاطبة وأفانينها، وما يجري على لسانها من أقوال. •••
وأما «عجيب وغريب» فهي «عجيب غريب» التي يتداولها الناس، ففيها صور كثيرة تمثل الحالة المصرية أصدق تمثيل، وربما كانت خيرا من ألف كتاب في التاريخ، فإن كتب التاريخ تصور لنا أكثر ما تصور: الملوك والسلاطين والحروب والوقائع، وقل أن تصف لنا الشعب، أما هذه فتمثل الشعب، ففيها نحو سبعة وعشرين شخصا، منهم الشحاذ والحاوي والواعظ والمعاجيني والعشاب والمشعوذ والمنجم والسباع والفيال ومربو القطط والكلاب، يقول في أولها: «قد أحببت إمدادك أيها الأستاذ الظريف، والماجن اللطيف، بثانية؛ لكيلا تظن همتي في الأدب متوانية، وأتيتك بغريب، وألحقتك بعجيب» وهذه البابة (المسرحية) تتضمن أحوال الغرباء والمحتالين، والمتكلمين بلغة الشيخ ساسان (الشحاذين): فمتى دعيت إلى مجلس الإيناس، فأبدأ عند جلاء الستارة بمدح من حضر من الناس، وغنى باتفاق، في عراق».
ثم ينشد نشيدا يرحب فيه بالحضور ، ويخرج بعده شخصا ويقول: «أين تلك الأيام وطيبها، وحسن تلك الأوقات وأعاجيبها، فرحم الله شيخنا ساسان، فلقد كان إنسان عين كل إنسان، قدوة الأدباء، وأنيس الغرباء»، ويقول بعد ذلك قصيدة يصور فيها أخلاق الشحاذين، فيقول:
أين زماني الذي تقضى
وأين جاهي وأين مالي
وأين خفي وطيلساني
وأين قيلي وأين قالي
وأين عيشي وأين طيشي
وأين حسني وحسن حالي
ونحن في مجلس بديع
جل عن الوصف والمثال
فالراح في الراح، والملاهي
في اللهو، والنقل في النقال
وبالملاهي بنا ضجيج
وللرواويق والمقالي
فالدف دفدف ددف ددفدف
والزمر تلتل تلل تلالي!
وهكذا يسوق صورا مختلفة للجاليات الأجنبية، وأصحاب المهن المختلفة، أما «المتيم» فهي البابة (المسرحية) الثالثة، يصف فيها الحب ... ولكنه ليس حبا عذريا كحب مجنون ليلى، وكثير عزة، وجميل بثينة، بل حبا ماديا كحب أبي نواس، وكذلك شعره ليس شعرا كشعر الغزليين، بل شعرا يمثل حياة الحب والغناء والهزل في مصر، مثل:
أهل الغرام تجمعوا
وتوسلوا وتضرعوا
موتوا تعيشوا في الهوى
وتمزقوا وتقطعوا
وخذوا حديث متيم
عمن سواه أو دعوا !
لم يبق إلا أضلع
من سقمه تتقطع
وادي العقيق بجفنة
والدمع منه ينبع
ثم يقول: «أواه أواه وا حباه، وا قلباه، المتيم مسكين، ذبح بغير سكين، من أرسل ناظره، أتعب خاطره، والعاشق كل شيء يذكره، لمعان البرق يؤرقه، وهبوب الريح يقلقه، وإذا دنا الليل منه، يهرب النوم عنه».
وهكذا يستمر، ثم يصور منظرا آخر، فيه نقار الديكة، وكيف كان يراهن عليها، ثم تلقى خطبة في تلك المهارشة ... ثم ينبري المتيم مفاخرا بثوره، فتحضر الثيران، وتلقى خطبة في مصارعة الثيران، كتلك التي ألقيت في مهارشة الديكة، ولكن مع الأسف، تدور الدائرة على المتيم، فيهزم ثوره ويولى، فيتألم المتيم، وينشد نشيدا يتحدث فيه عن ذي القرنين وما جرى له؛ وبعد أن يفرغ من كلامه، ينادي: «يا ريس علي، إني أريد أن أصنع من لحمه خوانا للإخوان»، فيستدعى الجزار، والكبابجي فتقام الوليمة، ويؤتى بالخمر والبخور والعود والند، ويموت المتيم متأثرا من حزنه، فيغسل ويكفن ويدفن، وبذلك تنتهي البابة «المسرحية» الثالثة. •••
ويظهر أن ابن دانيال كان يتعاطى المعجون، كانت تعطيه له زوجته، وقد ساعده ذلك على التنكيت والتبكيت، وله في ذلك قصيدة بديعة، نذكر للقراء بعضها:
يقول فيها شاكيا للقاضي:
بك أشكو من زوجة صيرتني
غائبا بين سائر الحضار
غيبتني عني بما أطعمتني
فأنا الدهر مفكر في انتظار
غبت حتى لو أنهم صفعوني
قلت: كفوا بالله عن صفع جاري!
فنهاري من البلادة ليل
في التساوي والليل مثل النهار
دار رأسي عن باب داري فبالل
ه أخبروني سادتي أين داري
غفر الله لي بما رحت للبح
ر من البرد أصطلي بالنار
وتجردت للسباحة في الآ
ل لظني به الزلال الجاري
ولكم رمت قلع ضرس ضروب
بعد ما ضر غاية الإضرار
فإذا بي قلعت بعد عنائي
واجتهادي القوي من أوزاري
ويظهر أنه كان - مع فضله هذا وابتكاره فن المسرحيات الذي يدر على أصحابه اليوم مئات الألوف - بائسا فقيرا مسكينا؛ إذ يصف حالته فيقول:
أصبحت أفقر من يروح ويغتدي
ما في يدي من فاقة إلا يدي
في منزل لم يحو غيري قاعدا
فإذا رقدت رقدت غير ممدد
لم يبق فيه سوى رسوم حصيرة
ومخدة كانت لأم المهتدي
ملقى على طراحة في حشوها
قمل كمثل السمسم المتبدد
والفار يركض كالخيول تسابقت
من كل جرداء الأديم وأجرد
هذا، ولي ثوب تراه مرقعا
من كل لون مثل ريش الهدهد
ويقول:
قد علقنا والعقل أي وثاق
وصبرنا والصبر مر المذاق
كل من كان فاضلا كان مثلي
فاضلا عن قسمة الأرزاق
من هذا تراه قادرا على التصوير قدرة عجيبة فهو يصور متعاطي المنزول والمنزل البائس صورة بارعة.
ونستنتج من هذا نتيجتين كبيرتين: (الأولى):
أن عندنا قديما من المسرحيات، ما لو تعهدناه بالإنماء لكان لنا مسرح يمثل شخصيتنا، ولا نكون فيه عالة على الغرب.
و(الثانية):
عتاب مؤرخي الأدب العربي في أنهم لم يدخلوا هذا الباب في دراستهم مع إمتاعه ولذته.
الدنيا حر!
اشتدت علي وطأة الحر يوما من الأيام، حتى لقد ظننت أن طاقة من طاقات جهنم قد فتحت على القاهرة، فجعلتها أتونا ... وحاولت أن أعالج هذا الحر بمعالجات نفسية، فقلت: تخيل أنك في الشتاء، وأن الدنيا باردة جدا، وتريد أن تتدثر، لا أن تتخفف، فكثير من الأخيلة النفسية تؤثر في النفس أثرا بليغا، ألا ترى أنك تتخيل أكلة شهية فيسيل لعابك، أو تتخيل ما يغضب فتغضب، وما يفرح فتفرح، فتخيل الآن أنك في جو بارد فتبرد، ولكن مع الأسف كانت حرارة الواقع أشد من برودة الخيال.
وأحضرت في ذهني الذين يحملون على رؤوسهم جنبات من الخضر والفاكهة، وهم يسيرون من شارع إلى شارع، ومن حارة إلى حارة في الشمس اللافحة، والهواء الساخن، وقلت لنفسي: إنك تلبس جلبابا فضفاضا، عاري الرأس، حافي القدمين، بجانبك الماء المثلوج، وأنواع المرطبات، وعلى مقربة منك المروحة، تروح فتصلح الجو، فاحمد الله على هذه النعم، وتحمل هذا الحر الذي تخففه بما ذكرت، ولكن لم ينجح أيضا هذا العلاج، وحاولت أن يكون لي أطيان مزروعة قطنا أو فاكهة، فإذا اشتد الحر فرحت ... لأنه إذا ضايقني الحر، اطمأننت من ناحية أخرى، على محصول القطن، ومحصول الفاكهة، فالحر الشديد يقتل الدود، وينمي القطن، وينضج الفاكهة، ولكن بحمد الله لم يكن لي شيء من ذلك، فلم ينفع هذا علاجا. •••
وأخيرا حملت متاعي إلى الإسكندرية، والجو يتوقد، وما إن وصلت إلى عربة التبريد، حتى تشهدت، وأحسست أنني في لوح من الثلج وسط فرن، وشاء الحظ أن يكون جو الإسكندرية أقل حرارة من جو القاهرة بنحو أربع عشرة درجة، وقضيت أياما تنفست فيها الصعداء.
وكنت أظن أن من خلق في جو مصر، أقدر على تحمل حر مصر ... ولكني رأيتني لا أطيق بمقدار ما يطيقه الإفرنج، كأنهم اختزنوا في أبدانهم برودة من جوهم.
ومع أن الإسكندرية أعجبتني في اعتدال جوها؛ فقد ضايقتني برطوبتها، وخصوصا في الليل، وتمنيت أن أكون غنيا جدا، فأطير إلى الإسكندرية لأقضي فيها النهار، ثم أطير إلى القاهرة لأقضي فيها الليل.
وربما كان مما يلطف الحر التفكير في الحر؛ فقد أنساه بالتفكير فيه، فبحثت عن تشبيه لطيف يشبه به الحر، فقلت: إنهم يقولون: هذا الجو أحر من الرمضاء، وأحر من دمع الصب، وأحر من قلب العاشق، ومن فؤاد الثاكل ... ثم لم تعجبني هذه التشبيهات كلها؛ لأنها صارت عتيقة بالية، فأمعنت الخيال في تشبيه جديد، يتناسب وإشعاع القنبلة الذرية. •••
على كل حال استعنت على الحر بالتفكير في الحر، وكتابة مقال عنه، وقلت: إن خرج المقال جيدا؛ فقد كسبت الجودة وثناء الناس عليه، وإن خرج باردا فهو المطلوب، وعلى كل حال فقد كسبت، ورحم الله حافظ بك إبراهيم؛ فقد دعي إلى مأدبة في يوم حار، فقال: «قد كان كل شيء في المائدة باردا إلا الماء».
وقاتل الله المدنية الحديثة فقد رفهتنا فزادت في ترفهنا، هذا زر يضغط عليه، فينار البيت أو الغرفة، وهذه ثلاجة تمتعك بالماء البارد والشراب البارد، وهذه مروحة تلطف الجو، وهذه دفاءة تسخنه، وهذا تليفون يوصلك إلى من شئت، وهذا راديو يسمعك ما شئت ... كل هذا الترف وإن سهل لنا العيش فقد أفقدنا القدرة على المقاومة، وكأن الطبيعة أرادت في إمعان تحقيق العدالة بين الأغنياء والفقراء، فملت الأولين من أتفه الأشياء، وحصنت الآخرين من أصعب الأشياء، فترى ثم نعيما وملكا كبيرا بجانبهما ضجر كبير، وملل عسير، وترى ثم فقرا مدقعا، بجانبه الحصانة والصحة والقدرة على الاحتمال، حتى لقد يتمنى المترف الناعم الملول أن يعوضه الله فقرا وصحة وصبرا على الشدائد.
كذب الناس الذين يظنون أن السعادة والنعيم يعتمدان على الأشياء الخارجية فقط، فكم من مال لا يفيد صاحبه، وكم من متعة لا يلتفت إليها ذائقها، وإن السعادة لتعتمد على النفس أكثر مما تعتمد على الخارج، والنفس المطمئنة أهم أركان السعادة ... فامنحنيها أرض بكل شيء.
ومن السخف أن يتجه الناس بكل قواهم إلى الأشياء الخارجية ... فمن قدر منهم اصطاف في أوربا، ومن لم يقدر اصطاف في المصايف المصرية ولم يتجهوا أي اتجاه إلى نفوسهم، يعودونها الصبر واحتمال الشدائد. •••
وما لي أفكر في الحر تفكيرا فرديا، ولا أفكر فيه تفكيرا اجتماعيا؟! أليس الحر هو الذي أنضج البقول، وأنضج الثمار، وأنضج القطن، وهو أول محصول مصري، ولولاه لكسدت الحياة المصرية، وغلبها البؤس والفقر؟! إنك لو فكرت في القطن، وجدته يغني الأفراد ويغني الحكومة، وتستطيع معه أن تقيم المشاريع، وتحسن الحالة الصحية، وهو يؤثر في الناس أثرا متسلسلا، كما قال المتنبي:
والناس للناس من بدو وحاضرة
بعض لبعض وإن لم يشعروا خدم
فيعتمد على القطن الفلاح في حقله، وصاحب الحقل في قصره، ثم إذا هو جمع من قطنه مالا، أنفقه على الصائغ والبناء والنجار، وهؤلاء ينفقون ما يكسبون منه على الباعة ورجال الأعمال ... ولولا هذا الحر ما كان هذا القطن.
ثم أليست شدة الحر والبرد هي التي ألجأت الناس إلى الكهوف والمغارات أولا، ثم إلى الأكواخ ثانيا، ثم إلى القصور الشامخات ثالثا، ثم جعلت الإنسان بعد ذلك يفكر في أسباب الترف والنعيم ... فاخترع ما اخترع، وابتكر ما ابتكر. •••
إني أنصح من تململ من الحر، وتضايق من الصيف أن يحب، فإنه إذا ذاق جوى الحب ونار الهجران، واكتوى بالصد، وتقلب على جنبيه من الفراق، شعر بأن الحر مهما زاد، فهو دون نار الحب بكثير، كما قال المتنبي:
ففي فؤاد المحب نار جوى
حر نار الجحيم أبردها
أحلام الشيوخ
لقد اعتدنا أن نسمع دائما كلمة «أحلام الشباب» فأما «أحلام الشيوخ» فلم أسمعها حتى اقترحت علي مجلة الهلال أن أكتب فيها أحلام الشيوخ، ولئن كانت أحلام الشباب هي أحلام المستقبل فيحلم الشاب بمنصب وتكوين ثروة وتكوين عائلة وتكوين شهرة ونحو ذلك، فإن الشيوخ تحلم بالماضي يذكرها ضعف الصحة بما كان لها من قوة الصحة، وعجز العين بما كان لها من قوة النظر، وعلى العموم يذكرها ضعف الشيخوخة بما كان لها من قوة الشباب.
وربما كان كل شاعر قد تقدمت به السن بكى شيبه وبكى على شبابه في أبيات كثيرة، وقد جمع الشريف المرتضى كتابا جمع فيه مستحسن الشعر في الشيب والشباب وسماه «الشهاب في الشيب والشباب» وأضاف إلى شعرهم ما استجاده من شعره، ومن أحسن ما اختاره قول الشاعر:
قد كنت أوفي شبابي كنه عزته
حتى انقضى فإذا الدنيا له تبع
وقول الآخر:
قد كنت أمشي ولست أعيا
فصرت أعيا ولست أمشي
وقول المتنبي:
آلة العيش صحة وشباب
فإذا وليا عن المرء ولى
وقد عبر هذا الشاعر عن أحسن أحلام الشيخوخة، والشيوخ دائما تحلم بالشباب وتذكر أيامه وأحداثه وكيف كانوا ينعمون بمباهج الحياة، فلما انقضى الشباب ضاعت كل المباهج حتى إذا حدثت أو حدث أكثر منها لم يبتهجوا ابتهاجهم بها أيام الشباب، فكأن الشباب ظرف لا بد منه للاستمتاع بلذة الحياة؛ فقد كان الشباب خليقا بأن يبتهج بكل شيء حتى بالتافه منه وحتى بالآلام، إذا وقع في مشيته ضحك، وإذا أصابه الحر الشديد أو البرد الشديد ضحك.
فإذا تقدم في السن فربما كانت وسائل السعادة أوفر ولكن النعيم بها أقل؛ فقد يكون أكثر مالا وأكثر عيالا وأحسن ملبسا ومسكنا ولكنه مع ذلك لا يجد السرور الذي كان يجده أيام الفقر مع الشباب وأيام الوحدة قبل الزواج.
إن الشباب هو الظرف الذي تنال فيه السعادة، فهو يسعد حتى في أحرج الأوقات، يسعد بالهجر كما يسعد بالوصال، ويسعد بالعيش الجاف يأكله والملبس الخشن يلبسه، فكأن الشباب يعوض عنه كل نقص؛ ذلك لأن الشباب قوة تستر كل ضعف وحيوية تخفي كل عجز. •••
والحلم الثاني للشيوخ حلم الصحة، يذكره بها سعال الليل إذا سعل، وأعصابه إذا يبست، وعظامه إذا تصلبت، وأنفاسه إذا تلاحقت، ومعدته إذا لم تهضم، وسكره إذا خلع مفاصله، وقلبه إذا أسرع نبضه، يحلم بالصحة وكل شيء في الكون يذكره بها، وقد كان لنا صديق - رحمه الله - يجلس دائما مع الشيوخ الطاعنين في السن، فلما سألته عن ذلك قال: إن هذا المجلس يذكره بالشباب وأيامه اللذيذة، وهو إذا قارن سنه بسنهم اعتقد أنه شاب بالنسبة إليهم.
وحتى إذا كان الشباب فقيرا جدبا خشنا كانت ذكراه أحسن منه، فكأن الذكرى تجرده من آلامه وتسبغ عليه من اللذائذ ما استطاعت، شأننا في ذلك شأننا في تقديس الآباء والأمهات والعظماء إذا رحلوا من هذا العالم وربما حمل على ذلك شدة الوفاء الماضي كالذي يقول المتنبي:
خلقت ألوفا لو رجعت إلى الصبا
لفارقت شيبي موجع القلب باكيا
ومن نعم الله على الشيوخ أنهم لم يحرموا أيضا من أحلام المستقبل فقد ركب فيهم حب الحياة وحب الغنى والأمل في المستقبل، وفي الحديث: «يشيب ابن آدم ويشيب معه خصلتان: الحرص وطول الأمل»، فهو حتى إذا زادت ثروته طمع في ثروة أكبر منها، وما كان يحمله في الشباب على إنفاقه تحمله الشيخوخة على ادخاره، مع أنه من المؤكد أن حياته أقصر من حياته في شبابه، وكذلك يزداد أمله، فإن كان مريضا أمل في صحته في المستقبل، وإن كان فقيرا اليوم أمل الغنى غدا، وهكذا بنيت الحياة على الأمل، ولولا الأمل لنفذ الناس نصيحة شوبنهور في أي يجتمعوا ساعة لينتحروا. •••
ومما يلطف حياة الزعماء أنهم لا يقصرون أملهم على أشخاصهم، بل يأملون أن تنصلح حال أمتهم فيبلورون إصلاحهم ويدعون إليه بكل قوتهم الضعيفة، وكلما رأوا أمتهم تتقدم كان ذلك أعظم سلوة لهم وأعظم معوض لشبابهم، اتخذوا من الأمة كلها أبناءهم وبناتهم يبصرونهم بما هم فيه من ضعف وفساد، ويرسمون لهم طريق النجاح، وكلما ساروا فيه خطوة حرضوهم على الخطوة الأخرى وفرحوا بنجاحهم؛ وكان في ذلك تعويض عن لذتهم في شبابهم، ولذلك كانت حياة العظماء في الشيخوخة أحسن من حياة غيرهم؛ لأنهم ربطوا حياتهم بحياة أمتهم، والأمة فتية أبدا حية أبدا فاستعاضوا عن شبابهم بشباب أمتهم، وعن حيويتهم بحيوية بلادهم، بل إن انغماسهم في حركة الإصلاح ووقوفهم على نتائجها ورغبتهم في نجاحها، تزيد من حيويتهم، ولنا صديق - حفظه الله - تجلس إليه فكأنه يلفظ النفس الأخير، حتى إذا عرضت عليه أمر الأمة واستحثثته الكلام في العيوب وطريقة إصلاحها والأدوية وكيف تعالج بها أدواءها نشط للكلام وللكتابة حتى كأنه قد رجع إليه شبابه.
ومما يعزي الشيوخ أنهم قد نفضوا أيديهم من شهوات الشباب وعواقبها وآلامها، واستعاضوا عنها بنضج العقل وقوة التفكير كما قال البارودي - رحمه الله:
أواه لو عرف الشبا
ب وآه لو قدر المشيب
ومن نعم الله أيضا عليهم أن العقل لا يشيب شيب الجسم، وقد يكون الشخص مهدما في الجسم، ولكنه بارع في سمو العقل، وعقله مع ذلك منزه من صلف الشباب وطيشه ورعونته، وهذا العقل يتمتع أيضا بحسن تجاربه وذكريات ما جرى له من أحداث فكأنه يحيا من جديد فيها وينعم بذكرى لذائذها حتى وآلامها، فهو يجرد الآلام من أشواكها ويذكرها ناعمة ناضرة.
وهو لأجل ذلك لا يحب أن يعود إلى الماضي بلذائذه وآلامه إلا إذا عاد معه عقله الحاضر؛ لأنه ينعم بذكرى الآلام أكثر مما ينعم في أيام اللذائذ والآلام.
الدنيا رواية
نعم ... إنها رواية، ولكن مسرحها كبير جدا، هو وجه الأرض كله، ولسعة المسرح أمكن أن نمثل عليه عدة روايات في وقت واحد، ففي جانب منه قد تمثل كوميديا «ملهاة»، وفي جانب آخر قد تمثل تراجيديا «مأساة»، والذي يجعلنا نعتقد أن الدنيا رواية هو الشبه التام بين ما يجري في الدنيا، وما يجرى في الروايات، فنحن نشهد في الرواية التمثيلية في ساعتين أو ثلاث، ثم ننفعل لها انفعالا قويا أو ضعيفا، ضاحكا أو باكيا، ثم ننصرف وننسى كل شيء، وكأنه لم يكن.
والدنيا كذلك ... ملك، أو غني، يتمتع مدة محدودة، ثم يزول عنه غناه أو ملكه، فيعيش بائسا أو فقيرا، أو يدركه الموت، فيبكي عليه أهله لحظة أو لحظات، ثم ينسى وكأنه لم يكن، أو فقير بائس يتضور جوعا وبؤسا، ثم يدركه الموت وكأنه لم يكن بؤس ولا بائس، ورجل وجيه تذل له النفوس وتخضع له الرقاب، ثم لا جاه ولا ذكرى ... فأي فرق بين هذا كله وبين الرواية؟
وأكثر خطأ الناس يأتي من نسيانهم أن هذه الأشياء التي يرونها في الدنيا رواية، ويحسبون أنها حقائق واقعة، وأنها أبدية لا تزول، فيظنون أن الضحك يبقى ضحكا أبدا، مع أنهم يشاهدون كل يوم تغيرا طارئا، فغني يفتقر، وفقير يغتني، وكل هذا شأن الروايات لا شأن الحقائق.
والفيلسوف الذي يؤمن بأن الدنيا رواية لا ينفع كثيرا، ولا يلتذ كثيرا، ولا يتألم كثيرا؛ لأنه يؤمن أن كل ما في الدنيا مسائل اعتبارية، كالذي في الروايات تماما، فالملك على مسرح الرواية التمثيلية ليس ملكا حقيقيا، ولا العامل الحقير في الرواية يبقى عاملا حقيرا، بل متى انتهت الرواية تغير كل شيء، والناس في الحياة شأنهم شأن الممثلين ... قد ينجح الممثل، فيمثل دوره أحسن تمثيل فيصفق له الناس، ويشتهر وينال الحظوة، وقد يفشل في التمثيل فيشمئز منه الناس ويحتقرونه ويهزأون به.
كذلك الحياة الواقعية ... من الناس من يكون عالما ناجحا، أو تاجرا ناجحا، أو أديبا ناجحا، فيصفق له الناس ويحظى عندهم، وقد يكون فاشلا، فيهزأ به الناس ويسخرون منه، وينصرفون عنه، ثم ينسى الناجح والفاشل، سواء في الرواية أو في الدنيا.
لو أدرك الناس هذه الحقيقة الصغيرة ما تخاصموا هذه الخصومات الشديدة، ولما أقاموا الدنيا وأقعدوها على توافه الأمور، ولجأوا إلى المحاكم، وسخروا المحامين والقضاة وقوة التنفيذ ظانين أن ما ينالونه قد نالوه أبدا، وما خسروه قد خسروه أبدا، وما ذلك كله إلا رواية، لكل شيء فيها حين.
ألا يستسخف الناس ممثلا غضب من ممثل آخر لشيء تافه، يعيش ساعتين أو ثلاثا ثم يزول؟! •••
وهناك درس عميق نستطيع أن نتعلمه من أن الدنيا رواية، وهو أننا في الروايات لا نقدر الشخص بمركزه الروائي إنما نقدره بأداء ما عهد إليه به على خير وجه، فإذا كان في الرواية ملك أو صعلوك، فلسنا نقدر الملك تقديرا كبيرا؛ لأنه ملك في الرواية، ولا نحتقر الصعلوك؛ لأنه يمثل دور الصعلوك، إنما نقدر كلا من الملك أو الصعلوك بحسب إتقانه للدور الذي يلعبه، بل إننا نقدر الصعلوك الذي أتقن دوره أكثر من الملك الذي لم يتقن دوره، هكذا ينبغي أن يكون الشأن في الدنيا؛ فكناس الشارع الذي يؤدي واجبه على أحسن وجه ينبغي أن يكون خيرا من رئيس المصلحة الذي لا يؤدي واجبه على الوجه الأكمل، والجندي الذي يقف في مفترق الطرق ينظم حركة المرور، ويراعي في إتقان مسير الحوادث، خير من ملك يفرط في كل شيء.
بل إن الدنيا بدولها لا بأفرادها قد تمثل كذلك رواية، دولة مجدها إلى السماء، ولا تغرب الشمس عن أملاكها، ثم تأتي عليها الحوادث التي لا قبل لها بها، فإذا هي لا شيء، ودولة ضعيفة لا حول لها ولا طول يبسم لها وجه الزمان، فتأخذ في القوة شيئا فشيئا، حتى تصبح أعز أمة على وجه الأرض، إن شئت فانظر إلى الرومان والفرس مع العرب، لقد كانت الدولتان الأوليان تقتسمان سيادة العالم، وتهزآن بالعرب وحركتهم، بل كان العرب أنفسهم يستصغرون حالتهم بجانب الفرس والروم، ثم فتحهما العرب وأخضعوهما لحكمهم، أو إن شئت فانظر في العصر الحاضر إلى اليابان كيف كانت، وإلى أين صارت، وقديما قالوا: «الدنيا دول»، وقالوا: «من سره زمن ساءته أزمان».
وهكذا الشأن في الرواية التمثيلية، جماعة يبلغون الأوج، وجماعة ينزلون إلى الحضيض في ساعات محدودة، بل لو وسعنا نظرنا لوجدنا رواية الدنيا يمثل فيها الحيوان والنبات أيضا، فنبات سرعان ما يفنى ولا يستطيع أن يصبر على حوادث الزمان، ونبات جلد صبور، يواجه الأحداث بقوة وثبات، ونمل ونحل يمثلان الجد والعمل المتواصل إلى بلوغ الغاية، وطاووس يزهى بنفسه، وكل زينته في جمال ذيله، فاجمع كل ذلك: نباتا وحيوانا وإنسانا، وبرا وبحرا، وروضة وقفرا، وسمكا وأسدا، ووردا وشوكا، وعسلا وحنظلا، تجد كل ذلك رواية أو روايات تمثل على مسرح الدنيا الواسع، فتبا للمتزمت الجاهل!
الشافعي الأديب
يعرف الناس كلهم الشافعي الفقيه، ولكن قلما يعرفون الشافعي الأديب ... فالشافعي أول ما تثقف تثقف بالعربية؛ فقد كان قرشيا هاشميا، وربما كان هو القرشي الهاشمي الوحيد من أصحاب المذاهب، وساعده ذلك على دراسته اللغوية والأدبية؛ فقد تربى في بني أسد، وكان من أفصح العرب، وقد درس شعر الهذليين وأتقنه حتى إن الأصمعي درس شعر الهذليين عليه.
وكان إمامه في ذلك عبد الله بن عباس؛ فقد كان ابن عباس فصيح اللسان يعنى بعلم القرآن كما يعنى بالشعر ... حتى كان يحضر دروسه طالبو القرآن وطالبو الحديث وطالبو الفقه ورواة الشعر والعربية، وكذلك كان الشافعي يترسم خطاه ويسير على منواله ؛ لأنه قريبه، تظهر فصاحته في كتابه «الأم» فعبارته جزلة بليغة تصح أن تحتذى، وله شعر كثير مروي حتى نسبوا إليه ديوان شعر مع أنه تعفف عن قول الشعر، وظن أن الشعر يزري بالعلماء، ونسبوا إليه:
ولولا الشعر بالعلماء يزري
لكنت اليوم أفصح من لبيد
فهو يعتز بالفقه ولكن لا يعتز بالشعر ... ولست أدري لماذا ذلك، فإن المهارة في الشعر ترفع مكانة صاحبه كمكانة الفقيه، فليس بشار بن برد ولا أبو نواس ولا أبو تمام أقل شأنا من فقهاء عصره ... فالنابغة في فنه ليس أقل من النابغة في فقه أو نحو، ولكن جرى على ذلك أهل عصره فكان عندهم أن الفقيه خير من النحوي والصرفي ومن الشاعر وعلى ذلك قال الشافعي شعره هذا.
ومن شعره الذي يرويه عنه قوله:
مرض الحبيب فعدته
فمرضت من حذري عليه
وأتى الحبيب يعودني
فبرئت من نظري إليه
وقوله:
أهين لهم نفسي لكي يكرمونها
ولن تكرم النفس التي لا تهينها
وهو شعر كما ترى لا بأس به وإن لم يبلغ قدرا كبيرا، ولكن ربما منعه من التفوق في الشعر مانعان: الأول: أن الاشتغال بالفقه والإمعان فيه، كما يقول ابن خلدون، يضعف الملكة الشعرية والملكة البلاغية، وحكى ابن خلدون عن نفسه أنه منعه من التفوق في البلاغة والشعر حفظ المتون، وروى عن فقيه أنه تبحر في الفقه فأصيب في الشعر وقال:
لم أدر حين وقفت بالأطلال
ما الفرق بين جديدها والبالي
فإن قوله: ما الفرق بين كذا وكذا تعبير فقهي لا شعري ...
والثاني: أنه كان يرى أن الشعر يزري بالفقه فلم يطاوع في شعره نفسه، ولو أطلق لها العنان لأتى بخير مما قال. •••
على أنا لا نعده شاعرا ممتازا، فتعبيره في «الأم» كما قلنا تعبير جزل اللفظ رصينه عميق المعنى غزيره، وكما كان إماما في الفقه يتحلق الناس حوله فيأخذون عنه، كان يجلس بعد الضحى، فيأخذون عنه العربية، وقد اشتهر بحسن الصوت والإلقاء ... حتى إنه لما أراد أن يأخذ على مالك موطأه، أراد مالك أن يحيله على بعض أصحابه فألح الشافعي أن يسمع قراءته فلما سمعها مالك رضي أن يقرأه عليه، ومن تمكنه في الأدب أنه كان قوي الحجة، استطاع أن يحاج الرشيد فيفك قيده من أسر كان وقع فيه مع تسعة من أصحابه، كلهم قتل إلا هو، فعفا عنه، ومما أفاده في اللغة والأدب ومعرفة أخلاق الناس وعاداتهم كثرة رحلاته، فرحل من غزة إلى مكة ومن مكة إلى المدينة ثم إلى اليمن ثم إلى مصر، وفي كل مرة يلقى علماءها وأدباءها فيأخذ عنهم، ومن قوة حجته أنه استطاع وهو في مصر أن يزيح مذهب مالك وأبي حنيفة فيمكن من مذهبه، وكما أفادته هذه الرحلات في فقهه أفادته في أدبه، وفي ذلك يقول:
سأضرب في طول البلاد وعرضها
أنال مرادي أو أموت غريبا
فإن تلفت نفسي فلله درها
وإن سلمت كان الرجوع قريبا •••
وقد روى الفخر الرازي أنه كان يعرف اليونانية وأنه كان مثقفا بها، وقد استنتج ذلك من حكاية رويت ... وهي أن الرشيد سأله: هل يعرف الطب؟ قال الشافعي: «أعرف ما قالت الروم مثل أرسططاليس، وبقراط وجالينوس وفورفوريوف بلغاتها، وما نقله أطباء العرب وقننته فلاسفة الهند ونمقته فقهاء الفرس» وهي تدل على ثقافة واسعة.
ولكن ابن القيم رد هذه الرواية، وقال: «إنها كذب مفترى، ولو كان الشافعي يعرف لغة اليونان ما فات ذلك مؤرخوه من كبار أصحابه»، فلغته في كتاب «الأم» وما روى من شعره وكتابته لرحلته كل ذلك يدل أنه أديب ممتاز بجانب أنه فقيه ممتاز ...
لقد عاش الشافعي مع علمه وأدبه فقيرا ومات فقيرا، ونسب ذلك إلى القدر، وأنه إذا منح العقل حرم الغنى، وإذا منح الغنى حرم العقل، وقال في ذلك شعرا كثيرا مثل قوله:
إن الذي رزق اليسار ولم يصب
حمدا ولا أجرا لغير موفق
الجد يدني كل أمر شاسع
والجد يفتح كل باب مغلق
وإذا سمعت بأن مجدودا حوى
عودا فأثمر في يديه فصدق
وإذا سمعت بأن محروما أتى
ماء ليشربه فغاض فحقق
لو كان بالحيل الغنى لوجدتني
بنجوم أقطار السماء تعلقي
لكن من رزق الحجا حرم الغنى
ضدان مفترقان أي تفرق
ومن الدليل على القضاء وكونه
بؤس اللبيب وطيب عيش الأحمق
وقوله: ومن الدليل، تعبير غير شعري تأثر بالفقه، وربط الغنى والفقر بالقدر نظرة قديمة أوحى بها عصره؛ لأن هذا العصر كان العلماء فيه والأدباء لا يغتنون من علمهم وأدبهم إلا إذا صادقوا الخلفاء والأمراء وملأوهم ملقا ومديحا بالغا، كالأصمعي وأبي العتاهية وأبي نواس، أما إن كانوا فقهاء أو أدباء لا يتصلون بالخلفاء والأمراء، عاشوا عيشة فقيرة إلا إذا كان لهم مورد آخر من عمل أو وقف ... كأبي حنيفة الذي كان يعمل بزازا.
ولكن انتشار الديمقراطية والاعتماد على الشعب دون الملوك والأمراء غير هذه النظرة، وجعل اجتماع العقل والغنى ممكنا، بدليل ما نرى في أوربا وغير أوربا من علماء وأدباء اغتنوا بعلمهم وأدبهم، وأصبح الناس يفهمون أن الغنى والفقر ناشئان من النظام الاجتماعي المعمول به، فإن كان النظام عادلا أخذ كل إنسان حظه من الغنى، وإذا كان النظام سيئا كان المال في يد عدد قليل قد لا يستحقه ...
كان الشافعي عزيز النفس، عالي الهمة، يرى أن علمه مع فقره خير من غناه مع ذله، وأنه إنما تعلم ليخدم لا ليخدم، ويكرم لا أن يهان، ويقصد لا أن يقصد ... فقضى حياته على بعض دريهمات وخادمة، ولو شاء أن يمد يده لدر المال عليه، وانهالت عليه الثروة ... فرحمه الله.
التسلح الخلقي قبل التسلح العسكري
شاعت بين الناس كلمة «التسلح» يقصدون بها إنتاج الأسلحة المادية فأراد قوم خيرون أن يعارضوها بالتسلح الخلقي، مقابل التسلح المادي، لقد زعم دعاة التسلح المادي أن التسلح للحرب يمنع خطر الحرب، ولكن لم يصح تنبؤهم، فما إن يتم تسلحهم حتى تنفجر الحرب ويرمى في نارها بالسلاح؛ وذلك لأن إعلان الحرب في يد حفنة قليلة من زعماء مغرمين بها، إما لداع وطني فيرون أن الوطنية الصادقة تدعوهم للحرب؛ رغبة في الانتصار، وإما لأن وراءهم رأسماليين يربحون أرباحا طائلة من أدوات القتال ... فجاء قوم خيرون، رأوا أن التسلح الخلقي هو المنجاة من الحرب؛ إذ ليست الأخلاق صدقا وكرما وعدلا فقط، بل منها أيضا نشر السلام، ومنع الحرب، فوجدت جمعية لهذا الغرض، وانتشرت في أقطار العالم، وحضر لفيف من أعضائها منذ سنتين في الإسكندرية، وهم يرون أن الحرب مهما عظمت، ومهما كان الداعي إليها، لا تساوي ما ينتج عنها من تخريب وسفك دماء وقوة عداء، وأن الناس قديما كانوا إذا اختصموا يأخذون حقهم بأيديهم فلما ارتقوا احتكموا إلى المحاكم ...
وهذا ما ينبغي أن يكون شأن الأمم إذا اختصمت، فهي لا بد أن تحتكم إلى محكمة دولية لفض النزاع، ووجدت من أجل ذلك فكرة عصبة الأمم، ثم هيئة الأمم، ولكن أفسدهما أنهما محكمتان غير عادلتين؛ فقد اتخذت إنجلترا عصبة الأمم محكمة تقضي لصالحها سواء كانت محقة أم مبطلة، واتخذت أمريكا هيئة الأمم المتحدة كذلك، وها نحن هذه الأيام نسمع أن فرنسا تعلن أنها لا تسمح بأن تنظر هيئة الأمم الخلاف الذي بينها وبين تونس ومراكش؛ لأن هذا يهمها وحدها ... شأن الظالم الغاصب، يريد أن يمنع المحكمة من التدخل في الظلم والغصب، فتطأطئ أكثر الحكومات رأسها لهذا، ومن غير شك سيودي هذا بهيئة الأمم المتحدة، كما أودى مثل ذلك بعصبة الأمم من قبل، ولو عدلت هيئة الأمم كما تعدل المحاكم بين الأفراد، لعلا شأنها وصانت كيانها، ولكن يظهر أن الأمم محتاجة لزمن طويل؛ لتدرك معنى العدالة الإنسانية بين الأمم، كما أدركت المحاكم معنى العدالة بين الأفراد، فحفظت كيانها.
إن التسلح الخلقي يجعل للفرد، إذا حمل على ظلم، أن يقول: «لا» بملء فيه ... ومن أغراض هذا التسلح الخلقي التسامي وجعل كل فرد مشرفا على مصالح الأمم، يحميها من الظلم، ويعمل لتحقيق العدل ... وإلا فما بال فرنسا تقف هذا الموقف، وما بال إنجلترا في إيران تقف موقفها المخزي فلا ترضى شركتها بنصف الربح؟! والشعب الإيراني فقير يريد أن يعيش ويحصل على الضروري من القوت، والإنجليز يريدون أن يصرفوا المال في الترف وفي الكماليات، ولا يسمعون لدعوة داع إلى الخير، ولا لتوسط أمريكا ولا غيرها، وكم في الدنيا من مظالم يرتكبها الرجل الأبيض ضد الرجل الملون، ولا يسكت التسلح الخلقي حتى يزيل هذه المظالم، ويحل محلها العدل، ولم تجعل الإنسانية يوما ما من الرجل الأبيض مستعمرا، ولا من الرجل الملون مستعمرا، وليس يهدأ أصحاب التسلح الخلقي حتى يروا الشعوب متساوية، والعدالة شاملة ... إنه ليحز في نفوسهم أن يروا مظالم لا تنتهي؛ ملوكا جائرين، وساسة مستبدين، وحكومات تتباهى بالظلم، وذلك عهد مضى، وقد قضي على بعضهم، وسيقضى على البقية الباقية منهم، ففي رأيي أن العالم يسير إلى الأمام دائما ... قد تتخلف بعض الأمم، وقد يرقى بعض الأمم في ناحية، وينحط في ناحية، ولكن العالم على العموم لا يعبأ بكل هذا، ويسير إلى الأمام.
وقد كان العالم مملوءا بمصادرات الملوك والأمراء، وهم لا يعترفون بحق أي أحد غيرهم في الحياة، فلهم أن يقتلوا من شاؤوا، وينهبوا ما شاؤوا، ثم اعترف أخيرا بحق الإنسان في حياته وفي حريته، وفي تعلمه، وفي ملكيته، تحميه القوانين وتمنع من الاستبداد به حتى الملوك والأمراء، وهو يسير إلى الأمام نحو احترام هذه الحقوق للأمم ... فلا ظلم ولا استعمار، ولا سفك دماء، وإنما أخ كبير يأخذ بيد أخ صغير، حتى يرشد، ووصي عادل يحمي من ليس من ذوي الأهلية حتى يبلغ سن الرشد.
هذا برنامج التسلح الخلقي، وهدفه الأسمى ... ولا بد أن يصل إليه العالم بعد قليل من الزمن أو كثير، وقد عودنا التاريخ أن دعاة الإصلاح قد يفشلون، وقد يقتلون، ولكن يأتي من بعدهم قوم يحملون فكرتهم، ويدعون إليها، وهم أشد ممن قبلهم فينجحون، وهذا ما أرجو أن سيكون.
حديث إلى نفسي
اعتدت كل يوم أن أخلو إلى نفسي لحظات، أفكر فيها فيما مر علي من أحداث اليوم ... سواء منها ما ساء، وما سر، ولا أعد يوما لم أتمكن فيه من هذه الخلوة، سواء كان ذلك في رحلتي أو إقامتي، وقد أذكرني ذلك بقصة صوفية لطيفة، وهي أن صوفيا رحالا دخل بلدة وأحب أن يزور مقبرتها ... فرأى عجبا: رأى بعض شواهد القبور مكتوبا عليه: هنا يرقد فلان، وقد حج، وألف، ومات وعمره يومان! ... وعلى شاهد آخر: هنا يرقد فلان، وقد غزا سبعا وعشرين غزوة في سبيل الله، ومات وعمره ثلاثة أيام! ... وعلى شاهد ثالث: هنا يرقد فلان وقد طوف في البلاد شرقا وغربا، وحارب وانتصر، وعمره يوم واحد!
فعجب من ذلك وسأل عمدة البلدة فقال: «إننا معاشر أهل هذه البلدة لا نعد من الأيام إلا الأيام السعيدة التي فشا فيها السرور، ولم يحدث فيها غم»، فقال الرحالة للعمدة: «أرجو إذا مت في بلدكم أن تدفنني في مقبرة من مقابرها وأن تكتب على شاهدها: هنا يرقد فلان، وقد رحل وحج وألف ومات وهو في المهد ... لأني لم أجد يوما ما يسرني!».
أما أنا فلا أعد من الأيام، ما لم أخل فيه لنفسي.
وفي الخلوة أفكر فيما جرى ... فأحيانا أرى أنه يوم عادي لم يجر فيه إلا ما كان مألوفا، وأحيانا أرى ما يهز مشاعري ويقلق عواطفي، فأرى مثلا من كنت أعده موطن وفاء ومركز صداقة عتيقة ... قد باع صداقته بأرخص الأثمان ، وصدر منه ما ليس له تفسير إلا الجحود والنكران، وتبين أنه كان صديقا وفيا يوم كان يؤمل حاجة، أو يطمع في قضاء مصلحة، فلما زال كل ذلك تنمر وتنكر وقلب ظهر المجن، واتجه اتجاها جديدا إلى من يقضي له حاجته ويؤدي له مصلحته. •••
وخلوت يوما إلى نفسي فسألتها: «هل تود أن تعود شابة كما كانت، وأن تستأنف الحياة التي قطعتها من جديد؟»، فأجابت: «إن كانت الحياة تعود والشباب يرجع مع التجارب القديمة، وبعقل جديد قد استفاد مما حصل له ... فأهلا وسهلا، أما إن كان الشباب يعود بالعقل الماضي، ويرى من جديد التجارب التي حدثت ويسر ويألم ويضحك ويبكي، فلا ... وخير ألا أجرب التجارب التي سبق أن جربتها ولا أحيا حياة ثانية كالتي حييتها!». •••
وسألت نفسي في إحدى الخلوات: «ماذا كنت تستفيد من تجاربك لو حييت حياة ثانية وعدت إلى شبابك؟» فقلت: كنت لا أومن بالناس كما كنت أومن ... فكل من رأيت إنما يطلب الخير لنفسه، وإنما يعرفك ويتملقك إذا أحس بالحاجة إليك، ويمقتك ويكرهك إذا أحس الحاجة عند غيرك، وقد استعقلت الشاعر الذي يقول:
عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى
وصوت إنسان فكدت أطير
واستعقلت المتنبي؛ إذ يقول:
والناس من يلق خيرا قائلون له
ما يشتهي ولأم المخطئ الهبل
ثم لو استقبلت من أمري ما استدبرته، لكرهت الإفراط في كل شيء حتى في الفضائل ... فالإفراط في القراءة والكتابة كالإفراط في التدخين كلاهما ضار، والقانون الطبيعي قد يستغفل مرة أو مرتين، ولكنه لا يسمح أن يستغفل دائما ... فهو يصبر ويصبر ولكنه إذا تنمر لم يفلت، وقسا بالمؤاخذة.
وهزأت بمن يتعب جدا في جمع المال، وقد علمتني الحوادث أن لا شيء من المال يساوي الصحة خصوصا إذا جمع المال على نفقة الصحة، وإن أقرب أقاربي حتى الأولاد لا يستأهلون أن تضيع الصحة في سبيل إثرائهم.
وأحيانا تلتفت النفس إلى شخصي، وأحيانا إلى أسرتي إذا جد مشكل كبير احتاج إلى مجهود كبير في حله: من ضائقة مالية أو ضائقة خلقية أو ضائقة اجتماعية .
وأحيانا يغلب علي التفكير في الأمة عند فشو فساد فيها أو وضعها تحت سلطة حاكم مستبد، يكتم الحرية ويعيث في الأرض الفساد، أو وضعها تحت نظام حكم فاسد، يستغل الحكام الشعب لمصلحته.
وأحيانا أفكر فيما هو أوسع من ذلك، كالذي حدث لي أيام هجوم الصهيونيين على الفلسطينيين؛ فقد تعب فكري من هذه الحوادث أيها خير للأمة، أتقبل الهدنة أم لا تقبلها؟ أتسالم أم تحارب؟ إلى غير ذلك ... وكنت أقرن دائما بين ضياع الأندلس على يد الإسبانيين قديما، وضياع فلسطين على يد الصهيونيين حديثا، واتفاق هؤلاء وهؤلاء على أن يقفوا في الحرب بأنفسهم من غير أن يساعدهم من بجوارهم.
بل أحيانا أيضا أفكر فيما هو أوسع من ذلك: في الإنسانية جمعاء ... كيف يغيب عن زعماء العالم أن في الحرب ضرر الجميع، سواء منهم المنتصر أو المنهزم، وأن الغاية التي يسعى إليها الزعماء مهما كانت لا تساوي ما يهدر في الحروب من دماء وما يصرف عليها من أموال، وأن الجهود العلمية لو بذلت في خير الإنسانية لتقدمت البشرية ولكان الناس إخوانا، ولم يكونوا ميادين حرب، ولا انقسموا إلى معسكرات، وأن العقل الضيق وحده هو الذي جعل فروقا بين الشرق والغرب والمسلمين والمسيحيين والصهيونيين، وأن الناس لو عقلوا لرأوا أن الدين لله وحده ... لا يصح بحال أن يفرق بين أتباعه.
وعلى كل حال فقد اختلف منزع التفكير باختلاف ما يعتريني من نزعة قوية؛ أحيانا فردية، وأحيانا عائلية، وأحيانا فوضية، وأحيانا إنسانية.
هذا من ناحية العواطف.
وأحيانا تؤرقني المشاكل العلمية، عقب قراءة تثير مشكلة علمية أو محاولة بحث في عقدة علمية.
بل أراني مضطرا أحيانا إلى أن أصحو منتصف الليل وأفكر في هذه المشكلة، وأضيء النور، وأذهب إلى المكتبة لعلي أعثر في المسألة على رأي جديد أو حل للإشكال، وأسوأ ما يكون ذلك إذا نمت بعد كتابتي في الموضوع؛ فإذ ذاك يظل الفكر يشتغل فيما كنت أكتب، وأحيانا يوفق إلى حل، وأحيانا لا يوفق، ولا أزال كذلك حتى أتنبه من نومي، ولذلك آليت ألا أجيز لنفسي القراءة قبل النوم ولا أجيز لها الكتابة.
وأحيانا تثور عاطفتي الدينية إذا فكرت في المسلمين وضعفهم وانحلالهم، وقارنت بين جهلهم وعلم الأوربيين، وفقرهم وغنى الأوربيين، وتفرق كلمتهم واجتماع كلمة المستعمرين، وسوء حالتهم الاجتماعية ... ثم فكرت طويلا في الأسباب التي دعتهم إلى هذا التدهور: هل هو حكومتهم المستبدة الظالمة، أم هم رجال الدين الذين منوهم الآخرة بترك الدنيا، أو هو سوء عقيدتهم في القضاء والقدر، الذي حملهم على الكسل والإهمال والتواكل، أو هو جميع ذلك كله أو غير ذلك كله؟ وفكرت أيضا هل هو مرض مزمن يبقى ما بقيت الحياة ويعيش على ممر القرون، أم هو عارض يزول متى زالت أسبابه، ومن أي نقطة يبدأ الإصلاح. •••
تمر هذه الأحداث كلها على ذهني كأنه شاشة بيضاء تسجل عليها حوادث السينما، وأحيانا يكون التفكير محزنا يستعقب البكاء، وأحيانا سارا يستوجب الابتسام ... وكل ذلك نتيجة لحالة المزاج وموضوع التفكير، ولكن مهما كان المزاج ومهما كان موضوع التفكير سارا أو محزنا، فالنفس ترتاح إلى هذه الخلوة وتلتذها لذة التاجر يقلب في دفتر حسابه.
الاجتهاد في نظر الإسلام
كنت أتجادل في الشهر الماضي مع معالي الأستاذ علي عبد الرازق باشا، وكنا نستعرض حال المسلمين وما وصلوا إليه من جمود، فقال: إن دواء ذلك أن نرجع إلى ما نشرته قديما من أن رسالة الإسلام روحانية فقط، ولنا الحق فيما عدا ذلك من مسائل ومشاكل، فقلت: إن رأيي أن رسالة الإسلام أوسع من ذلك وهي روحانية ومادية معا، بدليل ما ورد في القرآن من نظام البيع والشراء والإجارة والمعاملات المالية، ومسائل الأحوال الشخصية من زواج وطلاق ونحو ذلك.
والذي يحل مشاكلنا، هو فتح باب الاجتهاد بعد أن أغلقه العلماء، ولم يكن إغلاق باب الاجتهاد باجتماع بعض العلماء وإصدار قرار منهم، إنما كان مجرد حالة نفسية واجتماعية؛ ذلك أنهم رأوا غزو التتار لبغداد، وعسفهم بالمسلمين، فخافوا على الإسلام منهم، ورأوا أن أقصى ما يصبون إليه، هو أن يصلوا إلى الاحتفاظ بتراث الأئمة مما وضعوه واستنبطوه وأنهم لا يؤملون أكثر من ذلك؛ نظرا لحالتهم النفسية المتدهورة، فسموا هذا إقفال باب الاجتهاد، ونحن نريد أن نفتحه.
ونظريتنا في الحقيقة تؤدي إلى نفس النتيجة التي يراها الأستاذ علي عبد الرازق باشا، فالاجتهاد الذي نريده، هو الاجتهاد المطلق لا الاجتهاد في المذهب، فهو يشمل كل شيء حتى في تقييد النص ووقف العمل به متى استوفى المجتهد شروط الاجتهاد المبنية في كتب أصول الفقه، من علم بالكتاب والسنة، وعلم باللغة العربية، وعلم بالعرف والتقاليد، وعلم بمقاصد الشريعة، وغير ذلك.
وإمامنا في ذلك عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فإنه مثلا لم يرد أن يعطي المؤلفة قلوبهم من الزكاة؛ لأنه أدار الحكم على العلة وجودا وعدما، فلما لم يكن الإسلام في حاجة إلى تأليف القلوب؛ لكثرة من دخل في الإسلام، وقف إعطاءهم الزكاة، ولما رأى الناس أكثروا من الحلف بالطلاق الثلاث بلفظ واحد أدبهم بإيقاعه ثلاثا، مع أن القرآن الكريم يقول:
الطلاق مرتان
والطلاق الثلاث هو مرة من المرتين، ولما حد المسلم حد الشرب ورآه بعد ذلك قد تنصر والتحق بالقسطنطينية، آلى على نفسه أن لا يحد مسلما بعد ذلك أيام الحرب، وسرق مسلم من مزينة في أيام المجاعة، فأمر بحده ثم أمر برده، وألزم قبيلته أن تدفع ثمن الفاقة، وقال: إنكم أجعتموهم فسرقوا. إلى كثير له من أمثال ذلك، فكان كما قلت، يدير الحكم على حسب العلة، فإذا لم تتحقق العلة لم يحقق المعلول.
ومجلس الشورى كان يفعل مثل ذلك في الأندلس؛ فقد واقع عبد الرحمن الناصر زوجته في رمضان، فأفتاه بعض العلماء بتحرير رقبة كما هو الترتيب في الكفارة، فأبى يحيى بن يحيى الليثي رئيس جماعة الشورى عليه ذلك؛ نظرا لأنه أمير وغني ومن السهل عليه أن يحرر رقبة، فلا بد من عقوبة رادعة، وهي أن يصوم ستين يوما بدل اليوم الذي أفطره؛ تحقيقا لمقصد الشريعة، فالاجتهاد الذي نريده من هذا القبيل، فإذا جد للمسلمين موقف درس موقفهم بعينين:
إحداهما: مقاصد الشريعة الكلية. والأخرى: موقف المسلمين الحاضر. وفي كل عصر تجد مسائل تحتاج إلى هذا الاجتهاد، بدليل ما كان يرد على المرحوم الشيخ محمد عبده من مسائل جديدة يطلب أصحابها الفتوى الإسلامية فيها، مثل: ذبيحة أهل الكتاب، ولبس القبعة إذا اضطر الناس إليها، وإيداع المال في صناديق التوفير، والاشتراك في شركات التأمين على الحياة، ونحو ذلك من المسائل والأقضية التي تجد في العالم الذي هو في تطور مستمر، فكل يوم تظهر أحداث تتطلب أحكاما شرعية، فما لم تقابل بالاجتهاد العاجل ومجابهة الموقف أصيب المسلمون بالحرج، وكان علماء الفرس
1
أوسع صدرا في هذا، وأكثر قبولا لنظرية الاجتهاد، لولا أنهم أكثروا من شروط هذا بما يساوي الاجتهاد المقيد، ونحن نريد الاجتهاد المطلق.
والاجتهاد الذي نريده لا يصح أن يعطى لكل شخص، وإلا كانت الفوضى والاضطراب، إنما نريده لأهل الحل والعقد الذين تتوافر فيهم شروطه كبعض أعضاء مجلسي النواب والشيوخ وبعض رجال العلم ونحو ذلك، والإسلام مرن بطبعه يتحمل مثل ذلك؛ فقد جعل الاجتهاد مصدرا من مصادر الشريعة، وأباح النبي
صلى الله عليه وسلم
لمعاذ بن جبل أن يجتهد برأيه، وأباح للصحابة أن يجتهدوا بآرائهم مع رأيه في شئون الدنيا؛ فقد أمرهم مرة ألا يؤبروا النخل، فلما فعلوا ذلك لم يثمر، فقال
صلى الله عليه وسلم : أنتم أعلم بأمور دنياكم. وقد فعل
صلى الله عليه وسلم
أشياء كثيرة لا تتصل بالدين، وإنما فعلها لمزاجه كحبه للدباء، أو نزولا على عادة قومه كطريقة لبسه ونوعه والالتحاء وصبغ اللحية ونحو ذلك، فهذه كلها أمور ليست من الشريعة في شيء، ولكل زمن عرفه وتقاليده، ولكل شخص مزاجه، فخلط هذه الأمور بعضها ببعض خلط غير صحيح، وقد روي عن الإمام أحمد بن حنبل أنه امتنع عن أكل البطيخ؛ لأنه لم يعلم الموضع الذي قطعه منه النبي
صلى الله عليه وسلم
وهذه مسألة عاطفية لا صلة لها بالدين، ولكن حبه للنبي
صلى الله عليه وسلم
وحبه للاقتداء به في كل شيء، سواء أكان من العبادات أم من غيرها دعاه إلى فعل ذلك، فهو أمر دعاه إليه الحب لا الدين .
ونحن في زمن تتوالى فيه المخترعات والصناعات، وتغمرنا فيه المدنية الحديثة بألوان كثيرة من المسائل، وكلها تحتاج إلى اجتهاد، فإذا ظهر الراديو مثلا تساءلنا: هل يصح أن نسمع منه القرآن أو لا يصح؟ والعالم نفسه يواجه هذه المشاكل، فلما اخترعت الطائرات احتاج السياسيون أن يضعوا مواد خاصة في القانون الدولي لمرور الطائرات في جو الممالك الأخرى، وكذلك شأنهم في النظم البريدية الحديثة والسفن والقطارات وغير ذلك، فإذا نحن جمدنا لعدم وجود النص، ولم نقابل هذه الأمور وأمثالها بالاجتهاد، وتخلف المسلمون، كانوا أمام أحد أمرين: إما اتباعهم للمبادئ الأوروبية من غير نظر إلى مقاصد الشريعة كما فعل مصطفى كمال في تركيا، وإما الوقوف من غير إعطاء حكم، وفي كليهما ضرر بليغ.
إن كل نظام تشريعي يلزم لبقائه شيئان: قواعد ثابتة؛ كقول الشريعة: «لا ضرر ولا ضرار» تركزه وتثبته، وقواعد متموجة مرنة، يستطيع بها أن يواجه الأحداث الجديدة، وفي الإسلام هذان النوعان، ففيه القواعد الثابتة التي نسميها مقاصد الشريعة؛ كحفظ النوع والجنس والمال، وفيه القواعد المرنة؛ كرعاية المصالح المرسلة عن طريق النظر والاجتهاد، وبدونهما أو أحدهما لا تستطيع شريعة أن تبقى.
وقد قرأنا أن أبا حنيفة - رحمه الله - كان يقول: إذا غصب رجل ثوبا وصبغه بالسواد فقد أدخل نقصا على قيمة المغصوب، فلما جاء تلميذه أبو يوسف، وكانت الحالة قد تغيرت واتخذ العباسيون السواد شعارا رسميا، أفتى بأن الصبغ بالسواد يزيد قيمة المغصوب؛ وليس الأمر تغير الحكم ولكن الأمر تغير الظروف، وكان الفقهاء الأقدمون يفتون بأن من رأى حجرة في بيت دون سائر حجراته سقط عنه خيار الرؤية؛ لأن الحجرات في البيوت كانت تبنى بشكل واحد، فلما جاءت المدنية الحديثة واختلفت هندسة الحجر كان من مقتضى ذلك أن من رأى حجرة في بيت لا يسقط عنه خيار الرؤية وهكذا.
وبالأمس كنت أقرأ في كتاب الهوامل والشوامل، فرأيت فيه أن أبا حيان التوحيدي سأل مسكويه عن السبب في أن المسألة الواحدة يفتي فيها مفت بتحليلها، وآخر بتحريمها، فأجاب مسكويه: بأن العبرة باختلاف الزمان أو المكان، وأن الاجتهاد يواجه ذلك، قال: على أن الاجتهاد في نفسه تمرين للعقل بدليل أن ملكا من الملوك لو أراد أن يلعب بالكرة والصولجان ما أهمنا نجح في اللعب أو لم ينجح ما دام قد مرن أعضاءه، والحكيم إذا خبأ الشيء وطلب من الناس أن يبحثوا عنه، فسواء وجدوه أو لم يجدوه فقد حقق الغرض، والمشتغلون بالنظريات الهندسية والرياضية يكفيهم ما بذلوا من جهد في حلها سواء أصابوا أم أخطأوا.
وعلى الجملة لا ينقذ المسلمين إلا فتح باب الاجتهاد الذي أغلقوه، فضيقوا على أنفسهم واسعا.
التسامح الديني في الإسلام
نعني بالتسامح الديني أن يكون لكل فرد في الأمة حق في أن يعتقد ما يراه حقا وأن تكون له الحرية في تأدية شعائر دينه كما يشاء، وأن يكون أهل الأديان المختلفة أمام قوانين الدولة سواء، ولننظر إلى الإسلام في ضوء هذا التعريف نر أنه من حيث مبادئه وتعاليمه الأصلية هو أرقى الأديان في تحقيق هذه المبادئ، والباحث في التسامح الديني في الإسلام مضطر أن ينظر إليه من ناحيتين: ناحية المذاهب المختلفة في الإسلام نفسه، وناحية نظرة الإسلام لأهل الأديان الأخرى.
فأما الناحية الأولى فالمسلمون في عهد نزول القرآن أي عهد النبي
صلى الله عليه وسلم
لم يكونوا إلا مذهبا واحدا، ولذلك لا نتوقع أن يكون في القرآن نفسه نص على التعامل بين المذاهب الإسلامية المختلفة، قد يكون هناك بينهم اختلاف في الاجتهاد أو اختلاف في تطبيق المبادئ الإسلامية ولكن لم يتعد هذا أن يكون في مسائل جزئية لا ينطبق عليها كلمة مذهب، وهناك أقوال مأثورة تدعو إلى التسامح مثل ما شاع بين المسلمين «اختلاف أمتي رحمة» وكان هذا سببا في سعة الصدر بين أهل المذاهب المختلفة من حنفي وشافعي ومالكي إلخ ... ومثل ما روي عن الشافعي من قوله: «مذهبي صواب يحتمل الخطأ، ومذهب غيري خطأ يحتمل الصواب»، وهو قول لطيف يدل أيضا على قدر كبير من التسامح، ومن هذا القبيل أيضا ما شاع بين المسلمين من قولهم: «لا يكفر أحد من أهل القبلة بذنب غير مستحل» أي أنه لا يكفر مسلم بارتكابه ذنبا ما دام غير مستحل له، وأولى من ذلك أنه مهما اختلف المسلمون في المذاهب والآراء والأقوال فيما هو محل للاجتهاد والنظر، فلا يصح أن يكفر أحد منهم.
أما نظر الإسلام إلى الأديان الأخرى فهو نظر سمح؛ فقد سمى اليهود والنصارى أهل كتاب، وسماهم أهل الذمة، وهما تسميتان في منتهى اللطف، والآيات التي وردت في القرآن في أهل الكتاب تدل على قدر كبير من التسامح خصوصا في العهد المكي، فيظهر أن اليهود والنصارى قابلوا الإسلام في العهد المكي بشيء من حسن الاستقبال، فكان القرآن في ذلك العهد سمحا كريما، وقد بنى في أساسه على أن القرآن يؤيد الكتب السماوية الأخرى ويتفق معها في أغراضها، وأن الشريعة الإسلامية وارثة لما قبلها ومكملة لتعاليمها
والذي أوحينا إليك من الكتاب هو الحق مصدقا لما بين يديه إن الله بعباده لخبير بصير ،
ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون ، والإسلام يعترف بنبوة الأنبياء السابقين كنوح وإبراهيم وإسحاق ويعقوب وداود وسليمان ويوسف وموسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس، ويقرر أن أساس تعاليمهم واحدة وكلها من عند الله، فلا غرو بعد ذلك كله أن يكون الإسلام سمحا مسالما حتى لقد نصح أتباعه بأنهم إذا دخلوا في جدال مع اليهود والنصارى بشأن الدين، جادلوهم بالحسنى
ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون ، بل نرى في العهد المدني، في أول الأمر مثل قوله تعالى:
فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد ، وقوله:
قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون ، ولكن يظهر أن اليهود والنصارى في العهد المدني، بعد ذلك وقفوا أمام الدعوة الإسلامية يهاجمونها ويضعون الخطط لخنقها ويتحالفون مع الوثنيين في الكيد لها والنيل منها فاضطر الإسلام أن يقابل الشدة بالشدة والكيد بالكيد، فعلت نغمة القرآن في التنديد بأهل الكتاب ووصف أساليبهم القديمة وخاصة اليهود وما فعلوه مع أنبيائهم ... فكان موقف المسلمين منهم موقف الدفاع لا الهجوم، ومع ذلك فقد سمح لليهود والنصارى أن يؤدوا شعائرهم في المدينة، ونصح الرسول معاذ بن جبل حين أرسله إلى اليمن بألا يكره يهوديا على الإسلام، وفي كتابه إلى نصارى نجران سمح لهم أن يؤدوا شعائرهم وأن يتبعوا دينهم وأن تحفظ لهم كنائسهم وألا يتدخل في شئونهم ما وفوا بعهودهم.
وسار الفقهاء من المسلمين على هذه التعاليم في فقههم من حسن معاملة أهل الكتاب، وأن يكون لهم ما لنا وعليهم ما علينا، بل لما فتحت فارس عومل أتباع زرادشت معاملة أهل الكتاب، ولئن قسا الإسلام بعض الشيء على الوثنيين دون أهل الكتاب، فلأنه يرى أن الوثنية انحطاط في الإنسانية يجب علاجها، وانتشال الإنسانية من حضيضها وعلى هذا سار المسلمون في أكثر تاريخهم على حسن معاملة أهل الكتاب، يحمونهم ما دفعوا الجزية، ويسمحون لهم بالعبادة في بيعهم وكنائسهم، وهذه الجزية إنما شرعت بدل تجنيدهم لأنهم لا يأمنون جانبهم إذا جندوا، ولا يثقون بغيرتهم الحربية، فليدفعوا بدل القتال شيئا من المال لحمايتهم، ولو قرنت معاملة المسلمين في دولهم لليهود والنصارى بمعاملة النصارى للمسلمين في دولهم، لتبين إلى أي حد كان التسامح عند المسلمين، وفقدانه عند النصارى، حتى ليصح للمسلمين أن يفخروا بتشريع الفقهاء الأولين في معاملة أهل الذمة، وبتطبيق ذلك عليهم في مختلف العصور. •••
نعم حدث في التاريخ أحداث كثيرة لا تتفق وهذا التسامح الكريم، ولكن إذا دققنا النظر فيها وجدناها ترجع إلى أسباب أكثرها غير ديني، سواء في ذلك الاضطهاد الذي حدث بين المذاهب الإسلامية بعضها وبعض، أو بين المسلمين وغيرهم من اليهود والنصارى، من أهم هذه الأسباب: السياسية، فالنزاع بين الحكومة الإسلامية والخوارج في العهد الأموي وصدر العباسيين سببه أن الخوارج بتعاليمهم يريدون أن يتولى الحكم أصلح الناس ولو كان عبدا حبشيا، ولا يعترفون ببيت أموي ولا ببيت عباسي، ويريدون أن يصلوا إلى مبدئهم بالقوة، فاضطرت الحكومة الأموية والحكومة العباسية أن تحفظ كيانها، وتحمي بيتها في الخلافة بمحاربة الخوارج والقضاء عليهم، وهذا سياسة لا دين.
وانظر إلى النزاع الحاد، والدماء المسفوكة بين السنية والشيعة طول العهد الأموي والعباسي، وبعد ذلك، وما جرى بسببه من دماء تجري أنهارا، تجد سببه أن أهل السنة من أمويين وعباسيين وغيرهم يرون الحق في خلافتهم، ويرى الشيعة أن لا حق لهؤلاء في الخلافة، وإنما الحق لأهل البيت، وكل يعمل على أن يصل إلى حقه بقوة السلاح، فالنزاع إذن نزاع على من يتولى الحكم، وهذه سياسة لا دين.
وأحيانا يقوم بالدعوة الدينية رجال يدعون إلى مذاهب هدامة، ويتسترون باسم الدين، وتخشى الحكومة إن سادت تعاليمهم أن تنهار قوتها، فتضطر إلى محاربتهم، وشكل الحرب شكل ديني، وحقيقته حقيقة سياسية، وكثير ممن خرجوا على الدولة العباسية كانت حقيقة أمرهم الرغبة في إعادة الحكم للفرس ككثير ممن قتلوا تحت ستار الزندقة في عهد المهدي العباسي، وبتهمة المانوية، وقد يستثنى من ذلك الاضطهاد الذي حدث من المأمون والواثق لمن لم يقولوا بخلق القرآن؛ فقد كانت هذه نظرة دينية خاطئة من المأمون؛ إذ ظن أن من لم يقل بالاعتزال وبخلق القرآن فقد أفسد دينه، فهو يريد إصلاح العقيدة قسرا وقهرا كما فعل المسلمون الأولون إزاء الوثنيين، وهذا خطأ في التفكير نتج عنه أضرار جسيمة للمسلمين.
ومن العداء السياسي ما كان بين الدولة العثمانية والدولة الإيرانية، فالعداء بينهما عداء سياسي اتخذ شكلا دينيا، يريد العثمانيون الأولون أن يمدوا سلطانهم على الفرس، ويأبى الفرس إلا أن يحتفظوا باستقلالهم، فيؤول ذلك إلى البغض الذي بلغ مداه في عهد السلطان سليم الأول حتى كان من اضطهاده للشيعة في مملكته أن قتل وسجن ما يقرب من أربعين ألفا، ولكن من الخطأ تحميل الدين جرائر السياسة بدليل أن كثيرا من هذه الخصومات السياسية حدثت بين أمم إسلامية مختلفة تعتنق عقيدة واحدة سنية أو شيعية، وإنما كان الخلاف بينها على السلطان وسعة الحكم ونحو ذلك.
ولسنا ننكر أن كثيرا مما حدث في التاريخ من اضطهاد المسلمين للنصارى واليهود، كان ناشئا عن كراهية دينية وغيرة إسلامية، ولكنها كانت غيرة عمياء من بعض من أصيبوا بضيق النظر، وفهم الدين فهما خاطئا أو كان ردا لما يبلغهم عن اضطهاد المسيحيين للمسلمين، فيضطرون أن يعاملوهم معاملة المثل جزاء وفاقا، ولكن من الظلم أن نحمل الدين الإسلامي هذه الأخطاء أيضا.
وأحيانا يكون السبب في اضطهاد المسلمين لليهود والنصارى سببا اقتصاديا، فكثيرا ما كان يحدث أن تولي الحكومات الإسلامية بعض اليهود والنصارى زمام الأمور المالية في الدولة فيسرفون في تعيين أقاربهم وأصهارهم في الوظائف المالية كما يسرفون في بذل المال لهم، وبعد قليل ينظر المسلمون فيرون أن الغنى والترف، وحياة الفخفخة، والأبهة والعظمة، في جانب اليهود والنصارى، وحياة البؤس والفقر في جانب المسلمين، فيثور ثائرهم، ويحطمون هذا الوضع الاقتصادي الظالم، كما حدث ذلك في العهد الفاطمي، وقد كانت الدولة العثمانية في أول أمرها من أكثر الدول تسامحا لرعاياها من اليهود والنصارى، ومنحتهم من الامتيازات، ما لم يعهد له نظير في الدول الأخرى، ولكن انقلبت هذه الامتيازات، معاول لهدم الدولة العثمانية، واتخذت الدول الأجنبية من روسيا وإنجلترا وفرنسا وغيرها، هذه الامتيازات التي لرعاياها وسيلة لنشر الدسائس وتدبير المؤامرات، وخلق الفتن، فاضطرت الدولة بعد إلى استعمال كثير من العنف؛ دفاعا عن كيانها، ومواجهة لنقض الدسائس التي تحاك حولها؛ وكل هذا سياسة لا دين.
وأحيانا يكون سبب القتال والخصام، تجارة رؤساء الدين، فيرون أن قوة مركزهم، وبسطة نفوذهم، متوقفة على تعصب عوامهم، فهم يستغلون ضيق نظر أتباعهم، ويبثون فيهم روح التعصب؛ حفظا لمركزهم، ونفوذهم وسيطرتهم، علما منهم بأنه إذا ساد التسامح، وكان الناس إخوانا، فقدوا عزتهم الوهمية، ومكاسبهم الفانية، والأمثلة على ذلك كثيرة. •••
وبعد فإن أوروبا مع تقدمها في فهم الحرية، وجدها المتواصل في بناء حياتها على العلم لا على العواطف، ما زالت بعيدة عن تحقيق التسامح الديني بالمعنى الذي شرحناه في صدر المقال؛ فبالأمس قرأنا كيف هتلر بيهود ألمانيا وقرأنا كيف اضطهد الشيوعيون الدين وحاربوا شعائره، ونقرأ في الصفحات الأخيرة كيف حاربت أوربا المسلمين العرب في فلسطين، ونصرت اليهود عليهم، وعرفنا كيف تخلط أوربا المنفعة السياسية بالعواطف الدينية في معاملتها للمسلمين.
وأخيرا فهل للمسلمين أن يشتد وعيهم القوي، ويفهموا بعد طول هذه التجارب التي ذكرنا بعضها أنه لم يعد هناك وجه للخلاف بين سني وشيعي وزيدي وغير ذلك من المذاهب؛ لأنهم لو رجعوا إلى أصل دينهم ما وجدوا لهذا الخلاف محلا ولوجدوا أنه خلاف مصطنع لا خلاف أصيل، وأن الأمم الإسلامية في موقفها الحاضر أحوج ما تكون إلى لم شعثها وإصلاح ذات بينها، وتوحيد كلمتها، وهي ترى كيف تهاجم من كل جانب، وكيف يتخذ إسلامها وسيلة من وسائل الكيد لها، وإذا اتحد أهل الباطل على باطلهم، فأولى أن يتحد أصحاب الحق على حقهم.
ما نعلم وما لا نعلم
وقف مرة الأستاذ آينشتاين العالم الكبير عند درج صغير في أسفل مكتبته، وقال: «إن نسبة ما أعلم إلى ما لا أعلم، كنسبة هذا الدرج إلى مكتبتي» ولو أنصف لقال: إنه أقل من هذه النسبة. فإنا لا نعلم أي شيء هو؟ إنا نعيش في عالم مملوء بالحقائق والقوى، ولا نعلم أي شيء هي؟ وهذا في الدنيا التي نعيش فيها، ونلمسها ونزاول شئوننا فيها، فكيف بالعوالم الأخرى البعيدة عنا؟! نقول: إن العالم مكون من ذرات، ونقول: إن الذرة من إليكترونات، أو من نواة وشحنة كهربائية سالبة وموجبة، ويتغير رأينا في تكوين الذرة بمعدل مرة في كل أربع سنوات، ونتبجح فنعمل من الذرة قنابل ذرية، ونحن لا نعلم عن حقيقتها شيئا، نقول: إن الأجسام تسقط لقانون الجاذبية، والمصباح يشتعل بالكهرباء، ونسخر الكهرباء في إيجاد الحرارة والبرودة والحركة، وإيجاد الأمواج واستقبالها، ولكن ما الكهرباء؟ لا نعلم عن حقيقتها شيئا، وإنما نعلم كيف تستخدم، بل الحياة نفسها لم نعرف حقيقتها، وإن كانت تسكن فينا، وكل ما حولنا لا نعلم حقيقته وإنما نعرف أعراضه، وبعبارة أخرى نعرف «كيف» ولا نعرف «ما» و«لماذا».
ما الحب، ما الجمال، ما القبح، ما الحرية، ما كل شيء معنوي؟ كل هذه لا نعرف عن حقيقتها شيئا، وكل ما يستطيعه العقل أن يعرف صفاتها، ما الدين، ما الخوف، ما الأمل، ما الشجاعة، ما الفضيلة، ما الرذيلة؟ لا شيء غير الصفات.
قد نعلم أن اثنين واثنين أربعة، ثم نعلم أجزاءها ومضاعفاتها، أما سائر الأشياء فنعرف أعراضها ولا نعرفها، وكأنا منحنا عقلا ليس من طبيعته أن يعرف شيئا عن الحقائق وكل الذي يعرفه الإنسان - لو كان ذكيا - أن يوجه سلوكه في الحياة حسب طبائع الأشياء وحقائقها، ولذلك أنصف أصحاب مذهب البراجماتزم إذ أنكروا قدرة العقل على معرفة الحقيقة، وقصروه على معرفة الوسائل للغايات.
والذين يشتغلون بالعلوم ويقولون: إنهم وضعوا قوانينها كقوانين الجاذبية وقوانين الطبيعة والكيمياء، لا يزعمونها شرحا للحقائق، ولكن شرحا لأوصافها، وحتى هي شرح لصفاتها الظاهرة ، لا صفاتها الباطنة، إنك تقول: إن فلانا يحبني وفلانا يكرهني، ولكن، ما حقيقة الحب والكره؟ لا نعرف! قد تكون معرفة الفن أسهل من معرفة العلم، أو بعبارة أخرى: أسهل من معرفة الحقيقة؛ لأن الفن عمل، والعلم فهم، ونحن على العمل أقدر منا على فهم الحقائق، ولذلك سهلت الحياة؛ لأنها فن، وصعبت معرفة الحقائق؛ لأنها علم، إنك تستطيع أن تعلم أنك إذا صنعت القطار على نمط صحيح لا يصطدم، ولا تخرج عجلاته، وتستطيع بقدر الإمكان أن تتقي الأحداث، وتستطيع أن تترقب النجاح في عمل إذا سرت فيه سيرا حسنا؛ لأن هذه كلها فن لا علم، وحتى أنت في هذه عرضة للخطأ؛ فقد يحدث ما ليس في الحسبان، ويخرج القطار عن القضيب، ويصدم بجاموسة مرت عرضا في الطريق، وتصطدم سيارتك بما لم تقدر مطلقا أنها تصطدم به، فكيف الحقائق المجهولة؟!
إن كان ذلك كذلك، فكيف نأمل أن نعرف العقل والنفس وحقيقة الشعور وما إلى ذلك، كل ما نتحدث به عن هذه الأشياء ألفاظ جوفاء، وتشدق سخيف، لا حقيقة وراءه ، ولو أنصف مؤلفو المعاجم، ومحاولو التعريفات، لكفوا عن ذلك؛ لأنهم لا يصلون إلى حقيقته، وإنما يدورون حول أنفسهم، ولو دققت النظر في تعريفاتهم، لوجدتها تعريفا بالمثل لا تعريفا بالحقيقة، وأكثر الناس يعيشون بعقيدتهم لا بعلمهم، وبخرافاتهم وأوهامهم لا بعقلهم، فكيف وعقلهم لا يدرك حقيقة ما حوله؟! إن كان هذا حقا، فكيف يحاول العقل الإنساني البحث عن الله؟ إنه يكون كقوم لم يعرفوا أرضهم، فبحثوا عن المريخ، أو لم يعرفوا ما أمامهم، فحاولوا أن يعرفوا ما فوقهم.
ويعجبني ما ينسب إلى الإمام علي - كرم الله وجهه - في الله تعالى: «إنه لا تدركه الشواهد، ولا تحويه المشاهد، ولا تراه النواظر، ولا تحجبه السواتر، لا بذي عظم تناهت به الغايات، فعظمته تجسيدا، ولا بذي كبر امتدت به النهايات فكبرته تجسيما».
كما يعجبني قول ابن أبي الحديد:
والله لا موسى ولا
عيسى المسيح ولا محمد
علموا ولا جبريل وه
و إلى محل القدس يصعد
كلا، ولا النفس البس
يطة لا، ولا العقل المجرد
من كنه ذاتك غير أن
ك واحدي الذات سرمد
فلتخسأ الحكماء عن
حرم له الأفلاك سجد
من أنت يا رسطو ومن
أفلاط قبلك يا مبلد
ومن ابن سينا حين مر
د ما بنيت له وشيد
هل أنتم إلا الفرا
ش رأى الشهاب وقد توقد
فدنا فأحرق نفسه
ولو اهتدى رشدا لأبعد •••
وقوله أيضا:
فيك يا أعجوبة الكو
ن غدا الفكر قليلا
أنت حيرت ذوي اللب
ب وبلبلت العقولا
كلما أقدم فكري
فيك شبرا فر ميلا
تاكصا يخبط في
عمياء لا يهدي السبيلا
وفي مثل ذلك من الحيرة - أقر - ابن سينا بعد طول ما أجهد نفسه في فلسفته، وفخر الدين الرازي بعد ما أطال في تأملاته، بالعجز عن معرفة الموجود الواجب الوجود، بل أقرا مع هذا بالعجز عن معرفة حقائق هذا الوجود، وأسفا أن صرفا حياتهما في غير طائل، ورجع كل منهما بعد طول السفر خاوي الوفاض، وقالا: إنهما لو استقبلا من أمرهما ما استدبرا، لما صرفا حياتهما في شيء باطل، ووهم واهم.
ما أعجز الإنسان! يجهل كل ما حوله، ثم هو يؤلف كل هذه الكتب التي لا عداد لها، ثم يفتخر بها، ولو أنصف لخجل منها، وحرق أكثرها، والأعجب من ذلك هذا الغرور الذي يستولي على بعضهم، فيزعم أنه العالم النحرير، والفيلسوف الكبير، أو يزعم أن عقيدته التي اعتقدها حق لا باطل فيها، وعقيدة غيره باطلة لا حق فيها، فما هذا الحق الذي يتباهون به، ويتعصبون له، ويملؤون الدنيا فخرا به، ويعيبون غيرهم بالصد عنه؟! كلا ليس في أيديهم حق بحت وليس يعلم الحق إلا الله، يعلم ما ظهر وما بطن، ويعلم السر والعلن، أما غيره فلا يعلم إلا سرابا بقيعة يحسبه الظمآن ماء، حتى إذا جاءه لم يجده شيئا.
الأدب الشعبي بين الحرفشة والفصحى
من قديم اشتهرت مصر بالأدب الشعبي، حتى ليمكن تحديد سلسلة من الأدباء الشعبيين، وذلك من شعر خفيف لطيف، كشعر الجزار، والبها زهير، أو زجل ظريف، أو نكت رائعة، كالذي اشتهر به ابن دانيال الموصلي، وابن سودون، والشربيني، والمسرحيات والقصص الشعبية التي كانت تمثل في خيال الظل.
هذا كله قديما، وفي الحديث اشتهر الأدب الشعبي بالزجل أيضا، وبالنكت الظريفة، وكان الشيخ حسن الآلاتي رجلا كفيفا من أصل تركي، يلبس العمامة، ولها عدبة على قفاه، وله قهوة في حي السيدة سكينة تسمى المضحكخانة، يقصد إليها العظماء والأمراء؛ ليضحكوا من نكته، وكان يحضرها عبد الله (باشا) فكري، وغيره من العلماء، وكانت أكثر نكته من قبيل المفارقات، مثل: «البردان يقلع عريان»، واشتهر بعده عبد الله نديم وكان ماهرا في الزجل، وكان يخرج مجلتي الأستاذ، والتنكيت والتبكيت، بعضهما باللغة العامية، وبعضهما باللغة الفصحى، وكان إذا نازل الأدباتية غلبهم، وأقيمت بعض الحفلات للمبارزة الزجلية، كالمبارزة بالعصي والسلاح، وحكى هو نفسه، منازلة كانت بينه وبينهم في طنطا، وانتصر فيها على حد قوله، واستمرت هذه السلسلة، فجاء بعده توفيق صاحب «حمارة منيتي» وكان الشعب يتلقفها لخفة روحها، ثم كانت الصاعقة لأحمد فؤاد، والسيف لحسين شفيق، رحمهما الله. •••
والذي يقارن بين هذه المجلات ومجلات اليوم يرى أن المجلات القديمة كانت تميل إلى الفحش والأدب المكشوف، ثم ارتقى الذوق، فمالت إلى الأدب المستور، وقلة الفحش، وظاهرة أخرى هي أن المجلات القديمة تهتم بالنكت اللفظية، ثم صارت تميل إلى النكت الغامضة التي تدل على الذكاء.
وفرق ثالث وهو أنها كانت تصرح بالأسماء ولا تخشى جرح عواطف أصحابها ثم سترت الأسماء، واكتفت بالنكت نفسها، أو برموز حرفية، وكانت اللغة الشعبية مملوءة بما يسميه ابن خلدون «الحرفشة» وهي الجفاف والخشونة والابتذال، ثم ترقت اللغة الشعبية برقي أصحابها من جهة، وبالإذاعات السهلة التي تناسب عقول الشعب، وأحيانا بالإذاعات العامية، كما يفعل الأستاذ فكري أباظة، وما زالت اللغة الفصحى تسهل، واللغة العامية ترقى وتصفو من الحرفشة حتى كادتا تتقاربان، ويكاد لا يكون من فرق بينهما إلا الإعراب.
ونلاحظ أن اللغة العامية أحيى؛ لأنها تستعمل في البيوت وفي الشوارع، وفي الأحاديث العادية، وهذه أمور تكسبها حياة وقوة، وهي ألطف في النكت، فإذا حولت النكتة العامية إلى لغة فصحى سمجت، كما تنبه إلى ذلك الجاحظ من قبل.
ومن ظرف اللغة الشعبية تهزيئها للنحو والصرف تهزيئا ظريفا، وأقدم من عرفناه في ذلك الشيخ حسن الشربيني في كتابه «هز القحوف في شرح قصيدة أبي شادوف» فهو مملوء بهذا النوع، وجرى على أثره الأستاذ الههياوي - رحمه الله - في كتاباته في الكشكول وغيرها.
والناس عادة يتقبلون ما يكتب باللغة الشعبية قبولا حسنا؛ لأن النبوغ فيها أبرع، وهي لهم أنسب.
ولا يزال هناك أبواب من أبوابها حية مستعملة، كالزجل الظريف، والأغاني، وخصوصا ما يؤلفه الأستاذ أحمد رامي، والأستاذ محمود بيرم التونسي، والأستاذ صالح جودت، وما تغنيه لهم أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب، فإن لأقوالهم معاني رائعة. •••
ولكل أمة لغة شعبية تخالف لغة الأمة الأخرى، فلغة مصر تخالف لغة الشام، وهما تخالفان لغة العراق، وربما كانت اللغة المصرية أظرف وأرق، كما يدل على ذلك المقارنة بين المجلات الهزلية في الأمم المختلفة ...
ومن دليل إقبال الشعب على اللغة الشعبية أن الرواية إذا مثلت باللغة الشعبية أقبل عليها الجمهور إقبالا شديدا ، على حين أنها إذا مثلت باللغة الفصحى لم تجد لها مثل هذا الإقبال، ومن الدلائل على ذلك أن بعض الكتاب يتكلمون باللغة العامية، أو باللغة الفصحى التي لا يميزها عن العامية إلا الإعراب، فيقبل عليهم الجمهور، ويستلذون حديثهم.
ومن مظاهر ذلك أيضا ما نشاهده من فتح ركن للفلاحين في الإذاعة يذاع باللغة العامية. •••
على كل حال نشاهد السير إلى الأمام في تقرب اللغة العامية من العربية، وتقرب العربية من العامية، وذلك بفضل الإذاعة ونشر التعليم، وكثرة قراءة الصحف، ومشاهدة السينما، والمنتظر أن يتم التوافق قريبا فتكون لدينا لغة واحدة، هي لغة فصحى ليس فيها شيء من الغريب، ولغة عامية خالية من الحرفشة، لا يميزها من العربية إلا الإعراب، وهذا الإعراب مشكلة لا بد من حلها، خصوصا ونحن قادمون على عهد يطلب فيه مكافحة الأمية، وتعميم التعليم، ولا شك أن من أكبر العقبات في ذلك الإعراب، فما يمكن نشره من التعليم في سنتين من غير إعراب، لا يمكن نشره إلا في خمس مع الإعراب.
ونحن نشاهد أن طلبة الجامعة - وقد أمضوا ثلاث سنوات في رياض الأطفال، وأربعا في التعليم الابتدائي، وخمسا في التعليم الثانوي، وأربعا على الأقل في الجامعة - لا يحسنون القراءة والكتابة باللغة الفصحى، فما لم تعالج هذه المشكلة نظل متعثرين في الطريق.
والتاريخ يخبرنا أن اللغات البدائية تبتدئ معربة، وتنتهي في تطورها إلى الإسكان، وما جرى عليها يجري على لغتنا، فالقانون الطبيعي يحارب أي استثناء.
خواطر في الانقلاب الحديث
عشنا بين العهدين ... وكان أهم فارق نشعر به، إحساسنا بالعبودية أولا، وبالحرية ثانيا، قد كانت تكفي إشارة من البلاط لتنفيذ ما أراد مهما خالف القوانين ومهما استغرق من المال.
الفساد في الجامعة
ومرت علي حوادث كثيرة شعرت فيها بهذا المعنى وأنا في الجامعة، فمثلا أوحي إلينا في مجلس الجامعة أن نمنح بعض الأجانب دكتوراهات فخرية، وفتشنا في هؤلاء الأجانب، أي خدمة خدموا بها مصر، أو أي نبوغ نبغوه في علومهم، فلم نجد، ومع ذلك انطلقت الأفواه البليغة في الإتيان بالحجج والبراهين، على استحقاقهم هذا الفخر، واعترضت قلة قليلة في المجلس، وتأجلت المسألة من جلسة لأخرى، ثم أخذت الأصوات، فكانت الأغلبية العظمى في جانب منحهم الدكتوراه، والأقلية الضئيلة بجانب عدم منحهم، وكانوا يقولون: إنه إذا كان ولا بد، فلتمنح الدرجة لبعض نوابغ المصريين الذين خدموا مصر خدمة حقيقية، فنزل الوحي أيضا بتشريد هؤلاء الذين يعارضون وعدم إبقائهم في الجامعة، وكان من ذلك ما كان.
وكانت إدارة الجامعة تطلب بعض الإصلاحات في الأبنية أو الطرقات، فلا يسمع لها كلام، وتكرر الطلب حتى بح صوتها، ولا فائدة، ثم تأتي إشارة بأن الملك يريد أن يزور الجامعة، فإذا كل الإصلاحات المطلوبة وأكثر منها تعمل في سرعة البرق.
وهكذا وهكذا من مئات المسائل التي تدل على أن أمور الناس حتى في الجامعات والبرلمانات لم تكن في يدهم، وإنما هي في يد غيرهم.
العدالة الاجتماعية
كان نظام الطبقات في مصر بالغا حده، فمترف غاية الترف، يأكل أنعم الأصناف، ويلبس أفخر اللباس، وإن شاء أن يشعل لفافته بورقة مالية من ذوات المائة جنيه فعل، وتتدفق الأموال الهائلة على الخمور والكباريهات وسائر الشهوات تدفقا فظيعا، ثم إلى ذلك رجل يجلس بجانب صندوق القمامة، ينقي قشر البطيخ ليسد به جوعه، ويلبس ثيابا مهلهلة لا تكاد تستر جسمه، فأعلن الانقلاب تحديد الثروة الزراعية، والأخذ بيد الفقير، والتشريع له، حتى تتحسن حالته، وإلى جانب ذلك أعلن أن الناس كلهم غنيهم وفقيرهم أمام القانون سواء.
ومن التقريب الذي أحدثه الانقلاب بين الطبقات، إلغاء الرتب، وتساوى الناس في الألقاب، فإن لخصت كل ذلك في كلمة، قلت: إن الغاية من الانقلاب هي تحقيق العدالة الاجتماعية.
أعدل النظم
انتقلت القيادة من يد البلاط والبرلمان إلى يد الضباط، وهذا شيء دعت إليه الضرورة، ولكن أملنا كبير في أن الحالة تعود إلى مجراها الطبيعي، وهو: أن تحكم مصر بدستور عادل وبرلمان حر نزيه، فهذا هو الوضع الطبيعي للأشياء، فإن أمام مصر أهدافا داخلية، وأهدافا خارجية، على جانب عظيم من الأهمية، ومما لا شك فيه أيضا أن وضع الأمور في يد السياسيين المختصين والبرلمان الذي انتخب أعضاؤه انتخابا حرا نزيها هو أعدل النظم لحكم البلاد.
الشعور بالقدرة
كان من نتائج الانقلاب شعور البلاد بقدرتها؛ فقد كانت حركتها رائعة حقا، أحدثت الانقلاب على أكبر قوة في هدوء ونظام من غير إراقة دماء، وقد كان الظن أن القوة المالكة الهائلة كانت قد تحصنت تحصنا كبيرا، واتخذت العدد العديدة لكل الاحتمالات، فلما هزمت بلباقة، أحس المصريون بقوتهم، والنجاح يدعو إلى النجاح، فلما نجحت الثورة، فتح ذلك نفوس الثائرين إلى أن يوالوا الحملات، فحملة على الأغنياء، وحملة على المرتشين، وحملة لتعميم زراعة الأشجار، وإصلاح الأراضي الزراعية، وحملة لزيادة الإنتاج، وحملة لتنظيم التعليم، والصحة وغير ذلك، وكل هذا حسن وجميل، وقد بدأ وأخذ سيره الطبيعي في زمن قصير.
إصلاح النفوس
ما أسهل تغيير الظواهر، وما أصعب تغيير النفوس! لقد ثرنا وغيرنا كثيرا من القوانين، ولكنا لا نزال في حاجة شديدة إلى إصلاح النفوس، لقد مضى زمن طويل ونحن نقدس الحاكم، وننظر إليه كما عبر المرحوم سعد باشا نظرة الطير للصائد، فما أحوجنا إلى أن ننظر إليه نظرة الأخ الكبير الذي يرعى أخاه الصغير ويأخذ بيده، حتى يقف على قدميه.
ومع كل ما عمل من إصلاحات، فأكثرها مع الأسف لم تتشربه أرواحنا، ألغينا الألقاب، ولا تزال على ألسنتنا الألقاب، واختفت الألقاب في المجلات والجرائد والمكاتبات الرسمية، وظلت في الأحاديث الخصوصية، ودعونا إلى غرس الأشجار، وتربية الدواجن تربية على أحدث طراز وغير ذلك من أنواع الإصلاح، ولكني أخشى أن يكون ذلك كله أمرا شكليا، وهندمنا الأرستقراطية وأحيينا الديموقراطية، ولكن، لا يزال في باطن الناس اعتبار أرستقراطية الغنى والمنصب والجاه، ولا زلنا في حاجة شديدة إلى أن نفهم معنى الديموقراطية الصحيح، وهذا طبيعي؛ لأن تغيير النفوس بين يوم وليلة محال، فلا بد أن يمضي زمن حتى تكره القديم وتألف الجديد، وأخشى ما أخشاه أن يتدرجوا إلى القديم شيئا فشيئا، بدل أن يتخلوا عنه شيئا فشيئا.
دق الطبول
لقد لاحظت آسفا أن دق الطبول كثير، وصوت المعارضة ضعيف، وهذا مما يؤيد قولي السابق: إن النفوس لم تتغير تغير الظواهر. وكان الظن أن كابوس الاستبداد قد زال بتحرير الأفكار، وإطلاق الألسنة المؤدبة بالنقد، ولكن حدث أن رجعنا إلى القديم، وأصبحنا كلنا طبالين زمارين، وهو شيء كما قلنا يؤسف له؛ لأن الحياة الصحيحة تبنى على أساسين متعارضين، لا على أساس واحد، وهما التأييد والمعارضة، وسير الأمة سيرا صحيحا من بينهما، وقد تعلمنا من تركيا درسا قاسيا وهو أنه قد أخفت صوت المعارضين، ولم يبح القول إلا للمؤيدين، ففشا الفساد واضطربت الأمور، وأدرك العقلاء خطأهم بعد حين، فهل يمكننا أن نتعلم من هذا الدرس؟
نعم: إن هناك عذرا للقائمين بالأمر، وهو أن الثورة والانقلاب عادة يضران بأناس كثيرين، أغنياء ضعف غناهم، وذوو سلطات غير مشروعة قلت سلطاتهم، ووجهاء فقدموا جاههم، وأصحاب مناصب كبيرة فقدوا مناصبهم ... كل هؤلاء وأمثالهم قد ينقمون على الانقلاب الذي حرمهم من امتيازاتهم، ويتمنون الفرصة التي تسنح لإعادة حالتهم إلى ما كانت عليه، بل قد يتعدون انتهاز الفرص، إلى الاشتراك في العمل المضاد، فمثل هؤلاء إذا أرخي الحبل لهم، عاثوا في الأرض فسادا حتى يعيدوا الأمور سيرتها الأولى، وإذا بنا في وضع سيئ كالذي كان.
إزاء ذلك لا بد من أن نقول كما يقول الفقهاء الأقدمون: «إن الضرورات تبيح المحظورات» وهذا قول صحيح، ولكن نقول مخلصين، كما قال الفقهاء أيضا: «إن الضرورات تقدر بقدرها» ليحسب حساب الخطر بقدره فقط، ويحسب حساب زمنه فقط، حتى لا تزيد معالجته ولا تنقص، وهذا مطلب عسير.
جمهوريتنا الأولى
من كان يظن أن مصر التي حكمت آلاف السنين من عهد الفراعنة إلى اليوم بالملوك المستبدين - إلا قليلا منهم - تستطيع أن تتخلص منهم في عشية أو ضحاها وتنقلب جمهورية؟ لقد حكمها الملوك واستبدوا بأهلها وأذلوهم واستغلوهم، وكانوا كما قال أبو العلاء المعري:
ظلموا الرعية واستجازوا كيدها
وعدوا مصالحها وهم أجراؤها
كانوا ينعمون فيها بكل مظاهر الترف والنعيم ويستغلونها بكل أنواع العسف ويعدون مزارعها وقصورها من أملاكهم الخاصة، كما يعدون الناس عبيدا لهم، وكانوا يختارون من تخضع لهم رقابهم ويقبلون أيديهم وأرجلهم، ثم هم يحكمونهم في رؤوس الناس جزاء خضوعهم لهم، وأشاعوا أن الدم الذي يجري في عروقهم غير دماء الناس، وأنه دم إلهي اختاره الله لهم، واستحثوا العلماء على وضع الأحاديث التي تؤيدهم مثل: «السلطان ظل الله في أرضه»، ووجهوا خطباء المساجد أن يدعوا لهم على المنابر ويشيدوا بذكرهم، ويكفي الملك أن يتظاهر أمام الناس بصلاة الجمعة وباللعب بحبات السبحة حتى يلقبوه بالملك الصالح مهما يرتكب بعد ذلك من الآثام، ويكفي أن يمنحهم منحا قليلة ليسبحوا بحمده ويشيدوا بذكره، وما دروا أنه إنما يمنحهم عرق جبينهم أو عرق جباه أمثالهم، ومما استغله من أموالهم، حتى لقد أسسوا ملكهم على مدى الأيام وأصلوا سلطتهم على مدى الزمان فما كان أعظم ألقابهم وأروع نعوتهم، وأفسدوا الأدب واللغة فكان الأديب الكبير هو من تملقهم، والخطيب البارع من أشاد بذكرهم، وملئت اللغة بألفاظ الضخامة والفخامة ونعوت الذلة والخضوع ... ولذلك تأصلت في الأمة كل هذه الآثار، وبرغم إلغاء الألقاب والرتب، لا تزال تجري على ألسنة الناس، ولا بد من أجيال طويلة حتى تختفي «سعادتك وعزتك».
وقلدهم الأغنياء فخضعوا للملوك ليستذلوا بقية الرعية، وبذلك انقسم الناس إلى طبقات يستعبد بعضها بعضا ... فحملت الجمهرة الكبرى من الشعب ممن فوقهم أثقالا فوق أثقال.
وجاءت أخيرا الجمهورية التي لا عهد للناس بها ... والجمهورية في أسمى معانيها ترمي إلى أن يكون الناس سواء، لا فضل لأحد على أحد إلا بالعمل الصالح، وأن يقال للمحسن: أحسنت، وللمسيء: أسأت، وأن تقدر الناس بالكفاءات لا بالرتب، وهي تتطلب مطالب عسيرة لا عهد لنا بها، تتطلب انتباه الوعي القومي حتى يميز جيدا بين الحسن والسيئ، وتتطلب تغيير العلاقة بين الحاكم والمحكوم: لقد كان المحكوم ينظر إلى الحاكم كما ينظر الطير إلى صائده، وينظر الحاكم إلى المحكوم كما ينظر الصائد إلى الطير والمستغل إلى الغلة، والجمهورية تتطلب أن يزول كل ذلك، وتحل محله نظرة الأخ إلى الأخ، وتتطلب أن يؤدي كل واجبه في أمانة وإخلاص، وأن ينظر الحاكم إلى أن الوظيفة تكليف لا تشريف، وأنها عبء ثقيل عليه يتمنى لو حمل عبئها غيره واستراح، وأن يكون من تنبه الوعي القومي ما يستطيع معه الرجل الصغير أن يقول للرجل الكبير: أسأت أو أحسنت في أدب ولباقة، ومن لنا بكل ذلك بعدما عانيناه آلاف السنين إلا بمشقة كبيرة وتربية جهيدة. •••
وعلى ذكر ذلك نرى أن الجمهورية في أشد الحاجة إلى تغيير مناهج التربية وأساليبها وتعاليمها ... فقد تعودنا أن نبني التاريخ على الملوك، وأما الشعب فمهمل في كتبه، ولذلك نقلب صفحات التاريخ فلا نرى إلا ملوكا يسالمون أو يحاربون، ويقتلون أو يصادرون، ولا يرتفع صوت لتنبيههم إلى أخطائهم، وبين جملة من الصفحات نرى فلتة من الفلتات تشير إلى الشعب ... فما أحوجنا إلى كتب تعلم الشعب أنه هو كل شيء والحاكم ليس إلا خادما له، أو كتب في التربية تنشئ التلميذ من الصغر على أنه إنسان ذو حقوق وواجبات يطالب بحقوقه ويثور لها إذا أهملت ، ويؤدي واجباته على أكمل وجه، لقد سمعت أن أميرا قريب العهد أراد أن يجرب مدفعا وأمر بإطلاقه، فقيل له: إنه إذا أطلق هكذا قتل بعض الناس، فقال: «وهل نحن استلمناهم بعدد؟!» كأنهم سلع لا قيمة لها!
لقد بلغ من ذلنا واستبداد الملوك بنا أن ضاعت نفوسنا في الداخل وصغرت قيمتنا في الخارج، فكان المسافر منا يذكر أنه مصري في ذلة وخضوع، ويحس كأن وصمة علقت به، فسيكون من أثر الجمهورية الصالحة عزة النفس وارتفاع الرأس والإحساس بأنه إذا قال: أنا مصري، كان ذلك فخرا له وعزة لنفسه.
إن الجمهورية حرية، ولكنها حرية مقيدة بالعمل للمصلحة لا فوضى يفعل الإنسان فيها ما يشاء.
لقد كان الملوك يظنون أنهم ملوك إلى الأبد، وأنهم إن أدركهم الموت خلفهم أبناؤهم وأبناء أبنائهم إلى القيامة، وأنهم لا يسألون عما يفعلون، وأنهم ليسوا في حاجة إلى حكم الشعب رضي أم سخط، أما الجمهورية فمن أهم فضلها أن رئيسها يعتقد أنه من الشعب، وأن بقاءه رهن برضا الشعب ... لأنه يعرف أن الناس إن سخطوا عليه لم ينتخبوه ثانية، وإنما ينتخبون من يظنون أنه يحقق مطالبهم وينشر العدل بينهم - والعدل يراعى من الجانبين: الحاكم والمحكوم - فهو لا يستند إلى أسرة عريقة تصعب إزالتها وإنما يستند إلى رضا الشعب الناشئ من العمل الصالح. •••
والعالم سائر من الملكية إلى الجمهورية، وكل يوم نسمع أن ملكية سقطت، وحلت محلها جمهورية بسبب تعسف الملوك وتنبه الرعية، وحتى ما احتفظ منها بالملكية كإنجلترا إنما احتفظت بها؛ لأن الملك فيها يملك ولا يحكم، فهي ملكية في الظاهر جمهورية في الحقيقة.
وأسخف أنواع الحكم حكومة تتسمى بالجمهورية وتتصف في الباطن بالملوكية، فتعسف وتظلم وتجور وتستبد، ولا يبقى لها من الجمهورية إلا اسمها، وما فرحنا بالألفاظ إذا ساءت المعاني؟!
إنا لنود مخلصين أن تكون جمهوريتنا الأولى واضعة الأساس الأول، وأن تكون جمهورية لفظا ومعنى ... إن الجمهورية تحتاج إلى سند قوي متين كما كان الملوك يحتاجون إلى سند قوي متين، إن الملوك استعانوا بالمنافقين من رجال الدين يسبحون لهم ويكبرون، واستعانوا برجال الحكم يخضعون لهم ويقبلون أيديهم نظير نشوب أظافرهم في أعناق الناس، والجمهورية الصحيحة تحتاج إلى مساعدة من الصحافة، تقف موقف المحامي النزيه والقاضي العدل، فتخطئ ما رأت من الخطأ، وتؤيد بشجاعة ما ترى من صواب، وتنقد في قوة ونزاهة، كما تحتاج إلى معونة رجال الفكر والقلم يوجهون رجال الحكم في الجمهورية الوجهة الصحيحة، ويخذلون تصرفاتها السقيمة. •••
لم تقم الحكومة من الحكومات في أي شكل من أشكال الحكم إلا بالاعتماد على الرأي العام، ولا قيمة للرأي العام إلا إذا كان حرا نزيها لا يطبل ولا يزمر لكل حاكم في دولته، بل يقول لا، في موقف لا، ونعم في موقف نعم.
أظن أننا لا نحتاج في تعودنا حكم الجمهورية إلى زمن كالذي اجتزناه في الخضوع للملكية؛ فقد أصبح الزمن أسرع والأمم أوعى وأصبح العالم كوحدة من سرعة التنقلات والإذاعات ... فكل ما يجري في أمة يعلمه العالم ويؤيده أو ينقده ويشجع على بقائه أو فنائه، وهذا ما يجعلنا نحس مسئوليتنا، فلسنا في جانب منعزل نعمل كما نشاء وننتظر حكم الزمان كما يشاء، إنما أمورنا مكشوفة لنا ولغيرنا معرضة للحكم منا ومن غيرنا، ولا قيمة في ذلك للألفاظ الجوفاء والعبارات الصماء إنما القيمة للعمل، فالعمل العمل، والله الموفق.
غيروا مناهج الفن والتاريخ يتحقق لكم السلام
جرى العالم إلى الآن شرقيه وغربيه على أن يكون الفن في خدمة الحرب، فمن قديم استخدمت الموسيقى في الجيش لتعزف أمام الجنود تحمسهم للقتال وتنسيهم أنفسهم في المعارك، علما منهم بأن الموسيقى تفعل في العواطف ما لا يفعل غيرها، فالموسيقى - كما فعل الفارابي - في يد الفنان قادرة على أن تضحك وتبكي وتوقظ وتنيم ... كما فعل في مجلس سيف الدولة؛ إذ عزف على قانونه - كما يروون - فأضحك، ثم عزف فأبكى، ثم عزف فأيقظ، ثم عزف فأنام، ثم خرج وترك سامعيه نائمين، ونحن إلى الآن نشاهد ذلك، فموسيقى مرحة كالجاز باند، وموسيقى حزينة كأنغام الصبا، وليس هذا شأن الموسيقى وحدها ... بل كل الفنون من آداب وشعر وخطب وتصوير ونحت، قادرة على خدمة الحرب وقادرة على خدمة السلام.
فالمصور يستطيع أن يصور عينا تبكي فتبكي، وعينا تضحك فتضحك ... وقد حكوا عن ابن نباتة أنه كان في الحروب الصليبية يهيئ الناس للحرب فيحاربون، وكان عبد الملك بن مروان مترددا يوما بين أن يحارب وألا يحارب، فما هو إلا أن خطر على باله بيتان من الشعر فتحمس وخرج يدعو للقتال ... ومثل هذا روي عن أبي جعفر المنصور، والشواهد كثيرة على أن الفن ظل قرونا في خدمة الحرب ونجح في ذلك.
واليوم أدعو إلى استخدام الفن في خدمة السلام، فبدلا من إثارة الموسيقى لعواطف الحرب، تثار لعواطف السلم ... وكذا الأدب والتصوير، وهي نظرية لم تجرب إلى اليوم، فالدعوة السياسية للسلم لا تفيد إلا إذا دعمت بالفنون، ولو أراد العالم السلم الحقيقي لأمكنه ذلك بشيء واحد، وهو تغيير برامج التعليم وتغيير المناهج في التاريخ والفن ... فبدل إشعال نار الوطنية في نفوس الطلبة وحكاية الانتصارات والانكسارات في الحروب وتعويد الأطفال الفرح بالمدافع في العيد والفرح بالمفرقعات، تحكى الأعمال العظيمة التي عملت لنشر المدنية وحمايتها، وكذلك الأدب والفنون، وتأسيس العلاقات بين الأمم على أساس إنساني لا على أساس قومي.
ولا شك في أن رؤية المناظر الطبيعية التي تشعر بالضعف الإنساني، كمنظر غروب الشمس في البحر أو منظر الجبال العالية المكسوة بالثلج تجعل الإنسان أقرب إلى السلم منه الحرب، وما علينا إلا أن يتعاون علماء الموسيقى وعلماء النفس على تقييد النغمات التي تبعث على السلم وتعليمها وإذاعتها ... ولا شك أن الأمة التي تشيع فيها النغمات السلم تكره الحرب، ولكن إذا أنت ضربت على الطبل نغمة قوية مثيرة هاج الناس بالقتال. •••
إن الموسيقى السلمية ترهف العاطفة وترقق الذوق، ومن به ذوق سليم وعاطفة صحيحة ينفر من الحروب ويعدها قلة ذوق، حتى في الحياة العادية يكلمك إنسان بصوت غليظ فيستثير عاطفتك الحربية، ويكلمك إنسان بصوت وديع رقيق فيثير عندك عاطفة الرحمة والإنسانية، ومن أجل هذا كان صوت النساء أدعى إلى الرأفة والعطف من صوت الرجال.
ومثل الموسيقى الفلسفة ... ألا ترى أن الفيلسوف إذا دعوته للحرب تخاذل؛ لأنه يوازن بين أثرها في الأرواح وبين مكسب الحرب فلا يجد شيئا يساوي قتل الأنفس؟ وهو يرى ببصيرته العواقب الوخيمة للحروب فيتراجع، كما قالوا: من أطال النظر في العواقب لم يتشجع.
وكذلك الشأن في الأدب ... استثر الأمة بقولك: إن العدو يهين كرامتك ويستغل ثروتك ويفسد عليك حياتك وأمثال هذه المعاني، تجد الأمة ثائرة مندفعة إلى الحرب، وقل لهم: إن العدو لا يريد من عمله هذا إلا الخير، تهدأ نفوسهم وتطمئن مشاعرهم، وأكبر مثل على ذلك الأناشيد؛ فقد اعتاد الناس أن يؤلفوا الأناشيد، دائرة حول التضحية بالدم والذود عن البلاد بإراقة الدماء فعملت عمل السحر، ولو ألفت الأناشيد بألفاظ ومعان رقيقة وموسيقى رخيمة لأنتجت العكس.
إن الفنون كلها تعتمد على الجمال، والذوق المؤسس على الجمال يرى في الحرب قبحا وفي السلم جمالا، والمعاني عادة تلبس أثوابا من النغمات، ومن الممكن إلباس المعاني الهادئة ثوبا هادئا يطمئن النفس ويهدئها، ويمكن إلباسها ثوبا جافا غليظا يشعل النار في النفوس ويهيجها .
وقد يقول قوم: إن كل أمة لها فنها الذي يختلف عن فنون الأمم الأخرى، ولكن ما ضرر هذا وكل فن يطلب منه أن يكون داعيا للسلم تفهمه أمته، والأمم جميعها تفهم فنونها السلمية.
لقد آن الأوان أن يدعو اليونسكو إلى شيئين: دعوة لاستخدام العلم في الإسعاد دون الإشقاء وفي البناء دون الهدم، ودعوة إلى استخدام الفنون في حب السلم دون الحرب، وفي إنماء العواطف الإنسانية لا القومية ... فإن لم يفعل ذلك حكم عليه بالفشل.
لو كنت شيخا للأزهر!
هذا موضوع شائك، وماذا أفعل وقد عجز عن إصلاحه الشيخ المهدي، والشيخ محمد عبده، والشيخ المراغي، والشيخ عبد المجيد سليم ... هذا في عصرنا الحديث، وعجز مثلهم من كان قبلهم، لذلك كنت أتردد كثيرا في قبول هذا المنصب ... فإذا قبلته عملت، ما أمكنني، على إصلاحه.
وأول هذا الإصلاح أني أسائل نفسي: ما رسالة الأزهر؟
فأجيب بأن رسالته التعليم الديني العالي، ونشره في الأقطار الإسلامية، لذلك كان من البديهي أن أجعل الأزهر كلية جامعية فقط، تدرس الدين وتوابعه، فلا شأن له بالتعليم الابتدائي والثانوي ... فذلك تتولاه وزارة المعارف، وليس الأزهريون بدعا من الطلبة، فيجب أن تتوحد دروسهم مع طلبة المدارس المدنية أولا، ثم يتخصصون بعد ذلك للدين كما يتخصص غيرهم للهندسة والطب والحقوق، وبذلك أستطيع أن أبذل جهدي كله في التعليم العالي، غاية الأمر أني أعيد تجهيزية دار العلوم؛ لأنها كانت تعلم تعليما ثانويا على نمط خاص، وتتوسع في اللغة العربية وفي التاريخ الإسلامي وفي الأدب العربي اتساعا يجعلها بحق إعدادا للأزهر.
أما الأمر الثاني: فهو أن الأزهر منار للعالم الإسلامي، فيجب أن يكون منارا للخلق والعلم، فأجتهد أن أجعل الأزهر كما كان في العهد الماضي مطلوبا لا طالبا، ومعززا لا مستجديا وشيخه يقول الكلمة فترتج منها الحكومة، ويرتج منها العالم، وهذا يتطلب أمرين:
الأول:
بعد الأزهر عن السياسة، فالمنارة كالشمس تضيء للناس على السواء، وليس من الحق أن يناصر الأزهر سياسة ما، وخصوصا السياسة الحزبية، فإني أفهم الأزهر يناصر السياسة القومية لا الحزبية ، فإن الأزهر باق والأحزاب متغيرة، فليس من الحق أن ينصر الأزهر لأنه جارى سياسة ما، ويضطهد لأنه جارى سياسة معاكسة ... كما أنه ليس من الحق أن يتقلب الأزهر مع السياسة من حين إلى حين، فإن هذا يضعفه في رأي الناس.
والأمر الثاني:
أني من أنصار اختيار العدد الصالح من الطلبة والعلماء، كما أني من أنصار اختيار الطلبة في الجامعات، ولست من أنصار فتح الباب على مصراعيه، فالتعليم العالي لا يصلح له إلا الخاصة، ومنه الدين، بل أحدد عدد الأزهريين بقدر صلاحية الطلبة والمدرسين المعينين والمنتدبين وبقدر حاجة البلاد إلى هذا الصنف وبقدر ميزانية الدولة، وأظن أن ميزانية الأزهر التي خصصتها له الدولة كافية لتعليم عدد لا بأس به ... فإن لم تكف، وجب على الحكومة أن تزيدها. •••
وإذا نظرنا إلى الأزهر في هذا الضوء، وجدنا خمسة آلاف أو ستة آلاف أو هذا النحو تكفي للعالم الإسلامي، فليس الأزهر ولا أية كلية من الكليات «تكية » ينتسب إليها الطالب لقضاء وقت فراغ، أو للهرب من القرعة، أو لأي غرض آخر ... إنما الغرض تحصيل العلم لأداء الرسالة المخصصة لكل كلية.
ثم أتجه بعد ذلك إلى التعليم في الأزهر، فأساير الزمان وأجعل التعليم على أسس التربية الحديثة ... فلا أجعل جد الطلبة منصرفا إلى كلام غير ذي موضوع، ولا أجعله جاريا على أساليب القرون الوسطى ... وإنما أجعل ما اشتهر عن طلبة الأزهر من الجد منصرفا إلى الموضوع لا إلى الشقشقة اللفظية، وإلى الجوهر لا إلى العرض. •••
وأختار من الموضوعات ما يناسب العصر الحاضر والمستقبل لا الماضي، وأجعله بلغة العصر وأساليب العصر لا بلغة الماضي وأساليب الماضي، وأجعل الأزهر طلبته وعلماءه يقفون على الحياة الاجتماعية في بلدهم وفي العالم الإسلامي وفي الخارج فيقصرون علمهم على الشعب، ويجعلون من اختصاصهم الدعوة إلى الدين على النمط الذي يفهمه الشعب ويتأثر به، مستمدين علمهم ووعظهم من الحوادث الحاضرة كما يفعل القسس في البلاد الأوروبية: فلا يكونون منعزلين عن العالم جاهلين به متجاهلين له، فكما أن كل شعب محتاج إلى من يثقفه ثقافة دنيوية من طبيعة وكيمياء إلخ على آخر ما وصل إليه العلم الحديث، فكذلك علماء الأزهر مطالبون بنشر الثقافة الدينية وعرضها عرضا حديثا.
ثم ألغي القرار الذي وضعه المرحوم المراغي في الامتحان في المقروء لا في المقرر ... فإن هذه زلة كبرى تجعل الطلبة يضربون إذا شاءوا ويجادلون متى أرادوا؛ رغبة في قلة المقروء، واعتمادا على أن لا امتحان إلا في المقروء، وكلما كان مقروؤهم أقل كان نجاحهم أقرب إلى التحقيق ...
وأحيط طلبة الأزهر وعلماءه بسياج يبعث فيهم الكرامة وعزة النفس، وأفهمهم أن الدين وطلابه أزهد الناس في درجات وعلاوات، وأن ليس للأزهريين حق إلا في أن يعيشوا عيشا موفورا لا ذلة فيه ولا ضعة، وعلى الحكومات أن توفر لهم ذلك ثم على رجال الأزهر أن يترفعوا عما بعد ذلك، فلئن كانت العلاوات والترقيات أفسدت رجال الدنيا فواجب أن يتحرز منها رجال الدين.
ثم إذا وجدت من يقف في طريق إصلاحي، استأصلته من غير هوادة ومضيت قدما حتى يتسنى لي الإصلاح ... وحبذا لو استطعت أن أجعل الأزهر مدرسة داخلية مصونة من كل عبث خارجي، ألقي فيه المحاضرات النافعة وأفتح لأبنائه وعلمائه المكتبات النافعة، وأمنع بذلك التسكع خارج الدار، وأختار عددا قليلا من العلماء أتوسم فيهم الخير ... أجعلهم مشرفين على الطلبة وأجعل كل طائفة منهم متصلة بهذا الشيخ يفضون إليه بدخائلهم ومشاكلهم النفسية والمادية. •••
قد تقول: إن هذا برنامج خيالي، وقد كان من قبلك من هو أصلب عودا وأحد أنيابا وأحزم منهاجا، فلم ينجح وباء بالفشل، فأقول: إني سأجرب من جديد، فإذا لم أنجح أنا أيضا تركت الدار تنعي من بناها، وفررت بنفسي وضممت فشلي إلى فشل غيري ...
فإن لم يكن إلا أن أقول هذا لأطلع الشيخ الجديد على منهج جديد؛ ليكون أمامه وجوه الإصلاح المختلفة فيختار منها أصلحها لكان كافيا.
قد يكون هذا المنهج مرا، ولكن عاقبته حلوة، والطبيب الذي يعطيك المر فتشفى خير من الطبيب الذي يعطيك الحلو فيستمر مرضك.
لماذا كفر الشباب بالزعماء؟
الشباب دائما عماد كل زعيم في القديم والحديث؛ لأنهم كما قال أبو العتاهية: رائحة الجنة؛ قويت عضلاتهم، واشتدت سواعدهم، وتفتحت آمالهم، ولأنهم من ناحية أخرى لم يتحجروا كما تحجر الشيوخ، فهم أقبل للدعوة الجديدة وأحرص عليها، وأسخى تضحية في سبيلها؛ لذلك كانوا عماد الزعيم في كل عصر.
وكلما كان الزعيم شابا مثلهم كانوا له أطوع؛ لأنه إذ ذاك يشعر بشعورهم ويحس بآلامهم ويأمل آمالهم، أما إن كان شيخا هرما فله جيله ولهم جيلهم، وله تعاليمه ولهم تعاليمهم، إلا إن كان سابقا لزمنه كما هو الحال في بعض الزعماء فيكون قد جمع بين بعد المدى وسعة العقل وكثرة التجارب، فهم مع مناسبتهم لجيلهم أكثر اندفاعا، فإن كان الزعيم تقدميا استطاع أن يحمسهم ويقلل من اندفاعهم ويكون جامعا بين المزيتين اللتين تأوه منهما إسماعيل صبري؛ إذ قال:
أواه لو عرف الشباب
وآه لو قدر المشيب
وبذلك استطاع مصطفى كامل وقد كان في ريعان شبابه أن يصرخ في الشباب أمثاله فيحمسهم وينفخ فيهم من روحه ويخلق منهم وطنيين بعد أن لم يكونوا.
أما الهرم فتنقصه عوامل كثيرة تقلل من زعامته، مثل تبلد شعوره غالبا وحذره من العواقب غالبا وعدم فهمه جيلا غير جيله غالبا ... وبذلك يكون في الأغلب مقودا في شكل قائد، ومتخلفا في شكل زعيم ... أتيحت له ظروف الزعامة ولكن لم يتصف بصفتها.
ثم إن الشباب في زماننا حائر كل الحيرة مضطرب أشد الاضطراب، يتحمس ولكن لا يعرف أين يتجه، ويطمح إلى تغيير ما هو فيه ولا يدري ماذا يجب أن يكون فيه، وإذ ذاك يصح جدا أن يكون عنده الاحتراق بالنار خيرا من الحيرة التي تستولي عليه، فمن حسن حظه أن يوفق إلى زعيم ينفي حيرته ويهدئ اضطرابه ويوجهه الوجهة الصالحة.
وهو في حاجة إلى عقل يقوده، ويحتاج أيضا إلى شعور يحمسه، وعاطفة تلهبه، وفي العادة يكون الشيوخ أكبر عقلا وإن كانوا أقل شعورا وعاطفة، فلا يفلحون في قيادته؛ لأن الشباب عادة يصغى إلى العاطفة أكثر مما يصغى إلى العقل، وتستهويه الخطب الرنانة أكثر مما تستهويه الحكم الهادئة. •••
ومن الأسف أن زعماء العالم اليوم يسيرون حذو زعماء الأمس؛ لأنهم مؤمنون بأساليب السياسة القديمة ويخضعون لتعاليم الوطنية التي هي إرث من القرن الماضي، وهذه كلها غير صالحة اليوم؛ لأنها تكشفت عن عصبيات بغيضة وعن سفك للدماء من غير حساب، وعن حروب متوالية متتابعة، تتدرج تدرجا تصاعديا وتتضاعف ويلاتها كما تتضاعف عملية الربح المركب، وهذا كله غير صالح لزماننا.
إنما يصلح لزماننا زعماء يؤمنون بالإنسانية بدل القومية ويقودون الشباب لخدمة المجتمع الإنساني كله.
والفرق بينهما كالفرق بين تعاليم المسيح ومحمد من جهة، وتعاليم هتلر من جهة أخرى، إن هذه الزعامة بحق هي التي تناسب العصر، وليست تنجح هذه الدعوة إلى الإنسانية إذا أحيطت بدعوات قومية؛ لأنها تكون كرجل أعزل بين مسلحين، فهو معرض دائما لخطرهم، إنما تجدي هذه الدعوة عند ما يتعاون الزعماء كلهم على نشر الأمن والدعوة إلى الإنسانية.
وقد كان الزعماء السياسيون يؤمنون بألفاظ جوفاء كالاستعمار والانتداب والمحافظة على النظام، وكانت الشعوب تبيع أنفسها بيع السماح لمثل هذه الدعوات!
أما اليوم فأصبحت الشعوب أرقى من قادتها وأعقل من زعمائها، لا يسمحون لأن يقادوا قيد الأغنام وهم اليوم لا يحبون أن يسموا رعية ويسمى الزعيم راعيا، بل يريدون أن يسموا مواطنين وزعيمهم مواطنا أيضا ... لذلك وجدنا في كل شعب شبانا يخرجون على الزعماء ويدعون للسلام؛ كي يروا العالم آمنا مطمئنا لا يروعه شبح الحرب، ويكرهون أن يروا حكامهم ينصرون الرأسماليين ويخضعون لأوامر صانعي الأسلحة.
هذه الحركة ما زالت في بدئها ولكن من المحتم أنها ستقوى ثم تقوى حتى تكتسح العقلية القديمة والزعماء القدماء وتنصب عليهم زعماء جددا من جنس ميولهم.
إن زعماء اليوم في غفلة من أمرهم يقادون من ذقونهم بتعاليم موظفي وزارة خارجيتهم وهي تعاليم قد تعفنت ولم تعد صالحة لزماننا ... وإلا فلو سأل كل زعيم نفسه: ماذا تجني من الحرب، وماذا تخسر؟ ولماذا نستعمل السلاح حيث يمكن أن نستعمل الحجج المنطقية؟ ولماذا نتحارب وقد كان يمكننا أن نلجأ إلى هيئة تحكيم تنصف المظلوم؟
لو سأل كل زعيم نفسه هذه الأسئلة لم يتردد في أن يرى أن الحرب وخيمة العواقب للغالب والمغلوب بل للغالب أكثر منها للمغلوب ... وأن دم إنسان واحد يسفح على الأرض أعز من الدنيا وما فيها ...
ثم كيف نطمئن إذا كان هناك دولتان متحاربتان إلى أن الغالبة منهما هي المظلومة لا الظالمة؟ بل كثيرا ما يحدث العكس.
ولقد مر على الناس هذا الدور بالنسبة للأفراد، فكان من أخذ حقه يستعيده بالقوة، إما بسفك دمائه أو مصارعته أو نحو ذلك، ثم تقدم الناس فلجأوا إلى المحكمة بدل أخذ الحق باليد، علما بأن المحكمة تقضي بالعدل ولا تغلو في سلطتها فتأخذ من الظالم للمظلوم أكثر من حقه، فما بالنا لا نفعل ذلك بين الأمم؟!
لقد بدأ الناس يفهمون ذلك؛ إذ أسسوا محكمة العدل في لاهاي وهيئة الأمم في أمريكا، ولكن ظلت الهيئتان بدائيتين تنتظران أن تسندهما الشعوب فيكون لهما من السلطان ما لمحاكم الأفراد على الأفراد. •••
مما يؤسف له أن الشباب قد كفر بكل شيء: كفر بالدين، وكفر بالدنيا، وكفر بالزعماء، والسبب في كفرهم بالدين أن زعماء الدين شوهوه ولم يمكنهم عرضه عرضا يوافق عقل الشباب، وكفرهم بزعماء الدنيا يرجع إلى أنهم لم يستطيعوا أن يملأوا عقله وقلبه، وخير الزعماء من ملأهما، إنما ملأوه خداعا ونفاقا وكذبا، وهذه الأشياء كلها قصيرة العمر كما قيل:
ثوب الرياء يشف عما تحته
فإذا ارتديت به فإنك عاري
وإذا كشف الرياء في الزعيم سقط إلى لا رجعة وتبين الشباب أنه مخدوع، وأن الزعماء إنما يريدون أن ينهضوا على كتفيه إلى الحكم لا إلى الإصلاح، فإذا وصلوا إليه تنكروا له وعبسوا في وجهه، فأخذوا حذرهم وصاروا يريدون من الزعيم التضحية لا الاستغلال، ومنفعة الشعب لا الانتفاع، وسيظلون في اضطراب وقلق حتى يصلوا إلى غرضهم ...
شعورنا الوطني لا تطفئه المدافع الرشاشة
كان الشعور عند الناس في عهد عرابي شعورا بدائيا، لا يتحمس كثيرا لدفع عدو أو جلب منفعة عامة، وكن من صفاته الغرور ... فالناس كانوا يعتقدون أن العدو مهما قوي، فالمصريون قادرون على صده، وأن البيرق النبوي لو نشر كان كافيا لدحض كل قوة، يظهر ذلك عند حروب مراد بك لنابليون، وما قاله مراد بك من ألفاظ استهتار ... يضاف على ذلك محاربتهم بالأدعية والخرافات، فكان علماء الأزهر، كما قال الجيرتي، يحاربون بقراءة البخاري، وامتلأ الناس عقيدة بانتصار المصريين؛ لأن فرخة باضت بيضة زعموا أنه مكتوب عليها: «نصر من الله وفتح قريب».
وأهديت لعرابي باشا ثلاثة مدافع خشبية، زعموا أن أحدها للسيد البدوي، والثاني لإبراهيم الدسوقي، والثالث لسيدي عبد العال ... وأنها قادرة على أن تزلزل أقدام إنجلترا بمدافعها وقنابلها، وعرابي باشا نفسه لم يكن يكترث بهذه الحروب اكتراثا كبيرا بدليل أنه لم يحصن البلاد تحصينا كافيا، والوعي القومي كان مغفلا ... فمثلا كان عبد الله النديم يزعم أن الأسطول الإنجليزي كان محاصرا بين قبرص التي هي في مملكة الأتراك والإسكندرية المصرية، وأنه إذا أطلقت القنابل من قبرص والإسكندرية فتكتت بالأسطول البريطاني، والناس يصدقونه في قوله.
وعلى كل حال كان الوعي القومي محصورا في عدد قليل إلى أن حلت كارثة الاحتلال بسهولة، وفضلا عن ذلك، كانت حيل الأوربيين ودسائسهم تجوز عليهم وتؤثر فيهم، فإذا أرادوا أن يحركوهم ويهيجوهم هاجوا، وإذا أرادوا أن يهدئوهم هدأوا، نعم قوبل الاحتلال بشيء من المقت والبغض، ولكن لطف منه اعتقادهم أنه قدر سلطه الله عليهم؛ لذنوبهم. •••
ومن الغريب أنهم أتعبوا الفرنسيين عند احتلال بلادهم، وكانت كل يوم تقوم ثورات حتى لم يهدأ للفرنسيين بال إلى أن خرجوا، ولم يكن ذلك عند الاحتلال الإنجليزي، ولعل السبب في ذلك دهاء الإنجليز ونعومة استعمارهم، وتفريقهم بين ما يجرح الإحساس وما لا يجرح، وتركهم المصريين أحرارا في عاداتهم وتقاليدهم ودينهم ونحو ذلك، فلما جاء البطل الثاني مصطفى كامل وسع موجة الشعور الوطني من خاصة الخاصة إلى رجل الشارع، وبصر المصريين بألاعيب الأوربيين وخصوصا إنجلترا، وكان سيئ الظن بكل حركة يتحركونها، وجاهد في سبيل ذلك جهادا عظيما، فلما مات نبض بموته قلب كل مصري، كما يقول قاسم بك أمين.
وجاء سعد زغلول فزاد الشعور القومي التهابا ... ولم يقتصر التهاب الشعور على سكان المدن كالقاهرة والإسكندرية، بل تعداه إلى الفلاحين وأصحاب الجلاليب الزرقاء، وتجاوب سعد مع المصريين؛ إذ كان فلاحا مثلهم وخطيبا بليغا يعرف مواطن القول وأفانين الكلام، ويعرف نفوس الشعب وما يؤثر فيه.
ودرس آخر علمه للمصريين، وهو ألا يكترثوا بالتهديدات وألا يعبأوا بها، وقد هددته إنجلترا بالنفي فقبله عن رضا واطمئنان، وأطلقت المدافع الرشاشة وغير الرشاشة فكان يحمس الشعب ويدعوهم إلى الاستهانة بكل هذه التهديدات، على حين أنه كان وجود مركب واحد من الأسطول الإنجليزي في المياه المصرية كافيا لحل عقدة، مع أن وجود الأسطول كله في المياه المصرية أصبح في عهده لا يحل أي مشكلة! ولو دمرت البلاد كلها!
وأكثر من ذلك أن الشعب أصبح يفهم في وضوح أساليب الاستعمار، فإذا أراد الاستعمار أن يدخل وسط المصريين ليفرق بين قبطييهم ومسلميهم، فهم هذه الألعوبة بوضوح وقضى عليها، ونادى الأقباط بالاستقلال كما نادى المسلمون، وإذا أرادوا أن يستغلوا حادثة اعتداء على أجنبي ويكبروها ويهللوا لها، قضى على استغلالهم وقاوم ضجيجهم ونادى بحرمة دم الأجنبي وماله، وهكذا ... فما وصلنا إليه اليوم ليس إلا نتيجة لتوالي الأحداث وتربية الشعور القومي على يد هؤلاء وأمثالهم ومرور الحوادث الكثيرة عليهم حتى فهموا أساليب الاستعمار وألاعيبه.
واليوم أصبح المصريون لا يقدمون على عمل ثم يقولون: لتكن النتيجة ما تكون! بل هم لا يقدمون على عمل إلا قدروا نتائجه ودرسوا احتمالاته وقرروا لكل احتمال نتيجة، ووضعوا خطة لحلها، نعم إن الشعور القومي المصري لم يكتمل تماما، ففيه عيوب ... ومن عيوبه زيادة القول على العمل، وعدم المعرفة الواسعة لحالات الدول الأجنبية وعلاقاتها وتصرفاتها، ومنها المغالاة في الحزبية، وعدم سعة الصدر للوطني المخالف مهما أتى من جيد الأعمال إلى غير ذلك، ولكن على العموم نحن اليوم أنضج من أمس وستعلمنا الأحداث أن نكون غدا أنضج من اليوم، وقد صرنا لا نهاب الموت إذا كان، ولا نتفرق إذا دعت الحال للاتفاق، ولا نخاف مهما كان التهديد. •••
ونغتبط كل الاغتباط إذا قارنا بيننا اليوم وبيننا أيام عرابي، ولكن لا يمنعنا اغتباطنا من أن ننظر إلى من تقدمونا في الوطنية فنحذو حذوهم ونسير سيرهم، وأذكر أن برنارد شو - رحمه الله - سئل يوما: «ماذا يفعل المصريون لنيل استقلالهم؟» فقال: «يجب عليهم أن يعملوا كما عملت إرلندا»، هذا والإرلنديون بريطانيون بالمعنى الواسع ... فما بالنا ونحن أمة نختلف في الجنس والدم والدين واللغة؟ وحقنا أوضح من حقهم!
كل الذي يلجئنا إلى هذه التضحيات وما نناله من كوارث إنما سببه أن عقلية قادة السياسة المستعمرين من إنجليز وفرنسيين وأمريكيين لا تزال جامدة على أساليب القرن التاسع عشر، لم تتغير بتغير الأزمان، ولا يزالون يفهمون أن القوة الحربية هي كل شيء، وأنهم متى قدروا عليها استطاعوا أن ينكلوا بالأمم المغلوبة، وأن العدل والإخاء والمساواة ألفاظ جوفاء لا تقال إلا ضحكا على الذقون أو عندما يريدون الانتفاع من المستعمر أو عندما تتأزم الأمور، فإذا زالت هذه الظروف فلا عدل ولا مساواة، إنما هو تنمر، وظلم واستبداد! لا فرق عندهم بين حزب المحافظين وحزب الأحرار، ولا فرق بين سياسي قديم وسياسي جديد!
ولذلك نرى أن أساليب الاستعمار قد تعفنت وحمضت، ولم تعد صالحة لسياسة الأجيال الجديدة، ولا معدى الآن من أن يغيروا سياستهم إلى سياسة جديدة وفقا للأجيال الجديدة.
ألا ترى أن المرأة اليوم إذا لبست ثياب القرون الوسطى بل ثياب القرن الثامن عشر كانت أضحوكة!
فما تعمله السيدات لتجاري الأزمان، فتقص شعرها بعد أن كان طويلا، وتغير أزياءها من حين إلى حين، يجعلها أعقل من أولئك السياسيين ... لأنها فهمت ما لم يفهموا وتأقلمت أكثر مما تأقلموا.
إن الثورات الحديثة الكثيرة، سببها عدم الانسجام بين عقلية الناس وعقلية الساسة! ... يريدون أن يركبوا جملا أو حمارا والزمن زمن سيارات وطائرات، ويريدون أن يخيفوا بجعجعتهم من لم يخافوا بالسيوف والمفرقعات. •••
والواجب - منعا لهذه القلاقل الدائمة - أن يغيروا المدارس التي تخرج السياسيين ككلية (إيتون)، ويضعوا من أول برامجها دروسا في الأقلمة، فالجامعة السياسية كما قال قائلهم هي التي تكسب الحرب، ولكن نضيف إليها أنها هي أيضا التي تخسر الحرب بجمودها وعدم مواجهتها للظروف، أيظنون أن تجريد الأسطول وإطلاق مدافع يحل المشكلة المصرية؟ هذه عقليتهم، ولكن الواقع أنها لا تحل المشكلة بل تعقدها، قد كانوا من قبل كما قال قائدهم يطفئون النار ببصقة، ولكن النار التي كانت تنطفئ قبل اليوم ببصقة لا تنطفئ اليوم بمدافع رشاشة ولا بطائرات نفاثة، وإنما تنطفئ بالحكمة، وهي مع الأسف ليست عندهم ...
الابتكار
الابتكار مصدر ابتكر الشيء، إذا اختراعه بعد أن لم يكن، وهو في الماديات كثير، كاختراع الراديو، واختراع التليفون، و«الثلاجة الكهربائية» ونحو ذلك.
وهو يكون أيضا في العلوم، فعلم الطبيعة والكيمياء والرياضيات اليوم غيره بالأمس، وهو غدا غيره اليوم، ويكون أيضا في المعاني، فالشاعر الجيد من ابتكر بخياله معاني جيدة لم يسبق إليها، وقد يوفق في ذلك إلى عدد محدود، وقد قالوا: إن أبا تمام ابتكر نحو عشرين معنى جديدا، وهو بهذا مكثر، فإن أبا الطيب المتنبي ابتكر نحو خمسة معان، وهكذا وهكذا.
ومما يعاب على الشرقيين أنهم أقل ابتكارا من الغربيين، وأنهم أكثر تقليدا منهم، وذلك في أكثر فروع العلم والفن، ففي الأدب مثلا لا تزال موضوعاتهم هي المديح ونحوه من موضوعات الأدب الجاهلي، والأوزان لا تزال هي الأوزان التي جمعها الخليل بن أحمد، وحصرها في ستة عشر وزنا، والفقه قد أقفل أصحابه باب الاجتهاد، والفلسفة هي فلسفة اليونان تقريبا، والآلات والأدوات التي نستعملها في بيوتنا هي المخترعات الأوربية، وقل أن نجد مخترعا جديدا.
والمصلحون إذا أتوا بجديد نكل بهم أشد تنكيل، وعذبوا أشد عذاب، وملئت بهم وبأتباعهم السجون، كما فعل بمدحت باشا، والسيد جمال الدين، وخير الدين التونسي، وغيرهم، فما السر في ذلك؟
يظهر أن السر في ذلك يرجع إلى أمور كثيرة؛ منها: أن الجو الحار الذي يعيشون فيه يبعث على الخمود، والخمود يبعث على الكسل، والكسل عدو الابتكار؛ ولذلك لما تغيرت البيئة على المهاجرين إلى أمريكا جددوا في الأدب مثلا بعض الشيء، كما فعل جبران خليل جبران، وإيليا أبو ماضي، وأمثالهما، واعترضوا على هذا بأن الأندلسيين حكموا قرونا وكانت بيئتهم أبرد غالبا، ومع ذلك كانوا عالة على الشرق يقلدونهم ويحتذون حذوهم، فوجب أن يكون هناك سبب غير هذا، وقد يكون السبب أنه غلب على المسلمين منهج المحدثين من عهد المتوكل على الله إلى اليوم، ومنهج المحدثين منهج اعتماد على النقل أكثر من الاعتماد على العقل، فخيم هذا المنهج على عقول المسلمين في كل فرع من فروع العلم، حتى كانت حجتهم في صحة نظرية أنها وردت في بعض الكتب، ومنها أنه لم يرزق المسلمون بشخصيات جبارة تحتذى، كما رزق الغرب، أمثال ڤولتير ولوثر، ولو رزقوا مثل هؤلاء لقلدوا، ولكننا نتساءل أيضا: لماذا لم يرزقوا بأمثال هؤلاء الجبابرة؟
والجواب: أنه قد يكون هذا محض مصادفة، وكان في الإمكان أن لا يكون لوثر ولا يكون ڤولتير، وأيضا قد يصح أن يكون قد وجد في تاريخ المسلمين أمثال ڤولتير ولوثر، ولكن خنقتهم بيئتهم وخنقهم الأمراء المستبدون، فلم يتسع لهم المجال، ولو كانوا لتغير وجه التاريخ، خصوصا وأن العادة جرت في الشرق ألا يشجع المبتكر ولكن يخذل ويسخر منه، كما فعل بالأنبياء من قبل، «فريقا كذبتم وفريقا تقتلون»، ونحن نرى أن الشيء إذا أتى به غربي شجع وقلد وهلل له، وإذا أتى به شرقي خذل واستهزئ به ورفض! فهل آن الأوان للقيام من هذه الكبوة والنهضة بعد العثرة؟ إن كل الدلائل تدل على ذلك.
فالعصبية القومية قد تجعل الشرقيين يتعصبون لشرقيتهم فيشجعون من نبغ منهم، والوعي القومي وقد تنبه يجعلهم أحسن تقديرا، وأكثر اعتدالا، وأقل جمودا، وأكثر تقويما للحقائق، ووزنا لها بالميزان الصحيح، ومتى سلكوا هذه السبيل ولو قليلا اندفعوا فيها، وبنى الخلف على أعمال السلف، فكان لنا من ذلك أدب جديد، وفقه جديد، وعلم جديد؛ يناسب بيئتنا وعقليتنا.
كم كنت حزينا يوم قابلني رجلان ألمانيان مستشرقان، فسألني أحدهما: من هو الصوفي المصري الذي يمكنني أن ألقاه وأفهم منه تصوفه؟ وسألني الآخر: من هو الفيلسوف المصري الذي ألقاه وأفهم منه فلسفته؟ فكان الجواب مع الأسف بالنفي، فهل أعيش ليمكنني أن أجيب على هذين السؤالين بالإيجاب؟
إننا قد بلغنا في التقليد حدا معيبا، فمن أتى برأي قيل له: من أين أتيت به، والعلماء المصريون والأدباء الشرقيون، منهم من يقلد قدماء الشرق حذو القشرة بالقشرة، ومنهم من يقلد الغرب كل التقليد، حتى إن كل واحد منهم قبل أن يسن قانونا أو قبل أن ينظم قصيدة أو قبل أن ينحت نحتا، يحوك في نفسه السؤال الآتي: «ماذا فعل من قبلي في هذا الموضوع، وماذا قال، وأي جهة اتجه؟» كأن الله لم يخلق له عقلا ...
إن الشرقيين في الحقيقة لا يقلون ذكاء ولا خبرة ولا دينا عن الغربيين، فما الذي أصابهم؟ وكان مقتضى الذكاء أن يكون بجانبه الابتكار، ولكن لعل ضغط الكنيسة على الغربيين جعلهم ينفرون فيبتكرون، وتسامح الإسلام مع المسلمين جعلهم ينامون، وكثيرا ما قالوا: إن الضغط يولد الانفجار، والكرة من المطاط، إذا ضربتها فضغطتها ارتفعت بمقدار انضغاطها.
والله على كل شيء قدير.
البرنامج اليومي للسعادة
إذا صحوت من نومك، غسلت وجهك وأفطرت، وإني لأتمنى أن يكون لكل إنسان فطور روحي يهتم بالمحافظة عليه قدر اهتمامه بالفطور المعدي ... فليست الروح أقل شأنا من المعدة، فلماذا نحافظ على مطالب المعدة ونحفل بها ولا نحفل بمطالب الروح؟!
إن إفطارك كل يوم، يزيد جسمك قوة ... وإفطارك الروحي يزيدك قوة وسعادة، ونجاحك في الحياة اليومية وسعادتك فيها يتوقفان على هذا الغذاء الروحي؛ لأن السعادة تعتمد على إرادتك وموقف عقلك أكثر مما تعتمد على الحوادث نفسها، فيجب أن نعدل أنفسنا حسب الأحداث التي تحدث كل يوم لنبعد عنا الشقاء.
إن إرادتي تستطيع أن تبعد التسممات التي تسممها الأفكار للعقل، والإرادة هي التي تستطيع أيضا أن تضع حدا للخوف ولهياج الأعصاب اللذين يضايقان الإنسان، والإرادة هي التي تستطيع أن تقف الغضب وتضع حدا للكبر، والإرادة هي التي تلطف السلوك مع الذين تعاملهم وتقضي على الخلافات التي بينك وبين عملائك ... فإذا الذي بينك وبينهم صداقة حميمة، وروحك القوية التي تغذيها دائما بالوسائل الروحية هي التي تمنعك من غش الناس وخداعهم، وروحك الصحيحة هي التي تتناغم مع معاملات الناس فتسعدهم وتسعد نفسك، وهي التي تجعل حياتك مع أسرتك وجيرانك وعملائك ناعمة لطيفة، كأنها الماكينة المزينة وبدونها تكون ماكينة جعجاعة؛ لأنها من غير زيت.
ومن هذا الغذاء الروحي صرفك كل يوم نحو نصف ساعة في آخر اليوم تحاسب فيه نفسك ماذا صنعت، وكيف تتجنب الأغلاط التي كانت. •••
إن كثيرين مغمورون إما بالعمل المتواصل في جمع العلم أو جمع المال، ولكنهم مع ذلك عبيد مطامعهم، وخير من ذلك كله أن يفرغوا بعض الوقت إلى أنفسهم، فذلك يضمن لهم سعادة أكثر من عملهم ومالهم، إن سكون الإنسان إلى نفسه غذاء روحي خير من العمل المتواصل وخير من جمع المال.
وهذا الغذاء الروحي إذا تغذيته صباح مساء، حملك على أن تعفو عن المسيء وأن تنظر إلى إساءته كأنها نتيجة طبيعية لبيئته وحالته، وتقدر أنك لو كنت مكانه لك مزاجه ولك بيئته لفعلت فعلته.
والغذاء الروحي يخفف من مطامعك، ويجعلك ترضى عما حدث في يومك في مأكلك ومشربك وعملك وما قابلت من أناس، ويجعلك تختم يومك عند محاسبتها بأنه كان يوما سعيدا يضاف إلى حلقة الحياة السعيدة.
ويخطئ من ظن أن المال وحده يسبب السعادة، فإن كان المال عاملا من عوامل السعادة يساوي عشرة في المائة، فالحالة النفسية تسبب من السعادة التسعين في المائة الباقية، وكم من الناس نراهم يجدون وراء الربح وقد بلغوا منه مبلغا عظيما، ومع ذلك هم أشقياء بروحهم ونفسهم!
ويحكون أن سليمان - عليه السلام - أوتيت له كنوز الأرض، وبنيت له قصور فخمة، ومع ذلك كتب يقول: إن هذا كله عبث، ولا قيمة إلا لسعادة الروح.
وربما كان قلب الطفل أسعد حالا من كثير من الناس، فإنه يبتهج لطلوع الشمس، ويبتهج للعبه الصغيرة يلعبها، ويبتهج للألعاب الرياضية، ويعجب من الطير تطير في السماء، ويفرح للمناظر الطبيعية الجميلة، من منظر بحر، ومنظر جبل، فإذا نحن كبرنا فقدنا هذه العواطف الجميلة، وجفت نفوسنا لعدم غذائها، وإذا حضرتنا الوفاة تبين لنا أننا كنا نعيش في أوهام. •••
ولا شيء يغذي الروح أحسن من الحب بمعناه الواسع، فحب الخير للناس، وحب المناظر الجميلة، وحب كل شيء جميل، وحب إسعاد الناس ما أمكن، كل هذا غذاء.
إن بعض الناس منحوا من الملكات ما يجدون معه في كل شيء غذاء لروحهم، في الزهر ونضرته، والماء وجريانه، والشمس وضحاها، والقمر إذا تلاها، والنهار إذا جلاها، والليل إذا غشاها ...
وبعض الناس يرى أن هذا خيال فاسد لا يهمهم إلا المال وجمعه، أو الشهوات وإرواؤها، أولئك قد عميت قلوبهم كما عميت في بعض الناس أبصارهم.
إن الحياة الروحية تجعل لكل شيء طعما جديدا غير طعمه المادي، فتجعل للعلم طعما، وللمناظر طعما، وللعواطف طعما، لا يدركه إلا من ذاقه، وهو بهذا الطعم يجد في الوحدة أحيانا لذة قد لا تقل عن لذة الاجتماع بالناس؛ لأن نفسه الروحانية ليست فارغة فراغ النفس المادية.
ومن الأسف أن العالم اليوم قد كسب كثيرا بمخترعاته وصناعاته، ولكنه أيضا خسر كثيرا في روحانيته ومعنوياته، ولو رقى قليلا في روحانيته ما كان هذا الصراع العنيف بين الأمم، ولا كانت حروب قاسية ولا قنابل ذرية غاشمة ...
إن العالم لا يصح إلا إذا تعادلت فيه يده وقلبه وعقله، فإذا اختل توازنه فيها زاد شقاؤه، وليس له علاج إلا أن يبحث عن منهج تتعادل به هذه القوى الثلاث ثم يسير عليه.
أمي!
كانت أمي منوفية، وامتاز المنوفيات ببدانة الجسم وقوته وفراعته، وكذلك كانت، ولم يكن بها من عيب إلا قصر نظرها، وهو ما ورثته منها، وكانت أمية، ولم تكن القراءة قد فشت في البنات؛ لأن الناس كانوا يسيئون الظن بهن، ويعتقدون أنهن إذا علمن كاتبن عشاقهن برسالات الغرام، فبقاؤهن على الأمية أحصن لهن، ومن قديم ينصحون لهن أن يلزمن بيوتهن، وإذا تعلمن فإنما يتعلمن الطبخ والنسج، ومن تشجع من الناس علمهن القراءة ليعرفن قراءة القرآن ويروين الحديث، وهكذا نصح أبو العلاء المعري النساء فقال:
علموهن الغزل والنسج والرد
ن وخلوا كتابة وقراءة
فصلاة الفتاة بالحمد والإخ
لاص يجزي عن يونس وبراءة
ونصح القلقشندي في كتابه «صبح الأعشى» بعدم تعليم المرأة، فكم من الفرق بين زمان أمي وزماننا اليوم، فإذا رأت أمي المرأة اليوم تخرج من غير حجاب إلى الجامعة، وترطن بالإنجليزية والفرنسية، وحتى باللاتينية، وتزاحم الأبناء في الهندسة والطب والحقوق والآداب لعجبت كل العجب.
ولذلك كانت حارتنا على كثرة ما فيها من بيوت، ومن طبقات مختلفة، غنية وفقيرة ومتوسطة، ليس بها امرأة تقرأ أو تكتب، وهن إذا اختلفن، فإنما يختلفن بالعقل الفطري والخلق الفطري، فإذا جاء خطاب من أحد أقاربها، استدعت من يقرؤه لها، وإذا احتاجت إلى قراءة كتاب للتسلية أو نحو ذلك، انتظرت أخي حتى يحضر من الأزهر، وينتهي من صلاة العشاء ... فتتحلق هي وأقاربها ممن في البيت ليقرأ لهن ألف ليلة وليلة. •••
وكانت أول بنت في الحارة تعلمت القراءة والكتابة هي أختي؛ فقد كان مذهب أبي أن يعلم أبناءه وبناته وأقاربه ذكورا وإناثا القراءة، ثم يحفظهم جميعا القرآن، ولذلك بعد أن علمها بنفسه أرسلها إلى أول مدرسة للبنات بالسيوفية، أما سائر بنات الحارة، فبنات الفقراء منهن لا يتعلمن مطلقا، وبنات الأغنياء والمتوسطين كن يرسلن إلى «المعلمة»، والمعلمة هذه امرأة تجيد الخياطة وتستأجر بيتا وسطا تخصص صالته لبنات الحي، تعلمهن الخياطة وتنقلهن فيها من فن إلى فن، وتستمر البنت كذلك حتى تصل إلى سن البلوغ، أو على الأصح سن الزواج، فتحجب أيضا عن المعلمة، وتمكث حتى يرزقها الله بالزواج.
هكذا كانت أمي ... فهي تجيد الطهي وتجيد الخياطة على أبسط أشكالها، وهي محجبة لا تستطيع أن تخرج إلا بملاءة وبرقع، ولا تخرج كذلك إلا لزيارة أهلها أو أقربائها، وإذا كانت في البيت لا يصح لها أن تنظر من شباك، ولا أن تجالس أحدا من الغرباء، وإذا جاء السقاء إلى البيت ليملأ الزير، كلمته من وراء حجاب.
وأذكر أن سقاء جاء مرة وهي لم تفطن إليه، فلم تدخل أمي إلى حجرتها وكلمته في عدد القرب، ورأى أبي هذا المنظر، فنازعها وخاصمها وشتمها حتى اضطرت إلى أن تغضب في بيت أهلها بأولادها، واستمر ذلك نحو سنتين! •••
وهي تأتي ما تأتي تبعا للتقاليد والعرف الجاري، لا لشيء آخر، تربينا تبعا للتقاليد، فإذا مرض أحدنا فكل امرأة تأتي تصف وصفة بلدية، قد تناسب المريض وقد لا تناسبه، حتى تكون من ذلك كله طب يسمى «طب الركة» ليس مؤسسا على علم ولا تجربة صحيحة، إنما هي مصادفات حدثت فكانت طبا!
وأذكر أني مرضت بالحمى مرة فلم يدع لي بطبيب، وإنما وقاني الله شرها لامتناعي عن الأكل بحكم الطبيعة، وعدم الخروج عن البيت بحكم العجز، وكان المريض مرضا معديا يزار ويسلم عليه باليد، ويجلس النساء حوله يتحدثن، فلا عزل له ولا وقاية ولا نحو ذلك، ولذلك كثرت الوفيات في ذلك العهد كثرة مزعجة، يضاف إلى ذلك إيمان بالقدر لا حد له، فمن مات مات لانتهاء أجله، ومن حيى، حيى لطول عمره.
ولم أعرف أن لهن لهوا خاصا، فلا سينما ولا تمثيل، وإنما لهوهن الوحيد عرس يقام في الحارة، فتأتي نساء مغنيات يغنين للنساء ويرقصن على الطبلة، أو زار يقام في الحارة، فيرقصن فيه رقصا من نوع آخر، وهذا كل لهوهن، وهذا كان السبب في إطالة أيام العرس، وتنويع اللهو فيه، حتى يفرج عنهن.
وكان بجوار بيتنا حمام يخصص فيه بعض الأيام للرجال، وبعض الأيام للنساء، فكانت أمي تذهب إليه أحيانا في أيام النساء، ويسمح لهن فيه بأخذ الأطفال الصغار معهن، ورتبت أمي فقيها أعمى ساكنا في حارتنا يأتي كل يوم صباحا، ليقرأ ما تيسر من القرآن، وهو الذي حل الراديو محله اليوم.
وكنا في حالة لا تسمح لنا بطباخ ولا خدم، فكانت أمي تقوم بكل ما يلزمنا من طهي وغسل وكنس وغير ذلك، يعاونها في ذلك أختنا الكبيرة، ويقضي لها حوائجها من الخارج أخونا الكبير، فكانت بذلك عمادا لتدبير المنزل، ولم يكن ذلك مرهقا لأنه أكل بسيط يحضر تحضيرا بسيطا، فليس بضروري أن يكون لحما كل يوم ولا أصنافا متعددة، وليس عندنا فرش كثير يستدعي في تنظيفه تعبا كثيرا. •••
وأما أخلاقها فكان أظهر شيء فيها الوداعة بمقدار كبير، حتى كانت لوداعتها محبوبة من أهل الحارة، يتخذ نساؤها بيتنا محطا لهن، يكثرون فيه من الزيارة، وإلى هذه الوداعة السذاجة، فهي تصدق أي بائع إذا حلف، وتصدق الحديث إذا حكي لها، ولو لم يقبله العقل الناقد.
وهي حسنة الحديث من قصص وحكايات، تملأ بذلك وقت زوارها وسمر أطفالها، وقد ورثت ذلك عن أمها، فكانت بذلك جعبة أخبار وقصص وأمثال، واعتدنا أن لا ننام إلا على خبر من أخبارها أو قصة من قصصها، وتعادل مزاجها مع مزاج أبي، فهي لينة رحيمة، وأبي قاس شديد، ولذلك كنا نهرع إليها عند شدة أبينا، وقد تحلت بمقدار من الصبر كبير، فتحملت أبي على شدته وكثرة خصامه، مما لا تستطيعه المرأة العصرية اليوم.
وكانت أمي تعيش في بيت أبوي السلطة، فكان الأب فيه كل شيء، هو الذي يمسك ميزانية البيت، وهو الذي يشرف على أخلاقه، وهو الذي يستشار فيما نأكل وفيما لا نأكل، وهو الذي يشتري لنا ما نأكل وما نلبس، وهو الذي يسمح لأمي بالخروج وعدم الخروج، وهو الذي يحب نوعا من الحديث دون نوع، وعلى الجملة كان هو كل شيء في البيت، لا رأي بجانب رأيه، ولا أمر بجانب أمره، وهو الذي يقتصد أو ينفق، يجمع في يديه قوة الكسب وقوة الإنفاق، وقد حملها على الرضا أن أغلب البيوت في عصرها كان على هذا النمط، فهي تنظر حولها فلا تجد إلا مثيلاتها، خلا بيتا واحدا كان به رجلا عجوزا ماتت زوجته العجوز فتزوج فتاة صبية كانت هي سيدة البيت، وهي التي تأمر وتنهى، وهو لكبر سنه يسمع ويطيع، والسلطة الأبوية في تاريخ الأسرة معروفة مشهورة، مرت عليها كل البيوت تقريبا، وهذا يطبع الأبناء عادة بطابع الدكتاتورية، فهم يرثون من آبائهم السلطة المطلقة إذا كونوا لأنفسهم أسرا جديدة.
ولذلك كانت هناك حرب عوان بين النساء لاسترداد سلطتهن، وبين الرجال لرغبتهم في السلطان، كانت هذه الحرب أشبه ما تكون بثورة، انتصرت فيها المرأة انتصارا عظيما على الرجل، وانقلبت الحال في كثير من الأسر من رجل يحكم البيت إلى امرأة تحكمه.
وكان من مزايا أمي عدم جشعها في المال، فليست تحرص على أن تكون لها ثروة كبيرة، ولذلك لما أنست إلي ووثقت أني أقوم بكل نفقاتها لم تطمع في إرثها من أبي، وتنازلت عنه لأولادها عن رضا واختيار، وعمرت حتى بلغت الثمانين.
كتاب
عثرت في هذه الأيام على كتاب قيم ألفه أبو بكر بن العربي، وهو غير محيي الدين بن العربي، وقد قرأته فأعجبت به واستفدت منه فوائد كثيرة، وهذا الكتاب اسمه (العواصم من القواصم)، ولعله أخذ هذا الاسم من أبي حيان التوحيدي؛ إذ سمى أحد كتبه (الهوامل والشوامل).
واستدللت من هذا الكتاب على أنه في النصف الثاني من القرن الخامس كان بعض العلماء الناضجين يحارون في أمرهم أين الحق وما منهج الوصول إليه، أهو النصوف أم الفلسفة أم التشيع أم الاعتزال؟ ... إلخ، ودعاهم إلى ذلك ما كان في عصرهم من كثرة الجدل حول هذه المسائل كلها مما أدى أحيانا إلى القتال؛ وقد حار هذه الحيرة في زمنه الغزالي أيضا وابن فورك وغيرهما، وقد دعته هذه الفكرة إلى أن يرحل من بلدة إشبيلية بالأندلس إلى سائر الأقطار العربية؛ ليلتقي بجبابرة العلماء ويباحثهم ويعرف أين الحق.
وفي أثناء رحلته التقى بالغزالي في دمشق، وكان قد تصوف منذ خمس سنوات، فسأله وناقشه وسمع عليه بعض كتبه؛ جريا على الطريقة المتبعه في زمنه.
وكان مما قاله الغزالي في شرح طريقته: إن القلب إذا تطهر عن علاقة البدن المحسوس وتجرد للمعقول انكشفت له الحقائق، وهذه أمور لا تدرك إلا بالتجربة لها عند أربابها؛ وذلك أن القلب جوهر صقيل مستمد لتجلي المعلومات فيه عند زوال الحجب عنه، كالمرآة تتراءى فيها المحسوسات عند زوال الحجب من صدأ وغيره.
وقد كتب له الغزالي هذا بخطه، ولكن كان ابن العربي مستقل الفكر، فلم يرضه هذا الكلام من الغزالي، ورد عليه ردا بديعا بأنه لا يصح قطع العلاقة بين الروح والبدن، وقد كان النبي
صلى الله عليه وسلم
والصحابة يباشرون أمور الدنيا كما يباشرون أمور الدين، ولا يقطعون بين الروح والبدن.
ومن الفوائد التي استقيتها من هذا الكتاب تاريخ المذاهب المختلفة، ثم نصه على كتاب إخوان الصفا، وقوله قولا لا يغاير ما عرفنا من قبل؛ فقد كان اعتمادنا في معرفة مؤلفيها على ما رواه أبو حيان التوحيدي في كتابه الإمتاع والمؤانسة وتعديده لأسمائهم، أما ابن العربي فقد قال: إن مؤلفيها أربعة من القضاة لقبوا أنفسهم إخوان الصفا، وجمعوا خمسين رسالة في كل علم رسالة، ومن الأسف أنه لم يسم لنا أسماء هؤلاء القضاة الأربعة، ولو سماهم لجلى لنا كثيرا من الغوامض.
ومن رأيه أن محاولة الجمع بين الدين والفلسفة - كما فعل إخوان الصفا في رسائلهم، وكما فعل ابن رشد وابن سينا في بيانهم أن الفلسفة لا تنافي الدين - محاولة فاشلة؛ إذ لكل من الدين والفلسفة مسلك خاص، هذه تعتمد على العقل المحض، وذاك يعتمد على القلب المحض، وهذه تعتمد على المنطق والحجج العقلية، وذاك يعتمد على النظر في الكون والإصغاء إلى القلب، فمحاولة الجمع بينهما لا تؤدي إلى نجاح.
ومن ألطف ما في الكتاب استقلاله في تفسير بعض الحوادث التاريخية واعتقاده أن المؤرخين يروون بعض الحق ويضيفون إليه كثيرا من الباطل، لا فرق في ذلك بين المسعودي وابن قتيبة وغيرهم، فعنده مثلا أن السبب في نكبة البرامكة أن نزعتهم مجوسية يبثونها بين المسلمين، ومن وسائلهم أنهم كانوا يطلقون البخور الكثير في المساجد بعد أن كانت تطيب بالخلوق؛ قصدا منهم إلى إشعال النار في المباخر تعظيما لها كعادتهم المجوسية، ومن وسائلهم أيضا عقدهم مجلسا منتظما يحضره من ينتحل علم الكلام من أصحابهم، وقد اختاروا لهذا المجلس أربعة عشر عضوا، ثمانية من المعتزلة كأبي هذيل العلاف والنظام وبشر بن المعتمر وعلى رأسهم الموبذان قاضي المجوس، ويتحادثون في أشياء قد لا تكون لها علاقة بالدين كتعريف العشق وأسبابه، وأشياء فلسفية عويصة كمناقشتهم في هل الله قادر على ما لو وقع منه كان ظلما ونحو ذلك، ومن رجالاتهم ابن المقفع، والجاحظ وابن الراوندي وأمثالهم، ومن وسائلهم ترجمة الكتب اليونانية الفلسفية ودسهم فيها أشياء لا تتفق والدين، وهذا هو السبب في أن هارون الرشيد قضى عليهم وقتلهم.
وكرأيه المستقل في صحة خلافة معاوية بن أبي سفيان وابنه يزيد، وبناء عليه فخروج الحسين ثورة على الدولة الشرعية ليس له حق فيها، وأنه إنما قتل بشرع جده - عليه السلام.
وهكذا إلى غيره من الآراء الجريئة المبثوثة في الكتاب، ثم بعد هذه الرحلة الكبيرة والاستفادة منها رجع إلى بلاده مطمئنا إلى ما اعتقده من الحق وما وصل إليه عن طريق بحثه المستقل.
استقبله أهل بلده استقبالا حسنا وأكرموا عودته وولوه القضاء، ففعل ما كان ينتظر منه: صرامة في الحق وشدة على الظالمين ولو كانوا من الأمراء والأعيان، وحزم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ومن أعماله أن سور إشبيلية احتاج إلى بنيان جهة منه تهدمت، ولم يكن بالخزينة مال، ففرض على الناس التبرع بجلود ضحاياهم في عيد الأضحى وبيعها لبناء السور، فقدموها كارهين، ثم ثاروا عليه ونهبوا داره وطلبوا عزله من القضاء، وقد رويت عنه أحكام قضائية تدور كلها حول ذلك، واضطر أخيرا إلى الخروج من بلده، فقبض عليه الموحدون في مراكش وحبسوه نحو سنة، ثم سرحوه فمات بعد قليل سنة 543 وحمل ميتا إلى فاس فدفن بها، رحمه الله.
عيدان الذرة
وقفت على حقل مزروع ذرة فرأيت عددا قليلا من العيدان قد نما وترعرع وفاق غيره في الطول وكثرة ما يحمله من الكيزان، ورأيت كذلك عددا قليلا من العيدان قصير القامة، ضعيف البنية، لا يحمل من الكيزان إلا قليلا، أما أغلب الحقل فعيدان متوسطة لم تبلغ الدرجة الأولى في النضج ولا الثانية في الضعف.
أليس كذلك الإنسان؟
حفنة قليلة من الناس يعدون نوابغ وعظماء أو ما شئت فسمهم، وحفنة قليلة من الضعفاء، ضعف عقلهم وضعفت بنيتهم ولم يصلحوا للحياة إلا بشق الأنفس، وأما السواد الأعظم من الناس فأوساط لم يبلغوا ما بلغه الأولون ولا انحطوا كما انحط الآخرون.
ونراهم كذلك في كل جمعية بشرية، في المدن الكبيرة والمدن الصغيرة والقرى، وبمقتضى نبوغ النابغين، حملوا أكبر العبء وكانت في يدهم السيطرة وبمقتضى حقارة الحقيرين كان فيهم الذل والفقر والمسكنة، أما الباقون فهم جمهرة الناس.
وترى هذا في كل مرافق الحياة، في الفنون والأدب والموسيقى والتصوير، إن كان هذا عمل الطبيعة فكم من السخف أن ننادي بالمساواة؛ لأنها ضد الطبيعة، ولو سويت بين الناس في الرزق يوما لاحتال الأقوياء على الضعفاء فسلبوهم مالهم بقدرتهم وذكائهم، وعادت الدنيا كما كانت غنى وفقر وسعادة وشقاء.
قد تكون المساواة في الحقوق معقولة: مساواة أمام القضاء وفي حق الحياة وفي حق الحرية، أما المساواة في الكسب والأجور والقدرة على الأعمال فمستحيل أن تكون، وإذا كانت فمستحيل أن تستمر.
والمهارة الكبرى في أن يكتشف أصحاب الأعمال مقدرة العمال ثم يضعوا كلا في موضعه، وأولياء الأمور أفراد الأمة فيضعوا كلا في موضعه المناسب، لذلك نادى علماء التربية بأن يقسموا التعليم أنواعا: تعليما زراعيا وتجاريا وصناعيا ونظريا ثم يفحصوا حالة كل طالب فيعرفوا ميوله واستعداده ، ثم يوجهونه إلى ما يلائمه، وبذلك تنمو ثروة البلاد، فمن الناس من كفاءته في يده ومنهم من كفاءته في قلبه ومنهم من كفاءته في عقله، فلو سيرت كلا في اتجاهه لنجح، ولذلك ترى في الحياة الواقعية كثيرين خابوا في أول حياتهم؛ لأنهم اتجهوا عكس استعدادهم، ثم نجحوا لما حولوا اتجاههم حسب كفايتهم.
ولو أنصف الناس فمدحوا أي عامل على إتقانه في عمله لا على نوع عمله؛ فقد كان من الطبيعي أن يمدح الكناس على إتقانه في كنسه كما يمدح الأديب على إتقانه في أدبه، والعالم على إتقانه في عمله؛ لأن كلا من الكناس والعالم والأديب يعمل حسب ما خلق له، ولا فضل في الطبيعة بين أحد وأحد، ولكن الناس مدحوا على نوع العمل لا على طبيعة العمل. •••
ثم من حين إلى حين تجد في حقل الذرة عودا قد نما نموا شاذا لم تكن تراه منذ سنين، فكذلك الشأن في الإنسان يطلع على الأمة من حين لآخر فرد أو أفراد نبغوا نبوغا عجيبا لم يكن للأمة عهد به منذ سنين، وهؤلاء هم زعماء الأمة في سياستها أو علمها أو فنها.
ثم تبحث عن مسببات هذا النبوغ فتجد عجبا، ليست الحبة التي نبت منها العود الكبير أكبر حبة، ولا طينتها أحسن طينة، ولا أم النابغة أحسن أم، ولا أبوه أحسن أب، ولا بيئته أحسن بيئة، ولكن صدق الله العظيم إذ يقول:
الله أعلم حيث يجعل رسالته .
ساسة العالم منافقون ...
كان ابن سعدان وزير آل بويه يسأل أبا حيان التوحيدي: هل يصلح الفلاسفة أن يكون بيدهم زمام السياسة؟ وهل ينجحون؟ ... ودعاه إلى الشك في هذا خوفه من أن فلسفة الفلاسفة تحرمهم قوة العزم والحزم والبت في الأمور، والسياسة عمادها سرعة البت، وخشي أن الفلاسفة يكثرون من تقليب الأمور على وجوهها؛ لسعة تفكيرهم ورؤية الأشياء من جميع جوانبها، ولذلك قالوا: أقوى الناس إرادة أضعفهم تفكيرا؛ لأنه لا يرى الأمور إلا من وجه واحد، أما واسع التفكير فضعيف الإرادة؛ لأنه يرى الأمور من جميع وجوهها ، وربما كان ابن سعدان خير مثل للوزير؛ لأنه تفلسف في وزارته فكان مصيره القتل.
والحق أن العالم محتاج إلى قادة جدد؛ لأنه قد سار على نمط واحد حتى مل ... وسار الزعماء على طريقة واحدة حتى ملوا، فهموا السياسة أنها نفاق ورياء وتملق لأصحاب رؤوس الأموال، وتحقيق مصالح الأمة مهما اكتسحوا في طريقهم من الأمم، وقد تطور العالم وسار شوطا بعيدا نحو الإنسانية، وصار يكره نغمة النفاق والرياء ويكره النظر الضيق إلى مصالح الأمة وحدها، وهو يريد سياسة واسعة النظر لا تنظر إلى الأمة نفسها ولكن تنظر إلى الإنسانية كلها ... ولا تنافق ولا ترائي ولا تستخدم أساليب مقنعة وتسمي الأشياء بغير أسمائها، فتسمي الاحتلال استعمارا، ثم تسميه انتدابا، وتسمي كبت الأحرار محافظة على النظام العام، وتسمي تحمس المستعمرين لدينهم تعصبا بغيضا ونحو ذلك. •••
هذا النظر الجديد من العالم يحتاج إلى قادة جدد لم يتعفنوا تعفن من قبلهم ولم يجمدوا على القديم جمود من قبلهم ... بل يكونون مرنين يواجهون المشاكل كما هي ويحلونها على حسب ما تقتضيه الإنسانية كلها، ولا يستغلون المستعمر ، ولكن يأخذون بيده حتى ينهض، والقادة القدماء لا يصلحون لذلك، فهم أبناء مدرسة قديمة يأخذ آخرهم عن أولهم، وقد طبعوا على عقليات واحدة، وأشربوا نظاما واحدا، فلا بد أن ينحوا عن القيادة، ليستطيع العالم النهوض على أساس الإنسانية، ولتفتح لهم مدارس تقوم مقام المدارس القديمة يكون أساسها منهجا جديدا يساير العالم في تقدمه.
ولقد كانت مبادئ الرئيس ويلسون والرئيس روزفلت وهيئة الأمم مبادئ قويمة، ولكن خنقتها الزعامة القديمة، فما أعلن ويلسون مبادئه حتى ضحك منه كليمنصو ولويد جورج وأمثالها ممن ربوا على النظام القديم، ولم يألفوا النظام الجديد، فضاعت كل هذه المجهودات هباء، وكان ينقصها حفنة من الرجال تؤيدها وتحمي حماها، لا كما فعل كليمنصو ولويد جورج من تسليط المعاول عليها والضحك على ويلسون بألفاظ جديدة تحمل المعاني القديمة حتى ماتت، إنما نريد رجالا من صنف آخر تسيرهم المصلحة العامة لا المصلحة الشخصية، ويكونون صدى للشعوب وقادة يتقدمون إلى الأمام ، لا سواقا يكونون في الخلف.
إن الشعوب الآن بعد أن اكتوت بنار الحرب وفهمت المخاطر من القنابل الذرية والصواريخ الهدامة لا تريد الحرب بأي ثمن، وإنما تريد تفاهم القادة وتجنيبهم لويلات حرب جديدة، أما هؤلاء القادة الممسكون بزمام الأمور اليوم فيتبعون النظام القديم ويريدون حربا لا يكتوون هم بنارها ولكن تكتوي شعوبهم بها، وهذا خطل في الرأي.
نريد قادة يرون شعور العالم شعورا إنسانيا عاما فيتقدمون ويسبقون الشعوب في الدعوة إليه، نريد قادة لا يشجعون القنبلة الذرية والاختراعات الحربية، ولكن يشجعون استخدام قوانين الذرة في الصناعات السلمية، وهؤلاء القادة لا يمكن أن يكونوا إلا إذا ربوا تربية أخرى على منهج آخر، عماده المصلحة العامة وإحلال الإنسانية محل الوطنية ... فإن فشلوا في ذلك فعيب الناس لا عيبهم، والعادة أن الفكرة الجديدة تحتاج إلى زمن طويل حتى تثبت في الأذهان وتنبث في المشاعر، ولهذا يختنق الزعماء المصلحون أمثال ويلسون وروزفلت ومن قبلهما إبراهام لنكولن، وربما كان سبب فشلهم أنهم كانوا أسبق لزمنهم، أما اليوم فزمنهم هو هذا لأن الشعوب آمنت بما كانوا يدعون إليه. •••
لقد كان هؤلاء الزعماء متقدمين يوم كانت شعوبهم متأخرة، أما اليوم فالشعوب متقدمة، وزعماؤها متأخرون، وإذا تقدمت الشعوب وجب أن يغير «طقم» الزعماء حتى يتناسب مع الشعوب، وأظن أن هذا ما سيكون قريبا؛ لأن الزمن عودنا أن قوة الشعوب لا تغالب، فإما أن يتنحى الزعماء الحاضرون عن مراكزهم ويخلوا أماكنهم لغيرهم، وإما أن يكتسحهم التيار فيذهبوا إلى غير رجعة ويحل غيرهم محلهم، ولا يزال الحديث صحيحا: كما تكونوا يول عليكم. فالشعوب وهي التي كانت تسمى فيما مضى رعية تجددت واحتاجت إلى راع جديد، حتى إنها لتكره اسم الراعي؛ لأنه رمز إلى الأغنام والناس لم يعودوا غنما بل شعروا بإنسانيتهم، فخير أن يسمى القواد زعماء بدلا من تسميتهم رعاة.
ولقد بدأ هتلر في ألمانيا وموسوليني في إيطاليا بدءا حسنا؛ إذ خرجا على النظام القديم حتى في الاقتصاديات وأعمال البنوك؛ لأنهما وجدا مبادئها قد تعفنت ... فتحررا من مبادئ عفا عليها الزمن لولا أن الحظ لم يسعفها، إن القادة اليوم متأخرون عن زمنهم، ونريد قادة يتقدمون زمنهم، والقادة اليوم ضعيفو الثقافة لا يفهمون إلا خرافات في شكل حقائق، ونريد قادة يفهمون الحقائق لا الخرافات ويميزون بين حقيقة وتقليد، ولا تعميهم الأساليب القديمة واللغة القديمة والألفاظ القديمة التي تحجرت وأكل الزمان عليها وشرب.
كان الإسلام يقول: يبعث الله في كل مائة سنة من يجدد له أمر دينه؛ وذلك لأن القائد القديم لا يصلح بعد مائة سنة - وقد تقدمت الآراء والأفكار - فيبعث الله قائدا جديدا يماشي هذه الأفكار، والقادة اليوم يسلكون طريق قادة اليونان والرومان ذراعا بذراع وشبرا بشبر ويستعملون ألفاظهم وأساليبهم ... فنحن أحوج ما نكون إلى مجددين.
لقد تجمعت قوات إنجلترا بأساطيلها ورجالها لمحاربة الهند وسلكت طريقها المألوف، فقتلت الألوف وعذبت الناس وملأت السجون ... ولكن جاءها قائد جديد بنمط جديد لا يملك إلا ثوبه، ولا يأكل إلا من لبن عنزة، ويدعو إلى المقاومة السلبية لا المقاومة الإيجابية، ويدعو إلى الإنسانية ويطلب الرحمة لمن قاتله، ويغزو بنظرته حيث يغزو الإنجليز بمدافعهم، ويدعو إلى المساواة بين المنبوذين، وأخيرا تغلب هذا القائد الجديد على القادة القدماء وانتصرت الهند واستقلت، وكان هذا درسا للعالم يملي عليهم أن القادة الجدد خير من القادة القدامى.
وسلحت الدول الأوربية المبشرين بكل ما لديها من وسائل، وخير مثل لذلك جنوب السودان، فقاومهم الإسلام ببساطته وسماحته، ولا قوة له ولا سلاح ... فانتصر عليهم لأنه يعتنق مبدأ جديدا ويعتنقون مبدأ قديما، وضج المبشرون من قلة من يعتنقون المسيحية من الوثنيين مع كثرة المال وكثرة العدد وحماية الحكومات لرجال التبشير، ونجاح الإسلام ولا تبشير ولا قوة ... وهذا أيضا يرينا أن المبادئ القديمة المتعفنة لا تصلح للعالم اليوم؛ فقد تغير العالم فيجب أن يتغير القادة، وما كان يضحك به على العالم وهو طفل لا يصلح لأن يضحك به عليه وهو شاب، وثوب الصغير في المهد لا يصلح أن يكون ثوبا للرجل الكبير الكهل.
ويشترط في القائد الجديد أن تكون له المرونة الكافية لا يحتقر القديم لقدمه، ولا يعتز بالجديد لجدته، إنما هو رجل طالب للحق حيث كان، قد يأخذ من القديم ولا يأنف، وقد يأخذ من الجديد ولا يجمد.
أدب المستقبل
لكل عصر مزاجه وبيئته التي تؤثر في أدبه، ومن أجل هذا لا يمكن لعصرنا أن يخرج كتابا مثل كتاب الأغاني يعتمد على الرواية والسند، وعلى الأخبار المتفرقة؛ لأن هذا كان نتيجة لمزاج زمانه، فهو يقلد كتب الحديث في اعتمادها على السند وروايتها للجزئيات، ونحن لا يغلب علينا هذا النمط من التأليف، ومحال أن نؤلف على هذا النحو، ومن أجل هذا أيضا كان أكثر من تعلم اللغة الأجنبية بجانب اللغة العربية يفضلون أن يقرأوا الكتب الإفرنجية؛ لأنها تتعرض لموضوعات العصر، بأساليب العصر.
ويحق لنا أن نتساءل: ما مستقبل الأدب، وخصوصا الذي سيسود؟ لقد جاءت الحرب العالمية الأولى ثم الثانية، فأثرتا في الناس وحياتهم الاجتماعية أثرا بالغا، وكان لا بد أن يتبع ذلك التغير، تغير في الاتجاه الأدبي.
ونحن نلاحظ أن الأدب يسير سيرة البندول، أحيانا إلى اليمين، وأحيانا إلى اليسار، كالحياة؛ فقد أعقب الحرب العالمية الأولى نوع من اليأس وخيبة الأمل، وشك في القيم، وامتهان لها، وسخرية عابسة لا تؤمن بشيء.
وأنتج ذلك أدبا فيه حيوية واستهتار بالحياة، كان في نفوس الناس إيمانا عميقا بأن الحياة لا تستأهل الحرص عليها، خصوصا أن الجيلين اللذين اشتركا في الحرب الأولى كانا يؤمنان بالمثل العليا، وأن الحرب ستسلم في النهاية إلى سلم رائع، يسود فيه الحق والعدالة والخير، فلما رأيا أن شيئا من ذلك لم يحدث، صدمهما الواقع، وأنتج الأدباء في ذلك العصر أدبا نظروا فيه إلى أحداث العالم نظرة سوداء، ولذلك لما دخلوا الحرب الثانية دخلوا وهم مرتابون في النتيجة؛ قياسا على ما رأوا في الحرب الأولى.
وكان أكثر الروايات التي أخرجوها في هذه الفترة تدل على الشك والارتياب، وشعورهم العميق بالحاجة إلى القيم التي أهملت، ورد اعتبارها إليها، وتقويمها من جديد، ولذلك كان الشباب الذي تخرج في الحرب الثانية وما بعدها، أنضج عقلا، وأكمل رجولة ، فكسبوا بذلك قدرة على المناداة بالإصلاح، وكان صوتهم مسموعا، ومكانتهم ملحوظة.
وهذه الحركة من الشبان تدل على أنهم سيكونون أصدق نظرا، وأحسن عملا.
ومن المظاهر التي نلحظها بعد الحرب الثانية، الميل إلى الإيمان، ويظهر أن هذا هو طابع الكتب المستقبلة، بدليل ما نلاحظ من أن الكتب الدينية قد زادت انتشارا، وزال كسادها، وسبب ذلك قسوة الحرب، والحاجة إلى ركن ركين يعتمد عليه الناس، وتبع ذلك تحطيم النفاق والرياء والاحتيال، وتصوير العواطف الواقعية تصويرا جريئا صادقا واضحا لا لبس فيه ولا غموض، ومن المظاهر التي تتوقع أن تسود قلة التفات الأدباء إلى أنفسهم وأفرادهم، وكثرة التفاتهم إلى مجتمعهم، والإعراض عن النظرية التي كانت سائدة، وهي أن الفن للفن، وأن الأدب ينبغي أن يكون حرا طليقا لا يقيده شيء، بل يسود الأدباء والفنانين نزعة البوهيمية، وإلا ما كانوا فنانين، وحل محلها نظرية «الأدب في خدمة المجتمع» ومن مظاهر ذلك كثرة الروايات والكتب التي تعالج مشاكل المجتمع، ورأينا أن أدب الفردية والحيرة الاضطراب يسير إلى الزوال، وعظم إحساس الأديب بمسئوليته، ولا شك أن هذا سيبدو أثره واضحا في كتب المستقبل، فالأديب سوف لا يغني لنفسه، وإنما يغني للناس، وسيختفي أيضا نتيجة لسيادة الديمقراطية الصناعية تفخيم الأسلوب والزينة اللفظية، والعناية بأنواع البديع والزخرف، وستسود البساطة، والرغبة في إفهام الناس من أقرب سبيل، وسيرتبط الأدب بالنظام الاجتماعي؛ ليؤدي فيه وظيفته الحقة، وبذلك سيدخل الأدب فيما نعتقد في عصر من عصوره الزاهية.
لقد كان الأدب والفن في ظلمات بعضها فوق بعض، وكان يغمرها موج من فوقه موج، من فوقه سحاب، أما في المستقبل فسيعودان إلى النور وسيرتفعان إلى القمة.
إننا الآن في موقف يفوق كثيرا موقف الأدباء الأقدمين، لقد كانوا يعيشون من فتات الملوك، وكان الأدب أكثره مديحا، وكان طابعه الملق والنفاق، فتزلزلت عروش الملوك، ولم يعد الأدباء المداحون يجدون ملوكا يمدحونهم، وظهرت قوة الشعب فوق قوة الملوك، وسيزداد ذلك على الأيام.
لقد أصبحنا أكثر حرية، وأوسع انطلاقا، وسيكون من بعدنا خيرا منا، وسيشعر الأدباء بمسئوليتهم أمام مجتمعهم، فيتعلمون كيف يكتبون لخدمة مجتمعهم.
لقد كانت القصة في ربع القرن الأخير مملوءة باليأس، وبالعوامل التي تحطم القيم الإنسانية إلا في القليل النادر.
أما في المستقبل فسترد إلى الأشياء قيمها، ويسودها الروح الإنساني، وسيسودها الحلم اللذيذ.
لقد جرت العادة في تقسيم الأدب إلى نوعين: نوع يقصد منه التسلية والمتعة فقط، ونوع يهدف إلى توسيع فهمنا للحياة، وتقويتنا على احتمالها، وعندي أن كتب المستقبل سيكون أقلها من النوع الأول وأكثرها من النوع الثاني.
لقد جرينا زمنا طويلا على أن نعتمد على أدبنا، فإذا اقتبسنا من غيرنا، فاقتباس قليل، أما في المستقبل وقد كسرت الحواجز بين الأمم، وكثر الاتصال بينها، فسوف يستفيد كل أدب من أدب غيره؛ فيستفيد الشرق من أدب الغرب، ويستفيد الغرب من أدب الشرق، مثل التبادل المادي.
سيختفي الأدب الذي هو أشبه شيء بالتقارير، والذي يعتمد على الوصف المادي، وسيغلب الوصف المبني على التأمل الخصب، والحيوية التي يعرض لها الأديب وسيقربون من المثل الأعلى للأدب، وهو أن يكون واضحا قويا موجزا، وسيختفي اللعب بالألفاظ، والغموض، وستكره الشعوب الأدباء الثرثارين، والأدباء المنافقين، والأدباء المزوقين، والأدباء الماجنين.
ويغلب على ظني أن الأدب في السنوات القريبة، سيهدف إلى تقويم النفس الإنسانية تقويما كبيرا، ويعيد إليها مكانتها، وبذلك ينتهي امتهان الأدب لكرامة الإنسان: سواء بالانهماك في الملذات، أو عدم الاعتداد بالنفس البشرية، أو الضعة لأولي القوة.
لئن كان الأدب في السنين الأخيرة الماضية، محطما لقيم الإنسانية فإن الأديب في المستقبل القريب سيكون أكثر أملا، وأكثر تقويما للإنسانية.
لقد رأينا أن الأدب كان يتجه إلى التقليل من قيمة العظماء السابقين والشك في وجودهم أو عظمتهم، وإنشاء القصص الساخرة بالناس وبالمجتمع، ولكن ينتظر أن يزول كل ذلك، فإن كبار الكتاب هم أصدقاء الإنسان، وأحباء الحياة، وسيكون الأديب مشبعا بروح الحماسة محاولا بناء العزائم لا هدمها، وسيحسن للناس الحياة، ويدعو إلى أن فيها خيرا كثيرا، قد يفوق الشر.
إن الأديب كان يهتم كثيرا بنفسه، وقلما يهتم بالناس، ولذلك ضعف شعوره بالمسئولية، أما في المستقبل فسيشعر الأديب بأنه مسئول عن الحياة الاجتماعية التي يعيش فيها ينادي برفع الظلم، ويأسف لسوء الحال، ويحارب الشكاكين الذين لا يؤمنون بالله ولا بالوطن، ولا بأي شيء.
لقد عشنا طويلا، نحن وإخواننا في الشرق، في ذلة وفقر، لا نرى ملجأ إلا الملوك والأمراء، نتملقهم، ونأكل من أيديهم، أما السلطة اليوم فللشعوب، والعهد عهد الديمقراطية، لا الأرستقراطية، والمنادون بالإصلاح عادة هم الأدباء، يرون أنهم لم يؤدوا رسالتهم إذا عكفوا على شهواتهم، وغنوا لأنفسهم، وقبعوا في كسر بيتهم، فما لم يسايروا الشعب آماله، يموتون جوعا، وينبذهم المجتمع نبذ النواة.
بل لعل الأديب مسئول عن مجتمعه، أكثر من مسئولية الحاكم؛ لأن الأديب أقدر على الاتصال بنفس الشعب، وأقدر على تحريك مشاعره، وهو يحس بمقدار خدمته للشعب، وإحساسه بالمسئولية أمام الشعب.
لو استعرضنا الأدباء العرب الأقدمين لرأينا قليلا منهم من تحمل المسئولية، وهل تحملها أبو نواس وهو الغارق في شهوته، وأبو تمام والبحتري، وهما يشعران أكثر ما يكون للملوك والأمراء، أو المتنبي وهو يجري وراء مال أو ضيعة، أو ابن سكرة والحجاج، وهما ماجنان لا تهمهما إلا النكتة، يضحكان بها الناس، أو الشيخ علي الليثي، والسيد علي أبو النصر وهما يسيران في فلك الخديو إسماعيل حيثما سار، أو غيرهم أو غيرهم ...
لقد انقضى ذلك العهد، وأصبحنا في عهد يتحمل فيه الأديب مسئولية مجتمعه، أكثر مما يتحملها الحاكم والموظف والجندي؛ ذلك لأن قيم الأشياء انقلبت على مر الزمان رأسا على عقب.
سيقدر التاريخ الأدباء تقديرا آخر غير التقدير الماضي، لقد كان التقدير الماضي مبنيا على فخامة أسلوب، وجمال تعبير، وقدرة على البديع، أما في المستقبل فسيكون تقدير الأديب: ماذا صنع لأمته، وكيف هداها إلى الخير، وإلى أي حد رفع صوته ضد الظلم والفساد؟
الربيع الباكر
أشعر أن العالم في هذه الأيام أجمل منه في أي وقت آخر.
إنا نرى الله تعالى دائما خالقا رازقا، ونراه أيضا في هذه الأيام فنانا.
وهذه الأيام جديرة أن تنظر فيها إلى فنه كما تنظر دائما إلى فيضه وخيره؛ فقد انقلبت الطبيعة من رمادية داكنة، وأحطاب عارية، إلى خضرة كاسية تمتع النظر، وتريح النفس.
وتتجمل الأغصان بأوراقها الناضرة التي ترهص بأن تكون فروعا، وفي هذه الأيام تكتسي الأشجار وكانت عارية، وتتألف البراعم وكانت غائبة، وتتفتح الأزهار وكانت غامضة.
وفي هذه الأيام تصحو الدنيا وكانت نائمة، وتأخذ في الغزل السريع الجميل وكانت هاجعة.
هي تذكرنا بالشباب الجميل وقد فقدناه، وبالعيش الجديد بعد أن نسيناه، إن الطبيعة تعرض علينا فيلما جميلا، كما تعرض علينا صورة رائعة مختلفة الألوان زينت بإطار بديع.
إنك تقرأ فيها الملائكة الطاهرة، والجن الساحر، وأين التطريز العجيب، تطرزه الفتيات الجميلات من هذا التطريز الأنيق؟
إن كان لي أن أنصحك، فأقول لك: اخرج وتأمل، تأمل جذوع الأشجار الضخمة كالأعمدة، وتأمل «البانيسيه» الملون المنقوش نقشا يعجز عنه أي فنان.
إن الطبيعة في هذه الأيام تغني سيمفونية رائعة، لئن كان لله مظاهر قوية في الزلازل والصواعق، فله مظاهر وادعة وجمال في الطبيعة في هذه الأيام.
إن من صفة الله الكلام، ويظهر كلامه في أمره وخلقه، ولكنه في هذه الأيام يضغط في بعض حروفه فتكون الطبيعة الجميلة.
إن الأرض في هذه الأيام فخمة ساحرة فيها روائح الجنة، ثم الطيور وما أدراك ما هي؟ تغرد طويلا بعد أن سكتت، وتغني كثيرا بعد أن صمتت، وتمرح بعد أن بكت، ولا يفهم غناءها إلا من شجى شجوها.
لئن قلت لك فيما مضى: اخرج وانظر، فإني أقول لك الآن: اخرج واسمع، وكم في الطبيعة من مناظر بديعة وأصوات جميلة، في كل منهما متاع للسمع والبصر.
إن فيها بلسما للجريح، وطربا للنفس، وجمالا في العين؛ إنها تبعث إلينا أطفالها الأربعة، الشمس والماء والهواء والتراب، فتستقبلنا في هدوء وتحيي فينا النفوس، وتبعث فينا الدفء، وهي في هذه الأيام تنعشنا بعد الخمود، وتحيينا بعد الموت.
هي في هذه الأيام تجمل كل قبيح بأوراقها الخضر، وتكسو كل عريان بأثوابها النضر.
ثم هي توحي بأسرارها لمن أحسن الإصغاء لها وتأمل في مناظرها، وسمع لأنغامها، ومن وفق إلى ذلك رأى عجبا من الأسرار وغزارة في الإيحاء.
ومن عجيب الأمر أنك تعي أسرارها، ولا تستطيع أن تخبر بها، أو أن تكتبها أو أن تعلمها.
إنها أعمق من اللغة، وأدق من الأمواج.
وكل ما تستطيع أن تقوله لمن يسألك عنها، اذهب وانظر إليها كما نظرت، واسمع لها كما سمعت، توحي إليك بأسرارها، كما أوحت إلي.
إن اللحم والدم فينا لا يستطيعان أن يدركا أسرارها، ولكن روحنا تستطيع أن تدرك روحها.
إن من قوانين الطبيعة الموت والحياة، وقد أرتنا الموت في الشتاء، فأرتنا الحياة في الربيع.
إن فيها لشعرا، أين منه شعر أكبر الشعراء، وإن فيها لفنا أين منه فن أكبر الفنانين.
لا تجعل حياتك دائما عبدة للنهائي والمحدود، وخصص جزءا من وقتك، تستمتع فيه باللانهائي واللامحدود.
إن من صهره الحب لم يتقيد بالمقاييس، ولا بالاقتصاديات، بل يرى أنه كلما أسرف جنى.
إن معيشتك أحيانا في اللانهاية واللامحدود تبعدك عن الأنانية والقومية، وتوسع أفقك حتى أكثر من الإنسانية.
أساس الإسلام
من أروع ما في الإسلام وصفه لله، فالله هو رب العالمين، عالم الجماد، وعالم النبات ، وعالم الحيوان، وعالم الإنسان، وعالم المجموعة الشمسية، وعالم غير المجموعة الشمسية مما نعلم وما لا نعلم، وهو واحد أحد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، هو الذي خلق الخلق أولا، ثم هو الذي يمده بالحياة دائما، وهو الذي يدبر نظامه ويسيره إلى غايته، فعلاقته بمخلوقاته لا تنقطع، ولو انقطعت لحظة لفسدت السموات والأرض ومن فيهما، وهذا هو الذي يميز العقيدة الإسلامية عما يعتقده الأوربيون اليوم، فهم يعتقدون أن الله خلق الخلق وتركه يدبر نفسه كما شاء ويدبرونه هم في دنياهم كما يشاءون، فهم الذين يقررون الفضائل والرذائل، وهم الذين يسنون قوانينهم وشرائعهم حسبما يتراءى لهم، فإذا ذكروا الله في أوقات الشدة - كأوقات الأزمات الحرجة في الحرب - فكل أمة تدعي أنه معها، وتستنجده في النصرة على عدوها، كأن الله تعالى خادمها لا المسيطر على العالم كله يصرفه ويقضي فيه حسب سنته التي رسمها، فميزة العقيدة الإسلامية أنها تصفه بالخلق، وتصفه بأنه يرعى العالم دائما ويهديه سبله دائما، وتطلب من الإنسان أن يوثق علاقته بربه، فيرعى أوامره ونواهيه في كل تصرفاته، ويطلب منه الهداية، ويؤسس نظرته إلى الأخلاق على ما أمر الله به أو نهى عنه، ويشكل حياته الفردية الاجتماعية حسب تعاليمه، ويجد في اكتشاف إرادة الله فيتبعها، ويدقق في فهم إشاراته فيعمل على وفقها؛ ويجعل صلته بالله أقوى صلة، وحبه لله أقوى حب، والخوف منه أكبر خوف، يؤمن أن لا شيء في الوجود يستطيع أن يبقى لحظة من غير إمداده، هو أول الخلق وآخره، بمعنى أنه السبب في خلقه، والغاية التي ينتهي إليها وجوده، وهو الذي وضع للناس القواعد الأخلاقية الأساسية لسيرهم، وربط الأمر والنهي بما ينفعهم ويضرهم، فأمر بما ينفع ونهى عما يضر، وهو الذي يحاسبهم على تصرفاتهم في دنياهم يوم يلقون ربهم
فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره
يقرب إليه المطيعين، ويبعد عنه العاصين، يريد من الإنسان أن يعمل لدنياه كما يعمل لآخرته، وأن يسعى ويجد في الحياة مراعيا أوامره ونواهيه، لا يترهب، ولكن يسعى ويعمل، ولا يغمض عينه عن الدنيا التي يعيش فيها، كما لا يغمض عينه عن الأخرى التي يرى فيها ربه، وقد كتب الله على نفسه أن يمد بالمعونة من استعانه في شئونه ورعاه في حياته، وأن يخذل من صد عنه، وعصى أمره، بيده الملك وهو على كل شيء قدير. •••
هذه العقيدة، عقيدة وحدانية الله وعظمته وقدرته على هذا النحو، من شأنها أن ترفع نفس معتنقها، فمن الذي يؤمن بإله هذه أوصافه، ثم يذل لمخلوق أو يتنزل إلى سفساف الأمور؟ ومن الذي يؤمن بإله هذه صفاته، ثم لا يتحرى الفضيلة في حياته ويتجنب الرذيلة في سلوكه، إن عقيدة الوحدانية تجعل الإنسان على أحسن صلة بالناس وبالحيوان وبكل الخلق؛ لأنه وإياهم نتاج صانع واحد، ومدبر واحد، فاتصاله بهم وبكل موجودات العالم اتصال أخوة، تجعله لا يذل للغني ولا للحاكم، ولا لذي السلطان؛ لأنه لا سلطان إلا لله، والفروق بين الإنسان والإنسان فروق في العرض لا في الجوهر، وفي الأوصاف الزائلة للأشياء لا في الخالدة فيها، والله لا يقوم الناس بغناهم وجاههم، ولكن بقلوبهم وأعمالهم، تجعله لا يحتقر الفقير ولا الضعيف ولا المرءوس لأنه أخوه أيضا، وشريكه في الحياة، وشريكه في العبودية لله، فهو عزيز النفس في غير كبر، أبي في غير عتو، متواضع في غير ضعة، ناظر إلى كل شيء نظرة عطف ورحمة، لا يرضى بالهوان؛ لأنه ينتسب إلى الله العظيم، ولا يرضى أن يظلم أو يظلم؛ لأنه ينتمي إلى الله العادل، يعمل ويكد في الحياة ويبتغي أن يكون في أعلى مقام، بفضل عقيدته في الله التي هي أحسن العقائد، ويجب أن تكون أمته خير أمة أخرجت للناس، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالله، يطيع الله فيما أمر به، وينتهي عما نهى عنه، ويعمل عقله حيث لا أمر ولا نهي؛ لأن العقل منحة الله، والله أمر باستخدامه والاستهداء به. •••
إن كان هذا فما جعل المسلمين في أنحاء العالم في الذيل لا في الصدر، وفي المؤخرة لا في المقدمة، وكان مقتضى العقل أن تجعلهم هذه العقيدة في طليعة أهل العالم، وحاملي لوائهم وهداتهم، والسابقين إلى الخيرات، والآمرين لا المؤتمرين، والقائدين الأعزة لا المقتادين الأذلة؟
سؤال صعب، والجواب الصحيح أن العقيدة الصحيحة تقوم بذاتها لا بمعتنقها؛ فقد ينحرف أهلها عنها، أو يحتفظون بشكلها لا بجوهرها، ولو آمن بها أتباعها حق الإيمان لصح أن يكونوا مقياسا كما كان معتنقوها الأولون، ولكن مع الأسف فقد المسلمون روح العقيدة وحرارتها وحياتها، وتمسكوا بظاهرها، والظواهر لا عبرة بها ولا قيمة لها، والحق أن العالم الآن - مسلمه ومسيحيه ويهوديه - يعيش من غير عقيدة صحيحة، أو من غير توفيق بين العمل والعقيدة، أو بعبارة أخرى هم يعملون من غير أن يكن الباعث على عملهم العقيدة، ومن غير أن ينظروا في أعمالهم هل هي مطابقة لعقيدتهم أو لا، فالعالم صنفان: صنف من الأمم يعيش من غير دين، أو بدين يؤمن بإله، ولكن يجعل إلهه طرفه من الطرف في مكان مغلق يستمتع بالنظر إليه من حين إلى حين ولكنه لا يدخله في حياته ولا في تصرفاته؛ وصنف يعتنق الدين بصفاته الصحيحة التي ذكرنا، ولكنه يعتنقه نظريا لا علميا، فالنظم الاجتماعية عند الجميع في العالم والنظم السياسية، قائمة على نظرات آلية ميكانيكية ليس مبعثها الاعتقاد بالله واتباع أوامره، بدليل أن السياسي المتدين والسياسي الملحد يتفاهمان كل الفهم على التصرف في الأمور، والاجتماعي المتدين والاجتماعي الملحد سواء في النظر إلى الأمور على وفق المصالح من غير نظر إلى روح الدين.
وقد فقد الدين والعقيدة في الله ساحة الحياة العلمية، وأصبح المتدينون على اختلاف أديانهم لهم دين ميتافيزيقي يعيشون فيه أحيانا بتفكيرهم أو بخيالهم، ولهم حياة عملية منفصلة عن الدين بتاتا تسيرها الأغراض والمادة، ويخدم كل ذلك العقل، ولا يلاحظ فيها أي ملاحظة، خالق الخلق، وأوامره، وإشاراته، ولا ينبض فيها القلب بأي معنى من معاني العطف والرحمة والطاعة.
والفرق بين المؤمن والكافر اليوم أن المؤمن مؤمن نظريا، كافر عمليا، والكافر كافر نظريا وعمليا، ولذلك سيبقى العالم مضطربا حائرا فاسدا حتى يجد روحه وقلبه، وقد تفوق العالم المسيحي على العالم الإسلامي اليوم؛ لأنه كان أعرف بوسائل الأعمال ووسائل الحياة، وأكثر استكشافا لقوانين المادة، وقوانين القوة المادية لا لأنه أرقى دينا وأعظم روحا، فالعالم كله اليوم مخطئ إذا نحن نظرنا إليه نظرة روحية، وهو شقي بتقدمه المادي، وتقدمه العقلي من غير أن تسندهما قوة الروح، وليس ينقص المسلمين إصلاح في عقيدتهم، ولا روحانية في دينهم، ولكن ينقصهم أمران: الأول أن يكون الدين روحا لا شكلا، وقلبا لا جوارح، وحرارة لا مظهرا، ونبضا لا جمودا، وأن تكون «لا إله إلا الله»، و«الحمد الله رب العالمين»، معنى لا لفظا، وصادرة من أعماق القلب لا من طرف اللسان، وأن يكون معنى «لا إله إلا الله» أن ليس عرض من أعراض الدنيا إلها، فالمال والجاه والسلطان ليست آلهة تعبد، ولا قوة يخضع لها، وإنما الخضوع للحق وحده؛ لأن الله هو الحق، ومعنى أن الله رب العالمين: أن ليس في العالم رب يطاع وتسمع أوامره ونواهيه إلا هو - جل شأنه - والثاني: ارتباط عملهم بعقيدتهم، وإيجاد العلاقة الوثيقة بين ما يعملون وما يعتقدون، فليس للعقيدة من قيمة إذا حفظت في خزانة لا تفتح، أو قدست وأهملت، أو لفت في ثياب من حرير ثم تركت، فكما أن لا قيمة للمال إلا ما انتفع به ولا لأي عرض من أعراض الحياة إلا إذا استغل للمصلحة؛ فأهم من ذلك كله العقيدة: إذا لم يبن عليها العمل كانت نجما جميلا في السماء، أو لوحة جميلة في المعرض، أو خيالا بديعا في أخيلة الشعراء، أو صورة فنية من صور الأدباء، إنما العقيدة المصلحة هي العقيدة يتبعها العمل، وتبعث النور في طريق الحياة، وتهدي إلى الصراط المستقيم.
عينية ابن سينا
اشتهرت هذه العينية بأنها لابن سينا، والناقد الأدبي يقطع بأنها ليست له؛ لأنه إذا تذوق ما لابن سينا من شعر وأراجيز، وتذوق هذه العينية يرى أنها أرقى بكثير من شعر ابن سينا، فابن سينا غامض اللفظ في شعره وفلسفته، سمج التعبير، يعتمد في لغته على المعاجم، وهي وإن دلت على المعنى الصحيح للكلمات فإن وراءها ذوقا يميز بين جيدها ورديئها وما يحسن استعماله وما لا يحسن، وابن سينا أبعد عن ذلك سواء في فلسفته أو شعره أو قصصه.
فهذه القصيدة في نظرنا أشبه ما تكون بشعر ابن الشبل البغدادي صاحب قصيدة:
بربك أيها الفلك المدار
أقصد ذا المسير أم اضطرار
وهي إلى تعبيره أقرب، ولذلك نسبها بعضهم له، وقد كان جميل الشعر حسن السبك للألفاظ دقيق الاختيار.
والعينية هذه تدور حول حالة النفس قبل اتصالها بالبدن وبعد اتصالها به وبعد مفارقتها له، فهو يرى كفلسفة القرون الوسطى أن النفس كانت قبل البدن بعهد طويل، تتمتع بكل ما تتمتع به العناصر الروحية المجردة، ثم تحل بالأجسام حين يخلق الجسم في الرحم، فتحل به وهي كارهة، ولكنها إذا طالت مدتها ألفته، ثم هي إذا فارقته بالموت فارقته وهي كارهة، والجسد يجري من النفس مجرى الثوب من البدن فإن الجسد يحرك الثوب بواسطة أعضائه الظاهرة، والنفس تحرك البدن بواسطة قوى خفية مناسبة، فهي التي تحرك العين واليد والرجل وغيرها، فإذا فارقته عدم الحركة، وكلمة الإنسان تطلق عليهما معا، وتطلق على النفس حقيقة وعلى الجسم وحده مجازا، كما يسمى ضوء الشمس شمسا، وهذه النفس لا تتجزأ بذاتها، وإنما تتجزأ بأعراضها، وليست النفس في البدن كالماء في الإناء إذا أفرغ الماء بقي الإناء كما هو حين حلوله به، والجسم لا يكون كما هو عند مفارقة النفس؛ ولا النفس كالحلاوة في العسل؛ لأن الحلاوة عرضية ولأن النفس رئيسة البدن والبدن مرءوس، وليست الحلاوة رئيسة للعسل، وإنما هي بمنزلة شعاع الشمس كما قلنا وهي حية بذاتها.
والكون كله مظاهر للنفس، فلكل شيء في الكون نفس وهو مظهرها، وهي مفطورة على صورة الفاطر - جل وعلا - ولذلك جاء في الحديث: (إن الله خلق آدم على صورته).
وهذه خلاصة تلك الفلسفة، وتتمتها أن النفس قبل اتصالها بالبدن كانت عالمة بكل شيء، فلما اتصلت بالجسم نسيت ما كانت تعلمه، والتعليم إنما هو تذكير بما كانت تعلم لا خلق للعلم، وبذلك كان يقول سقراط، وكان يقول: إنه استطاع أن يعلم عبدا له أدق نظريات الهندسة بمساعدات بسيطة، ولو كان التعليم خلقا ما استطاع ذلك، وربما أشار إلى هذا المعنى قوله تعالى:
وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى .
فذلك قوله:
هبطت إليك من المحل الأرفع
ورقاء ذات تدلل وتمنع
والتعبير بالهبوط تعبير جميل، مما يدل على ذوق جميل، فهي خير من نزل أو سقط أو غيرهما من الكلمات التي تفيد معناهما؛ لأنها تدل على أن مهبطها دار عناء وبلاء، والورقاء الحمامة الرمادية، هذا في الأصل، ثم أطلقوها على كل حمامة وهو يكني بالحمامة عن النفس، أي النفس الكلية، فهو يقول: إن النفس هبطت من المحل الأرفع إلى الحضيض الأخس الأوضع، والمراد بالمحل الأرفع عالم العقول المجردة، التي تفيض منه النفوس على الأبدان، عند استعداد البدن للفيضان .
ثم قال:
محجوبة عن كل مقلة ناظر
وهي التي سفرت ولم تتبرقع
يقول: إن النفس قد حجبت عن أن يراها راء، أو بعبارة أخرى، قد حجبت عن الحواس، لا تدركها، وهي مع ذلك تدرك بالعقول، وتدل عليها الأفعال.
فالعقل يدرك إذا تجرد من الجسم، كالذي قال أبو يزيد البسطامى: «انسلخت من جسدي فرأيت من أنا»!
ويقول الحلاج:
اقتلوني يا ثقاتي
إن في قتلي حياتي
وحياتي في مماتي
ومماتي في حياتي
ثم يقول:
وصلت على كره إليك وربما
كرهت فراقك وهي ذات توجع
فتعلق النفس بالبدن شديد، وهي تكره فراقه إلا إذا حصلت كمالها، والسر في كره المفارقة أنها باللذات الحسية من مأكل ومشرب وترؤسها على الحواس، فهي قد هبطت كارهة، وخرجت كارهة.
ثم يقول:
أنفت وما أنست فلما واصلت
لفت مجاورة الخراب البلقع
أي أن النفس استنكفت واستكبرت على أن تتصل بالجسم، واستعلت عليه بحجة أنها من الموجودات الشريفة العالية، فكيف تتآلف مع الأجسام التي هي من الظلمات، ولكن لما حلت في الجسم ألفت به من طول الملازمة له، ويريد بالخرب البلقع البدن؛ لكونه قابلا للفساد والبطلان.
ثم يقول:
وأظنها نسيت عهودا بالحمى
ومنازلا لفراقها لم تقنع
ومعنى البيت أنه يتعجب من شدة اتصالها بالبدن وركونها إليه، واشتداد محبتها له، مع أنه من غير جنسها، ولما حلت بالبدن نسيت أيام كانت مجردة متصلة بالعالم العلوي، وعند تعلقها بالبدن لم تقتصر على نسيانها لعالمها، بل زاد على ذلك عشقها للمادة الآيلة للفناء، وشغفها بها، فرضيت بالأدنى، واستغنت به عن الأعلى.
ثم يقول:
حتى إذا اتصلت بهاء هبوطها
من ميم مركزها لذات الأجرع
يقول: إن النفس لما انفصلت من ميم مركزها أي من أعلى عالمها، وعبر بميم المركز لأن الميم حرف من حروفه، أو مبدأ لفظه، كما قال هاء الهبوط والمراد به الجسم، وذات الأجرع استعارة لجسد الإنسان.
ثم يقول:
علقت بها ثاء الثقيل فأصبحت
بين المعالم والطلول الخضع
أي تشبثت بالبدن الذي عبر عنه بثاء الثقيل، وسماه ثاء الثقيل؛ لأن الثاء أول حروفه.
ثم يقول:
تبكي إذا ذكرت عهودا بالحمى
بمدامع تهمي ولم تتقطع
الحمى البقعة التي يحوزها الإنسان بقوته، ويمنع غيره من التعدي عليها، وتهمي تسيل، وذلك أن النفس من حين إلى حين تحن إلى ما كانت عليه قبل اتصالها بالبدن يوم كانت في عالم المجردات، فتحزن ويعظم وجدها وبكاؤها.
ثم يقول:
وتظل ساجعة على الدمن التي
درست بتكرار الرياح الأربع
يقال سجعت الحمامة، إذا رددت صوتها على وجه واحد، والدمن ما بقى من آثار الديار ورسومها، ويقصد بها هنا أجزاء البدن، والدروس ذهاب الأثر.
يقول: إن النفس تبكي البدن وتحزن عليه إذا فارقته، كما حزنت عند حلولها فيه.
حتى إذا قرب الرحيل إلى الحمى
ودنا الرحيل إلى الفضاء الأوسع
وغدت مفارقة لكل مخلف
عنها أليف الترب غير مشيع
هجعت وقد كشف الغطاء وأبصرت
ما ليس يدرك بالعيون الهجع
أي النفس لما قاربت مفارقتها للبدن، وقطعت العلائق الجسمانية بالموت، وغدت مفارقة للبدن وتوابعه، وقطع العلائق والأسباب بينها وبينه، هجعت أي نامت، وكشف عنها الغطاء، فأبصرت ما لم تكن تبصر من قبل، ورأت بعين بصيرتها ما لم تكن تدركه بالعيون في اليقظة.
وفي ذلك يقول رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «الناس نيام، فإذا ماتوا تنبهوا».
وغدت تغرد فوق ذروة شاهق
والعلم يرفع كل من لم يرفع
والتغريد التطريب بالصوت، أي أن النفس بعد مفارقتها للبدن علمت ما لم تكن تعلم، وسرت بخلاصها من بدنها الذي كان يمنعها عن العلم.
فلأي شيء أهبطت من شامخ
عال إلى قعر الحضيض الأوضع؟
يسأل عن الحكمة الباعثة لتعليق النفس بالبدن ومرور هذه الدورة من هبوط واتصال البدن، ثم انفصال عنه ثم عودتها إلى ما كانت عليه.
إن كان أهبطها الإله لحكمة
طويت على الفذ اللبيب الأروع
فهبوطها لا شك ضربة لازب
لتكون سامعة لما لم تسمع
وتعود عالمة بكل خفية
في العالمين فخرقها لم يرقع
أي أنها لو كانت هبطت لحكمة خفيت عنا، فهبوطها كان لازما لتعلم ما لم تكن تعلم، وتعود عالمة بالأسرار الخفية في عالم الغيب والشهادة، وقد كانت تعلم عالم الغيب فقط.
وهي التي قطع الزمان طريقها
حتى لقد غربت بغير المطلع
يقول: إنما كان مراد النفس من الهبوط تحصيل مأربها من علم عالم الشهادة، وتنفصل عن البدن بصفة لم تكن وقت التعلق؛ وذلك أنها في حين التعلق كانت ساذجة لا تعرف الكمال ولا النعيم، فعرفته حين اتصلت بالجسم.
فكأنها برق تألق بالحمى
ثم انطوى فكأنه لم يلمع
أي أن النفس في سيرتها هذه كأنها برق خاطف، تألق حينا قليلا حتى كأنه لم يلمع.
وهنا تنتهي القصيدة، وصف للنفس واتصالها بالجسم كارهة، ودخولها في البدن كارهة، وخروجها عنه كارهة، فلم كان هذا الدخول وهذا الخروج؟ يقول: إن دخولها في الجسم كان سببا في علمها ما لم تعلم من العالم الأرض بعد العالم السماوي، وتعديل رأيها في معنى الكمال، فهو قد وصف أدوار النفس ومراحلها من هبوط فاتصال فصعود، فانكشاف لما لم يكن يعلم، فحيرة في رحلتها هذه، فإجابته بأنها قد اكتشفت بهذه الرحلة علما فوق علمها وإدراكا فوق إدراكها، وهذه حكمة الخلق من حياة وموت.
فكرة فلسفية لطيفة في شعر لطيف، وقد كان البحث في النفس والوجود والعدم مثارا لكلام طويل، وحيرة شديدة، وقد تعرض له ابن الشبل البغدادي أيضا في قصيدته: «بربك أيها الفلك المدار ... إلخ»، وحار هذه الحيرة، وتساءل هذا السؤال، فهي تصور لنا مرحلة من مراحل المسلمين في التفكير.
ومن الأسف أنه إلى الآن لم تنكشف حقيقة هذه النظرية الغامضة، وبقيت غامضة اليوم كما كانت غامضة بالأمس، ولم تتقدم المعرفة الإنسانية لتحكم أصحيح هذا أم خطأ؛ وذلك لأن هذا لا يحل بالعلم؛ إذ ليس هذا من دائرته، وإنما هو من دائرة الدين، والله أعلم.
النظام المالي في الإسلام
النظام المالي في كل أمة أساس عظيم لحياتها الاجتماعية، فإن رأيت أمة متقدمة في المدنية والحضارة، وفي العلوم والفنون، وفي المخترعات ووسائل النقل والمواصلات، وعلو مستوى المعيشة بين أفرادها، فاعلم أن ذلك ناتج من حسن نظامها المالي، وإن رأيت الفقر المدقع منتشرا بين جمهورها، وهي منحطة في زراعتها وعلومها وفنونها، فاعلم أن ذلك يرجع أولا إلى سوء نظامها الاقتصادي؛ ولذلك قومت المدنية الغربية الأمور الاقتصادية تقويما كبيرا، بل جعلتها أساسا يؤثر في نظامها السياسي، ونظامها الاجتماعي، ووجد المتخصصون في المسائل الاقتصادية والتعمق في بحثها، وإفرادها بعلم يسمى «علم الاقتصاد»، له الشأن الأول بين العلوم.
من أجل هذا كان من رأي كثير من المصلحين في الشرق، أن يوجهوا عنايتهم إلى حالته الاقتصادية، وأن يقدموا ذلك على الإصلاح الاجتماعي والسياسي، فلو أصلحت، أصلحت الحياة الاجتماعية والسياسية، ودليلهم على ذلك أن الشرق متأخر في زراعته، فليست مبنية على العلم بل هي مبنية على التقليد القديم والأوضاع الموروثة، وإذا سلط العلم على الزراعة أمكن أن ينتج الشرق من زراعته أضعاف ما ينتج الآن، وكذلك الشأن في معادنه المدفونة في أرضه وصناعته البدائية وما إلى ذلك، فالشرق غني ولكن لا يجد الرأس المفكر والهمة الحازمة والشركات الممولة واليد العاملة، ولو أنه أتيح له كل ذلك لكثرت أمواله وزاد غناه، فنشأ عن ذلك محو الفقر المدقع ، وارتفع مستوى المعيشة، ثم نتج عن ذلك انتشار العلم وانتشار وسائل المدنية، ورقي الصناعة، بل لنشأ عن ذلك أيضا إصلاح السياسة، فالرأي العام الفقير الجاهل ليس له من القوة ما للرأي العام الغني المثقف، وفي قولهم هذا كثير من الصحة، فإني أعتقد أن الأعداء الثلاثة وهي: الفقر والجهل والمرض تزول كلها بزوال الفقر، والفقر يزول بتنظيم الحياة الاقتصادية. •••
والأرض التي خلقها الله تكفلت بتقديم الضروريات لجميع أبنائها إذا عقلوا، وقد كان الإنسان الأول مكفي الحاجة قليل الجهد في الحصول على ضروريات حياته، فهو يعتمد على ما يجده من أثمار الأشجار أو من الصيد، ويلبس ما ينتجه الحيوان، ويسكن الكهوف، ولا يحس أي إحساس بأزمة مالية، ولكن شاء الله أن يخلق الإنسان طموحا إلى تحسين حاله، راغبا بطبيعته في الحياة الاجتماعية، مضطرا إلى القرار ما أمكن بحكم تربية أولاده الذين يتطلبون في تربيتهم زمنا أطول مما تقتضيه تربية الحيوان، إلى غير ذلك، فزرع الأرض وكلما تقدم الزمن زادت مطالب الحياته، وتأنق في مسكنه وملبسه ومأكله، وكان بحكم الطبيعة أن تفاوت الناس في القدرة على الكسب، فزكي وغبي، وماهر وأخرق، وبعيد النظر وسفيه، وفيلسوف ومغفل، إلى غير ذلك، فكان من ذلك اختلاف الثروات، ومن يعيش عيشة سعيدة، ومن يعيش عيشة شقية، ومن يجد فوق حاجته، ومن لا يجد حاجته، وكلما تقدمت المدنية زادت هذه الأمور تعقيدا، وفكر في الحلول لها، ووضعت المقترحات والنظم الاقتصادية لحلها وتنظيمها.
وكان أكبر العقبات الفروق الكبيرة في الثروة، واستبداد الغني بالفقير، والقادر بالعاجز، وصاحب رأس المال بالعامل، وعلى هذه الحلول والمذاهب الاقتصادية انقسمت الأمم الأوربية إلى رأسمالية وشيوعية وفاشية، ولكن مع الأسف ليس حل منها أراح الناس ولا حل المشاكل، وأسباب فشلها كثيرة، منها: ان النظام الاقتصادي نظر إليه كأنه مستقل بنفسه، كأن الإنسان حيوان اقتصادى فقط، ليس له خلق ولا عقل ولا روح، فالذين يكتبون في الاقتصاد يوجهون كل همهم إلى المسائل الاقتصادية مجردة من النظرات الأخلاقية والإنسانية، ويحاولون حل مسائلهم من هذه الزاوية وحدها، فمثلهم مثل المهندس الذي يضع كل همه في إصلاح الحائط المائل من غير أن يلتفت أي التفات إلى بناء البيت كله، أو كالطبيب الذي يداوي المعدة من غير أن ينظر إلى علاقة المعدة بالجسم كله، فالإنسان منتج ومستهلك من حيث الاقتصاد، ولكن له بجانب ذلك ناحية خلقية، وناحية اجتماعية وناحية روحية، وكلها تنتج الإنسان كإنسان، فالنظر إليه من ناحية واحدة نظر لا يجدي، من أجل هذا كان سلوك الناس الخلقي ضربة مميتة للحياة الاقتصادية، فالأغنياء الذين تكدست عندهم الثروة لم ينظروا إلا إلى أنفسهم، فتوسعوا في وسائل الملاذ، وبحثوا كل يوم عن مصدر جديد للذة، وتفننوا كل التفنن في أثاث البيت ومطعمه وأدوات زينته تفننا عز عن الوصف من غير التفاتة إلى إخوانهم الفقراء الذين لا يجدون ضروريات العيش، فنشأ عن ذلك الصراع الشديد بين طبقات الفقراء وطبقات الأغنياء، وكراهية كل لكل.
وقد حاولت الشيوعية أن تنظم هذه العلاقة وتقرب هذه المسافة، فنجحت في هذا، ولكن وقعت في الخطأ الذي وقع فيه غيرها من المذاهب الاقتصادية، فتصورت الإنسان كأن ليس له دين ولا عواطف ولا حرية شخصية، وإنما هو حيوان لا يسبح إلا في الدائرة المالية، وفيها عيب آخر وهو أن استبداد أصحاب رؤوس الأموال المتعددين تركز في النظام الشيوعي في يد الحكومة وأعوانها فأصبحت هي الوحيدة صاحبة رأس المال، وكان لها من التحكم في الأفراد وسلب حريتهم ما لم يستطعه أصحاب رؤوس المال المتعددون؛ إذ كان في تعدد الرأسماليين منفذ للعمال؛ إذ ينتقلون من صاحب رأسمال قاسي إلى أقل منه قسوة، وهم أنفسهم يتبارون في التودد للعمال؛ استجلابا للانضمام إليهم والعمل معهم، وليس ذلك موجودا في الشيوعية. •••
نظام الإسلام المالي قد بني على أسس أخرى؛ من أهمها: ربط الحياة الاقتصادية بالحياة الخلقية، بالحياة الاجتماعية، بالحياة الدينية، فلم ينظر إلى الإنسان على أنه مجرد حيوان اقتصادي، بل شرع الأمور المالية بحيث يمتزج الاقتصاد بالقانون بالأخلاق، فإذا كان الربا من الناحية الاقتصادية مباحا، كالبيع إذا كان الربا في حدود معتدلة، فإن الأخلاق لا ترضى عنه من حيث سوء العلاقة بين معطي المال بالربا وآخذه، ولذلك حرمه الإسلام غير ناظر إلى الناحية الاقتصادية وحدها، ثم هو وضع التعاليم الأخلاقية التي تكره الإنسان في اختزان الذهب والفضة من غير أن يعين إخوانه الفقراء من الناس كأن يقول:
والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم .
وقد حارب الإسلام مشكلة المشاكل وهي الإفراط في الغنى، والإفراط في الفقر بوسائل شتى؛ منها: ما ذكرنا من تحبيب الناس بعضهم في بعض، وعطف الغني على الفقير، والنظر إلى الجانب الخلقي بجانب النظر إلى الجانب المالي، ووردت في ذلك الآيات الكثيرة والأحاديث الكثيرة التي تشعر الإنسان بأخيه الإنسان وتحببه إليه وتحننه عليه.
ومن ذلك أيضا أنه حرم الإفراط في الملاذ وطلب الاعتدال فيها، ناظرا إلى أن الغني إذا لم يفرط في ملاذه ولم يجد منافذ للإنفاق الكثير في شهواته، ولم يجد المال نافعا في الانغماس في نعيمه، تحول بالضرورة إلى النظر إلى الفقراء ومساعدتهم ومعونتهم، فمثلا حرم على الرجال لبس الحرير والتحلي بالذهب، وكره الأناقة في المساكن والملابس، وحبب إلى المؤمنين التخشن حتى لا يفقدوا رجولتهم، وحرم الخمر والميسر والزنا، وكلها من قبل الإفراط في اللذات، حتى لا يستتبع ذلك الجشع في طلب المال، والحرص على اكتنازه.
ثم فرض الزكاة ويعجبني تسمية الإسلام الزكاة بهذا الاسم، فهو اسم خير من كلمة الضريبة ونحوها من كلمات؛ لأنها إلى أن إخراج الزكاة تطهير للمال الباقي، فكأن المال المكنوز نجس لا تطهره إلا الزكاة
خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها ، وهذا القدر من الزكاة هو 2,5٪ قد يكون قدرا ضئيلا ولكنه هو القدر القانوني، وبجانب ذلك، القدر الكبير الأخلاقي وهو الإحسان، وهذا لا حد له، وإنما هو موكول إلى ضمير الشخص وخلقه وعطفه وميوله الدينية والخلقية التي يحاول الإسلام أن يغرسها وينميها باستمرار.
ومن ذلك أيضا نظام الإرث، فكثير من النظم الأوربية حصرت الإرث في الأبن الكبير أو نحو ذلك، فكانت الثروة مجموعة تنتقل من شخص إلى شخص وهي بعينها لا ينقص منها شيء، أما نظام الإسلام فوزعها وجعل لكل من الأولاد ذكورا وإناثا نصيبا منها، وكذلك للأب والأم والزوج والزوجة، إلى غير ذلك، فكان هذا عاملا كبيرا في انقسام الثروة وتوزيعها على عدد كبير من الناس، وتقريبا للمسافات البعيدة بين الغنى المفرط والفقر المفرط. •••
فلو تصورنا مجتمعا سادت فيه هذه التعاليم، وخضع فيه النظام الاقتصادي للسلوك الأخلاقي، وحرم فيه على الأغنياء أن يسرفوا في الملاذ والملاهي، وفرض عليهم جزء قانوني من المال يصرف في وجوه البر، والأخذ بيد الفقير، إلى مال لا حد له يصرفه الغني لمساعدة الفقير يسمى إحسانا، إلى توزيع الثروة توزيعا كبيرا بين أفراد متعددين، لكان مجتمعا قد تبرأ من حقد الفقراء على الأغنياء، وعسف الأغنياء بالفقراء، ولكان مجتمعا تتقارب طبقاته، فلا فقير مدقع ولا غني جشع، ولكان مجتمعا قد حل أهم المشاكل التي عجز الاقتصاد وحده عن أن يحلها، ولكن مع الأسف، مبادئ سليمة لم تجد من يطبقها، وآراء قويمة أهملت وسار المسلمون أنفسهم على ضدها.
الحق أن الإسلام خير من أهله.
الحياة الروحية
يغرق العالم اليوم من أطراف صوابعه إلى أعلى مفرقة في الماديات، فالمال عنده كل شيء، ولا قيمة للروحانيات، وكل شيء يقوم بالمال ومضاعفاته ومشتقاته، والحروب إنما تقام للمال، والتعليم إنما يتجه للمال، ويعد ما يدر مالا خير، وما يفقد مالا شر، حتى إنك لو قدمت وردة جميلة لصديق أو صديقة نظر إلى ذلك باعتبار أن الوردة بكم تقدر، أما ما حول ذلك من جمال الوردة، وعاطفة الحب أو الصداقة، ومقدار سرور المهدى إليه الوردة، والباعث عليه من المهدي، فلا يقوم لأنه روحاني، وهكذا انقلبت كل المعاني إلى مادية، وعملت المادية في إعلان الحرب وإعلان السلم، حتى أخشى أن تكون المساجد والكنائس أصبحت هي الأخرى مادية، كما أخشى أن يكون كبار الأدباء في العالم قد انقلبوا أيضا ماديين تبعا لعصرهم، فالمجلة يكتب فيها أو لا يكتب باعتبار الأجر، والمقالات أو الكتب تقدر بعدد الصفحات أو تقدر باعتبار شهرة قائلها وكاتبها ، وكل هذا انحدار في المادية، والكاتب السليط اللسان القادر على الهجاء، يقدر أكثر مما يقدر الأديب العف اللسان، العاجز تمام العجز عن السباب، والكتاب الذي يلذع أو يثير الشهوة، أو يثير الحسد، أو يهيج النفوس أو هو مملوء بالشتائم أو يعلم السباب، خير من الكتاب المؤدب المتورع عن الهمز واللمز إلى غير ذلك، وبلغ الحد أن صار كثير من الكتاب يخجلون من الكتابة في الروحانية ويفخرون بكتابتهم في المادية، ولا يفرقون بين معان روحانية ومعان خرافية، وكان مثلهم كقول أبي العلاء:
إذا قلت المحال رفعت صوتي
وإن قلت الصحيح أطلت همي
ولا تكاد تجد في العالم روحانيا يجهر بروحانيته إلا نادرا، ويخيل إلي أن حياة الناس اليومية قسمان: مادية وروحانية، هما كجسم الإنسان ونفسه، وكثير يفهمون أن الروحانية لا تكون إلا بعد الموت في الحياة الأخرى، ولكني أعتقد أن الروحانية في الدنيا والأخرى معا، وكل عمل في الحياة له جانبان ، والأنبياء والصالحون والصوفيون يعيشون بين الماديين عيشة روحانية قوية كاملة.
وقد يعمل اثنان عملا واحدا، وباعث أحدهما روحاني، وباعث الآخر مادي، بل قد يتقارب اثنان في أرواحهما على البعد، ويتباعد اثنان في أرواحهما على القرب، فالمسافة ليست عاملا في هذا الموضوع، وصدق النبي في عظم تقديره للنية، وقوله: «إنما الأعمال بالنيات»، فكانت نتيجة ذلك تقويم العلل بالباعث لا بالنتيجة.
والعالم مملوء بما يغذي الروح، كما هو مملوء بما يغذي المادة، فيغذي المادة شهواتها وطمعها، وانتقامها وغلبتها وانقلابها، إلى كثير من أمثال ذلك كما يغذي الروح دينه، ومظاهر نبله، والأعمال الجليلة التي يقوم بها، وما يراه من انهزام المادة وشراهتها وضراوتها، وأنها بالنسبة له كالقزم بالنسبة للعملاق، ألم يكن ما شهدناه في العهد الماضي من فساد نتيجة لتقويم المادية تقويما أكبر من حقيقتها، فما المال، وما سبائك الذهب، وما الأطيان تعد بآلاف الأفدنة، وما المجوهرات العديدة، وما السعي الدائب في تحقيق مصلحة خاصة، في نظير مال يدفع، وما الذل للظالم، وتمهيد السبيل له لرتبة ينالها، أو مال يحصل عليه؟
إن الروحاني إذا سما، ونظر إلى العالم من طائرة، سخر من العالم المادي وتكالب الناس عليه، يحكى أن غنيا كبيرا وعد أن يعطي فلاحه الصغير أرضا بمقدار ما يجري، على أن يرجع قبل غروب الشمس، فجرى وكلما جرى ازداد طمعا في الأرض التي بعدها، فجرى أكثر مما جرى، حتى إذا قاربت الشمس الغروب بدأ يعود، واستحثه قرب الغروب على سرعة العدو، فمن كثرة عدوه انبت، فلا مال اقتنى، ولا هو أبقى على نفسه، والحكاية تمثل حياة أكثر الناس، يصرفون أكبر همهم إلى الاقتناء، ويتعبون في ذلك بما لا يقدر، ثم تكون النتيجة حفرة ضيقة، يرقد فيها من غير جزاء ولا شكور.
ستة أيام في حياتي
تمر الأيام مرورا عاديا في حياة الإنسان والأمم، ولكن تحدث فجأة حوادث في بعض الأيام يكون لها الأثر الكبير في حياة الأمم والأفراد ... وقد تكون الحادثة صغيرة لا يؤبه لها ولكنها تصبح ذات أثر فعال، ولو سئلت ما هي الستة الأيام التي كان لها أكبر الأثر في نفسك، لأجبت:
اليوم الأول
ذلك يوم أن فارقت الكتاتيب الابتدائية؛ فقد أحسست أنني فارقت الفوضى إلى النظام، والحياة اللافنية إلى حياة فنية، والتعليم الهمجي إلى التعليم المنظم، وشعرت أنه رد إلي اعتباري، فبعد أن كنت ألبس الجلابية والطاقية والمركوب أصبحت كأولاد الذوات ألبس البدلة والجزمة والطربوش، وصرت أدخل حارتي رافع الرأس تياها على أولاد الحارة.
وبعد قليل صرت أرطن بالفرنسية كأولاد الذوات، ولكن أبي - رحمه الله - أراد ألا أنسى حياتي الشرقية بتاتا، فكان يحفظني القرآن ويذكرني دائما بالحياة القديمة، وقد تعلمت في هذه المدرسة كثيرا وخصوصا مما خالطت من تلاميذ وما سمعت من أساتذة، ومن وقت لآخر يبذر في أعماق نفسي بذورا، ظلت هي العامل الأكبر طول حياتي.
اليوم الثاني
أما اليوم الثاني فيوم دخلت مدرسة القضاء؛ إذ كنت قبلها أسير في الحياة على غير هدى، وليس لي هدف في الحياة ... فلما دخلت هذه المدرسة تحدد هدفي أن أكون قاضيا شرعيا، واستفدت كذلك فوائد لا تحصى من علم وخلق؛ فقد كانت مدرسة القضاء أحب المدارس إلى سعد زغلول، فاختار لها خيرة المدرسين وكانت تدرس العلوم الدينية التقليدية والعلوم الحديثة، فكنت أدرس الفقه والتفسير وبجانبهما الطبيعة والكيمياء ومقدمة القوانين، وكان من أكبر ما أثر في، اتصالي بعاطف باشا بركات ناظر المدرسة؛ فقد كان رجلا عادلا حازما شجاعا صريحا لا يخشى في الحق لومة لائم، وساعدني على الاقتباس منه أنه اختارني لأكون معيدا له في دروس الأخلاق، وكان يدرسها من الكتب الإنجليزية ... فحبب إلي أن أتعلم اللغة الإنجليزية لأطلع على ما كتبه الإنجليز في الأخلاق، وكان اتصالي به في الأخلاق يتيح لي فرصة الاختلاط به في الدروس وفي البيت وفي العزبة، وكان خارج الدرس يكلمني في كل شيء، في الدين وفي أخلاق الناس في مصر وفي تجاربه في الحياة، مما ألقى لي ضوءا لم أكن أعهده من قبل، وظل يلقي علي حمل دروس الأخلاق شيئا فشيئا حتى استقللت بها، ولذلك لما مات حزنت عليه حزني على أبي؛ إذ كان هو أبي الروحي.
اليوم الثالث
وأما يومي الثالث فهو يوم الزواج ... ولقد كان حادثا كبيرا غير مجرى حياتي، وكان الزواج في أيامنا مبنيا على المصادفة أكثر مما هو اليوم، فالزوج لا يرى الزوجة قبل الزواج؛ وفقا للتقاليد المرعية، ولا يعرف عنها إلا ما قالته الأقارب من النساء من ذكر أوصاف لا تقدم ولا تؤخر، وبعد أن كنت أحمل مسئولية نفسي فقط، أصبحت أحمل مسئولية البيت ومسئولية الزوجة والأولاد، وكل ذلك قد أكسبني تجارب كثيرة في الحياة.
اليوم الرابع
واليوم الرابع يوم أن عرفت امرأة انجليزية عجوزا وأخرى شابة ... كانتا تعلماني الإنجليزية، وظللت مع الأولى أربع سنوات بذلت فيها الجهد لتعليمي الإنجليزية، فكانت تدعو الإنجليز من رجال ونساء لتعويدي سماع اللغة واضطراري إلى إطلاق لساني في القول، وكانت تقص علي ما لقيت في إنجلترا وباريس وبرلين وواشنطن، وكان آخر ما قرأت معها كتاب جمهورية أفلاطون، فكانت تقارن بين نظرياته وما دخل عليها من تعديل في المدنية الحديثة.
أما الثانية فكانت شابة متزوجة غنية قوية في العواطف قوة الأولى في العقل، ولما تعلمت الإنجليزية تفتحت أمامي آفاق واسعة لم يكن لي عهد بها من قبل، وصرت أعتمد عليها بجانب ما أعتمد على الكتب العربية، مما كان له أثر بعيد في مقالاتي وكتبي وتحضير دروسي، ولا أدري ماذا كنت أكون لو لم أتعلمها ...
اليوم الخامس
وكان اليوم الخامس يوم أتيحت لي الظروف لأول مرة أن أسافر إلى أوربا في مؤتمر المستشرقين؛ فقد اطلعت على عالم جديد في نظمه الاجتماعية وفي معاهده العلمية، واستطعت أن أوازن بين الشرق والغرب، وأن أضع يدي على مزايا كل وعيوبه ... وكأنني رزقت عينا ثانية بعد أن كان لي عين واحدة، عين تقع على الشرق وعين تقع على الغرب، وعقل يوازن بينهما في سرعة البرق، وأعترف أنه ما عرضت علي مسألة عويصة إلا نظرت فيها بهاتين العينين.
اليوم السادس
واليوم السادس يوم انتخبت عميدا في كلية الآداب، ولم أكن أتوقع ذلك مطلقا ... فأنا رجل تربيت في الأزهر وما يشبه الأزهر من مدرسة القضاء، ولم أكن أعرف النظم الجامعية إلا يوم التحقت بجامعة القاهرة، ولم أتعلم كزملائي في جامعات أوربا وأعرف نظمها، وفي مجلس كلية الآداب فطاحل من رجال الجامعات الأوربية من إنجليز وفرنسيين وألمان، هذا عدا ما كان من فطاحل الأساتذة المصريين ... فكان غريبا أن يترك كل هؤلاء وأنتخب أنا عميدا ولذلك استعظمت هذا الأمر واضطربت في أول حياتي كعميد، ولكن تذكرت قول الشيخ محمد عبده: «إن الرجل الصغير يرى أنه أصغر من الوظيفة، والرجل الكبير يرى أنه أكبر من الوظيفة» فأوحيت إلى نفسي باستمرار أنني أكبر من أن أكون عميدا، ودلتني الحوادث أن العميد أصغر من أستاذ، ولذلك قلت يوم سئلت بعد ذلك: «هل تحب أن تعود عميدا؟» فأجبت: «إني أكبر من عميد وأصغر من أستاذ».
وقد استفدت من عمادتي فوائد كثيرة ... فخبرت أحوال الطلبة وأحوال الأساتذة، ومكنتني العمادة من أن أتصل بأعضاء مجلس الجامعة ... وكلهم من كبار أساتذة الجامعة، فأصغيت إلى جدلهم ووقفت على مدى نظرهم.
هذه فيما أعتقد أشهر الأيام في حياتي، وربما كان هناك غيرها له أثر أكبر منها، ولكنه يعمل في عقلي الباطن وينعكس في عملي الظاهر، ولكن لم ألتفت إليه ولم ألق إليه بالا ... فقد تكون حادثة جزئية صغيرة أو جملة قرأتها في كتاب قراءة عابرة لم ألتفت إليها كثيرا وقعت فجأة في عقلي الباطن فأخذت تكبر وتتوالد على مدى السنين وتعمل عملها الكبير في حياتي على غير شعور مني.
اعترافاتي
اعتاد الكتاب أن يقصروا الاعترافات على المسائل الجنسية التي اعتاد الإنسان أن يسرها ولا يجهر بها إلا لخواص أصدقائه، ولعل المسئول عن حصر الكلمة بهذا المعنى «جان جاك روسو» وأمثاله ممن قيدوا هذه الاعترافات، والقسس الذين يصغون إلى هذه الاعترافات، أما الكلمة نفسها فواسعة شاملة، تشمل هذا النوع وتشمل غيره من الفضائل التي اكتسبها الإنسان في حياته بعنف ومشقة.
وبعد هذا نذكر شيئا من الاعترافات على المعنى المشهور فنقول:
إنني رزقت عاطفة تهتز للجمال أيا كان سواء كان جمالا طبيعيا أو جمالا صناعيا، أو جمالا فنيا، وأذكر من هذا القبيل أني وأنا صغير سمعت رجلا ينشد على الدف في مدح النبي
صلى الله عليه وسلم
فتبعته من حارة إلى حارة حتى بعد العشاء، مع علمي بأن التأخر إلى هذا الوقت يستتبعه الضرب من أبي حتما.
ولي إلى الآن حاسة قوية في سماع الموسيقى وخاصة النغمات الحزينة.
وأذكر أيضا أني وأنا صبي عشقت صبية جميلة بنت جار لنا، فتعلمت من حبها ضنى الحب وعذابه ولوعته ... وكل ما فعلت أن كنت أنتهز الفرصة فأجلس إليها أمام دار أبيها، فلما اكتشف ذلك أبوها حجبها وحرمت من لقياها.
وعشقت مرة مدرسة لي إنجليزية كنت أتبادل معها الدروس العربية والإنجليزية، وأحببتها حبا يائسا ... لأنها كانت متزوجة وسعيدة بزواجها، ولكن جمالها وجمال عينيها جعلني أتمنى يوم درسها وأعده عيدا، ولولا أن الدين والعلم كبتاني لكنت إمام المحبين. •••
وعلى المعنى الواسع من معنى الاعترافات عاهدت الله من صغري أن أنصر الحق حيث كان، وقد لقيت في سبيل نصرته عناء لا يقدر في المجالس والمجتمعات، وخاصة في مجلس الجامعة؛ فقد كنت أصطدم أحيانا بأكبر الرجال عقلا، وأوسعهم شهرة، وأعظمهم قدرة، وأوذيت في سبيل ذلك كل الإيذاء حتى لقد كنت أتوقع في كثير من الأحيان أن أجد خبر إحالتي على المعاش، كلما حزب الأمر وجد الجد، ومع ذلك لم أعدل عن هذه الطريقة، وكنت مشربا فيها بروح القاضي العادل.
ومرة حرمت وظيفة كبيرة كنت مرشحا لها بسبب من هذه الأسباب؛ ذلك أني رشحت أستاذا للشريعة بكلية الحقوق، ثم عاقني عنها الانغماس في المبادئ السياسية على مذهب سعد، فلما علم عني ذلك حرمت من الوظيفة، فقلت: لا بأس، وعوضني الله عنها أستاذا بكلية الآداب، ولكن بعد وقت طويل. •••
وأعترف أني أحب الخير للناس خصوصا من أعرفهم، وأفرح لنجاحهم أو رقيهم، ولكني مع هذا الحب غيور ... فبجانب هذا الفرح أغضب إذا أنا حرمت من مثل ما نالوا خصوصا إذا كنت أعتقد أني لست أقل منهم علما وذكاء، وأذكر أني بكيت طويلا عندما كان ترتيبي الثاني في مدرسة القضاء الشرعي ... لعلمي أني لست أقل من الذي كان الأول، إلا أنه أجد مني في العمل وأكثر في التحصيل، ولا تزال هذه عادتي إلى اليوم ... فإذا سمعت محاضرة في الجامعة أو في المجمع أو في غير ذلك فرحت بها وحمدت قائلها، ولكني غرت لأني لم أقل مثلها، كذلك إذا ألف أحدا كتابا جيدا حمدته وأطريته، ولم أترك مجلسا من المجالس إلا ذكرته، ولكن حز في نفسي أني لم أؤلف مثله. •••
وقد علمتني الأحداث أن المدافع عن الحق لا بد أن ينال يوما جزاءه؛ فقد يعذب وقد يهان وقد ينتقم منه ... ولكن أخيرا يعترف بفضله، ويمجد لموقفه على شرط واحد، وهو أن يكون معتدلا في طلبه للحق، وأن يطلبه من غير تجريح لخصومه، وأن يطلبه في لباقة ومهارة، فإن أخل بهذا الشرط، فالذنب ذنبه ليس ذنب الحق؛ وذنب وسائله لا ذنب الحق نفسه.
كما علمتني التجارب أن الناس إزاء هذا أصناف ثلاثة: قليلون جدا ينصرون الحق ويتشجعون في الجهر به والدفاع عنه، وقليلون أيضا مجرمون يقفون في وجه الحق لأسباب تافهة، ومصالح شخصية كاذبة عاجلة، وأكثر الناس يحبون الحق ويحبون نصرته، ولكن ينتظرون أحدا يجهر به ليكونوا أتباعه، فإذا جهر به تبعوه؛ وهم إلى نصرة الحق أقرب منهم إلى نصرة الباطل؛ وإلى نصرة المدافع عن الحق، ولو كان صغيرا، أقرب من أن ينصروا الباطل أو المبطل ولو كان كبيرا.
ومن هذا النوع الشامل اعترافي بأني جبان بقدر شجاعتي في قول الحق ... أخاف التعذيب، وأخاف السجن، وأخاف الشنق، وربما كان هذا هو السبب في أني أفضل العلم على السياسة، فالعلم طريق غير محفوف بالأشواك، والسياسة طريق وعر محفوف بالأشواك وربما كان هذا أيضا هو السبب في أني تخلفت عن زملائي السياسيين حيث تقدموا إلى أن كانوا رؤساء وزارة، وقد كنت زميل المرحومين أحمد ماهر باشا ومحمود باشا فهمي النقراشي، ولكن خفت من القنابل إذ لم يخافا، وخفت من السجن إذ لم يخافا، وتقدما وتقاعدت، وبرزا واختفيت، ولعل هذا أيضا هو السبب في أني لما كنت أحد أعضاء المائدة المستديرة في مؤتمر فلسطين في لندن 1946 خطب مستر بيفن خطبة طويلة فحضرت عندي معان للرد عليه ... خلت أنها جيدة، ولكن عاقني عن الرد خوفي من أن تكون آرائي في السياسة فجة، وخوفي من ضعفي في اللغة الإنجليزية ... فسكت وصمت، وتكلم غيري، ولم تكن معانيه خيرا من معاني التي كنت انتويت أن أقولها.
ومن ذلك خوفي على عرضي وشرفي أن يمسهما سوء، وعلى العكس من ذلك عدم خوفي من نقد آرائي وكتبي؛ وأذكر أني كتبت مرة مقالات في جناية الأدب الجاهلي على الأدب العربي؛ فخصص الأستاذ ذكي مبارك مقالات للرد عليها كل أسبوع نحو ثلاثة أشهر، فلم يؤلمني نقد آرائي، ولكن مرة زل قلمه فتعرض لخلقي وشرفي، فغضبت من ذلك غضبا شديدا، بل ربما استحثثت الناس على نقد آرائي وأفكاري، علما بأن تقريظ هذه الآراء والأفكار ونقدها على حد سواء في خدمة الفكرة والرأي، بل قد يفيد النقد أكثر مما يفيد التقريظ، والحق لا يظهر إلا بعرض الآراء المخالفة كلها، كالمصباح لا تتجلى قوته إلا بقدر ما يجليه من الظلام.
المعتزلة والمحدثون
كان للمعتزلة منهج خاص أشبه ما يكون بمنهج من يسميهم الفرنج العقليين، عمادهم الشك أولا، والتجربة ثانيا، والحكم أخيرا، وللجاحظ في كتابه «الحيوان» مبحث طريف عن الشك.
وكانوا وفق هذا المنهج لا يقبلون الحديث إلا إذا أقره العقل، ويؤولون الآيات حسب ما يتفق والعقل، كما فعل الزمخشري في الكشاف، ولا يؤمنون برؤية الإنسان للجن؛ لأن الله تعالى يقول:
إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم
ويهزءون بمن يخاف من الجن، ولا يؤمنون بالخرافات والأوهام، ويؤسسون دعوتهم إلى الإسلام حسب مقتضيات العقل وفلسفة اليونان، ولهم في ذلك باع طويل، ولا يؤمنون بأقوال أرسطو لأنه أرسطو، بل نرى في الحيوان أن الجاحظ يفضل أحيانا قول أعرابي جاهلي بدوي على قول أرسطو الفيلسوف الكبير.
هكذا كان منهجهم، وهو منهج لا يناسب إلا الخاصة، ولذلك لم يعتنق الاعتزال إلا خاصة المثقفين، أما العوام فكانوا يكرهونه.
وجرهم هذا المنهج إلى تشريح الصحابة والتابعين كما يشرح سائر الناس، فهم في نظرهم عرضة للخطأ كما يخطئ الناس، فلم يتورعوا عن أن ينقدوا أبا بكر وعمر وعثمان، ولم يمنعهم أن يفضلوا بعضهم على بعض، ومن أجل هذا كانوا أقرب إلى الشيعة من المحدثين، بل كان بعض المعتزلة شيعة.
ويقابل هذا المنهج، منهج المحدثين، وهو منهج يعتمد على الرواية لا على الدراية، ولذلك كان نقدهم للحديث نقد سند لا متن، ومتى صح السند صح المتن ولو خالف العقل، وقل أن نجد حديثا نقد من ناحية المتن عندهم، وإذا عرض عليهم أمر رجعوا إلى الحديث ولو كان ظاهره لا يتفق والعقل، كما يتجلى ذلك في مذهب الحنابلة.
وكان من سوء الحظ أن تدخل المعتزلة في السياسة ولم يقتصروا على الدين، والسياسة دائما شائكة، فنصرهم على ذلك المأمون والواثق والمعتصم، وامتحنوا الناس وأكرهوهم على الاعتزال، فكرههم العامة واستبطلوا الإمام ابن حنبل الذي وقف في وجههم، فلما جاء المتوكل انتصر للرأي العام ضدهم ، وانتصر للإمام أحمد بن حنبل على الجاحظ وابن أبي دؤاد وأمثالهما، ونكل بهم تنكيلا شديدا، فبعد أن كان يتظاهر الرجل بأنه معتزلي، كان الرجل يعتزل ويختفي، حتى عد جريئا كل الجراءة الزمخشري الذي كان يتظاهر بالاعتزال، ويؤلف فيه، ولم يكن له كل هذا الفضل؛ لأنه أتى بعد هدوء الثورة التي حدثت ضد الاعتزال. •••
فلنتصور الآن ماذا كان يكون لو سار المسلمون على منهج الاعتزال إلى اليوم؟ أظن أن منهج الشك والتجربة واليقين بعدهما كان يكون قد ربي وترعرع ونضج في غضون الألف سنة التي مرت عليه، وكنا نفضل الأوربيين في فخفختهم وطنطنتهم بالشك والتجربة التي ينسبونها إلى بيكون مع أنه لم يعمل أكثر من بسط مذهب المعتزلة.
وكان هذا الشك وهذه التجربة مما يؤدي حتما إلى الاختراع، وبدل تأخر الاختراع إلى ما بعد بيكون وديكارت، كان يتقدم مئات من السنين، وكان العالم قد وصل إلى ما لم يصل إليه اليوم ، وكان وصوله على يد المسلمين لا على يد الغربيين، وكان لا يموت خلق الابتكار في الشرق ويقتصر على الغرب؛ فقد عهدنا المسلمين بفضل منهج المحدثين يقتصرون على جمع متفرق أو تفريق متجمع، وقل أن نجد مبتكرا كابن خلدون الذي كانت له مدرسة خاصة، تلاميذها الغربيون لا الشرقيون.
فالحق أن خسارة المسلمين بإزالة المعتزلة من الوجود، كانت خسارة كبرى لا تعوض.
ثم بدأ المسلمون ينهجون منهج الحضارة الغربية تقليدا من الخارج لا بعثا من الداخل، وشتان ما بينهما، فالتقليد للخارج بث فيهم ما يسميه علماء النفس مركب النقص، فهم يرون أنهم عالة على الغربيين في منهجهم، ولو كان من أنفسهم لاعتزوا به وافتخروا، ولكن ما قدر لا بد أن يكون، ولله في خلقه شئون.
الإسلام والمدنية الحديثة
مما يؤسف له أن المسلمين لم يتابعوا النهضة الأوربية منذ نشأتها، ولم يكونوا يعرفون عنها شيئا؛ إذ كانت البلاد الإسلامية مغلقة على نفسها، لا تتصل اتصالا وثيقا بالعالم الأوروبي إلا عن طريق تجارة ضئيلة، أو أحداث سياسية قليلة، أما ما يجري في أوروبا منذ نهضتها من حركة علمية وصناعية، ونهضة قومية، وثورات لمطالبة الشعوب بحقوقها، ونحو ذلك، فلم يكن المسلمون يعرفون عنه شيئا، ولو أنهم عرفوا ذلك وجاروا الغربيين في نهضتهم لكان لهم شأن آخر.
إنما عرف المسلمون المدنية الغربية عن طريق سيئ جدا، وهو طريق الفتح والاستعمار، وعرفوا المدنية الغربية من صوت المدافع تفتك بهم، وتغزو بلادهم، فلا عجب إن كانوا قد قابلوا بكثير من الكره والبغض، وكان ذلك طبيعيا، ولو أن هذه المدنية تقدمت في شكل تقدم إنساني يصح أن يحتذى، لقابلها المسلمون بكل أنواع الارتياح وسعة الصدر، ولفتحوا قلوبهم كلها للاستفادة منها.
إنما أتتهم في شكل حديد ونار، واكتساح واستغلال، ففزعوا منها، وصدوا عنها.
نعم، إنهم استفادوا منها كثيرا، فاستخدموا مخترعاتها، واقتبسوا كثيرا من معارفها وعلومها وصناعاتها ونحو ذلك، ولكن كل هذا لا يساوي ما خسروه بسببها، لقد فقدوا بها حريتهم واستقلالهم وسيادتهم.
لقد كان طابع المدنية الحديثة طابعا قوميا، فكل أمة ترى الخير في مصلحتها الخاصة بها، ولا تعترف بأي مصلحة لغيرها، وتزعم أنها أحق بالسيادة على الأمم الأخرى المستضعفة، وخدم العلم والأدب والتربية هذه النزعة القومية حتى بلغت القمة، ونشأ عن ذلك مقياس أخلاقي جديد، وهو أن ما كان في مصلحة الأمة فخير مهما ضر الآخرين، وما ضر الأمة فشر مهما نفع الآخرين، وساد في كل أمة أوربية الشعور بالكره لغيرها والخوف من غيرها، فإنجلترا تكره ألمانيا وتخافها، وألمانيا تكره إنجلترا وتخافها، وهكذا العلاقات بين الدول، فإن كان هناك مسالمة وتودد فأمر ظاهري فقط، ورياء ونفاق لا حب وإخلاص، وظل هذا هو الشان في المدنية الحديثة من عهد أن تكونت القومية إلى اليوم. •••
وكل أمة أوروبية قوية تعبد المجد؛ ومعنى المجد حب العظمة والسيطرة والاعتزاز بالقوة، وكان من أثر هذا المجد عند كل أمة كبيرة رغبتها في أن تسيطر على أكبر رقعة من الأرض تستطيع السيطرة علبها، وفي أن يكون لها مستعمرات أو ممتلكات واسعة فسيحة، وهذا المجد القومي غير المجد الخلقي، فالمجد الخلقي هو العمل على وفق القوانين الأخلاقية العالمية من عدل ووفاء وإحسان ونحو ذلك، أما المجد القومي فهو سيطرة واستغلال وتسخير للأمم الضعيفة لمصلحة الأمم الكبيرة، ولو اضطرها ذلك إلى إسالة الدماء البريئة، وإذلال الأعزة، ورفع شأن الأذلة، وهذا ليس من الأخلاق في شيء، والسياسي الماهر في المدنية الحديثة هو من استطاع أن يذل الأمم المحكومة ويكبت صوتها، ويعلي من شأن أمته ويظهر سيطرتها.
ولما تغلبت الوطنية وحب المجد على أمم أوربا وأمريكا تنافست في السيطرة؛ طلبا لهذه العزة الكاذبة، فتسابقوا جميعا للاستعمار، وكان الاستعمار في نظرهم هو إخضاع الأمم المستعمرة وإذلالها ما أمكن، واستغلال مواردها، وفتحها سوقا لتجارتها ومنافعها، ولا عبرة عندها بخلق أو فضيلة، حتى لو رأت الأمة الفاتحة أن تجارة الخمر، أو الأفيون، أو المخدرات عموما، أو الرقيق الأبيض، أو نحو ذلك مما يفيد استعمارها؛ لو لم تتورع عنه لأنها لا تقصد إلى سمو في الخلق، ولا نبل في الفضيلة، وإنما كل ما تقصد هو العزة القومية، والمجد الكاذب، بالمعنى الذي ذكرنا.
وليس هناك أي شعور إنساني، من الأخذ بيد الضعيف، وتعليمه علما نافعا، وترقيته، حتى ينهض بنفسه أو نحو ذلك، فهذا المعنى الإنساني معدوم في نظر الاستعمار الغربي.
على هذه الأسس، استعمرت البلاد الإسلامية، وتقسمتها إنكلترا وفرنسا وإيطاليا وهولندا وغيرها، وكانت كلها سواء في هذين الأساسين، وهما تقويم المسائل حسب القومية، لا حسب الإنسانية، والعمل للمجد القومي والمنفعة القومية، بإذلال الأمم المفتوحة، واستغلالها وإضعافها، فليست تقدم لها علما إلا علما ضعيفا لإخراج موظفين يخدمون الاستعمار، وليس هناك استغلال ثروة إلا لمصلحة الفاتح دون مصلحة المفتوح.
وهكذا أضعفت المدنية الأقطار الإسلامية، واستنزفت أموالها ودماءها وأخلاقها من غير مراعاة لأي شعور إنساني، أو إخاء إنساني، أو عطف كبير على صغير، أو مساعدة قوي لضعيف، وليس هناك من فرق بين هذه الأمم إلا في الأسلوب، لا في الجوهر والحقيقة.
ومما يستدعي العجب، أن المدنية الحديثة كرهت الإسلام والمسلمين أشد كراهة، بل إن كراهيتها للإسلام والمسلمين أشد من كراهيتها لسائر الأديان الأخرى، من يهودية وغيرها، بل أشد من كراهيتها للوثنية؛ فهي تكره المسلمين أشد مما تكره البوذيين وسائر الوثنيين، وتظهر هذه الكراهية في سوء المعاملة وحب الانتقام، وظلم ما يصدر عنها من أحكام؛ وإذا كان هناك نزاع بين مسلمين وغير مسلمين وتدخلت المدنية الحديثة فإنما تتدخل للإيقاع بالمسلمين والتنكيل بهم، يتجلى ذلك في حكم الإنجليز للهند وتمييزهم في المعاملة بين المسلمين والهندوكيين، وفي المظهر الحديث في النزاع القائم بين المسلمين واليهود إلى كثير من أمثال ذلك.
وعلة هذا تستوقف النظر؛ فليست المسألة مسألة خصومة بين الإسلام والمسيحية، ولو كان الأمر كذلك، لكان المعقول أن يكون الإسلام أقرب إلى المسيحية من أي دين آخر، وعلى الأقل أقرب إلى المسيحية من المسيحية إلى الوثنية، فليس الأمر أمر دين فحسب، ولكن يظهر أن هذه الخصومة والكراهية ترجع إلى أسباب أعمق من ذلك، منها ما خلفته الحروب الصليبية من الخصومة؛ فقد أراد الصليبيون أن يستولوا على الأقطار الإسلامية، وبذلوا في ذلك من الجهود الجبارة ما يعرفه التاريخ، واستعملوا للتغلب على المسلمين كل الوسائل الصادقة والكاذبة، فجمعوا كل قوتهم المادية، ونشر القساوسة كل ما استطاعوا من تضليل وكذب، وافتراء على الإسلام، حتى صوروا الإسلام وصاحبه أبشع صورة وأفظعها، فلما لم ينجحوا مع ما بذلوا من كل هذه الجهود عادوا وهم يحملون الحقد والضغينة على الإسلام والمسلمين، وأورث السلف هذا للخلف.
هذا سبب، وهناك سبب آخر، وهو أن الإسلام أنجح الأديان في منافسة النصرانية بين الشعوب الوثنية، على الرغم من ضعف التبشر في الإسلام، وقلة ما يبذل من جهد في نشره، ومع قوة التبشير في المسيحية، وما يبذل في سبيل ذلك من جهود وأموال، فهذا التنافس بين الإسلام القوي والمسيحية سبب كراهية ونفورا؛ لأن الكراهية والنفور تشتد بين الأقوياء أكثر مما تشتد بين قوي وضعيف.
ومن الأسباب أيضا أن الإسلام يبث في معتنقيه العزة، وأن تكون كلمة أهله هي العليا، وكلمة غيره هي السفلى، ويحث على مقاومة حكم الغير، وعدم الخضوع للأجنبي، وهذا ما يغيظ الاستعمار كل الغيظ، وهل أتاك حديث زعيم فرنسي يحمل على تعليم العلوم باللغة العربية في بلاد المغرب؛ لأن اللغة العربية وسيلة للإسلام، والإسلام يناهض الاستعمار، فإذا علمنا بالعربية فقد مكنا من مناهضة حكم الأجنبي.
هذه الأسباب وغيرها هي التي حملت المدنية الحديثة على مناهضة الإسلام والمسلمين، والتنكيل بهم، وإقفال طريق الرقي أمامهم، وكان الواجب أن يشعر المسلمون بذلك كل الشعور، فيزيدوا قوتهم، ويبذلوا كل جهدهم في تكوين أنفسهم وإعلاء كلمتهم واستقلالهم بأنفسهم، وادخار القوة لمكافحة القوة.
لقد فتح الإسلام كما فتحت المدنية الحديثة، ولكن كان أساس فتحه نشر العدل والأخذ بيد المفتوحين، والرقي بهم في سلوكهم وأخلاقهم ودينهم، وأن لأهل الذمة من الحقوق ما للمسلمين، ولكن الفتح الغربي فتح جباية واستغلال، لا فتح سمو في الأخلاق، ولا نشر لمبادئ إنسانية، ولا أخوة عالمية، لا شيء من ذلك، إنما هو فتح لأسواق تجارية، واستعباد من القوي للضعيف، ومن العالم للجاهل.
فليفتح المسلمون أعينهم ليروا كل هذا وليبنوا خططهم على أن لا أمل إلا في أنفسهم، وإلا ببذل كل جهد في تقويتهم ماديا وروحانيا، وإلا بجمع كلمتهم ووحدتهم وهدم تفرقهم وتعاونهم التام للعمل أمام الخصم الذي يسعى للتنكيل بهم، ووضع العراقيل في سبيل تقدمهم، والله يوفقهم.
الجامعة الإسلامية
يعنون بها الرابطة التي تربط بين المسلمين في مختلف الأقطار من فرس وترك وعرب، وقد كانت كلمة مفزعة لأوربا في القرن الماضي، وليس صحيحا ما قاله المرحوم سعد باشا زغلول: «إن صفرا وصفرا يساوي صفرا» بل الصحيح أن «ناقص خمسة في ناقص خمسة يساوي زائد خمسة وعشرين»، فكل دولة وحدها قد لا تساوي شيئا ولكنها جميعا تستطيع الوقوف أمام الاستعمار الأوربي، وإذا كان الأوربيون يتكتلون على الباطل لمحق المسلمين، فأولى أن يتكتل المسلمون على الحق لدفع كارثة الاستعمار.
وقد كان أول من نادى بها في هذا العصر الحديث السيد جمال الدين الأفغاني، وخلفه الشيخ محمد عبده والسيد عبد الرحمن الكواكبي، غير أن طريقة السيد جمال الدين كانت قوية عنيفة؛ إذ كان يريد الثورة على الملوك والأمراء في الداخل، وإشعال نار الشعوب ضد الخارج، أما الشيخ محمد عبده فكان في ذلك هينا لينا يريد الجامعة الإسلامية من طريق التربية والتعليم، والسيد عبد الرحمن الكواكبي كان أقرب إلى السيد جمال الدين الأفغاني، وكان أشد في محاربة الأمراء، وألف في ذلك العهد كتاب «طبائع الاستبداد ضد السلطان عبد الحميد»، كما ألف أم القرى لرسم خطة الجامعة الإسلامية، ولم تطق أوربا صبرا على جريدة العروة الوثقى التي كان يصدرها السيد جمال الدين في باريس، فأغلقتها بعد صدور العدد الثامن عشر، وكان السلطان عبد الحميد يحارب هذه النزعة أولا، ثم أراد أن يحتضنها وأهلها أخيرا، لما تبين له هو نفسه من نفعها، وكان الشيخ علي يوسف يبشر بهذه الدعوة في جريدة المؤيد؛ إذ كان ينشر فيها أخبار العالم الإسلامي والآراء في تكتله، وكذلك مجلة المنار؛ إذ كانت تعبر عن آراء الشيخ محمد عبده، والسيد رضا، ثم خفتت الدعوة بوفاة السلطان عبد الحميد الذي كان يحميها.
وأيما كان؛ فقد أحس الأوربيون بخطر هذه الدعوة، وحاربوها بكل قوتهم: بصحفهم ومؤتمراتهم وكل قوة لديهم، لما تبين لهم من قوتها وخطرها إذا تحققت، واستنجد بعض الأوربيين الشعوب المسيحية طالبين إعانة سنوية، والنهضة المبشرين، وتعيين بالمبشرين الكبار في الجهات التي يوجد فيها مسلمون، ونشر الرسائل، وإنشاء مجلة لمقاومة فكرة الجامعة الإسلامية، ونشر جريدة لبيان الأفكار التي تطبع مؤيدة للجامعة الإسلامية، وهكذا وكان من نتيجة ذلك أن اجتهد رئيس المبشرين وهو المستر «زويمر» في عقد مؤتمر للنظر في هذه الحالة، فانعقد المؤتمر في سبتمبر 1911م، وكان هذا الموضوع، موضوع الجامعة الإسلامية وكيفية مقاومتها، من أهم موضوعاته، وخصص لجنتان منه لهذا الغرض، وقد افتتح الرئيس زويمر المؤتمر بأن بدأ يدعوه للبحث في الوسائل التي يمكن بها مقاومة الإسلام، وكان يتبع المؤتمر غرفتان عرضت فيهما الغرائب المتعلقة بالإسلام مع مطبوعات جمعية التوراة التبشيرية، واشترك في هذا المؤتمر 168 مندوبا و113 مدعوا عن أربع وخمسين جمعية تبشيرية، وعلى رأس المؤتمرين القسيس زويمر الذي تصفه جريدة فرنسية بأنه لا يهزم، وبأنه درس الإسلام في شعوبه، ومنع الصحفيون الإنجليز والأمريكان من شهود هذا المؤتمر، ولم توزع عليهم النشرات إلا بعد تنقيحها، وقد قال الرئيس في مجلة العالم الإسلامي: إن الإسلام تمخض في السنوات الخمس الأخيرة التي أعقبت مؤتمر مصر، عن حوادث خارقة لم يسبق لها نظير؛ ففيها حدث الانقلاب الفارسي، والانقلاب العثماني، وفيها انتبهت مصر لحرتها الحاضرة، وعني المسلمون بمد السكة الحديدية، وتأسست في الهند مجالس شورية، ودخلت الأمور الإسلامية في قالب يلائم العصر، ازداد به التمسك بمبادئ الإسلام، وانتشر الإسلام في أفريقيا والهند الغربية والجزائر الجنوبية.
وكل هذه الحوادث، تحتم على الكنيسة أن تعمل بحزم وجد، وتنظر في أمر التبشير والمبشرين بكل عناية، وعلى ذلك فسيوضع برنامج للأمور الآتية:
درس الحالة الحاضرة.
إنهاض الهمم لتوسيع نطاق تعليم المبشرين والتعليم النسائي.
إعداد القوات اللازمة ورفع شأنها.
وقد حز في نفس الرئيس ما صارت إليه حالة المسلمين وارتقاؤهم، وكان مما قاله: إن لفظة العالم الإسلامى ليست شيئا اخترعه المبشرون ، وإنما هو حقيقة موجودة، كلمة دقيقة تدل على موقف حقيقي، وقال: إن عدد المسلمين يزيد قليلا على مائتي مليون، والتبشير فيهم يحتاج إلى نفقات طائلة، خصوصا وأن الإسلام ينتشر بسرعة، والمبشرون المنتشرون على ضفتي النيل وشرقي أفريقيا وبلاد النيجر والكنغو، يشكون مر الشكوى من انتشار الإسلام بسرعة في هذه الأنحاء، ومع أن انتشار الإسلام في الهند يجد موانع من مجهودات جمعيات التبشير الهولندية والألمانية، فهو يتوطد هناك؛ لأن المسلمين أخذوا يستبدلون بالتقاليد القديمة عقائد ثابتة قوية، وانتقل الرئيس إلى وصف الانقلابات التي حدثت في البلاد الإسلامية، وحمد الله عليها، وأثنى على احتلال الجيش الفرنسي لمقاطعة «واداي» في إفريقيا، وقال:
إنه لم يبق الآن إلا 37 مليون و128 ألف و800 - آحاد، تحت سلطة حكومة إسلامية، وقال: إن الإسلام الإسلام بدأ يتنبه لحقيقة موقفه ويشعر بحاجته إلى تلافي الخطر، وهو يتمخض عن ثلاث حركات إصلاحية، الأولى: إصلاح الطرق الصوفية، والثانية: تقريب الأفكار من الجامعة الإسلامية، والثالثة: إفراغ العقائد والتقاليد القديمة في قالب معقول، وأشار إلى قول الدكتور و.شيد: إن الإسلام يتحكك في كل قطر بالمدنية العصرية ومبادئها، وقال: إنه ليس في الإمكان التقدم الاجتماعي والعقلي إذا خلوا من كل صبغة دينية. وانتقل زويمر بعد ذلك إلى استنهاض الكنائس لمقاومة المسلمين، ونشر التبشير بينهم، وختم القسيس كلامه بقوله: إذا نظرنا إلى البلاد التي يحكمها هذا الدين الكبير المخاصم لنا، وإلى البلاد التي يتهددها بحكمه، يظهر لنا أن كل واحدة من هذه البلاد هي رمز لعنصر من المعضلة الكبرى؛ فمراكش في الإسلام مثال للانحطاط، وفارس مثال للانحلال، وجزيرة العرب مثال للركود، ومصر مثال لمجهودات الإصلاحات، والصين مثال للإهمال، وجاوة مثال للتغير والانقلاب، والهند مركز للتحكك بالإسلام، وإفريقيا الوسطى مكان للخطر الإسلامي، وهذه كلها مشاكل يحتاج الإسلام معها قبل كل شيء إلى المسيح. •••
من المؤسف أن حاجة المسلمين إلى الجامعة الإسلامية هي اليوم كما كانت ولم تتقدم كثيرا، ولم تكف أوربا عن مناهضتها، وكل حادثة من الحوادث الكبار تؤيد الرأي القائل بأن المسلمين لا تقوم لهم قائمة إلا بهذه الجامعة، وآخر حادثة كانت هي حرب فلسطين؛ فإن العالم العربي لم يتحد على مقاومة اليهود كما اتحدت إنجلترا وأمريكا على مناصرتهم، فضلا عن عدم اتحاد العالم الإسلامي، ولو ظل الأمر على هذا النحو فلم يتعظوا بهذا ولم يلموا شملهم، فستضيع كل يوم بلاد إسلامية جديدة، فهل يتعلم المسلمون اليوم هذا الدرس، بما أصابهم من فشل! أو سيبقون كما هم حتى يلدغوا من جحر واحد مرتين وثلاثا لا قدر الله؟!
إن الجواب عن هذا السؤال ملفوف بحجاب المستقبل.
النهضات الفكرية في الإسلام
1
يسرني أن أتحدث إلى حضراتكم في سلسلة أحاديث عن النهضات الفكرية في الإسلام، وأبدأ اليوم بحديث عن الإسلام نفسه كنهضة؛ لأن الإسلام غير عقلية العرب التي كانوا يعيشون بها في الجاهلية، فعد مجيئه من غير شك نهضة فكرية؛ ذلك أن الإسلام لما أتى بتعاليم ومبادئ غير المبادئ التي كانوا يعيشون عليها في الجاهلية من نواح كثيرة، وأصف لحضراتكم وصفا موجزا لحياة العرب في الجاهلية، ثم حياتهم في الإسلام.
لقد كانت حياتهم في الجاهلية حياة غارات وحروب مستمرة، وقد كانت الحرب نفسها موردا من موارد كسب العيش، فإذا احتاجت قبيلة إلى مورد عيش حاربت الأخرى وسلبتها، لا ترعى في ذلك عدلا ولا نظاما، فجاء الإسلام فغير هذا المعنى وسمى نفسه الإسلام من مادة السلام، وجاء في القرآن:
وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما .
وربما كانت هذه الآية هي المفتاح الذي نصل به إلى معرفة السبب في تسمية عهده بالإسلام، ثم كان فهمهم للعدل والظلم فهما غريبا، لقد سئل شيخ قبيلة ما العدل وما الظلم؟ فقال: العدل أن أغير على إبل جاري فآخذها، والظلم أن يغير جاري على إبلي فيأخذها. وذلك ناشئ من أن العدل والظلم كانا تابعين للأرستقراطية الجاهلية، فرئيس القبيلة أو العظيم كائنا من كان في قبيلته كان له الحق أن يفعل ما يشاء من غير أن يؤاخذه أحد على ظلمه، وأما الفقير المسكين فلا حق له ولا عدل معه، ولذلك كان بعض الناس في الجاهلية قد تنبهت ضمائرهم قبيل الإسلام وأرادوا أن يضعوا حدا لهذا الظلم الصارخ الذي لا ينال فيه الفقير المسكين أي حق، وينال فيه العزيز في قومه كل حق، بل ينال فيه ما ليس له فيه حق، لذلك يحدثنا التاريخ أنه قبيل البعثة نشأ حلف في مكة اسمه حلف الفضول، سببه أنهم رأوا أن بعض الناس في مكة يبيع بضاعته لعظماء فلا يدفعون لأصحابها ثمنها، من ذلك أن رجلا من ذبيب قدم مكة ببضاعته فاشتراها منه العاصي بن وائل وكان عظيما في قومه، فلم يدفع له ثمنها، فاستعدى عليه بعض الناس وطلب مساعدتهم فلم يعينوه، ومن ذلك أن بعض هؤلاء العظماء كانوا يستجملون بعض الفتيات في الأسواق فيخطفونهن ثم لا يردونهن إلى أهلهن، كما روي أن رجلا من خثعم قدم مكة ومعه بنت له فاغتصبها وجيه من وجهاء العرب، كل هذه الحوادث وأمثلاها حركت نفوس بعض الناس، فتحالفوا أن يكونوا يدا واحدة مع المظلوم على الظالم حتى يؤدي إليه حقا، فكان حلف الفضول بذلك الوضع محكمة عدل بدائية يلجأ إليها كل من اغتصب منه حق.
وقد حدث هذا الحلف في عهد النبي
صلى الله عليه وسلم
قبيل بعثته، وفي الحديث أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قال: لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو دعيت إليه في الإسلام لأجبت.
فلما جاء الإسلام أكمل هذه النزعة وطالب بالعدل على أدق معنى وأوسعه، فالغني والفقير أمام العدل سواء، وصاحب الجاه وعديم الجاه سواء، بل أكد معنى آخر أدق وهو أنه يجب على الإسلام العدل مع من أحب أو كره.
يقول الله تعالى:
ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى ، أي لا يحملنكم بغضكم لقوم على ألا تعدلوا معهم، بل يجب ألا تحسبوا حسابا للحب أو الكره أمام العدل، فالعدل واجب مع من أحببت أو كرهت، كما طلب العدل في الحرب والسلام على السواء، وبين الأقارب والأباعد على السواء، فكان في ذلك مخالفة لحياة الجاهلية كل المخالفة.
على كل حال كان من أهم أعمال الإسلام وضعه قائمة بقيم جديدة للأشياء غير القيم التي كانت لها في الجاهلية، وهل الفرق بين أمة راقية وأمة غير راقية إلا قائمة القيم؟ فالأمة الراقية تضع في أولها أحسن الأشياء وأغلاها وأعزها، وفي أسفل القائمة أتفهها وأدونها، والأمة غير الراقية تضع في أول القائمة أتفه الأشياء ولا تضع أعزها أو تضعها في آخرها.
لقد كان في أول القائمة الجاهلية الانتقام والأخذ بالثأر، وكان أحسن خلق عندهم المروءة، وهي كلمة لا حد لها وتشمل الشجاعة التي لا حد لها، حتى لو استنجد رجل بآخر فهذا الشهم ينجده مطلقا من غير سؤال هل هو محق أم مخطئ، ولذلك كانوا يقولون دائما: «انصر أخاك ظالما أو مظلوما»، فلما جاء الإسلام غير معنى هذه الجملة بأنه يجب على الإنسان أن ينصر المظلوم وأن ينصر الظالم، أن ينصر المظلوم بإعانته على تحصيل حقه، وأن ينصر الظالم بردعه عن ظلمه.
كان العرب في جاهليتهم يتمدحون بخصلتين يعدانهما خير الفضائل، وهي الشهامة التي لا حد لها والكرم إلى حد الإسراف، ويعدون من خير الفضائل الإخلاص التام للقبيلة والقسوة في الانتقام، فجاء الإسلام وغير هذا كله، فجعل المبدأ الأول الخضوع لله والانقياد لأوامره، وإخضاع منافع الشخص ومنافع قبيلته لأوامر الدين.
ولئن كان العربي الجاهلي يجعل نصب عينيه الشره وجمع المال وأخذ نفائس الأشياء إذا غنمت قبيلته، والتفاخر بالتكاثر والكبر والعظمة، فالإسلام أمر بالقناعة وعدم التكاثر بالأموال وتجنب الكبر والعظمة، وجعل للحياة مثلا عليا جديدة ربما يجمعها قوله - تعالى:
ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون .
فنحن إذا قارنا بين المثل الأعلى في الإسلام والمثل الأعلى في الجاهلية وجدنا الفرق كبيرا بينهما، حتى لقد يصح أن نسمي ما أتى به الإسلام نهضة فكرية، وربما وضح الفرق أيضا بين الجاهلية والإسلام الحديث الذي حدث به جعفر بن أبي طالب النجاشي حين هاجر هو ومن معه إلى الحبشة من ظلم أهل مكة فسأله النجاشي عن حاله فقال: «كنا قوما أهل جاهلية نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونقطع الأرحام ونسيء الجوار ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نعبده من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن قول الزور وأكل مال اليتيم، وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئا، فعدا علينا قومنا فعذبونا ومنعونا عن ديننا، فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلادك».
وهو يلفت نظرنا إلى أن من أهم الفروق بين الحياة الجاهلية والحياة الإسلامية نوع العبادة، فعبادة الجاهلية عبادة أحجار وأوثان، وعبادة الإسلام عبادة إله واحد، وفرق كبير من ناحية النهضة الفكرية بين عبادة هذا وعبادة ذاك، عبادة الأحجار والأوثان تذل النفس وتضعها وتشل العقل وتدسه في التراب، وعبادة الله وحده رب العالمين وخالق السموات والأرضين ترفع النفس وتعزها حتى أمام الملوك والأمراء؛ لأنهم مثله عبيد الله، وهو وحده مدبر أمرهم ومسيرهم، فمن اعتقد بإله واحد خالق كل شيء ومدبر كل شيء عزت نفسه ولم ير أحدا سيدا عليه غير الله، وأن الخلق مهما عظموا تساووا معه في عبوديتهم لله.
كل هذه الأمور نهضت بالعرب وغيرت نفسيتهم، وبعد أن كانوا ينظرون إلى الفرس والروم نظرة خضوع وذلة أصبحوا ينظرون إليهم على أنهم خير منهم؛ إذ يقول الله تعالى لهم:
كنتم خير أمة أخرجت للناس .
لذلك ارتفع شأنهم أمام أنفسهم، وعلت روحهم المعنوية، واستطاعوا أن يحاربوا فارس والروم ويخضعوهم لهم، وما كانوا يستطيعون ذلك لو بقوا على روحهم الجاهلية؛ فقد قضوا في جاهليتهم أجيالا وأجيالا وهم في استكانة وامتهان أمام عظمة الفرس والروم، إن حاربوا فإنما يحارب بعضهم بعضا، وإن نهبوا فإنما ينهب بعضهم من بعض، أما أمام غيرهم فأذلاء جبناء، ثم نهضوا بالإسلام نهضتهم فتكونوا أمة واحدة، وارتفعت نفوسهم فأصبحوا أمة تخشاها الأمم.
لقد جاء الإسلام فجعلهم يؤمنون بالجنة والنار، فمن قتل في الحرب قتل شهيدا، ومن عاش عاش عزيزا، فبث ذلك في نفوسهم روحا غريبة يرويها التاريخ، فكان إذا جد الجد باعوا أرواحهم بيع السماح ولم يذلوا ولم يستكينوا وضحوا بأموالهم، وبأنفسهم إذا دعت الحال.
ولم يكن هذا الانتقال من حياة جاهلية إلى حياة إسلامية بالأمر اليسير السهل، فالناس عبيد ما ألفوا، كارهون لكل دعوة جديدة، ولذلك نرى في التاريخ ما وجده النبي
صلى الله عليه وسلم
وأصحابه من صعوبات، وما نالوا من عذاب بسبب جهادهم في نقلهم الناس من عقلية قديمة إلى عقلية جديدة، فاحتملوا في ذلك من العذاب ما لا يوصف، ووقفوا وقوف الأبطال، حتى يروى عن ابن عباس أنه قال: «والله إن كان المشركون ليضربون أحدهم ويجيعونه ويعطشونه حتى لا يقدر أن يستوي جالسا من شدة الضر الذي نزل به».
وهكذا كل نهضة في التاريخ تكون مصحوبة بقوم يتحمسون لها، وقوم رجعيين يعرقلون سيرها؛ وقد جرت العادة أن البقاء للأصلح، وأن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين.
من أجل هذا كله، عددنا تحول العرب من جاهلية إلى إسلام، «نهضة فكرية» كبيرة، بل هي أكبر نهضة فكرية في حياة العرب، أما ما جاء بعدها من نهضات، ففرع لها، وناشئ عنها، وسنتتبع سير العرب في تاريخهم، وما كان لهم من نهضات أعلت شأنهم، وأعزت جانبهم.
2
حدثتكم في الحديث الماضي عن الإسلام نفسه كنهضة فكرية، واليوم أحدثكم عن نهضة أخرى في الإسلام، تلك هي نهضة العرب بسبب الفتوح.
لقد كان العرب في جزيرتهم يكادون يكونون منعزلين عن العالم الذي حولهم، فإذا وصل إليهم شيء من المدنية التي حولهم فأشعة ضعيفة جدا.
فمثلا كان يحد ساحل الجنوب الغربي من البحر الأحمر قوم تسربوا إليه من ساحل الجزيرة المقابل سموا بالأحباش؛ لأن أصلهم من الحبشة، وكانت الحبشة ذات مدنية وإن كانت ضعيفة، وكان ينازع الحبشة في السيادة على اليمن الفرس، فتسربت منهم إلى العرب بعض مدنيتهم عن طريق اليمن أحيانا، وعن طريق العرب الذين كانوا يسكنون الحيرة في العراق أحيانا.
ويحدثنا التاريخ أن سلمان الفارسي كان عارفا بأساليب الحرب الفارسية، وهو الذي أشار على النبي
صلى الله عليه وسلم
بحفر الخندق حول المدينة في غزوة الخندق، واقتنع النبي بفكرته، وأسرع الصحابة إلى تنفيذها، إنما كانت الاستفادة الكبرى من المدنيات العظيمة يوم فتحوا فارس وقسما كبيرا من بلاد الروم، وكان أكثر ذلك في خلافة عمر، فدعاهم هذا الفتح إلى سكنى هذه البلاد، بعضهم في فارس، وبعضهم في الشام وفي فلسطين، وبعضهم في مصر، فرأوا إذ ذاك مدنية كبيرة، وعرفوا ما لم يكونوا يعرفون، وكان مثلهم مثل أسرة تسكن كوخا صغيرا، انتقلوا منه إلى قصر فخم عظيم، أو كعامل يشتغل على مغزل يدوي عهد إليه الوقوف على ماكينة ميكانيكية كبيرة، غاية الأمر أن لهم خصالا ممتازة: فهم ذوو روحانية عالية، وذوو استعداد للتطور مع الزمان والأحداث، وقفوا إذ ذاك موقفا في غاية الصعوبة، وهو كيف تدار هذه الممالك الفخمة الضخمة خصوصا أن لكل بلد عادات وتقاليد لم يكونوا يعرفونها، فلهم نظم في الحرب والري وفي الضرائب، وعلى العموم في المسائل التشريعية والاجتماعية الاقتصادية.
لقد كانت جزيرة العرب ذات ماء قليل إن عثروا عليه ففي غدير، أو في بئر حقير، أو قناة صغيرة، فما بالك إذا رأوا دجلة والفرات والنيل وبردي، تلك المياه احتاجت إلى نظم للري وقوانين كثيرة، وكذلك الشأن في الأموال والتنظيم الإداري والاجتماعي والقضائي، كانت من غير شك هذه أكبر المشكلات، ومن حسن الحظ أنها حدثت أول ما حدثت في عهد عمر بن الخطاب، فكانت تنقل إليه كل كبيرة وصغيرة، وهو يفكر فيها بالشورى مع كبار من حوله، ويرى فيها رأيه.
قد كان راعي غنم، فأصبح راعي أمم، والواقع أنهم حلوا هذه المشكلة حلا لطيفا، فأولا أقروا الأمم على عاداتها وتقاليدها، ما لم يكن في تلك العادات ما يخالف الإسلام، والثاني أنهم درسوها وعرفوها، والثالث أنهم كانوا يعرفون كليات أصول الإسلام وروحه فيطبقونها على البلاد المفتوحة، وبذلك استفادوا وأفادوا، وواجهتهم مشكلات كثيرة من هذا القبيل كانوا يحلونها على هذه الأسس.
فمثلا اعترضتهم مشكلة الأراضي في البلاد المفتوحة: هل يملكها العرب الفاتحون؟ فكان رأي عمر، وشايعه على ذلك بعض الصحابة، أن هذه الأراضي تترك لأهلها، وليس للعرب الفاتحين حق ملكية شيء فيها، إنما المفتوحون يؤدون الجزية والخراج ليس إلا، وألزم عمر الفاتحين أن ينزلوا في معسكرات خاصة، كالجابية وحمص في الشام، واللدوا والرملة في فلسطين، والفسطاط في مصر، واختطوا الكوفة والبصرة في العراق.
وأسسوا الجيوش في فارس على النمط الفارسي، وفي بلاد الروم على النمط الروماني.
وعلى الجملة كان تسيير دفة هذه البلاد أصعب من فتحها، فإن حكمها بالظلم والانحراف عن الحق مدعاة لثورة أهل البلاد وانتقاضها، فكان حسن الحظ تشديد عمر في معاملة أهل البلاد المفتوحة بمنتهى العدل، فترك كل ذي دين حرا أن يتدين كما يشاء، كما أمروا بالوفاء بالعهود وعدم نقضها، وسموا أهل ذمة، أي أنهم في ذمة المسلمين، وقد كتب عمر إلى عمرو بن العاص واليه على مصر:
واعلم يا عمرو أن الله يراك ويرى عملك، وأن معك أهل ذمة وعهد، وقد أوصى رسول الله بهم، وأوصى بالقبط خيرا، واحذر يا عمرو أن يكون رسول الله لك خصما، وقد ابتليت بولاية هذه الأمة وآنست من نفسي ضعفا، وانتشرت رعيتي، ورق عظمي، فأسأل الله أن يقبضني إليه غير مفرط، والله إني لأخشى لو مات جمل بأقصى عملك ضياعا أن أسأل عنه يوم القيامة»، على الجملة عاملوهم بالعدل، فأطلقوا لهم حرية الدين وإقامة الشعائر وأمنوهم على المال والأرض وحرية المتاجرة، وشاركوهم في الأعمال، ولولا ذلك ما استقروا عاما واحدا يحكمون هذه البلاد، وكما وضع أمام عينه العدل مع المفتوحين نظر إلى العرب الفاتحين فرعاهم ورأف بهم ؛ لأن لهم فضل الجهاد في الفتح، فمما أوصى به سعد بن أبي وقاص: «إني قد وليتك حرب العراق فاحفظ وصيتي، وعود نفسك ومن معك الخير، ولا تزهد في التحبب إلى الناس، فإن الله إذا أحب عبدا حببه.
كما أوصاه بالرأفه بالمحاربين والمفتوحين، كما كان شديد المراقبة لعماله، كثير السؤال عن مسيرتهم وأخبارهم، وأقام عليهم العيون يوافونه بأخبارهم، وعين محمد بن مسلمة قاصا، أي محققا لأخبارهم ومقتصا لآثارهم، فإذا شكا أحد من الرعية أحدا من العمال أرسل من يحقق في أمره، كما واجه الفاتحون أمورا إدارية نظموها على نظام مقتبس من نظام البلاد المفتوحة وحسبما تقتضيه عقليتهم.
لم يكن لهم تاريخ مضبوط، فوضعوا التاريخ لضبط الحوادث، ولم يكن لهم نظام للبريد، فوضعوا نظاما للبريد، ولم يكن لهم دواوين لحصر الجنود ولا لحصر ما يجبى من الأموال، فوضعت الدواوين مقتبسة من النظام الفارسي كما يدل عليه اسم الديوان نفسه، وعلى الجملة فقد خالط العرب الفاتحون هذه الأمم المفتوحة، ورأوا ذلك الملك العريض، ورأوا نظم الحضارة ورفاهيتها وانقلبوا من عرب بدو، إلى عرب متحضرين على آخر طراز ، وأبدوا استعدادا فطريا هائلا للتأقلم، يحملون في قلوبهم دينهم وتعاليم رسولهم، ودعاهم التأقلم إلى أن يسايروا الحضارة التي شاهدوها، فإذا كانت آلات القتال العربية لا تصلح، فليستخدموا آلات القتال الفارسية والرومية، وإذا كانت معيشة البدو تقتضي الفقر والتقشف؛ فقد تمدنوا وأخذوا بنصيب وافر من الراحة والنعيم.
يروى أن رستم زعيم الفرس لما هزم يوم القادسية قال: «أكل عمر كبدي أحرق الله كبده، علم هؤلاء حتى علموا»، وفي الحق أنهم علموا كثيرا، علموا من كل ما وقع عليه نظرهم من عمارة وري ونظام إداري واقتصادي واجتماعي؛ فانتقلوا بذلك نقلة كبيرة، وكما علموا كل ذلك علموا البلاد المفتوحة شيئين هامين، وهما: لغتهم ودينهم، فكان التعلم متبادلا.
يتعلم العرب كل مظاهر الحضارة، ويتعلم المحكومون اللغة والدين، وكانت المملكة الإسلامية كلها بوتقة تغلي فيها كل هذه التعاليم، فكل يأخذ ويعطي، ويعلم ويتعلم، ومن أجل هذه النهضة رأينا العرب في العصور التالية غير العرب في جزيرتهم، يديرون على أحدث طراز، وينعمون بالعيش على أحسن طراز.
هذه هي النهضة الثانية، وسأحدثكم عن النهضة الثالثة في الحديث الثالث إن شاء الله.
3
استمرت الفتوح الإسلامية، فبعد أن فتحت فارس وكثير من بلاد الروم، فتح العرب جزءا كبيرا من الهند، فزادت معرفتهم بحضارتها، ثم فتحوا إسبانيا، فعرفوا الحضارة الإسبانية، وفتحوا جزءا من فرنسا، فعرفوا ما بها من حضارة، فوضع المسلمون أعينهم على مختلف الحضارات.
وكما حدث في الماديات، حدث في المعنويات، لقد نشأ بعد ذلك جيل جديد مولد من آباء من العرب وأمهات من البلاد المفتوحة، يحملون خصائص هذا وخصائص ذاك، كذلك كان الشأن في المعاني.
فقد نشأت أفكار يمتزج فيها الفكر العربي بالفكر الفارسي أو الهندي أو المصري أو الشامي أو الإسباني، فكانت أشبه ما تكون ببوتقة وضع فيها ذهب وفضة ونحاس مزجت كلها مزجا غريبا، ونشأت عن ذلك نهضات مختلفة، نهضة في التشريع وفي الأدب وفي الاجتماع، سأتحدث عنها تباعا.
لقد كان المسلمون من ناحية جمعوا القرآن الكريم وبدأوا يجمعون الحديث، وكان لبعض الصحابة فتاوي كثيرة في مسائل كثيرة عرضت عليهم، فكانت كلها مصدرا للتشريع، ومن ناحية أخرى رأوا قوانين غير إسلامية؛ فقد كان في بيروت والإسكندرية مدارس للقانون الروماني، وكانت هناك في فارس تشريعات للفرس، وكانت البلاد كلها متأثرة بهذه القوانين يجرون عليها في قضاياهم ومعاملاتهم، فوجب أن تعرض هذه كلها على الإسلام: هل يقرها أو يعدلها أو يغيرها؟
وإلى جانب ذلك: لكل مدنية من المدنيات معاملات خاصة، معاملات مدنية، ولها جرائم جنائية، يجب أن تعرض على الإسلام والمسلمين ليبدوا حكمهم فيها، ولذلك يقول عمر بن عبد العزيز: «تحدث للناس من الأقضية بقدر ما يحدث منهم من الفجور».
فمدنيتنا الحديثة تخلق كثيرا من المشاكل لم تكن موجودة من قبل، ولا بد من أن يتصدى لها التشريع، كمشاكل مرور الطائرات على البلاد الأجنبية، ومشاكل استخدام القنابل الذرية، وتواجه جرائم جديدة كاستخدام الكوكايين والهيرووين مما لم يكن للمدنية السابقة عهد بها، كذلك واجه العرب مسائل جديدة لم يكن لهم بها عهد أيام كانوا في جزيرة العرب، ولم يرد فيها كتاب ولا سنة، فبماذا يحكمون فيها بمقتضى الأصول الإسلامية؟
لقد نشطوا في هذا نشاطا كبيرا يستدعي الإعجاب، ولم يمض قرن حتى ألفت الكتب الكثيرة في التشريع الإسلامي، فإذا قارنا عملهم في قانونهم بعمل الرومان في قوانينهم مثلا، وجدنا أن المسلمين كانوا أسرع وأنشط، فالقانون الروماني لم يدون إلا بعد قرون من الفتح الروماني، ثم كان للمسلمين نظرات صائبة تتعلق بالتشريع، فعمر بن الخطاب مثلا رأى أنه لا بد له من جماعات حوله من كبار الصحابة يكونون عونا له على التشريع فيما يعرض له من مسائل، ولذلك منع بعض كبار الصحابة من الخروج من المدينة إلا برخصة منه على أن تكون الرخصة مؤقتة، فلما جاء عثمان رأى أن تنتفع البلاد برأي العلماء، وينتفعوا هم بما يرون في البلاد من حضارة، فرخص لهم في السفر، بل تعمد بعد ذلك عمر بن عبد العزيز أن يرسل البعثات من كبار التابعين للأقطار المختلفة، وقد تفرق كبار الصحابة في البلدان المختلفة فأثروا فيها بمعلوماتهم ومزاجهم، وتأثروا بمدنية البلاد التي نزلوا فيها ونوع حضاراتها، وهذا سبب كبير من أسباب الخلاف في التشريع، فمثلا نزل ابن مسعود الكوفة ونشر فيها علمه وأفتى بما شهده من أقضية رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أو سمعه، وهو نفسه كان واسع الفكر؛ فقد قال لرسول الله لما بعثه إلى اليمن: «إني إن لم أجد نصا في الكتاب ولا السنة في مسألة قضيت فيها برأيي»، فكان على هذا المبدأ أيضا في العراق يقضي في المسائل التي لا يجد فيها حكما في الكتاب أو السنة برأيه، أي بما يتصوره من العدالة، ومن أجل هذا نشأ أبو حنيفة وأصحابه على هذا السنن، سنن ابن مسعود، ولما نزل ابن مسعود في العراق، نزل سعد بن أبي وقاص وعمار بن ياسر وأبو موسى الأشعري وأنس بن مالك وكثير من الصحابة الذين كانوا من حزب علي لما ذهب إلى الكوفة، ولهذا كانت مدرسة العراق التشريعية عظيمة كمدرسة الإمام مالك في المدينة، وذهب إلى الشام أبو الدرداء، ومعاذ بن جبل وكثير غيرهما، وذهب إلى مصر الزبير بن العوام وعمرو بن العاص وابنه، وإلى إفريقيا عقبة بن عامر ومعاوية بن حديج، كل هؤلاء كونوا مدارس للتشريع في البلاد التي نزلوا فيها مراعين شيئين هامين: قواعد الإسلام الأساسية من جهة، وظروف البلاد التي نزلوا فيها وتقاليدهم من ناحية أخرى.
ومن أكبر الأدلة على ذلك أن الإمام الشافعي لما كان في الحجاز والعراق كان له مذهب خاص، فلما انتقل إلى مصر تغير رأيه في بعض المسائل بسبب المدنية المصرية، وسمى مذهبه الأول بالمذهب القديم، والمذهب الثاني بالمذهب الجديد، ومن الأمثلة على ذلك أيضا أن تغير الأحوال يكون سببا في تغير الأحكام، وقد رووا في ذلك حكايات لطيفة، منها أنه لما اتخذ العباسيون شعارهم السواد غلا ثمن الثياب المصبوغة بالسواد، فكان الفقهاء أولا قبل اتخاذ السواد شعارا يحكمون بأن من غصب ثيابا بالسواد نقص من قيمتها، فلما تغيرت السياسة واتخذ السواد شعارا، كانوا يحكمون بأن من غصب ثوبا فصبغه بالسواد فقد زاد من قيمته، لقد رأى الفقهاء أن بعض البلاد عنده أنظمة في الزراعة لم تكن معروفة في جزيرة العرب، كالمزارعة والمساقاة ونحو ذلك، فتعرضوا لها وأفتوا فيها.
إنما كانت أكبر مدرستين في العصور الأولى للإسلام مدرسة الحجازيين في المدينة، وعلى رأسها مالك بن أنس، ومدرسة العراقيين في الكوفة، وعلى رأسها أبو حنيفة.
سبب الخلاف بين المدرستين يرجع إلى أمور، أولا: مزاج الإمام مالك العربى والإمام أبي حنيفة الفارسي، وبين المزاجين فرق كبير.
وثانيا: أن الإمام مالكا كان يعتز بمن حوله من التابعين في الحجاز، وأنهم كانوا أعلم بسيرة الرسول وبأحكامه في المسائل، وكان أبو حنيفة يعتز بوضع يده على الحضارة الفارسية وما نشأ عنها من مسائل كثيرة تحتاج إلى التشريع، وقد نشأ عن هذا أن الإمام مالكا كان يرى أن لا يفتي إلا في المسائل التي حدثت، والتي ينبني عليها عمل، فإذا كانت المسائل خيالية أو تقديرية لم يفت فيها، وساعده على ذلك طبيعة المعيشة في الحجاز، وقلة مسائلها، أما في العراق فالمعيشة أعقد، والمسائل أكثر.
ومن أهم الفروق بين المدرستين اعتماد الإمام مالك على الحديث أكثر؛ لوفرته في الحجاز، بينما الإمام أبو حنيفة يشترط في الحديث شروطا دقيقة، وبجانب ذلك يعتمد على القياس، من أجل ذلك كله ترى أن الأحكام التي رويت عن الحجازيين، كالموطأ والمدونة، أقل بكثير من الأحكام والمسائل عن العراق.
والخلاصة من هذا كله أن المدارس المختلفة في الحجاز والعراق والشام ومصر وإفريقيا كانت كلها خيرا على التشريع؛ فقد نشطت نشاطا لا حد له، والأمم الحية دائما يختلف مشرعوها حسب اجتهادهم وأساس أحكامهم، وقد استطاعوا في عهد قريب أن يغطوا المسائل التي واجهوها في المدنية الحديثة، وأن يفتوا فيها برأي أو آراء، وأن يضعوا مكان المدارس الرومانية والفارسية مذاهب إسلامية، فكان رأي مالك وأبي حنيفة يحتل مكان رأي «جايوس» الروماني وأمثاله.
ومن حسن الحظ أن المشرعين الأولين كمالك وأبي حنيفة كانوا صادقين في عملهم مخلصين في بحثهم، زاهدين في حياتهم، فلم يخدعهم مال ولا منصب ولا جاه.
ولم تجرفهم السياسة مع عنفها في تلك الأيام، هذا الإمام مالك يرى الساسة يستقسمون الناس على بيعتهم بأغلظ الأيمان، من طلاق وعتاق، وحج مشاه على أقدامهم إذا هم رجعوا عن بيعتهم، فيفتي مالك بعدم وقوع طلاق المكره، فيغضب من ذلك الساسة ويلقى من ذلك عنتا شديدا، وأبو حنيفة لا يرضى كثيرا عن سياسة العباسيين فلا يقبل أن يتولى لهم القضاء، فيضرب ويسجن، فزاد من قيمتهم إخلاصهم للحق وتفانيهم فيه.
بهذه النهضة خلفوا لنا ثروة تشريعية هائلة، لو سايرت الزمن وتطورت تطورها الطبيعي ولم يقفل الاجتهاد في وجه العلماء، لكان لدينا الآن تشريع على أسس متينة، ويجاري أحداث الزمان.
لقد حدث لنا في العصور الحديثة قريب مما حدث لهم، فالمدنية الحديثة قابلت المسلمين بجزئيات لا عداد لها؛ فقد أصبحت طرق المعاملات الجديدة تخالف - في كثير من الأحيان - طرق المعاملات القديمة، وتطور العالم الإسلامي في العشرين سنة الأخيرة، ما لم يتطوره في مئات السنين الماضية؛ تدل على ذلك الأسئلة الكثيرة التي كانت ترد على المرحوم الشيخ محمد عبده مثل إيداع المال في البنوك، ولبس القبعة، وأكل ذبائح أهل الكتاب، وكالأسئلة الكثيرة التي ترد على لجنة الفتوى في الأزهر، وقد واجه الأئمة الماضون في مدنياتهم ما نواجه نحن الآن في مدنيتنا الحديثة، غاية الأمر أنهم حلوها بشجاعة وحرية، مستندين إلى أصول الإسلام، متمتعين بالاجتهاد، فوضعوا إحدى عينيهم على كليات الدين، والأخرى على المدنيات التي واجهوها، وقد سلبنا نحن الاجتهاد فصعب علينا الحل.
وإن كل شريعة من الشرائع لا بد لبقائها من كليات ثابتة دائمة، مثل: (اعدلوا هو أقرب للتقوى) و(لا ضرر ولا ضرار)، ونحو ذلك، وأشياء متموجة تواجه أحوال الزمان، وتتجدد مع تغير البيئة والظروف، ومن غير ذلك تتحجر الشريعة.
4
أنتقل الآن إلى الحديث عن أثر الفتوح الإسلامية في النهضة الأدبية.
والأدب من أكثر الأشياء تأثرا ببيئة الأديب نفسه، فحياة شوقي في القصور مثلا لونت شعره بلون خاص غير اللون الذي يتلون به البدوي، وإذا كان الرجل العادي تدعوه معيشته إلى أن يشبه الهلال بقلامة الظفر، فالخليفة ابن المعتز الذي كان يعيش في القصور المترفة يشبه الهلال بزورق من فضة قد أثقلته حمولة من عنبر، وهكذا.
فإذا نحن أخذنا أكبر كمية ممكنة من الشعر الجاهلي، وأكبر كمية من الشعر في العصر الأموي، وسلطنا عليهما الأضواء القوية، فماذا نجد من فروق؟:
نجد فروقا كثيرة لا نستطيع حصرها في حديث أو حديثين، ولذلك نكتفي ببعض الخطوط الرئيسية، وهي في نظرنا ثلاثة، خلاصتها كلها أن الحضارة أخرجتهم عن سذاجة البداوة فظهر على شعرهم الترف والنعيم على أثر اختلاطهم بالفرس في العراق وفارس، وبالروم في الشام ومصر، وعلى أثر ما يوحيه الدين من رقة العواطف.
فأول كل شيء نرى أنه قد طرأ على الغزل تطور كبير، ونرى الفرق ملموسا بين الغزل الجاهلي والغزل الإسلامي؛ ذلك أن العربي في الجاهلية كان يتغزل ولكن لا نجد له قصيدة واحدة كلها في الغزل بل هو يتغزل أبياتا في أول قصيدته ثم ينتقل إلى موضوع آخر، وكان ذلك فيه نتيجة حياته المتنقلة بين الخيام وفي الغزو والغارات.
وكانت عواطفه بدائية فهو يذكر ما يشعر به من صبابة وألم، أو نشوة وأمل، ويكتفي بذكر دار محبوبته الدارسة تلعب بها الرياح والأمطار، وتسرح فيها الوحوش، ويكتفي بوصف الفراق والوداع.
وإذ كان بدائيا لم يتعمق كثيرا في شرح تأثراته النفسية، ثم رأيناه في الحياة الجديدة الأموية رق مزاجه وقوي إحساسه وحلل عواطفه، وأصبح الغزل غرضا بعينه يقصد إليه.
ورأينا الغزل في هذا العصر ينقسم إلى قسمين: غزل عادي كالذي يحدث بين الناس العاديين في كل عصر، وغزل عذري، فالذي يمثل الغزل العادي عمر بن أبي ربيعة والذي يمثل الحب العذري جميل بثينة.
فعمر بن أبي ربيعة فتى قرشي جميل الشكل غني، وهب حياته كلها للغزل، ولذلك لم يتجه لمدح ملك أو أمير، ولم يكتف بأن تكون قصيدته كلها في الغزل بل كان ديوانه كله في الغزل، وقد كان موطنه الحجاز، والحجاز قد بلغه الترف أيضا بما صب فيه من أموال وغنائم على أثر الفتوح، ونساء جميلات من الرقيقات المأسورات، فأصبح الحجاز مجالا للترف والنعيم وميدانا للجمال، فكان ذلك مادة صالحة لحب ابن أبي ربيعة وغزله الكثير، وديوانه مملوء بذكر النساء اللائي أحبهن، فلم يكتف بواحدة ولا اثنين، بل كان يتتبع الجمال حيث وجده.
وكان عمر كما ذكرنا جميلا في شكله، ناعما في حبه، تهواه النساء لجماله وشاعريته وجاهه، ولذلك لم يشعر بالصدود إلا قليلا، وكان ديوانه عبارة عن قصص قصيرة فيما حدث له مع حبيباته.
وفيه خصلة أخرى وهي أنه كان شديد الشعور بشخصيته، يتغزل في نفسه أكثر مما يتغزل في محبوباته، فديوانه كله مملوء بقالت وقلت، ونظرت إلي وأعجبت بي، وما كان منها، إلى غير ذلك، مثل قوله - وهو يدل على ظرف النساء القرشيات ودهائهن:
فلما أجزنا ساحة الحي قلن لي
ألم تتق الأعداء والليل مقمر
وقلن: أهذا دأبك الدهر سادرا
أما تستحي أو ترعوي أو تفكر
إذا جئت فامنح طرف عينيك غيرنا
لكي يحسبوا أن الهوى حيث تنظر
وفي هذه القصيدة يقول أيضا:
تهيم إلى نعم فلا الشمل جامع
ولا الحبل موصول ولا القلب مقصر
ولا قرب نعم إن دنت لك نافع
نأيها يسلي ولا أنت صابر
وأخرى أتت من دون نعم ومثلها
نهي ذا النهى لو ترعوي أو تفكر
إذا زرت نعما لم يزل ذو قرابة
لها كلما لاقيته يتنمر
وكل ديوانه على هذا النحو من قصص قصير مما كان بينه وبين من أحب.
وأما الحب العذري فنوع آخر، وهو منسوب إلى بني عذرة، وهي قبيلة عربية بدوية تسكن في وادي القرى والحجر وما جاورهما من البلاد، وما زالوا بها حتى كثروا وانتشروا ووصلت بلادهم إلى أطراف الشام، وقد عرفوا برقة القلب وفنائهم في حبهم وعفتهم حتى أصبح يقال لكل حب عفيف: عذري، ولو لم يكن أصحابه من بني عذرة، وأهم خصائصهم العفة والمعيشة الفطرية، واقتصار المحب على محبوبة واحدة، وأكثر ما يطيب لهم وصف ما يلاقون من ألم البعد ومرارة الحرمان والصدود.
والباحث يحار في نشوء هذا الحب وتعليله، فالظاهر أنه يرجع إلى أمور أولها ما منحوا من رقة في القلب، كما نرى من صفات خاصة في سكان بلاد مختلفة، يضاف إلى ذلك عيشتهم الساذجة، ودخولهم في الإسلام الذي رقق قلوبهم، إلى غير ذلك، وربما كان خير من يمثلهم «جميل» الذى اشتهر بحبه لابنة عمه «بثينة» فعرف «بجميل بثينة» وقال: إنه قد أحبها وهو غلام صغير، وفي ذلك يقول:
وأول ما قاد المودة بيننا
بوادي بغيض يا بثين سباب
فقلنا لها قولا فجاءت بمثله
لكل كلام يا بثين جواب
ثم صارت بثينة شابة وصار جميل شابا، فازداد بها هياما، وملأ شعره وصفا للحب ووصفا للمحبوبة وما يجده من الألم والضنى في حبه، مثل قوله:
إني لأحفظ غيبكم ويسرني
إذ تذكرين بصالح أن تذكري
ويكون يوم لا أرى لك مرسلا
أو نلتقي فيه علي كأشهر
يا ليتني ألقى المنية بغتة
إن كان يوم لقائكم لم يقدر
يهواك ما عشت الفؤاد فإن أمت
يتبع صداي صداك بين الأقبر
إني إليك بما وعدت لناظر
نظر الفقير إلى الغني المكثر
فترى غزلا يختلف عن غزل عمر بن أبي ربيعة، والشعراء قبله، فالشاعر العذري يضيف إلى الغزل شيئا روحيا، ويعتني الشاعر بوصف عواطفه، وبث شكايته، وما يلاقيه من ألم البعد، ويفكر حتى فيما سيلاقيه بعد الموت، ولعل أصدق تعبير له عن عواطفه قوله لحبيبته بثينة:
إني لأرضى من بثينة بالذي
لو ابصره الواشي لقدت بلابله
بلا وبأن لا أستطيع وبالمنى
وبالأمل المرجو قد خاب آمله
وبالنظرة العجلى وبالحول ينقضي
أواخره لا نلتقي وأوائله •••
ومن أهم فروق بين الشعر الجاهلي والشعر الأموي الشعر السياسي وانقسام الشعراء إلى أحزاب سياسية؛ فقد كان كل ما عند الشاعر الجاهلي تعصبه لقبيلته، فلما جاء الإسلام رأينا الخلاف يشتد بين الشعراء القرشيين والأنصار، فإذا وصلنا إلى العصر الأموي، ورأينا عثمان يقتل، ويقوم النزاع بين علي ومعاوية، رأينا النزاع يشتد، فحزب يؤيد معاوية، وحزب شيعي، يرى أن الخلافة في علي وأبنائه.
ونشأ حزب الخوارج في الجزيرة، وهم يرون أن تكون الخلافة شورى بين المسلمين، غير محصورة في قريش وغيرها من القبائل، ثم رأينا حزبا يلتف حول عبد الله بن الزبير، ويراه أحق بالخلافة ويجاهد الأمويين.
كل هذه الأحزاب كانت تتلهف على الشعراء؛ لأن الشاعر في وقته كان يقوم مقام الصحيفة في عهدنا، فكان الشعراء يتقاتلون كما يتقاتل الجنود، وكان بنو أمية أكثر عددا؛ لأن القوة في أيديهم، والمال الكثير في خزائنهم، يغدقون منه على الشعراء فعرف الأخطل مثلا بأنه أكبر داعية للأمويين، وكذلك جرير والفرزدق، وعرف عبد الله بن قيس بأنه كان يتعصب لعبد الله بن الزبير، وعرف عمران حطان بأنه كان يتعصب للخوارج، وهكذا.
فمعيشة الحضارة كونت الأحزاب، وطبيعة الأحزاب كونت الشعراء الحزبيين، وما كان شيء من ذلك موجودا في العصر الجاهلي، فلا مؤيدون ولا معارضون ولا أحزاب ولا من ينتسب إليها. •••
فهذا الغزل العادي، وهذا الغزل العذري، وهذا الشعر الحزبي، كل ذلك مظهر من مظاهر الحياة المدنية التي انتقل إليها العرب فرقت من الشعر، وجعلته يملأ الجو بلونه الجديد.
وكما دخل على الشعر تطور جديد بسبب المدنية، دخل على النثر تطور جديد وهو ما نرجئه إلى حديث قادم إن شاء الله.
جمع اللغة العربية1
كان المثقفون في العهد الأول، وصدر من الدولة العباسية، لا يلتفتون إلى جمع اللغة؛ فاللغة تؤخذ من أفواه العرب، ومن شاء أن يتعلمها فليتعلمها من بادية البصرة والكوفة في العراق، أو بادية العرب في الشام، فكان ابن المقفع وبشار بن برد مثلا يخرجان إلى هذه البادية ويقيمان فيها ويتعلمان ما طابت لهما الإقامة، شأنهم في ذلك شأن الطفل ينشأ بين أبويه وقومه، ويتثقف بثقافتهم، وينطق لسانه بلغتهم، وهذا هو التعلم الطبيعي للغة، فلما جاءت موجة التدوين، وتخصصت كل فرقة لعلم، فقوم للفقه، وآخرون للنحو، اشرأب قوم لجمع اللغة فجمعوها أولا من لغة القرآن الكريم، مستعينين على ذلك بتفسير المفسرين، وبالأحاديث التي صحت عندهم، ومستعينين أيضا بتفسير المحدثين، ولم يكتفوا بذلك، بل ساحوا في جزيرة العرب بين القبائل العربية، يجمعون كل ما يسمعون؛ وكان من أشهرهم عبد الملك بن قريب الأصمعي، والكسائي، والأزهري، وكان الأصمعي أميل إلى جمع نوادر العرب، يتحدث بها إلى الملوك، وكان الكسائي يخرج من حين لآخر ومعه قنينة مملوءة خبزا وكاغد، وقد أسر الأزهري من القرامطة ومكث نحو سنتين في الجزيرة بين القبائل يصيف في الستارين، ويشتي في الدهناء، ويرتبع في الصمان، وألف في اللغة كتاب التهذيب الذي أخذه ابن منظور في لسان العرب.
وقد جد المؤلفون فيما بعد، في حذو المحدثين في تقسيمهم اللغة إلى متواترة ورواية آحاد؛ فالمتواتر لغة القرآن، وما تواتر من كلام العرب، واشترطوا أولا في ذلك أن يبلغ عدد النقلة حدا لا يجوز على مثلهم الاتفاق على الكذب فيه، كرواة لغة القرآن وما تواتر من السنة، وقد استشكل الفخر الرازي في تفسيره وجود التواتر في اللغة، قال: لأنا نجد الناس مختلفين في المعاني والألفاظ التي هي أكثر الألفاظ تداولا ودورانا على ألسنة المسلمين، اختلافا شديدا، لا يمكن فيه القطع بما هو الحق، كلفظ «الله»؛ فإن بعضهم زعم أنها عبرية، وقال قوم سيريانية، والذين جعلوها عربية اختلفوا هل هي مشتقة أو لا؟ والقائلون بالاشتقاق اختلفوا اختلافا شديدا، وكلفظ الإيمان والكفر، والصلاة والزكاة قال: فإذا كان هذا الحال في هذه الألفاظ التي هي أشهر الألفاظ والحاجة إليها ماسة، فما ظنك بسائر الألفاظ؛ فإذا كان ذلك كذلك، ظهر أن دعوى التواتر في اللغة متعذرة. والإشكال الثاني أن من شرط التواتر استواء الطرفين والواسطة، فهب أننا علمنا حصول شرط التواتر في حفاظ اللغة في زماننا، فكيف نعلم حصولها في سائر الأزمنة؟ والثالث أنه اشتهر، بل بلغ مبلغ التواتر، أن هذه اللغات إنما جمعت عن جمع مخصوص كالخليل، وأبي عمرو، والأصمعي، وأقرانهم، ولا شك أن هؤلاء ما كانوا معصومين، ولا بالغين حد التواتر، وإذا كان كذلك لم يحصل القطع واليقين بقولهم، وقد ضربوا أمثلة من المتواتر بما جرى على ألسنة الناس من زمن العرب إلى الآن كأسماء الأيام والشهور والربيع والخريف والقمح والشعير والأرز والحمص والسمسم.
وأما أخبار الآحاد، فما انفرد بروايته واحد من أهل اللغة، ولم ينقله أحد غيره، وقالوا: وحكمه القبول، إن كان المنفرد به من أهل الضبط والإتقان، كأبي زيد والخليل، والأصمعي وأبي حاتم وأبي عبيدة، وأضرابهم، وشرطه ألا يخالفه فيه من هو أكثر عددا منه مثل ما رواه أبو زيد المنشية: المال، فلم يقله غير أبي زيد، ومثل رجل ثط ولم يقال أثط، قال أبو حاتم قال أبو زيد مرة: أثط. فقلت له: أتقول أثط؟ قال سمعتها. ومثل ما حكاه الكسائي: سمعت لجبة ولجبات، ولجبة ولجبات، فجاء بها على القياس، ولم يحكها غيره، إلى كثير من أمثال ذلك ومثل هلم جرا، قال الجوهري في الصحاح: كان ذلك عام كذا وهلم جرا إلى اليوم، قال ابن هشام في تأليف له: عندي توقف في كون هذا التركيب عربيا محضا؛ لأن أئمة اللغة المعتمد عليهم لم يتعرضوا له، حتى صاحب المحكم، مع كثرة استيعابه وتتبعه .
وكان بعض اللغويين غير موثوق به، كأن يكون غير عدل، أو يروي عن صبيان أو عن مجانين أو كان راوية من أهل الأهواء، ولم يكن بعض الجامعين يتحرى الصدق، بل كان يبيح لنفسه أن يضع، كما أخذ على ابن دريد اللغوى صاحب الجمهرة، ومما زاد في تضخيم اللغة ما طرأ على الكلمات من التصحيف؛ فقد رووا أن الخليل بن أحمد صحف يوم بعاث إلى يوم بغاث، وابن الأنباري صحف يوحا اسم الشمس إلى يوح، ورووا أن حمادا الراوية صحف في القرآن ثلاث كلمات؛ لأنه أخذه من المصحف، ولم يروه عن أحد، فحرف
وعدها إياه «بوعدها إياه»، و
في عزة وشقاق
إلى «في غرة وشقاق»،
لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه
إلى «شأن يعنيه»، وقالوا: إنه وقع في كتاب العين للخليل من التصحيف ما لا تصح نسبته إلى تلميذ من تلامذته فضلا عنه، ووقع في التصحيف الجوهري صاحب الصحاح وغيره، ولم تحقق هذه التصحيفات بل كدست فوق بعضها، وضخمت المعاجم، وذلك مثل فرشحت الناقة وفرشخت إذا استعدت للبول، وكان الواجب أن يحقق أيهما التصحيف لا أن يكدس.
وعني الجامعون للغة بقبائل خاصة وهي: عليا هوازن، وهم خمس قبائل، أو أربع، منها سعد بن بكر، وجشم بن بكر، ونصر بن معاوية، وثقيف، قال أبو عبيد: وأحسب أفصح هؤلاء بني سعد بن بكر، وقال أبو عمرو بن العلاء: أفصح العرب عليا هوازن، وسفلى تميم.
وتحرجوا من أن يأخذوا اللغة عمن جاور الحضر من قبائل العرب؛ إذ كانت وجهة نظرهم أن يأخذوا اللغة ممن صفت لغتهم، وبعدت عن الدخيل، وكانت أمامهم وجهة نظر أخرى محترمة أيضا، وهي أن يأخذوا ممن اختلط بالحضر، فإن لغتهم أوسع وألفاظها قد رققتها الحضارة.
إنما كان عملهم في الجمع بدائيا غير منظم، فهم يلتقطون ما يسمعون من الألفاظ ويدونونها، وعيب هذه الطريقة أنهم لم ينصوا في الأعم الأغلب على القبيلة الواحدة التي جمعوا منها ألفاظهم، بل يهتمون بالكلمة التي يسمعونها ويدونونها حيثما اتفق كلمة بجانب كلمة من غير ترتيب ، ولذلك نرى نقصا كبيرا في هذا الجمع، فأحيانا نجد مصدرا ولا نجد له فعلا، وأحيانا نجد مفردا ولا نجد مثناه ولا جمعه، وأحيانا نجد الجمع ولا نجد المفرد، وهكذا.
والمدنيون الآن يؤلفون الجمعيات، ويعدون الخرائط والاستمارات ويحددون الأسئلة التي يريدونها، فيسألون مثلا: ما تقول بلادكم في (كيف حالك) ويقيدون فيها اسم البلد، ثم يستنتجون من ذلك نوع الناس الذين ينطقون بهذا القول، ويستخرجون من ذلك الدلائل اللغوية والاجتماعية ويرسمون الخرائط وفقا لهذه الاستنتاجات فتكون هذه العملية عملية علمية.
والقبائل كانت أعقل من أن تضع لفظين لمسمى واحد، فالقبيلة التي تستعمل كلمة «السكين» لا تستعمل كلمة «المدية» والقبيلة التي كانت تستعمل «البئر» لا تستعمل كلمة «القليب» فلما كان الجمع بدائيا، وجدت ألفاظ كثيرة مترادفة، ومن ثم كانت المعاجم مملوءة بالمترادفات، فلغتنا ليست لغة العرب، ولكن لغات العرب، وفي رأيي أن المترادفات - مع إعانتها للشاعر خصوصا في الشعر العربي الذي يلتزم القافية بل قد يلتزم ما لا يلزم، وخصوصا في الملاحم الطويلة التي تشتمل أبيات كثيرة يحتاج معها لا شك إلى مترادفات كثيرة - كالجدري في الوجه الجميل ، وقد أنكرها ابن فارس وثعلب؛ فقد روي أن ابن خالويه قال في حضرة سيف الدولة بن حمدان: إني أعرف للسيف خمسين اسما. فقال ابن فارس: إني لا أعرف له إلا اسما واحدا وهو السيف. فقال ابن خالويه: وماذا تقول في المهند والصمصام والبتار؟ قال: إنها صفات. يعني بذلك أنها اختلفت لدلالتها على صفات غير الاسم، وذلك كأسماء الله الحسنى، فإنها تدل على صفات أكثر مما تدل على ذوات، وقد حكي أن أبا عبيدة افتخر يوما أمام الرشيد بأنه يحفظ عشرة أسماء لكل عضو من أعضاء الفرس؛ فقال الأصمعي: إني لا أحفظ إلا اسما واحدا. فاستحضر الرشيد فرسا، وسأل أبا عبيدة عن تطبيق الأسماء العشرة على كل عضو فلم يعرف، فسأل الأصمعي فذكرها فوهب له الفرس، مما يدل على أن بعض الجامعين لم يكونوا يدققون كثيرا في دلالة الأسماء على مسمياتها.
والترادف في نظري ليس مزية من مزايا اللغات، بل هو عيب من عيوبها، فإن كان موجودا في اللغات الحية كالإنجليزية والفرنسية فهو أثر من آثار اللغات القديمة، والمثل الأعلى للغة لفظ واحد لكل مسمى فلا ترادف ولا اشتراك، ولذلك كانت المترادفات في اللغات القديمة أكثر منها في اللغات الحديثة، ومع أن ألفاظا كثيرة عدت مترادفات وإن لم تكن مترادفة لدقة الفروق بينها، مما أدى إلى عناية بعض العلماء من مستشرقين وعرب إلى تأليف كتب في الفروق، كما فعل أبو هلال العسكري وكما فعل بعض الآباء اليسوعيين - إلا أنها مع ذلك من غير شك كثيرة في اللغة العربية مما ملأ المعاجم بالمترادفات وضخمها ضخامة كاذبة.
وشيء آخر وهو أن القبائل تختلف فيما بينها أيضا في اللهجات، وقد تكون الكلمة تنطق بها قبيلة بلهجة ثم تنطق بها قبيلة أخرى بلهجة أخرى، كما تختلف اللهجات في مصر بين القاهري والإسكندري والصعيدي والدمياطي، ويتبع ذلك ما روي كثيرا في كلمات من القلب والإبدال، فمثلا تقول قبيلة جبذ في جذب، وبكل في لبك، ومثل أن يقولوا: «أشد سوادا من حلك الغراب» ومن «حنك الغراب» وقال بعض العرب: «فأبعدكن الله من شجرات» وقال بعضهم: من شيرات، وهكذا.
فلما جاء صانعو المعاجم جمعوا هذا كله إلى بعضه من غير أن يتخففوا من اللهجات المختلفة، مكتفين بلهجة ممتازة بالوضوح.
ثم كان أن اختلف العلماء الجامعون للغة في فهم الكلمة أو الجملة من الأعراب، خصوصا وأن كلمات كثيرة إنما تفهم بالقرائن، فكان عالم يفهمها بفهم، وآخر يفهمها بفهم آخر، وهذا ربما كان السبب في وجود بعض الألفاظ المشتركة مثل قرء في الحيض وفي الطهر، خصوصا وأن اللغة العربية تعتمد أكثر ما تعتمد على الصيغ القريبة مع الاختلاف البعيدة في المعنى كالفرق بين رجل ضحكة وضحكة وطلعه وطلعه، ونحو ذلك، وقد يدق معنى كل تركيب، ويقع اللغويون في التضارب، ماذا نستنتج من كل ذلك؟
نستنتج من كل هذا أن اللغة قد تضخمت تضخما مزيفا كثيرا وكانت نتيجة ذلك تضخم المعاجم تضخما أيضا مزيفا، وقد يكون هذا مقبولا، لو لم تدهمنا الحضارة الغربية بكثير من المسميات والمعاني، نحتاج معها إلى ألفاظ كثيرة وهي تغمرنا كل يوم بمئات المصطلحات، التي كثيرا ما نعجز عن مسايرتها، فكان المعقول أن نتخفف من كثير من الكلمات؛ لنفسح مكانا لها في المعاجم، وقد فعلت قريش خيرا مما فعله جامعو اللغة العربية ومؤلفو معاجمها، فإنهم صفوا اللغات المختلفة ونقوا خيرها واستعملوه لغة لهم وبها نزل القرآن، فلم يجمعوا كل ما قيل عن القبائل، بل نخلوه واقتصروا على ما حسن وقعه في أسماعهم وراق في أذواقهم.
بقي سؤالان هامان وهما: ألم يرد في القرآن الكريم مترادفات لنثبت أن قريشا اختارت من اللغات أحسنها؟ والسؤال الثاني: أيهما خير، أنضحي بوحدة القافية في الشعر لتنقية اللغة من المترادفات؟ أم نبقي عليها للإبقاء على الشعر العربي في شكله القديم؟
ومن رأينا في الإجابة على السؤال الأول أن ليس في القرآن مترادفات، وإنما كلمات متقاربة المعنى مثل أفلح وفاز، دقت الفروق بينها، أو على الأقل اختلف وقع الكلمة باختلاف موضعها؛ فقد تكون كلمة أوقع في محلها حيث تكون الأخرى أوقع في محلها الآخر، وقد أدرك الجرجاني في دلائل الإعجاز ذلك؛ إذ قال: إن كلمة (أيضا) ليست من الكلمات التي تستحسن في الشعر، ولكن وردت جميلة في بيت شعري وهو:
غير أني بالجوى أعرفها
وهي أيضا بالجوى تعرفني
وأما عن السؤال الثاني: فيمكننا أن نهدر المترادفات، ونهدر معها ورود القصيدة على قافية واحدة، خصوصا وأنه من الصعب في الملاحم وأمثالها، أن نطيل أبياتها على روي واحد وقافية واحدة؛ والمهرب من هذه الصعوبة هو أن تتغير القافية في كل عدة أبيات، كما اضطر البستاني أن يفعل ذلك حين ترجم الإلياذة، وبذلك كله نفسح مكانا واسعا في المعاجم للكلمات الحديثة والمصطلحات الحديثة.
وإذا لم تتح لنا فرصة الإجادة في الشعر المرسل كما حدث في بعض اللغات، فليس أقل من أن نغير القافية بين جملة من الأبيات وأخرى، وليست وحدة القافية بالأمر المقدس الذي لا يصح أن نخرج عنه، ولكنه أمر اعتيادي وتقليدي، مرده كله إلى الأذن الموسيقية.
ضيعة الأدب
مما أعجب له تفكك الأدباء في مصر، فليس لهم رابطة تربطهم، وكل أديب حزب وحده، وكما يتراشق السياسيون في سياستهم يتراشق الأدباء، وفي الوقت الذي نرى فيه تكون النقابات للعمال وغيرهم، حتى كان للحلاقين نقابة، لا نجد للأدباء نقابة، وحاول مرة الأستاذ توفيق الحكيم أن يجمع بينهم ليخرجوا مجلة كبيرة تحمل اسمهم فلم يفلح، فكيف يتصافى فلان مع فلان، أو فلان مع فلان، ومن ذا الذي يرضى أن يكون رئيسا للجميع، وانقضت الدعوة على لا شيء.
ننظر إلى الأدباء في فرنسا مثلا، فنراهم كتلة ينتهزون كل فرصة للاجتماع، اجتماع لمؤلف مات منذ عشرين سنة، واجتماع لمؤلف ظهر منذ عشر سنين، وهكذا تتوالى الاجتماعات حتى لا يمر شهر من غير اجتماعين أو أكثر من هذا القبيل، ويفض الاجتماع عن بحوث في أديب تطبع وتنشر، ونحن أردنا مرة أن نجتمع فأسسنا نادي القلم، فتهرب منه بعض الأدباء؛ لأنهم لم يرضوا أن يكون فلان رئيسا، والذين اجتمعوا لم يفلحوا؛ لأنه كان من الخطأ ضم أدباء الجاليات الأجنبية إلى الأدباء المصريين.
وربما كان من أهم أسباب الانحلال انغماس الأدباء في السياسة الحزبية لا القومية، وتفرقهم تفرق السياسيين؛ لأن كلا ينصر حزبا؛ مع أني أعتقد أن السياسة تفسد الأدب وتفقده الخلود، فالأدب السياسي ابن يومه، والأدباء الذين يقدرون رسالتهم يفهمون أنهم أرقى من السياسيين، بل أرقى من الوزارة نفسها، وأن على أكتافهم عبئا ثقيلا، فهم يحملون الأدب من عهد امرئ القيس إلى اليوم، وهم يحافظون عليه ويزيدونه حتى يسلموه إلى الجيل الذي بعدهم، ولو عرضت الوزارة على برنارد شو أو أندريه چيد لسخرا من ذلك كل السخرية وترفعا عن الوزارة، وإن للأدب مجدا أكبر من مجد السياسة، بل الأديب الكبير يستطيع أن يكون منارا عاليا يهتدي به الوزراء أنفسهم، وللأديب من الخلود ما ليس للوزير، بل إن الأديب تخلده الكتابة المترفعة عن الحزبية ولا تخلده الكتابات السياسية.
وأذكر مرة أني وصاحبا لي كنا نتحدث عن ابن حزم فقلت: إن أباه كان وزيرا. فقال: ما اسمه؟ قلت: لا أذكر. قال: سبحان الله! أتذكر ابن حزم العالم ولا تذكر أباه الوزير؟! قلت: هو كذلك.
وبلغني أن مرشحا للمجمع اللغوي الفرنسي كان وزيرا لفرنسا في أمريكا، فطلب إليه أن يقدم طلبا ليكون عضوا، فكتبه على ورقة طبع عليها اسم السفارة الفرنسية في أمريكا، فرفض المجمع ترشيحه؛ لأنه ظن أنه يدل بمركزه السياسي على مركزه في المجمع، وهو يعتقد بحق أن مركزه الأدبي في المجمع أشرف من مركزه السياسي.
ونقطة أخرى يؤسف لها، وهو أن الأدباء عندنا كانوا أدباء مستقلين لا يعدون من يخلفهم، فإذا زالوا زالت مدارسهم، وتسكع من بعدهم طويلا حتى يختطوا الطريق، لم يفعلوا ما تفعل شجرة الموز، فقبل أن تموت تترك خلفا لها من جنسها، إنما فعلوا ما فعلت شجرة الورد تنضر حينا ثم تذبل من غير عقب، إن الأديب كالمتصوف، والمتصوف الكبير ينبغي أن يعد مريدا صغيرا حتى تتصل الحلقات، وقرأت بحثا لطيفا لابن خلدون في هل يشترط في المتصوف أن يتعلم على شيخ، أو أنه ينال غرضه استقلالا، فكان من حجج المؤيدين لحجج المشيخة أن هناك أسرارا في قلب الشيخ، وليست مما في الكتب، والكتب تعلم الناس عامة، والشيخ يعلم المريد ما يصلح له، وما يتناسب مع نفسه وبواعثه وبيئته، وقد كان القدماء لا يقدرون المتعلم يأخذ علمه من الكتب، ويسمونه صحفيا، بل حتى لا يكتفون بالأخذ عن الشيخ حتى يكتب له إجازة، وفي كتب التاريخ صور كثيرة من الإجازات، فما بال أدبائنا يعيشون لأنفسهم، ويساعدون على هوة تكون بينهم وبين خلفهم، ونشاهد هذا فيمن بعد جيلنا؛ فقد كان من قبلنا يأخذ عن القدماء بأساليبهم القديمة، ثم جئنا نحن حلقة وسطا بين القديم والجديد، ثم عيب من يأتي بعدنا أنه يعرف الجديد ولا يعرف القديم، فتراث من قبلنا سيذهب هباء، أو تتراكم عليه الأتربة في المكاتب، مع أن فيه كنوزا قيمة تناسبنا نحن أكثر من الكنوز الغربية، إن برنارد شو وه.ج ويلز وأمثالهما لم يكونوا يستطيعون أن ينتجوا ما أنتجوا إلا بمريدين لهم، يعدون لهم المواد الخامة، ويستفيدون من عملهم، فما بالنا لا نعمل مثل ما عملوا، إنها الأنانية المحضة وعدم التقدير للعواقب، إن الأديب يظن أنه يعمل لنفسه فيربح ما يربح، ويؤلف ما يؤلف، ليشتهر أو ليربح، ويقول: بعدي الطوفان، وليست هذه فكرة إنسانية ولا قومية، وقد علمنا آباؤنا أن نزرع شجرة الزيتون ولو لم نأكل ثمرها في أعمارنا وقالوا: قد زرع من قبلنا فأكلنا، ونزرع ليأكل من بعدنا، إن أخشى ما أخشاه أن يرمي الأدباء أعباءهم فلا يجدوا من يحملها بعدهم، ولست أقول هذا مزدهيا ولكن أقوله باكيا، وأخشى أن يمر زمن طويل حتى يرزق الله الأدب من يحمل عبئه، وخير أن يكون الأدب بيعا يدا بيد من أن يكون بيعا سلما، وكما يحمل تبعة ذلك الأديب نفسه يحملها الأديب الناشئ، فهو ينفر من أن يكون «مريدا»، ويود أن يتزبب قبل أن يتحصرم، أو أن يطلع المئذنة من غير سلم، وما هكذا تنال الأمور، فكم خضعنا لننال، وكم صبرنا لنفهم، وقد عودتنا الأيام أن ليس طريق العلم والأدب سهلا معبدا، وإنما هو طريق مملوء بالأشواك، لا يسير فيه إلا من تحصن بالصبر والأناة.
كيف تتغير الأمم
الأمة في حركة مستمرة دائمة، فهي طورا إلى الأمام وطورا إلى الخلف، ولكنها لا تقف أبدا، وحركتها تحدث في بطء قلما ترى نتائجها إلا بعد عهد طويل، وكثيرا ما يكون هذا التغير ضروريا لتغير العادات والتقاليد التي ينشأ عنها تغير في الأوضاع؛ فمثلا تغير الطبيعة من صيف إلى شتاء، ومن شتاء إلى صيف، ينشأ عنه تغير في الملبس، وكالذي شاهدناه من سفور المرأة قد نشأ عنه تغير في الملابس وتغير في أوضاع الزواج وغير ذلك.
فالتغير يسلم بعضه بعض، وهو يحدث عادة من الطبقة الراقية الأرستوقراطية، سواء كانت أرستوقراطية في المال؛ فإن الفقير مولع أبدا بتقليد الأغنياء، أو أرستوقراطية علمية؛ فإن المتعلمين عادة ينقدون الجهلاء في اعتقاداتهم بالأساطير وفي تقاليدهم الوضيعة فيكون التغير.
والتغيير عادة يقابل بالمقاومة، فكل تغيير تقابله بعض الجهات بالعداء، فبكل أمة محافظون يكرهون التغيير ولا يرضون عنه ويعبدون تقاليدهم القديمة، ولا يتم التغيير إلا بعناء، كالسفور وحق المرأة في الانتخاب ونحو ذلك.
وقد تحدث هذه المقاومة بحسن نية؛ إذ يعتقدون أن المقترح الجديد ضار كل الضرر ولا تتغلب العادات الجديدة إلا بعناء، وربما لا يحدث التغيير المطلوب إلا بعد حرب أو ثورة، وذلك عند شدة العداء أو المقاومة.
والمشاهد أن هذا التغير في الأمة إما أن يحدث عن دعوة وقصد، وإما أن يحدث لا عن دعوة ولا عن قصد؛ فالأول يأتي بعد درس لأضرار الحاضر ووضع خطة للعمل على تغييره، مثله حركة النبي محمد
صلى الله عليه وسلم
وحركة أحد السلاطين العثمانيين للقضاء على الانكشارية لما رأى ظلمهم وعسفهم، وحركة قاسم أمين في الدعوة إلى السفور ونحو ذلك.
أما الثاني فمثله هجرة جماعة إلى بلد آخر كهجرة بعض الأوربيين إلى أمريكا؛ فينشأ عن ذلك اختلاط بين سكان البلاد الأصليين، ومواليد جديدة تتخذ طرفا من هؤلاء وطرفا من هؤلاء.
ومثل ذلك السينما والإذاعة، فإنهما يقلبان من غير قصد عقول الجماهير وأذواقهم ومداركهم، والتاريخ مملوء بالأمثلة على النوعين، وما الثورة الفرنسية إلا مثل قوي على التغيير من النوع المقصود، وكذلك الثورة الروسية، وهما أيضا مثلان للثورة على النظم القديمة وعدم الرضا عنها، وربما دلت هذه الثورات وأمثالها على ضرورة شيء هام جدا، وهو تعديل الأمة نفسها على حسب الظروف الجديدة، وربما كان من خير الأمثلة على ذلك إنجلترا، فقلة الثورات فيها ناشئة من أنها تنظر نظرة بعيدة إلى الظروف الطارئة فتؤقلم نفسها حسب هذه الظروف؛ فلما شاهدت الثورة الفرنسية غيرت نفسها على مقتضاها، ولما رأت قوة الاشتراكية عدلت أيضا نفسها على وفقها، ولم تشأ أن تصطدم بها، وربما كان من أسباب ذلك أنها جزيرة بحرية تعلمت من البحر المد والجزر وتعديل النفس حسب الأمواج والرياح.
والتغير في الأمة إذا كان عن قصد كان صعبا عسيرا لاختلاف الأفراد في المزاج والثقافات والآراء والرغبات الطموح والأفكار، ورغبة بعضهم في الإصلاح الجديد، وصد بعضهم عنه وغير ذلك، ولذلك قل أن يكون إجماع من الشعب على التغير، وقل أن يكون في البرلمان الممثل للشعب اتفاق على رأي، وفي كل أمة قوم متزمتون يحافظون على القديم ولا يرضون أبدا عن التقدم خطوة للمصالحة بينهم وبين الأحرار، ولذلك كان الإصلاح البطيء غير المقصود أسلم عاقبة وأقل خطرا.
وكلما تقدمت الأمم في عقليتها كانت أقرب إلى قبول التغير؛ لأنها في هذا التغير الجديد تعمل عقلها أكثر مما تعمل مشاعرها، والعقل دائما أرقى من المشاعر.
أما الأمة الوضيعة فهي أقل قبولا للإصلاح؛ لأنها تعمل مشاعرها أكثر مما تعمل عقلها، ومن أجل هذا يحتاج المصلحون إلى دعاية قوية حتى تجمع الأمة على قبول التغير الجديد؛ فإذا لم تقبل فليس أمامهم إلا القوة لإخضاع هذه الميول المتأثرة المستبدة، فالاستبداد لا يقابل إلا بالاستبداد، فمتى حصل الإصلاح بالقوة شعر الشعب بعد ذلك بفائدته واطمأن إليه.
ولذلك كان التعليم خير إصلاح؛ لأنه يهيئ الأمة لقبول الآراء الجديدة فإذا تعرض الإصلاح لناحية دينية قوبل المنادي به بأقسى معارضة؛ لأن الدين ينشئ عادات وتقاليد يتمسك بها الناس ويظنون أنهم بهذا التمسك يعبدون الله ويؤدون واجبهم، ويظنون أن من أراد تغيير هذه العادات والتقاليد يريد تغيير الدين، وما أشد ذلك على النفوس، وفي التاريخ كثير من الأحداث الدينية والوسائل السياسية اللتين وقفتا عقبة في سبيل الإصلاح والمصلحين؛ وكثيرا ما ادعي من الدين ما ليس من الدين، وكثيرا ما لعبت السياسة دورها الخطير في شعورها أن الإصلاح يضرها، فهي لا تصرح بذلك؛ لأن الجمهور يكشف لعبتها، وإنما تثير الشعوب بإفهامهم أن الإصلاح يضرهم، بينما لا يضر الإصلاح سوى صالح الساسة، وكم من الحريات والإصلاحات كبتت باسم المحافظة على النظام ومراعاة المصلحة العامة.
مستقبل العالم
قرأت مقالا للفيلسوف البريطاني برتراند رسل كتبه حديثا في مستقبل العالم، فأحببت أن أستوحي كتابته للقراء ولنفسي.
إن عالم اليوم في هلع وفزع، وهرج ومرج، وحيرة واضطراب، من جراء ما اخترعه العلم الحديث من أسلحة نارية وقنابل ذرية تتكاثر على مدى الزمان، ومتى تكاثرت فستنفجر يوما ما إن عاجلا وإن آجلا، ويزيد في هذا الخطر خلو العالم الإنساني من الضمير الحي، ورغبة بعض الناس في وقوع الحرب؛ لأنها مظهر من مظاهر البطولة وحب التضحية، وقد شغف بهما بعض الناس، فأحبوا آلهة الحرب بأشكالها المختلفة، وما لم يحدث ما ليس في الحسبان (كاتفاق على إلغاء الحرب وموت بعض الزعماء الذين يدعون إليها ونحو ذلك) فسيواجه العالم مشاكل عديدة، وتكون النتيجة أحد أمور ثلاثة: (أولا):
فناء البشرية. (ثانيا):
عودة العالم إلى البربرية. (ثالثا):
توحيد العالم وخضوعه لحكومة واحدة.
فأما فناء البشرية، فيكون - إن حدث - نتيجة للأبحاث التي يقوم بها العلماء في القنابل الذرية وتحسينها والإكثار منها، وربما كان حدوثها سببا في انفجار الطاقة البشرية في كل الكائنات، حتى يتصل ذلك إلى الشمس فتنفجر أيضا، وتكون نتيجة ذلك انتهاء هذا العالم، وقد لا يحدث هذا في الحرب القادمة، ولكنه يحدث إذا تقدم العلم في هذا الطريق، وكل الدلائل تدل على الوصول إلى هذه الغاية، واحتمال وقوعها، والله تعالى يقول:
حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس ، وهذا ما هو حادث اليوم؛ فقد ازينت الأرض بالمخترعات الحديثة وظن أهلها أنهم يستطيعون التغلب على القوانين الطبيعية، وأصبح من خلق العلم الحديث إخضاع القوى الطبيعية واستعبادها بعد أن كانت النفوس البشرية تصادقها ولكن لا تخضعها.
أما الاحتمال الثاني، وهو عودة العالم إلى البربرية، وبدؤه من جديد بناء الحضارة وتهجيه ألف باء بعد أن وصل إلى الياء، فيأتي من احتمال أن الحروب القادمة تزيل الأمم المتحضرة ولا يبقى على وجه الأرض إلا المتبربرين سكان الصحاري وأمثالهم، فيبدأون من جديد في تعمير ما خرب، وتمر عليهم أعوام يكتشفون فيها المعادن، ثم آلاف السنين يكتشفون فيها الآلات، وهكذا يعيد التاريخ نفسه.
وأما الاحتمال الثالث، وهو إنشاء حكومة واحدة تحكم العالم؛ فقد يحدث، كما حدث لتطور الفرد؛ فقد كان الفرد إذا غصب حقه استرده بالقوة، وذلك قبل إنشاء المحاكم، فلما رقى وجدت المحاكم للفصل في المنازعات وحرم أخذ الحق بالقوة، ودعمت المحاكم بالبوليس والقوى التنفيذية؛ فلماذا لا تصل الأمم إلى ما وصلت إليه الأفراد، فلا يكون هنالك حرب لدفع الظالم، ولكن إذا اعتدت أمة على أمة، فصلت محاكم كمحاكم الأفراد فيها، وكان لها من القوة التنفيذية ما تستطيع أن تنفذ به حكمها، وقد أدرك هذا المقترحون لإنشاء محكمة العدل الدولية، وعصبة الأمم، وهيئة الأمم المتحدة، ولكنهم مع الأسف قد فشلوا؛ لأنهم أنشأوها محكمات أو هيئات أفلاطونية، لا تملك وسائل التنفيذ، فهي محكمة ليس لها بوليس، وذلك الاحتمال يحدث عند نشوب حرب عالمية تكون من نتيجتها اكتساح روسيا لبريطانيا وفرنسا، ويبقى العالم أمام قوتين: روسيا وأمريكا، وهما الدولتان العظيمتان في العالم اليوم، فإن انتصرت أمريكا الرأسمالية ففي ذلك مزاياه وعيوبه، فمن أكبر عيوب أمريكا، هذه الرأسمالية والفروق الكبيرة بين الطبقات، ومن مزاياها حرية الرأي وحرية القول وحرية الصحافة وحرية الأدب والفن، وهي مزايا لا يستهان بها، يقول برتراند رسل: إنه شخصيا يفضلها على كل ما عداها ، ويأمل نجاح أمريكا لهذه الغاية، وإن انتصرت روسيا فلها كذلك مزاياها وعيوبها: فمن أهم عيوبها الحجر على حرية الرأي والبحث والعلم واستخدام الأدب والفن في خدمة السياسة، ومن مزاياها - كما يقال عنها - المكافأة على العمل لا على رأس المال، وقد يقول قائل: من أين عرفنا هذا وروسيا مغلقة الأبواب، فنقول: إن روسيا لما استولت على بولندا طبقت عليها نظامها، وبولندا مفتحة الأبواب تحت أعين من يراها، وقد كان فيها طائفة مثقفة شردت وأهينت وكبتت، ومن استطاع البقاء منها جارى نظام السوڨيت، وأصبح أدبها أدبا في خدمة الشيوعية، ومن المعقول أنه إذا انتصرت روسيا كانت حكومتها هي الحكومة العالمية واكتسحت ما عداها، ونفذت آراءها بالقوة، وكان شأن العالم كله شأن بولندا الآن، ومن غير شك، إذا كانت هناك حكومة عالمية موحدة، لم يخل نظامها من ثورات تحدث بين حين وآخر، كالذي يحدث في كل أمة، خصوصا في أول أمرها، ولكن مصير تلك الثورات إلى فناء، وستتسكع الدولة الجديدة في سيرها، كما تسكعت محاكم الأفراد في أول أمرها حتى تستقر على مدى الزمان، فأي هذه الاحتمالات الثلاثة هو الذي سيحدث؟ أم لا يحدث هذا ولا ذلك، بل ما يحدث ما قال أبو العلاء: وتقدرون فتضحك الأقدار؟ علم ذلك عند الله.
خواطر
(1) مدرسة جديدة
1
قرأت في إحدى الصحف الإنجليزية أن أستاذا إنجليزيا اسمه مستر بلوم أنشأ مدرسة جديدة، وجعل أساسها عدم الخوف مطلقا، من أي صنف كان، لا خوف من الأساتذة، ولا خوف من الامتحانات، ولا خوف من العقاب يؤدب به الطلبة، ولا غير ذلك من أنواع الخوف، وقد أرصد النتائج لذلك، فقال: إنها أنتجت نتائج باهرة، فالطالب إنما يعتمد على ضميره، وقد خرج من المدرسة شاعرا بالحياة، مبتهجا بها، بل جعل مجلس شورى للطلبة ومن الطلبة، يضع لهم مناهجهم، ويوجه نظرهم إلى ما يجب أن يعملوا، وما لا يعملوا.
وقد لفت نظري هذا، إلى أن من فكر هناك فكرة جديدة، مكن له أن يجربها في حرية، فإذا نجحت عممت، سواء في ذلك الأفراد والحكومات، أما عندنا فلا بد أن ينصب التعليم في قوالب معينة، ومن نادى بفكرة جديدة أهمل، ولم يلتفت إلى فكرته.
وقبل ذلك نادى ابن خلدون في مقدمته بعدم التخويف وأبان أنه ضار بالمتعلمين، يقول: «إن الشدة على المتعلمين مضرة بهم؛ وذلك أن إرهاق الحد بالتعليم مضر بالمتعلم، سيما في أصاغر الولد، ومن كان مرباه بالعسف والقهر من المتعلمين أو المماليك أو الخدم، سطا به القهر وضيق على النفس في انبساطها، وذهب نشاطها، ودعاه إلى الكسل وحمله على الكذب والخبث، وعلمه المكر والخديعة وصارت له هذه عادة وخلقا، وفسدت عليه معالم الإنسانية التي له من حيث الاجتماع والتمرن».
ونظرة ابن خلدون وتحليله تتفق مع نظرة الأستاذ بلوم، غير أن بيئة بلوم مكنته من نشر فكرته، وتحقيق رغبته، وأما بيئة ابن خلدون، فجعلت نظرته مدفونة في كتابه إلى يومنا هذا، وكم له من نظرات صائبة.
وإذا قرأت ذلك ذكرت ما لقيته في حياتي من تعذيب وتخويف من مبدأ صباي، كان أبي شديدا قاسيا، يضرب ويشتم حتى على ما لا يستحق الشتم، وذهبت إلى الكتاب، فكان فقيه المكتب قاسيا شديدا، يضربني حتى لأني لم أهتز وأنا أقرأ، وفي المدرسة الابتدائية كان لنا مدرسون يضربوننا ويعاقبوننا أشد العقاب، حتى لأتفه الأسباب، ولما ذهبت إلى مدرسة القضاء خوفونا من الامتحان، فكان من يسقط في الامتحان ولو في مادة واحدة، منعت عنه المكافأة التي يأخذها كل شهر ... كل هذا جعل الحياة قاتمة، والنفس غير مبتهجة، تحزن لما يحزن، ولا تفرح لما يفرح، فإن بقيت بقية قليلة من التمتع بالحياة، فذاك من فضل الله، وإلا فأساليب التربية كفيلة بإماتتها، وكم في الأمة من نفوس ماتت من أساليب القسوة، وفقدت قيمتها، وكانت تكون مفتحة مشرقة، مصدرا لخير كبير، لو عوملت معاملة حسنة.
وبعد: فلو فتحت مدرسة في مصر على هذا النمط، أتعيش وتنجح، أم تموت وتفشل؟ إن هذا محل تفكير طويل، فمدرسة الحرية التي تؤسس على عدم التخويف يجب أن تكون في بيئة مشبعة بالحرية، أما بلد ضيقت فيه الحرية من قرون، وكل ما حول الناشئين ظلم وتعذيب، وتعويذ إن لا يعمل الشيء إلا خوفا من عقوبة أو ترغيبا في مثوبة، فمن الصعب أن ينشأ في وسط هذه البيئات جو مملوء بالحرية، إن أردت أن تنجح مثل هذه المدرسة، فأصلح بيئتها وما حولها، أصلح البيت وأصلح الكتاب، وأصلح معاملة الشرطي للباعة، ومعاملة العمد للفلاحين، والمأمورين للعمد، والمديرين للمأمورين؛ لأنها كلها سلسلة مرتبطة بعضها ببعض.
ومحال أن تعيش نظيفا في وسط قاذزوات، أو تسلك سبل الفضائل وحولك ما لا يحصى من الرذائل، وكانت العرب قديما تقول: «ما أشبه حجل الجبال بألوان صخورها». (2) الإنسان طفل كبير
تاريخ الإنسان من قديم ضيق فسعة بالتدريج، فالطفل الصغير أناني إلى أقصى حد، لا يعرف أحدا غير ذاته، إذا أحضر أبوه شيئا، فهو له كله، وليس لإخوته حق فيه، ويود لو أحضر له أبوه الشمس والقمر في حجره ، ويرى أن كل شيء في الوجود له لا لغيره، حتى إذا كبر قليلا، فهم أن لإخوته حقا، ولكن أقل من حقه، فله وحده النصيب الأوفر، ثم إذا كبر قليلا أدرك أن الخير الذي يأتي، للعائلة كلها، ثم إذا شب أدرك معنى الوطنية، وهكذا، كذلك الإنسان فهو طفل كبير، يبدأ حياته بالأنانية فهو إذا لم يتزوج كان كل خير يناله له لا لغيره، فإذا تزوج أشرك معه زوجته وأولاده وأبويه، فإذا شد قليلا، أدرك معنى القومية والوطنية، وأن أمته يجب أن ينالها كل خير، ويدفع عنها كل شر، فإذا نما عقله دعا إلى الإنسانية لا القومية، بل رأى أن الوطنية نكبة من نكبات العصر الحديث، وفي الناس أطفال كبار، لا يفقهون إلا البيت في أضيق حدوده، وفيهم أيضا من ذهبوا إلى الطرف الآخر، فأدركوا أن كل من في العالم إخوة، حتى الشجر والثمر، وأدركوا أن لا فرق بينهم مهما اختلف دينهم، سواء كانوا يهودا أو نصارى أو وثنيين، وفي ذلك يقول محيي الدين بن العربي أبياته اللطيفة:
لقد صار قلبي قابلا كل صورة
فمرعى لغزلان ودير لرهبان
وبيت لأوثان وكعبة طائف
وألواح توراة ومصحف قرآن
أدين بدين الحب أنى توجهت
ركائبه، فالحب ديني وإيماني
وقد مر على هذه الأدوار كلها شعراؤنا الثلاثة المشهورون: شوقي وحافظ ومطران فكانوا في بعض شعرهم أنانيين، ثم كانوا وطنيين، ثم كانوا إنسانيين، والإنسان إذا رقي كان كالطبيب الراقي، يعالج المريض بقطع النظر عن أنه فقير أو غني، مسلم أو يهودي أو نصراني، لا ينظر إليه إلا على أنه إنسان مريض، بل قد يتعدى بعضهم الإنسانية، فتتعدى رحمته القطة والكلب والضفدعة، وكان رسول الله يقبل الطفل حديث العهد بالولادة، والثمرة الناضجة الحديثة العهد بالسقوط، ويقول: «إنها قريبة العهد بربها»، ولو تجرد الناس كلهم من ضيق الأفق لرأيت عالما غير هذا العالم: عالما لا حرب فيه، ولا إجرام، ولا وطنية، بل هي إنسانية وعالمية تحل محل الوطنية، ولا مستعمر، بل كل من فيه إخوان، يأخذ فيه القوي بيد الضعيف حتى يقوى، والعالم بيد الجاهل، حتى يعلم. (3) الصداقة
الظاهر أن أساسها تناسب المزاج، وأعني بتناسب المزاج غير وحدته؛ فقد يكون المزاجان متناسبين، وهما مختلفان، كأن يكون أحد الصديقين قوي الشخصية، والآخر ضعيفها، فكل يرى أن الآخر يكمل نفسه ولو كانا قويي الشخصية أو ضعيفيها لتنافرا.
بل أعلم أنه في كثير من الاحيان تسوء العائلة ويكثر الشقاق؛ لأن كلا من الزوجين قوي الشخصية أو ضعيفها، ولو اختلفا في الشخصية لاتفقا، وأحيانا يكون أساس الصداقة وحدة الغرض، نبيلا كان أم خسيسا؛ فقد يصطحبان على الكأس، وقد يصطحبان لخدمة معينة للوطن، أو لخدمة علمية كما فعل إخوان الصفا.
ويلعب لعبا كبيرا في هذه الصداقة القدر؛ فقد يتصادق اثنان لأنهما تقابلا في القطار، أو تكلما في وليمة، أو نحو ذلك، وكانا لا يتصادقان لو لم يحدث هذا الحادث المفاجئ.
ويعمل عملا كبيرا في الصداقة مركزهما الاجتماعي، كأن يكون مركز الاثنين رفيعا أو وسطا أو وضيعا.
ونجد في هذه الحياة أحيانا رفيع المنصب يصادق وضيعه ولكنها ليست الصداقة الحقيقية بل إن الأول يصادق الثاني كخادم له، والثاني يصادق الأول اعتزازا بصداقة كبير يفتخر به، أو كان الاثنان متصادقين في الصبا ثم اختلفا في المنصب، وبقيت الصداقة.
ونلاحظ أن الصداقة على أنواع: فقد يكفي في تكوينها وقوع للنظر على النظر، أو المحادثة من أول كلمة، فتكون كشعلة النار، تلتهب التهابا سريعا، وقد تكون الصداقة متكونة على طول الزمن، وربما كانت هذه أحسن.
وهناك أشخاص نمت عندهم قوة الصداقة، فهم سرعان ما يصادقون، وهناك أناس حذرون قلما يصادقون، ولكن والحق يقال، إن هؤلاء الحذرين الذين لا يصادقون إلا بعد طول أناة وكثرة تجربة أقدر على الصداقة الحارة.
ويجب أن يدقق في التفرقة بين المعارف والأصدقاء، فكثير هم الذين نعرفهم وقليل جدا هم الذين نصادقهم.
وكثيرا ما يفسد الصداقة سوء الظن، أو سوء التفاهم، أو تغير الحال، كمن كان ضعيفا ثم قوي، أو قويا ثم ضعف، ومن أغرب ما يضعف الصداقة أن تكون الصداقة مبنية على العقل لا على العاطفة، ويعجبني قول الشاعر:
ليس يستحسن في شرع الهوى
عاشق يحسن تأليف الحجج
بني الحب على الجور فلو
أنصف المحبوب فيه لسمج
وأسوأ ما يفسد الصداقة أنانية أحد الصديقين، فهو يريد أن يعامل صديقه معاملة السيد لعبده، فهو دائما يتحكم في صديقه، فيما يأكل وما لا يأكل، وفيما يرى في السينما وفي التمثيل وما لا يرى، وفيما يفعله في النزهة والرياضة وما لا يفعل، وليس يسمح لصديقه أن يتحكم مرة واحدة في حياته.
وعلاقة الصداقة الطيبة ارتياح الصديق لصديقه، والاطمئنان إليه، وعد ساعات الوصال أسعد من الاجتماع بآلاف المعارف، ثم يشعر الصديق بما يشعر به المحب من لذة الوصال وألم الفراق، لا أن يتركه لمجرد المصادفة، يهش حين يراه، ولا يذكره حين يغيب عنه.
ومما يلاحظ أن من أكبر أسباب الألفة وجود النفس المرحة في الصديقين أو أحدهما فذلك يضفي على الصداقة سرورا وبهجة، ويجعلها كالحديقة الناضرة أو المصباح المضيء.
إذا تمت هذه الصداقة، سهل على الصديق أن يؤثر في صديقه حتى ليتحقق ما يقول أرسطو: «الصديق هو أنت إلا أنه غيرك»، وصدق العرب ؛ إذ جعلوا أنه يمكنك أن تعرف الشخص من صديقه: إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.
آه ما أكثر أسفي لو فقدت صديقي، وما أكثر فرحي لو عثرت على صديق بمعنى الكلمة، ولكن تمر الأيام ويفقد بعض الأصدقاء، ويقل تقويم بعضهم.
وما الحياة بلا صديق؟ إنها عيش في صحراء، أو حمام ناعم بلا ماء. (4) الملكية والجمهورية
يتحدث الناس كثيرا هذه الأيام في الملكية والجمهورية: أيهما خير، وقبلنا درس الناس هذا الموضوع وأشبعوه دراسة، درسه الفرنسيون عقب الثورة الفرنسية ووصلوا من دراسته إلى تقرير الجمهورية، ودرسه كثير من ممالك أوروبا ووصلوا إلى هذه النتيجة، ودرسه الأتراك عقب ثورتهم، وبحثوا في الخلافة طويلا وقرروا بقاء الخلافة، ثم أزالوها وقرروا الجمهورية، ودرسه السوريون واللبنانيون وقرروا الجمهورية، فترى من هذا أن الدراسات العميقة تنتج الجمهورية، وكان الشأن كذلك في أمريكا، ولا نعرف أمة درست وفضلت الملكية إلا إنجلترا، وبعض ممالك أخرى قليلة، فلماذا وصلوا إلى هذه النتيجة؟
رأوا بعد الدرس أن الملكية تصطحب دائما بمفاسد، فكل ملك عادة يحيط نفسه بحاشية يستخدمها في جمع الثروة، والدعوة لعظمته والإيقاع بمن يخرج عن إرادته بشتى الوسائل، وفي عصري أنا شاهدت أربعة كانوا على هذا المنوال، وطالما صرخ السيد جمال الدين الأفغاني من حاشية إسماعيل وتوفيق، ونصح توفيقا بتغيير حاشيته في الصحف والمجلات وفي أحاديثه الخاصة والعامة، فلم يفلح؛ ذلك لأن الملكية عادة تشعر صاحبها بالسلطة وهو يرى أن السبيل إلى السلطة ممهدة له، ففي يده الجند، وفي يده المال، وفي يده جميع السلطات، وهذه كلها تستدعي الغرور، والإمعان في الظلم:
والظلم من شيم النفوس فإن تجد
ذا عفة فلعلة لا يظلم
لذلك كله تتعمق سلطته، وتتسع عظمته، حتى لا يمكن إخراجه إذا ظلم، إلا بثورة أو شبهها، لذلك كره الناس الملكية، وفضلوا عليها الجمهورية، وحتى العثمانيون في ثورة مصطفى كمال أبقوا السلطان عبد الحميد لاعتبارات عدة؛ أهمها: أن بقاء الخلافة يربط بينها وبين العالم الإسلامى كله رباطا وثيقا، فلما رأوه يدس لهم الدسائس ويعمل ليسترد سلطانه، ورأوه يمهد السبيل لعودة الاستبداد، وغير ذلك، ضحوا بما تنتجه الخلافة من رباط، وألغوا الخلافة، وعادوا فقرروا الجمهورية.
ومما جعل الناس يفضلون الجمهورية أن الرئيس زمنه محدود بسنتين أو ثلاث، فإذا أساء أمكن اختيار غيره بعد احتمال رذائله، أما الملك فلا يحد مظالمه إلا القدر بموته، أو ثورة بانتزاعه، هذا إلى أن رئيس الجمهورية نفسه يعلم أنه مؤقت بالزمن وأنه مضطر إذا أراد تجديد زمنه أن يحاسن الشعب، ويسير فيه سيرة مرضية، وإنما حمل إنجلترا على اختيار الملكية أنها أرادت أن تحافظ على الشكل؛ مراعاة لتقاليدها، وتكون جمهورية في واقع الأمر، فالسلطان هو للبرلمان لا للملك، واخترعوا العبارة المألوفة «الملك يملك ولا يحكم» وجروا على ذلك وطبقوه تطبيقا دقيقا، فإنجلترا ملكية، والملك فيها كلا ملك.
وضرر آخر وهو أن المستعمرين عادة يفضلون الملكية في المستعمرات على الجمهورية، فيفضلون ملكا لمصر، وبايا لتونس، وسلطانا لمراكش إلى آخره، والسبب في ذلك أنهم رأوا من الصعب أن يخضعوا الشعوب مباشرة، إنما يسهل عليهم أن يخضعوها بواسطة الملوك، فمن السهل على المستعمرين أن يخضعوا الملك ومن السهل على ملك الشعب أن يخضعه، ولذلك كان أحب إلى الإنجليز والفرنسيين أن يروا في الشرق ملوكا لا جمهوريات.
قد يقال: إن الملك إذا كان صغيرا أو اختير من العائلة المالكة فأحسن الاختيار، لم يكن منه ضرر، ولكن الزمان يكبر الصغير، والحاشية تفسد الصالح، فما لنا نعقد العقدة ثم نحاول فكها، فخير لنا ألا نعقد ولا نفك. (5) البقاء للأصلح
من رأيي أن العالم يتقدم دائما من وقت أن خلقه الله، وأن الأنبياء جاءوا بشرائع مختلفة وفقا لتقدم الإنسان - قد تتخلف بعض المرافق، وتتخلف بعض الأخلاق، وتتخلف بعض الأمم في العالم، بل قد تفنى، ولكن العالم ككل يتقدم دائما، ومن أغرب الأمر أن ساسة بعض الأمم لا يريدون أن يفهموا ذلك، فهم يريدون أن يعاملوا الأمم اليوم، كمعاملتهم بالأمس، ولكن لا بد أن ينهزموا؛ لأنهم كلسان في البحر، تأكله المياه من كل جانب، يوما بعد يوم، ولأنهم نشاز في الطبيعة ، انظر مثلا مسألة الاستعمار؛ فقد أصبحت غير متفقة مع الزمان؛ لأن المستعمرين فهموا حقوقهم أكثر مما كان يفهمها آباؤهم، وأصبحوا يضحون بدمائهم وأنفسهم وأموالهم، أكثر مما كانوا يضحون، ولكن أين ذلك وعقول الساسة المستعمرين؟ لقد أخذتهم العزة بالإثم، وخجلوا مما لا يخجل منه: خجلوا من أن يقولوا لأممهم: إن الاستعمار أصبح لا يناسب الزمان، فاستمروا في غلوائهم، لا الأمم المستعمرة تعدل عن المطالبة بحقوقها، ولا المستعمرة تعدل عن استعمارها ولا بد من ضحايا كثيرة، حتى يفهم المستعمرون ما لم يفهموه اليوم، ها هي فرنسا تمعن في عدوانها في تونس والجزائر ومراكش، وتعتز بقنابلها، والقنابل وإن عملت في الأجسام، لا تعمل في الأرواح، وما ذنب أمة تحاول أن تعيش، وتقدر الحرية وتطالب بحقها في الحياة السعيدة؟ ولكن بدل أن يقابل ذلك بالتشجيع تقابله فرنسا «نصيرة الحرية» بالحديد والنار، وتصيح بملء فمها: هذه مسألة داخلية بيني وبين المغرب، لا يحق لكائن من كان أن يتدخل فيها، كأن الظلم لا يصح أن يرتفع صوت أحد في استنكاره، وتسقط وزارة فرنسية، وتقوم أخرى، فتظل سياستها على حالها، ولا يرتفع صوت أحد في إنجاد هؤلاء المظلومين، كأنهم يستحقون العذاب لأنهم مسلمون، ولو كان مكانهم نصارى لارتفعت أصوات السخط من كل جانب، كما ارتفعت من قبل يوم تسلط الأتراك على اليونان، أو كما تسلط العراق على الأرمن، فالحروب الصليبية لا تزال كامنة في النفوس، لم يزلها تقدم الزمن، ولا انتشار الثقافة.
وهذه إنجلترا تعامل مصر وإيران معاملة الأسياد للعبيد، لا تريد أن تتخلى عن بلد، ولا تعترف بحقوقها، وتعرضان شتى الحلول، فلا يقبل منهما حل، وقد علمت إنجلترا الأحداث أن الزمان يخدمها أكثر ما يضرها، ولكن هذا الزمان الذي كان يخدم، أصبح لا يخدم، والمشكلة باقية، والزمان يعقدها، ولا نجاة حالا أو مستقبلا إلا بتغير عقلية الساسة، ومسايرة الزمان.
وهذه أمريكا لا تزال تضطهد الملونين كأنهم عنصر من غير الإنسان، لا تعترف بحقوقهم، ولا تعاملهم معاملة البيض على السواء، والأمثلة على ذلك كثيرة، فهم يحاولون تدوير عجلة الزمن إلى الوراء، ومحال ذلك.
والحكيم من عرف مقتضيات الأحوال، وأحكام الزمان، فسار وفقها لا ضدها، كالذي يعرف التيار فيسير معه، ولا يسير ضده، وإذا كان الزمان قد حقق آمال بعض الأمم، فلا بد أن يحقق آمالا أخرى.
إن الذي طاح بالملوك السابقين أنهم لم يفهموا الزمان ولا مقتضيات الأحوال وعاكسوا التيار بكل قوة، فلم تغن عنهم قوتهم شيئا، وأصبح الملوك الباقون هم الذين يملكون ولا يحكمون، والعاقل النبيه إذا سئل عم أمر هل سيتحقق أو لا يتحقق، قرأ القانون الماضي، ونظر: هل هذا ينتج عنه تقدم العالم أو لا ينتج، فإن كان الأول حكم بأنه يحدث قريبا أو بعيدا، وإلا لم يحدث، والسخيف يعتقد أنه إنما يحكم بذلك بناء على تنجيم أو ولاية أو نحو ذلك.
ولئن قال القدماء: إن التاريخ يعيد نفسه، فهو إنما يعيدها لا بالطبعة القديمة، وإنما يعيدها طبعة منقحة حسب مقتضيات الزمان، ومن أجل ذلك شرع كل قانون قابل للبقاء بابا يبقى مفتوحا إلى الأبد، وهو باب مسايرة الزمن، ومقابلة الجديد من الأحداث، تسميه بعض المذاهب اجتهادا وبعض المذاهب مصالح مرسلة، وبعض المذاهب استحسانا، والكل شيء واحد، أما القوانين التي تجمد على القديم، وتقول في كل حادثة: القديم على قدمه، لا يمكن أن تبقى.
كم جاهدت الأمم في الشرق والغرب ضد الاستبداد، وضد المصادرات، وضد العبث بالأنفس والأموال، وكم لاقت من العناء في سبيل هذا الجهاد، ثم انتصر أخيرا الحق، وعبر دارون عن ذلك بقوله: «البقاء للأصلح»، فانظر في كل مشكلة من المشاكل يجاهد الناس فيها، وتختلف آراؤهم واحكم بأن الصالح هو الذي سيبقى، وفي القرآن الكريم:
فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض . (6) مثل أعلى أخلاقي
قد تحيرت في عمل الفلاح، تحول قناته من غيطه إلى غيط آخر، فيتنازع ويتخاصم، وقد يؤدي ذلك إلى قتل، ولكن قد يذله العمدة أو شيخ البلد فيمرغه في التراب، وقد يفعل المأمور بالعمدة ذلك فلا يتحركان ولا ينبسان بكلمة.
هكذا قال صاحبي، وزاد علي فقال: أليس عجيبا أن نرى أهل البلد يتحملون ظلم حكومة سنتين أو أكثر فلا يحركون ساكنا ولا يثورون على هذه الحكومة، ولم نسمع مرة أن برلمانا يمثل الأمة أسقط حكومة من الحكومات أو صوت ضدها؛ لأنها أتت عملا سيئا، وتصرفت تصرفا ظالما، مع كثرة ما تأتي به من الأعمال السيئة الظالمة.
قلت: إن المصريين في أشد الحاجة إلى زعيم يزيد شعورهم بالعدالة، ويبلور أفكارهم ومشاعرهم، حتى يتأثروا بها تأثرهم بقطع الماء عن مزارعهم.
لقد نجح المرحوم النقراشي باشا في بلورة الغرض السياسي للأمة وهو الجلاء ووحدة وادي النيل، فكان ذلك على كل لسان حتى الأطفال في ألعابهم، والمغنين في أغانيهم، والمذيعين في إذاعتهم، وكان على لسان الشيوخ والشبان والرجال والنساء، ونحن أحوج ما نكون إلى زعيم يبلور لنا مثلنا الأعلى الأخلاقي، فيقول مثلا: إن غرض الأمة العدالة والنظام، يجريها على لسانه فتجري على لسان كل أحد؛ إذ ذاك لا يجرؤ أحد أن يظلم، ولا يطيق أحد أن يصبر على الظلم.
ثم يأتي من الأفعال ويضع من الأنظمة ما يحقق العدل زمنا طويلا، حتى يألفه الناس، ويثوروا على النظام وظلمه، وليست تفلح أمة شعورها متبلد، بل هي تهتف للظالم فلا يجد ما يصده عن ظلمه.
إذ ذاك يخاف العمدة من أن يظلم الفلاح، ويخاف المأمور أن يظلم العمدة، ويخاف المدير أن يظلم المآمير، وتخاف الحكومة بأسرها إذا ظلمت أحدا؛ لأنها تشعر أن الرأي العام قوي الشعور بالعدالة، لا يحتمل أي ظلم، والحكومة لا تعدل إلا إذا خافت. (7) إذا بطل العجب انتهت الحياة
كل ما يمكنك أن تدركه من فرق بين الذكي الألمعي والغبي، هو كثرة العجب عند الأول وقلته عند الثاني.
إن الأول يرى في كل شيء ولو صغيرا مدعاة للعجب، يعجب من السيارة مثلا، ولكن يرى أنه أعجب منها حركة الرجل في السير، ويعجب من الراديو ولكن يرى أنه أعجب منه حاسة الشم، إنه يرى الكون كله مملوءا بالعجائب حتى الذرة في تكوينها، والنملة في معيشتها، ولذلك بنت الأديان كلها الدعوة إلى الإيمان على ما في الكون من عجائب، ريح تهب وسحاب يجري ومطر ينهمر، ولو دققنا النظر لرأينا أكثر الكلمات تحمل عجائب لا تنتهي.
انظر مثلا إلى كلمة «نما الزرع» كيف تحولت الحبة إلى النبات، وكيف تحولت البذرة إلى الشجرة، وكيف اختلفت الأشجار وكلها تسقى بماء واحد، كل هذا يستخرج العجب من البصير، فإذا انتهى العجب دل ذلك على أن الإنسان فقد حياته، ألا ترى الطفل يبدأ بالأسئلة الكثيرة نتيجة للعجب الكثير، فإذا أدركه الهرم زال عجبه فزالت حياته.
أكتب هذا وأنا أرى البحر وتموجاته، والرياح ولعبها بالأمواج، والسحابة تسوقها الريح حيث تشاء.
اللهم زدني عجبا أزدد حياة. (8) برلمان النفس
هممت هذه الأيام بعمل خطير، ثم راقبت نفسي ماذا تصنع، فإذا فيها برلمان داخلي كأدق أنواع البرلمانات وأنظمها؛ فقد بدأت تتحرك الرغبة أولا، وقامت تخطب وتبدي حججها في فصاحة وبلاغة، والكل يصغي إليها، ولم تطل في الحديث عما تشاء؛ اعتمادا على قوتها وعظمتها، ثم جلست في زهو وإعجاب، فوقف الضمير يعارضها، ويبدي عدم ارتياحه لطلباتها، مقتصرا على ما ينشأ عن هذه الرغبة من آلام، ثم وقف العقل، وقد وجدته أحيانا ترشوه الرغبة فيتكلم في مصلحتها ويدافع عن اتجاهاتها، ثم لاحظت أن الخوف يقف محذرا من تنفيذ طلباتها، منذرا بنتيجة عملها، مخوفا النفس والبدن من نتائجها، ورأيت بعد ذلك الخيال يحلق في الجو فيصور النتائج للعمل الذي تريده الرغبة نتائج جميلة أحيانا، وقبيحة أحيانا أخرى، وهو بهذا العمل يشجع أو يخذل، وأحيانا يسيطر الحب على الموقف فيؤيد الرغبة تأييدا جامحا، ثم بعد ذلك لا يسمع لعقل ولا لخوف، وأحيانا لا يكون للحب موقف في الأمر، ولكن تكون السيطرة للإباء والأنفة، فتعند النفس عن تنفيذ الرغبة، ثم رأيت أن هذا البرلمان تارة يثور فيطيح بكل العوامل الأخرى وينفذ الرغبة مهما كانت النتائج، وأحيانا يكون برلمانا هادئا يصغى فيه إلى كل الأصوات إصغاء تاما، سواء في ذلك المؤيدون والمعارضون، ثم تؤخذ الأصوات، والحكم بعد ذلك للأغلبية، وهو برلمان ثائر أحيانا هادئ أحيانا، يتكلم فيه المتكلمون بتؤدة وهدوء أحيانا، وبخروج عن اللياقة أحيانا، وأيا ما كان فهو برلمان بكل معنى الكلمة، يصور صورة صادقة للبرلمان الخارجي من مؤامرات ودسائس وألاعيب وخداع وكل ما يحدث في الخارج، ومن العجب أن تاريخ هذا البرلمان قديم، كان من عهد آدم ولم يلتفت الناس إلى تقليده إلا من عهد قريب، وحتى إلى الآن لم يتقنوا إتقانه وغابت عنهم بعض معانيه. (9) حوض اللذة
يعجبني تعبير إنجليزي لا أعرف له نظيرا في اللغة العربية، وهو ما يمكننا أن نترجمه ب (حوض اللذة)، ويعنون به استعداد النفس للذة.
والذي ألاحظه أن حوض اللذة - على حد تعبيرهم - واسع عند الطفل والجاهل، ضيق عند الكبير والعالم؛ فالطفل يتلذذ جدا بقطعة من الحلوى وبالثوب الجديد، وقد شاهدت ذلك في نفسي، فكنت كثير اللذة بفطيرة آكلها في الصباح، وبشجرة بجوار ساقية أجلس تحتها، وأقرأ وأغني ببعض القصائد ويعجبني صوتي إذا غنيت، وأفرح جدا بقرش يعطينيه أبي، وبمائة وخمسين قرشا تعطينيها مدرستي كل شهر، ويعجبني منظر البحر إذا رأيته، ومنظر الجبل إذا مشيت فيه، وأتلذذ جدا من كتاب أشتريه، وأفرح برمضان إذا أتى، وبالعيد إذا أقبل، وأحتفل لهما كل الاحتفال ...
وهكذا الجاهل «واسع حوض اللذة»؛ فهو يتلذذ من أكلة فخمة، ومن ثوب جديد، ومن نكتة رائعة، وكل اهتمامه بجنيه يربحه ثم ينفقه، وببيت يشتريه، وبأكلة يأكلها، وبثوب يلبسه، وكلما رقى الإنسان وكثر علمه وارتقت ثقافته وكثر تأمله ضاق حوض اللذة عنده، فلا ترضيه أكلة، ولا يلذه منظر، والمتنبي يعبر عن ذلك بقوله:
يقولون لي ما أنت في كل بلدة؟
وما تبتغي؟ ما أبتغي جل أن يسمى
وأوضح من ذلك ما قاله:
وإذا كانت النفوس كبارا
تعبت في مرادها الأجسام
وها أنا ذا لما كبرت ضاق عندي حوض اللذة جدا، فإذا ربحت مائة جنيه لم أتلذذ منها لذتي بالقرش الذي كان يعطينيه أبي، وإذا نظرت إلى منظر طبيعي لم أتلذذ منه كما كنت أتلذذ في الماضي، وإذا نظرت إلى رواية تمثيلية أو رواية سينمائية لم أتلذذ منها كما كنت أتلذذ أيام شبابي؛ فالطفولة والشباب كانا يضفيان على كل شيء، مما يجعلنا نتلذذ أكبر لذة ونتحمل الألم في ثبات، فلما زال الشباب زال كل شيء، وصدق الشاعر إذ يقول:
ما كنت أوفى شبابي كنه عزته
حتى انقضى فإذا الدنيا له تبع
ولذلك نرى الشباب يضحك من كل شيء، ويسر من كل شيء، وسبب ذلك ما قلنا: من أن حوض اللذة عندهم واسع، فإذا انقضى ضاق حوض اللذة، فلم يضحكوا كما كانوا يضحكون، ولم يطربوا كما كانوا يطربون.
ولست أدري، أخير الناس من ضاق حوضه أم من اتسع حوضه! أما أرسطو فكان يفضل الإنسان الحزين على الإنسان المرح، ولذلك كان يفضل المأساة على الملهاة.
أما أنا فقد أوافق أرسطو في أن الحزين أنفع للناس، وأكبر خيرا وإفادة، ولذلك كان أكثر المصلحين من أكثر الناس حزنا، يحز في نفوسهم ما يرونه من ضلال الناس وفسادهم وظلمهم، ويعملون جاهدين على إصلاحهم وتقويم معوجهم، ولو أداهم ذلك إلى الموت، ولكن هؤلاء الحزناء شر على أنفسهم، فهم دائما قلقون حائرون مضطربون، فلئن دعوت لنفسي دعوة صادقة، فإني أسأل الله أن يوسع حوض لذتي. (10) التأقلم
يظهر أن التأقلم قانون طبيعي في كل الأشياء جمادها ونباتها وحيوانها؛ فإذا أنت صببت ماء حارا على ماء بارد، حارا واضطربا، حتى يتأقلما فيأخذ الحار من البارد بعض برودته، ويأخذ البارد من الحار بعض حرارته.
وإذا أنت نقلت نباتا من نباتات البلاد الحارة إلى أرض معتدلة الجو حار كذلك واضطرب، واحتاج إلى مدة حتى يتأقلم ويعدل نفسه وفق الجو الجديد، والحيوان المتوحش الذي يعيش في الصحراء يحتاج إلى مدة طويلة حتى يتأقلم فيستأنس.
والإنسان كذلك يعيش في وسط غير وسطه الأول فيحار ويضطرب حتى يعدل نفسه وفق الوسط الجديد، وما فرحه بالمولود الجديد وحزنه على الولد الفقيد إلا مظهر من هذا التأقلم، لقد عاش وفكره غير مشغول بالولد حتى إذا رزق الولد احتاج إلى زمن يتأقلم فيه حتى يواجه حياة الآباء، وفي الحالة الثانية عاش على فكرة الولد، فإذا زال حزن؛ لأنه غير ما اعتادته غدد فكره، واحتاج إلى زمن حتى يتأقلم فيعتاد فقدان الولد.
وكذلك الشأن في الأمم، تحتاج الأمة المتبدية إلى زمن تتأقلم فيه حتى تتحضر وقد احتاجت الأمة الإسلامية إلى زمن طويل حتى هضمت المدنية الحديثة وألفتها، والأمة التي انحطت في حاجة إلى زمن طويل يجهد فيه المصلحون حتى تنصلح، وهذا هو السر في ثورة الشباب وجمود الشيوخ؛ فالشباب لجدته يتقبل الأفكار الحديثة، والشيوخ لما مرنوا عليه من أفكار يرفضونها، وهكذا في حال انتقال الإنسان من عاطفة إلى عاطفة، ومن حزن إلى فرح، ومن فرح إلى حزن، ومن رغبة إلى رهبة، ومن رهبة إلى رغبة، وربما كان مما يساعد على سرعة التأقلم مساعدة الجو الجديد ليناسب الشيء القديم؛ فأنت إذا نقلت شجرة مانجو من الهند الحارة، فإنه يساعد على تأقلمها أن تحيطها بجو حار من جنس جوها؛ فإذا أنت عرضتها لجو شديد البرودة لم تعطها فرصة التأقلم فماتت، وإذا أردت إصلاح أمة فلا تصلحها طفرة؛ فإنها إذ ذاك يخشى عليها من الضرر، ولكن أصلحها تدريجا وبخطوات متعاقبة، كلما خطت خطوة أتبعتها بأخرى؛ ولذلك كان في العادة الإصلاح بالتدريج خيرا من الإصلاح بالثورة.
وربما استحسنوا من أجل ذلك أن يتزوج الغضوب بحليمة، والمرح برزينة، والمسرف بالمقترة وهكذا؛ لأن هذه الخصال المتناقضة إذا تأقلمت اعتدلت، فيأخذ الغضوب من حلم الحليمة، والمرح من رزانة الرزينة وهكذا.
والطبيعة لا تعرف الطفرة؛ فبعد الظلام الحالك يكون نور الفجر الكاذب والفجر الصادق حتى يعتدل النهار.
ومن الصعب عند مقابلة الشمس بالظل أن تقول: إن هذا ظل بحت أو شمس صرفة، فهناك خط بين الظل والشمس؛ وبين الشتاء والصيف ربيع وخريف يعدان للانتقال. (11) الاستعمار
للاستعمار أنواع كثيرة وأشكال مختلفة، ولكن أكثره مؤسس على الاقتصاد السياسي؛ فهو يرمي إلى انتفاع أهل البلاد المستعمرين ما أمكنهم ذلك، ولذلك خدمت السياسة الاقتصاد.
والمستعمر في الغالب يرمي إلى ثلاث مسائل:
الأولى:
استغلال أموال أمته في البلاد المستعمرة؛ فإذا كان الممول يستطيع أن يستغل ماله في بلده لثلاثين في المائة مثلا، وفي البلاد المستعمرة لأربعين في المائة وجهها إلى هذه البلاد بحكم قوانين الاقتصاد.
والثانية:
استغلال المواد الخامة في الأقطار المستعمرة كالقطن والحديد والحبوب ونحو ذلك، مما خلت بلاد المستعمر منها أو قلت فيها.
والثالثة:
تصريف المستعمر بضائعه في البلاد المستعمرة؛ وذلك بصناعة المواد الخامة ثم ترويجها.
هذه هي أهم ما يرمي إليه المستعمر، وليس الاستعمار في ذاته شيئا محبوبا؛ لما يلاقيه المستعمر من المتاعب، ولكراهية المستعمر طبيعيا للاستعمار.
ثم تاتي السياسة بعد ذلك فتمهد الطريق لتحقيق هذه المطالب، فالجنود التي يرسلها المستعمرون إلى البلاد المستعمرة إنما هي لحماية هذه الأغراض من الثورات التي تقوم في البلاد، أو صدا لطموح أمة أخرى تحل محلها.
ولتحقيق هذه الأغراض تتخذ الأمة المستعمرة وسائل كثيرة لتحقيقها؛ منها: إضعاف روح المستعمر حتى لا يفهم فيطالب بالاستقلال، وقد يعتمد في ذلك على تفريق الأمة بالأحزاب وإيقاع الخلاف بينها، او على إفساد أخلاقها بكثرة المسكرات، واستهوائهم بالفتيات الجميلات اللائي يخدمن الاستعمار ونحو ذلك. ومنها: إضعاف لغة البلاد وتقوية لغتها هي، علما منها بأن الناس يميلون إلى القوم الذين يتكلم المستعمرون لغتهم، وقد يستهوون المستعمرين بإنشاء مدارس لهم نموذجية، حتى يوهموا المواطنين بأن منهجهم خير من مناهج أهل البلاد، وحتى يشجعوا أهل البلاد بالإقبال عليها. ومنها: اختيار الوظائف لمن يثقون بتأييدهم، والعمل لمصلحتهم، ومقاومة الوطنيين والزعماء، وبث الدسائس لسقوطهم في نظر أمتهم ورميهم بالخيانة. ومنها: تقوية الزراعة وتوجيه الناس إليها حتى لا ينافسوهم في صناعاتهم، ويفهمونهم بأن بلادهم زراعية لا صناعية، واجتهادهم في فرض ضرائب كبيرة على المنتجات الوطنية، حتى تغلو أسعارها فتتسع التجارة الأجنبية، إلى غير ذلك من وسائل لا تحصى، وأهم عدو لهم في ذلك، الإسلام والمسلمون، لا اليهود ولا الوثنيون؛ لأنهم يعتقدون أن الإسلام يدعو إلى أن تكون بلاد المسلمين لهم لا لغيرهم، ويفرض عليهم المقاومة ما أمكنهم، ولا يصح أن يفرطوا في أي بلد يدخل في نطاق دار الإسلام؛ ولذلك قال أحد الزعماء الفرنسيين: يجب أن تحارب اللغة العربية ؛ لأنها وسيلة لتعليم القرآن، والقرآن يأمر بالجهاد في سبيل الاستقلال.
نعم، إن بعض الاستعمار ليس القصد منه الاستغلال، وإنما القصد المحافظة على الطرق الحربية، كاحتلال الإنجليز لجبل طارق، ولو لم يكسبوا منه ماديا، ولكن ذلك قليل بجانب ما أسلفنا من أسباب الاستعمار.
إذا علمنا ذلك أمكننا أن نعرف كل داء فنعالجه بدوائه لا بشيء أخر؛ فعلاج توظيف رءوس الأموال الأجنبية إنما هو مقاومتها بتوظيف الأموال الوطنية، وفرض استخدام عدد معين بنسبة مئوية من المواطنين على الشركات الأجنبية، والاجتهاد في تشجيع المنتجات الوطنية ومقاومة المواد الأجنبية.
ومن وسائل الشركات الأجنبية الماكرة، التهرب من قوانين البلاد والتستر وراء مواطن يحتمون باسمه، ويتهربون من الواجبات تحت ستار منه، والأمثلة على ذلك كثيرة، ومن وسائلهم أيضا في ذلك، استخدام ذوي النفوذ من المواطنين ليحتموا بهم ويحققوا لهم أغراضهم.
وعلاج استخدام المواد الخامة في البلاد، هو منعها قدر الإمكان من أن تصل إلى الأجانب، وتوسيع المصانع الوطنية التي تستخدم خامات المواطنين.
وعلاج ترويج الصناعات الأجنبية إعلاء الجمارك والضرائب عليها، حتى تكون أثمان السلع الوطنية أقل من أثمان السلع الأجنبية فيقبل الناس عليها، والاجتهاد في تحسين المصنوعات الوطنية حتى تفوق أو تقارب الصناعات الأجنبية، وهكذا.
وإذا علمنا ذلك أيضا، أمكننا أن نفهم سخافة مقاومة الاستعمار بكسر فوانيس الشوارع أو إحراق الترام أو إضراب المدارس، إلا أن يكون ذلك علامة على بغض الاستعمار، وإظهارا للعواطف الثائرة أو نحو ذلك؛ فهذا علاج لا يقابل الداء.
والعلاج الصحيح الذي ذكرنا يحتاج إلى ثقافة في أساليب الاستعمار واسعة، وتنبيه شديد للوعي القومي، حتى يدركوا صحة موقفهم، ويدركوا كيف يعملون لمقاومة خصومهم؛ ومتى أدرك المستعمر أنه لا يستطيع تحقيق أغراضه لم يعد يرى أن للاستعمار فائدة فانسحب بسلام؛ وهذه كانت طريقة غاندي وأمثاله التي ترتب عليها انسحاب الإنجليز من الهند، والله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.
هذه نظرة الذوق الفطري للاستعمار، ولا بد أن يكون عند المختصين في الاقتصاد والسياسة ما هو أدق من ذلك وأوسع. (12) هل الحق حق حيث كان؟
ذهب الأستاذ الفاضل نقولا الحداد في نقده لكتابي (هارون الرشيد) إلى أن الحق حق حيث كان في كل زمان ومكان، والباطل باطل كذلك حيث كان ومؤاخذة الناس على الحق والباطل واحدة في كل العصور، ولست أرى هذا الرأي؛ فقد أوافقه على أن الحق والباطل حقائق مجردة في كل زمان ومكان، لا يتغيران بتغير الأشخاص، ولكني أخالفه في مؤاخذة الناس عليهما مهما تغيرت البيئة، فالمؤاخذة إنما تكون بمقدار تقدير الناس للحق والباطل وفهمها، هؤلاء المصريون من عهد قريب كان نساؤهم يتحجبن وكان الرجال يرون أن الحجاب فضيلة، ثم سفرن فرأى الرجال أن السفور فضيلة، والحجاب رذيلة، والمصريون عادة أقل تقديرا للصدق والأمانة من الإنجليز والألمان، فيجب أن نؤاخذ المصريين عليهما أقل مما نؤاخذ الألمان والإنجليز، والمصريون يقدرون العفة أكثر مما يقدرها الألمان والإنجليز، وليست المسئولية على هؤلاء وهؤلاء واحدة، بل إن الأمة الواحدة قد يختلف تقديرها للفضيلة بحسب المكان، فلا تكون المؤاخذة واحدة؛ فالغيرة في الصعيد أكثر منها في البحيرة، فإذا قتل الصعيدي زوجته أو أخته غيرة لم يؤاخذ كما يؤاخذ البحيري، والقضاة يعلمون ذلك، فيفرقون في الحكم بينهما، ولا يقدر الإنجليز والفرنسيون الغيرة كما يقدرها الصعايدة والبحاروة، وبذلك تختلف قوة المؤاخذة، والطفل أو الشاب إذا ارتكب جريمة خصوصا في الجرائم التي تدفع إليها الشهوات أو قوة الشعور لم يؤاخذ عادة كما يؤاخذ الشيخ المسن، الذي كثرت تجاربه وضعفت مشاعره، وهكذا من آلاف الأمثلة، فهل يريد الأستاذ أن يؤاخذ الناس الرشيد وهو في عصر لم يكن الناس فيه يعرفون حق الحياة وحق الحرية، كما نؤاخذ من تعدى عليهما اليوم؟ إن ذلك والحق يقال يكون جرما فظيعا، ومن أجل هذا شرع في القوانين الحديثة تقدير الظروف التي ارتكب فيها المجرم إجرامه، وليس من الحق أن نكلف عامة الشعب فوق طاقتها، فنحملها مسئولية ما لم تفهم وما لم تقدر، وإن كان الحق حقا في ذاته، والباطل باطلا في ذاته، بل إن عوامل الفصول المختلفة تجعل الإجرام في فصل أشد من الإجرام في فصل آخر، فالفقير إذا اشتد به الجوع وسرق رغيفا في الأيام القاسية البرد كان أخف جرما من غني سرق رغيفا في أيام الصيف، وعمر بن الخطاب لم يوقع الحد على فقير سرق ناقة وقد اشتد به الجوع، ولم يوقع حد الشرب على أبي محجن الثقفي؛ لأنه أبلى في الحروب بلاء حسنا، وأوقف الحدود كلها في أيام الحرب لما رأى أن بعض من وجب عليه الحد يفر إلى بلاد الأعداء، أفبعد هذا كله يصر الأستاذ على أن المسئولية في جميع العصور والأمكنة واحدة لا تتغير؟
الحق فيما أرى أنها تتغير قوة وضعفا، وأن الرشيد لو ارتكب نكبة البرامكة اليوم لكانت مسئوليته أشد، ولو ارتكبها في إنجلترا أو ألمانيا كانت مسئوليته أكبر مما إذا ارتكبها في مصر أو بغداد؛ لأنهم هناك يقدرون الأمور ويعرفون الحقوق أكثر مما نعرف ونقدر.
هذا ما أرى وللأستاذ رأيه ، فإما أن يرجع إلى الحق حسب ما أرى، وإما أن يصر على رأيه، ولكل وجهة هو موليها، وأشكره أخيرا كما شكرته اولا على حسن تقديره للكتاب. (13) الإنسان حيوان محارب
عالج بعض الفلاسفة الحرب ودعوا إلى السلم، وجاءت الأديان من نصرانية وإسلام تحبذ السلم، ودعا إلى ذلك بعض فلاسفة اليونان وبعض قياصرة الرومان، ولكن العقبة الوحيدة كانت غريزة الإنسان التي تحب الحرب وتكره السلم، ويظهر أنها وراثة من وراثات الحيوانات المتوحشة التي كانت هي أصل الإنسان، حتى أصبحت الأديان التي تدعو إلى السلام كذلك مظهر حرب، ولم يكتف الإنسان بالحرب في ميادين القتال، بل قاتل في التجارة والصناعة، ولم يكتفوا في لعب الأولاد بلعب السلام، بل أتوهم بلعب الحرب أيضا.
وليس الجدال في المجالس إلا نوعا من أنواع الحرب، وكذلك المناظرات والتسابق على الأولية في المدارس والجامعات، وكما نرى آثار الحرب ظاهرة بين الإنسان والإنسان، فهي كذلك ظاهرة بين الحيوانات، فالدنيا كلها حرب حتى ظواهرها الطبيعية فلو قلنا: إن الإنسان محارب بطبعه لم نبعد، ولسنا نصل إلى السلم فيما يظهر إلا بعد أجيال طويلة، نعدل فيها برامج التربية، ونقلم فيها أظفار الغرائز الحربية. (14) البت والتردد
لو سئلت أن أضع قائمة للفضائل بحسب ترتيبها لعددت البت في أولها، وأكره ما أكره التردد، يقدم الرجل رجلا ويؤخر أخرى، ويقدم ثم يحجم، ويحجم ثم يقدم، وتفوت بذلك الفرص وتتعقد الأمور، وكثير من الناجحين في الحياة إنما نجحوا لبتهم لا لترددهم، وقد اشتهر العنصر الأنجلوسكسوني بسرعة البت في الأمور، ولذلك نجح وفتح واستعمر، وكان العرب يمدحون الفتى بسرعة البت وقوة الحزم، ويقول قائلهم:
إذا هم ألقى بين عينيه عزمه
ونكب عن ذكر العواقب جانبا
ويحمل على التردد الهرب من المسئولية، فإن العمل تصحبه المسئولية دائما، فهو يفضل ألا يعمل حتى لا يسأل، وهذا عين ما تقع فيه حكومات الشرق - تتردد حتى لا تسأل، وتسير على الطريقة المتبعة حتى لا تسأل، وتسأل دائما عن السوابق حتى تأمن الخطأ، ولذلك قل عندها التجديد، وعندي أن البت مع الخطأ خير من التردد مع الصواب.
لماذا كان الدين؟
لنتصور أمة من الأمم عاش أهلها من غير دين، لا مساجد ولا كنائس ولا شعائر، ولا اعتقاد بإله، ولا بيوم آخر، ولا اعتقاد في جزاء: ثواب أو عقاب، فماذا يكون شأنهم وهل يتصور أن يكونوا سعداء؟
إني أتصورهم يعيشون عيشة جافة شقية حتى ولو ساروا في حياتهم وفق العقل؛ لأن أفقهم في الحياة ضيق محدود بعمرهم القصير.
ثم إن الإنسان مكون من عقل وشعور لا يعيش في الحياة من دونهما، وشعوره متأصل فيه أكثر من تأصل العقل، فهو أحيانا يتصرف في الأمور حسب عقله من تقدير المنفعة أو المضرة، وأحيانا يتصرف بشعوره وعواطفه، كرحمته على أبنائه والتضحية من أجلهم من غير نظر إلى مكافأتهم له في مستقبل حياته، وهذان العنصران - أعني العقل والشعور - لا بد لهما في الحياة من غذاء كغذاء المعدة، وغذاء العقل العلم، وغذاء الشعور الدين، والحياة إذا أسست على العقل والعلم وحدهما كانت حياة خالية من العطف والرحمة والإنسانية وفي ذلك البلاء المبين.
وإذا كان الإنسان قد كون من عنصرين: عقله الذي يتغذى بالعلم ، وشعوره الذي يتغذى بالدين حق لنا أن نقول: إن التدين من طبيعة الإنسان كما أن العقل من طبيعته، ولهذا لازم التدين الإنسان منذ عرف تاريخه في بدوه وحضره، في جميع أقطاره وأقاليمه، في رقيه وانحطاطه، فمهما اختلفت تفاصيل الدين، ومهما تعددت المعابد والشعائر فالإنسان هو الإنسان لا بد له من دين.
والدين يكون عنصرا هاما من عناصر المدنية، قديمها وحديثها، ويؤثر أثرا كبيرا في حركات كل أمة سواء كانت حركات سياسية أو اجتماعية حتى في المدنية الحديثة مع إيمانهم التام بالعلم وانطباعها بطابعه لا يزال للدين الأثر البالغ في منازعها السياسية والاجتماعية، فعلاقة الأمم النصرانية بعضها ببعض وعلاقتها بغيرها من أهل الأديان الأخرى وفهمها للحقوق والواجبات ومبادئها التي تسيرها في مجتمعاتها كلها متأثرة بالدين.
ومهما تنازع العلم والدين ودعا بعض الدعاة إلى الإلحاد فإن الدين لا يزال يمس قلوب الناس حتى الملحدين منهم وهم يأبون أن تتخلى قلوبهم عنه؛ لأن هذا هو فطرتهم وطبيعتهم، ومن تجرد من الدين أحس القلق والاضطراب إحساس من شوهت طبيعته.
أساس الدين الإيمان بقوة فوق المادة وفوق أن يدركها العقل، والإيمان بإله يدبر هذا العالم وينظمه ويكافئ المحسن على إحسانه والمسيء على إساءته، وفي هذا اتفقت كل الأديان الراقية تقريبا، وإن اختلفت في تفاصيلها وشرائعها.
ولقد كان الدين سببا في قوة الرابطة بين الجماعة المعتنقة دينا واحدا، فكل جماعة تدين بدين يؤلف بينها الدين ويوفق بين أفرادها، ويشعرهم بالوحدة، ويكون أساسا بينهم للترابط والتعاون، وهذا ولا شك دعامة من دعائم الرقي في المجتمعات، كذلك كان الأمر في الديانات القديمة كديانة قدماء المصريين والصينيين والنصرانية والإسلام، فإذا نحن عددنا الروابط بين الأمة من لغة وجنس وإقليم وجب أن نعد من أهمها رابطة الدين، وكما كانت كل رابطة من هذه الروابط سببا في تقدم الجنس البشري فكذلك كانت رابطة الدين.
ثم إن الدين أهم باعث على الأخلاق، فهو يدعو إلى الفضائل دعوة حارة، دعوة ممزوجة بالعواطف، دعوة مؤسسة على حب الله - قد يدعو العقل والفلسفة والعلم إلى الفضيلة من حيث هي حق ومن حيث هي نافعة، ولكن دعوة الدين إليها أقوى؛ لأنه يسبغ عليها من روحانياته ويربطها بالثواب في الدنيا والآخرة ويربط بينها وبين الضمير؛ ولذلك كانت دعوة الدين إلى الفضيلة مناسبة للخاصة والعامة بينما كانت دعوة الفلاسفة والعلماء للفضيلة لا تناسب إلا الخاصة، ثم إن الفرق بينهما كالفرق بين ما يصدر عن العقل من نظريات علمية هادئة باردة، وما يصدر عن القلب من حب ممزوج بالحرارة والقوة والحماسة، ولذلك كان أهم التغيرات البشرية على وجه الأرض قد صدر عن الأديان أكثر مما صدر عن الفلاسفة ورجال العلم، بل إن الدين قد أمد الفلاسفة والعلم بروح منه وجعلهما أقرب إلى إدراك الحق والجمال.
الدين هو الذي أنشا المعابد تهتز فيها قلوب الناس وتتحرك عواطفهم في لذة واشتياق إلى هذا الإله الذي لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار، والدين هو الذي حرك العواطف لإنشاء معاهد البر والإحسان والملاجئ والمستشفيات فخفف بؤس البائسين وعوز المحتاجين، والدين هو الذي حرك نفوس الفنانين فصاغت عواطفهم أروع الآثار الفنية من مساجد وكنائس، وهز نفوس الأدباء والشعراء فانتجوا لنا أروع الأدب الصوفي والشعر الديني والابتهالات التي تنبض بالعواطف وتسيل عذوبة ورقة، والدين كان عماد التربية والتعليم بفتح المدارس والجامعات ثم كانت الدراسة الدينية باعثة على غيرها من الدراسات، فالدين الإسلامي - مثلا - خلف ثروة كبيرة في التأليف وبعث على تدوين كثير من العلوم؛ فقد جمع العلماء اللغة العربية؛ محافظة على الدين، ودرسوا النحو والصرف؛ لتقويم اللسان في القرآن، ووضعوا علوم البلاغة؛ لفهم إعجاز القرآن، وهكذا.
والدين هو الذي يتجلى في أسمى مظاهر الإنسانية ولا سيما في أوقات الشدائد من عطف على الفقراء ومواساة للجرحى والمنكوبين ومن أصيبوا بزلزال أو بركان أو حريق أو غرق؛ إذ ذاك تتحرك النفوس للنجدة يحدوها الدين.
فلنعد، ولنتصور ما يكون شأن الإنسانية إذا فقدت كل هذه النظم والمؤسسات والعواطف والمشاعر والأخلاق، إن العالم بلا دين، جسم بلا قلب، ومادة بلا روح، إنه آلة جوفاء، إنه قصة فارغة.
نعم قد حدثت في التاريخ أضرار كثيرة باسم الدين، كالغلو في العصبية الدينية، وما نشا عنها من اضطهاد وتعذيب وسفك دماء، وأضرار عقلية كالتي نشأت من الخرافات والأوهام وضيق في الأفق نشأ عنه اضطهاد العلم والعلماء، والفلسفة والفلاسفة، وجمود إلى درجة التحجر، ولكن هذه الأضرار ترجع إلى ما اعترى الدين من فساد لا إلى الدين نفسه، وترجع إلى سوء فهم رجال الدين دينهم على الوجه الصحيح أو فهمهم له فهما صحيحا ولكن شاءوا أن يكسبوا منه ويتاجروا به، أما الدين نفسه ولا سيما إن كان دينا صحيحا فلا ينتج عنه إلا الخير.
وبعد، فالدين نعمة على الفرد والمجتمع، هو راحة للنفس؛ لأنه يساير طبيعتها، وهو نعمة على المجتمع الإنساني؛ لأنه يوثق روابطه ويحيي عواطفه ويوجهه نحو الخير، وخير الأديان ما سما بالعاطفة، وأوسع المجال للعقل، وبنيت تعاليمه على خير الفرد وخير الإنسانية.
تربية الإرادة
ليس يمكن أي إصلاح خلقي إلا إذا ربينا الإرادة أولا، فإذا طالبنا شابا أو شابة بضبط النفس عند الغضب أو عدم الإسراف في الملذات أو بالشجاعة عند الجبن أو بالعدل عن الظلم، فلا قيمة لكل هذه النصائح ما لم تسبقها عند الشاب أو الشابة إرادة قوية رباها صاحبها لينفذ بها ما اعتقد أنه حسن، ويتجنب بها ما اعتقد أنه ضار، فانصح ما شئت، وكرر النصح ما أردت، فليس لهذا كله قيمة إذا لم يكن المنصوح قوي الإرادة يستطيع بها أن يسيطر على نفسه.
ولكن كيف نربي إرادتنا؟
انظر إلى من يريد أن يتعلم ركوب الدراجة أو كما نسميها «البسكليت» - إن الشخص أول الأمر لا يستطيع ضبطها ولا يحسن السير عليها، فهو يتأرجح مرة ذات اليمين ومرة ذات اليسار، وكثيرا ما يبدأ ثم يقع، وأخيرا وبعد جهد جهيد تستقيم في يده البسكليت - ويسير بها سيرا حسنا ويعدو بها ويتجنب الأخطاء حتى ليأتي بالأعاجيب في السير بها، فماذا حدث؟ البسكليت هي البسكليت لم تتغير، وهي دائما مطيعة خاضعة، ولكن الذي تغير هو راكبها؛ فقد كان لا يحسن حركاته ثم أحسنها ، ولا يمكنه ضبط نفسه عليها، ثم ضبطها، فالتغير إنما حدث في النفس لا في البسكليت، كذلك الشأن في كل أنواع الحياة، لا بد من السيطرة أولا على النفس ثم مواجهة الأحداث، لا بد أولا من تربية الإرادة، وبعد ذلك يمكن مواجهة المشاكل بالإرادة وحلها، إن ضعيف الإرادة يتأرجح في أمره كما يتأرجح راكب الدراجة عند ركوبها لأول مرة، فإذا هو ربى إرادته سار سيرا متوازنا معتدلا متجنبا الأخطاء، كما يفعل راكب الدراجة إذا اعتادها، وكما يحتاج راكب الدراجة إلى جهد جهيد أول أمره حتى يستقيم له السير، وحتى يسير سيرا هينا من غير بذل جهد كبير، كذلك الشأن في تربية الإرادة يحتاج المرء أول أمره إلى كبير جهد وقوة تصميم وصحة عزم واحتمال الشدائد، ثم تسير الأمور بعد ذلك في يسر وسهولة من غير جهد ملحوظ، ولذلك جاء في الحديث: «إنما الصبر عند الصدمة الأولى»، فمن صبر على الشدة الأولى في تربية إرادته كان ما بعدها أهون، إن الذي يفسد الإرادة أن تعزم وتعدل ثم تعزم وتعدل، فيكون شأنك شأن بكرة الخيط يلقي صاحبها عليها الخيط ثم ينقض ما لف.
وبعد ما يصير المرء على شيء الذي يريده ويربي فيه إرادته، يصبح عادة يأتي به من غير عناء كبير، فالرجل الفاضل الذي اعتاد الإتيان بالأعمال الفاضلة كالرجل الشرير الذي اعتاد أن يأتي بالأعمال الشريرة، كلاهما تصدر عنه الأعمال في يسر وسهولة، وليس من فرق بينهما إلا أن الأول وجه إرادته وعودها أعمالا صالحة والثاني وجه إرادته وعودها أعمالا سيئة.
وكثير من الشباب يقع في العادات السيئة من غير تفكير ومن غير قصد، إنما هم ينساقون مع التيار، يجدون بعض الشبان المستهترين يتجهون اتجاها سيئا فيسيرون في اتجاههم من غير وعي ولا تفكير ولا إعمال عقل في النتائج، وكان يجب أن يقدروا هذا الاتجاه ويزنوا نتائجه، ثم يسلطوا إرادتهم لتجنيبهم هذا الاتجاه السيئ.
إن أكثر ما يفسد الشبان ويضعف إرادتهم هو الإغراء؛ يجلس الشاب مثلا مع بعض أصحابه فيجد اثنين منهم أو ثلاثة يدخنون، فيعزمون عليه بسيجارة، فيأبى؛ فيلحون عليه، ويبررون تدخينهم بمبررات، مثل أنه يبهج النفس ويزيل الكرب أو نحو ذلك من علل فاسدة، فيشرب أول سيجارة فلا يحس لها طعما وقد يشعر بشيء من الدوخان فيكرهها وينفر منها، ولكن قد يوجد في مثل هذا الظرف فيشربها ثانية فلا يحس بالألم الأول، وإذا هو مدخن مثلهم، ولو جرد إرادته للمرة الأولى واعتزم ألا يدخن، ما وقع في هذه العادة السيئة، وقل مثل ذلك فيمن يشرب الخمر أو يجري وراء الفتيات أو نحو ذلك من عادات سيئة كلها، إنما يقع الشاب بسبب ما يحيط به من إغراء، ومتى وجد الإغراء وجب على الشاب أن يتسلح بالإرادة القوية؛ ليتقي الوقوع في مثل هذه العادات.
كثيرا ما يحدث أن يسكر سائق قطار ويفرط في الشرب فيخطئ في تسيير القطار ويعرض أرواح الراكبين فيه إلى أشد الأخطار، وقد روي لنا كثير من هذه الأحداث، فلنتصور كيف يجني سائق هذا القطار على من يحمل مسئوليتهم من الركاب، ولنتصور الفزع الذي يعرض للركاب لو علموا بحالة سائقهم، والحقيقة أن كل إنسان هو سائق قطار، أعني أن نفسه تسوق قطارا، وأن مثل العادات السيئة مثل الخمر الذي يشربها السائق تقوده إلى أشد الأخطار، وليس هناك دواء لتجنب هذا الخطر إلا الإرادة القوية التي تحمي صاحبها من السكر عند سوق القطار ... ومع الأسف كثير من الشبان لا يفهمون هذا، ويسوقون قطار أنفسهم وهم سكارى، ولا يفيقون من سكرهم إلا بعد الاصطدام وفوات الوقت وخسارة النفس.
لا بد أن يعود الشاب نفسه إيقاظ العقل وقوة الإرادة والشعور بالواجب؛ ليقاوم هذا الإغراء، مثل ذلك مثل من استحلى النوم في السرير مع مجيء موعد عمله، فإنه إذا استسلم للنوم والخمول والكسل ضعفت إرادته، ولكن إذا أشعر نفسه بواجبها ونبه وعيه لوجوب الانتباه والقيام من السرير لمباشرة عمله استطاع بذلك أن يقاوم الإغراء ويباشر العمل، وهكذا الشأن في شؤون الحياة كلها، إذا استسلم للراحة واستسلم للإغراء خمل عقله ونامت إرادته، ولم ينتبه إلى ما يجب أن يعمل إلا بعد فوات الأوان.
وعظماء الناس إنما كان سر عظمتهم في قوة إرادتهم وإطاعة عقلهم لا شهوتهم، وتمرين إرادتهم على العمل الجاد أمام الصعاب الحادة، إن الرجل العظيم يتلذذ من مقاومة الإغراء ويتلذذ من السيطرة على نفسه، ويحس اغتباطا من أنه غلب الإغراء ولم يغلبه الإغراء، وصبر على الشدة ولم يخضع لها، وفي التاريخ أمثلة كثيرة من هذا القبيل، فقول رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته»، معناه أن أي إغراء مما اعتاد الناس أن يخضعوا له ويتركوا مبادئهم من أجله لا يغريني، ولا يؤثر في مبادئي وتعاليمي.
وموقف أبي بكر يوم ارتد كثير من العرب وأبوا أن يدفعوا الزكاة ونصح بعض الناس له بأن يلين معهم ورفضه ذلك وتصميمه على الحرب وألا يقبل من العرب إلا الإسلام كله كاملا من غير أن ينقص منه شيء، قوة في العزم وقوة في الإرادة ومقاومة للإغراء.
وموقف ابن تيمية وقد أراده السلطان على أن يعدل عن رأيه الذي وصل إليه باجتهاده وبحثه فأبى، ثم حبسه وعذبه فأبى، وكان وهو في السجن يكتب الكتب يشرح بها مبادئه وتعاليمه ويستدل على صحتها، ثم لما منع عنه القلم والورق أخذ الفحم وصار يكتب به على حيطان السجن في شرح أدلته وبراهينه على تعاليمه، مثل صالح كذلك على قوة الإرادة وصحة العزم وشدة التصميم، وعدم الاستماع إلى المغريات أو التخويف بالعقوبات.
وكثير من المؤرخين كانوا يرون أن سر نجاح نابليون في حروبه كان في سرعة تصميمه ومواجهة العدو بكل قوته.
وعلى كل حال فتربية الإرادة وقوتها وتعويدها مقاومة الإغراء سر النجاح وسر الاستقامة وحصن حصين من الزلل، ومن ربى إرادته أمكن إصلاحه وأمكن حسن توجيهه، ومن فقد إرادته فلا أمل مطلقا في تقويمه إلا أن يبدأ من جديد، فيعالج نفسه كما يعالج المريض، ويصبر على العلاج المر حتى يشفى من الداء.
هل نحن مسئولون عن حياتنا الاجتماعية؟
في الإسلام مبدأ أساسي عظيم لم يوله المسلمون حقه من العناية والرعاية كما ينبغي، يرمي هذا المبدأ إلى تقرير أن الإنسان ليس مسئولا من عمله فحسب بل هو مسئول عن حياته الاجتماعية التي يحياها في الناس.
هذا المبدأ سمي في القرآن الكريم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ووردت فيه الآيات الكثيرة مثل:
ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون
وقال:
والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ، فقرن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالصلاة.
وقال:
لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داوود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون * كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون ، وعد المؤمنين خير الأمم لرعايتهم هذا المبدأ فقال:
كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله
وقال:
الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر .
وعبر عن هذا المبدأ بتعبير آخر فقال:
وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ، وذم اليهود بأن أحبارهم لم يكونوا ينهونهم عن الفساد في الأرض فقال:
لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون ، وقال:
فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض ، وعبر عن المبدأ في صياغة أخرى فقال:
والعصر * إن الإنسان لفي خسر * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر ، وقال:
يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين ، وقال:
لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ، وقال:
وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما ، إلى كثير من مثل هذه الآيات وكلها ترمي إلى وجوب أن يكون كل فرد في المجتمع مسئولا عن مجتمعه مراقبا لشؤونه ثم هو لا يكتفي بالمراقبة بل يتدخل بمقدار مركزه الاجتماعي فيأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.
ثم ما هو المعروف وما هو المنكر؟
يميل الإسلام إلى القول بأن في الإنسان ملكة يعرف بها أمور الخير وأمور الشر من غير حاجة إلى فلسفة أو إطالة بحث، فأصول الخير ومناحيه معروفة عند جميع الناس إلا من فسدت طبيعته، وأصول الشر ومناحيه منكرة عند الناس كذلك، فالناس حتى العامة يعرفون أن الصدق والأمانة والوفاء بالعهد والعدل أمور مستحسنة يجب الإتيان بها فسماها كلها «معروف» والناس يعرفون أن أضدادها من ظلم وجور وكذب أمور مستهجنة يجب البعد عنها فسماها القرآن «منكر»، ولذلك قال بعض اللغويين: المعروف اسم لكل فعل يعرف بالعقل أو الشرع حسنه، والمنكر ما ينكره العقل أو الشرع.
وأوضح رسول الله وأصحابه هذا المبدأ بكثير من أقولهم وأفعالهم فقال رسول الله: «إن الله لا يعذب الخاصة بذنوب العامة حتى يرى المنكر بين أظهرهم وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكروه» وقال: «لا تقفن عند رجل يضرب مظلوما فإن اللعنة تنزل على من حضره ولم يدفع عنه» وقال: «لا ينبغي لامرئ شهد مقاما فيه حق إلا تكلم به فإنه لن يقدم أجله ولا يحرمه رزقا له» وسأل رجل رسول الله: «أتهلك القرية وفيها الصالحون؟ قال: نعم، بتهاونهم وسكوتهم على معاصي الله»، وسئل حذيفة عن ميت الأحياء فقال: «هو الذي لا ينكر المنكر بيده ولا بلسانه ولا بقلبه»، وقال بلال بن سعد: «إن المعصية إذا اختفت لم تضر إلا صاحبها فإذا أعلنت ولم تغير أضرت بالعامة»، وكان علي بن أبي طالب يقول: «إذا لم يعرف بالقلب المعروف وينكر المنكر ينكس فجعل أعلاه أسفله»، وهذا رمز إلى أنه لم يعد قلبا ذا قيمة.
وكان من أثر هذا المبدأ وجود نظام الحسبة في الإسلام وهو نظام دقيق مفصل، الغرض منه منع المنكرات بالوسائل الممكنة من غير تجسس، وتفصيل هذا النظام يطول.
وكل ما نريد أن نقول: إن هذا المبدأ الهام - مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - مبدأ يربط بين أفراد الأمة رباطا وثيقا ويمنعها من الانحلال؛ لأنه يشعر كل فرد بأنه مسئول إلى حد كبير عما يجري حوله من ضروب الخير والشر ويطالبه بالتدخل في الشر حسب قدرته وحسب مركزه الاجتماعي ليمنعه - هو مبدأ يقضي على هؤلاء الذين يصح أن نسمهم «اللاباليين» وهم الذين لا يبالون بأي شيء لا يتصل بأشخاصهم، ولا يكترثون لما يقع حولهم؛ فمبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو مبدأ اعتبار الأمة كلها وحدة تتأثر كلها بما يضر جسمها، إن هذا المبدأ يرقى بالأمة رقيا عظيما. •••
من مقتضى هذا المبدأ أن كل فرد في الأسرة مسئول عن سعادة أسرته، فليس للرجل ولا للمرأة أن يقول: لا أبالي، فكل فرد مسئول عن البيت، يجب أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويجب أن يشعروا أن سعادة البيت أو شقاءه نتيجة تيقظهم أو إهمالهم واحتمالهم العبء أو الهرب منه.
وتصوروا كل هيئة من الهيئات الاجتماعية أو كل حزب من الأحزاب السياسية، جرى كل فرد فيه على هذا المبدأ، فأمر بالمعروف ونهى عن المنكر، أو بتعبيرنا الحديث: دعا إلى الحق وهاجم الباطل، وتصوروا برلمانا هذا شأنه، ليس له غاية إلا إحقاق الحق وإبطال الباطل، وتصوروا كل مصلحة من المصالح الحكومية وغير الحكومية جرت على خطة الغضب للحق والوقوف أمام الباطل.
إن مجتمعا يسير على هذا المنهج من غير شك - هو المثل الأعلى للمجتمعات، وبمقدار سيره على هذا المبدأ أو انحرافه يكون رقيه وانحطاطه - فلا يصح لفرد في أسرة أن يقول: فلأنعم بطيبات البيت وما فيه من مأكل لذيذ وفرش وثير وبعدي الطوفان، وليس لحزب سياسي على هذا المبدأ أن يقول: ما دمت لست في الحكم فلأغل يدي ولأترك الحزب الذي في الحكم يعمل ما يشاء حتى تظهر للأمة ثمرة عمله، فهذا وأمثاله فرار من المسئولية التي يلقيها علينا هذا المبدأ الإسلامي العظيم، وهو أن الخير الذي يقع خير الأمة، والشر شر الأمة، وليس لأحد أن يفر من المسئولية وليس من حق أي جزء في الجسم أن ينفصل عنه.
الاحتكام إلى العقل
أؤكد لكم أن أكثر المنازعات والخصومات سببها عدم احتكام الخصمين أو أحدهما إلى العقل - سواء في ذلك النزاع بين الزوجين في البيت، أو بينهما وبين الأولاد، أو نزاع الناس في الشارع أو في المجالس، أو نزاعهم أمام المحاكم، أو النزاعات السياسية بين الأحزاب أو بين أعضاء الحزب الواحد - فكل هذه المنازعات - على اختلاف ألوانها - لو حكم فيها الطرفان المتنازعان العقل لارتفعت الخصومة وحل الوفاق محل النزاع والخصام، هذا النزاع بين الزوجين على ميزانية البيت - مثلا تريد الزوجة ملابس جديدة تكلف الزوج مائة جنيه أو أكثر أو أقل، ويأبى الزوج أن يدفع هذا المبلغ كله أو بعضه، ويشتد هذا النزاع، وقد يتطور إلى أخطر النتائج، ما سببه؟ سببه عدم تحكيم العقل إما من الزوجة أو من الزوج أو منهما معا، فإذا حكم العقل قال العقل ما يأتي: هل للزوجة حاجة إلى هذه الملابس! ونعني بالحاجة ما يشمل الزينة وظهورها أمام مثيلاتها بالمظهر اللائق بها ونحو ذلك؟ فإذا كان الجواب بالنفي استبعد هذا الطلب، وإن كان بالإيجاب انتقل العقل إلى سؤال آخر وهو: هل مالية الزوج تسمح بهذا الطلب كله أو بعضه؟ وهل هناك مطالب أهم من هذا المطلب، كمصاريف المدارس للأولاد أو نحو ذلك؟ فإن كانت مالية الرجل تسمح بكل ذلك، وتسمح بادخار بعض المال للطوارئ كان المعقول أن يجاب الطلب وإلا حكم العقل بتقديم الضروريات على الكماليات وبأن الزوجين يجب أن يتفاهما على تقديم الأهم على المهم، والحاجيات على الكماليات، ونزلت الزوجة على حكم العقل فنقصت ما تطلبه إلى الحد الأدنى حتى تكفي مالية الرجل، فإذا تم هذا التفاهم وخضعا معا لحكم العقل فلا نزاع ولا خصام، وهكذا الشأن في مطالب الأولاد - وإنما يأتي النزاع من أن الزوجة تحكم رأيها وتطلب المال ولو «من تحت الأرض» ولو بالاستدانة، ولو ببيع ما يملك، وهذه مطالب غير معقولة، أو أن الزوج يكون عنده المال الكافي لكل هذه المطالب ويصمم على ألا يصرف؛ لأن الصرف يؤلمه أو أنه يبالغ في الاحتياط للمستقبل، أو لأنه مصاب بالبخل ولا يتزحزح، فيكون التشاحن الدائم والمعيشة التي تقصر العمر وما سبب ذلك إلا عدم الاحتكام إلى العقل.
وقل مثل ذلك في الخصومات السياسية بين الأحزاب، هؤلاء ينظرون إلى المسألة من ناحيتهم الحزبية ويكونون فيها رأيا ينفع الحزب ويعلي شأنه، وهؤلاء يقفون مثل موقفهم وينظرون فقط إلى ما ينفع حزبهم، فتتصادم الرغبات وتثار الخصومات، ولكن إذا حكم العقل قال: إن الأحزاب وتعددها ونظمها إنما وضعت لخدمة الأمة ومصلحتها، فالحكم في الأحزاب وتصرفاتها هو هذه المصلحة، فإذا ثارت خصومة في مسألة فلتقس منافعها ومضارها للأمة لا للحزب، وإذا قومت الأمور هذه القيم العامة بين وجه الحق، وإنما يعميها اختفاؤها وراء المصلحة الحزبية ودوران المناقشات حول الأغراض الحزبية وهكذا.
ولكن - مع الأسف - ليس تحكيم العقل في المسائل بالأمر الهين، وإنما يحتاج إلى تربية نفسية شاقة، وتمرين طويل، فكثيرا ما يكون الباعث على العمل هو الشهوة والمصلحة الذاتية والوصول إلى منفعة شخصية معينة ، ولكنها تعمل في الخفاء، وتظهر بمظهر العقل، ويدور الجدل بالمنطق والحجج، وفي الحقيقة ليس هناك منطق ولا حجج، وإنما هو ثوب براق لماع ينسجه شخص باسم العقل؛ ليخفي به الشهوة والمنفعة الذاتية أو الحزبية، هذه الزوجة رأتك تنفق على أهلك المحتاجين بعض ماهيتك فغاظها ذلك؛ لأنها تريد ماهيتك كلها لها ولأولادها، فهي تخلق المطالب غير الضرورية خلقا، وتقيم ألفي دليل ودليل على أنها في الضرورة القصوى من الحياة، وليس هذا هو العقل ولكنه غطاء العقل، وليس الذي يوجد التفاهم هو العقل المزيف ولكنه العقل الصحيح.
وهذا حزب تحركه الرغبة في الحكم ولكن هذا لا يمكن أن يقال، وإنما الذي يقال هو مصلحة الأمة والصالح العام ونحو ذلك، وتصاغ الحجج العقلية لخدمة هذا الغرض الذاتي، فلا يكون التفاهم؛ لأنه مؤسس على العقل المزيف.
وهذا رئيس مصلحة، مصلحته في ترقية شخص معين؛ لأن ترقيته تعود عليه بمنفعة شخصية، فيخلق من العلل والبراهين ما يبرر به طلبه مدعيا أنه أكفأ أو أنزه أو أصلح ونحو ذلك، فيسبب عمله خصومات سببها عدم الرجوع إلى العقل الصحيح وهكذا.
ومن أجل هذا قلت: إن الرجوع إلى العقل شاق عسير، وكثيرا ما يخدع الإنسان نفسه، ويظن أنه محق فيما يقوله وما يبرهن عليه، وهو في حقيقة الأمر مخدوع قد غشته نفسه.
وكثير من الخصومات المالية يرجع إلى هذا السبب، كل يكون له رأيا مبنيا على ما ينفعه أكبر نفع ويربحه أكبر ربح، وكل يعتقد بناء على ذلك أن نظره هو الصحيح، ونظر غيره هو الباطل، والحق أن المنفعة الذاتية هي التي توجه كلا منهما.
ومن أجل ذلك كان الرجل المحايد الذي لا ينتفع بهذا الرأي أو ذاك أقدر على تحكيم العقل والوصول إلى الصواب، قد يكون الخصمان معقولين كل منهما ينظر إلى المسألة نظرا مجردا عن الهوى ومع ذلك يختلفان، وكثيرا ما يكون السبب في ذلك أن كلا منهما ينظر إلى المسألة من زاوية غير الزاوية التي ينظر منها الآخر، فمن الحكمة أيضا أن يسائل الإنسان نفسه : ماذا أعمل لو كنت محل خصمي، وأي الآراء، وأي البواعث حملته على أن يرى هذا الرأي المخالف لرأيي؟ وفي هذه الحالة قد يعدل عن رأيه إلى رأي صاحبه أو على الأقل يعذره.
وبعد، فنعمة من الله كبرى أن يكون لدى الإنسان روح التعقل ... إن البيت يكون سعيدا إذا ساده روح التعقل، وقد سئل حكيم صيني: ماذا تشترط في الزوج الذي يتقدم لابنتك الوحيدة؟ قال: شرط واحد؛ هو أن يكون عنده روح التعقل.
ونعمة من الله كبرى أن يسود الأمة روح التعقل، إذن لرأيت الخصومة بين أحزابها، خصومة معتدلة معقولة، وصحافتها نافعة معقولة، ومجالس هيئاتها تتجادل في المسائل وتبت فيها في الحدود المعقولة، والرأي العام يمدح وينقد ويؤيد ويعارض في الحدود المعقولة ... بل أوكد أن المنازعة بين الأمم تنقطع أو على الأقل تخف حدتها ويسود السلام إذا احتكمت إلى العقل دون الشهوات والمطامع.
مركب النقص
مما اكتشفه علماء النفس الحديثون مرضان نفسيان، يسمى أحدهما مركب النقص، ويسمى الآخر مركب التسامي، وقلما يخلو إنسان من أحدهما أو منهما معا، ويستطيع الدقيق النظر أن يفسر كثيرا من تصرفات الناس بما عنده من هذا المرض.
فأما مركب النقص فهو شعور يستولي على الإنسان بأنه ناقص في ناحية من نواحيه الجسمية أو الخلقية او العقلية، فيحاول بسلوكه أن يظهر بمظهر السليم من هذا المرض، ويكون ذلك الشعور في أعماق نفسه، قد لا يستطيع المريض نفسه أن يدركه، ولو سألته عنه لأجابك بالنفي ولكنه حقيقة واقعة يتصرف المريض به تصرفات كثيرة للتبرؤ منه، ولو دققت النظر لوجدت آلاف التصرفات تصدر من الإنسان لهذا الشعور بالنقص، هذا رجل قصير القامة تراه يحب أن يلبس طربوشا طويلا وجزمة عالية الكعب؛ لأنه يشعر بنقصه في قصره، وهذه امرأة سمراء تكره كل الكره أن يكون لها خادمة بيضاء؛ لأنها تشعر بالغيرة منها وتخاف أن يشعر زوجها بسمرتها بالمقارنة بخادمتها البيضاء، وهذه امرأة ولدت ثلاث بنات ولم ترزق بصبي فتشعر بنقصها وتكره أن تسمع الأحاديث عن المرأة التي خلفت صبيانا فقط ، وهذه فتاة تزوجت زواجا فاشلا فهي تكره كل الكره أن تسمع بأمثالها اللائي سعدن بأزواجهن، وهذا موظف لم يأخذ الدرجة الثالثة التي يستحقها فيغيظه أن يسمع عن أشخاص أخذوها ويسره أن يسمع أخبار من حرموا منها أشد من حرمانه، وهكذا من آلاف الحوادث التي تحصل أمامنا كل لحظة ... إن الطفل يحب البنطلون الطويل ويحب أن يمسك عصا؛ لأنه يشعر بنقصه، والمرأة تغالي في زينتها إذا أحست بنقص جمالها، والرجل يبالغ في الإسراف في المال إذا أحس بنقص جسمي يريد أن يعوضه.
وكثير من تصرف أفراد العائلة يصدر عن شعور بالنقص في ناحية من النواحي يراد سترها، ولما كان هذا الداء كثيرا ما يخفي فهو كذلك كثيرا ما يعالج خطأ، ولو عرف الداء على حقيقته لعرف الدواء على حقيقته، وكذلك الناس في مجتمعاتهم ومعاملاتهم المالية وغير المالية.
لي ابن تخرج في مدرسة عالية وهو يلح أن يعين في وظيفة خارج القاهرة مع أنه سعيد في بيته، موفرة عليه راحته، حاولت أن أعالجه بالضغط فلم ينجح وأخيرا اكتشفت السبب، وهو أنه ذو شخصية يريد أن يظهرها كاملة ولا يتأتى له ذلك مع شخصيتي، فشخصيتي في البيت أكبر من شخصيته، فهو يريد أن يتخلص من هذه الشخصية التي طغت على شخصيته بأن يوظف خارج القاهرة، فلما عرفت هذا السبب أمكن وضع العلاج.
وكذلك قد يتنازع الرجل والمرأة في البيت فإذا استفسرت عن سبب النزاع قيل لك أسباب تافهة، ولكن الحقيقة أن وراء هذه الأسباب أسبابا أخرى هي مركب النقص عند الرجل أو عند المرأة، ولو سألت أي إنسان: هل عنده مركب النقص في كذا؟ لنفى ذلك نفيا باتا.
وتصرفات الناس تختلف اختلافا كبيرا حتى في مركب النقص الواحد، كالذي حكي أن ثلاثة أطفال دخلوا مع أمهم حديقة الحيوان، فلما وصلوا إلى حجرة الأسد، ورأوه يزمجر اختفى أحدهم وراء أمه وقال: «إني أريد الذهاب إلى البيت»، والثاني اصفر وجهه، وارتجف جسمه وقال: «لست بخائف» والثالث حملق في وجه الأسد وقال لأمه: «هل تسمحين لي أن أبصق عليه؟» فالثلاثة كان عندهم مركب نقص واحد وهو الشعور بالخوف من الأسد ولكنهم تصرفوا تصرفات مختلفة كلها تدل على الخوف.
وفي كثير من الحالات تكون مظاهر النقص واضحة، ولكن قد تختفي وتعمق حتى يصعب تفسيرها، ترى جندي البوليس شديدا على الباعة الجائلين، ولكن تعليل ذلك أنه شاعر بالنقص التام أمام ضابط البوليس، فهو يريد أن يرضي نفسه الضعيفة بقوته الظاهرة على الباعة، وكذلك ترى الرجل هرة وديعة ذليلة في مصلحته، ويريد أن يكون أسدا في بيته، أو هرة في بيته فيريد أن يكون أسدا في مصلحته، وترى آخر يشعر بنقصه العقلي إذا قورن بعقل زملائه، فيحدث كثيرا عن ذكائه، أو كذوبا فيتحدث كثيرا عن صدقه، أو فاشلا في عمله فيرضي نفسه بأن الدنيا فانية والناجح والفاشل مصيرهما معا إلى الموت، وهذه كلها منشؤها شعور باطني بالداء وبالنقص، ولكن ليس في شيء من هذا علاج للمرض، فالمرض إذا عولج بهذا النوع من العلاج بقي كما هو يعمل في نفس صاحبه.
إن الشعور بالنقص يوتر الأعصاب فينشأ عنه رد فعل بالتسامي، كالكرة من الكاوتش تضربها في الأرض فتنضغط ثم تعوض ذلك بالارتفاع، فإذا رأيت طفلا يتظاهر بالقوة أو رجلا يتبجح، أو عالما مغرورا، فاعلم أن ذلك تعبير عن شعوره العميق بالنقص، وكثيرا من طرق العلاج ليست صحيحة، فالطفل الذي يبكي إنما يبكي لشعوره بنقص، فإذا دلل واستجيبت طلباته اعتقد أن البكاء وسيلة صحيحة لحصوله على حاجته، فأكثر من البكاء كلما شعر بحاجته، ونمت عنده هذه العادة حتى إذا كان مراهقا كان مدللا لا يعتمد على نفسه، ويتخذ الغضب أو الدموع أو كثرة الشكوى وسائل من وسائل تغطية شعوره بالنقص.
وكثيرا ما يتولد الشعور بالنقص من الفشل في الحياة، خصوصا في أول مواجهتها، فالطفل في المدرسة الابتدائية إذا كان ترتيبه متأخرا، أو وبخه مدرسه على التقصير كثيرا، وجد عنده هذا الشعور بالنقص، ومن حاول التجارة أو الصناعة فأصيب بالفشل في أول أمره ولد لذلك أيضا عنده الشعور بالنقص، والفتاة التي بلغت سن الزواج ولم تتزوج تولد عندها هذا الشعور، والموظف إذا لم يرض عنه رؤساؤه وزملاؤه شعر بهذا النقص أيضا وهكذا.
وكل شعور بالنقص يستلزم من صاحبه سلوكا خاصا يغطي به نقصه، إما بأن يظهر بمظهر الرجل الكامل أو يعتزل الناس ويكره مقابلتهم والاختلاط بهم، أو يكثر الغضب، أو يعتقد في الناس السوء، أو يكثر الشكوى منهم أو نحو ذلك، فكثير مما نراه من عيوب الرجل أو المرأة يمكن إرجاعه إلى مركب النقص فيه، غاية الأمر أن مركب النقص هذا قد يكون واضحا يمكن الوقوف عليه في سهولة ويسر، وقد يكون عميقا اختفى في اللاوعي من قديم حتى احتاج إلى تحليل نفسي طويل ليمكن العثور عليه.
وكل التظاهر بالتغطية ليس علاجا صحيحا، فمن عالج نقصه بالغضب أو البكاء أو الشكوى فليس هذا علاجا، ومن عالج نقصه بالخجل أو اعتزال الناس أو كثرة الحديث عن نفسه أو الظهور بمظهر الأبهة والعظمة فليس هذا علاجا، بل كل هذه مظاهر للمرض لا تعالجه ولا تستأصله، وليس كل شعور بالنقص عيبا مذموما، بل أحيانا يكون فضيلة، فالناس إنما طلبوا العلم وتبحروا فيه واستكشفوا قوانينه لشعورهم بنقصهم، والأمم التي حاربت لنيل استقلالها وإخراج المستعمر من أرضها وطلبها السيادة لنفسها إنما فعلت ذلك لشعورها بنقصها تحت الاستعمار وفي ظل العبودية.
والذي يشعر بنقصه في خلقه أو عقله أو نفسه ثم يستكملها يكون الشعور منه بالنقص فضيلة، إنما الرذيلة أن يشعر بالنقص فيسكت عنه أو يعالجه علاجا خاطئا فيغطي النقص بالتظاهر بضده، يكون بخيلا فيتظاهر بالكرم وجبانا فيتظاهر بالشجاعة، وكذوبا فيتظاهر بالصدق، وهكذا فكل هذا التظاهر لا يقلل من النقص شيئا بل يزيده تأصلا.
وأما الشعور بالتسامي، أعني الشعور بالرفعة والعلو والسمو، فيكون مرضا إذا جاوز الحد ووضع الإنسان نفسه فوق ما يستحق، وفيما عدا ذلك يكاد يكون طبيعيا في كل إنسان، فكل إنسان يصبو إلى الكمال وإلى أن يكون خيرا مما هو، وليس في هذا عيب بل هو فضيلة، بل إن الأخلاقيين حثوا عليه ووضعوا وسائل كثيرة لتحقيقه، كقراءة سير الأبطال وكبار المصلحين، ورجال الدين حثوا عليه من ناحية التشبه بالله والاقتداء بالرسل وبخيرة الصالحين، ولكن العيب أن يتطلب كمالا لا تستطيعه نفسه ولا يمكن أن تبلغه قواه ولا ملكاته، كضعيف العقل يريد أن يكون فيلسوفا، أو جبانا يريد أن يكون قائد حرب أو نحو ذلك من السخافات، ومن العيب أن يتطلب الكمال ولا يعمل لتحقيقه، يتطلبه قولا لا عملا، أو يتطلبه لغاية غير شريفة، قد يتطلب الشاب المتعلم أن يكون طبيبا ولكن شتان بين من يريد أن يكون طبيبا ليجمع المال من جميع الوجوه ولا يرحم فقيرا ولا يسعف مستغيثا وبين من يريد أن يكون طبيبا لخدمة الناس ورفع الآلام عنهم ولا بأس بالمال يأتي في اعتدال، وقد يتطلب الشاب أن يكون معلما ولكن شتان بين من يريد أن يكون معلما؛ ليظهر سيطرته على الطلبة، أو ليجمع المال بالدروس الخصوصية أو نحوها، ومن يريد أن يكون معلما ليحارب الجهل في المتعلمين ويفتح زهرتهم ويرفع مستواهم مع ما يفيض عليه ذلك من رزق حلال، وكذلك شتان بين من يريد أن يكون موظفا كبيرا ؛ ليستطيع أن يؤدي للناس خدمات كبيرة بقدر ما تسمح له قوته ويسمح له منصبه.
لا عار مطلقا في الشعور بالتسامي بل هو واجب، ومن فقد الشعور بالتسامي فقد فقد طعم الحياة، بل إن الأمة التي فقدت شعورها بالتسامي فرضيت باستعمار الأجنبي ورضيت بنظامها الداخلي السيئ ورضيت بحالتها التعيسة في الشئون الاقتصادية والاجتماعية والسياسية أمة لا تصلح للبقاء، إنما تصلح للبقاء يوم تتسامى، يوم يغمرها الشعور بالتسامي ويكون شعورا قويا صادقا لا يكتفي بالقول دون العمل، ولا يقتنع بالتظاهر دون الحقيقة، والشعور الصحيح بالتسامي هو شعور يستتبع العمل على تحقيق ما تسمو إليه.
الحياة السعيدة
لو استعرضنا أنواع الناس، وكيف يحيون وجدنا أن كثيرا منهم يعيش عيشة جافة جامدة باردة، يستيقظ من النوم، فيفطر، ثم يلبس ملابسه ويذهب إلى عمله كزارع أو صانع أو تاجر أو موظف، حتى إذا جاء وقت الغذاء عاد إلى بيته فتغذى، ثم قد يزاول بعض عمله ثم يجلس في مقهى يسمر مع أصدقائه أو نحو ذلك ثم يعود إلى بيته فيحدث أهله بعض الحديث ثم ينام وهذا هو تاريخ حياته، يوم واحد متكرر، وحياة واحدة رتيبة ... هذه هي الحياة أشبه ما تكون بحياة آلة في مصنع ندورها فتدور وتعطيها غذاءها من فحم أو وقود فتسير على نمط واحد ثم يوقفها القائم عليها فتقف وهكذا حياتها كل يوم، بل هي أيضا كحياة الأنعام تأكل وتعمل وتنام وهكذا عادتها كل يوم، وإن الإسلام لا يرضى عن هذه الحياة.
وهناك قوم أضافوا إلى هذه الحياة المادية من أكل وشرب ونوم حياة أخرى عقلية، فهم يخصصون جزءا كبيرا من وقتهم لاستخدام عقولهم في حياة علمية أو أدبية كرجال الجامعات والباحثين في العلوم على اختلاف أنواعها، والفلاسفة الذين يجدون للبحث وراء كنه العالم والذين يقضون كثيرا من أوقاتهم في المعامل يبحثون ويجربون ويبتكرون ... وهذا النوع من الحياة أرقى من نوع الحياة الأولى؛ لأنها جمعت بين الحياة المادية والعقلية، وجمعت بين السعادة المادية والسعادة الفكرية، ولا شك أن اللغة العقلية الفكرية أمتع وأنفع وأطول، ولكن مع كل هذا لا يرضى الإسلام عن هذه الحياة أيضا؛ لأنه يرى فيها جفافا؛ لخلوها من القلب والعاطفة، ولأن أصحابها كثيرا ما تلهيهم علومهم عن التفكير في إلههم وإذا فكروا فيه فكروا بنوع من الإنكار أو من الإلحاد أو الاستخفاف أو عدم الاكتراث.
ومن هؤلاء العلماء من بلغ تقديسهم للعقل وحصرهم أنفسهم في قوانينه أن ساروا في حياتهم على الأخلاق التي يرتضيها العقل وحده، فيعدلون مع الناس ومع أنفسهم؛ لأن هذا أنفع للمجتمع ولهم بحكم عقلهم، ويلتزمون الصدق ويقومون بالواجبات الفردية والاجتماعية؛ لأنهم يرون فيها الخير لأنفسهم ولمجتمعهم بحكم العقل فهم فضلاء بالعقل، خيرون بالعقل، ولا يلتزمون بشيء ولا يسيرون على منهج إلا إذا ارتضاه العقل، وحتى هذا أيضا لم يرتضه الإسلام؛ لأن الفضائل إذا صدرت عن العقل وحده خلت من الحرارة وخلت من القوة التي يتطلبها الدين ولذلك لما سئل رسول الله عن قوم في الجاهلية أتوا بأعمال فاضلة من كرم وشجاعة أبى أن يعترف لها بقيمة؛ لأنها لم تنبع من المنبع الذي يرتضيه الإسلام.
إنما يريد الإسلام حياة فيها مادة وفيها عقل وفيها روح، وبعبارة أخرى إن الإسلام يلاحظ أن الإنسان ركب من عناصر مختلفة ولا يمكن أن يسعد إلا إذا عاش عيشة تغذي كل عنصر من عناصره ولتوضيح هذا نقول: إن في الإنسان عنصرا من عناصر النبات في خواصه وطبائعه؛ فهو يبحث عن غذائه في الأرض كما يبحث النبات، وتؤثر فيه الفصول الأربعة كما تؤثر في النبات، ولا بد له من هواء وماء كالنبات، فلا بد لسعادة الإنسان أن يغذي هذا العنصر النباتي فيه.
كذلك في الإنسان عنصر حيواني: فهو يتحرك بالإرادة كما يتحرك الحيوان، وله شهوات وغرائز كما للحيوان شهوات وغرائز، يتشهى الأكل ويشتهي الألفة، ويتشهى الاجتماع ببني جنسه، وفيه غرائز الخوف، وحفظ الذات، وحفظ النوع، ونحو ذلك، فلا بد لسعادته من أن يحيا هذه الحياة الحيوانية أيضا.
وفي الإنسان عنصران امتاز بهما عن النبات والحيوان، أحدهما عنصر العقل: والعقل وإن ظهر في شكل بدائي بسيط ساذج في الحيوان؛ فهو في الإنسان أعلى وأرقى وأتم، وبه استطاع أن يسود الحيوان ويسخره لمنفعته - وبالعقل استطاع أن تكون له قوة أقوى من الأسد، ومكر أقوى من الثعلب، كما استطاع أن يتغلب على الحيوانات التي هي أقوى منه جسما وأوفر حظا فتغلب به على الفيل بأنيابه وعلى الجمل بضخامته ونحو ذلك، فلا بد له أيضا من أن يعيش عيشة فيها غذاء هذا العنصر العقلي، فيفكر ويتأمل، ويقرأ، ويكتب.
والعنصر الآخر الذي يمتاز به عن النبات والحيوان هو عنصر الروح وهو غير عنصر العقل، هذا العنصر الروحي أساسه الدين والاعتقاد بإله واحد هو ربه، ورب العالمين، منه يستمد القوة، ومنه يستمد الحياة، ومنه يستمد وسائل الحياة، وبهذين العنصرين عنصر العقل والروح استطاع الإنسان أن ينظم عنصر النبات والحيوان فيه وأن ينظم غرائزه ويلطفها ويهذبها ويخضعها لأمرهما.
السعادة في نظر الإسلام يجب أن تتوفر بالأخذ بحظ من كل عنصر من هذه العناصر الأربعة أخذا معتدلا لا إفراط فيه ولا تفريط، فهو لا يرضى عن تعذيب الجسم وحرمانه من ملذاته؛ ولذلك كره الزهد والتبتل وقال:
قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة ، وكره حياة حيوانية لا عقل فيها، وعاب على قوم أنهم كالأنعام بل هم أضل سبيلا، وحث على العلم وطلبه والتفكير في خلق السموات والأرض وما فيها وحرص على العنصر الرابع وهو عنصر الروح فقرر أن الحياة إذا خلت من العنصر الروحي كانت حياة تافهة لا قيمة لها.
والناس إزاء هذه العناصر مختلفون اختلافا كبيرا فمنهم من غلب عليه عنصر النبات والحيوان فكان شهوانيا، ومنهم من غلب عليه عنصر العقل فكان عالما أو فيلسوفا ومنهم من غلب عنصر الدين فكان متصوفا، ولكن خير حياة رسمها الإسلام هي الحياة التي اعتدلت فيها كل هذه العناصر ولم تفقد واحدا منها، والعلم لا يكفي في الإسعاد لا في إسعاد الفرد ولا في إسعاد المجموع، لقد ملأ العلم الدنيا آلات وأدوات واختراعات ونظريات في السياسة والاجتماع، ووصل في تقدمه إلى تحطيم الذرة، ولكن هل كفى هذا في إسعاد الناس؟ إن العلم وحده صالح لأن تستخدمه في الخير كما تستخدمه في الشر، فهو كالسكين تستخدمه في القتل فيضر، والذي يحدد استخدامه في المنفعة هو الروح التي يعبر عنها دائما بالقلب، إن العلم يستطيع أن يرقي وسائل الخير كما يستطيع أن يرقي وسائل الشر، قد كان الناس قديما يقتلون بالعصا والحجارة ونحو ذلك، فلما تقدم العلم قتلوا بالكهرباء والغازات الخانقة والطائرات والغواصات والقنابل الذرية، إنما الذي يستطيع أن يحد من شر العلم هو الروح وهو الدين وهو الإيمان بإله يحاسب الناس على أعمالهم ويطلع على ضمائرهم.
إن الدين الصحيح يغذي الشعور بالتسامي، والطموح الدائم إلى الرقي ويعالج الشعور بالنقص ويحارب الميل إلى التدني، والدين الصحيح ينقل النفس مما يعتريها من الحزن والإحساس بالفراغ والقلق الذي يعتري الإنسان إذا لم يجد سندا يستند إليه، ينقلها من ذلك كله إلى شعور بالأمن والطمأنينة والاستناد إلى قوة ليس فوقها قوة.
إن الدين الصحيح يوسع النفس حتى ترى بينها وبين الناس كلهم بل بينها وبين المخلوقات كلها نسبا كنسب الأسرة الواحدة؛ لأن ما في العالم جميعه يرتبط به ارتباط الأخوة؛ إذ هو وهي كلها من خلق الله رب العالمين.
إن الدين الصحيح يشعر الإنسان بالاتصال بعالم روحي واسع لا يقاس به عالم المادة، فإن كان العلم يحصر الإنسان في المادة وفروعها، فالدين يضم إلى هذه المادة أكبر منها وهو ما ليس بمادة، وبذلك يتسع أفق صاحبه أضعافا مضاعفة.
لقد أفهمتنا الحياة أن السير على قوانينها الطبيعية يكسب الراحة والسعادة، وأن كل سأم وقلق وملل واضطراب سببه مخالفة القوانين الطبيعية في جزء من أجزائه، وإذا كانت طبيعة الإنسان مكونة من هذه العناصر الأربعة، عنصر النبات والحيوان والعقل والروح فنقصان عنصر منها لا يمكن أن يحقق السعادة بالأخذ بحظ وافر من كل عنصر من هذه العناصر وامتزاجها امتزاجا متعادلا لا يطغى فيه عنصر على عنصر، وهذا هو نوع الحياة التي يرتضيها الإسلام.
صورة لغاندي وأخرى لستالين
عندما أسلم الفيلسوف الكبير برنارد شو روحه العظيم كانت تشيعه ابتسامتان عريضتان من صورتين علقتا فوق سريره، صورة لغاندي وأخرى لستالين.
والحقيقة أن برنارد شو بوضعه هاتين الصورتين فوق سريره، أراد أن يضع أمامه دائما حكمة رائعة، هي أننا لن نصل إلى العظمة الحقيقية، إلا إذا بلغنا الرقي المادي والاقتصادي الذي حققه ستالين في روسيا، وبلغنا الرقي الروحي والخلقي الذي حققه غاندي في الهند.
رأى ستالين أن الشعب لن ينهض إلا إذا حرر أولا من الحاجة المادية وزال عنه شبح الجوع والحرمان، فهدف إلى إعادة البناء الاقتصادي على أساس من الحق والعدل، لقد رأى أن الرأسمالية ونظام الأجور يركزان القوة في أيدي أغنياء قلائل، أما الباقون الذين لا يملكون رءوس أموال فليس لهم إلا الإرهاق والعمل المضني مع الفقر والحرمان، فعمل على ضمان العدل ، وعلى تهيئة نظام للعمل، واستطاع بواسطته أن يرفع من مستوى المعيشة في روسيا للعمال والفلاحين؛ وذلك بكثرة الإنتاج وتسهيل التقدم الفني في الصناعات.
أما غاندي فقد خصص حياته لتربية الروح والنفس والسمو بهما، لقد رأى المجتمع لا يقدر الممتلكات الروحية والنفسية حق قدرها، والناس تتهافت على الثروات والسلطات المادية، ورأى أنه إن اهتم الفرد بروحه وخلقه، وقدر استقلاله الذاتي وحريته الشخصية استطاع أن يصل إلى درجة عظيمة من الرقي، فدعا دعواته الروحية بين الشعوب، وبث عقيدته هذه في الملايين، وقد نجح غاندي نجاحا جعلنا نعتبره من أكبر المصلحين في التاريخ كله.
رأى برنارد شو أن للحياة اتجاهين، اتجاها تتحكم فيه المادة والقوة، وقد استطاع ستالين أن يبلغ الذروة في تنظيم هذا الاتجاه، وبلغ غاندي الذروة في تنظيم الاتجاه الآخر، وهو الاتجاه الروحي والخلقي.
في رأيي أن فلسفة القوة تستطيع أن تعيش وحدها، وأن فلسفة الروح تستطيع كذلك أن تعيش وحدها، ولكنني لا أعتقد أنهما يستطيعان أن يجتمعا معا، إلا كصورتين، وفوق سرير لفيلسوف.
ورقة بن نوفل
في الحديث أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
لما أوحي إليه في أول مرة في غار حراء رعب وتمالكه البرد، حتى ذهب إلى زوجته خديجة فقال لها مرة: زملوني زملوني. ومرة: دثروني دثروني. ودعي في إحدى صور القرآن: يا أيها المزمل، وفي الأخرى: يا أيها المدثر، فأشكل الأمر على محمد نفسه، وعلى زوجته خديجة، فأشارت إليه بأن يذهب إلى ابن عمها ورقة بن نوفل؛ إذ اختلط عليهما الأمر: هل هذا وحي من وحي الكهان، أو هو وحي من جنس وحي الأنبياء، أو هو مس من الجن، أو ضرب من الجنون، أو نوع من الإلهام كالذي يجده الصوفي؟ كل ذلك جائز، فذهبا إلى ورقة بن نوفل، فسأل ورقة أسئلة خاصة، وامتحن امتحانات خاصة؛ فأولا استبعد أن يكون ضربا من الجنون أو مسا من الجن؛ لأنهما ضربان مؤذيان، وكان محمد
صلى الله عليه وسلم
خيرا؛ يصل الرحم، ويحمل الكل، ويعين على نوائب الدهر، إذا فالله لا يخزيه بالجنون أو بمس الجن، كما قالت خديجة: «كلا، لا يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل وتعين على نوائب الدهر» فهو حقيق إذا بالإكرام لا بالامتهان، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان! ثم كان أن سأل أسئلة عن طريقة الوحي، وسمع الإجابة عنها، فكان أن علم أن هذا الوحي من جنس الوحي الذي نزل على الأنبياء قبلا، وإلى ذلك أشار بقوله: «ذلك الناموس الذي نزل على موسى»، وبذلك طمأن النبي، وبشره بالنبوة، وشد قلبه ليتابع هذا الوحي باطمئنان، فأدى ورقة بذلك خدمة جليلة للإسلام.
وفي الأخبار أنه ابن عم لخديجة، كان قد تعلم العبرانية وقرأ كتبها، ورضي بالمسيحية مجردة من الخرافات والأوهام، وكان رجلا كبير السن هامة اليوم أو الغد، محترما في قومه مصدقا في قوله، قد أنست به خديجة؛ لأنه في حكم قرابتها كأبيها، فإن غش أحدا لا يغشها، وكان معروفا بين قومه بالدعوة إلى الخير والتعاون وعدم التشاحن؛ لذلك لجأت إليه خديجة، وكان شهما رأى بالفراسة وبعلمه عن الأنبياء الأولين، وأن فريقا منهم كذب، وفريقا قتل، أن محمدا سيوحى إليه، وسيكون نبيا ، وسيؤذيه قومه وسيخرجونه من بلده، ولذلك ود ورقة أن يعيش حتى يرى محمدا نبيا فيؤازره ويكون معه؛ إذ يخرجه قومه، فقال له محمد
صلى الله عليه وسلم : «أومخرجي هم؟!»، قال له ورقة: «ما أتى أحد بمثل ما أتيت به إلا أوذي»، وقد علم ورقة مما قرأ وعلم أن هذا الهيكل البشري لا بد أن تكون قد اتصلت به روح غريبة من جنس ما كانت تأتي للأنبياء من قبله، نعم إن أرواحا كاذبة كانت تتصل ببعض الخلق كالتي جاءت للكهان، والتي جاءت لسليمة ولطليحة ولسجاح ونحوهم، ولكنها ليست من جنس التي تأتي للأنبياء، وهناك أرواح طيبة دون الأرواح الأولى تنزل على بعض الأشخاص كالتي نزلت على ابن الصياد، وكان منظرا لطيفا أن رآه محمد
صلى الله عليه وسلم
واجتمع النبي مع المتصوف وقد خبأ له دخانا مما تخرجه النار على حد الأقوال، أو ذكر آية الدخان في سورة الدخان:
يوم تأتي السماء بدخان مبين ، ثم سأله ماذا خبأت؟ فقال له: الدخان، فسأله محمد
صلى الله عليه وسلم
عن هذا الوحي الذي يأتيه، فقال: إنه مرة يصدق وحينا يكذب، فعلم النبي من ذلك أنه ليس نبيا؛ لأن النبي لا يكذب، ولا يخيب أبدا، وإنه على حد تعبيرنا اليوم يستطيع أن ينوم نفسه تنويما مغناطيسيا، فهو يجيب إجابة صادقة عن الأشياء التي يعرفها السائل ويسأل عنها ليختبر المسئول، أما ما لا يعرفه السائل من الأمور المستقبلة، فهي بين الصدق والكذب؛ وذلك شأن المنومين تنويما مغناطيسيا اليوم، على كل حال كان ورقة بن نوفل عالما بكل هذه الضروب، أيها لنبي، وأيها لولي، وأيها لكاهن، وأيها لكاذب.
وقد كان ورقة بن نوفل من هؤلاء العدد القليل الذي كان يكره الشرك ولا يرى خيرا في اليهودية والنصرانية ويختار لنفسه دينا يرتضيه، ويعلم علما واسعا عن النصرانية واليهودية، وكان من هؤلاء الناس الذين يسمون «الحنفاء»، والفرق بينهم وبين الأنبياء كالفرق بين الأنبياء والأولياء، كل يريد دينا حقا يتدين به، ولا يهمه شيء من ضلال الناس، أما النبي الرسول فيود دينا صحيحا لنفسه ولغيره؛ يمثل هذا ما قاله الصوفي الهندي الأستاذ عبد القدوس؛ إذ قال لما سمع قصة المعراج: إنه لو عرج إلى السماء ووصل إلى أن كان قاب قوسين أو أدنى وبلغ سدرة المنتهى ما عاد إلى الدنيا، ولكن النبي رأى كل هذا وعاد؛ لأنه يهمه الناس كما تهمه نفسه، وكان غيورا أشد الغيرة على هداية الناس، حتى قال له الله تعالى:
فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا .
وكلمة الحنفاء من الكلمات الغامضة جدا، فهي تدل على الميل عن دين التقاليد؛ أخذا من «الحنف» بمعنى الميل، ومنه سمي الأحنف بن قيس لميل كان في رجله، فلخروج هؤلاء الحنفاء عن تقاليد قومهم سموا حنفاء، وهي لفظة في الأصل آرامية تدل على المروق من الدين المعتاد بين الناس، ولكنها كانت في الآرامية لفظة ممقوتة تدل على المروق من الدين، أما في الإسلام فكلمة محبوبة، كان إبراهيم حنيفا، أي خارجا عن دين قومه الذي يقول بعبادة النجوم، وكان ورقة بن نوفل حنيفا؛ لأنه لم يشارك قومه في عبادة الأصنام، وسمى المسلمون جميعا حنفاء؛ لأنهم اتبعوا ملة إبراهيم، وقال الله تعالى:
ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين ، وفي القرآن آيات كثيرة في وصف الحنفاء بهذه المعاني.
على كل حال ورقة بن نوفل عالما متبحرا في الأديان السابقة واللاحقة، وكان أيضا متفرسا صادق الفراسة، يقيس الحاضر على الماضي، وكان قد قارب الوفاة وود لو رأى النبي محمدا بعد أن تتقدم به النبوة فيتبعه ويؤازره، رحمه الله.
ونختم قولنا بحديث البخاري في هذا الموضوع، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: أول ما بدئ به رسول الله
صلى الله عليه وسلم
من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه - وهو التعبد - الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال: اقرأ. قال: ما أنا بقارئ. قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ. فقلت: ما أما بقارئ. فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة، ثم أرسلني فقال: اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم، فرجع بها رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يرجف فؤاده، فدخل إلى خديجة بنت خويلد، فقال: زملوني، زملوني. فزملوه حتى ذهب عنه الروع فقال لخديجة وقد أخبرها الخبر: لقد خشيت على نفسي، فقالت له خديجة: كلا، والله ما يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق، فانطلقت به خديجة حتى أتت ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى ابن عم خديجة، وكان امرأ تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخا كبيرا قد عمي، فقالت له خديجة: يا ابن العم اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة: يا ابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله
صلى الله عليه وسلم
خبر ما رأى فقال له ورقة: هذا الناموس الذي نزل على موسى يا ليتني فيها جذعا، ليتني أكون حيا؛ إذ يخرجك قومك. فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : أومخرجي هم؟! قال نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلى عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا، ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي.
أسس الأخلاق في الإسلام
في القرآن الكريم آية تعد من أهم الآيات التي تبين أسس الأخلاق الإسلامية؛ ولذلك يرددها أئمة المساجد كل يوم جمعة على آذان المصلين وكان عبد الله بن مسعود يقول فيها: «إنها أجمع آية في القرآن للخير والشر»، وكانت سببا في إسلام عثمان بن مظعون لما سمعها فرأى أنها جامعة لخصال الخير والشر، ورأى أن دينا يأتي بهذا جدير أن يتبع، تلك هي قوله تعالى:
إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون .
لقد أمر الله فيها بخصال ثلاث من أهم خصال الخير، ونهى عن خصال ثلاث من أهم خصال الشر، فأما خصال الخير فأولها العدل، وهو أن يعطي الإنسان كل ذي حق حقه، فالمدين يجب أن يؤدي دينه، وهذا هو العدل، والغاصب والسارق ظالم؛ لأن كلا منهما أخذ ما ليس من حقه، والبائع الذي يكيل للمشتري أو يزنه أقل مما اتفقا عليه ظالم؛ لأنه لم يعطه حقه، والقاضي المتحيز ظالم؛ لأنه أخذ من أحد الخصمين بعض حقه وأعطى للآخر أكثر من حقه، فإن ارتشى بأي نوع من الرشوة فقد أخذ ما ليس من حقه أن يأخذ، وهكذا لو دققنا في معنى العدل وجدناه أساسا لكثير من الفضائل.
وهناك نوع آخر من العدل ، وهو عدل الحكومة مع شعبها، فعليها أن تؤدي للشعب حقه عليها، فتجلب له السعادة وتبعد عنه أسباب الشقاء، وتوفر لكل طائفة من الشعب وسائل رقيها، من صناع وتجار وزراع وطلبة وموظفين، وتشرف على موظفيها حتى يرعوا مصالح الناس ويؤدوها وجه من غير تأخير أو إهمال وهكذا.
والقرآن يطالب بهذا العدل في مواضع منه كثيرة، وله في ذلك نظرة هي غاية السمو والنبل، فيأمرك بالعدل مع من تحب ومن تكره، ومن هو على دينك أو غير دينك، يقول في آية أخرى:
يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى ، أي لا يحملنكم بغضكم لقوم على أن تظلموهم، ولا تلتزموا العدل معهم، بل العدل واجب إنساني مع من أحببت أو كرهت ومع من وافقك في الدين أو خالفك، ومن أجل تقديره لهذا العدل أمر بالوفاء بالعهود مع كل من تعاقد معهم المسلمون من أي ملة أو دين، وهذا أسمى ما تصل إليه البشرية.
أما الخصلة الثانية بعد العدل فهي الإحسان؛ فإن كان العدل إعطاء كل ذي حق حقه، فالإحسان إعطاؤه ما فوق حقه، فمن الحق أن تأخذ دينك من المدين فإن رأيته معسرا فعفوت له عن دينك فهذا إحسان - وعلى الجملة فالإحسان يتطلب الشعور بالعطف على الناس وتقديم الخير ممن يقدر لمن لا يقدر، فالغني مأمور بإعطاء جزء من ماله للفقير، والعالم مأمور بتقديم زكاة علمه للجاهل، والقوي مأمور باستخدام قوته لمعونة الضعيف، وهذا هو ما عبر عنه القرآن بالإحسان، وليس مقصورا على ما يتصوره العامة من وضع يدك في جيبك واستخراج قليل من المال تضعه في يد الفقير، بل الإحسان أعم من ذلك وأشمل، هو عطف شامل من أفراد الأمة بعضهم على بعض، بل هو كذلك عطف الحكومات على أرباب الحاجات.
وخصص الله في الخصلة الثالثة الأقرباء بالإحسان، فالإحسان للناس عامة واجب، وهو لذوي القربى أوجب، فواجب أن يترابط أفراد الأسر، ومن ارتباط الأسر ترتبط الأمة.
هذه هي الخصال الثلاث التي شددت الآية في التزامها والعمل بها، أما المنهيات الثلاثة التي وردت في الآية فبالتأمل فيها نراها شاملة أيضا شمولا عجيبا؛ ذلك أن علماء الاجتماع والقانون يقسمون الرذائل أو الجرائم إلى أنواع ثلاثة، جرائم يأتيها الأفراد نحو أنفسهم وهي الجرائم الخلقية التي لا تدخل في نطاق القانون، كالكذب والحسد والنفاق والرياء ونحو ذلك، وجرائم تقع على أفراد الأمة ويعاقب عليها القانون، كالسرقة والقتل وكل ما فيه تعد على أنفس الناس وأموالهم، وجرائم تقع على السلطات الحاكمة، كالسعي في هدم الحكومات، وهذه الأنواع الثلاثة تقابل الرذائل الثلاث في الآية، فالفحشاء الأعمال القبيحة تصدر من الشخص وتؤذيه، ولذلك سمي البخيل فاحشا، وقيل للشخص إذ أجاب إجابة سيئة: أفحش في الجواب، وهكذا، والمنكر ما يصدر عن الناس من جرائم تضر بهم ويستنكرونها إذا حدثت، وقد اعتاد القرآن أن يسمي الفضائل الاجتماعية معروفا، والرذائل الاجتماعية منكرا، وجعل من أصول الإسلام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقال:
كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ، ويرمي بذلك إلى أن تكون الأمة يقظة واعية لكيانها، فإذا رأت نقصا فيها ارتفعت أصوات عقلائها باستكماله، وإذا رأت خللا في بنائها من أي ناحية كانت طالبت بإصلاحه وهذا ما تقوم به الآن البرلمانات الراقية والجرائد المنصفة.
وأما البغي فمعناه الخروج على السلطة الحاكمة بوسائل العنف، ومن ذلك قولهم: «الفئة الباغية» أي التي تخرج على الإمام العادل؛ ذلك لأن الإسلام يريد استقرار الأمور واستقرار السلطة الحاكمة مع صلاحيتها؛ لأنها المشرفة على النظام العام، فإن حادت عن العدل أو الحق وجهها أولو الأمر - أو كما نقول نحن: الرأي العام - إلى الجهة الصالحة، فالوسيلة للإصلاح هي النقد الصريح الجريء وهذا يدخل - أيضا - ضمن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وبعد؛ فإن الأمة التي تتبع هذه الأصول الثلاثة، وتتجنب هذه الأشياء الثلاثة أمة مثالية، فلنتصور جماعة من الناس، أو أمة من الأمم، عدل أفرادها فأدلوا لكل ذي حق حقه، وعدلت حكومتها فأدت واجبها، ثم تعاطفوا فيما بينهم، فساد بينهم الإحسان وخاصة على ذوي قرباهم، ثم تجنبت هذه الجماعة الجرائم الفردية الشخصية، والجرائم الاجتماعية، والثورات الانقلابية، فأي جماعة أسعد من هذه الجماعة، وأي أمة أرقى من هذه الأمة.
لقد وضع الإسلام خير نظام للأمة بهذه الآية:
إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون ، وفهم خاصة المسلمين أنها من أجمع الآيات في بيان الخير والشر، فكرروها على أسماع الناس في كل مناسبة.
إن أسلوب القرآن في الدعوة إلى الأخلاق أسلوب عملي يلمس الواقع ويدعو إلى تنظيمه، ليس أسلوب الفلاسفة في بحث النظريات، وإقامة البراهين المنطقية الجدلية ونحو ذلك، إنما هو أسلوب يعمد إلى أصول الفضائل فيبينها، ويدعو إليها، ويوقظ المشاعر للعمل بها، هو أسلوب يوافق العامة والخاصة، والفلاسفة والجماهير، كل يستقي بمقدار استعداده.
ليس ينقص المسلمين دستورهم الذي ارتضاه الله لهم، وإنما ينقصهم فهمه حق الفهم، والعمل به في دقة وإحكام والتزام، فما قيمة القوانين الراقية وضعت على الرف؟! وما قيمة النصائح الغالية صمت عنها الآذان؟! إن القرآن - دائما - يقرن الإيمان بالعمل، ويطالب بهما جميعا ويجعلهما ركني السعادة ؛ فهو يعبر بالذين آمنوا وعملوا الصالحات، ولا يعتد بإيمان من غير عمل، كما لا يعتد بعمل من غير إيمان - وفقكم الله للإيمان الصحيح والعمل الصحيح.
1 - التجديد في الأدب
2 - التجديد في الأدب (اللفظ)
3 - التجديد في الأدب (العبارة)
4 - التجديد في الأدب (الموضوع)
5 - التجديد في الأدب (الشعر)
6 - مدرسة القياس في اللغة
7 - الأدب فن جميل
8 - أغنية
9 - تراثنا القديم
10 - الأدب والعلم
11 - جواب عن سؤال1
12 - الأدب العربي منذ أول عصوره حتى اليوم
13 - ملوك الإسلام والأدب العربي
14 - أدبنا الحديث أدب ديمقراطي
15 - تعاون العرب في وضع دائرة معارف عربية
16 - أبو نواس
17 - صفحة من سير البطولة العربية
18 - شوقي أمير الشعراء
19 - بطولة الفاروق تتمثل في أخلاقه وعقليته
20 - محمد عاطف بركات (1861-1924)
21 - الإسلام كعامل في المدنية1
22 - المسلمون أمس واليوم
23 - قوانين الحرب في الإسلام
24 - المدارس الغربية في البلاد الشرقية
25 - الأخلاق الاجتماعية
26 - ميادين القتال بين الأجناس والأمم والطبقات
27 - النقد والتقريظ
28 - عبادة الماضي
29 - الأخلاق السياسية
30 - القوى الضائعة في الأمة
31 - امتحان الحياة
32 - متاعب الحياة (1)1
33 - متاعب الحياة (2)
34 - الابتهاج بالحياة (1)
35 - الابتهاج بالحياة (2)
36 - استفد من تجاربي
37 - التعب العصبي.. والخوف
38 - معركة الحياة كيف نفوز فيها ...؟
39 - فن الصداقة
40 - الحياة النيابية
41 - مظاهر الرقي في الأمم
42 - مناهج الفقهاء الأئمة في التشريع
43 - النجاح في الحياة
44 - كيف ترقى الأمم
45 - رسالة المرأة العربية
46 - نهضتنا الفكرية ما زالت صراعا بين القديم والجديد
47 - مشاكل الشباب وكيف تعالج
48 - حديث إلى الشباب
1 - التجديد في الأدب
2 - التجديد في الأدب (اللفظ)
3 - التجديد في الأدب (العبارة)
4 - التجديد في الأدب (الموضوع)
5 - التجديد في الأدب (الشعر)
6 - مدرسة القياس في اللغة
7 - الأدب فن جميل
8 - أغنية
9 - تراثنا القديم
10 - الأدب والعلم
11 - جواب عن سؤال1
12 - الأدب العربي منذ أول عصوره حتى اليوم
13 - ملوك الإسلام والأدب العربي
14 - أدبنا الحديث أدب ديمقراطي
15 - تعاون العرب في وضع دائرة معارف عربية
16 - أبو نواس
17 - صفحة من سير البطولة العربية
18 - شوقي أمير الشعراء
19 - بطولة الفاروق تتمثل في أخلاقه وعقليته
20 - محمد عاطف بركات (1861-1924)
21 - الإسلام كعامل في المدنية1
22 - المسلمون أمس واليوم
23 - قوانين الحرب في الإسلام
24 - المدارس الغربية في البلاد الشرقية
25 - الأخلاق الاجتماعية
26 - ميادين القتال بين الأجناس والأمم والطبقات
27 - النقد والتقريظ
28 - عبادة الماضي
29 - الأخلاق السياسية
30 - القوى الضائعة في الأمة
31 - امتحان الحياة
32 - متاعب الحياة (1)1
33 - متاعب الحياة (2)
34 - الابتهاج بالحياة (1)
35 - الابتهاج بالحياة (2)
36 - استفد من تجاربي
37 - التعب العصبي.. والخوف
38 - معركة الحياة كيف نفوز فيها ...؟
39 - فن الصداقة
40 - الحياة النيابية
41 - مظاهر الرقي في الأمم
42 - مناهج الفقهاء الأئمة في التشريع
43 - النجاح في الحياة
44 - كيف ترقى الأمم
45 - رسالة المرأة العربية
46 - نهضتنا الفكرية ما زالت صراعا بين القديم والجديد
47 - مشاكل الشباب وكيف تعالج
48 - حديث إلى الشباب
فيض الخاطر (الجزء العاشر)
فيض الخاطر (الجزء العاشر)
مقالات أدبية وإجتماعية
تأليف
أحمد أمين
الفصل الأول
التجديد في الأدب
موضوع ثار فيه الجدل بين الكتاب، واحتدم فيه الخلاف بين الباحثين؛ هل أدبنا العربي يحتاج إلى تجديد؟ وهل سواء في ذلك شعره ونثره؟ وتعصب قوم للقديم يذودون عنه ويحافظون عليه، ولا يسمحون بأي تغيير فيه، وهب المحدثون ينعون على المحافظين جمودهم، وينذرونهم بسوء العاقبة إن هم ظلوا متمسكين بالقديم معرضين عن الجديد.
ولكن أسوأ ما يسوءني في هذا الموضوع وأمثاله الغموض والإبهام؛ فإذا سألت المجددين ماذا يريدون بالتجديد، وما ضروبه، وما مناحيه، وماذا يقترحون أن يدخلوه على الأدب العربي، جمجموا في القول، وأتوا بكلمات غير محدودة المعنى، ولا واضحة الدلالة، وقد يجوز إذا حددوا أغراضهم وأبانوا عن مقاصدهم، أن يوافقهم المحافظون أو أكثرهم، ولا يكون ثمت خلاف، وإن يكن فخلاف معروف تقام عليه حجج واضحة.
من أجل هذا كله، أحاول أن أعرض لوجوه التجديد التي يخيل إلي أنهم يريدونها، وأدلي برأيي فيها، وأدعو الكتاب أن يساهموا فيها بآرائهم، ويستدركوا ما يفوتني من حججهم وأغراضهم.
في أدب كل لغة عناصر ثابتة، لا يعتريها تغير ولا ينالها تجدد، هي قدر مشترك من الأسلوب والتراكيب وتأليف الجمل، به تمتاز اللغة من سائر لغات العالم، وينفرد أدب الأمة عن آداب العالم، وقدر مشترك من الفن، نتبين به الجيد من الأدب في كل عصر وكل جيل، هو فوق البيئة وفوق العوامل السياسية والاجتماعية، وفوق ما يطرأ عليها من كل تغيير.
وهذا وذاك هما اللذان يجعلاننا نتذوق الأدب الجاهلي، وندرك ما فيه من جمال، ونشعر بما فيه من نقص، ويستطيع الأديب منا أن يعرف خير ما قال امرؤ القيس، وما قال طرفة، وما قال زهير، وهو الذي يجعلنا نتذوق ما في القرآن الكريم من جمال في الأسلوب والمعنى، وندرك ما في العصر العباسي إلى عصرنا هذا من نثر وشعر، ونزنه ونقومه، ونحكم على بعضه بالحسن والجمال والقوة، وعلى بعضه بالضعف والقبح والغموض، ولولا هذا القدر المشترك لانقطعت الصلة بيننا وبين القديم؛ فلا نحس له جمالا، ولا نتذوق له طعما.
وهذا النوع من العناصر لا يقبل تجديدا ولا تغييرا؛ إذ بتغييره تضيع اللغة وتفقد مشخصاتها؛ فلو قلبنا تركيب الجمل رأسا على عقب، أو لم نراع الوضع الذي تسير على نهجه اللغة، لكان لنا من ذلك لغة جديدة، ليس بينها وبين الأولى نسب.
وهناك نوع آخر من العناصر في اللغة والأدب، خاضع للتغير، قابل للتشكل، يتأثر بالبيئة وبدرجة الحضارة، وبالأساليب السياسية، وبالحياة الاجتماعية، وغير ذلك.
وفي هذا النوع يكون التغيير والتجديد، ومن أجل هذا التغيير كانت الفروق واضحة بين الشعر العباسي والشعر الجاهلي في التعبير والتشبيه والأسلوب والموضوع ونحو ذلك، ومن أجل هذا أمكن الأديب إذا عرض عليه نوع من الأدب، أن يعرف عصره ولو لم يعرف قائله؛ لأنه يستطيع أن يتبين خصائص كل عصر ومميزاته، ويطبق ذلك على ما يعرض عليه من شعر أو نثر.
ومن أجل هذا أيضا ترى الفرق واضحا بين لغة الأدباء الآن وبين لغتهم منذ عشرين عاما، وتجد الفرق واضحا بين لغة الجرائد المصرية اليوم وبين لغة الجرائد السورية والعراقية، وإن كانت كلها تصدر باللغة العربية، وتشترك في العناصر الأساسية.
وهذا التغيير أو التجديد في الأدب وتأثره بما حوله خضع له الأدب العربي وكل أدب على الرغم من المحافظين والجامدين؛ فقد رأينا في العصر العباسي مدرسة - وعلى رأسها الأصمعي - لا تحب إلا الشعر الجاهلي، ولا تحب من المحدثين إلا من قلد القدماء، ورأينا من كان ينشد الشعر فيستحسنه، فإذا قيل له إنه محدث استهجنه واتهم ذوقه، ولكن هذه المدرسة أخضعها الزمن لحكمه، ونشأ أدب عباسي جديد احتفظ بالعناصر الأساسية للأدب العربي، ولم يأبه لما عداها، وكان الفرق كبيرا بين الأدبين كما قال الجاحظ: كم من الفرق بين قول امرئ القيس:
تقول وقد مال الغبيط بنا معا
وقول علي بن الجهم:
فبتنا جميعا لو تراق زجاجة
من الماء فيما بيننا لم تسرب
وجاء المتنبي وعلى أثره المعري، فجددا في الشعر من ناحية الأسلوب ومن ناحية المعاني، فأنكر عليهما أدباء عصرهما نزعتهما الجديدة، حتى رأينا من بين العلماء من أبوا أن يعدوهما من الشعراء، ثم حكم الزمن على هؤلاء العلماء ووضع المتنبي والمعري في مكانهما اللائق بهما.
وكان هذا هو الشأن في كل عصر، حتى عصرنا الحديث، نشأ قوم تأثروا بالأدب العربي القديم وحذوا حذوه، ولم يخرجوا قيد شعرة عنه؛ فلو ركبوا الطائرة قالوا ركبنا الهودج والبعير، وإذا استهلكت البنزين قالوا رعت السعدان
1 ، وسموا الجنيهات الإنجليزية وعملة الورق دراهم ودنانير، وإذا لم يكن لهم من الأمر شيء قالوا لا ناقة لنا ولا جمل، وهم في الحقيقة لا ناقة لهم ولا جمل، إلى كثير من أمثال ذلك.
وتأدب قوم بالأدب الغربي إلى ثقافتهم العربية، فثاروا على كل ذلك، واختلفوا بينهم في مقدار هذه الثورة؛ فقوم يريدون أن يتحرروا من الأوزان والتزام القوافي، وآخرون يريدون أن يتحرروا من التشبيهات البالية والمجاز العتيق، وآخرون يعافون بعض الأساليب القديمة والموضوعات التي جرى عليها السابقون، وكان صراع بين الطائفتين نعرض له بعد.
على كل حال، دلتنا أحداث الزمان على أن عوامل البيئة في التغيير والتجديد لا يمكن أن تقاوم، كما دلتنا على أن ليس كل تجديد يصادفه التوفيق ويتسع له صدر الزمن، وأن نجاح من نجح من دعاة التجديد، وفشل من فشل منهم، إنما كان خاضعا لقوانين طبيعة ظاهرة حينا وخافية أحيانا، وأن نوع التجديد إن كان صالحا، وكان مما تسمح به القوانين الطبيعية للأدب، فمعارضة المعارضين لا يكون لها من أثر إلا أن تؤخر زمن الإصلاح، وهو واقع لا محالة يوما ما، وإذا لم تسمح بها هذه القوانين كانت دعوة التجديد صيحة في فضاء أو خطا في ماء.
وبعد، فأي أنواع التجديد يتطلبه المجددون؟ وهل من خير الأدب العربي قبوله أو رفضه؟
الفصل الثاني
التجديد في الأدب (اللفظ)
إن أول أنواع التجديد وأبسطها تجديد الألفاظ؛ لأنها مادة الأديب الأولية، وخيوطه التي ينسج منها قطعته الفنية.
وتجديد الألفاظ على ضربين: (1)
اختيار الألفاظ التي تناسب العصر ويرضاها ذوق الجيل الحاضر؛ لأن لكل أمة في كل عصر ذوقا خاصا بها، تختار ألفاظا تناسبها وتأنس بها، وتمج ألفاظا لا تستحسنها ولا تستسيغها، وذوق الأمة في حياة مستمرة، فهو كذلك في عمل مستمر إزاء الألفاظ، وأدباء كل عصر لهم معجم يخالف معاجم اللغة القديمة؛ فلو أن أديبا استعمل اليوم كلمة «هبيخ» للجارية الحسناء لكفت في إسقاط قصيدته أو مقالته، ولو استعمل كلمة «بعاق» للمطر أو السيل لدل على فساد ذوقه وسوء أدبه، ومن أجل ذلك، لا يستحسن في هذا العصر بعض ما كان يستحسن في عصور سابقة؛ فقد كان يستحسن من أبي الطيب قوله:
وترى الفضيلة لا ترد فضيلة
الشمس تشرق والسحاب كنهورا
ولكن (كنهورا) الآن ثقيلة في اللفظ، كريهة على السمع، وهذا بديهي لا يحتاج إلى إطالة، وكل من جهل هذه الحقيقة لا يفلح أن يكون أديبا.
لقد أراد الأستاذان الشنقيطي وحمزة فتح الله أن يحييا غريب الألفاظ، ويستعملاه في قولهم وكتابتهم، ففشلا كل الفشل، وكان الناس يستظرفون ذلك منهما كما نستظرف فتاة حضرية لبست ثياب بدوية، وفهموا أن ذلك ليس جدا من القول، وليس طبيعيا أن تعيش بداوة القرن السابع في حضارة القرن العشرين، إنما يحيا الأديب يوم يوفق لاختيار الألفاظ الرشيقة التي تناسب ذوق عصره، والعصر الآن أميل إلى السرعة والاقتصاد، وكلاهما يتطلب الوضوح والجلاء، لا الغموض والغرابة.
لذلك أصبحت في معاجم لغتنا ألفاظ كثيرة ليس لها قيمة إلا أنها أثرية، تحفظ فيها كما تحفظ التحف في دار الآثار. (2)
ألفاظ تخلق خلقا، تلك الألفاظ التي تساير المدنية الحديثة بكل ما اخترعت من أدوات وصناعات، وما ابتكرت من فن وعلم ومعاني وآراء، واللغة العربية اليوم قاصرة كل القصور في هذا الباب؛ فليس لدينا ألفاظ لكثير مما اخترع وابتكر، وهذه مشكلة المشاكل اليوم وقبل اليوم، تجادل العالم العربي فيها طويلا ولما يستقر على حال.
وكان لقصور الألفاظ أثر كبير في ضعف الأدب؛ فكيف يستطيع الأديب أن يصف حجرة وكل ما فيها من أثاث ليس له ألفاظ تدل عليه؟ وكيف يستطيع الكاتب أن يؤلف رواية، وهو في كل خطوة يعثر بمسميات لا أسماء لها؟ ولذلك يهرب كثير من الأدباء من التعبير الخاص إلى التعبير العام؛ فإذا أراد أن يصف رجلا يلبس طربوشا قال إنه يلبس عمامة أو قلنسوة، والحقيقة أنه لا يلبس عمامة ولا قلنسوة، وإنما يلبس طربوشا، وإذا أراد أن يقول إنه يضرب على البيانو قال إنه عزف على آلة موسيقية، وهذا منتهى الفقر في التعبير.
كل هذا حقن الأفكار في أدمغة الأدباء، وسبب ضعف الوصف والرواية وغيرها في الأدب العربي الحديث، وجعل الأدباء يفرون إلى الموضوعات الإنسانية العامة والأفكار الميتافيزيقية، فإن نحن شئنا أن يكون الأدب ظلا لحياتنا، وحياتنا الآن، وجب أن نحل مشكلة الألفاظ حتى يطلق الأدباء من أغلالهم، وإلا ظلوا يدورون حول أنفسهم، وظل أدبهم غذاء ناقصا للأمة، ليس فيه كل العناصر التي لا بد منها للحياة.
الفصل الثالث
التجديد في الأدب (العبارة)
عرضت فيما سبق للبحث في الألفاظ وما تتطلب من جدة، واليوم أعرض لضرب آخر من ضروب التجديد، وهو التجديد في العبارة، وأعني بالعبارة الجملة التي يؤدى بها المعنى على اختلاف ألوانها؛ من حقيقة ومجاز وتشبيه واستعارة وكناية.
ومما لا شك فيه أن البليغ يستمد تشبيهاته واستعاراته، وما إلى ذلك، مما يحيط به من بيئة طبيعية واجتماعية؛ فالأدب الجاهلي - مثلا - صورة صادقة لمعيشة العربي في الجاهلية؛ إذا بكى فإنما يبكي الأطلال والمنزل الداثر والرسم العافي، وإذا رحل، فعلى ناقة أو بعير، وإذا أعجبه نبت، فالشيح والقيصوم، والخزامى والعرار، وإذا ذكر النسيم، فصبا نجد، وإذا حن إلى مكان، فموطنه من الرقمتين ورضوى وثبير.
كذلك كان في تشبيهاته واستعاراته وأمثاله، يستوحي ما يحيط به، ويستلهم ما يقع حسه عليه؛ فقال: استنوق الجمل، وهو أعز من الأبلق العقوق، وأبدت الرغوة عن الصريح، وهم أكثر من الحصى، وهو ليث غابة، وما تحل حبوته، وألقى حبله على غاربه، وقصرت الأعنة، واشتجرت الأسنة، وزلزلت الأقدام من رنين القسي وقراع الرماح، وطحنهم طحن الرحى، ومطله مطل نعاس الكلب، وكالباحث عن حتفه بظلفه وحط راحلته، وضرب أوتاده، وألقى عصاه، والقافلة تسير والكلاب تنبح، إلى كثير من أمثال ذلك؛ فهم في كل هذا يصفون حياتهم ويشتقون منها تشبيهاتهم، ويضربون منها أمثالهم.
وتتابع أدباء العرب بعد، يزيديون في التعبير تبعا لتغير المعيشة الاجتماعية، وتقدمهم في الحضارة، فقالوا: صندل الشراب وعنبره - وكأن أخلاقه سبكت من الذهب المصفى - ويكاد يسيل الظرف من أعطافه - ويمازج الأرواح لرقته - قد دس له الغدر في الملق - وهو من صيارفة الكلام يتطفل على موائد الكتاب - وكأن ألفاظه قطع الرياض، وكأن معانيه نسيم الآصال، وهكذا كانت العبارات المحدثة في العصر العباسي تخالف من وجوه كثيرة العبارات الجاهلية والأموية.
وقد جارى المؤلفون الأدباء، يدونون ما اخترعوا، ويقيدون ما أبدعوا؛ فرأينا عبد الرحمن الهمذاني يجمع في كتابه (الألفاظ الكتابية) العبارات المختارة من جاهلية وإسلامية، ورأينا الحصري يملأ كتابه (زهر الآداب) بفصول يعنونها «ألفاظ لأهل العصر»، يجمع تحتها ما اخترعه أهل عصره من تعبير رقيق وتشبيه أنيق، ونهج المؤلفون بعد هذا المسلك، حتى كان خاتمتهم إبراهيم اليازجي في كتابه «نجعة الرائد وشرعة الوارد»، جمع فيه أحسن العبارات والألفاظ مما قال السابقون والمحدثون إلى عصره.
وبعد، فلو قارنا بين الأدب العربي الحديث والأدب الغربي في هذا الباب - أعني باب العبارة - وجدنا في أدبنا العربي قصورا ظاهرا، وضعفا بينا.
ذلك أن الأدب الغربي ساير الزمن، واعترف بكل ما حدث فيه واستمد منه، على حين أن الأدب العربي الحديث أغمض عينه من كل ما كان، ولم يعترف بوجوده؛ نظر الأدب الغربي إلى ماضيه وحاضره ومستقبله، ولم ينظر الأدب العربي إلا إلى ماضيه؛ وزع الأدب الغربي لفتاته لينظر نظرة شاملة، وثبت الأدب العربي عينيه فيما وراءه، فلم ينظر إلا إلى قدميه، فكان ناقصا لا يسايرنا، ولا يصفنا ولا يمس حياتنا، وإنما يمس حياة آبائنا.
اعترف الأدب الغربي بالأدب القديم فأخذ منه خيره، واعترف بالدنيا الحديثة فاستمد تشبيهاته واستعاراته منها؛ رأى في دنياه مخترعات ومستكشفات لا حد لها؛ من كهرباء ومواد كيميائية وطيارات وغواصات وغازات وأضواء وراديو، وما لا يحصى كثرة، كل هذه الأشياء قلبت الحياة الاجتماعية رأسا على عقب، فلماذا لا تقلب الأدب! فأقبل الأديب عليها يتعرفها ويستلهمها تشبيهات واستعارات عصرية طريفة، فكان له منها ما أراد.
ورأى الأديب علم النفس ينمو ويرقى، ويحلل أعمال الإنسان تحليلا علميا دقيقا، ويعرض لكل المظاهر اليومية من ابتسامة وعبوس ورضى وغضب، فأخذ بحظ وافر منه، واستعان به في أدبه وتعبيراته، حتى استطاع أحد الكتاب الفرنسيين؛ وهو مارسل بروست (Marcel Proust) ، أن يحلل ابتسامة سيدة في ست صفحات.
ورأى نظما في الحكم تقوم وأخرى تسقط ، وكان لها من الأثر في حياة الناس وعقليتهم ما يخيل إليك معها أنهم أصبحوا بها خلقا آخر، فجعل يتتبع هذه التغيرات ويقتبس منها ما شاء ذوقه الأدبي.
كل هذا وأمثاله جعل الأدب الغربي يسير محاذيا لكل نظم الحياة، ويشاركها في رقيها واتجاهها، وإن استضاء الناس بمصباح كهربائي فالأدب يعبر عنه ويستعير منه ويشبه به، وإن كان نظام الحكم ديموقراطيا فالأدب ديمقراطي، والصور التي يصورها ديمقراطية، ويتعمق السيكولوجي في بحثه، فيتعمق الروائي في تحليل شخصيات روايته.
وهكذا كانت الاختراعات والصناعات والعلوم ونظم الحكم والسياسة والأدب تسير معا، لا يخطو عنصر منها خطوة إلى الأمام حتى يدرك الآخر سر تقدمه، فيعمل على أن يحتذيه، أما الأدب العربي، فيحارب متراليوزا بقوس وسهم، ويضيء في أدبه سراجا بزيت، والناس اليوم قادمون على أن يغيروا المصباح الكهربائي بخير منه، ويبكي الأطلال ولا أطلال، ويحن إلى سلع ولا سلع، ويستطيب الخزامى والعرار ولا خزامى لدينا ولا عرار!
من الحق أن نحب القديم الجميل، ونحفظه ونتعلم منه، ونعجب بما فيه من مظهر عاطفة حية وشعور قوي، ولكن لا ننشئه، وإذا قلناه وجب أن نقول معه ما نحياه ونعيش فيه.
إذا أنت لم تحم القديم بحادث
من المجد لم ينفعك ما كان من قبل
وقفت العبارة العربية حيث كانت في العصر العباسي، ولم تتقدم إلا قليلا بما اقتبس من الأدب الغربي، والذي تتطلبه من التجديد فيها أن نستمد من حياتنا الواقعية، ومن كل ما يحيط بنا، جملا حية تلائم ما في نفوسنا، وأن نخترع عبارات من المجازات والاستعارات والتشبيهات والكنايات، نستمدها من الحياة التي نعيشها، والمخترعات التي نستخدمها، وما وصلت إليه علوم النفس والاجتماع والسياسة والاقتصاد. •••
وقد عاق الأدب العربي الحديث عن الوصول إلى هذه الغاية عوائق كثيرة؛ أهمها: (1)
ما سبقت الإشارة إليه من أن المخترعات ليس لها أسماء، وأن أئمة اللغة لم يرضوا أن يستعملوا الكلمات الأجنبية، ولا وضعوا لها أسماء عربية، وتركوا الأدباء في حيرة من أمرهم، فكيف يستطيعون أن يستلهموها في جملة لتكسب المعنى قوة ، وهم يفرون من التلفظ بها، ويخشون من علماء اللغة استعمالها؛ لذلك رضينا من الأدب بالعدول عنها جملة وتفصيلا، حقيقة ومجازا، وبهذا سد أمام الأديب العربي باب من أوسع الأبواب وأغزرها فائدة. (2)
وسبب آخر من أهم الأسباب في فقر الأدب العربي في التعبير، هو أن الأدب العربي الحديث أدب أرستقراطي لا أدب شعبي؛ وأعني أرستقراطية العلم لا أرستقراطية المال؛ ذلك أن الأدب الإنجليزي أو الفرنسي أو الألماني أدب شعب لا أدب طبقة خاصة - نعم، قد يرقى الأدب الإنجليزي - مثلا - فلا يفهمه إلا الراقون، ولكن بجانبه أدب إنجليزي شعبي لا يختلف عن أدب الخاصة من ألفاظه وتراكيبه وإن اختلف في دقة المعنى وبساطته - أما الأدب العربي فأدب خاص لطائفة المتعلمين تعلما راقيا فحسب، لا يشاركهم فيه العامة وأشباه العامة، وللعامة أدب بلدي خاص يستمتعون به في أغانيهم ونكتهم وزجلهم وموالياتهم، وحتى الخاصة لا يتذوقون الأدب العربي إلا في الكتب والمجلات والجرائد، أما أحاديثهم وتنادرهم وفكاهاتهم فباللغة العامية، وليست أمة من الأمم الحية الآن بين لغتها اليومية ولغتها الأدبية من الفروق ما بين اللغة العربية واللغة العامية.
نتج من هذه الظاهرة نقص كبير في الأدب العربي الحديث؛ لأن استعمال الألفاظ والعبارات في البيت وعلى المائدة وفي الشارع يكسبها حياة قوية، ويزيدها صقلا ومرونة، ولو اقتصر في استعمالها على الكتب كانت حياتها ناقصة، لا يهذبها الاستعمال ولا يرقيها الصقل اليومي، وحسبك دليلا على ذلك أن النكت والنوادر، وهي من أهم أركان الأدب، لا تجد منها سائغا عذبا في أدبنا العربي عشر معشار ما تجده في الأدب العامي، وأن النادرة تحكى بالعامية فتضحك إلى أقصى حد، ثم تحكيها باللغة الفصحى فتخرج باردة تافهة، وأن كثيرا من الألفاظ والتعبيرات العامية قد أفادها الاستعمال روحا قوية، فإذا عبرت عنها بالعربية لم تجد لها من التعبير قوة العامية وحسن دلالتها على المعنى.
وكل أمة قد كسبت من توحيد لغتها الكلامية والكتابية ما لا يقدر؛ فقد أصبح الشعب كله منتجا أدبا وتعبيرا قويا، وأصبح الحديث على المائدة وفي حجرة الجلوس وفي التمثيل والسينما يخرج أدبا جديدا ويحيي أدبا قديما، والأمة كلها تتعاون في الإنتاج الأدبي؛ هذا بتعبيره الرقيق، وهذا بنكته ونوادره، وهذا بقصته وأمثاله، وهذا بشعره، وهكذا.
وليس كذلك الحال في الأدب العربي؛ فالأمثال والنوادر والحكايات باللغة العامية، والأحاديث اليومية وقضاء كل شئون الحياة باللغة العامية، وليس للغة العربية إلا الكتاب وما إليه؛ ولذلك أصبح عندنا أدبان؛ أدب أرستقراطي، هو هذا الشعر والكتب التي تؤلف، والمجلات والجرائد التي تنشر، وأدب شعبي، هو الزجل والأغاني والحواديث وما إليها، وبين الأدبين فواصل كبيرة وحواجز متينة، وفي هذا ضرر كبير على الأمة والأدب معا؛ أما الأمة، فلأن شعبها لا ينتفع بنتائج المتعلمين منها، وأما الأدب، فلأنه ليس أدبا صحيحا؛ إذ الأدب الصحيح هو ما كان ظلا لحياة الأمة الاجتماعية كلها، لا لحياة طبقة خاصة منها.
ولا أمل لحياة الأدب العربي من هذه الناحية إلا بإزالة الحواجز القوية بين العامية والعربية، على أي وجه يرضاه قادة الأمة، ويحفظ للغة العربية مكانتها من حيث هي لغة الدين ورابطة الشعوب الشرقية؛ إذ ذاك تصبح اللغة حية، والتعبيرات حية، وإذ ذاك تزول الحيرة التي نعيش فيها الآن؛ فإنك تستعمل اللفظ العامي والعباراة العامية فلا تجد لهما نظيرا في العربية، وإن وجدت لهما نظيرا فنظير ميت ليس فيه حياتهما.
كنت أقرأ الآن في جريدة، فوجدت فيها كلمة «بعبع»، وكنت أسمع، فسمعت من يقول: إنه بيت «مبهوأ»، ومن يقول: «رزق الهبل على المجانين»، ووجدتني إذا أجهدت نفسي قد أعثر على تعبيرات عربية مرادفة لها أو قريبة منها، ولكن ليس فيها حياتها؛ لأن الحياة وليدة الاستعمال، وأريد الاستعمال الشعبي، وهذا أحد الأسباب في أن مقالات الأستاذ فكري أباظة، والمجلات الهزلية، والهزلية الجدية، لها من الرواج في أوساط الجماهير ما ليس لغيرها، وتتفتح لها نفوس شعبية أكثر مما تتفتح للمقالات العربية الصرفة، وترن الكلمة أو العبارة في الأذن رنينا دونه رنين العربية الكلاسيكية. (3)
وسبب ثالث، هو أن الحواجز عندنا بين العلم والأدب قوية متينة، وإن شئت فقل إنه ليس هناك صلة بين كلية العلوم والآداب، وإن الثقافة التي يتثقفها الأديب ينقصها - غالبا - قدر ضروري صالح من المعلومات العلمية، تجعله يستطيع أن يلم إلماما ما بالمخترعات والمستكشفات، ويستغلها في أدبه، وهذا القدر يلقفه الأديب الأوربي في بيته، وفيما يقع في يده من كتب ومجلات أولية، ثم في مدرسته، وأدباء الطبقة الأولى منهم كانوا على حظ عظيم من الثقافة العلمية، استغلوها في منتجاتهم، فأصبحت هناك أنواع من الأدب ومن التعبيرات والتشبيهات القوية التي تعتمد على الثقافات العلمية، أخذها منهم الشعب واستساغها، أما برنامج الأديب العربي فقاصر من هذه الناحية كل القصور؛ ولذلك كان نتاجه قاصرا كل القصور.
الفصل الرابع
التجديد في الأدب (الموضوع)
ومن أوضح الظواهر أن الجمهرة العظمى من المتعلمين الذين درسوا أدبا عربيا وأدبا أجنبيا يعكفون على الأدب الأجنبي، يتذوقونه ويكثرون من مطالعته، في جدهم إن شاءوا الجد، وفي لهوهم إن شاءوا اللهو، وهم إن قرأوا في الأدب العربي ففي القليل النادر، وإن فعلوا لم يطيلوا ولم يتعمقوا، وقل أن يدرسوا كتابا دراسة جيدة، إنما أكبر همهم أن يقلبوا صفحات الكتاب ليقع نظرهم على أبيات من الشعر يستملحونها، أو قصة طريفة يتفكهون بها، ومكتبتهم - على قلتها - تمثل ميلهم؛ فالكتب الإنجليزية أو الفرنسية فيها غالبة، والكتب العربية قليلة نادرة، ذلك - ولا شك - حال أغلب المثقفين ثقافة عصرية.
ويذهب بعض الباحثين في تعليل هذه الظاهرة إلى أن السبب يرجع إلى فساد تعليم اللغة العربية وآدابها في المدارس؛ فإن أساتذتها لا يحببون إلى الطلاب الأدب العربي، ولا يصلون به إلى نفوسهم، وإنما هي أمثلة محدودة تتكرر عاما بعد عام، ونماذج من الشعر والنثر تعرض مرة بعد مرة، ولا غرض من دراستها إلا أن يذكرها الطلبة عند الامتحان فيؤدوها كما تليت عليهم، ثم تذهب بذهاب الامتحان؛ لأنهم قد تجرعوها على مضض، فهم يفرحون بنسيانها فرح المريض - وقد شفي - بالخلاص من دواء مر المذاق.
قد يكون هذا سببا صحيحا، ولكنه فيما أرى ليس بالسبب الجوهري؛ فإن بعض اللغات الأجنبية التي تدرس بيننا ليست دراستها بأحسن حالا من دراسة اللغة العربية، ومع هذا فالطلبة يسيغون أدبها، ويتذوقون كتبها بما لا يظفر ببعضه الأدب العربي.
أهم سبب عندي يرجع إلى موقف الأدبين؛ الأدب العربي والأدب الأوربي؛ ذلك أن كل أدب أوربي له قديم وحديث، والأدب الحديث هو الذي يناسب جمهور المتعلمين وعامة الشعب؛ لأنه في الغالب يعرض لما يشعرون به فيعبر عنه التعبير الفني؛ فالأديب المحدث يرى ظاهرة اجتماعية فيضعها في قصة، أو منظرا جميلا فيضعه في قصيدة، أو معنى أثارته في نفوس قومه أحداث سياسية أو اقتصادية فيضعه في مقالة أو كتاب، فيقبل الجمهور على قراءة ذلك ويعجبون به، وسبب الإعجاب أن الأديب شعر بما يشعر به الجمهور، واستطاع أن يعبر عنه التعبير الفني الذي لا يستطيعه الجمهور.
أما الأدب الأوربي القديم، فإنما يناسب خاصة المتعلمين؛ لأنه يتطلب دراسة لغوية وأدبية عميقة، كما يتطلب - لتفوقه - أن يلم المتعلم بشيء كثير من المسائل التاريخية والاجتماعية التي أحاطت بالأديب وبالقطعة الفنية؛ حتى يستطيع أن يفهمها فهما صحيحا، وليس ذلك في مكنة السواد الأعظم من الناس؛ فالذين يفهمون الإلياذة والأوديسة وخطب ديمستين قليل بالنسبة إلى الذين يقرءون الأدب الحديث ويفهمونه، وكذلك الذين يفهمون الأدب الإنجليزي أو الفرنسي في القرون الوسطى ويتذوقونه هم الخاصة من الأدباء، وإن قرأ الجمهور شيئا من الأدب القديم فإنما يقرأه مترجما إلى اللغة الحديثة، أو معروضا في شكل جديد قد ذللت فيه كل الصعوبات التي يحتمل أن يلقاها القارئ العادي، أما الأدب الإنجليزي أو الفرنسي الحديث، فيكاد يكون من حظ الإنجليز أو الفرنسيين جميعا.
وسبب ذلك أن الأدب هو نقد الحياة في أسلوب فني، وإذا كانت كل أمة تفهم حياتها الحاضرة فهما ما - وإن اختلفوا في مقدار الفهم - كان الأدب الحديث أقرب إلى فهمهم وأيسر متناولا لجمهورهم، وإذا كان الأدب القديم وصفا لحياة قديمة لا يستطيع فهمها فهما صحيحا إلا من عرف بيئتها وتاريخها كان ذلك الأدب أدب الخاصة. •••
وبعد، فالأدب العربي أدب قديم لا حديث له، وإن شئت تعبيرا دقيقا فقل إنه أدب قديم لم يستكمل حديثه؛ لذلك كان الأدب العربي أدب الخاصة لا أدب الجمهور.
لا يستطيع القارئ أن يفهم الأدب العربي القديم إلا بفهم دقيق للتاريخ، وفهم بالغ للظروف الاجتماعية التي نشأ فيها الأدب، ومعرفة واسعة بالجغرافيا، وعلم تام بقوانين الصرف المعقدة - كأنها قوانين اللوغارتمات - ليعرف كيف يبحث في معاجم اللغة العربية عن كلمة غريبة، وليس يصبر على ذلك كله إلا المجاهدون الصابرون، وقليل ما هم.
يريد سواد المتعلمين أن يغذوا مشاعرهم من حب يحلل تحليلا دقيقا، أو إعجاب بمنظر طبيعي ملك عليهم نفوسهم، فأرادوا أن يصور هذا الإعجاب في قطعة فنية، أو تبرم بأسر ورق، فهم يريدون أدبا يتغنى بالحرية، ويحفز النفوس إلى تحقيقها، أو ألم من سوء حالة اجتماعية فهم يبتغون قصة تمثلها، أو قصيدة تصفها، أو كتابا يحللها، أو نحو ذلك من ضروب المشاعر، فلا يجدها في الأدب العربي الحديث إلا قليلا نادرا، فيضطر إلى الأدب الأجنبي يقرؤه ويتغنى به ويستمرئه.
وهو على الرغم من أن ذلك الأدب ليس بلغته، ولا يصف مشاعر تمثل بالدقة مشاعره، ولا يحلل حالات اجتماعية تشبه مشابهة تامة حالاته، على الرغم من ذلك كله مضطر أن يقرأه؛ إذ ليس عنده من أدبه ما يكفي لغذائه، وفي الأدب الغربي كل صنوف الغذاء على اختلاف الأنواع وعلى اختلاف الأساليب؛ إن شاء سهلا وجد السهل، أو صعبا وجد الصعب، أو بين ذلك وجد بين ذلك، وإذا غمض عليه لفظ استطاع أن يكشف عنه في المعاجم من أول درس تعلمه؛ فكيف لا يهمل بعد ذلك الأدب العربي ويعكف على الأدب الغربي؟
إن شئت فوازن بين ما يدرسه الطالب في المدارس الثانوية أو العالية في الأدبين، فهو في الأدب الغربي يدرس شكسبير وأمثاله، فيجد موضوعا شيقا يمثل حالة من الحالات التي تتصل بنفسه، وتمس حياته الاجتماعية بقدر ما، قد صيغت في قالب فني رشيق، فخرج من الدرس يحبها ويحب موضوعها، أما في الأدب العربي، فيدرس مختارات من جرير والفرزدق والأخطل، أو مختارات من مقامات البديع والحريرى أو نحو ذلك ، وهذه كلها لا تمثل ناحية اجتماعية يحياها أو ما يقرب منها، ولا فكرة عميقة حللت تحليلا واسعا؛ لذلك يخرج منها وهو لا يحبها، أو على الأقل يكون على الحياد منها.
لست أنكر أن في جرير وأمثاله، والمقامات وأمثالها، وفي الأدب العربي على العموم، جمالا وفنا وإبداعا، ولكن ذلك لا يدركه إلا الخاصة الذين مرنوا طويلا على الدرس، وبذلوا الجهد في تدريب أذواقهم على تقويمه واستساغته، وليس ذلك في استطاعة كل الطلبة، ولا أكثرهم.
فإن أنت نظرت إلى الأدب العربي الحديث فماذا ترى؟ ترى كثيرا من الأدب الغربي قد ترجم إلى العربية، وليس من الحق أن يعد هذا أدبا عربيا في جوهره وموضوعه؛ إذ ليس له من العربية إلا لغة ملتوية على النمط الغربي، وترى نتاجا مبتكرا قليلا، وأكثر هذا القليل مقالات وفصول جمعت بعد ذلك وسميت كتبا مجازا، ولا تربطها وحدة غالبا، والبقية الباقية من القليل هي التي يصح أن تسمى أدبا عربيا حديثا لم يكتمل.
ذلك في نظري أكبر سبب في انصراف جمهور المتعلمين عن الأدب العربي، فإن أريد إقبالهم عليه فلا بد من إنتاج حديث وافر يغذي كل مشاعر الحياة كما يغذي العقول، وليس من الحق أن ندعو السواد الأعظم إلى الأدب العربي قبل أن نستكمله، أو على الأقل نوجد فيه ما يسد رمقهم، وإن أردنا الإنصاف فواجب أن ندعو الدعوتين: دعوة الأدباء في العربية إلى أن ينتجوا، ودعوة القراء إلى أن يقرءوا.
ولن ينجح الأدباء إذا اقتصروا على أن يحتذوا حذو القدماء شكلا وموضوعا دون أن يمسوا حياتهم الواقعية وبيئتهم الاجتماعية ومشاعرهم النفسية؛ فالأدب متغير، خاضع لقانون النشوء والارتقاء، فإذا تقيد أدباؤنا بالموضوعات التي عالجها القدماء، وبالأشكال التي صب فيها الأدب القديم عد أدبهم قديما لا حديثا، ولم يصلح علاجا لما نصف من أمراض.
مثال ذلك: أنا إذا وضعنا أيدينا على مختارات البارودي - وهو كتاب ضخم في أربعة أجزاء، اختار فيها الثلاثين شاعرا من شعراء العصر العباسي - وجدناه قد اختار نحو أربعين ألف بيت؛ منها أربعة وعشرون ألفا في المديح، وإذا أضفت الهجاء والرثاء إلى المديح وجدت جميع ذلك يقرب من ثلاثين ألفا، والربع الباقي في الأدب والصفات والزهد والنسيب!
فترى من هذا إفراط الأدباء القدماء في وصف العواطف الشخصية؛ من كرم ورثاء وهجاء، وتقصيرهم في أبواب كثيرة؛ أهمها وصف المناظر الطبيعية، وتحليل الانفعالات النفسية، وغير ذلك من ضروب الأدب.
وهذا التقصير وقع في الأدب الأوربي القديم كما وقع في الأدب العربي؛ فلو قرأنا شعر هوميروس وفرجيل ودانتي، وجدنا فيه قليلا من وصف جمال الطبيعة؛ من جبال وبحار ونجوم، على حين أن الشعر الأوربي الحديث قد ملئ بهذا الضرب من القول، وأبدع الشعراء فيه إبداعا لا حد له؛ فأفاضوا في القول في السماء ونجومها، والأشجار وازدهارها وذبولها، والبحار والصحراء وغيرها، ووجدوا في ذلك كله كنوزا استمدوا منها شعرهم، وكان تقصير القدماء وإجادة المحدثين في ذلك قانونا طبيعيا؛ لأن الإعجاب بجمال الطبيعة نتيجة رقي كبير في الذوق، فإذا قصر أدباؤنا المحدثون في هذا - كما هو حادث الآن - وتابعوا الأقدمين في المديح والهجاء والغزل فقط، ظل نقص الأدب العربي على ما هو عليه.
كذلك يعيش الشرقي عيشة خاصة غير التي كان يعيشها آباؤه؛ سفرت المرأة بعد حجابها، وتغير في العشرين سنة الأخيرة كل نظم الحياة تقريبا؛ من معيشة بيئية، ونظم اجتماعية، وحياة سياسية، وأصبح كل باب من هذه الأبواب يتطلب قصصا جديدا وشعرا جديدا وكتبا أدبية جديدة، فإن نظر أدباؤنا إلى دواوين الشعراء الأقدمين ولم ينظروا إلى دواوين الطبيعة وصحائف العالم الذي فيه يعيشون فلا أمل في شعرهم ولا نثرهم، وظل المتعلم منصرفا عنهم إلى الأدب الغربي على الرغم منهم.
ونوع آخر من الأدب يصح أن يستغله الأدباء، وهو أن يعمدوا إلى الأدب القديم، وأبطال الشرق، والأحداث التاريخية العربية، فيجعلوا منها موضوعا لدراستهم، ثم يلقوا عليه أضواء مما وصل إليه العلم الحديث، والأدب الحديث، وعلم النفس الحديث، فيترجموه إلى لغة العصر، ويبرزوه في شكل يناسب ذوق الجمهور، ويحبب إليهم قديمهم.
إنهم إن فعلوا ذلك استطاع من لا يعرف لغة أجنبية أن يجد غذاءه في الأدب العربي، واستطاع أن يكون إنسانا مثقفا تكفيه ثقافته، واستطاع من يعرف لغة أجنبية أن يباهي بأدب قومه كما تباهي كل أمة بأدبها، وفي ذلك اعتداد بشخصيتها العربية الشرقية لا يستهان به.
الفصل الخامس
التجديد في الأدب (الشعر)
من قديم حاول الأدباء والنقاد أن يضعوا تعريفا للشعر، فاختلفت تعاريفهم؛ لاختلاف أنظارهم، ولأن كلمة الشعر استعملت في معان مختلفة، فكان كل أديب يعرفه حسب نظره، وحسب المعنى الذي يرمي إليه، وكان سواء في ذلك أدباء العرب والفرنج.
ذلك أن الشعر - على العموم - يتكون من عنصرين أساسيين، وهما: الوزن والقافية أولا، وإثارة المشاعر ثانيا، فإذا فقد الكلام عنصرا من هذين العنصرين لم يصح أن يسمى شعرا، غير أن بعض العلماء طغى عليه النظر إلى عنصر الوزن فعرفه تعريفا أفقده روحه، فقالوا: إن «الشعر هو الكلام الموزون المقفى»، ومثله قول بعض الفرنج: «أي كلام موزون يسمى شعرا؛ سواء أكان جيدا أم رديئا»، وعلى هذا التعريف فألفية ابن مالك شعر، وقواعد الحساب المنظومة شعر، والمتون الفقهية المنظومة شعر.
كما أن بعض العلماء طغى عليه النظر إلى روح الشعر ومعناه ، فعرفوه تعريفا أفقده موسيقاه؛ كالذي قال بعضهم: «الشعر فيضان من شعور قوي نبع من عواطف تجمعت في هدوء»، ومثله قول رسكن: «الشعر إبراز العواطف النبيلة من طريق الخيال»، وهو تعريف يصح أن يكون للأدب كله؛ نثره وشعره، بل للفن جميعه؛ من أدب ونحت وتصوير وموسيقى.
وابن خلدون نقد التعريف بأنه الكلام الموزون المقفى، وقال إنه إن صح تعريفا عند العروضيين لا يصح عند البلاغيين، ثم اختار أن يعرفه «بأنه الكلام البليغ المبني على الاستعارة والأوصاف، المفصل بأجزاء متفقة في الوزن والروي، مستقل كل جزء منها في غرضه ومقصده عما قبله، الجاري على أساليب مخصوصة»، وعيب هذا التعريف أنه ممل، وأنه لم يلتفت إلى مزية الشعر وروحه، وهو إثارة المشاعر، واستقلال كل جزء منه في غرضه ومقصده ليس من العناصر الأساسية التي يصح أن تدخل في التعريف.
فلو قلنا إن الشعر هو الكلام الموزون المقفى، المنبعث عن عاطفة، والمثير لعاطفة، كان تعريفا أقرب إلى الصواب.
فإذا وجدت نوعا من الأدب يجمع الوزن والاتصال بالمشاعر فسمه شعرا وإلا فلا.
والشعر يثير المشاعر بما فيه من خصائص:
فأولا:
بأوزانه وقوافيه؛ ولذلك كان المعنى الواحد إذا قيل مرة شعرا ومرة نثرا كان في الشعر أقوى أثرا.
وثانيا:
بلغته؛ فللشعر لغة غير لغة النثر، ولسنا نعني بلغة الشعر الكلمات الغريبة أو أنواع البديع أو نحو ذلك، فقد يكون الشعر في منتهى الرقي وكلماته في منتهى السهولة، وهو كذلك خلو من كل أنواع البديع، إنما الذي نعنيه أن للشاعر ملكة لا يمكن أن نوضحها تمام الوضوح، بها يستطيع أن يتخير من ألفاظ اللغة ما يرى أنها أبعث للشاعر، وهو كذلك يضعها في قوالب يتخيرها من القوالب العديدة والتراكيب اللغوية المختلفة، وهذا هو ما يجعل الشاعر شاعرا؛ فقد يكون عندنا شعور فياض كالشعور الذي عند الشاعر أو أغزر منه، ولكن ليس لنا هذه القدرة على الإفصاح واختيار الألفاظ والقوالب والتراكيب، ومن ثم كان من المستحيل ترجمة الشعر إلى شعر؛ لأن الترجمة لا ترينا ما للشاعر من قدرة فنية على اختيار الألفاظ والأساليب، والذي نترجمه هو المعنى الذي حواه الشعر وما فيه من تصوير وخيال.
ويعد المترجم أمينا إذا هو استطاع أن ينقل هذا، أما طريقة الأداء فلا يمكن ترجمتها؛ نعم، إن بعض الشعراء قد يقرأ القطعة من الشعر، ويكون له قدرة فنية فيصوغ هو شعرا مستمدا من وحي ما قرأ، وقد يجري مع الأول في واد واحد، وتكون له عذوبة ما للأول، ولكن ليس هذا ترجمة على الإطلاق.
كذلك يثير الشاعر الشعور بما عنده من لطف النظر، أو الإلهام، أو اللقانة، أو ما شئت فسمه، فللشاعر روح غامض طبع عليه لا يكتسب بتعلم، به ينظر إلى الأشياء نظرا خاصا، وبه يبعث الشعور عند السامع، ولعل هذا هو الذي جعل شعراء العرب يعتقدون أن لكل شاعر شيطانا ينفث فيه الشعر، ولأمر ما خلط العرب فسموا النبي شاعرا أحيانا ، وكاهنا أحيانا،
وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون * ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون .
وللشاعر ناظر باطن للحياة، يغوص فيها ويستخرج معانيها، ويعرضها في شعره، ولأن الشعر هو معنى الحياة كان شعر كل عصر مرآة له، وقديما قالوا: (الشعر ديوان العرب)، والحق أنه ديوان الأمم، تسجل فيه حياتها وأفكارها ومشاعرها؛ فالشاعر يعطينا صورة روحية حية أكثر مما يعطينا إياها التاريخ، والشعراء عادة في مقدمة قومهم شعورا، وشعرهم إيذان بالفلسفة وإرهاص لها؛ فهم يلهمون الشيء إلهاما غامضا، ثم يتضح ما ألهموا به على مر الأزمان، وتأتي الفلسفة بعد فتشرح وتحلل وتدلل. •••
أما الوزن في الشعر فهو موسيقاه، وله قيمة كبرى في الشعر، حتى عد أهم فارق بينه وبين النثر، والشعر يقوى بالموسيقى الجيدة، ويضعف شأنه إذا ساءت موسيقاه، وارتباط الشعر بالموسيقى أشد من ارتباط الفنون الأخرى؛ كالنقش والتصوير، حتى كان الرومان يقولون: «إن الشعراء ليسوا إلا مغنين يترنمون بشعرهم، ويغنون به لأنفسهم ولمن شاء أن يردده بعدهم».
ومن أنواع الشبه بين الموسيقى والشعر ما لاحظه بعضهم من أن كلا منهما يتنوع أنواعا متماثلة؛ فالصوت يختلف عن الصوت من نواح أربعة : (1)
من ناحية الطول والقصر. (2)
والغلظة والرقة. (3)
والارتفاع والانخفاض. (4)
ومن ناحية مصدر الصوت؛ كعود أو قانون.
وهذه النواحي الأربعة يمكن أن نراعيها في الشعر؛ فمن النوع الأول اختلاف التفاعيل طولا وقصرا، فالرجز أقصر في التفاعيل من الطويل، وهكذا؛ ولهذا الاختلاف تأثير كبير في الأذن الموسيقية.
كذلك نرى في الشعر ما يتناسب مع الشدة والضعف والغلظة والرقة؛ فالشعر قد يناسبه - أحيانا - حروف وكلمات ضخمة قوية، وقد يناسبه حروف وكلمات لينة رخوة؛ كالذي قالوا في قوله:
ألا أيها النوام ويحكمو هبوا
أسائلكم: هل يقتل الرجل الحب؟
فالشطر الأول قوي شديد، والثاني رخو ناعم.
وفي الشعر ما يناسبه الهدوء والرقة؛ كشعر الغزل، ومنه ما يناسبه الشدة والبطش، ويناسبه إنشاده في قوة وجلبة؛ كشعر الحماسة.
ونلاحظ في الموسيقى أن النغمة الواحدة إذا وقعت على الكمنجة، ثم وقعت بعينها على البيانة، كانت النغمتان مختلفتين تأثيرا، وهذا يقابله في الشعر القافية؛ فالقصيدة على قافية قد يكون لها أثر لا يكون إذا قيلت على قافية أخرى، وهكذا. •••
والشعر أقل تقدما وأبطأ خطى من النثر؛ سواء في ذلك اللغة العربية وغيرها من اللغات، وسبب ذلك على ما يظهر أن الشعر لغة العواطف، والنثر لغة العقل، والمشاعر والعواطف قليلة التغير بطيئة الرقي، وما حدث فيها من تغير فأكثره تغير في الشكل لا في الموضوع، أما العقل فراق أبدا، وثاب في الرقي، ومظهر ذلك الرقي العلمي الذي نحسه من سنة إلى أخرى، ولأن الشعر تعبير شخصي؛ وأعني بذلك أن الشاعر يعرض علينا في شعره مشاعره ونظراته إلى الحياة وإحساسه بها.
أما الناثر فعالمي إنساني، يعرض الشيء كما هو لا كما يرى، تحس في الشعر دائما بالشاعر يحدثك عن نفسه، وتحس في النثر بعقل يخاطب عقلك، وإن شعرت بالشاعر فمن وراء حجاب، ومن أجل هذا خضع النثر للمنطق ولم يخضع له الشعر، ترى في الشعر غالبا مبالغة لا يرضاها المنطق، وتناقضا لا يقره المنطق، وتحكما في الحكم لا يؤيده المنطق، وتخبطا وهراء يغتفرهما العقل في الشعر ولا يغتفرهما في النثر.
وهذه الظاهرة - وهي سير النثر إلى الأمام في سرعة وقفز، وسير الشعر في بطء وتمهل - هي التي جعلتنا نتذوق النثر في ذلك العصر؛ لأن الصلة بين نثرنا والنثر القديم صلة ضعيفة قد خالفناها كل المخالفة، ولم يبق منها إلا أساس التركيب الذي تقتضيه طبيعة اللغة، بل إن مسافة الخلف بين نثرنا والنثر من عشرين سنة بعيدة كل البعد، وعلى العكس من ذلك الشعر، فالفرق بين الشعر القديم والحديث قليل تافه، ومع هذا، فالشعر يجب أن يخضع لسنة النشوء والارتقاء، ويجب أن يتقدم ويجاري الزمان، كما حدث في الشعر الغربي.
يجب أن يتقدم الشعر في كل من عنصريه؛ عنصر الوزن وعنصر المعنى؛ ففي الوزن نرى أن العرب في الجاهلية صبت شعرها في ستة عشر بحرا، وكان خضوعها لهذه البحور لا لأنها حصرت كل ما يمكن أن يكون، ولكن ابتكروا - أولا - بحرا أو بحرين ، ثم جاء الخلف فزادوا هذه البحور شيئا فشيئا، لا يهديهم في الابتكار إلا الأذن الموسيقية، وهم لا عيب عليهم في ذلك، ولكن العيب عيب من أتى بعدهم فقدسوا هذه البحور، ولم يشاءوا أن يخرجوا عنها قيد شعرة.
وقد تحكم العلماء والأدباء في أذواق الناس، فأبوا عليهم أن يقولوا في غيرها، أو أن يشذوا ولو قليلا عنها، وهو تقديس في غير محله؛ لأن أوزان الشعر - كما قلنا - هي موسيقاه، وكما تطورت الموسيقى في العصور، واخترعت نغمات، وولد من القديم نغمات جديدة، وكانت موسيقى العصر العباسي غير موسيقى العصر الأموي، وهما غير موسيقى الجاهلية، كان واجبا أن يغير الشعراء موسيقى الشعر، ولا يقفوا عند الحد الذي رسمه الجاهليون.
وعجيب أن نسمح في عصرنا للموسيقى الشرقية أن تطعم بالموسيقى الغربية، ونهيئ آلاتنا للتوقيع عليها بهذه النغمات الجديدة، ونهيئ آذاننا لسماعها، ثم لا نفعل ذلك في الشعر! نعم، أخذ بعض الناس يتحللون من قيود البحور والقوافي الجاهلية؛ كما فعل الأندلسيوف بالموشحات وما إليها، ولكن وقف من بعدهم على اختراعهم، ولم يسيروا على سنتهم في التقدم.
يجب أن يتحرر نوابغ الشعراء من هذه القيود، ويشعروا بما يحسون، ويوقعوا على النغمة التي يرتضون، وليس الحكم بيننا وبينهم هو البحور الستة عشر، ولكن الحكم هو الأذن الموسيقية، والأذن الموسيقية وحدها، وكما نرجع في كل فن إلى الخبيرين نستفتيهم ونحتكم إليهم، فكذلك في هذا الضرب، يجب أن نحتكم إلى من رقت أذنهم الموسيقية وأذواقهم الفنية، وليس في هذا ضير ما على ثروتنا القديمة في الشعر، فإنا باختراعنا بحورا وأوزانا نزيد في ثروتنا إلى ثروتهم، كما نزيد في موسيقانا إلى موسيقاهم، وفي علمنا إلى علمهم.
أما من حيث الموضوع ومعاني الشعر، فمجال القول فيه أوسع، وتقصير الشعراء فيه أبين، ولئن كانت كل أمة تعد الشعر ديوانا تسجل فيه نزعاتها وآمالها وحياتها، فإني أخشى أن يكون الشعر العربي سجلا ناقصا لم يدون فيه إلا وقائع قليلة من نزعات كثيرة، وصفحات ضئيلة من حياة حافلة مركبة معقدة؛ لقد دون الشعر كثيرا من وقائع المديح والرثاء والغزل والخمريات وما إليها، وهذا حسن، وهو ضرب من الشعر لا بد منه، ولكن ليس هذا كل مشاعرنا ولا أكثرها.
لقد مررت في هذا العام على تلاميذ مدارس ثانوية خارجين من لعب الكرة، فسمعت بعضهم يصيح: «يا محني ديل العصفورة، ومدرستنا هي المنصورة»، فجرت من عيني دمعة على ما نحن فيه من ضعة وانحطاط، وقلت أين الشعراء يضعون الأناشيد تجاري نفسية الطلبة، وترقي من مشاعرهم، وتزيد في روحهم حماسة وقوة، وتميز الطبقة المتعلمة من طبقة العامة وأمثالهم؟
وأتى كشافة العراق ينشدون الأناشيد المختلفة في المناسبات المختلفة، فلم يجد كشافة مصر ما يجيبونهم به ويساجلونهم فيه إلا هراء من الكلام وسخفا من الغناء، ثم أين الشعراء يضعون أغاني للشعب وأغاني للمتعلمين تناسب حياتهم وموقفهم الاجتماعي؟
نعم، تنبه بعض الشعراء لهذا، ووضعوا أغاني أرقى مما وضع من قبلهم، ولكن أكثرها بكاء وحنين وذوبان، وهي من الأدب الذي سميته أدبا مائعا، والذي لا يصح لأمة ناهضة أن تقتصر عليه، بل أين شعراء الشرق الذين تغنوا بما حوته طبيعة بلادهم من جمال وإبداع، فرقوا ذوق شعوبهم وأشعروهم بجمال الطبيعة، وغذوا عواطفهم، وعودوهم تقدير الجمال والهيام به؟!
لقد قصر شعراء العرب قديما وحديثا في هذا الباب، فلا نعثر منه في الأدب العربي إلا على قليل، وهذا القليل لا يكفينا الآن، ولا يسد رغباتنا؛ لأن شعر الطبيعة قد رقي عند الأمم، وأصبح مؤسسا على شيئيين لا بد منهما؛ وهما: علم بالطبيعة ومعرفة بقوانينها، وحب للطبيعة وهيام بها، ثم صياغة ذلك في قول ساحر جذاب، وهذا الضرب من الشعر قطع فيه المحدثون من الغربيين شوطا بعيدا، وسبقوا فيه من قبلهم بمراحل طويلة.
وبعد هذا كله، أين الشعر الاجتماعي العربي الذي يساير نزعات أمم الشرق ومطامعها وآمالها في الحياة؟ إن أمم الشرق تنزع إلى الحرية، وتأمل أن تتبوأ في العالم الإنساني المكان اللائق بها، وتنشد ضروبا من الإصلاح الاجتماعي ترى الحاجة ماسة إليه، وكلها مجال فسيح للشعر يلهب حماستها ويقوي إيمانها ويهديها سبل الحياة ؛ فأين الشعراء الذين وقفوا هذه المواقف، وقادوها قيادة صالحة؟
إن عواطف الأمم الشرقية ساغبة تنتظر من يغذيها ولا تجده.
الحق أن أدباء النثر قد أدوا رسالتهم خيرا مما أداها أدباء الشعر، وفي كل من الفريقين تقصير.
الفصل السادس
مدرسة القياس في اللغة
من طبيعة الأشياء أن يكون في كل جماعة بلغت شأوا ما من الرقي طائفة من المحافظين، وطائفة من الأحرار؛ فالمحافظون بطبيعتهم ميالون إلى السير على القديم، من غير تفكير في تغييره ولا الخروج عليه، ويدعوهم إلى ذلك: إما خمودهم الذهني، وفقدان النشاط العقلي الذي يبعث على التفكير ويدعو إلى التغيير، وإما حب السلامة وعدم تنغيص الحياة بما يستوجبه التجديد من الاضطراب والتعرض للنقد، وإما منفعتهم الشخصية من النظام القديم على وجه ما، وإما إخلاصهم للقديم وإجلالهم له؛ لما أسبغ عليه من تقديس.
والأحرار ميالون إلى التجديد، يدعوهم إلى ذلك نشاط ذهنهم، وما يرونه في القديم من عيوب تدعوهم إلى نقدها وتغييرها، ولهم من الشجاعة والغيرة ما يحملهم على مجابهة القديم والدعوة إلى الجديد.
هذا هو الشأن دائما في تاريخ الحياة الإنسانية؛ وقد كان هذا عند العرب كما كان عند غيرهم؛ فالدعوة إلى الإسلام نفسه دعوة إلى التجديد، وكان في الصحابة أنفسهم محافظون وأحرار، قد يمثلهم جميعا عمر بن الخطاب وابنه عبد الله.
وجد هؤلاء الأحرار والمحافظون في الفقه؛ فكان أهل الحديث الذين يقفون عند جمعه واستنباط الأحكام منه، وأهل الرأي أو أهل القياس، وهم الذين يقيسون ما لم يرد فيه نص على ما ورد فيه نص، وهذا هو الشأن في كل جماعة يشتغلون بكل علم: منهم من يقف عند ما قرره العلماء، ومنهم من يبتكر ويستنبط ويبين خطأ من قبله ويصححه.
وكذلك الشأن في اللغة حتى بين الأدباء؛ فمن الشعراء والأدباء من كان يلتزم ما ورد في اللغة ولا يخرج عنه بحال من الأحوال، ومنهم من كان يجيز لنفسه أن يجدد؛ فيحكون عن العجاج وابنه رؤبة أنهما كانا يصوغان ألفاظا لم يسبقا إليها، ويروى عن بشار أنه كان يقيس ما لم يرد على ما ورد؛ فرأى العرب تصوغ فعلى من الفعل للدلالة على السرعة، فقالوا: جمزى لسرعة السير، فقاس عليها وقال:
والآن أقصر عن سمية باطلي
وأشار بالوجلى على مشير
وقال:
على الغزلى مني السلام فربما
لهوت بها في ظل مخضلة زهر
وعابه المحافظون على ذلك، فقالوا: لم يسمع من العرب وجلى ولا غزلى. وأنشد الخليل رجل فقال:
ترافع العز بنا فارفنععا
قال الخليل: فقلت هذا لا يكون، فقال: كيف جاز للعجاج أن يقول:
تقاعس العز بنا فاقعنسسا
على كل حال، بدأ العلماء يجمعون اللغة من أفواه العرب سواء في ألفاظها وأساليبها، وقد بذلوا في ذلك جهدا مشكورا، وتحملوا في ذلك من العذاب ما لا يستطيعه إلا أولو العزم، وفضلوا أن يأخذوا عن العرب العرباء الذين لم تفسدهم الحضارة ولا الاختلاط، وعدوا أصح من تؤخذ عنهم اللغة؛ وهم: قيس، وتميم، وأسد، ثم هذيل، وبعض كنانة، وبعض الطائيين، ولم يأخذوا عن غيرهم من سائر قبائلهم، كما لم يأخذوا عن حضري، ولا عن سكان البراري ممن كان يسكن أطراف بلادهم المجاورة لسائر الأمم الذين حولهم.
ولكن يؤخذ عليهم أنهم ساروا في الجمع حيثما اتفق؛ فلم يفردوا كل قبيلة بما أخذ عنها، ولو فعلوا ذلك لأفادونا فائدة كبرى، وفي رأيي أن كثيرا من الاضطراب في اللغة - كالذي نراه في أوزان جموع التكسير المختلفة، وجمع الكلمة على أشكال عدة؛ مثل جموع ناقة وعبد - سببه اختلاف لغات القبائل، وأن كل لغة كان لها موازينها القياسية المطردة غالبا، وكذلك اختلاف أوزان الأفعال الثلاثية كثير منها كان سببه هذا، وكذلك تعدد المصادر للفعل الواحد؛ ففعل لقي - مثلا - له أكثر من عشرة مصادر، وما أظن أن قوما عقلاء يجعلون للغتهم مصادر أكثر من عشرة لكلمة واحدة، وهذا ما جعل اللغة العربية تنوء بالمترادفات، فلو أن جامعي اللغة جمعوها على نمط منظم لأفردوا كل لغة بمجموعة، وكان هذا يفيدنا كثيرا في تنظيم لغتنا، وحذف ما يحذف، وإثبات ما يثبت.
كما يؤخذ عليهم أنهم لم يفرقوا في جمعهم بين اختلاف الكلمات الواحدة من حيث مادتها وبين الكلمات المختلفة بحسب اللهجات؛ فقد تكون الكلمة واحدة في الأصل، ولكن اختلفت لهجات القبائل في وضع حرف مكان حرف، أو تقديم حرف وتأخيره؛ مثل أن تقول قبيلة: نكف عن الشيء، وقبيلة: كنف؛ ومثل: عاث يعيث، وعثا يعثو، والشيء الشائع، والشيء الشاعي، وبضا بالمكان وباض؛ أي: أقام؛ ومثل: كدر وكدل وكدن، إلى كثير من أمثال ذلك.
والمعاجم مملوءة بها وبتعدادها، مع أن الواضح فيها أن أصل المادة شيء واحد، واختلفت فيها اللهجات، فلما جاء أصحاب المعاجم جمعوا هذا حيثما اتفق أيضا، وكان الواجب أن يكون بعد هذا الجمع الترتيب والتبويب والغربلة والدراسة، كما هو الشأن في كل علم تجمع مادته الخاصة حيثما اتفق، ثم تفحص وترتب حسبما يدل عليه العلم؛ فمثلا: جمع المشتغلون بالحيوان أصناف حيوانات البحر وسموها سمكا؛ اعتمادا على سكنى الماء وتماثل الصورة، وجعلوا صنفا يسمى الرهيل من السمك لهذه الشواهد الظاهرية، فلما عني علماء الحيوان بالبحث وجدوه من ذوات الثدي، فألحقوه بالخيل والبقر، وأخرجوه من دائرة الأسماك.
وعد الأقدمون الأجرام السماوية من ذوات النفوس، لما شاهدوا في حياتهم الأرضية من أن المتحرك من غير محرك محسوس لا يكون إلا ذا نفس وإرادة، فجعلوا للنجوم نفوسا وإرادات، وعدوها أرقى من الإنسان؛ لأنها في السماء وهم في الأرض، فلما اكتشف قانون الجذب، وتقدم العلم، تبين أنها ليست بذات أنفس وإرادات، وإنما هي مادة جامدة كالأرض، إلى كثير من هذه الأمثلة.
وقد قصر أصحاب المعاجم في بحثهم المستقصي عن النمط العلمي.
وكان هذا الجمع هو المادة الخامة للغويين والنحويين؛ فأما النحويون والصرفيون فقد برعوا في القياس إلى أقصى حد، فكل علمهم قياسي؛ نظروا إلى الأعم الأغلب فجعلوه قاعدة، وجعلوا ما جاء على خلافها شاذا لا يصح لنا الإتيان بمثله؛ فالعرب لم تلتزم - مثلا - نصب اسم إن، ولا رفع خبرها، ولا عطف المرفوع على المرفوع، والمنصوب على المنصوب، وهكذا، بل ورد في القرآن رفع اسم إن في قوله تعالى:
إن هذان لساحران ، وجاء فيه :
والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة ، وقوله:
إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى ، فقعدوا قواعدهم على الكثير الغالب.
وكذلك الصرفيون في قواعد الإعلال والإبدال، واشتقاق صيغ اسم الفاعل والمفعول والزمان والمكان ... إلخ، فضبطوا بذلك اللغة في اختصاصهم، وكل هذا عن طريق القياس.
أما اللغويون، فسادت عليهم المحافظة، وقلت فيهم الحرية، وليس الاختلاف في أن اللغة توقيفية أو غير توقيفية إلا مظهرا من مظاهر المحافظة والحرية؛ فمن قال بأنها توقيفية، أو بعبارة أخرى: من وضع الله، أسبغ عليها حلة من التقديس، والتزمها من غير تصرف فيها، ومن قال إنها غير توقيفية، أو بعبارة أخرى: من وضع البشر، كان أكثر حرية في التصرف فيها.
على كل حال، نرى كثيرا من اللغويين وقفوا عند ما ورد، وكانوا محافظين، ومن هؤلاء جامعو اللغة؛ كالأصمعي، وابن الأعرابي، وأبي زيد، فلم يكونوا يستبيحون لأنفسهم أن يقولوا كلمة، أو يشتقوا اشتقاقا، إلا عن سماع، ومن هؤلاء أيضا أصحاب المعاجم؛ كالجوهري، والفيروزابادي، وابن منظور، فلم يقيسوا على ما رووا، وإن اختلف بعضهم عن بعض في زيادة الكمية المروية أو نقصها، وكثرة الاستشهاد وقلته، وذكر أسماء البلاد والأعلام أو عدمه ، ونحو ذلك.
وبجانب ذلك قلة من القياسيين، أو بعبارة أخرى: مدرسة القياس، وربما كان من أعلام هذه المدرسة أبو علي الفارسي، وتلميذه ابن جني؛ فأما أبو علي الفارسي، ففارسي الأب عربي الأم، مات ببغداد سنة 377 في أيام الطائع لله عن نيف وتسعين سنة، طوف كثيرا في بلاد الشام، وأقام بحلب مدة، وخدم سيف الدولة بن حمدان، ثم رجع إلى بغداد وخدم عضد الدولة، وبقي بها إلى أن مات.
وقد كان معاصرا لأبي سعيد السيرافي، وكان أبو سعيد هذا أكثر من الفارسي رواية، وكان الفارسي أكثر منه قياسا، حتى لقد قال أبو علي الفارسي: «لأن أخطئ في خمسين مسألة مما بابه الرواية أحب إلي من أن أخطئ في مسألة واحدة قياسية»، وقد قال فيه بعض تلاميذه: «أحسب أن أبا علي قد خطر له وانتزع من علل هذا العلم ثلث ما وقع لجميع أصحابنا»، وما العلل إلا مقدمة القياس.
وكان يقول: ما قيس على كلام العرب فهو من كلام العرب، فإذا عربت لفظة أعجمية أجريت عليها أحكام الإعراب وعددتها من كلام العرب، وأجيز الاشتقاق منها، كما عرب العرب لفظة الدرهم، واشتقوا منه درهمت الخبازي؛ أي: صارت كالدراهم؛ وقالوا: رجل مدرهم؛ أي: كثرت دراهمه.
وكان يقول: لو شاء شاعر أو ساجع أو متسع أن يبني بإلحاق لام الكلمة اسما أو فعلا أو صفة لجاز له، ولكان ذلك من كلام العرب؛ وذلك نحو قولك: خرجج أكرم من دخلل، وضربب زيد عمرا، ومررت برجل ضربب وكرمم، ونحو ذلك، فقال له تلميذه ابن جني: أفترتجل اللغة ارتجالا؟ قال: ليس بارتجال، لكنه مقيس على كلامهم، فهو إذن من كلامهم، ثم قال: ألا ترى أنك تقول: طاب الخشكنان، فتجعله من كلام العرب، وإن لم تكن العرب تكلمت به هكذا.
قال: فرفعك إياه كرفعها ما صار لذلك محمولا على كلامها ومنسوبا إلى لغتها.
وكان جريئا إلى حد لم نصل إليه إلى اليوم، فكان من رأيه أن الألف اللينة في الكلمة الثلاثية تكتب ألفا مطلقا؛ سواء أكان أصلها واوا أم ياء، وقد علل ذلك بحمل الحظ على اللفظ.
وأما ابن جني، فهو من أب رومي، وكان من أمهر العلماء في التصريف، مات في سنة 392 في خلافة القادر، اجتمع بالمتنبي في بلاط سيف الدولة، وكان المتنبي يقول فيه: «هذا رجل لا يعرف قدره كثير من الناس»، وكتابه الخصائص نحا فيه منحى جديدا طريفا يدل على تذوقه للغة، وتعمقه في فهم أسرارها ومحاولة فلسفتها.
وقد صحب أبا علي الفارسي أستاذه أربعين سنة، واستوعب علمه، وزاده تفصيلا وتعليلا وتدليلا، وقد رأى الفقهاء وضعوا للفقه أصولا، والمتكلمين وضعوا للعقائد أصولا، فأراد أن يضع للغة والنحو كذلك أصولا، فكان بذلك واضع علم جديد يقول فيه: «إنه من أشرف ما صنف فيه من علم العرب، وأذهبه في طريق القياس والنظر، وأجمعه للأدلة على ما أودعته هذه اللغة الشريفة من خصائص الحكمة، ونيطت به من علائق الإتقان والصنعة»، ووصف ما كان يعاني في ذلك الباب من إمعان النظر، وطول التفكير، ومقارنة الأشياء بالأشياء، وموازنة النظائر بالنظائر، فكان له من ذلك كله اكتشاف كثير من حقائق اللغة، وسر الوضع، ورسم مناهج القياس.
وكذلك له فضل كبير فيما سمي الاشتقاق الكبير، وهو الذي سماه بهذا الاسم، وقد تنبه إليه أستاذه أبو علي الفارسي؛ قال ابن جني: «إن أبا علي (رحمه الله) كان يستعين به ويخلد إليه، لكنه مع ذلك لم يسمه، وإنما كان يعتاده عند الضرورة ويستروح إليه»، فجاء ابن جني فوسعه ونماه وسماه، وسمي الاشتقاق المعروف في أيدي الناس بالاشتقاق الصغير؛ كأن نشتق من كتب: يكتب وأكتب وكاتب ومكتوب ومكتب وكتاب ... إلخ.
أما الاشتقاق الكبير، فيعنون به حصر أصول الكلمة وتقليبها على وجوهها المختلفة، وأن نستخرج منها التباديل والتوافيق ونقرن بينها؛ كأن نأخذ كلمة كلم ونحولها إلى: ك م ل، م ك ل، م ل ك، ل ك م، ل م ك، وتمعن النظر فيها لتنظر هل هذه الحروف إذا جمعت كلها على نحو ما، دلت على شيء واحد يتنوع بتنوع تركيب هذه الحروف، فتستخرج - مثلا - أن هذه الحروف الثلاثة إذا اجتمعت دلت على القوة، وتستخرج معنى القوة من كل ما دلت عليه في أشكالها المختلفة، وهذا باب عظيم من أبواب أصول اللغة تفوق فيه ابن جني.
ومما يؤسف له أن مدرسة القياس هذه لم تستمر في سيرها حتى تؤتي ثمارها؛ فإن النكبة التي أصيب بها المعتزلة نكبة أصيب بها العلم العربي كله؛ فقد كانت الحرب بين المعتزلة والمحدثين حربا أيضا بين منهجين للعلم: منهج تحكيم العقل مع المحافظة على أصل الدين - وهو الذي دعا إليه المعتزلة - وهو منهج البحث والتجربة والاستدلال العقلي والشك والقياس، وما إلى ذلك، كما يظهر في منهج النظام والجاحظ وأشباههما، ومنهج الذين يقتصرون على الرواية والجمع والتخريج والتعديل، وما إلى ذلك، وهو منهج المحدثين؛ فلما نصر المتوكل المحدثين ونكل بالمعتزلة سادت طريقة المحدثين المؤسسة على الرواية، وانكمشت طريقة المعتزلة المؤسسة على العقل والقياس ، وأثر ذلك في وقوف جميع العلوم ومنها اللغة.
وقد كان للمعتزلة أثر كبير في القياس في اللغة، يظهر في قولهم بأن اللغة اصطلاحية من وضع البشر، لا توقيفية، كما يظهر في تحرر الجاحظ وأمثاله من المعتزلة في تشقيقهم الكلام، واستعمالهم للمولد من الألفاظ، بل والأعجمي، وكما يظهر أيضا في أن زعيمي مدرسة القياس؛ وهما أبو علي الفارسي وابن جني، كانا من المعتزلة، وكما يظهر في البحوث اللغوية الطريفة التي حققها الزمخشري في كتبه، وتفريقه بين دلالة الألفاظ عن طريق الحقيقة، ودلالتها عن طريق المجاز، وهو معتزلي أيضا، فلما ذهبت دولتهم غلبت دولة المحافظين في اللغة كما هو الشأن في كل علم، فإن قلت إن العلم العربي وقف عند نكبة المعتزلة أو بعدهم بقليل - لأن أثرهم لم يمح مرة واحدة، بل ظل قرنا أو أكثر يعمل بحكم دفعتهم القوية - وقلت إن العلم أصبح في الأعم الأغلب جمعا ورواية وتأليفا لمفترق وتفريقا لمجتمع من غير نظر عقلي قوي أو ابتكار، لم تكن بعيدا عن الصواب. •••
ونحن إذا أيدنا القول بالقياس في اللغة ودعونا إليه، فما الذي نريده؟ وما الذي نستفيد منه في مثل موقفنا؟
يمكننا أن نستفيد من القول بالقياس في اللغة فوائد كثيرة، من أهمها في نظرنا: (1)
أننا نجد كتب اللغة كثيرا ما تذكر المصادر ولا تذكر أفعالها أو العكس، أو يذكر الفعل ولا يذكر من أي باب هو، فالقول بالقياس يمكننا من تكميل هذا النقص بحمل المجهول على المعلوم، فمتى رأيناهم يكثرون من المصادر على وزن خاص إذا كان الفعل على وزن خاص في الأعم الأغلب، أمكننا أن نقيس ما لم يذكروا على ما ذكروا، وأن نعده من كلام العرب، وهكذا، وهذا الباب يكمل نقصا كبيرا في المعاجم. (2)
أننا إذا وجدناهم يشتقون وزنا خاصا، ويستعملونه للدلالة على شيء خاص، أمكننا أن نقيس عليه ما لم يذكروا؛ فإذا وجدناهم - مثلا - يصوغون «فعال» للدلالة على محترف الحرفة أو المهنة؛ كنجار وحداد وقفال، أمكننا أن نقيس عليه من أسماء أصحاب المهن والحرف ما لم يذكروه. (3)
الاعتراف بالمولد والدخيل، وعده عربيا، وإدخاله في معاجمنا ما دام يجري على الصيغ العربية، ويسير على نمط العرب في وضعهم أو اشتقاقهم؛ مثل: كلمة الوزائع، وقد استعملها ابن خلدون بمعنى الضرائب التي يوزعها الحاكم على الرعية؛ ومثل: تندر، إذا جاء بالنادرة، وتنادر عليه، إذا جعله موضع نادرته؛ وقد استعملها صاحب الأغاني؛ ومثل: المقيدة، وهي الدفتر الذي يكتب فيه الرجل ما يمر به تذكرة لنفسه؛ ومثل: تفرج، بمعنى اطلع على الشيء ليتسلى به، ومثل مئات الكلمات التي استعملت في العصور المختلفة للدلالة على معان جديدة من مثل ما أثبته دوزي في معجمه؛ فما بالنا لا نثبته في معاجمنا قياسا على ما فعل العرب؟ (4)
أننا نجد العرب أحيانا يلحظون في الشيء معنى من المعاني، فيسمونه باسم مشتق من الكلمة التي تدل عليه؛ فقد سموا القارورة؛ لأنهم لحظوا أن الشيء يقر فيها، وسموا الدار دارا؛ لأنه يكثر فيها الدوران، فلماذا لا نستعمل هذا الباب فيما يقابلنا من كثير من ألفاظ الحضارة والمصطلحات العلمية الكثيرة التي نقف أمامها حائرين ولا نشتق من الكلمات العربية كلمات تدل عليها، ملاحظين ما نلمحه من معنى فيها؟ (5)
وهناك باب أخطر من ذلك وأجرأ، وهو التفهم في عمق وأناة، كيف وضع العرب لغتهم؟ فنرى - مثلا - أن العرب كان لها ذوق مرهف في وضع الكلمات استنفادا على محاكاة الأصوات؛ تارة بتقليد الأصوات، كما سموا صوت الماء خريرا، وصوت الحجر صكا، وصوت الريح هبوبا، والضفدع نقيقا، واللبن درا، والمريض أنينا ... إلخ؛ محاكاة للأصوات التي يسمعونها أو يتخيلونها من صوت هذه الأشياء، ثم صاغوا من هذه الأسماء أفعالا، ثم توسعوا في الاشتقاق منها للدلالة على ما يشبهها وما يقرب منها.
فاللغة عند حدوثها الأول كانت أصواتا يحدثها المتكلم حاكيا للأصوات المسموعة، ثم صارت تلك الأصوات المحكية علامة لما يسمع بالأذن، أو يبصر بالعين، أو يلمس باليد، أو يشم بالأنف، أو يعقل بالعقل، شأنها في ذلك شأن الخط؛ كانت عند حدوثه تصويرا للمجسمات؛ فالباء للبيتن والعين للعين، ثم صارت علامة للأصوات المسموعة، ولكن عادة يكون صوت الحاكي أقصر من المحكي، فيكتفي في الحكاية بالرمز، أما النحت والتصوير فتكون الحكاية كاملة.
والأمر في دلالة الكلمات على الأصوات أدق مما يتصور، وكثيرا ما تعتمد الكلمة في حكاية الصوت على حرف يدل عليه، وتكمل بقية الحروف لخدمته؛ فحرف السين أساسي في كلمة التنفس والحس واللمس؛ لأنه يتخيل في مدلولها صوت السين عند الاحتكاك، وحرف الراء هو الأساس في البحر والنشر والفجر والنحر والبذر والغر؛ لأنه يتخيل في هذه الأشياء كلها صوت الراء، وحرف النون هو الأساس في الظن والرن والفن، وحرف القاف في الدق والشق والطرق، وهكذا.
وعند تحري هذا الباب نراهم يحاكون - أولا - صوت المسموع بالأذن، ثم ينقلونه إلى المبصر بالعين، ثم ينقلونه إلى المحسوس بباقي الحواس الخارجية، ثم إلى المعقول بالعقل؛ فمثلا: لو نظرنا إلى كلمة: حس، وتتبعناها، وجدنا أن المصدر الأصلي لحس كان صوتا سينيا تخيلوا أنه يسمع عند الحس؛ أي: عند المس باليد، ثم انتقلوا من الإحساس باليد إلى الإحساس بغيرها، فسموا كل ما يشعر به محسوسا، وسموا الآلات التي يحس بها حواس، ثم أطلقوها على العلم الحادث من الحواس ، وعلى اليقين الحاصل من العلم بها، واشتقوا أحس بالشيء؛ أي: أيقنت به، ولو تتبعت المادة لوجدتها كلها من هذا القبيل متدرجة على نحو ظريف.
ثم نوعوا هذا الصوت السيني فجعلوه مرة حسا ومرة لمسا ومرة مسا ... ولو تقصينا هذا الباب على هذا النمط لأفادنا فائدة كبرى، ولدلنا على أن مصادر اللغة التي تحاكي الأصوات في منبعها الأول كانت مصادر محصورة تعد بالعشرات، فإن توسعنا قليلا قلنا بالمئات، ثم تضخمت هذه المصادر بالاشتقاق الصغير والاشتقاق الكبير على مدى الأزمان، وعلى حسب ما يجد من المعاني وما يقرب من المصادر الأصلية، وهو باب يفيدنا عندما يفسر أصحاب المعاجم أو المفسرون للقرآن والحديث والنصوص الأدبية اللفظ بتفسيرات مختلفة، فنستطيع به أن نرجح قولا على قول، ورأيا على رأي، كما نستفيد منه استكشاف بعض الأغلاط التي وردت في معاجم اللغة ومنشؤها خطأ في النقل ، أو تصحيف في الكتابة، أو نقل عن ألثغ، أو نحو ذلك، وهذا باب عظيم يحتاج الكلام فيه إلى أكثر من محاضرة، وإذا كان ابن جني قد سمى هذا ما اكتشفه الاشتقاق الكبير فيصح أن نسمي هذا الضرب الاشتقاق الأكبر.
وتارة كانوا يلحظون ما بين الحرف والمعنى من مناسبة؛ فيلحظون في الحاء إذا أتت في آخر الكلمة دلالة على الاتساع والانتشار؛ مثل: ساح وباح وصاح وشرح ومرح، والكلمة المبدوءة بالشين على التشتت والتفرق؛ مثل: شتت وشطر وشعث وشع ... إلخ، والكلمات المبدوءة بالغين على الغموض؛ مثل: غمض وغابت الشمس وغبش الليل وغار الماء وغطى الشيء ... إلخ، وقد فطن بعض كبار اللغويين إلى هذا الأمر، ونبهوا عليه كما يفعل الزمخشري كثيرا في تفسيره.
وهذا الأمر، وإن لم يصرح العرب به، فقد كان مركوزا في طبيعتهم، مقدسا في أذواقهم، يعتمدون عليه في وضع الكلمات والاشتقاق منها، فمن بلغ من قوة الحس مبلغهم، ومن دقة الملاحظة دقتهم، كان له بمقتضى القياس مثل ما لهم.
ولكن من الذي يجوز له هذا؟ إننا إذا قلنا بجوازه لكل فرد كان الأمر فوضى، وتعرضت اللغة للاضطراب، ولكنا نقول كما قال الفقهاء، ونحذو حذوهم؛ ففي عصورهم الزاهية كان الاجتهاد، وكان البحث في المجتهد والقول في شروطه، وحصروا قياس الأحكام وتقويم العدالة وصحة الحكم في يد المجتهدين، وشرطوا للمجتهد شروطا تتلخص في أن يكون محيطا بمدارك الشرع، متمكنا من وسائل النظر فيها والاستنباط منها، وعلى الجملة، يكون - فضلا عن مواهبه الذهنية - مثقفا ثقافة شرعية وما يلزمها من ثقافة لغوية ونحوية ... إلخ.
وعلى هذا القياس يجب أن نقول في المجتهد اللغوي، فلا بد أن يكون مثقفا ثقافة لغوية وأدبية واسعة، متمكنا من النحو والصرف؛ لأنهما وسائل من وسائل إتقان اللغة، وفوق ذلك أن يكون له ذوق قد أرهف بكثرة القراءة اللغوية والأدبية، ومعرفة بسر الوضع على النحو الذي أبنا؛ حتى يستطيع أن يدرك بحسه الذي كونته الثقافة وعلمه العميق، الجيد من الرديء، وما يصح وما لا يصح، ونحو ذلك، كما يستطيع بهذه المؤهلات كلها أن يتخير اللفظ المناسب للمعنى المناسب؛ إما بوضع جديد، أو اشتقاق من لفظ قديم، فإذا بلغ هذا المبلغ كان له الاجتهاد اللغوي، كما كان لنظيره الاجتهاد الفقهي.
وكما أن للهيئات القضائية مركزا هاما يستند إليه فيما يصدر عنه من أحكام، ويستأنس بما وصل إليه في القضايا المعروضة من اجتهاد، فكذلك يجب أن يكون الشأن في اللغة - في الاجتهاد، وشروط المجتهد، والجمعيات اللغوية التي تتمثل في المجامع وأشباهها - لا يمكن أن تحيا أمة حياة صحيحة إلا بالاجتهاد؛ الاجتهاد في التشريع، والاجتهاد في كل علم من العلوم، والاجتهاد في اللغة؛ ودعامة الاجتهاد التي يرتكز عليها هي القياس.
الفصل السابع
الأدب فن جميل
لعله من الخطأ المزمن دراستنا للأدب على أنه فن مستقل، فإن ربطناه بغيره فإنما نربطه بقواعد النحو والصرف واللغة، على أنها وسائل لا بد منها للأدب والأديب، مع أن هناك رابطة أوثق، واتصالا أحكم ما يزال أكثرنا غافلا عنه للآن، وهذه الرابطة إن درست دراسة دقيقة واسعة غيرت نظرنا للأدب وتقويمه، وأفادتنا أكبر فائدة في النقد الأدبي؛ وأعني بهذا أن تدرس الأدب على أنه فن من الفنون الجميلة ؛ كالنقش والتصوير والموسيقى، يخضع للقوانين العامة التي استكشفها علم الجمال، ويشترك فيها مع كل هذه الفنون، كما يخضع النبات والحيوان والإنسان للقوانين العامة لعلم الحياة، وكما تخضع كل المواد على اختلاف أنواعها لقوانين علمي الطبيعة والكيمياء.
فهناك فرع من فروع الفلسفة هو «علم الجمال» أخذ يتساءل: ما هو الجميل، وما الشروط التي تتوافر في الشيء حتى يعد جميلا؟ وأجاب عن ذلك إجابات عديدة، ووضع القواعد المختلفة التي تنطبق على كل جميل، وهذه الأسئلة والإجابات والقواعد يمكن تطبيقها على الأدب كل الانطباق؛ لأن الأدب ليس له قيمة إلا في جماله؛ جمال لفظه، وجمال معانيه، وجمال عواطفه، وجمال خياله، فإن هو عرى عن هذا الجمال لم يعد أدبا.
ومن أجل ذلك كان الأدب يخاطب العاطفة لا العقل وحده، كما هو الشأن في الموسيقى والتصوير والنقش، إنما الذي يخاطب العقل وحده هو العلم لا الفن؛ فالقصيدة من الشعر، والوردة في غصنهان والقمر في سمائه، والجبل المعمم بالثلج، والتمثال المحكم الأنيق، والبناء الشامخ المشيد، والقطعة الموسيقية الجيدة التوقيع، ووجه المرأة الحسناء، والرواية الحسنة، والقصة الحلوة؛ كلها نسميه جميلا، وكلها يخضع لقوانين الجمال، فإن اختلفت في شيء فاختلاف في التفاصيل لا في الأسس.
فإن نحن نظرنا إلى الأدب على أنه أحد الفنون الجميلة كان هذا المنظر خليقا أن يصحح نظرنا؛ لأن ما نضعه من قواعد الأدب الأساسية يمكن امتحانه بتطبيقه على الموسيقى والنقش والتصوير؛ حتى نتبين صحته من فساده، أما إن استمر الأدباء في نظرتهم إلى الأدب مستقلا، وقعوا في خطأ قصور النظر، وكان مثلهم مثل من بنى قواعد كلية بعد مشاهدته جزئيا واحدا، أو بعد أن استقرأ استقراء ناقصا.
وشيء آخر، وهو أن نظرنا إلى الأدب في ضوء الفنون الجميلة الأخرى يوسع نظرنا إلى مناح نعجز عن إدراكها إذا نظرنا إلى الأدب وحده؛ فقوانين الجمال واحدة مهما اختلفت مادتها الأولية، فقد تكون المادة حجرا فتكون تمثالا، أو لونا فيكون تصويرا، أو صوتا فيكون موسيقى، أو يكون شعرا أو نثرا، وقد ندرك الجمال بأعيننا، وقد ندركه بآذاننا، ولكن مع كل هذه الاختلافات هناك صلة مشتركة صار بها الجميل جميلا، وإذا عدمت عدم الجمال، وهذه الصلة تكون في الأدب فيكون أدبا جميلا، وفي الموسيقي فتكون جميلة، وفي الصور فتكون جميلة، وعلى مقدار تحقق هذه الصلة يكون مقدار الجمال؛ سواء كانت هذه الصلة في الشيء الخارجي وحده - كما يقول بعضهم - أو في الشخص الرائي والسامع وفي المرئي والمسموع معا - كما يقول آخرون، ولكنها على كل حال قدر مشترك بين جميع فروع الفن.
ونظرة واحدة ترينا الارتباط المتين بين فروع الفن المختلفة؛ فالشعر - مثلا - ليس إلا تصويرا ناطقا، والتصوير ليس إلا شعرا صامتا، والشعر والموسيقى أشد ارتباطا؛ فأوزان الشعر أوزان موسيقية تختلف في الحركات والسكنات والطول والقصر كما هو الشأن في الموسيقى، ونلاحظ في الموسيقى أن النغمة الواحدة إذا وقعت على «الكمنجة» ثم وقعت بعد على «البيانو» كانت النغمتان مختلفتين كيفية ومختلفتين تأثيرا، ولكل منهما طعم غير طعم الأخرى، وهذا يقابله في الشعر القافية؛ فالقصيدة على قافية قد يكون لها أثر غير القصيدة إذا قيلت على قافية أخرى، وهكذا.
بل هناك دليل أقوى من هذا، وهو أن مرجع كل الفنون من أدب وتصوير وموسيقى إلى «الذوق»، وهذا الذوق خاضع لقوانين النشوء والارتقاء والرقي والانحطاط في الفنون كلها؛ فالطفل قبل أن يشعر بلذة من جمال شكل أو جمال حركة تأخذ ببصره الألوان الزاهية والصور البديعة، ومن أخذ بحظ قليل من المدنية يميل إلى الألوان القوية؛ كالأحمر القاني والأصفر الفاقع، ويعجبه من الثياب الألوان الكثيرة الصارخة.
أما المتمدنون فتعجبهم الألوان الخفيفة المتناسقة، الخافتة الهادئة، وكذلك الشأن في الأدب؛ فالقطعة الأدبية التي تعجب الشعب المنحط لا تعجب الأديب الراقي، من ناحية الألفاظ ومن ناحية المعاني، وهذا - من غير شك - يرجع إلى اختلاف الذوق وتدرجه في الرقي، بل الأديب نفسه إذا رقي استحسن ما لم يكن يستحسن، واستهجن ما لم يكن يستهجن؛ تبعا لرقي ذوقه، وإذا كان الذوق يرقى وينحط فهو خاضع لنظام وقوانين، يمكن دراستها وإن لم تستكشف جميعها الآن، وهذه القوانين يمكن تطبيقها على الأدب كما يمكن تطبيقها على الموسيقى والتصوير وكل فن جميل.
بل كل الفنون مرجعها عند الفنان والسامع والرائي إلى الشعور بالجمال، والفنان يشعر بالجمال، ثم يتحول الشعور عنده إلى إنتاج، وما ينتجه يثير في نفس السامعين والناظرين شعورا بالجمال؛ فالمنظر الجميل يثير عند الفنان شعورا بالجمال فيحوله الشاعر شعرا، والمصور صورة، والموسيقي موسيقى، وهي كلها تثير الشعور بالجمال عند من رآها أو سمعها، ولا فرق بين الفنان وغيره إلا أن الفنان قابل فاعل معا، وغيره قابل فقط.
فجميع الفنون تتفق في الأصل، ولا تختلف إلا في الشكل، وكل الفروق بينها أن هذا يصوغ فنه من كلمات، وهذا من نغمات، وذاك من ألوان؛ لأن هذا يعتمد على قلمه، والآخر يعتمد على عوده أو قانونه، والثالث يعتمد على ريشته، إلى آخر ما هنالك من فروق لا تمس الأصل . •••
إن كان ذلك كذلك كان من الخطأ البين أن ندرس الأدب والبلاغة والنقد الأدبي دراسة مستقلة عن دراسة قواعد الجمال في الفنون الجميلة عامة، بل يجب أن ندرسها في ضوء جميعها، ويقيني أن الدراسة على هذا النحو الذي أقترحه تعدل نظرنا في الأدب وقواعده، وتكشف لنا عما وقعنا فيه من ضروب النقص؛ فنظرنا إلى المجاز والاستعارة والكناية يتغير إذا نظرنا إليها في ضوء التصوير الرمزي، والموسيقى؛ من محسنات وبحور الشعر، تصحح بدراسة حركات الموسيقى، وهكذا.
ولأضرب لذلك مثلا يوضح ما أريد: خذ - مثلا - المبالغة، فإننا ندرسها في الأدب مستقلة، ويعرضون لها في البلاغة بنظرات ضيقة، فإن هم ألقوا نظرة على الفنون الجميلة جميعها رأوا أن المبالغة لا بد منها في الفنون بقدر ما توضح الحقائق، وأن الفنان إن اقتصر على تقليد الطبيعة لم يكن لفنه قيمة، فهو يبالغ في الطبيعة لتوضيحها؛ فالمصور يبالغ في بعض أجزاء الصورة لمعنى يوضحه، والشاعر يكبر حجم الرجل ليشعر بعظمته، وواضع القصة أو الرواية يبالغ في نواحي أشخاص الرواية حتى تدل بوضوح على المعاني التي يريدها، والخطيب يبالغ في المعنى الذي يريده حتى يثير إلى أقصى حد عواطف من يخطبهم، وهكذا؛ فلو نظرنا إلى المبالغة في ضوء الشعر والرواية والخطابة والتصوير والموسيقى أمكننا أن نستخلص من ذلك كله قواعد تفوق بمراحل ما استنبطناه من قواعد المبالغة حين عرضنا للأدب وحده.
كذلك نراهم - مثلا - يعرضون عند الكلام في النقد الأدبي لعلاقة الأدب بالأخلاق، وهل يجب أن يخضع الأدب للأخلاق أو أن الأدب للأدب، وأن القطعة الأدبية قد تكون بالغة أقصى السمو ولو لم تتفق والأخلاق؟ ومن رأيي أن هذه المسألة إذا لم تدرس في حدود الأدب وحده بل درست في دائرة الفن جميعه؛ من موسيقى وتصوير ونحت وتماثيل، اتضح وجه الحق فيها أكثر من وضوحه عند قصر نظرنا على الأدب وحده.
لقد تعددت دراسات الأدب، وسلك الباحثون فيه سبلا كثيرة؛ فقوم درسوا الأدب دراسة تاريخية، فدرسوه على أنه ظل للحياة الاجتماعية، وقالوا لا يمكن أن نفهم الأدب حق الفهم إلا إذا درسنا البيئة التي أنتجته، فلسنا نستطيع أن نفهم المتنبي - مثلا - إلا إذا فهمنا الأوساط التي قيلت فيها قصائده؛ ففهمنا حال مصر إذ ذاك، وما قال فيها وفي ملوكها، وفهمنا حال العراق، وما قال فيها من قصائد، وهكذا.
ودرس آخرون الأدب من ناحية حياة الأديب، ولاحظوا في ذلك أن نفس الأديب هي المنبع الذي صدرت عنه القطعة الفنية، فيجب أن تدرس هذه النفس ليفهم ما يصدر عنها؛ فالكتاب الذي ألف، والقصيدة التي نظمت، لا يمكن فهمها حق الفهم إلا إذا فهمت نفسية القائل.
واتجه آخرون اتجاها غير هذا وذاك، فقالوا يجب أن ندرس الأدب من حيث هو، لا من البيئة ولا من حياة الأديب، وأن نقوم الآثار الأدبية بقطع النظر عن بيئتها وقائلها، وأن نجيب عن الأسئلة الآتية: ما منزلة القطعة الفنية؟ وما موضع الحسن فيها؟ وما الذي جعلها أثرا فنيا على مر الزمان؟
والذي أدعو إليه في مقالي الآن شيء غير هذا كله، وهو أن ندرس الأدب من حيث هو فن جميل، ومن حيث هو خاضع لقوانين علم الجمال، ومن حيث الارتباط الشديد بينه وبين سائر الفنون الجميلة.
وهذا يتطلب أن عالم الأدب ينبغي - أولا - أن يدرس علم الجمال، وما وضع له من قواعد، وما أثيرت حوله من مسائل، وإذا كان علم الجمال فرعا من فروع الفلسفة فيجب أن يدرس ما يتصل به من فروع الفلسفة؛ وخاصة علم النفس، وهو إذا درس القواعد العامة لعلم الجمال استطاع بعد أن يدرس القواعد الخاصة التي يمتاز بها كل فن جميل؛ فالموسيقى تمتاز بأشياء لأن عمادها الصوت، والتصوير يمتاز بأشياء لأن عماده اللون، والأدب يمتاز بأشياء لأن عماده اللفظ والمعاني، ولكن هذه الأشياء التفصيلية لا تفهم حق الفهم إلا في ضوء النظريات العامة التي تشترك فيها كل الفنون الجميلة؛ ذلك أن الفنون الجميلة جميعها ترتبط بالعاطفة، وتعتمد عليها، وتوضع من أجلها، وتقوم بها، فما لم تدرس العاطفة وحاجتها إلى الجمال وغذاؤها بالجمال لا يمكن أن يفهم أي فن ومنه الأدب.
بهذه الطريقة وحدها يمكننا أن نفهم الأدب ونقدره تقديرا صحيحا، وبذلك نستطيع أن نضبط النقد الأدبي، ونعالج ما هو فيه من فوضى لا تستند إلى أساس، ويذهب كل ناقد مذهبه، ويركب رأسه من غير أن يتحدد بحدود تقيده وأسس يلتزمها ويسير عليها.
وأنا على يقين أنا إذا سرنا على هذا النمط تغيرت وجوه دراستنا التقليدية التي سرنا عليها إلى الآن في البيان والبديع والنقد الأدبي، وتجلت لنا أمور في منتهى الخطورة، ورأينا أنفسنا نمسك بالقلم نحذف كثيرا من أمور السخف أوقعتنا فيها النظرة الجزئية للأدب، ورأينا أنفسنا نؤسس علما جديدا ومذهبا جديدا ونظريات جديدة.
الفصل الثامن
أغنية
تعجبني أحيانا بعض الأغاني الشعبية؛ إذ أراها تمثل روح الشعب وآماله وآلامه، وأراها أصدق في وصف الحياة المتنوعة مما يفعل أدباء اليوم؛ فكل أغانيهم لا تمثل إلا عاطفة الحب البائس، وما يتبعه من ألم ممض، ولوعة مضنية، أما الأغاني الشعبية ففيها الحب البائس والحب الباسم، وفيها التغني بالبطولة والشكوى من الظلم، وأحيانا فيها فلسفة اجتماعية كالأغنية التي سأعرضها اليوم، ومرماها تصوير الهيئة الاجتماعية في صورة الجسم الواحد تتعاون أعضاؤه لتحقيق المصلحة العامة، وهو معنى عرض له الفلاسفة والأدباء في الأمم المختلفة قديما وحديثا؛ فمثله اليونان مرة بإضراب أعضاء الجسم:
قال القلب: لماذا أوزع الدم على سائر الأعضاء ولا ينالني أنا منه إلا قطرات؟ فلأضرب.
وقالت المعدة: ولماذا أهضم أنا أيضا الأكل كله وليس يصيبني منه إلا قليل، أفما كان الأولى ألا أهضم إلى ما ينالني؟ فلأضرب.
وقالت الأسنان: وما لي أنا كالطاحون تطحن دائما ولا ينالني من الغذاء إلا قدر السمسمة؟ فلأضرب.
وقالت الرجل: وأنا دائبة السعي يمينا وشمالا وليلا ونهارا في جمع العيش وتحصيل القوت، ثم حظي من كل هذا فتات الموائد؟ فلأضرب.
وقال كل عضو هذا القول أو شبهه، فأضربت الأعضاء جميعا؛ فلا الرجل تسعى، ولا اليد تحمل الغذاء إلى الفم، ولا الأسنان تمضغ، ولا المعدة تهضم، ولا القلب يوزع.
ثم بعد قليل شعرت المعدة بالجوع، ولم تستطع الرجل المشي، ولا اليد الحركة، وأدركت كلها أنها سائرة إلى الفناء السريع، فاجتمعت على عجل وقررت فض الإضراب، إذا رأت أن كل عضو يعمل لنفسه ولغيره، وأن غيره يعمل لنفسه ولغيره، فالغرم بالغنم والربح على قدر الخسارة.
ولحظ هذا المعنى شعراء العرب، فقال أبو العلاء المعري فيه:
المرء كالنار تبدو عند مسقطها
صغيرة ثم تخبو حين تحتدم
والناس للناس من بدو وحاضرة
بعض لبعض وإن لم يشعروا خدم
وكل عضو لأمر ما يمارسه
لا مشي للكف بل تمشي بك القدم
أما هذه الأغنية التي أشرت إليها فتمثل هذا المعنى من ناحية أخرى ظريفة، وهي ارتباط الصناع وأرباب الأموال برباط وثيق، لا يمكن أن يستغني أحد عن أحد، وها هي بعد حذف ديباجتها: «وحصاني في الخزانة، والخزانة «عاوزة» سلم، والسلم عند النجار، والنجار عاوز مسمار، والمسمار عند الحداد، والحداد عاوز بيضة، والبيضة في بطن الفرخة، والفرخة عاوزة قمحة، والقمحة عند القماح، والقماح عاوز فلوس، والفلوس عند الصريف، والصريف عاوز عصافير، والعصافير في الجنة، والجنة عاوزة حنا» ... إلخ.
أغنية لطيفة حقا، لا يزال أطفالنا إلى الآن يتغنون بها بتوقيعهم الظريف، وصوتهم الشجي، وهم إذ ينشدونها لم يدروا أنهم يتغنون بفلسفة عالية، وفكرة سامية.
قد يلاحظ عليها أن الربط في بعضها محكم؛ كحاجة السلم إلى النجار والنجار إلى المسمار، وبعضها غير محكم؛ كحاجة الحداد إلى البيضة، وحاجة الصريف إلى العصافير، ولكن أظن أن تحكيم المنطق الدقيق الحاد في الأدب كالشعر والأغاني وسائر الفنون مجاوزة للحد؛ فالأغنية ظريفة لطيفة رغم المنطق.
ومن أسباب جمالها هذا النوع البديع الذي يصح أن أسميه: «جمال الدوران»، أو جمال التسلسل؛ مثل قولهم: «لا سلطان إلا برجال، ولا رجال إلا بمال، ولا مال إلا بعمارة، ولا عمارة إلا بعدل».
وقولهم: «الحجر يكسر الزجاج، والحديد يكسر الحجر، والنار تذيب الحديد، والماء يطفي النار، والريح تلعب بالماء، والإنسان يتقي الريح، والخوف يغلب الإنسان، والخمر تزيل الخوف، والنوم يغلب الخمر، والموت يغلب النوم».
ومثل قولهم: «العالم يعرف الجاهل؛ لأنه كان جاهلا، والجاهل لا يعرف العالم؛ لأنه لم يكن عالما» ... إلخ. •••
وبعد، فما تاريخ هذه الأغنية ومن واضعها؟ لا بد أن يكون فيلسوفا أو حكيما بعيد النظر، وما يؤسف له أن هذه الأغاني والأزجال والمواويل لم يعن بها عناية الأدب الأرستقراطي؛ فبينا يعنى العلماء والأدباء بنسبة بيت الشعر إلى قائله، والقصيدة إلى منشئها، ويحتدم بينهم القتال على ذلك، إذا بنا لا نجد هذه العناية ولا بعضها في الأغاني والأزجال الشعبية، وهذا نوع مما أصاب الأدب الشعبي من الظلم، وكم أصابه من أنواع! وها هي الأغاني التي تخترع في عصرنا نجدها على الأفواه ونستعذبها، وتهش لها نفوسنا، ولا نكلف أنفسنا مئونة البحث عن منشئها.
ولكن من حسن حظ هذه الأغنية، أو من حسن حظنا نحن، أننا نجد ظلا لتاريخها؛ فقد ذكرها الجبرتي في تاريخه في حوادث سنة 1143 هجرية، فيكون عمرها أكثر من قرنين، وظلت الأجيال تتعاقبها إلى يومنا.
ويظهر من كلام الجبرتي أن واضعها عالم كبير جليل من أكابر علماء الأزهر في القرن الثاني عشر، هو الشيخ الحفناوي أو الحفني، كان سيد الأزهر في أيامه، له حلقات الدروس الحافلة بنوابغ الطلبة، يقرأ فيها أعوص الكتب وأصعبها؛ كجمع الجوامع، والأشموني، وحاشية السعد، وله التآليف الكثيرة في البلاغة والميراث والجبر والمقابلة، كما كان بيته ساحة كرم يغشاه أعيان مصر وعلماؤها وأدباؤها، ويلجأ إليه الفقراء وذوو الحاجات، وكان راتب بيته من الخبز كل يوم نحو الإردب، وطاحون بيته دائرة ليل نهار، ويجتمع على مائدته الأربعون والخمسون والستون، إلى هيبة ووقار، حتى يهاب العلماء سؤاله لجلاله.
وهو مع هذا كله ظريف أديب، سمع تلميذا له يوما يقول:
قالو تحب المدمس؟ قلت بالزيت حار
والعيش الأبيض تحبه؟ قلت والكشكار
فضحك الشيخ وقال: أنا لا أحبه بالزيت الحار، وإنما أحبه بالسمن، ثم قال:
قالوا تحب المدمس؟ قلت بالمسلي
والبيض مشوي تحبه؟ قلت والمقلي
وله المواويل الظريفة؛ كقوله:
بحياة يا ليل قوامك وصوم الحر
تحجز لنا الفجر دا فوت الرفاقه حر
لما يجي الفجر يصبح ركبهم منجر
أزداد لوعة ولا عمري بقيت أنسر
إلى غير ذلك، فيحدث تلميذه أن الشيخ الحفني قال له يوما: «أحدثك حدوته بالزيت ملتوته، حلفت ما آكلها، حتى يجي التاجر، والتاجر فوق السطوح، والسطوح عاوز سلم ... إلخ»، فحكاية التلميذ، ولم يكن سمعها من قبل، وروايته لها عن شيخه، ترجح الظن أنها من عمل الشيخ الحفني.
وقد زاد الشيخ على ذلك، فشرح الأغنية على طريقة الصوفية، ففسر التاجر بالمرشد الكامل والمربى الواصل، والتاجر فوق السطوح في مستوى عال، والسطوح لا يمكن صعوده إلا بمعراج ... إلخ، وقد كان للشيخ جانب آخر صوفي عظيم.
فالأشموني وجمع الجوامع، والحواشي والتقارير، كلها لم تمنع الشيخ العالم الأزهري الجليل من أن يكون أديبا وزجالا ظريفا، يضع الأغاني والمواويل يتغنى بها الشعب، وهذا يذكرني بما سمعت عن فضيلة الأستاذ الشيخ عبد الرحمن قراعة المفتي الأسبق - مد الله في عمره - من أنه واضع الدور المشهور: «الله يصون دولة حسنك».
فمن لنا بعلمائنا الأزهريين اليوم يشرفون على الأدب كما يشرفون على الدين، ويتعرفون حياة الناس الاجتماعية، ومناحيهم الأدبية، ويضعون الأناشيد الظريفة، والأغاني اللطيفة، ويكونون عنوان الدين وعنوان الظرف، يبتغون فيما آتاهم الله الدار الآخرة، ولا ينسون نصيبهم من الدنيا.
الفصل التاسع
تراثنا القديم
خبران أثرا في النفس أبلغ التأثير، وأثارا في القلب كوامن الأسى والأسف؛
أولهما:
أن أديبا كبيرا وخطيبا خطيرا طلب من إحدى المكاتب القاموس المحيط للفيروزابادي، فأرسلته إليه، فاستبقاه أياما ثم رده شاكرا لأنه لم يستطع أن يعرف طريقة الكشف فيه، وإذا استطاع فلا يفهم ما يقول، ولا يتبين ما يشرح؛ لذلك يعتذر عن شرائه ويطلب بدلا منه معجما من المعاجم الحديثة؛ كأقرب الموارد، ومحيط المحيط، والبستان؛ لسهورة الكشف فيها، ووضوح القصد من معانيها.
والثاني:
أن مجلسا من مجالس المديريات قرر إنشاء مكتبة يتردد إليها طلبة المديرية ومثقفوها، وعهد إلى بعض رجاله اختيار الكتب الصالحة، فلم يختر فيما اختار كتابا قديما؛ كالقاموس المحيط، ولسان العرب، وتاريخ ابن الأثير، والأغاني، والعقد الفريد، ونفح الطيب، وإنما قصر اختياره على ما أنتجه الأدباء المحدثون من روايات وقصص وتاريخ حديث وأدب من الوزن الخفيف.
راعني ما في هذين الخبرين من دلائل مؤلمة، وما يحملان من نتائج خطيرة! دلالة الخبرين أن تيار الفكر إنما يسير نحو الثقافة العصرية، وأن المثقفين إنما يعتمدون على ما تخرجه المطابع من آثار للثقافات الأجنبية، فأما تراثنا القديم وما فيه من ثراء ضخم فتنبو عنه أذواق الناشئة ومن يقودهم ويختار لهم، ولا يقبل عليه إلا المستشرقون وأمثالهم من علماء قليلين يسيرون نحو الفناء دون أن يخلف من بعدهم خلف يقوم على هذا التراث فيحفظه ويستثمره.
ولهذه الظاهرة أسباب، أهمها:
أن هذه الكتب جارت عصرها ولم تجار عصرنا؛ فالتعبير معقد، والمعنى غامض، والتأليف مشتت، والمصطلحات جامدة، والأمثلة واحدة، فقطع هذا كل الصلة بين القديم والحديث، ولم يستطع أن يتفهم هذه الكتب القديمة إلا من نشأ عليها، وأنفق أكثر العمر في فهم عباراتها، وحل معمياتها، وكثير منهم وقف عند ألفاظها ومصطلحاتها، ولم يسعفه الزمان بالتغلغل في أعماقها، واكتناه أسرارها واستخراج كنوزها، فلما نشأ الجيل الجديد، وقد تعلم أول أمره في رياض الأطفال، وأسلمته هذه إلى مدارس ابتدائية وثانوية يجتهد مدرسوها أن يعلموا على أحدث طرق البيداجوجيا، ويقرأ تلاميذها في كتب ألفت على غرار الكتب الأوربية في الشكل والموضوع، أصبح الخريجون لا يربطون جديدهم بقديم آبائهم، وصارت الكتب الأوربية أشهى إلى نفوسهم وأقرب إلى عقولهم من كتب الأدب العربي والفلسفة الإسلامية، وكتب القانون الفرنسي أحب إليهم من كتب الفقه الإسلامي، وهكذا!
وهم إذا نظروا في هذه الكتب العربية هزئوا بها، وضحكوا منها! فإذا وقع نظرهم في الفقه على تحديد ماء الطهارة بأنه عشر في عشر بذراع الكرباس، قالوا: ما لنا ولذراع الكرباس؟ إنما نعرف الذراع البلدي والذراع المعماري، وإذا رأوا نظام أخذ العشر قالوا: ماذا يقابل ذلك من نظام الضرائب والجمارك؟ وإذا نظر الأطباء في كتاب القانون لابن سينا وقفوا أمام أحاجي لا طاقة لهم بها، وإذا نظر الأدباء في الأغاني والعقد وأمثالهما رأوا شرا كثيرا وخيرا قليلا! وكان ما فهموا أندر مما لم يفهموا!
الحق أن هذه مشكلة كبيرة تحتاج في علاجها إلى مهرة الحكماء، وأن ما في كتب أسلافنا من ثروة يحتاج إلى عقول كبيرة تضع منهجا قويما للاستفادة منها.
ونحن بين اثنين: إما أن تتخصص منا طائفة صالحة لترجمة ثروتنا القديمة إلى لغة العصر وروح العصر وأسلوب العصر، فيستطيع ناشئتنا أن يضعوا أيديهم على تراث آبائهم، وإما أن يتثقف أكبر عدد ممكن بنوع من الثقافة الشرقية القديمة، فضلا عما عندهم من الثقافة الحديثة، فيجمعوا إلى مواردهم الأجنبية الموارد العربية، ويخرج نتاجهم متشبعا بالروحين، مستمدا من الثقافتين.
فإن لم يكن هذا ولا ذاك، خشيت بعد قليل أن تصبح كتبنا القديمة غير صالحة إلا للأرضة تعيث فيها، والعنكبوت ينسج عليها، ويكون شأننا معها كما قال أبو العلاء:
سيسأل قوم ما الحجيج ومكة
كما قال قوم ما جديس وما طسم
الفصل العاشر
الأدب والعلم
مرت كلمة الأدب والعلم في اللغة العربية في أدوار عدة؛ استعملوا كلمة الأدب أحيانا فيما يرقي الخلق ويهذب النفس، واستعملوها أحيانا بمعنى أوسع، حتى عدوا أفحش شعر لجرير والفرزدق والأخطل أدبا، وعدوا خمريات أبي نواس وغلمانياته أدبا، كما يعد الفنان بعض الصور فنا وإن كانت صورة لوضع مستهجن أو فعل فاضح.
وكذلك الشأن في كلمة العلم؛ كانوا أحيانا لا يستعملونها إلا في العلم الديني، ثم توسعوا في معناها حتى شمل كل ما ينتجه العقل والفن.
وفي العصور الحديثة فرقوا بين الأدب والعلم، ورسموا لكل دائرة، ومن ثم كانت الصحيفة أو المجلة أحيانا أدبية، وأحيانا علمية، وأحيانا أدبية علمية، وأصبح من المضحك أن نقول علم الأدب؛ لأن العلم غير الأدب، وأصبح لدينا من يسمى «أديبا» فلا يكون عالما، وعالما فلا يكون أديبا، وقد يكون أديبا عالما، ولكن كلمة «عالم» الأزهرية إنما اشتقت من العلم بالمعنى الواسع الذي يشمل الأدب والعلم معا.
وبعد، فما الفرق بين العلم والأدب، وما الذي يجعل الأدب أدبا والعلم علما؟
الحق أن كلمة الأدب والعلم من الألفاظ الغامضة التي نفهمها نوعا من الفهم، فإذا أردنا تحديدها حرنا في أمرها؛ كالجمال والعدل والخيال والحرية والعبودية، وإذا سألنا - حتى الخاصة - في معناها أجاب كل حسب ميوله وأغراضه وحسب طبيعة فهمه للكلمة.
هناك أشياء لا نشك في أنها علم أو أدب؛ فلو سئلت عن نظريات الهندسة وقانون اللوغارتمات وقوانين الحساب والطبيعة والكيمياء فذلك علم بالبداهة، وإذا سئلت عن قصائد بشار وأبي نواس والمتنبي ومقامات الحريري فذلك أدب، ولكن ما حدود الأدب، وما حدود العلم؟
قد عودتنا الطبيعة أن الأضداد تفهم ما تباعدت، فإذا ما تقاربت حدودها صعب فهمها؛ ما أسهل ما تقول أن هذا ظل وهذا شمس، ولكن عند تقارب الظل من الشمس تجد خطوطا يصعب أن تقول أهي ظل أم شمس، وما أسهل ما تقول إن هذا الماء حار أو بارد إذا اشتدت حرارته وبرودته، ولكن ما أصعب ذلك إذا أخذ الحار يبرد والبارد يسخن، فإنك تصل لا محالة إلى درجة يعسر عليك الحكم فيها بالحرارة أو البرودة.
أكبر ظاهرة في التفريق بين الأدب والعلم أن الأدب يخاطب العاطفة، والعلم يخاطب العقل؛ فإذا قلت إن زوايا المثلث تساوي قائمتين فإنك تخاطب العقل ولا تمس العاطفة، وإذا قال المتنبي:
خلقت ألوفا لو رحلت إلى الصبا
لفارقت شيبي موجع القلب باكيا
فهو يمس العاطفة أولا، ومن أجل هذا كانت الجملة الأولى علما، وبيت المتنبي أدبا.
العالم يلاحظ الأشياء؛ يستكشف ظواهرها وقوانينها، وعلاقتها بأمثالها وما يحيط بها، على حين أن الأديب لا ينظر إليها إلا من حيث أثرها في عواطفه وعواطف الناس، ينظر النباتي إلى شجرة الورد فيدرس كل جزء منها، والتغيرات التي تطرأ عليها من وقت بذرها إلى وقت فنائها، ومن أية فصيلة هي، وما علاقتها بالفصائل التي تقرب منها، أما الأديب فينظر إلى أجزاء الشجرة منسقة متناسبة، ويرى أنها لم تخلق إلا لزهرتها الجميلة، وأن بين الزهرة وقلبه نسبا؛ يعجب بحمرة لونها على خضرة أوراقها، ويذهب خياله في ذلك كل مذهب، أما النباتي فيبحث لم كانت الزهرة حمراء وأوراقها خضراء.
عالم الحياة لا يرى في الفتاة المحبوبة إلا إنسانا خاضعا لكل أبحاث البيولوجيا، أما الأديب فيرى في محبوبته شيئا وراء كل ما يبحث عنه العالم؛ هي الحياة، وهي الدنيا، وهي النعيم إذا وصلت، والبؤس إذا صدت، أو يقول مع القائل:
ويلاه إن نظرت وإن هي أعرضت
وقع السهام ونزعهن
فالكلام إذا لم يثر عاطفة لم يكن أدبا، فإذا هو خاطب العقل وحده كان علما، وإذا أمعن في إثارة العاطفة كان أمعن في الأدب.
وليس الأدب وحده هو لغة العاطفة، فقد تفوقه في هذا الموسيقى؛ فهي قادرة على أن تضحك وتبكي، وتسر وتحزن، وتسر سرورا حزينا، وتحزن حزنا سارا، وتؤلم ألما لذيذا، وتلذ لذة أليمة، وتثير الشجاعة حتى لتدفع إلى الموت، وتنفث الخمول حتى لتدعو إلى النوم، تقدر الموسيقى أن تفعل كل ذلك في العاطفة، وهي أقدر من الأدب؛ لأن الأدب يخاطب العاطفة بواسطة الكلام ومن طريقه، أما الموسيقى فتخاطب العاطفة وجها لوجه من غير وسيط، تؤثر فيك أدوار العود والقانون والبيانو، ولو لم تصحب بكلام، ولو لم تفهم أي معنى منها، بل قد تكره أن تفهم إلا النغم وحلاوته، والتوقيع وعذوبته.
أما الأدب، فلما اعتمد على الكلام - والكلام إنما يفهم بالفعل - كان لا بد للقطعة الأدبية من قدر من العقل ومن المعاني تستثار بها العاطفة، وتهيج منها المشاعر.
وارتباط العاطفة بالأدب هو الذي منح الأدب - لا العلم - الخلود؛ فالنتاج الأدبي خالد أبدي لا النتاج العلمي؛ فقصائد امرئ القيس والنابغة وجرير والفرزدق وبشار وأبي نواس والمتنبي كلها خالدة، تقرؤها فتلتذ منها كما يلتذ منها من كان في عصرهم، فإن احتاج إلى شيء فتفسير ما غمض من الألفاظ والمعاني، وهو بعد يشعر بشعورهم ويسر كسرورهم، ثم القطعة الأدبية لا تمل؛ تقرؤها ثم تقرؤها فتسر منها في الثانية سرورك منها في الأولى، بل تحفظها ثم تتعشق تلاوتها وتكرارها.
وليس ذلك هو الشأن في العلم؛ فحقائق العلوم خالدة، ولكن منتجات العلوم غير خالدة، فما في كتاب إقليدس من نظريات هندسية خالدة، ولكن الكتاب لا يقرؤه الآن إلا من أراد أن يرجع إلى تاريخ الهندسة، وكل كتاب في الهندسة يموت بمرور سنين عليه، ولا تعود له قيمة إلا القيمة التاريخية مهما حوى من نظريات جديدة وترتيب جديد، وكذلك كتب الحساب والجبر والطبيعة والكيمياء والفلك ليست خالدة وإن كانت الحقائق التي فيها خالدة، بل الطبعة الثانية من هذه الكتب تقضي على الطبعة الأولى بالفناء إذا دخلها تغيير، وليس طالب علم الآن يرجع إلى ما ألف من خمسين عاما إلا إذا أراد أن يؤرخ العلم، ولكن طالب الأدب يرجع إلى ديوان المتنبي الآن ليتذوق أدبه ويلذ مشاعره كما كان ذلك منذ ألف عام، وقد حفظت بعض قصائده، ولا أزال أستمتع بترديدها، ولكن إن أنت قرأت كتابا في الرياضة، وفهمت ما فيه، لا تستطيع بحال أن تعيد قراءته إلا على مضض.
والسبب في هذا - على ما يظهر - أن عواطف الناس لم تتقدم كما تقدمت عقولهم، قد ترقى العواطف شكلا فترى أن الإحسان إلى الفقير بإعطائه درهما ليس خيرا، ولكن خيرا منه بناء مستشفى، وإنشاء ملجأ، ونحو ذلك، ولكن العاطفة هي هي في أساسها، وقد ترقى عاطفة الحنو الأبوي فلا ترى مانعا من دفع الأولاد إلى حرب الحياة وجوب الأقطار، ولكن العاطفة في أساسها واحدة، أما العقل فوثاب دائما راق أبدا، في الشكل وفي الأساس؛ يرى حلالا اليوم ما كان حراما بالأمس، ويرى حقا الآن ما كان باطلا من قبل، ويخترع كل يوم جديدا، ويصوغ حياته وفق الجديد، ومن أجل ذلك لا يلذ له أن يقرأ عقل السابقين إلا كما يقرأ تاريخهم، ولكن عواطفه هي هي ركزت وثبتت فتلذذ اليوم بما يمثل عواطف الأقدمين وإن كرت عليها الدهور وتوالت العصور.
وليس الأمر بهذا القدر من السهولة في الفصل بين الأدب والعلم، فهناك أنواع يصعب الفصل فيها حتى على الخاصة، أأدب هي أم علم؛ هناك أدب «معلم»، وهناك علم «مؤدب»، هناك تاريخ صيغ صياغة أدبية فلا يكتفي بسرد الحقائق وتعيين زمن وقوعها، وإنما يضع ذلك في قالب يثير شعورك للاحتذاء والقدرة، أو للحب أو الكراهة، وهناك فلسفة صيغت في قالب قصة، وهناك طبيعة وكيمياء صاغتها يد صناع ماهرة في الفن تحمل قلم أديب، فأخرجت منها موضوعات شيقة تثير عاطفة الجمال، وتستخرج الإعجاب بما في هذا العالم من إبداع وفن.
هذه الموضوعات وأمثالها ليست أدبا خالصا، ولا علما خالصا، وإنما هي علم أدبي أو أدب علمي؛ هي أدب بمقدار ما تثير من عاطفة، وهي علم بمقدار ما فيها من حقائق.
العلم لغة العقل، والأدب لغة العاطفة، ولكن لا بد في هذه الحياة أن يلطف العلم بالأدب، والأدب بالعلم؛ فالعقل إذا جمح استخف بالشعور، وجعل الحياة ثمنا للعلم، وهو إذا مزج بشيء من الأدب مس الحياة ورفه على الناس، والعاطفة إذا شردت كانت ثورانا وهياجا؛ ألا ترى التعجب يزيد فيكون نباحا، والعشق يهيم فيكون جنونا!
الفصل الحادي عشر
جواب عن سؤال1
لك الحق كل الحق - يا أخي - أن تصرخ ونصرخ معك في وجه زعماء الأدب العربي طالبين أن يلتفتوا إلى الأدب القومي، ويكثروا القول فيه؛ فالعالم العربي كله يجيش صدره بآلام وآمال، والأدب يجب أن يعبر عن هذه الآلام والآمال، بأسلوبه الرشيق، وعواطفه القوية، وخياله الرائع، وإذ ذاك يجد الناس غذاءهم فيما يقرءون، ولذتهم ومتعتهم فيما يسمعون وينشدون، والناس في كل عصر يتطلبون من الأديب أن يكون موسيقاهم التي تناسب عاطفتهم، فإن كانوا فرحين مرحين كانت الموسيقى فرحة مرحة، وإن كانوا باكين محزونين كانت الموسيقى حزينة باكية، ومن السماجة أن توقع الموسيقى نغمة فرحة في مأتم، أو نغمة باكية في عرس، وقد كان الناس يقصدون إلى الشعراء يشرحون إليهم عواطفهم، ويطلبون منهم شعرا يناسبها ويرويها.
كان بيت بشار في البصرة مقصدا لهذا النوع من الناس، يذهب إليه الغزل الذي تجيش في صدره عاطفة الحب ولا يستطيع أن يعبر عنها، ليجد بشار من فنه ما يعبر عما في نفسه، وتذهب إليه النائحات لينشدهن شعرا يستنزف الدمع ويبعث الشجا والشجن.
وكل عصر له مطالبه، وكل أمة لها مواقفها وعواطفها، ولا خير في الأدب إذا لم يصف الحياة، ويغذ العواطف، ويجد الناس في كل موقف يقفونه قولا أدبيا قويا يشرحه، وشعرا جميلا يعبر عنه.
والعالم العربي الآن له عواطف قومية جديدة لم تكن لديه قبل سنين، هي نتاج التيار الحديث الذي غمر أوربا وسار منها إلى الشرق، فملأ مشاعرها ألما مما هي فيه، كما ملأها أملا في حياة خير من الحياة التافهة التي يحيونها، ثم التفتوا إلى الأدب القديم فلم يجدوا فيه غذاءهم كافيا؛ ليس فيه شعر يتغنى بالحرية كما نود، ولا بالقومية كما نحب، وإنما هي أبيات مبعثرة مجملة، قيلت لوصف مشاعر غير مشاعرنا، وفي مواقف غير مواقفنا.
وتلفتنا إلى الأدب العربي الحديث فوجدناه ناقصا كأخيه، لم يسد الفراغ، ولم يكمل النقص، قد أفرط القدماء في الغزل فأفرط المحدثون فيه، وقصر القدماء في وصف المناحي الاجتماعية والنزعات القومية فقصر المحدثون فيه، وأصبح ناشئنا لا يجد الغذاء الكافي في القديم ولا في الجديد، فلك الحق أن تطلب من الزعماء، وأن تطلب من الرسالة أن تدعو الكتاب والشعراء أن يلتفتوا إلى وجوه النقص فيكملوها، حتى إذا احتاج الشباب إلى نشيد أو أناشيد وجدها، وإذا وقف موقفا يتطلب قصيدة في معنى من معاني القومية أو الحرية انطلق بها لسانه، وإذا طرب لمنظر طبيعي في بلاده وجد القصائد قد قيلت فيه واستوفت محاسنه، وهكذا.
ولك أن تطلب من كتاب الروايات أن يبحثوا عن نواحي الضعف في الحياة الاجتماعية الشرقية، فيجلوها ويعالجوها، وأن يكون لهم نظر صادق في تعرف نفسيات الأفراد والجماعات فيحللوها، وأن يتجه الكتاب الاجتماعيون فيدرسوا أمراض قومهم، ويستخدموا الأدب في الخطب والمقالات تثير مشاعر الناس وتهيجهم ليتخلوا عن رذيلة، ويستكملوا فضيلة، ويعالجوا نقصا، وينشدوا كمالا.
لك الحق أن تنعي على الأدباء أن أكثرهم في الشرق لم يتجه هذا الاتجاه إلا قليلا، وأنهم بين أن ينظموا في الأغراض القديمة ولا يحسنوها إحسان القدماء وبين أن ينقلوا من الأدب الغربي ما فقد روحه، أو لم يتناسب وروحنا، وإلا فأين أدبنا القومي؟ وأين التغني بمناظر طبيعتنا؟ وأين الروايات الاجتماعية تصفنا؟ لا شيء من ذلك إلا القليل الذي لا يتناسب ونهضتنا الحديثة.
أنا معك في هذا كله، ولكن لست معك في إنكارك: أن يكون الفن للفن، والأدب للأدب، ولست معك في أن تطلب أن يكون الأدب للحياة؛ فليس من شك في أن القطعة متى استوفت عناصرها الأدبية كانت أدبا، مهما كان موضوعها الأخلاقي، وليس أحد ينكر أن قصائد أبي نواس الفاجرة الداعرة أدب، كما لا ينكر أحد أن الصورة العارية إذا أجيد تصويرها فن جميل، وإن لم ترض عنها الأخلاق، فالأدب للأدب والفن للفن، ولكن هذا لا يمنع أن تكون سلطة المصلحين فوق سلطة الأدباء؛ فإذا رأى المصلحون أن ضربا من الأدب يحل الأخلاق ويفك عرى المجتمع، حاربوه بكل ما استطاعوا من قوة، وإذا رأوا أن ضربا من الأدب في الأمة ضعيف ويجب أن يقوى، طلبوا الإكثار منه بشتى الوسائل، وشجعوا عليه، ومهدوا له السبل، وهذا هو موقفنا بالضبط؛ فقد كثر فينا ما نسميه بالأدب المائع، وهو من غير شك أدب، وقد يكون أدبا راقيا، ولكن يصح أن نخضعه لنظر المصلح، فإذا كان المصلح الاجتماعي قويا ضرب على هذا النمط من الأدب، ولو إلى زمن محدود؛ حتى تستكمل الأمة قوتها ورجولتها.
ومثل الأدب في ذلك مثل العلم؛ فالأدب للأدب كالعلم للعلم؛ فالعلم يبحث كما يشاء، فإذا أردت أن تستخدم العلم في أشياء عملية؛ كصنع أسلحة وغازات وما إلى ذلك، خضعت للمصلحة والإنسانية، وسن لها قوانين، وهذا لم يطعن في أن يكون العلم للعلم، فإن أردت بقولك إن الأدب لا يكون أدبا إلا إذا خدم الحياة، فأنا مخالفك، وإن أردت أن المصلحين والدعاة يجب أن يخضعوا الأدب لأغراض الحياة الصحيحة، فإني موافقك.
وبعد، فقد غلوت يا أخي في رأيك، فلم ترد أن يكون في الأدب حب إلا من نوع خاص، وأردت من الأدب أن يكون قويا، وقويا فقط، وبعبارة أخرى: تريد أن تكون حياة الأدباء حياة حربية ليس فيها إلا القوة وما يبعث على القوة، ليس فيها زهرة جميلة ولا غزل ظريف، وأنا أخشى أن الأدب باقتصاره على القوة يفقد القوة؛ فإن للنفوس سآمة، ويحسن أن يكون بجانب صوت المدفع والقنابل صوت العود والقانون.
ولقد كنت أكتب في هذا الموضوع حتى إذا وصلت إلى هذا الموضع شعرت بملل، فما هو إلا أن سمعت نغمة رقيقة من بيانو، فأصغيت إليها حتى استكملتها، فعادت نفسي إلى نشاطها؛ ألا يكون في هذا مثل صالح للحياة الأدبية؟ فجد وهزل، وتغن بالحرية، ونعي على الاستبداد، وتغزل في زهرة وفكاهة حلوة! هذا - يا أخي - أصلح، حتى من الناحية الجدية؛ فمن لم يله أبدا قصرت حياة جده وتقبضت نفسه، ولم يتحمل طويلا مرارة العمل، وإن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى.
أحب أن تكون الحياة الأدبية كفرقة الموسيقى؛ لا طبلا فقط، ولا نايا فقط؛ بل هما وغيرهما، وعيب حياتنا الأدبية الحاضرة أنها رخوة فقط، فيجب أن يضاف إليها نغمات القوة، لا أن تحل النغمات القوية وحدها محل النغمات الرقيقة، فإنا إن فعلنا ذلك كان الأدب أبعث على الحياة، وأحفظ للقوة، فطمئن نفسك، ولا تأس على شاعر طال ليله، وأرق جفنه حبيب أعرض عنه، وابتسامة احتجب عنه نورها، فمن يدرينا لعل الحب كله من واد واحد، فمن أحب فتاته كان أسرع استعدادا لأن يحب أمته، ويحب ربه، ومن تحجر قلبه لم يبك على شيء.
وبعد، فموقف «الرسالة» كما أفهم من مبادئها يجب أن يكون الدعوة إلى تكميل النقص في الأدب العربي، وحث قادته على أن يطرقوا من الأبواب ما نحن في أمس الحاجة إليه؛ حتى يكون أدبنا صورة تامة لنا، وحتى يكون غذاء كافيا لمختلف عواطفنا، يجب أن يكون موقفها - فوق الموقف الأدبي - موقف المصلح؛ فترفض أن تنشر الأدب الساقط المرذول، المضعف للخلق والمفسد للرجولة، ولكن يجب كذلك أن تفسح صدرها لنوع من الأدب، لا هو بالقوي الذي تتطلب الاقتصار عليه، ولا هو بالضعيف المائع، هو أدب الحب العف، والفكاهة الحلوة البريئة، والهزل يشف عن جد، والمزح مبطنا بعظة، ونحو ذلك، ففي التزام الجد خروج إلى الجفاء، وانحدار إلى الجمود.
هذا إلى أن الرسالة يجب أن تكون بجانب دعوتها إلى الإصلاح سجلا للنزعات الأدبية على اختلاف أنواعها، ما لم تكن النزعة مستهترة، تميط قناع الحياة، وتخرق حجاب الحشمة.
وأخيرا لك الشكر - يا أخي - على ما حوى كتابك من غيرة صادقة، وعاطفة نبيلة، وما أقرت من موضوع يستحق العناية ويدعو إلى طول التفكير.
الفصل الثاني عشر
الأدب العربي منذ أول عصوره حتى اليوم
لو نظرنا نظرة عامة إلى الآداب المختلفة في العالم قديمها وحديثها، وجدناها كلها تخضع لبعض قوانين عامة يشترك فيها كل أدب، وقوانين خاصة ينفرد بها أدب كل أمة؛ فمثلا: من القوانين العامة أن الآداب تكاد تشترك في أنها نظم ونثر وقصص، وأن النظم يتميز بالموسيقى التي يعبر عنها بالأوزان وإن اختلفت هذه الأوزان، وأن النثر في كل أدب يأتي عقب الشعر؛ لأن الشعر تعبير عن العاطفة والخيال، والنثر مصبوغ بصبغة عقلية إلى حد ما، والعاطفة والخيال أقدم في تاريخ الإنسانية من العقل.
كما أن قوانين رقي الشعر والنثر والقصص في الأمم تكاد تكون واحدة، كذلك تكاد تشترك الآداب كلها في تاريخها وتطورها ومرورها في مراحل ثلاث:
فالمرحلة الأولى:
مرحلة القبائل، ويكون الأدب فيها مصبوغا بالصبغة القبلية، فيخضع للنظام القبلي، ويكاد الشاعر فيها يشعر بقبليته أكثر مما يشعر بفرديته، ويتغنى بالقبيلة وأعمالها أكثر مما يتغنى بشخصيته وفرديته وعمله، حتى إذا تطورت القبائل إلى أمة، وتطور شيخ القبيلة إلى حاكم، رأينا الأدب يصل إلى:
المرحلة الثانية:
فتكون الآداب في خدمة القصور والحكام، والأغنياء والولاة وأمثالهم، ويكون الأدب إذ ذاك أشبه ما يكون بالتحفة الفنية البديعة؛ تهدى أو تباع للسادة المترفين، ويكثر إذ ذاك شعر المديح والقصص حول القصور، وتكثر في الأدب المحسنات اللفظية كأنها نقوش في التحفة الفنية، ولا ينظر في هذا الطور إلى الشعوب كثيرا. ثم تأتي:
المرحلة الثالثة:
وهي مرحلة الديمقراطية، فيعنى فيها بوصف الشعوب ويتجه الأدباء نحوها، وتؤلف الروايات حول الحياة في الكوخ الحقير كما تؤلف حول الحياة في القصر الكبير، ويتجه الأدب نحو الظلم والعدل، ويبين حقوق الراعي وحقوق الرعية، وتكثر في الأدب على العموم المظاهر التي تعبر عن آمال الشعوب وآلامها.
فإذا نحن نظرنا إلى الأدب العربي في ضوء ذلك وجدناه أدبا طويل العمر، له من العمر أكثر مما للآداب الأخرى؛ كالأدب الإنجليزي والفرنسي والألماني والإيطالي، فكلها حديثة العهد إذا قيست بالأدب العربي، وعمر الأدب العربي في العصور التاريخية نحو خمسة عشر قرنا، خضع فيها لمؤثرات مختلفة وأحداث متباينة، كان فيها أدب قبائل في العصر الجاهلي يخضع لكل الظواهر القبلية، ويستجيب لها، فيعبر فيه الشعراء عن عواطفهم، ويسجلون ما يحدث لهم ولقبيلتهم، ويصفون مشاعرهم نحو نسائهم بالحب والذكرى، ومشاعرهم نحو خصومهم وأعدائهم - وهم خصوم قبيلتهم - بالهجاء، ويحرضون على القتال والأخذ بالثأر، ويصفون فيه الطبيعة حولهم من الصحراء ونباتها وحيوانها.
وإذا سار الشاعر في طريق وصفه، وعرض لما رأى فيه من جبل ووهد وسهل وحزن، وهكذا، كان الشاعر بدويا في موضوعه وصيغته وبساطة وصفه وبساطة فنه، ومن كان من الشعراء الجاهليين في مدينة أو على حواشي مدينة تأثر بذلك؛ كما نرى في شعراء الحيرة والعراق والغساسنة؛ فقد تأثروا بالمدنية الفارسية والرومانية في ألفاظهم وتشبيهاتهم.
وشعراء الجاهلية على وجه العموم متأثرون ببيئتهم الطبيعية والاجتماعية، يشتقون منها تشبيهاتهم، فيشبهون الليل بالجمل يتمطى بصلبهن والبرق بمصباح راهب أمال السليط ونحو ذلك، وأوزانهم وموسيقاهم متأثرة بوقع أقدام الإبل في الصحراء، وما يناسب ذلك من حداء، إلى غير هذه من مظاهر التأثر والتجاوب، فكانت هذه هي المرحلة الأولى للأدب العربي.
ولما جاء الإسلام غير الحياة الاجتماعية، فدعا إلى الفخر بالعمل الصالح دون الفخر بالأنساب، ودعا إلى أن الظالم يقتص منه؛ شريفا كان أو وضيعا، وقال:
فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ، وهدم نظام القبائل بالتدريج إلى حد كبير، وغزا المدنية الفارسية والرومانية، وأخضعهما واطلع عليهما واستفاد منهما، وأصبحت الجزيرة العربية وما تبعها من فتوح دولة واحدة حكمها خليفة واحد، وانقلبت الخلافة بعد ذلك إلى ملك عضوض، فجاء الدور الثاني، وهو الدور الأستقراطي في الأدب الذي يتجه نحو الخلفاء والولاة والحكام والأغنياء، وإن تغنى فيه الفرد لنفسه أحيانا بغزل أو شكوى أو تعبير عن عاطفة، وتأثر الأدب الإسلامي؛ وخاصة النثر الفني والقصص، بما نقل إليهما عن الهند والفرس واليونان، وتطور بتطور الحضارة في موضوعاته في حديث يطول شرحه.
وفي العصور الأخيرة، انتقل الأدب العربي إلى المرحلة الثالثة، وهي مرحلة الديمقراطية، فاتجه إلى الشعوب في شعره ونثره وقصصه، وفي موضوعاته وأساليبه.
فإذا نحن نظرنا إلى الأدب العربي بجانب الآداب الأخرى وجدنا أنه ككل الآداب فيه جوانب ضعف وجوانب قوة؛ فمثلا: نجد أن الأدبين اليوناني والروماني وما تفرع عنهما من الآداب الحديثة؛ كالإنجليزية والفرنسية، أكثر تنوعا، وأكثر تفننا في نقد الحياة والنظر إليها في أشكالها المختلفة؛ الخاصة منها والعامة: أدب للملاحم وسع خيالهم - وأدب للتمثيل وسع نقدهم في السياسة العامة للحكومة والقادة والزعماء وللحياة العامة وحياة الأفراد الشعبية - وغنى في القصص لم يبلغه الأدب العربي، ولكن الأدب العربي غني من نواح أخرى.
فقد جرت عادة الأوربيين أن يقسموا الشعر إلى شعر غنائي، ويقصدون به ما يعبر به الشاعر عن عواطفه؛ وشعر ملاحم، ويقصدون به ما يصف به الشاعر أو الشعراء وقائع الحروب في قصائد طويلة؛ وشعر تمثيلي، وهو ما يكون في الروايات التمثيلية؛ فالشعر العربي غني بالنوع الأول غنى كبيرا، والكنوز التي تركها في وصف المشاعر؛ من فخر وحماسة وغزل وهجاء ورثاء ومديح، كنوز وافرة؛ وخاصة في الحب؛ فقد برع الأدب العربي فيه، ونوعه من حب عذري إلى حب شهواني، ومن حب مادي إلى حب فلسفي، ومن وصف للجمال الحسي إلى وصف للجمال المعنوي، فهذا النوع قد تفوق فيه الأدب العربي تفوقا كبيرا، وسبق غيره من الآداب الأخرى، حتى إن هذا النوع من الأدب لما ظهر في أوربا في القرون الوسطى في أسبانيا وفرنسا أخذ النقاد يبحثون عن مصدره في الأدب العربي كيف أخذوه عنه؛ شعورا منهم بأن منبع هذا النوع من الأدب هو الأدب العربي، وكذلك لما ظهرت في أوربا حركة الأدب الرومانطي، رأى كثيرون أن لهذه الحركة بالشعر العربي علاقة وثيقة.
كذلك نرى الأدب العربي غنيا غنى تاما في ناحية الحكم، فقل أن نرى أدبا يدانيه في ذلك، قد صبت فيه تجارب الأمم المختلفة من عرب وفرس وهند وروم، وصيغت هذه التجارب في شكل أمثال وحكم في الشعر والنثر على ألسنة الطيور والحيوانات.
على أنه ما تم احتكاك الشرق والغرب في العصور الحديثة أخذ الأدب العربي يستعرض مواضع قوته وضعفه، فلما أحس بحاجته إلى القصص؛ سواء منه ما كان تمثيليا أو غير تمثيلي، أخذ يستكمل نقصه بما يترجم أولا وألف ثانيا، وهو في سبيل استكمال نواحيه كلها مع احتفاظه بميزاته القديمة، كما أخذ يساير الأمم العربية في التعبير عن آلامها وآمالها، ويدعو إلى الإصلاح الاجتماعي في أشكاله المختلفة، ولكن أمامه عقبة كبيرة يجب أن يتغلب عليها، وهو أنه لا يغذي إلا طبقة المثقفين، أما السواد الأعظم من الشعوب فيعيش على قليل من الأزجال، وتافه من الغناء، وبقايا من «الحواديت»، ولا بد للأدب الكامل أن يغذي الشعب كله؛ خاصته وعامته، بحسب عقليته البسيطة أو الراقية؛ حتى لا تفلت من يده أي طبقة من طبقاته، أما إن هو اقتصر على المثقفين وحدهم لم يكن قد قام إلا ببعض واجبه، وحاجة الأمة إلى الغذاء الأدبي - كما أسلفنا - في مثل حاجتها إلى الغذاء المادي، لا يصح أن يستغني عنه أحد ولا يعيش بدونه.
الفصل الثالث عشر
ملوك الإسلام والأدب العربي
ظاهرة واضحة - من ظواهر الأدب العربي - أنه أكثر ما نما كان في ظل الملوك والأمراء، وكان هذا شأنه من أول عهد النابغة الذبياني في الجاهلية إلى شوقي في عصرنا.
لقد كان العرب في أول عهدهم يعيشون عيشة قبائل، وكان للقبيلة شيخها، وكان المعنى القبلي متغلبا عليهم، وكان الفرد يعيش لقبيلته ويموت لقبيلته، أما شعوره بشخصيته فضعيف فاتر، من أجل هذا كان شعر الشاعر إنما هو في الإشادة بقبيلته والتشهير بأعدائها، فلما ظهر للعرب ملوك رأينا الشعر بدأ يتحول نحوهم؛ فقصد النابغة الذبياني النعمان بن المنذر، ومدحه وقبل الصلة منه، واستطعم الترف والنعيم، فكان أكله وشربه في صحاف الذهب والفضة مما كان يناله من الملوك.
وفاقه الأعشى في ذلك؛ فكان رحالة إلى الملوك يمدحهم وينال عطاءهم، فقصد المناذرة على تخوم العراق، والغساسنة على تخوم الشام، بل وقصد ملوك العجم يمدحهم فيجزلون عطاءه ويملئون يده.
فلما جاء ملوك بني أمية عرفوا قيمة الشعر وأثره في الدعوة لهم، ومكافحة خصومهم، فقربوا الشعراء وأجزلوا لهم العطاء، فكان من شعرائهم: الأخطل، وجرير، والفرزدق، وغيرهم من مشهوري الشعراء، وكان كل من طمع في الملك من مناوئيهم يتخذ الشعراء أداة له في الخصومة والنزال؛ فللخوارج شعراؤهم وللشيعة شعراؤهم، ولعبد الله بن الزبير شعراؤه.
ولا يستثنى من مشاهير شعراء بني أمية إلا عدد قليل لم يتصل بملك ولم يقبل عطاء؛ مثل: عمر بن أبي ربيعة؛ فقد كان يغني لنفسه وللنساء، واكتفى بجاهه وغناه، وأنف من المدح والهجاء، ولكن هذا وأمثاله قليلون إذا قيسوا بمن نبغوا في ظل الملوك والأمراء.
فلما جاءت الدولة العباسية أكثر الملوك من عطاياهم فقصدهم الشعراء من كل فج، فكانت بغداد موطن الخلفاء، وموطن الشعراء معا، ومن نبغ في مصر أو الشام أو الحجاز لم ينفق شعره ولم يشتهر أمره إلا إذا قصد الملوك والأمراء ببغداد، فإذا عددت نوابغ الشعراء في ذلك العصر؛ أمثال: بشار بن برد، ومسلم بن الوليد، وأبي العتاهية، وأبي نواس، وأبي تمام، والبحتري، وابن الرومي، وابن الجهم، رأيتهم نبغوا في ظل القصور، ورأيت تاريخهم وتاريخ شعرهم جزءا من تاريخ الخلفاء والأمراء، هؤلاء يقصدون الخلفاء، وهؤلاء يقصدون البرامكة، وهؤلاء يقصدون الأمير أبا دلف، إلى غير ذلك.
وقل أن ترى في هذا العصر شاعرا لا صلة له بملك أو أمير، حتى العباس بن الأحنف فإنه أنف عن المدح، وقصر شعره على الغزل، ومع هذا أخذ صلة الرشيد وغيره على حسن تغزله ولطف مقصده في التشبيب بالنساء.
ومن هؤلاء الشعراء من كان يقنع بمدح أي أمير وأي غني، ومنهم من كان يأنف أن يمدح إلا الملوك، فسلم الخاسر يعير مروان بن أبي حفصة بتكففه من هذا ومن ذاك، ويفخر هو بأنه لا يمدح إلا الملوك، فيقول :
من مبلغ مروان عني رسالة
مغلغلة لا تنثني عن لقائكا
حباني أمير المؤمين بنفحة
ثمانين ألفا طأطأت من حبائكا
ثمانين ألفا نلت من صلب ماله
ولم تك قسما من أولى وأولائكا
ويفتخر بشار بن برد، فيقول:
وإني لنهاض اليدين إلى العلا
قروع لأبواب الهمام المتوج
إلى كثير من أمثال ذلك.
وفي بلاط سيف الدولة بن حمدان في حلب اجتمع عشرات الشعراء، وعلى رأسهم المتنبي وأبو فراس، يشيدون بفضله ويسجلون وقائعه، وهو يغدق عليهم من ماله، حتى قال فيه أبو الطيب:
وانعلت أفراسي بنعماك عسجدا
ولما ضعفت الخلافة ببغداد وعلا شأن مصر تحول غرض الشعراء من بغداد إلى مصر، فكانت مصر مقصد المغاربة والشاميين والعراقيين، وكان من شعراء صلاح الدين الأيوبي القاضي الفاضل البيساني، والعماد الأصفهاني، وابن سناء الملك، وكان من شعراء الملك الصالح الأيوبي ابن مطروح، والبهاء زهير.
فلما جاءت دولة المماليك ارتفع شأن مصر بقدر ما ضعف شأن بغداد، فأصبحت مركز الثقافة للعالم الإسلامي، ومجمع العلماء والأدباء والشعراء، ولكن لم يكن حظ الشعراء في عصر المماليك كحظ العلماء؛ لأن ملوك المماليك لم يكونوا يحسنون فهم العربية، ولم يكونوا يتذوقون الشعر ، فضعف من أجل ذلك الشعر وخمل الشعراء، وعلى العكس من ذلك قوي العلم وعظم شأن رجال الدين.
حتى جاءت نهضة مصر الحديثة، فأخذ الشعر يستعيد رونقه، وكان أكثر النابغين من الشعراء في ظل الملوك والأمراء أيضا؛ فالسيد علي أبو النصر كان في رعاية البيت العلوي من عهد محمد علي (باشا) إلى عهد توفيق (باشا)، والشيخ علي الليثي كان شاعر الخديو إسماعيل والخديو توفيق ونديمهما، وولد شوقي - كما يقول هو - بباب إسماعيل، وأزهر شعره في ظل الخديو عباس الثاني. •••
وعلى الجملة، فلو أحصينا شعراء العرب، وعددنا النابغين منهم، وقرأنا تاريخ حياتهم، لوجدنا الجمهرة العظمى منهم قد نبغوا في ظل الملوك والأمراء.
وسبب هذا أن الشعر فن جميل، والفنون الجميلة إنما تنمو وتزهر في القصور؛ كالغناء والموسيقى والنحت والتصوير والخطوط؛ لأنها تعد من الأمور الكمالية، ومن الزينة والترف، وأحسن أنواع الزينة إنما مكانه اللائق به القصور؛ كاللؤلؤة الكبيرة والحجر الكريم النادر والصورة الرائعة والمصحف المخطوط خطا بديعا، فكل هذه وأمثالها لا يقومها حق تقويمها إلا الملوك والأمراء، فإليهم تهدى، وفي قصورهم تزداد روعة وجمالا.
ثم كان أن اتجه الشعر العربي أكثر ما اتجه إلى المديح، فلو أحصينا الشعر العربي ووزعناه على أبوابه لوجدنا نحو ثلثيه مديحا، والثلث الآخر تتقسمه الأبواب المختلفة الأخرى، ومن أليق بالمديح من الخلفاء والملوك والأمراء؟ إنهم أقدر على المكافأة وأسخى في العطاء، فالشاعر يبدأ يتعلم في مدح متوسطي الحال، فإذا نبغ لم يجد موضعا لشعره لائقا إلا الملوك، فقصدهم وقصر مديحه عليهم، ومن أجل هذا نرى أنواع الشعر الأخرى تنمو خارج القصور بعيدة عنها؛ كاللزوميات لأبي العلاء المعري، وشعر التصوف؛ مثل شعر عمر بن الفارض، وشعر الغزل الصرف؛ كشعر جميل والعباس بن الأحنف، وأمثال ذلك؛ لأن الشاعر فيها يغني لنفسه، ويرضي عاطفة تجيش بصدره، لا يتطلب من أجل ذلك جزاءا ولا شكورا. •••
هذه ناحية واحدة من نواحي الأدب العربي، وهي ناحية الشعر، وهناك نواح أخرى كان للملوك كبير أثر فيها أيضا؛ فالكتابة الديوانية إنما ازدهرت كذلك في حماية الملوك والأمراء؛ فعبد الحميد الكاتب أثمرت كتابته في ظل مروان بن محمد، وابن المقفع في ظل الأمير عيسى بن علي، وعمرو بن مسعدة في ظل المأمون، وابن العميد في ظل بني بويه، والقاضي الفاضل في عهد صلاح الدين، والعماد في عهد نور الدين ... إلخ.
وذلك أن الكتابة الإنشائية كانت وظيفة حكومية، فكان في العهد الأول لكل أمير كاتب يجيد الكتابة عنه، ويجتهد في تنميق أسلوبه وحسن بيانه، وبطبيعة الحال كان خير الكتاب كتاب الملوك؛ فهم يتخيرون أدق تخير، وعنهم تصدر أروع الكتب وأبلغ المقالات.
وحظ التأليف من الملوك ليس أقل من حظ الشعر والنثر؛ فالجاحظ يهدي بعض كتبه للمأمون وبعضها للفتح بن خاقان، وأبو الفرج الأصفهاني يهدي كتابه الأغاني لسيف الدولة الحمداني، وكثير من التآليف الأدبية والعلمية والدينية نراها قد أهديت في تاريخها أو في ديباجتها إلى ملك أو أمير؛ ذلك لأن كثيرا من هؤلاء الملوك والأمراء كانت لهم مشاركة علمية أو أدبية، فكانوا يقترحون على العلماء والأدباء موضوعات يؤلفون فيها، وكثير منهم كان يرى أن تقديم الكتاب إليه يخلد ذكره، ويبقي على الدهر اسمه؛ فكتاب علمي أو أدبي يؤلف باسمه ورسمه بمثابة مسجد يقيمه، أو مدرسة ينشئها، أو «سبيل» يتقرب به إلى الله.
يضاف إلى ذلك سبب آخر هام، وهو أن الثروة لم تكن موزعة على حسب المنهج الذي نراه الآن، بل كانت أغلب الثروة في يد الملوك والأمراء، والعلماء ليس لهم إلا قليل من الأوقاف ونحوها، فلم تكن هناك وزارة معارف تجري مرتبات على المدرسين ونحو ذلك، إنما كان العلماء يعيشون على القليل من مال الوقف، وعلى الكثير من عطايا الخلفاء والأمراء؛ فكان ارتباط العلماء بالأمراء أقوى، وحاجتهم إليهم أشد، فالعالم مخير بين أن يعتزل الأمراء ويعيش عيشة كفاف، أو يتطلب عيشة الغنى فعليه أن يتصل بالملوك والأمراء؛ يسامرهم ويحدثهم ويؤلف لهم.
وحاجة الأدباء في ذلك أشد؛ لأن طبيعة أدبهم وحياتهم لا تتفق والزهد، ولأن الأوقاف لا تشملهم؛ فليسوا رجال علم ولا رجال دين، فمنهجهم الوحيد الذي يتطلبونه ويقصدونه هو قصور الخلفاء والملوك والأمراء والأغنياء، ففيها عيشة الترف التي تناسب الأدب وتغذيه، وفيها يجد سلعته رائجة وعمله مكافأ، ومن أجل هذا الفرق قد نرى علما خارج القصور، ولكن قل أن نرى أدبا نما وازدهر خارج القصور.
وبعد، فاتصال العلم العربي والأدب العربي بالملوك والأمراء اتصال وثيق، وشرح أسبابه ونتائجه لا يمكن أن يتسع له مقال، فلنجتزئ الآن بهذا القدر.
الفصل الرابع عشر
أدبنا الحديث أدب ديمقراطي
الأدب ظاهرة اجتماعية؛ كاللغة والحكومة ونظم التربية، كلها تخضع للحالة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية للأمة؛ فالجماعة من الناس الذين يعيشون على الصيد، أدبهم من قصص وأمثال وشعر مشتق من نوع حياتهم، والذين يعيشون في مدينة ممدنة منظمة، ينتج أدبهم صورة صادقة من حياتهم، فمحال أن يكون ابن المعتز بدويا أو أن يكون شعره بدويا، ومحال أن يكون طرفة بن العبد حضريا أو أن يكون شعره حضريا؛ فالأدب يشتق مظاهره وموضوعاته وأساليبه من الحياة التي يحياها الأديب، وأدب كل جماعة يعتمد على درجتها في النظام الاجتماعي والاقتصادي.
فلنقصر نظرنا على الأدب العربي من هذه الناحية، فنرى أنه قد مر بأدوار ثلاثة: (1)
أدب قبلي في العصر الجاهلي وصدر العصر الإسلامي. (2)
وأدب أرستقراطي في القرون الوسطى. (3)
وأدب ديمقراطي في العصر الحديث.
فالأدب الجاهلي صورة صادقة لحياة العرب القبلية، فهو يمثل لنا حياتهم الواقعية من غير أن يكون فيها كبير عناية بتجميل، أو تلوين بلون زاه براق، يمثل لنا حياة لا تستند على ثقافة واسعة ولا علم غزير، يمثل حياة حسية لا يتجاوزها إلى الروح والعناية بها؛ فالمرأة الجميلة هي الجميلة جسما، والمنظر الجميل هو ما يدركه البصر جميلا، قد اشتق أدبه من حروبه وعلاقته بالإبل وبالخيل، ورحلته عليهما من مكان إلى مكان، ورعيه لهما، ونحو ذلك.
لا يمكننا أن نسمي هذا الأدب أدبا ديمقراطيا؛ لأن أساس الديمقراطية شعور المرء بنفسه، وتقديرها لشخصية كل فرد؛ عظيما كان أو وضيعا، والشاعر الجاهلي كان يشعر بقبيلته، وأن إغارة أحد من العرب على أحد ليست إغارة فرد بل قبيلة على قبيلة، وأن العار الذي يلحق الفرد يلحق القبيلة، والمفخرة التي يأتيها الفرد مفخرة القبيلة، وعلى الجملة كان شعور الفرد بقبيلته أكثر من شعوره بشخصه.
وإذا استعرضنا الأدب الجاهلي اتضح لنا هذا المعنى؛ فنرى قبيلة الشاعر في المقام الأول، وشخصيته مستترة وراء قبيلته، فهو قلما يعبر «بأنا» وإنما يعبر «بنحن»، وقلما يشيد بذكر أفعال قام بها، وإنما أغلب ما يفخر بأعمال قومه وآبائه، فالشخصية الفردية تكاد تكون معدومة، والشخصية القبلية طاغية عليها؛ ولذلك لا يمكننا أن نسمي الأدب الجاهلي أدبا ديمقراطيا، بل أدبا قبليا. •••
تحضرت الأمة العربية، وفتحت أعظم الممالك، وتدفق المال عليها من البلاد المفتوحة، وكان أكثر المال والغنى في أيدي الخلفاء والأمراء، وإذا كان عطاء للأفراد (مرتب أو ماهية) فللجند وأمثالهم لا للشعراء وأمثالهم، وضاع الشعور القبلي، أو على الأقل أصبحت قبيلة الشاعر لا تعوله كما كانت تعوله في الجاهلية، فوجد الشاعر نفسه أمام أحد أمرين: إما أن يشعر لنفسه ويرضى بالفقر، أو يشعر للخليفة والأمير فيغني لهما، ففضل الثانية.
والخلفاء والأمراء من ناحيتهم رأوا أن الفن - ومنه الشعر والأدب - أداة من الأدوات الجميلة؛ كالتحف تعلق في القصور، وكالدرة الجميلة والعقد الثمين والحجر الكريم، فرحبوا بأهل الفن يزينون بهم قصورهم.
كان الشاعر يرضى من قبيلته بالقليل فأصبح وقد كثر المال يطمع في الكثير، وكان يغني لقبيلته فأصبحت قبيلته لا تجزيه، وكان شيخ القبيلة فقيرا فأصبح الخليفة وعنده القناطير المقنطرة من الذهب والفضة، وكانت حاجات الفنان قليلة فأصبحت بفضل الحضارة كثيرة مركبة، والشعب لا يلتفت كثيرا إلى الفنان؛ لأن فنه نوع من الترف، والترف إنما هو في قصور الخلفاء والأمراء.
كل هذا وأمثاله قلب الأدب إلى أدب أرستقراطي، وأعني به الأدب الذي قيل في الخلفاء والأمراء مديحا أو رثاء، أو إجابة لمطلب لهم من وصف مائدة ووصف طرفة ووصف روضة ونحو ذلك، أو قيل تحريضا من الخلفاء والأمراء للشعراء على هجاء أعدائهم، أو كتابا أدبيا ألفه الأديب لخليفة أو أمير، وعلى الجملة، كل ما قصد به أمير أو بعث على الإتيان به أمير.
وهذه هي الخاصة الواضحة في الأدب العربي في القرون الوسطى، فلو نظرت إلى الأدب الذي قيل في هذه الأغراض ولهذه الأسباب، لوجدته طاغيا على غيره من الآداب؛ أي إن الشاعر القدير قل أن يغني لنفسه في شرح عاطفة تملكته، أو مناظر أعجبته، أو يشعر للشعب في وصف آماله وآلامه، أو للإنسانية في وصف سرائها وضرائها، وإنما همه إذا أجاد أن يحتمي في حمى خليفة أو أمير أو وزير يغني له ويقول ما يعجبه.
لنضرب لذلك مثلا مختارات البارودي؛ فقد اختار لثلاثين شاعرا من شعراء الدولة العباسية، فبلغ ما اختاره لهم من المديح 24185 بيتا من الشعر، على حين أن ما اختار لهم من الأدب 1697 بيتا، ومن الغزل 4616، فإذا أضفت ما اختاره لهم من الرثاء والهجاء إلى المديح - لأنها كلها أرستقراطية - بلغت 32407، وهي نسبة كبيرة جدا لبيان طغيان الأدب الأرستقراطي على النزعات الأخرى، وخاصة إذا علمت أن كثيرا من الغزل كان ليس إلا تمهيدا للمديح، وأن كثيرا من أبيات الأدب ليست إلا تعليلا للمديح، ثم تبحث في كل هذا عن نصيب الشاعر من شعره، أو نصيب الشعب منه، فلا تجد إلا القليل.
وهذه ظاهرة طبيعية اجتماعية أيضا؛ فالخلفاء والأمراء كانوا كل شيء، والشعب مهمل إلا في النادر، فانصرف الفن إليهم، ومثل الأدب في ذلك التاريخ؛ فالتاريخ في هذه العصور لم يؤرخ إلا الملوك والأمراء وحروبهم ونزاعهم وموتهم وولادتهم، ويجهد المؤرخ الصادق الآن نفسه ليعثر على ما يستنتج منه حالة الشعب، فقل أن يجد كلمة في صفحات عدة. •••
سادت بعد ذلك الديمقراطية أوربا في العصر الحديث، وبنيت على أساسين: كل إنسان يجب أن يكون حرا، وكل إنسان يجب أن يشعر بالمسئولية؛ فالقوانين إنما توضع لحماية حرية الأفراد لا لتنفيذ إرادة الملوك، والفرد إذا أطاع القانون فإنما يطيعه لأنه يشعر بفائدته ولمواطنيه، لا لأن سلطة أخرى ينبغي أن تطاع، وعلى الجملة، فقد أحس الفرد أنه يسير نفسه لا يسيره غيره، وأنه سيد في نفسه لا عبد لغيره، ولو كان هذا الغير ملكا أو أميرا.
سادت هذه النزعة أوربا فصبغت كل شيء بلونها، فنظمت الحكومات على هذا الأساس الذي يضمن للفرد حريته ويشعره بمسئوليته، وأثرت في التعليم؛ فشعر كل فرد أن له الحق أن يتعلم، وعلى الحكومات أن تهيئ له وسائل التعلم، بل أثرت هذه النزعة في الانقلاب الصناعي والتجاري والزراعي، وأنتجت نتائج خطيرة ليس هنا موضع شرحها، وإنما الذي يهمنا هنا أنها أثرت كذلك في الأدب فحولته من أدب أرستقراطي إلى أدب ديمقراطي، فأخذ عظماء الأدباء يصورون هذه النزعة الجديدة، فملتن - مثلا - يكتب ويلح في الكتابة أن حقوق الناس أقدم من حقوق الملوك، وأن الناس ليسوا ملزمين بإطاعة الملك الظالم، وأن الناس ولدوا أحرارا، وليس الملوك إلا أجراءها، وكذلك فعل روسو في فرنسا وجفرسن في أمريكا، وأمثالهم كثير.
وتلون الأدب فأصبحت الأغاني الشعبية تتغنى بالحرية، وانتشر نوع من الأدب، وهو «اليوتوبيا» أو «الطوبى» أو «المدينة الفاضلة»، وهي الكتب التي ترسم صورا لمعيشة الناس عيشة أسعد مما يحياها الناس في الواقع، وتعددت موضوعات الأدب التي تؤيد الديمقراطية، فهذا أديب يشيد بالإنسانية، وهذا شاعر يؤيد أمة تجاهد في سبيل استقلالها، وهذا يشهر بظلم القوانين، وهكذا.
وصلت هذه الموجة في سيرها إلى الشرق، فأخذ يحارب الاستعمار، ويجاهد في نيل الحرية، وينشد الديمقراطية، وأخذ يقلد أوربا في حركاته وأعماله، وتشبع القادة بحب الديمقراطية، وتغنوا بها، ونشروا مبادئها بين الناس فآمنوا بها، ورسموا خططا لنيلها، فهذه خطب في المجالس النيابية، وهذه مظاهرات تعرقل أعمال المستعمر، وهذه احتجاجات ومؤتمرات وتشهير بالدول الأوربية وعسفها، إلى كثير من أمثال ذلك.
وأخيرا رأينا الأدب العربي يتبع هذه النزعة، ويبعد قليلا قليلا عن الاستظلال بالأمراء، ويقرب قليلا قليلا من الاستظلال بالشعب؛ فلئن كان شوقي في حياته الأولى شاعر الأمير، فهو في حياته الأخيرة شاعر الشعب، وأخذ شعراء العراق والشام ومصر يتغنون بالحرية، ويعلنون ألمهم من الظلم وأملهم في تحقيق العدل، وطرق كتابهم وشعراؤهم موضوعات شعبية صرفة بعد أن كانوا يقفون أدبهم وشعرهم على مديح الأمراء والخلفاء؛ فقاسم أمين يكتب في تحرير المرأة، وشوقي يشعر في بنك مصر، ويرثي مصطفى كامل وسعد زغلول، ويلتفت إلى موضوعات شعبية بحتة؛ كانتحار الطلبة والعمال ونهضة مصر؛ هذا شوقي الأرستقراطي فما بالك بحافظ الذي أخذ يتابع الحركة الديمقراطية ويصوغ فيها شعره!
وكان من أكبر مظاهر الديمقراطية في الغرب والشرق نضج «فن الروايات»؛ فهي تعنى أكبر عناية بتحليل حياة العامة والجماهير، وقلما تعنى بحياة البلاط، فالديمقراطية - لما كان أثرها الشعور بالذاتية - وجهت الأدب إلى تحليل الشخصيات وتحليل أنواعها وضروبها، وما كان يمكن أن يرقى هذا وذاك في أحضان السلطة الأرستقراطية.
وتبع شعور الفرد بنفسه وشخصيته أن رأينا كثيرا من الأدباء يتحولون من مدح غيرهم إلى تحليل نفوسهم؛ فطه حسين يكتب «الأيام» يشرح فيها طورا من أطوار حياته ويصور فيها مشاعره، وهيكل يشرح ما يشعر به في رحلاته إلى السودان والحجاز، والعقاد يحلل في بعض مقالاته نفسه ، بل يحلل نفسية كلبه وخادمه ... إلخ.
وعلى الجملة، ظهرت أعراض الديمقراطية في الأدب العربي بأشكالها المختلفة، وهي سائرة في طريق كمالها، فكما أن النزعة الأرستقراطية تعد الفرد للدولة، والنزعة الديمقراطية تعد الدولة للفرد، كذلك الشأن في الأدب؛ ففي العهد الأرستقراطي يعد الفنان ليكون طرفة للقصور، وفي العهد الديمقراطي تعد القصور لتكون طرفة للفنان.
وبعد أن كانت ساحة الأدب والشعر هي القصور؛ لأنها حصن الأرستقراطية، أصبحنا نرى ساحة الأدب هي الكتب والجرائد والمجلات؛ لأنها مظهر الديمقراطية، وبعد أن كان الأديب يعيش على موائد الأمراء ومن عطائهم وهباتهم أصبح الأديب والشاعر يعيش على موائد الشعب ومن عطائه وهباته، وإن كانت الشعوب أحيانا - وخاصة في الشرق - تهمل من يغني لها، فيلذها غناؤه ولا يؤلمها بؤسه وشقاؤه.
الفصل الخامس عشر
تعاون العرب في وضع دائرة معارف عربية
كل الأمم الحية اجتهدت في أن تضع لها دائرة معارف تشتمل كل الفروع، وهي تجددها كلما مر زمن تغيرت فيه معالم العلوم، حتى إننا نرى (الأنسيكيليوبديا) الإنجليزية جددت أربع عشرة مرة، وسارت الأمم الأخرى سير إنجلترا في دائرة معارفها، وكل أمة تعتز بذلك لأنه يدل على تقدمها ونهوضها ، ومن المؤسف أن الدول العربية لم تضع لها دائرة معارف كاملة إلى اليوم!
لقد فكر في ذلك في عهد إسماعيل المعلم بطرس البستاني، وأمده إسماعيل بجزء من المال، ولكن كان عيبها:
أولا:
أنه لم يكن قد وصل في تأليفها إلا إلى حرف العين ولم يتمها، واختارته المنية هو وابنه قبل إتمامها.
وثانيا:
أن العلوم والآداب والفنون تقدمت منذ عهده، ولم تعد دائرته صالحة كل الصلاحية.
وقام بمثل هذا العمل أيضا الأستاذ محمد فريد وجدي، ولكن عيبها أيضا أنها غير وافية، وثانيا، أنه اعتمد فيها على نفسه فقط، ولم يستعن بالإخصائيين، مع أن دائرة المعارف عادة تشمل الجغرافيا والتاريخ والأدب والطبيعة والكيمياء والحساب والهندسة والفلك وما إلى ذلك، ومحال أن يلم إنسان كائنا من كان بهذه الفروع كلها، فضلا عن التبحر فيها!
فما أحوجنا اليوم إلى دائرة معارف تناسب العصر ؛ نعم، قام بعض كبار المستشرقين بدائرة معارف إسلامية، ولكنها مقصورة على المواد الإسلامية من جهة، وغير مشبعة بالروح الإسلامية من جهة أخرى، وهذه الدائرة التي نطمح إليها لا بد أن يسبقها الفراغ من وضع المصطلحات الحديثة في الأدب والعلم والفن؛ ليستعين بها كتاب دائرة المعارف، وهذه وظيفة المجامع اللغوية؛ يضعون المصطلحات لهذه الأمور كلها، يفرغون منها ويتفقون عليها، والطريقة المثلى في ذلك أن يمسكوا بدائرة من دوائر المعارف الأجنبية الفنية ويفرغون من وضع مصطلحات لها، ثم يأتي دور كتاب دائرة المعارف.
ولا بد أن يتفرغ لها المتخصصون بجميع الأقطار العربية؛ كل في فرعه الخاص، من فلسفة وعلم وأدب وفلك ورياضة إلى غير ذلك، وهذا عمل ضخم يحتاج:
أولا:
إلى مال كثير؛ لأن الأيام عودتنا أن من لم يؤجر لا يعمل،
ثانيا:
يحتاج إلى إنشاء مكتب فني يكون من اختصاصه وضع الفيشات لكل المواد على حسب التسمية العربية، وتوزيع كل مادة أو طائفة من المواد على الفروع المختلفة، وهذا لا بد له من مهارة فنية خاصة،
وبعد ذلك يطبع طبعا أنيقا محلى بالصور والخرائط، وتساهم فيه جميع الأقطار العربية، وعندئذ فقط يمكن أن نقول إننا وضعنا الحجر الأساسي للنهضة الشرقية؛ فدائرة المعارف هذه كفيلة بأن تذيع الثقافة العالية بين المتنورين من المتكلمين بالعربية، ولا نكون إذ ذاك عالة على الغربيين في دوائر معارفهم، ويمكن بعد ذلك أن نقوم باختصار لهذه الدائرة لتكون قرب اليد ونهزة المستنجد.
وربما كان لا بد أن يسبق هذا تنسيق وتوسيع للمعاجم المختلفة؛ هذا معجم للغة يوافق حاجات العصر، وهذا معجم للطب كذلك، وهذا معجم للجغرافيا، ونحو ذلك؛ بحيث تكون مواد أولية لدائرة المعارف، وإذا كان الغربيون يولون أكبر عنايتهم لعلماء الغرب ونوابغهم وشعرائهم وأدبائهم وفلاسفتهم، فلنول نحن عنايتنا برجالنا ونوابغنا وعلمائنا وفلاسفتنا وأدبائنا وشعرائنا؛ سواء منهم الأقدمون أو المحدثون، وإذا كان الغربيون يولون اهتمامهم لجغرافية بلادهم، فلنول نحن اهتمامنا بجغرافيتنا، ولنا من التراث القديم والتراث الحديث ما يملأ أجزاء عدة، وعندنا من المختصين في كل علم وفن من يستطيع أن يملأ مادته بحمد الله، مستعينين على ذلك بما سبقنا به الغربيون في تدوين دوائر معارفهم، وعندنا أيضا من الموسوعات اللغوية أمثال لسان العرب والمخصص، والموسوعات الأدبية والتاريخية والجغرافية أمثال نهاية الأرب وصبح الأعشى ونحو ذلك.
ولم تبق أمة حية على وجه الأرض من غير أن يكون لها دائرة معارف بلغتها، تسايرها مع الزمن، وكلما تقدم العلم والفن طبعتها طبعة جديدة تساير العلم والفن، إلا الشعوب العربية؛ لأنها وقفت ولم تقم بهذا العمل، وربما كان أكبر سبب في ذلك أن الشعوب العربية لم تضع مصطلحات حديثة للعلوم والفنون الحديثة، وإذا وضعت شيئا لم تتفق كل البلاد على مصطلح واحد؛ هذه بلد تقول الطبيعة، وأخرى تعرب الكلمة الإفرنجية وتسميها فيزيقيا، وهكذا يجب أن توحد هذه المصطلحات أولا، وتتم ثانيا، ثم تستغل في دائرة المعارف ثالثا، فمما لا شك فيه أن دائرة المعارف هذه من أول مظاهر المدنية الحديثة.
وقد كان المسلمون الأولون يؤلفون دوائر معارف؛ مثل إخوان الصفا في الفلسفة، وكتب الجاحظ في الاجتماعيات والأدبيات ونهاية الأرب ومسالك الأبصار في العلوم المختلفة، ولكنها لم تكن شاملة من جهة، ولم تكن مرتبة على حسب حروف المعجم من جهة أخرى، فجاءت المدنية الحديثة فنظمت هذا العمل ووسعته، وجعلته وفق حاجات العصر الحديث، فما بالنا لا نعمل عملهم ولا نسير سيرهم، والحاجة شديدة إلى مثل عملهم!
إن كثيرا من الشبان يهرعون إلى دوائر المعارف الأجنبية، فيأخذون منها بغيتهم، ولكن المثقفين باللغة الأجنبية في كل أمة عدد قليل، بجانب الكثرة البالغة ممن لا يعرفون غير لغتهم، ولقد سئل السيد أحمد خان (رحمه الله)، عن أيهما خير: أنعلم طائفة من الهنود لغة أجنبية أم ننقل العلوم والمعارف الأجنبية إلى لغة البلاد؟ فنصح بالطريقة الثانية؛ لأنها تثقف عددا أكبر، وقال: لوددت أن أكتب بحروف من نور على جبال الهملايا مطالبا بنقل العلوم والمعارف الأجنبية إلى لغة البلاد.
لقد مر على الأمم العربية زمان طويل يزيد على مئة سنة، وكان هذا يكفي لتعريب المصطلحات الأجنبية ، واستخدامها في دائرة المعارف العربية، ولكن شيئا من هذا لم يحدث إلى اليوم فتراكمت المصطلحات والمعلومات، وأصبح العمل شاقا عسيرا؛ لأن العلم لم يقف عند حد، وكلما مر الزمن تضاعفت المواد، فما لم تبادر الأمم العربية غرقت في هذا التيار الغزير قبل أن تتغلب عليه، ومن غير شك تأليف دائرة المعارف العربية ومساهمة الشعوب العربية في وضعها يوثق الصلات بينها، ويقلل من الاختلافات اللغوية والعلمية والأدبية، ويجعلها تسير سيرا واحدا، وفي طريق واحد.
قد تسألني: إن هذا العمل الضخم يحتاج إلى مال كثير، فمن أين نأتي بهذا؟ فأقول: إن هذا المال يسهل على الشعوب العربية المختلفة أن تتحمله؛ فهي قادرة على تخصيص مليون من الجنيهات، أو مليونين، أو أكثر متى صدقت النية، ومثل هذه المبالغ أنفقت فيما يقل عنها فائدة، ولكن العلم والأدب ضائعان دائما، وتبذر الأموال فيما لا يبقى ولا يفيد، وتحجز الأموال عما يبقى ويفيد، واستنارة مئة واحدة من كل أمة من هذا العمل الضخم يساوي هذا المبلغ أو أكثر منه؛ فقتل الجهل لا يقل شأنا عن إحياء نفوس الأفراد، والشرقيون على العموم لا تنقصهم الفكرة الصالحة، فعندهم آلاف من الآراء النافعة، ولكن ينقصهم ربط الفكرة بالعمل، والتنظيم الإداري للتنفيذ، والأمم تختلف في ذلك اختلافا كبيرا؛ فالأوربيون على العموم أكثر تنفيذا للفكرة من الشرقيين، وربما كان الأمريكيون أكثر من الأوربيين في ذلك؛ فقد عد من أكبر فضائلهم ربط الفكرة بالعمل، ولو كانت الفكرة غريبة.
أما الشرقيون، فلا يخلو مجلس من مجالسهم من اقتراحات، ومن تعداد للعيوب، ومن ذكر وسائل لإصلاحها، ولكن كل هذه المجالس تنتهي بعد الأخذ والرد بقولهم ... أصلح الله الحال ... لأن الله لا ينزل الإصلاح من السماء، من غير مباشرة عمل منهم، وقد عهدنا - كما قال عمر - أن السماء لا تمطر ذهبا ولا فضة، ونقول نحن: ولا تمطر دوائر معارف، ولا تمطر أنواع الإصلاح المختلفة، ما لم يبدأ الزعماء بالعمل، والله الموفق!
الفصل السادس عشر
أبو نواس
الشاعر المجدد
شهد العصر العباسي الأول زعيمين من زعماء التجديد في الشعر:
أولهما:
بشار ابن برد
وثانيهما:
أبو نواس
فأما بشار فأكبر ميزة له - استحق من أجلها أن يلقب بزعيم المحدثين - أنه كان فنانا بارعا، استطاع أن يصور بفنه الحياة الاجتماعية الجديدة في العصر العباسي تصويرا دقيقا؛ فقد تغير نظام الحياة الاجتماعية عما كان عليه في الدولة الأموية في جميع مناحي الحياة: في اللهو وفي الجد، وفي السياسة وفي العلم، وفي النزعات المختلفة من عصبية غريبة، وميل إلى الشعوبية، وغير ذلك، فكانت كل هذه النواحي تتطلب شاعرا ماهرا ينغمس فيها ويصورها، ويغترف منها ويعرضها، لا يكون مقلدا في شعره جاهليا ولا أمويا؛ لأن الحياة العباسية ليست جاهلية ولا أموية، فوجدت في بشار لسانها الناطق وريشتها الماهرة ويدها الفنانة؛ فغزله لم يكن بدويا متعففا، إنما كان حضريا متهتكا، وفخره لم يكن بقبيلته، إنما كان بفارسيته، وهجاؤه لم يكن كهجاء جرير والفرزدق والأخطل يعير بعضهم بعضا بفعال القبائل، إنما كان يهجو بالرمي بالكفر والزندقة والقدح في الأعراض في فحش وشناعة.
وعلى الجملة، فكان يجيد صياغة ما يتحدث به الناس، وما يحبون، وما يكرهون، وما يعرفون، وما ينكرون، وكما أصبحت حياة الناس ناعمة رخوة أصبح شعر بشار في الكثير الغالب ناعما رخوا، يفهمه الرجال والنساء، والأحرار والإماء، ويتمثلون به في مواقفهم، ويتغنون به في مجالسهم، ويشعرون أنه المعبر عن عواطفهم، المغذي لمشاعرهم.
إن أغرم الأصمعي وأبو عمرو بن العلاء وأمثالهما من العلماء بشعر الجاهلية وبشعر جرير والفرزدق والأخطل من الأمويين، للغته وغريبه، فإن الشعب أغرم بشعر بشار؛ لأنه صورة صادقة له، يمثل حياته ويرسم آلامه.
من أجل هذا كله كان بشار زعيم المجددين.
المجدد الثاني
وجاء بعده أبو نواس، فسار على أثره وجدد ما فاته، فإن كان بشار يستحق لقب «المجدد الأول» فإن أبا نواس يستحق لقب «المجدد الثاني».
ولنعرض الآن في إيجاز لضروب التجديد التي أتى بها أبو نواس:
رأى أبو نواس طائفة كثيرة من الشعراء لا يزالون يتبعون منهج الجاهلية في الشعر، فيبدءون بالوقوف على الأطلال، وبكاء النؤى والأحجار، ولا أطلال في العراق ولا نؤى ولا أحجار، ويشمون الشيح والقيصوم، ولا شيح ولا قيصوم، ويشعرون شعرا بدويا، وهم يعيشون عيشا حضريا؛ فيصفون الإبل وسيرها، والصحراء وأرضها ونبتها، والصيد وضباعه وذئابه، والجزور وما فعلوا به، والخيام وطنبها وأوتادها، ويعددون أسماء القبائل وفعالها، ولا شيء لهم في الحقيقة من ذلك، لا يصفون واقعا، وإنما يصفون خيالا، ولا يعبرون تعبيرا صادقا، ولكن تقليدا وادعاء.
فصرخ فيهم أبو نواس صرخة قوية، يريد أن يردهم عن باطلهم، ويصدهم عن تصنعهم، ويطلب إليهم أن يصفوا أنفسهم، ويشعروا في واقعهم، فإذا لم يشموا عرارا فيجب ألا يذكروا العرار، وإنما يذكرون الورد والنرجس، وإذا كانوا يشربون الخمر، فلا يصفون شرب الألبان، وإذا كانوا يأكلون لحوم الضأن، فلا يذكرون أكل الضب، وإذا كانوا لا ينتسبون إلى قبائل، فما معنى ذكر أسد وطيء وتميم وقيس، وقد أكثر من ذلك في قصائده؛ ولا سيما الخمريات، فقل أن تخلو قصيدة فيها من التنبيه على هذا المعنى.
دع الأطلال تسفيها الجنوب
وتبكي عهد جدتها الخطوب
وخل لراكب الوجناء أرضا
تحث بها النجيبة والنجيب
ولا تأخذ من الأعراب لهوا
ولا عيشا فعيشهم جديب
ذر الألبان يشربها أناس
رقيق العيش عندهم غريب
بأرض نبتها عشر وطلح
وأكثر صيدها ضبع وذيب
إذا راب الحليب فبل عليه
ولا تحرج فما في ذاك حوب
فأطيب منه صافية شمول
يطوف بكأسها ساق أريب •••
عاج الشقي على رسم يسائله
وعجت أسأل عن خمارة البلد
يبكي على طلل الماضين من أسد
لا در درك قل لي: من بنو أسد
ومن تميم ومن قيس ولفهما
ليس الأعاريب عند الله من أحد
لا جف دمع الذي يبكي على حجر
ولا صفا قلب من يصفو إلى وتد
كم بين ناعت خمر في دساكرها
وبين باك على نؤى ومنتضد
والديوان مملوء بالشواهد على هذا المعنى، فهو يريد أن يكون الشعراء واقعيين، يصفون حياتهم، ويذكرون لذاتهم، ولا لذة عنده خير من الخمر، ولا ذكر أحلى عنده من ذكر الخمر، وهو في هذا أسبق الشعراء إلى هذه الدعوة - فيما أعلم - وأصرحهم، وإن كانت دعوته لم تلق نجاحا كبيرا، فظل الشعراء بعده إلى يومنا يصفون الأطلال، ويقطعون الفيافي على ظهور الإبل، ويستعذبون ذكر الجمل والهودج، وإن ركبوا القطار والطيارة، حتى إن أبا نواس لم يلتزم مذهبه دائما، ووقع فيما حذر منه أحيانا؛ فكان يقول مثلا:
أربع البلى إن الخشوع لباد
عليك وإني لم أخنك ودادي
ويقول:
لمن دمن تزداد حسن رسوم
على طول ما أقوت وطيب نسيم
ويقول:
ألا حي أطلال الرسوم الطواسما
عفت غير سفع كالحمام جواثما
أبرز نواحيه في التجديد
وعلى العموم، فقد كان مجددا يدعو إلى الحياة الواقعية في باب اللذائذ، ويسير في كثير من الأحيان على نمط السابقين في باب المديح، وشأنه في ذلك شأنه في اللغة والأسلوب أيضا؛ فهو في باب اللذائذ يذوب رقة، وينفر من الغريب، ويترك على سجيتها لا تكلف ولا تصنع، وهو في باب المديح جزل الأسلوب، جار على نمط القدماء، مستعمل للغريب من الألفاظ، والرصين من الأسلوب، كما ترى في قصيدته: «أيها المنتاب من عفره».
ومن أهم ما أتى به أبو نواس أنه فلسف اللذة كما فلسف أبو العتاهية الزهد ، لقد أوتي أبو نواس حسا مرهفا لإدراك اللذة، وشعورا حساسا دقيقا للاستمتعاع بها، ولسانا فنانا في التعبير عنها، يلذ الخمر والغلمان، ويلذ أن يسمع اسميهما، ويلذ أن يقول فيهما، فأفاض في الحديث عنهما كما أفاض في الاستمتاع بهما، وأخذ يولد المعاني فيهما حتى كاد لا يدع معنى لقائل.
قد شعر بشار في الخمر قبله، ولكن ما وصل إلينا من شعره فيها قليل، وهو فيه لا يكاد يخرج عما استنه قبله الأعشى والأخطل، وقال فيها مسلم بن الوليد فأبدع بعض الإبداع، ولكن أحدا منهما لم يدان ما قال فيها أبو نواس، ولقد أبدع في تصويرها وتشبيهها وفعلها في النفس، كما أبدع في كل ما يتصل بها من نديم وساق وكأس وخمار، وكما أبدع في وصف مجلسها وما فيه من ريحان وأزهار وطرب وغناء وجوار وغلمان.
يشربها صرفا وممزوجة، وفي السر والجهر، وشربا متواصلا ومتقطعا، ومطبوخة بالشمس وبالنار، وفي الدور وفي البساتين، وساقيه جارية أو غلام، أو جارية في زي غلام، ويشرب في الأرطال وفي الكؤوس العسجدية قد صورت عليها التصاوير، وهو في كل هذه يصف فيجيد الوصف، ويظل وراء المعنى يولده ويقلبه على أشكاله المختلفة حتى يستنفده، وما يفوته في قصيدة يتممه في أخرى، حتى أوفى في ذلك على الغاية، وخلف للشعراء بعده ثروة ظلوا ينفقون منها إلى اليوم.
ويطول بنا القول لو عددنا المعاني التي ابتكرها والمعاني التي أخذها من غيره فجملها وزينها، وأخذها - كما يقولون - عباءة وأخرجها ديباجا.
كذلك كان شأنه في الغزل بالمذكر، هل هو منشئ هذا الباب وفاتحه على مصراعيه؟ فقد فشا حب الغلمان والحديث عن الغلمان في عصر أبي نواس أكثر مما كان في عصر بشار، وأفرط الناس فيه، وتسرب إلى قصور بعض الخلفاء، حتى إن زبيدة رأت هذه الميل في الأمين فاتخذت له سربا من الجواري في زي الغلمان، وأطلق عليهن «الغلاميات»، فكان أبو نواس أصدق معبر عن هذا المرض الاجتماعي لتهتكه وفجوره، ولنشأته منذ صباه هذه النشأة، فتفنن ما شاء في وصف الغلمان وقدودهم وخدودهم، وكل ما يتصل بهم، وكون من ذلك كله بابا في غزل المذكر، على نمط ما قال الشعراء قبله في غزل المؤنث، وأضاف إلى أبواب الأدب بابا جديدا لا يزال مفتوحا إلى اليوم.
فكاهته الحلوة
وشيء آخر كان لأبي نواس فيه الحظ الأوفر والقدح المعلى، وهو فكاهته الحلوة، ونادرته العذبة، ومجونه الفكه؛ فقد كان ينغمس - كما قلنا - في الملاهي والملذات، ويعل منها وينهل، وقد كان مع هذا صريحا إلى أقصى حدود الصراحة، لا يهاب أحدا، ولا يرعى دينا، فيرسل نفسه على سجيتها، ويصوغ من مجالسه وحياته وخلانه وندمانه شعرا لطيفا يستخرج العجب ويثير الضحك، ويعمد إلى من يعيبون عليه استهتاره، وإلى المتزمتين من رجال الدين ورجال اللغة، وإلى الثقلاء من أي صنف، فيهجوهم ويتنادر عليهم، ويلذعهم لذعا فاحشا مؤلما في لغة سهلة سلسلة يفهمها كل من سمعها، وفي دعابة قاسية مضحكة.
ومن أجل ذلك اشتهر أبو نواس بالفكاهة والمجون، وجرى أهل زمانه على مثاله، فداعبوا مداعبته ومزحوا مزاحه، وأرادوا ذيوع نوادرهم، وأن تقع من الناس موقعا حسنا، فنسبوها إليه كما نسبوا إلى «جحا» كل ما صنع بعده من جنس قصصه وملحه.
أما بعد، فقد وضع أبو نواس في الأدب العربي أسسا إن لم ترض الأخلاق، فقد أرضت فن الأدب، وإن كرهها رجال الدين، فقد أحبها رجال الفن، على أن رجال الدين ورجال الأخلاق وإن كرهوها من أبي نواس، وشددوا النكير عليها، فلم يمنعوا أنفسهم من الانتفاع بها والاستفادة منها؛ فقال الصوفية في الغزل الإلهي ما قال أبو نواس في الغزل المادي، ووصفوا خمرهم الروحية بما وصف به أبو نواس خمره الحسية، وما قاله أبو نواس صراحة، قالوه هم كناية، فكان هو المشرع لهم، وسالك الطريق قبلهم.
الفصل السابع عشر
صفحة من سير البطولة العربية
(1) أبو عبيدة بن الجراح
بطل من أبطال قريش، اشتهر في قومه قبل إسلامه بالرأي والدهاء، فكان يقال: داهيتا قريش أبو بكر وأبو عبيدة بن الجراح، وكان من أسبق الناس إلى الإسلام، وكان مخلصا لدينه، مخلصا لعقيدته ، مخلصا لرسول الله منذ أسلم، حتى لقبه رسول الله بأمين هذه الأمة؛ علما بصدق إيمانه وقوة يقينه: استخلفت أمين الله وأمين رسوله.
ظهرت بطولته حين صحب رسول الله في غزواته، ثم ولاه أبو بكر قيادة جيش من الجيوش التي وجهها لفتح الشام، فلما تولى عمر قيادة الجيوش كلها التي أرسلت لفتح الشام، بعد أن عزل عن الإمارة خالد بن الوليد، ففتح دمشق بعد أن حاصرها سبعين ليلة، ثم سار إلى أرض الأردن وهزم جيوش الروم، ثم سار إلى بيسان ففتحها، ثم إلى حمص وحماة وحلب وأنطاكية، ففتحها كلها؛ إما عنوة وإما صلحا.
وكل بلدة يفتحها يرتب فيها الجيوش المحافظة عليها، وينظم شئونها، فيبسط العدل فيها، حتى إذا رأى أهل البلاد حكم المسلمين لهم، ووازنوه بحكم الروم، فضلوا حكم المسلمين، ومكنوا لهم من البلاد، وعاونوهم في الفتح.
لقد جمع أبو عبيدة بين مهارته الحربية ومهارته السياسية؛ فإذا حارب عرف كيف يقاتل، وكيف يحاصر، وكيف يفتح، فإذا تم له الغلب عرف كيف يسوس الناسن وكيف يحكمهم بالعدل حتى يستخرج رضاهم.
متواضع لا يرى لنفسه ميزة على أي رجل من جنده؛ لقد كان يأبى أن يقدم إليه شيء أكثر مما يقدم لجندي من جنوده، ومات ولم يملك من حطام الدنيا إلا سيفه وترسه، ولم يكن في بيته ما يأكل إلا كسيرات من الخبز.
من أجل هذا كان أبو عبيدة من أحب الناس إلى جنده، ومن أحبهم إلى من يتولى عليهم، ومن أحبهم إلى خليفته؛ فيروون أن عمر بن الخطاب قال يوما لجلسائه: «تمنوا»، فأخذ كل جليس يتمنى، فقال عمر: «أما أنا فإني أتمنى بيتا ممتلئا رجالا مثل أبي عبيدة بن الجراح»، وقال فيه عبد الله بن عمر: «ثلاثة من قريش أصبح الناس وجوها وأحسنهم أحلاما وأثبتهم جنانا، إن حدثوك لم يكذبوك، وإن حدثتهم لم يكذبوك: أبو بكر الصديق، وعثمان بن عفان، وأبو عبيدة بن الجراح».
فلو قلنا إن فتح الشام وفلسطين في العهد الأول من عهد الإسلام كان أكبر الفضل فيه لأبي عبيدة بن الجراح لكان قولا صادقا؛ لقد تم الفتح بحسن قيادته، وما وضعه من خطط، وما بث في نفوس الجنود من حماسة، حتى يروى أنه في واقعة من وقائع الشام استعظم الناس جند الروم واستعدادهم وكثرتهم، فقام أبو عبيدة في جنده خطيبا يقول: «أيها الناس! إن هذا اليوم له ما بعده، أما من حي منكم فإنه يصفو له ملكه وقراره، وأما من مات فإنها الشهادة، فأحسنوا بالله الظن، ولا يكرهن إليكم الموت أمر قد اقترفه أحدكم دون الشرك، توبوا إلى الله وتعرضوا للشهادة، فإني أشهد وليس الأوان أوان كذب أني سمعت رسول الله يقول: «من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة».
فلما سمعها الجند كانوا كأنما فكوا من عقال، ونشطوا نشاطا لم ير مثله، وخرج بهم إلى القتال وخالد بن الوليد على الميمنة، وابن عباس على الميسرة، وأبو عبيدة في القلب، فقاتلوا قتالا عنيفا حتى انهزم هرقل بجنوده، وظفر المسلمون ظفرا عظيما.
وتم فتح الشام وفلسطين والأردن كلها على يده وعلى يد أعوانه من القواد العظام؛ أمثال خالد بن الوليد، وخالد بن سعيد، وعمرو بن العاص، ويزيد بن أبي سفيان، ومعاوية، وحبيب بن مسلمة الفهري.
وقد عاش ما عاش لدينه وعقيدته، ولم ينل شيئا من الدنيا، حتى إن عمر حين قدم إلى الشام واستقبله أبو عبيدة قال له عمر: «اذهب بنا إلى بيتك»، ولعله كان يريد استطلاع ما ادخره أبو عبيدة، وهل يعيش عيشة ترف ونعيم، فقال له أبو عبيدة: «وما تصنع عندي؟ ما تريد إلا أن تعصر عينيك علي!»، ثم دخل منزله فلم ير شيئا، فقال: «أين متاعك وأنت أمير؟»، ثم سأله: «أعندك طعام؟»، فقام أبو عبيدة إلى جونه فأخرج منه كسيرات، فبكى عمر وقال: «غيرتنا الدنيا كلنا غيرك يا أبا عبيدة».
حتى لقد كان عظيما في موته؛ فقد أصيب في الشام بطاعون في سنة ثماني عشرة من الهجرة، سمي طاعون عمواس، وانتشر في البلاد، وكان أبو عبيدة قائد الجند، ومات من جنده كثير، فاستدعاه عمر أن يذهب إلى المدينة؛ خوفا من عمر أن يصيب أبا عبيدة ما أصاب الجند من الطاعون، فأبى أبو عبيدة، وكتب إليه:
إني في جند من المسلمين، لن أرغب بنفسي عنهم، فإذا أتاك كتابي هذا، فحللني من عزمتك، وائذن لي في الجلوس.
وبقي في الجند يتعذب عذابهم، ويتحمل العناء معهم، حتى أصابه الطاعون فمات عظيما كما عاش عظيما. (2) صلاح الدين الأيوبي
أحدثكم عن بطل آخر عظيم من أبطال العرب، وهو صلاح الدين الأيوبي، وهو - لا شك - بطل عربي مهما قيل إن أصله كردي، وإن مولده في آذربيجان؛ ففي اعتقادنا أن كل من نشأ في البلاد العربية وتثقف الثقافة العربية عربي، وهذا هو الشأن في جميع العالم؛ فمن نشأ في إنجلترا وتثقف الثقافة الإنجليزية فهو إنجليزي؛ سواء كان أجداده فرنسيين أو ألمانا، وهكذا الفرنسيين والألمان، وإلا ما عد نابليون فرنسيا، ولا بعض ملوك إنجلترا إنجليزيا، وهكذا؛ فصلاح الدين عربي بهذا المعنى من غير شك.
ما أصدق قولهم: إن التاريخ يعيد نفسه فيما يلقاه العرب اليوم في فلسطين، واضطهاد العالم الغربي لهم، وعدم مراعاة أبسط قواعد العدل معهم ليس جديدا، وإنما هي رواية مثلت من قبل مرارا بالشكل الذي تمثل به اليوم، ولأقص عليكم كيف مثلت هذه الرواية في عهد صلاح الدين الأيوبي.
فقد تألب على المسلمين في العصور الوسطى رجال الدين والأمراء، وكان لرجال الدين المسيحي السلطة والكلمة المسموعة، لا يستطيع ملك أو أمير أن يخالف كلمة البابا وإشارته؛ ففي سنة 1095م، أعلن الباب في مجمع رجال الكنيسة الحرب على المسلمين، واكتساح أرضهم، وأخذ بيت المقدس منهم، فأطاعت الأمر، ولبت الدعوة الأمراء والشعوب المسيحية، فكانت الحروب الصليبية، وقادها أربعة من كبار أمراء أوربا، فساروا بجموعهم واكتسحوا الأناضول، وما زالوا في انتصاراتهم وتقدمهم حتى دخلوا الشام وأقاموا به أربع دول، عليها أربعة أمراء منهم، وهي: «الرها» و«أنطاكية» و«طرابلس» و«بيت المقدس».
ارتاع العالم العربي الإسلامي لهذه الأحداث العظيمة، وهو المعتز بدينه، الفخور بقوميته، الذي يرى بحق أن مدنيته وعزته خير وأعظم من مدنية أوربا إذ ذاك، ولكنه كان مفرقا مبعثرا لا تجمعه جامعة؛ فدولة الفاطميين في مصر تعالج سكرات الموت، والبلاد التي كانت تكون الدولة العباسية مقسمة موزعة بين أمراء مختلفين، والعداء مستحكم بين الفاطميين في مصر والعباسيين في العراق وما إليه، فجاءت صدمة الحروب الصليبية فنبهتهم من رقدتهم، وأرتهم عاقبة تفرقهم.
وكانت نفسية الشعوب خيرا من نفسية أمرائهم؛ فصرخت الشعوب تنبه على الخطر، وتدعو إلى ترك الخلاف بين الأمراء وتضحية شهواتهم للمصلحة العامة، وإبعاد من لم يلب الدعوة منهم، وعلى هذا الوجه تمت إرادة الشعوب، وظهر في العالم العربي إذ ذاك بطلان عظيمان يقودان هذه الحركة، ويخصصان أنفسهما لدفع العدو المغير على البلاد، وهما: نور الدين محمود زنكي، وكان والي حلب ودمشق وما حولها، وقد أبلى بلاء حسنا في رد الصليبيين، وأخذ بعض البلاد الإسلامية منهم، والثاني: بطلنا صلاح الدين الأيوبي، الذي بدأ فوحد البلاد المصرية والشامية وغيرهما، وجعلها كلها في قبضة يده، حتى كانت مملكته تمتد إلى آخر حدود النوبة جنوبا وبرقة غربا، وبلاد الأرمن شمالا، وبلاد الجزيرة والموصل شرقا، وبعدما تم له ذلك وجه كل قوى هذه البلاد لطرد الصليبيين إلى بلادهم، فكان له ولشعوبه العربية ما أرادوا.
لقد كان صلاح الدين يفكر أيضا هل يحارب في ميادين متعددة أو يحارب في ميدان واحد؟ ثم هداه طول التفكير إلى الرأي الثاني، وهو الحرب في ميدان واحد، فكان من ذلك واقعة «حطين» العظيمة.
لقد استدرج صلاح الدين خصومه حتى تجمعوا له، فنازلهم بمجموعة في حطين بالقرب من طبرية، وتحمس الفريقان حماسة هائلة، وكان في الصليبيين فرقتان مشهورتان بالبسالة والاستماتة في القتال؛ وهما فرقتا الداوية والاسبتارية، أشبه شيء اليوم بفرقتي الهاجانا واشترن، وبيعت الأرواح في هذا اليوم بيع السماح، وحرض صلاح الدين المؤمنين على القتال، وكان الزمن زمن قيظ، فكانوا مع ذلك يأتون بالعجائب من أعمال البطولة، وأخيرا هزمت جيوش الصليبيين، وأسر الملك واستسلم من بقي من الفرسان، ووصف واصف ما حدث في تلك الموقعة فقال: «وكان من يرى الأسرى لكثرتهم لا يظن هناك قتلى، فإذا رأى القتلى حسب أنه لم يكن هناك أسرى»، ولما شاهد صلاح الدين ذلك سجد لله شكرا وبكى من السرور.
وأثر انتصاره في موقعة حطين على موقف القتال جميعه، فكان ينتصر بالرعب، فإذا توجه لحصار بلد انخلعت قلوب الصليبيين لمقدمه، فسلمت له قلعة طبرية سريعا، ثم سار إلى عكا ففتحها في زمن قليل، ثم طهر الساحل من يافا إلى ما بعد بيروت، ولم يضع الزمن فانقض على الصليبيين في بيت المقدس وحاصرها حصارا شديدا؛ وعرض على أهلها الصلح، وأن يعوضهم أرضا زراعية فأبوا، فاستعد لقتالهم، وتلمس نقط الضعف في سور المدينة، فوجد أضعف نقطة عند الباب المعروف بباب كنيسة صهيون، فنصب المجانيق، ونظم الرماة، وبعث بالجنود تنقب الثغرات، فلما يئس الصليبيون من أمرهم بعد حصار وقتال داما أسبوعا استسلموا، وبعثوا إلى صلاح الدين يطلبون الصلح، فأبى صلاح الدين أولا، وطلب أخذ المدينة عنوة؛ ليفعل بالفرنج مثل ما فعلوه بالمسلمين يوم دخلوا المدينة.
ولكنه قبل أخيرا الصلح على أن يدفع كل رجل يريد الخروج عشرة دنانير، وكل امرأة ثلاثة، وكل طفل اثنين، وبدأ تسليم المدينة وخروج الصليبيين منها في أكتوبر سنة 1187، ودخل صلاح الدين بيت المقدس بجيشه الظافر بعد خروج الصليبيين منها، وهكذا تمت هذه الصفحة البيضاء من أعمال صلاح الدين وقومه، وخرج الصليبيون مخذولين مهزومين من بيت المقدس بعد أن استولوا عليه نحو قرن.
هذه رواية مثلت قديما في هذه البلاد كما تمثل اليوم، ولم يتغير في الرواية إلا أن أوربا كانت تبعث بجنودها الصليبيين وتقذف بهم لفتح فلسطين، واليوم تؤيد أوربا وأمريكا هؤلاء الصهيونيين لفتح فلسطين، ونرجو أن تتم الرواية أخيرا كما تمت أولا، فالله يهب نصره لمن أخلص له، وصدق عهده، وبذل الأرواح والأموال لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الكافرين السفلى.
هذه صفحة من صفحات بطلنا صلاح الدين، وما أكثر صفحاته المجيدة، والسلام عليكم ورحمة الله. (3) أسامة بن منقذ
أحدثكم عن بطل آخر من أبطال العرب، دوى اسمه في أيام الحروب الصليبية، وكان له من أعمال البطولة في الحروب ما يستحق العجب والإعجاب، وحفظ لنا التاريخ سيرته بطلا عظيما وأديبا كبيرا، يسجل بطولته بفعاله، ويسجل نواحي عظمته في شعره؛ ذلك البطل هو أسامة بن منقذ.
لقد كان عربيا من كنانة، وكان قومه يسكنون مدينة وحصنا على بعد خمسة عشر ميلا شمالي حماة، بالشام، تسمى المدينة شيزر، والحصن حصن شيزر، وقد اشتهرت هذه المدينة والحصون بأعمال البطولة من جانب العرب ومن جانب الصليبيين؛ لأنها كانت مركزا هاما، تشرف بارتفاعها على المسالك حولها، ويتحكم من فيها على الجنود الغادين والرائحين.
وكان من سوء الحظ أن سقطت هذه المدينة وهذا الحصن في أيدي الصليبيين، فآذوا العرب به إيذاء كبيرا، حتى قيض الله للعرب رجلا من كنانة شجاعا مقداما، قوي النفس كريما، جمع قومه في هدوء، وتحين الفرصة حتى وجدها، فطوق الحصن، وحاصره حصارا شديدا، فلم يجد الصليبييون بدا من الاستسلام وطلب الأمان، وكان هذا البطل الكناني جد بطلنا أسامة بن منقذ.
وكان أهل حصن شيزر ومدينة شيزر يعيشون عيشة حربية بطبيعة مركزهم؛ إذ كانوا إما أن يغيروا على الأعداء أو يغير عليهم الأعداء؛ فهم إما في حرب أو استعداد لحرب، على هذا كانت رجالهم وشبانهم وشيوخهم وفتياتهم ونساؤهم، كل شجاع لا يهاب الموت، وكل له وظيفته في الحرب؛ فقد يبلغ الشيخ الستين، بل والسبعين، فإذا دعا داعي القتال أمسك سيفه وخرج للغزو أو للدفاع، والفتاة تختار زوجها لإتيانه بعمل من أعمال البطولة، والأم تترك بنتها حارسة للدار وتخرج مع الجيش للقيام بواجبها في القتال، والموت في نظرهم أمر عادي، لا بأس به إذا نزل، وتربيتهم لأبنائهم وبناتهم تربية حربية عمادها الفروسية.
هذا أسامة يعود من صغره أن يخرج مع أبيه وأعمامه لصيد الوحوش، وكان بالشام إذ ذاك غابات تسكن فيها السباع والضباع، فلما شب كان يخرج لصيدها، وقد حدث أسامة عن نفسه بما لقيه من تجارب في صيد الأسود، وأبوه يعرضه للموت من غير خوف:
رأى أبوه حية عظيمة في قاعة من قاعات داره، وبجانبه أسامة، فقفز أسامة وأخرج سكينا من وسطه، ووضعها على رقبة الحية وهي نائمة، فلما انتبهت التفت حول يده، وما زال بها حتى قتلها، وما جزع أبوه وما فزع، بل تبسم واغتبط!
وهكذا تعلم النزال في الصيد مقدمة لنزال الرجال في الحرب، وبدأ حياته الحربية وهو في الخامسة والعشرين من عمره؛ إذ خرج مع عمه ونفر من قومه، فخرج عليهم جماعة من الصليبيين أكثر منهم عددا، وقاتلوهم قتالا تشيب من هوله الأطفال، وأخذ الموت يحصد رجال أسامة، وكان تحته فرس مثل الطير في سرعة العدو وخفة الحركة، فأخذ يطعن هذا ويدور على آخر، ويحمي ما استطاع من قومه، فإذا أصيب فرسه ركب أخرى، حتى انتصر على أعدائه، ورجع هو ومن بقي من أصحابه إلى شيزر سالمين، وفي المساء وصل إلى الحصن رأس الفرقة الصليبية ليهنئ عم أسامة بما رأى من أسامة من شجاعة ومهارة وإقدام في القتال على عادة الفرسان إذ ذاك.
وظل على هذا الحال طول حياته؛ كل يوم غارة منه يغيرها، وغارة على قومه يردها، وهو في قتاله موفق كل التوفيق، شجاع كل الشجاعة، لا يعبأ بما يصيبه من جراح، حتى كاد كل موضع في جسمه أن يكون موضعا لطعان.
ودعته الظروف أن يخرج إلى دمشق ويتصل بأميرها ويقاتل معه، ويأتي من أعمال البطولة في دمشق ما أتاه في شيزر، ثم يرحل إلى مصر في آخر عهد الفاطميين، في خلافة الحافظ لدين الله، فيقربه الخليفة إليه، ولكن يرى أسامة في دور الخلافة العيشة الناعمة، والغرق في الترف والنعيم والإفراط في حياة الدعة، فيكره ذلك كله، ويحن إلى حياة الجهاد، ويتسلى بالصيد، ولكن لا تقنعه هذه التسلية، ويرى في آخر الدولة الفاطمية تعفن الحياة الاجتماعية، والإسراف في ملذات الحياة، ودسائس الولاة والحكام، فخرج من مصر والتحق بجيش نور الدين، وهو في الرابعة والستين من عمره، وما زال يقاتل في كل جيش يحارب الصليبيين حتى بلغ الخامسة والسبعين، فشكا ضعفه وعجزه عن القتال.
فلما بلغ الثمانين زاد ضعفه، فانقطع للأدب يؤلف فيه ما يدعو إلى الحماسة والجهاد، ويعد النفوس بقلمه، كما كان يقدم لها المثل بسيفه، ثم كان لما رأى في حياته الطويلة العريضة مستودع تجارب قيمة؛ وخاصة في القتال ومكايد الحروب، فاتصل بصلاح يعينه في الرأي، ويمده بالخطط التي تضمن له الظفر والنصر، وظل على هذه الحال يؤلف في أدب الحرب ويعين صلاح الدين على الحرب حتى بلغ السادسة والتسعين، فعجز عن حمل القلم وعن الإمداد بالرأي، كما عجز من قبل عن حمل السيف، وفي ليلة من ليالي رمضان سنة 584 أسلم روحه لخالقه، وهو يدعو الله لصلاح الدين أن يتم نصره على الصليبيين، ويسأله لنفسه الرحمة والغفران.
هذه ناحيته الحربية، ولم يكن في ناحيته الأدبية بأقل منه شأنا في ناحيته الحربية؛ فهو يسجل في شعره أعمال بطولته، ويسجل دور حبه وغرامه، ويسجل مواقفه في القتال، ويسجل مشاعره في مراحل حياته تسجيلا صادقا قويا ممتعا.
يقول في مستهل حياته:
لأرمين بنفسي كل مهلكة
مخوفة يتحاماها ذوو الباس
حتى أصادف حتفي، فهو أجمل بي
من الخمول وأستغني عن الناس
ويقول:
تجهل في الإقدام رأي معاشر
أراهم إذا فروا من الموت أجهلا
أترجو الفتى عند انقضاء حياته
وإن فر، من ورد المنية مزحلا
إذا أنا هبت الموت في حومة الوغى
فلا وجدت نفسي من الموت موئلا
وإني إذا نازلت كبش كتيبة
فلست أبالي أينا مات أولا
ويقول:
سأنفق مالي في اكتساب مكارم
أعيش بها بعد الممات مخلدا
وأسعى إلى الهيجاء لا أرهب الردى
ولا أتخشى فارسا ومهندا
فإن نلت ما أرجو فللمجد ثم لي
وإن مت خلفت الثناء المؤبدا
فلما تقدمت به السن ووضع السيف وحمل العصا قال:
أصبح كفي مالكا للعصا
من بعد حمل الأسمر الذابل
كأنني لم أمش يوم الوغى
إلى نزال البطل الباسل
ولم أشق الجيش لا أختشي
من الردى، كالقدر النازل
فانظر إلى ما فعل العمر بي
من طوله لم أحظ بالنائل
يا حسرتا! إني غدا ميت
على فراشي ميتة الخامل
هلا أتاني الموت يوم الوغى
بين القنا والأسل والناهل
الفصل الثامن عشر
شوقي أمير الشعراء
في رأيي أن عرش الشعر العربي كان قد استولى عليه المتنبي عن جدارة واستحقاق، فلما نزل عنه بموته ظل شاغرا حتى تبوأه شوقي، فلما قضى نحبه لم يستو عليه أحد إلى اليوم.
وللاستواء على عرش الشعر شروط دقيقة قاسية، قد تكون أشد وأصعب من عروش السياسة، وقد تكون أشد وأصعب من عرش النثر وعرش سائر الفنون؛ لأن الشعر تلتقي فيه المعاني بالخيال بالعواطف بالموسيقى بالأسلوب، ولا بد أن تكون كلها جميلة رائعة وإلا كان عدمها خيرا من وجودها؛ كالزهرة لا بد أن تكون جميلة ناضرة ليستمتع بها، فمتى أدركها شيء من الذبول فاختفاؤها خير من ظهورها.
ولعل أهم ما يرشح الشاعر للإمارة أن يكون لسان الناس في عصره وبعد عصره، يعبر أحسن تعبير حيث لا يحسنون التعبير، ويصوغ الأفكار والمشاعر والآمال والآلام أحسن صياغة حيث لا يجيدون الصياغة، فيجد كل مثقف في شعره الجميل ما يعبر عن نفسه أصدق تعبير؛ إن تألم ففي شعره ترديد لألمه وتحليل له وعزاء لنفسه، وإن سر ففي شعره استجابة لسروره مضاعفة له، وإن جبن ففي شعره القضاء على جبنه وتعييره بالإحجام ودعوته إلى الإقدام، وهكذا.
ثم ليس أمير الشعراء يعبر عن ذلك كله كما يعبر سائر الناس ولا سائر الشعراء، بل يعبر التعبير كأنما يأتيه من السماء، ويشعر السامع أو القارئ كأن هذا التعبير هو الذي كان يتلمسه فلا يجده، وكأن الفراغ الذي لم يكن أحد يملؤه بالضبط قد ملأه، وكأنه بلغ من الجودة ما ليس لأحد بعده قول.
كذلك كان المتنبي يعبر عن كل نفس في كل موقف أصدق تعبير وأقواه وأجمله، حتى لم يتمثل بشعر أحد منذ وجد المتنبي ما يتمثل بشعره؛ في الشجاعة، في الحزن، في السرور، في مصائب العالم، في طبيعته، في آلام العرب، في آمالهم، إلى ما لا يحصى.
كذلك كان شوقي، مكنه تاريخ حياته من أن يرى أفلام الحياة على اختلاف أنواعها؛ رأى فلم الحياة المصرية في أسرته، وفي مدرسته، وفي الشوارع، وفي الأحياء الوطنية والأحياء الأرستقراطية، ورأى فلم القصر، وهو فلم عجيب: كيف يتصل الشعب بالقصر في أعيانه وموظفيه وأغنيائه وفقرائه وسياسييه وممثليه، ورأى فلم أوربا؛ وخاصة فرنسا وباريس، وتموج الحياة فيها، ورأى فلم المنفى في إسبانيا وعذابه، ورأى فلم القصر وقد أعرض عنه، فاتصل بالناس والجماهير والأدباء يذمونه ويمدحونه ويعجبون به وينتقدونه.
فلما اطلع على كل ذلك، وصادفت منه هذه الأفلام قدرة بارعة على الصياغة والفن والإخراج، خرج على الناس بشعره رائعا يعبر عن مجالي الحياة في شتى أنواعها، فشغل الناس وملأ قلوبهم.
لقد كان للناس في عصره نزعات تشغل بالهم فأرواها كلها بخير ما يقال، كان المصريون يتعطشون إلى التغني بمجدهم القديم وأملهم في المستقبل، فقدم إليهم تاريخهم من عهد الفراعنة إلى العصر الحديث في قصيدته الرائعة:
همت الفلك واحتواها الماء
وحواها بمن تقل الرجاء
مشبها متأسفا فخورا ناعيا، مستفزا حافزا، وكذلك شأنه في قصيدة:
قف ناج أهرام الجلال وناد
هل من بناتك مجلس أو ناد
وقصيدة:
أبا الهول طال عليك العصر
وبلغت في الأرض أقصى العمر
وقصيدة:
قفي يا أخت «يوشع» خبرينا
أحاديث القرون الغابرينا
ولا تأتي حادثة تهيج لها عواطف المصريين نحو استقلالهم إلا غذاها وعبر عنها وتجاوب معها؛ كمشروع ملنرن وتصريح 28 فبراير، ووداع اللورد كرومر، وذكرى دنشواي، ورثاء عظماء النهضة؛ أمثال: محمد عبده، ومصطفى كامل، وسعد زغلول، ومحمد فريد، وقاسم أمين، وعبده الحامولي، والشيخ سلامة حجازي ... إلخ إلخ.
وهناك بجانب النزعة القومية المصرية كانت النزعة إلى العروبة، وكانت في مستهل عهدها، فغذاها أحسن غذاء بما قدم لها في المناسبات، فإذا نكبت بيروت بضرب الأسطول الإنجليزي لها قال قصيدته:
يا رب أمرك في الممالك نافذ
والحكم حكمك في الدم المسفوك
يقول فيها:
لك في ربى النيل المبارك جيرة
لو يقدرون بدمعهم غسلوك
وإذا نكبت دمشق بضرب الفرنسيين لها قال قصيدته التي يتغنى فيها:
سلام من صبا بردى أرق
ودمع لا يكفكف يا دمشق
يقول فيها:
نصحت ونحن مختلفون دارا
ولكن كلنا في الهم شرق
ويجمعنا إذا اختلفت بلاد
بيان غير مختلف ونطق
وقفتم بين موت أو حياة
فإن رمتم نعيم الدهر فاشقوا
وللأوطان في دم كل حر
يد سلفت ودين مستحق
وتقيم سوريا ذكرى استقلالها فيقول قصيدته:
حياة ما نريد لها زيالا
ودنيا لا نود لها انتقالا
إلخ ... إلخ.
ثم كانت نزعة إسلامية تدعو إلى الارتباط بالخلافة والأتراك، فأفاض في الشعر فيها إلهاب العواطف نحوها، فقال فيها أكثر من عشرين قصيدة من أروع قصائده.
وكما كان لسان الناس في هذه النزعات كان لسانهم في كل ما يعرض لهم من شئون اجتماعية؛ في العلم والتعليم، في الحجاب والسفور، في انتحار الطلبة، في بنك مصر، في نشأة الطيران، في تأسيس الجامعة، حتى في كوليرا سنة 1902 قال فيها ما لم يقله أحد حتى سنة 1947 فيقول:
لهفي على مهج غوال غالها
خافي الدبيب محجب الأظفار
خمسون ألفا في المدائن صادهم
شرك الردى في ليلة ونهار
وهكذا كلما يجد من أمر حتى يتلفت الناس إلى شوقي ينتظرون ما يقول، وحسبك دليلا على أنه كان ملجأ الناس ومفزعهم أنهم حتى بعد موته لم يجدوا في مواقفهم الحرجة ومواقفهم البهيجة غير شعره يتغنون به ويرتوون منه، فإذا التهبت عاطفتهم الحماسية وطلبوا نجدتها بالشعر، لم يجدوا إلا أمثال قصيدته الرائعة:
سلوا قلبي غداة سلا وتابا
لعل على الجمال له عتابا •••
وإذا تفرق الزعماء ونكبت البلاد بفرقتهم فلم يجدوا خيرا من أن يتغنوا بقوله:
إلام الخلف بينكم إلاما
وهذي الضجة الكبرى علاما •••
وفي مجال الفرح والسرور لم يجدوا خيرا من أغانيه: يا جارة الوادي - وأوبريت مجنون ليلى وأمثالها.
لهذا كله، ولهذا المعنى الذي ذكرت من أنه شغل الناس وملأ حياتهم بأجمل فن وأروع تعبير، استحق أن يكون أمير الشعراء من غير منازع.
قد يقول شاعر في هذه الموضوعات كلها وأمثالها الشيء الكثير، ولكن لا يكون له فضله، ولا تكون له روعته، وإذا تلهف الناس فإنما يتلهفون إلى شوقي وشعره؛ لأنه أكثر تجاوبا مع نفوسهم، وألطف تناغما مع عواطفهم.
هذه ناحية واحدة من نواحي عظمة الشاعر التي لا بد منها لإمارة الشعر، وقد كانت في شوقي متوافرة واضحة جلية.
رحم الله شوقي وعوض العالم العربي عنه أحسن تعويض.
الفصل التاسع عشر
بطولة الفاروق تتمثل في أخلاقه وعقليته
لعمر بن الخطاب نوعان من البطولة، كان كل واحد منهما يكفي ليكون بطلا عظيما، وفي التاريخ أمثلة كثيرة من الأبطال كانت بطولتهم من ناحية واحدة، أما بقية نواحيهم فعادية، أو أقل من العادية.
في الناس من بطولته من ناحية علقه؛ فهو يرى أبعد مما يرى الناس، ثم هو في غير هذه الناحية كسائر الناس، وفيهم من بطولته من ناحية شجاعته؛ فإذا جاوزت الشجاعة وجدته كأوساط الناس، أو أقل من أوساطهم، وفيهم من بطولته من ناحية مهارته السياسية، ثم هو لا شيء بعد ذلك.
ولكن عمر كان بطلا في أخلاقه، وليس في خلق واحد منها، وكان بطلا في عقليته، وليس في ناحية واحدة منها أيضا.
أما ناحية الأخلاق، فكان رجلا بكل ما تحتمله كلمة الرجل من المعاني، كان رجلا في كفره، ورجلا في إسلامه، لا يميل إلى الدنية، ولا ينظر إلى الصغائر، كان كافرا فكان الكفر يعتز به، ثم كان مسلما فكان الإسلام يعتز به، وكان رسول الله في أول دعوته يقول: «اللهم أعز الإسلام بأحب الرجلين إليك؛ عمر بن الخطاب أو عمرو بن هشام»، فاستجيب دعاؤه في عمر، فلما أسلم رن إسلامه في الأوساط الوثنية، وأحدث حسرة وأسفا وانخذالا، ورن في الأوساط الإسلامية فأحدث فرحا وسرورا واغتباطا؛ لأن كفر عمر وإسلامه ليس كسائر الناس؛ ففي الناس من إذا وضع في كفة أو في أخرى لم تتأثر الأولى ولا الثانية، وفيهم من إذا وضع في كفة رجحت، ورجحت حتى النهاية، ومنهم عمر، ومن أجل ذلك قال ابن عباس: «لما أسلم عمر قال المشركون: قد انتصف القوم اليوم منا»، وأنزل الله:
يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين .
أسلم عمر فغير حياة المسلمين الاجتماعية، كانوا لا يجرءون على الجهر بشعائر دينهم فجهروا بها منذ أسلم عمر، وكانوا يتسترون في الدعوة فأعلنوها، وخرج المسلمون على أعين المشركين في صفين؛ في أحدهما حمزة، وفي الآخر عمر، حتى دخلوا المسجد، فلو أن آلافا من عامة الناس أسلموا ما عدلوا عمر، وصدق ابن مسعود إذ يقول: «ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر».
كان الحق متقنعا فأبى عمر لما أسلم إلا أن ينبلج، وكانت الدعوة إلى الإسلام من وراء حجاب، فأبى عمر إلا أن تكون علانية، وعلى سمع الناس وبصرهم، فكان ما أراد.
وهكذا كان بطلا في صراحته، بطلا في شجاعته، حمل نفسه على كفه دفاعا عن عقيدته، فلم يخش بأسا ولم يخش قتلا، وصمم أن يموت أو تعلو كلمة الإسلام، فكانت الثانية.
هاجر الصحابة مستخفين من أذى قريش واضطهادهم، أما عمر فلما أراد أن يهاجر إلى المدينة تقلد سيفه وتنكب قوسه وانتضى في يده أسهما، ومضى نحو الكعبة والملأ من قريش بفنائها، فطاف بالبيت سبعا ، ثم أتى المقام فصلى متمكنا، ثم طاف على جماعات قريش واحدة واحدة يعلنهم بهجرته، ثم قال: «من أراد أن تثكله أمه وييتم ولده ويرمل زوجته فليلقني وراء هذا الوادي»، فما تبعه أحد منهم.
لم تكن المسألة مسألة قوة في بدنه واستكمال لآلات قتاله، فقد كان في قريش من هو أعلم منه بالقتال، وأشد منه في النضال، ولكن نفس عمر كانت دونها كل نفس من هؤلاء المحيطين بفناء الكعبة، وكانت هذه النفس القوية الكبيرة تشع رهبة، وتبعث إجلالا، حتى تستخذى أمامها النفوس، كذلك كانت نفسه في جاهليته، ثم زادت قوة في إسلامه، «والناس معادن، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام».
ثم تنجلي بطولة عمر الأخلاقية في العدل التام أيام خلافته.
لقد كان يتصور العدل تصورا دقيقا بديعا، ثم منح من الإرادة القوية ما استطاع به أن ينفذ هذا العدل الذي يتصوره في دقة وقوة وحزم، قل أن يكون لها نظير.
طبق العدل في كل شيء، ومع الجميع، إلا مع نفسه وأهله، فقد تحامل عليهم، وحرمهم حتى مما أحله الله، وضحى بنفسه وبهم ليرد طمع العمال والولاة، ويقيم سيرته مثلا لمحاربة الأنانية وتضحية الشهوات والملذات في سبيل الله والمصلحة العامة.
يعدل مع العمال في كل صغيرة وكبيرة، ولا يرحم من تبدر منه بادرة أو يزل زلة، وينصف الرعية من العمال، ويبعث المفتشين يستقصون أخبار الرعية وأخبار العمال.
ويعدل في أهل الذمة من يهود ونصارى فيوصي العمال والرعية بهم خيرا.
ويعدل مع الجنود فيوفر عليهم رزقهم، ولا يطيل مدة غربتهم.
وهكذا يقدر المسئولية تقديرا في منتهى الدقة، ويخشى أن يقع ظلم ما على امرأة نائية في أقصى الأرض فيحاسبه الله عليها، يضاف إلى ذلك ما منح من فراسة صادقة في اختيار الولاة والعمال، ينظر النظرة في وجه الرجل فإذا هو كأنه صحيفة مكتوبة يقرأ فيها كل ما يخفيه الرجل في نفسه، يعرف مواضع القوة في رجاله، ومواضع الضعف فيهم، ثم يعرف كيف يستغل ضعف هذا وقوة ذاك في خير الناس.
صراحة في القول والعمل إلى أقصى حد، وشجاعة تستهين بالموت في سبيل العقيدة، وعدل دقيق في كل أمر، ومهابة تملأ صدر كل من رآه أو سمع به، وفراسة صادقة تخترق الحجب لترى ما وراءها، وسهر على مصالح الرعية، وعظم تقدير ما عليه من مسئولية؛ كل هذه بعض خصال عمر التي تكونت منها بطولته وجعلته موضع الإعجاب على اختلاف الأجيال، ممن كان من أهل دينه، وممن خالفه في دينه. •••
وليست تقل بطولته العقلية عن بطولته الخلقية، فما نشأة عمر هذا؟ لقد كان في صباه يرعى غنم أبيه أحيانا، ويحتطب أحيانا، فلما شب كان يتاجر في ماله القليل، ولكنه مع هذا منح عقلية في منتهى الغرابة في الصفاء وبعد النظر، وإدراك الحقائق، تجلى هذا في أول إسلامه، فكان رأيه موفقا، وكثيرا ما يرى الرأي فينزل فيه القرآن موافقا له، حتى بلغ هذا أكثر من عشرين موقفا؛ من ذلك رأيه في الخمر وتحريمها، وقد روى في هذا الباب أن رسول الله قال: «لقد كان فيما قبلكم من الأمم محدثون (أي ملهمون) فإن يك في أمتي أحد فإنه عمر».
أغرب من هذا كله أن هذا الراعي الصغير، والتاجر الصغير ، ومن لم يجلس في حياته في مدرسة، ولم يتعلم درسا في الجغرافيا والاقتصاد والسياسة والحرب، ينظم الجيوش لفتح أعظم مملكتين في العالم؛ وهما فارس والروم، ويعرف مواقع البلاد، ومن أين تؤتى، ويبعث بالأوامر تلو الأوامر للقواد، كيف يقاتلون، وأين يتوجهون، ويرسم لهم الخطط كيف ينتصرون، حتى يتم له القضاء على هاتين المملكتين العظيمتين.
وكان يكون الأمر سهلا لو كانت المسألة مسألة فتح وغزو كما تفعل الأمم المتبربرة في غزو الأمم المتحضرة، ولكن ليس الأمر كذلك، فهو فتح منظم، وإدارة للأمم المفتوحة، وحكم لهم بأساليب خير مما كانوا يحكمون، هذه العقلية الجبارة العجيبة هي التي نظمت الدواوين في بلاد فارس والروم، ووضعت نظم زرع الأرض وريها وخراجها، ووضعت التعاليم التي تنظم علاقة الفاتح بالمفتوح، حتى كانت تعاليم عمر في الجهاد وفي الفتح وفي الخراج وفي نظام الكنائس والأديرة وفي معاملة أهل الذمة هي المصدر الذي يعتمد عليه الخلفاء والفقهاء والقضاة في شئون الدولة على مر العصور.
هذا العقل الذي يعلم فارس والروم نظام الحياة الاجتماعية، وهم هم أبناء المدارس النظامية، والنظريات القانونية، والتعاليم الحربية، والمبادئ الاقتصادية، هو - ولا شك - عقل جبار خارق للعادة، خارج عن مألوف ما نرى ونسمع في تاريخ الأمم.
تدفقت الأموال على جزيرة العرب،فعرف كيف يضبطها وينظمها ويوزعها في مصالح المسلمين، وأنشأ لذلك الدواوين.
وفتحت الفتوح الواسعة فعرف كيف يقسمها إلى إمارات حربية، وإمارات سياسية، وكيف يوزع الاختصاص حتى لا تتعارض المصالح.
ويسافر إلى الشام فيرتب الجند التي تغزو في الصيف، والتي تغزو في الشتاء، وينظم المصالح، ويأمر بإقامة الحصون، وترتيب المقاتلة.
ويرتب البريد حتى تصل إليه الأخبار عن البلاد النائية في أسرع ما يمكن، ويمصر البلدان كما فعل في البصرة والكوفة، ويستفتي في كل ما يعرض من مشاكل الفتح الحربية والاقتصادية والجغرافية والاجتماعية، فيأمر فيها بالرأي الصادق والنظر البعيد.
يضاف إلى ذلك معرفة دقيقة بطبيعة الأمة الفاتحة وأخلاقها، وما يصلح لها وما لا يصلح، والأمم المفتوحة وكيف تساس على اختلاف نزعاتها وعقلياتها. •••
إن أخلاقا كالتي وصفنا ، وعقلية تتسع لكل ما عددنا، تبتكر في النظم وتعدل - مع نشأتها البدوية - مناهج السياسة الفارسية والرومية، وترقيها إلى مستوى أعلى كثيرا مما كانت عليه، لهي جديرة حقا بكل إعجاب، وخليقة أن تذكر في أوائل سجل الأبطال، على مر الأجيال.
الفصل العشرون
محمد عاطف بركات (1861-1924)
من الأقوال المأثورة أن كل إنسان إما أن يكون أفلاطون أو أرسطو؛ يعنون بذلك أنه إن غلب عقله عواطفه كانت نزعته أرسططالية، وإن غلبت مشاعره عقله فنزعته أفلاطونية.
ونستطيع قياسا على هذا أن نقول: إن كل متصد للإصلاح وقيادة أمور الناس إما أن يكون عليا أو معاوية؛ فإن غلب عليه تحريه للعدل المطلق في كل صغيرة وكبيرة، وعدم رضاه عن أي ظلم مهما كانت نتيجته، فهو أقرب إلى نزعة علي، فعنده أن الخط إما أن يكون مستقيما أو أعوج، ولا شيء بينهما، ويحب علي السير في الخط المستقيم دائما من غير نظر إلى العواقب.
أما معاوية فشيء آخر، يرى أن الغاية تبرر الوسيلة، وهو يعلن عن سياسته بقوله: «إنا لا نصل إلى الحق إلا بالخوض في كثير من الباطل»، فمن سار على هذا النهج وارتكب الظلم أحيانا بغية الوصول إلى نفع كبير فهو أميل إلى خطة معاوية.
والسياسيون - عادة - من قبيل معاوية، ينحرفون عن الحق أحيانا بحجة أنهم يقصدون إلى منفعة كبرى، وينظرون إلى المسائل السياسية نظرة البائع والمشتري؛ يدفع الثمن ظنا في الربح، فهم يضحون بالحق أحيانا أملا في تحقيق حق أكبر، وقد يخدعون بذلك أنفسهم.
وقادة مصر وساستها كغيرهم من القادة، والساسة أكثرهم من هذا القبيل؛ لأنهم رأوا أن السياسي والقائد لا بد أن يأخذ ويعطي ويتنازل عن شيء ليستمسك بشيء، وإلا كان كالشجرة الصلبة أمام الريح العاصفة لا بد أن تنكسر لأنها لم تلن.
وهذا لم يمنع أن يهب الله مصر كما يهب العالم رجالا صلب عودهم واشتد خلقهم، فوهبوا أنفسهم للحق، لا شيء غير الحق.
كان من هذا القبيل في عصرنا الحديث «حسن (باشا) عاصم»، كان رئيسا للديوان الخديوي، وطلب الخديو عباس من الأوقاف أن تعطيه تفتيشا من تفاتيشها في الجيزة من الأراضي المعدة للبناء، في نظير أن يعطيها مزرعة من مزارع الخاصة الخديوية، وأن تعطيه الأوقاف ثلاثين ألف جنيه فرق بدل، وعرض الأمر على المجلس الأعلى للأوقاف، فوقف في ذلك حسن (باشا) عاصم ومعه الشيخ محمد عبده، وعينا لجنة تقدير رأت الغبن في ذلك على الأوقاف، وأن الخاصة الخديوية إذا أرادت البدل وجب عليها أن تدفع عشرين ألفا، لا أن تأخذ ثلاثين ألفا؛ فغضب عليه الخديو وأحاله على المعاش.
وكان من أغرب تمسك حسن عاصم بالمبدأ والعدل المطلق أن تبرع غني من أغنياء المحلة الكبرى للجمعية الخيرية الإسلامية بإنشاء مدرسة وقف عليها أطيانا، فلما تم فتح المدرسة قدم هذا الغنى طلبا لابنه لدخول المدرسة، وكان يتجاوز السن المحددة بأشهر، فرفض حسن عاصم قبوله، وكان إذ ذاك مدير مدارس الجمعية ، وقال: إن هذا الغني تبرع بالمدرسة فنشكره، وأراد أن يكسر قوانيننا فلا نقبل ذلك منه، وترتب على ذلك أزمة بينه وبين الشيخ محمد عبده وحسن (باشا) عبد الرازق، وغيرهما من كبار رجال الجمعية، ولكنه أصر على رأيه، وأخيرا اضطروا إلى موافقته.
وجاء عاطف بركات يمثل هذا الطراز، ويتخذ من حسن عاصم أستاذا؛ إذ كان يعاشره ويعجب به، كما كان يتخذ من «كنت» مثله الأعلى، وكثيرا ما كان يحدثنا عنه ويستثير إعجابنا به في دقته ونظامه في حياته، وأنه كان إذا خرج من بيته ضبط الناس ساعاتهم على موعد خروجه، وهكذا.
هذه أكبر ميزة لشخصيته: حبه للنظام الدقيق، وتحريه للعدل المطلق، والتمسك به مهما جلب عليه من متاعب.
تولى نظارة مدرسة القضاء الشرعي، وظل فيها أربعة عشر عاما، فأشع فيها روحه، وكان طلبتها وأساتذتها وزائروها يلمسون العدل ودقة النظام، ويتنفسون كل ذلك من جوها، فالمدرسة سائرة كالساعة، كل عضو يعرف عمله ويؤديه في وقته، وهم يرونه دائبا لا يمل، فيخجلهم بجده ونشاطه، فيقلدونه في سيرته؛ فإذا جد الجد تجلى عدله في أكبر مظاهره.
أراد الخديو عباس أن يعطي أحد المدرسين بالمدرسة درجة مالية أعلى من درجته، وأوفد إلى أعضاء مجلس إدارة المدرسة بذلك، فكلهم قبل نزولا على إرادة الخديو ورغبة في المسالمة، ولكن «عاطفا» رأى أن غير هذا الأستاذ أحق منه، وأن في إعطائه ظلما على الآخرين، فأبى وأصر على الإباء، ووضع نفسه والمدرسة في أزمة مع ناظر المعارف ومع السراي، فلم يعبأ بهذا كله.
ومثل الدور نفسه مع سعد (باشا) زغلول؛ إذ كان «عاطف» وكيل وزارة المعارف، ولسعد زعيم الأمة كل السيطرة على شئون البلاد ومصالح الحكومة، فطلب سعد منه أن يقبل ابن حمد (باشا) الباسل في مدرسة ثانوية، وكانت سنه تتجاوز السن القانونية بأشهر، فأبى «عاطف» وقال: إما أن نغير القانون ونقبله ونقبل كل أمثاله، وإما أن نرفض الجميع، وغضب سعد من ذلك أشد الغضب فلم يبال بذلك.
لا فرق عنده في تحقيق العدالة بين قريبه وغير قريبه، ومن يعرفه ومن لا يعرفه، بل ولا بين من يحبه ومن يكرهه؛ أمام عينيه قوانين العدالة وكفى، وهو ليس إلا قاضيا يطبقها معصوب العينين عن كل اعتبار وكل عصبية، ومثل هذا الرجل - وخاصة في مثل أممنا التي اعتادت الإفراط في المجاملة والمحسوبية - لا يكون محبوبا إلا من تلاميذه وخاصته، ولكنه يكون محترما من الجميع، وكذلك كان، فكم رجي فرفض الرجاء، وكم طلب إليه أن يغض طرفه عن القانون فأبى إلا القانون، وكم نصح أن يرعى الكبراء؛ وخاصة في المسائل الصغيرة لتجاب مطالبه في المسائل الكبيرة، فلم يستسغ عقله هذه المساومة، فكان كل هذا مدعاة لمحاربته وكثرة اصطدامه.
لقد كان من ذلك حادثة طريفة، وهي أن ناظر المعارف كان أحمد حشمت (باشا)، وقد اقترح على مدرسة القضاء أن تعين فلانا مدرس خط، وكان فلان هذا من أحسن الناس خطا وأحسنهم خلقا، ولكن «عاطفا» أبى؛ لأن قانون المدرسة يجعل اقتراح التعيين من حق مجلس إدارة المدرسة، وليس لناظر المعارف حق إلا القبول أو الرفض، لا حق الترشيح ابتداء، وكانت أزمة طويلة، و«عاطف» يرى الحق بجانبه، وناظر المعارف يرى أنه مس في كرامته، ولقيت المدرسة من ذلك عنتا واضطهادا صبر له «عاطف»، وأخيرا نزل ناظر المعارف عن رأيه، وأقر من رشحته المدرسة لا من رشحه هو، وهكذا كانت حياته كلها صراعا، فما استمسك أحد بالحق إلا أوذي، ولكنه في الوقت عينه أجل وأكبر.
وناحية أخرى كانت ترتكز عليها عظمته؛ ذلك أنه لم يكن واسع الاطلاع ولا بحاثة في الكتب، ولا عاكفا على البحوث العلمية والأدبية، وإنما يقرأ ما يقرأ في رفق وهوادة، ولكنه مع ذلك نظيف العقل، لا يقبل عقله الفكرة إلا إذا كانت واضحة، ولا يعبر عنها إلا إذا كانت ناضجة محددة، وهو إلى ذلك حر التفكير، لا يعبأ بالآراء الموروثة، ولا بالتقاليد المرعية في الأفكار، ثم هو طويل النفس في الجدل، قوي الحجة في المناظرة، لا يمل ولا يتعب، حتى قد يسلم له مجادله لا عن اقتناع، ولكن حبا في الراحة ، وطلبا للسلامة.
ولوثوقه من نفسه في ذلك، وحبه في نشر أفكاره، اتخذ طريقة «سقراط» في تعليمه؛ فكان ينتهز كل فرصة لإثارة الموضوعات التي تنبعث من الظروف الحاضرة، في حجرة المدرسين، في مطعم الطلبة، في حلقاتهم، في الفسح، فيثير مسألة من المسائل ويبرهن عليها، ويتلقى الرد عليها من المدرسين أو الطلبة، وتكون المسألة حديث المدرسة في الفصول وأوقات الفسح، وقد تستمر أياما والعقول متيقظة باحثة فاحصة، فإذا انتهت أثير غيرها، وهكذا.
فكان هذا مثار نشاط ذهني عجيب، ومدعاة لتحرير الأفكار، وتعويدا على الاستقلال في التفكير، وعدم الخضوع للتقاليد، هذا في المجادلة العامة في المدرسة وحجر المدرسين والفصول، وكان له مع خاصته وفي بيته جدل في المسائل الدقيقة؛ سياسية كانت أو دينية، يتحرر فيها العقل من كل القيود إلا قيود الحجج والبراهين.
كانت أخلاقه هذه الصارمة القوية صالحة كل الصلاحية لإصلاح مدرسة عالية؛ ولذلك نجح فيها كل النجاح، وخلق جوا من العدل والنظام وحرية التفكير، يستنشق منه كل أستاذ وكل طالب على حسب استعداد رئته، وطبع كل من في المدرسة بطابع بين الأثر، وكانت لهم في حياتهم العامة بعد روح مستمدة من روحه، وأخلاق هي صدى لأخلاقه.
فلما تقلد منصب وكالة المعارف، اصطدم اصطداما عنيفا بالرجاوات والدرجات والعلاوات، ولم تتحمل ميوعة الناس صلابته، ولا عذوبة مجاملاتهم مرارته، فلم ينجح فيها نجاحه في مدرسته.
ولما انغمس في السياسة العامة للبلد، وبالحركات السياسية مع سعد وصحبه، لم تسعفه أخلاقه؛ لأن ألف باء السياسة المصانعة والمجاملة والمهارة في المساومة، وهو لا يحسن شيئا من ذلك؛ ولذلك كله كان نجاح أخيه فتح الله (باشا) بركات في هذا الباب أكثر من نجاحه هو، وكل ميسر لما خلق له.
الفصل الحادي والعشرون
الإسلام كعامل في المدنية1
لعل أهم تراث الإسلام وأثره في المدنية أمران: الأول، العقيدة الإسلامية؛ لأني أرى أن كل ما نشأ عن الإسلام، من فتح وعلم وإدارة وفن وغيرها، أثر من آثارها؛ فالعربي قبيل الإسلام كان هو العربي بعينه، في جسمه، وجوهر عقله، ومعدنه، ولم يجعله يتجه إلى الفتح ويرى نفسه جديرا بأن يقف في المستوى الذي تقف فيه أرقى الأمم في عصره - وهما الفرس والروم - بل يرى نفسه أرقى منهما، وأجدر بأن يحكمها ويوجههما وجهة خيرا من وجهتهما، ويدخل التعديل على مدنيتهما، إلا عقيدته؛ فهي وحدها الشيء الجديد في حياة العربي المسلم.
لم يأت الإسلام في أول دعوته بنظريات هندسية، ولم يخترع آلات حربية، ولا فنونا جديدة، ولا نوعا من الإدارة جديدا؛ لأن هذه كلها أمور ثانوية بجانب العقيدة؛ فالعقيدة إذا صلحت أصلحت كل فاسد، ونشأ عنها كل أسباب التقدم ولو كان صاحبها فقيرا جاهلا، حتى ولو كان في بلد جدب وأرض قفر، ولو لم ينشأ في مدنية ولو لم يرث حضارة.
والعقيدة إذا فسدت أضاعت الثروة الموروثة، ولم ينفع معها علم ولم يفد غنى، كلا، ولا تنفع أرض خصبة ولا مدنية فخمة؛ ففيلة الفرس لم تثبت أمام بعير البدوي، ولا الدروع المضاعفة الرومانية استطاعت أن تصمد أمام نبال العربي وقوسه الساذجة؛ لأن بعير البدوي كان يحمل على ظهره قلبا مؤمنا، وفيل الفارسي كان يحمل فؤادا هواء، والقوس العربية كانت تصدر عن عقيدة صحيحة قوية ملتهبة، ودروع الروماني كانت تتضمن قلبا لا عقيدة فيه، كل همه شهوة ينالها ومتاع زائل يأمل أن يلتذ به.
فإن فقد العربي حياته في القتال فلا بأس، فإنما يعجل ذلك قربه من الله، وإذا فقد الفارسي أو الروماني نفسه فيا لها من خسارة؛ فقد حرم الخمر، وحرم النساء، وحرم متع الحياة، فإذا قاتل العربي قدم حياته فحفظت حياته، وإذا قاتل الآخر قدم عدده وادخر حياته فخسر عدده وحياته؛ لم يتغير شيء في حياة العربي عند ظهور الإسلام إلا عقيدته، وكل شيء تغير غيرها فبسببها.
وقد كنت أود أن أقتصر على الكلام فيها لولا أن هناك ناحية أخرى تهمنا كأثر قوي في بناء المدنية، وهي «أثر الثقافة الإسلامية في المدنية»؛ فهي من جهة أكبر أثر للعقيدة، ومن جهة أخرى أقوى مركز ترتكز عليه المدنية، لهذا سنحصر قولنا في هاتين الناحيتين، وفيهما الغناء.
أولا: العقيدة الإسلامية
كان العرب في جاهليتهم يعبدون الأصنام، وقد اتخذت كل قبيلة إلها من صنم أو وثن، وقدمت إليه القرابين، وجعلته الآمر الناهي، وهو طور تكاد تكون الأمم كلها قد مرت عليه، وإن اختلفت أسماء أصنامها باختلاف بيئاتها؛ ذلك لأن في طبيعة الناس الإيمان بقوة فوق قوتهم، تدفع عنهم الشر وتجلب لهم الخير، وتحيي وتميت، وتخلق وتفني، وإذا كان العقل قاصرا ركز هذه القوة في شيء من المادة خلع عليه هذه الصفات؛ فأحيانا يكون صنما، وأحيانا يكون الشمس والنجوم، وأحيانا يكون شجرا، وأحيانا يكون حيوانا، وأحيانا يكون نهرا أو بحرا؛ فكل هذه الكوائن عبدت عند الأمم المختلفة؛ لأنها أحست أن في أعماق نفسها عقيدة بقوة فوق قواها، تساوت الأمم في هذا، ولكنها اختلفت في الشكل الذي تجسد فيه هذه القوة فتعبده، بحسب قوتها العقلية والخيالية ومواضعها الجغرافية وبيئتها الاجتماعية.
وكانت هذه هي الحالة الساذجة للعبادة عند الأمم؛ يعترفون بإله أو آلهة، ويشكلونها في شيء محسوس يقدمون لها صنوف التعظيم والتمجيد؛ فكرة حق، ولكنها اتخذت مظاهر خرافية؛ كالطفلة في غريزتها الأمومة، وفي طبيعتها الإشراف على تنظيم الحياة البيتية، فهي تتخذ لها لعبا من عرائس تجعلها أبناءها وبناتها وتمنحها عطفها، وتنفذ عليها أوامرها؛ إجابة لداعي الغريزة الكامنة، وإرهاصا لما يكون منها بعد نموها.
وأحيانا يحاول أن يتخلص من المادة فيعبد أرواحا؛ جنا أو ملائكة أو نحو ذلك، ولكن سرعان ما ينتكس ثانية فيسبغ عليها أوصاف المادة، فيجعلها ذكورا وإناثا، ويجعل لها أجنحة تطير بها، ويجعل لها قرونا وذيولا؛ لأنه لم يرق حتى يستطيع أن يتحرر من عبادة المادة بتاتا.
كذلك كان العرب، بل كان أكثرهم في حالة منحطة من عبادة المادة، يعبدون الحجر لا النجوم ولا الأرواح، ويأتمرون بأمرها - في زعمهم - في إقامة ورحيل، وإقدام وإحجام، وزواج وطلاق.
وعبادة الأصنام - كائنة ما كانت - تشل حركة العقل، وتضعف قوة النفس، وتحط الحياة الاجتماعية، وتجعلها حياة خرافية وضيعة، مثل هذه العقيدة تعوق العلم؛ لأن العلم لا يلائمها، وتعوق التفكير الصحيح؛ لأنه ليس من طبيعتها، وتعوق التقدم الاجتماعي؛ لأنه أساس إطلاق الفكر من قيوده، والفكر مشلول بعبادة الأصنام.
ومن أجل هذا كان أهم ما أتت به سلسلة الأنبياء محاربة هذه العقيدة، وتخليص الفكر من قيوده التي قيدته بها العقيدة، في الحجر والشجر، والنجوم والبحار والأنهار، وكان نجاحهم في أول الأمر قليلا قليلا؛ لأنه لم يكن يقوى على احتمال تجريد الإله عن المادة إلا القليل من الناس، وحتى في العصور الحديثة لا تزال النزعة إلى مادية الإله تتسرب في أشكال مختلفة، مع رقي العقل البشري ونموه ونضوجه.
وقد بدأت هذه الدعوة إلى التجديد في الأمم السامية من عهد إبراهيم، واستمرت بين الظهور والخفاء، وكلما تقدم الناس كانوا أكثر لها استعدادا وأقرب قبولا، حتى أتى محمد (
صلى الله عليه وسلم ) فدعا دعوته الجريئة الصريحة إلى كسر الأصنام وتحطيم الأوثان، وتخليص العقيدة من كل شرك، وتجريد الله عن كل مادية، وكان شعار عقيدته «لا إله إلا الله»، ومدار عقيدته «ليس كمثله شيء»؛ فالأصنام ليست تصلح لشيء إلا للمعاول، والنجوم هو الذي خلقها ونظم حركاتها، والبحار والأنهار هو الذي خلقها وأجرى ماءها، والملائكة هو الذي خلقهم
لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ، لا شيء يشاركه في ألوهيته من مادة أو روح، هو حقيقة واضحة معقولة لا في شكل، غيبت عن العقول حقيقته، وظهرت لهم صفاته، فهو الخالق لكل هذه الظواهر، وهو الذي يسيرها، وهو غرضها الأسمى، هو وحدة لا تعدد فيها بأي حال، تنزه عن المادة، وتنزه عن الشريك.
سلك القرآن في الدعوة إلى الإيمان مسلكا خاصا، فبعد أن أبان للإنسان أن الله خالق كل شيء، وأنه رب العالمين، طلب إليه أن ينظر إلى كل شيء في العالم من صغير وكبير، فسيرى فيه مظهرا من مظاهرا الألوهية، ودليلا على عظمة الله وقدرته، لم ينهج القرآن منهج الفلاسفة في دوران العقل حول نفسه ليستخرج منها نظريات مجردة، ومقدمات ونتائج منطقية، إنما طلب أن تمتزج النفس بالعالم، وأن ينفذ العقل إلى رب العالم عن طريق العالم؛ لأن هذه الطريقة أكثر إحياء للشعور، ومبعثا لحياة القلوب.
والإيمان ليس يعتمد على العقل وحده، بل هو يعتمد على القلب أكثر من اعتماده على العقل، ومن أجل هذا طلب القرآن النظر إلى كل شيء في العالم؛ من الذباب والنحل والعنكبوت، إلى الفيل والجمل، إلى البحر والنهر، إلى السماء والأرض، إلى السحاب المسخر بين السماء والأرض، إلى الشمس والقمر، إلى الليل والنهار.
والقرآن مملوء بالآيات التي تصل الإنسان بالعالم، وتصل العالم بالقلب، وتبعث حرارة الإيمان بالله، وتملأ القلب حياة وحماسة، وهذا هو الذي ملأ صدر الصدر الأول من المسلمين بالعقيدة، وجعلهم يبيعون أنفسهم في سبيل الله عن سخاء، وهذا بعينه هو الذي شجع المسلمين على البحث العلمي؛ فقد اتجهوا إلى العالم يستدلون به على خالقه، فدفعهم ذلك إلى العالم يتعرفون طبيعته وقوانينه، وهذا هو العلم.
لم يتطلب إليهم الإسلام أن يعيشوا في صوامع يديرون طاحونة العقل على هواء، بل طلب إليهم أن يتصلوا بالعالم يدرسونه وينظرون فيه خالقه وخالقهم، فكان ذلك داعية للعلم والمدنية معا، لم يتطلب الإسلام من صاحبه أن يعيش عيشة روحية مطلقة مجردة عن المادة، بل طلب إليه أن يمزج الحياة الروحية بالحياة المادية، وأن يعمل لدنياه كما يعمل لآخرته، وأن يتزوج ويصلي، وأن ينعم بالحياة فلا يحرم على نفسه زينة الدنيا وطيبات الرزق، كما ينعم بالنظر وبالتفكير في ملكوت الله، وبعبارة أخرى، لم يتطلب الإسلام من الإنسان أن يكون ملكا، وإنما طلب إليه أن يكون إنسانا كاملا، يعيش وفق ما خلق، فقد خلق جسما وروحا؛ فلسجمه عليه حق، ولروحه عليه حق، فلا عجب بعد أن رأينا المسلم يساهم في بناء المدنية لأنها واجبة، وفي بناء الروحية لأنها مطلبه!
لم ينح الإسلام منحى العلم، يقرر القوانين جافة جامدة كما تفعل علوم الرياضة والطبيعة، وكما تفعل الميتافيزيقا اليونانية، فهذا هو العلم، ولكنه سلك مسلكا سماه «الحكمة»، وقال:
ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولو الألباب ، وما الفرق بين العلم والحكمة؟ العلم هو هذا النوع من المعرفة التي تأتي من طريق الحواس وما تألف منها، فإذا نظمت هذه المعارف ووضعت كل طائفة منها في مجموعة سميت علما، أما الحكمة، فمزج الروح والنفس بالعالم، والعلم يغذي العقل وحده، أما الحكمة فتغذي العقل والمشاعر، وهذه المشاعر هي التي عبر عنها الدين بالقلب والفؤاد.
إذا كان العلم ينظر إلى الإنسان فيقسمه إلى أجناس، وإلى أمم، وإلى ذكور وإناث، فالحكمة تنظر إلى الإنسانية في الإنسان، وإلى الإنسانية التي من ورائها الله يسيرها وينظمها ويمنحها الوجود ويمدها بروح منه، وإذا كان العلم يقسم النبات إلى فصائل، ويميز اختصاص كل فصيلة، فالحكمة ترى في اختلاف أنواع النبات دليلا على القدرة الإلهية، وهكذا بينما في العلم تمد الطبيعة رباطا بينها وبين العقل، تمد الحكمة رباطين؛ أولهما وأولاهما بينها وبين القلب، وثانيهما بينها وبين العقل.
ومن أجل هذا عني القرآن بمظاهر الاختلاف بين القوانين الطبيعية أكثر مما عني بتقرير القوانين الطبيعية الجزئية، فهو يلفت النظر إلى الإنسان، كان نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم كان من المضغة عظام، ثم كسا العظام لحما، ثم كان من ذلك إنسان.
ولفت النظر إلى اختلاف الليل والنهار، وتعاقب الشمس والقمر، واسترعى النظر إلى السحاب يسير بإذن الله، ثم يمطر ماء فتكون منه زروع وجنات يأكل منها الإنسان والأنعام، وإلى الإنسان واختلاف ألسنته، وإلى حركة الماء في البحار والأنهار وتلاقيهما، وهكذا عني القرآن بهذه المناظر المتغيرة، وبهذه الحركة الدائمة؛ لأنها أمس بالشعور، وأقرب إلى الحكمة، وأدل على المحرك والخالق والمدبر، فكانت بذلك مبعث إيمان صادق حار لا يفتر.
وقد غفل علماء الكلام من المسلمين عن الفرق بين العلم والحكمة، وبين الفلسفة والدين، وبين منهج القرآن ومنهج اليونان، فحولوا - وعلى رأسهم المعتزلة - الدين من القلب إلى العقل البحت، وألفوا العقائد في شكل قضايا منطقية، فتحجر الدين وانقلب جسما جامدا لا روح فيه، فخمدت حرارته، وضعفت شعلته، وقل نوره وضياؤه.
بهذه العقيدة التي ألممنا بها نقل الإسلام العرب من أفق خرافي ضيق كسم الخياط ينحصر في تقديس الحجر والرجوع إليه في أهم الأحداث، إلى أفق فسيح لا حد لسعته، يطالع فيه جميع المخلوقات في الأرض والسماء، ويسبح بعقله وشعوره فيها، ويمتزج بها، بل هو لا يقف عند ذلك، وإنما يتعداه إلى إله مجرد عن المادة، ومنزه عن شبه المادة، يحكم العالم، ويسيطر عليه، وينظمه ويسيره، وهو وحده لا شريك له رب العالمين.
وضع الإسلام في يد العرب الذين كانوا يدينون بالأصنام معاول يكسرون بها الأصنام، وهم إذ كانوا يكسرونها حسيا كانوا يعلنون بعلمهم أنهم تحرروا من رق الخرافة، وسموا عن تقديس حجر، وارتفعوا بتفكيرهم وشعورهم إلى ما فوق المادة، واتصلوا بإله الكون يستمدون منه القوة، ونظروا من طيارة إلى من حولهم من الناس يرثون لحالهم، إذ رأوهم بائسين، كما كانوا هم بالأمس، من فرس مجوس يعبدون نارا، وما النار إلا مخلوق ضعيف تشبه في ضعفها الأحجار التي كانوا يعبدونها أيام جاهليتهم، ومن رومان تركوا وراءهم دينهم الصحيح وأخذوا يعبدون شهواتهم؛ فعبدوا الخمر وعبدوا النساء وعبدوا المال وعبدوا الجاه، وما كل ذلك إلا أصنام كأصنامهم التي حطموها بالأمس، وما هي إلا ضرب آخر من ضروب النار التي يعبدها المجوس تشب بين جوانحهم.
هؤلاء الفرس وهؤلاء الرومان الذين كانوا بالأمس القريب المثل الأعلى للعرب، والذين كانوا يرون في أعماق نفوسهم أنهم عبيد، وأن الفرس والروم سادتهم، وأنهم سوقة، والفرس والروم ملوكهم، وأنهم أذلة والفرس والروم أعزة، وأنهم فقراء وأمل الآمل منهم أن ينال من متاجرته مع الفرس والروم شيئا من فتاتهم، ومما تناثر من أيديهم، هؤلاء الفرس والروم أصبحوا في نظر العربي المسلم أسرى عقائد فاسدة، وأسرى شهوات وضيعة، وأن مالهم وجاههم وعدتهم وزينتهم لا تساوي شيئا بجانب صحة عقيدتهم هم.
لقد كانوا ينظرون إليهم من غواصة، فيحسدونهم على استنشاق الهواء على ظهر الأرض، فأصبحوا ينظرون إليهم من طيارة عالية جدا فيرونهم حشرات حقيرة تتقاتل على متع دنيئة، ويرونهم المثل الأدنى للإنسانية، وقد كانوا المثل الأعلى، وأنهم أحق بالعطف عليهم والأخذ بيدهم، وقد كانوا من قبل يستجدونهم ويستذلون لهم ويخطبون ودهم، لم يقلب هذا الوضع عند العرب إلا العقيدة، وكفى بها ثورة: ثورة في العقل، وفي القلب، وفي الخلق، جعلتهم كأنهم خلق آخر.
هذه العقيدة بما أضاءت وبما بعثت من حكمة جعلتهم فوق العلم؛ إن شئت فانظر إلى عمر بن الخطاب، وأبي عبيدة، وسعد بن أبي وقاص وأمثالهم، ماذا كانت ثقافتهم العلمية بالمعنى الذي نفهمه الآن؟ كانت لا شيء، أو كانت ضعيفة كل الضعف، فليسوا على علم واسع بقوانين الحساب والهندسة، ولا بالجغرافية، ولا بشيء من فروع العلم، ولكن أضاءت الحكمة أذهانهم وقلوبهم ففاقت العلم، وإلا فكيف استطاع عمر بن الخطاب - مثلا - أن يدير هو وأعوانه مملكة الفرس والروم، وقد بلغتا في الحضارة شأوا بعيدا، يعرف أهلهما الجغرافية معرفة واسعة، ويؤسسون المملكة على نظم إدارية وحربية دقيقة، وعندهم علم وأدب وفن.
لو عهد بإقليم من أقاليم الفرس والروم إلى عمر في الجاهلية لحار في إدارته وارتبك، ولساسه كما يرعى الشاة والإبل، ولكنه الإسلام وما بعث من حكمة، غير نظره إلى الأشياء، وجعله ينفذ ببصيرته إلى نظم الفرس والروم فيدرك منها الصالح وغير الصالح، ويعدل في إدارتها وشئونها الاجتماعية تعديلا لا يستطيعه العالم الماهر الذي تنتجه حتى حضارة اليوم؛ فهو يغير من نظام الضرائب، وتوزيع الأراضي، وتدوين الدواوين، ويستطيع وهو في مكة أن يرسم خطة السير لحكومة تسوس العراق ومدن الفرس، كما تسوس الشام ومدن الروم!
إنها إحدى العجائب الكبرى أن يصل بدوي إلى ذلك، وعهدنا بالبدوي الهمجي يخرب ولا يعمر، وإذا غزا وانتصر فكل مطمعه في الغنيمة، فما بال عمر وأمثال عمر يدخل التحسينات على الحضارة، ويقترح فيما يزيد العمران، ويبث في الحضارة القديمة روح العدل والإحسان؟ لا شيء غير العقيدة الإسلامية محصت نفسه، وطهرت قلبه، وجعلت نظره ينفذ إلى بواطن الأمور، يعدل على الذين لا يرون إلا الظواهر، ولا يهمهم إلا بهرجة الدنيا والزخرف الظاهري.
فإن نحن عددنا العقيدة الإسلامية - بالشرح القليل الذي شرحنا - أثمن ما قدمه الإسلام إلى المدنية لم نكن مبالغين.
هذه العقيدة لا تقر بعظمة إلا عظمة الله، ولا تقر بتقديس ملك ولا بامتياز لرجال دين، ولا تعترف بوساطة أحد بين الإنسان وربه، ولا بأي نوع من أنواع الأرستقراطية: لا أرستقراطية المال، ولا أرستقراطية العلم، ولا أرستقراطية رجال الدين، كل الناس سواء؛ الناس من تراب وإلى التراب يعودون، ولا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى، وخير الناس أنفعهم للناس.
ثانيا: الثقافة الإسلامية
وأريد أن أكرر هنا ما أشرت إليه من أن الثقافة الإسلامية كانت أثرا من آثار العقيدة الإسلامية التي ألممت بها؛ فالقرآن رفع مستوى العقل إلى درجة يستطيع فيها التفكير الصحيح بما حارب من خرافات وأوهام وعبادة أصنام، وبما حث على النظر في الكون ومراقبة تغيراته، واختلاف مظاهره، ودوام حركاته، وبتوجيه العقل إلى أن وراء كل المظاهر المختلفة وحدة؛ فالناس على اختلاف ألسنتهم وألوانهم يرجعون إلى أصل واحد، هو آدم وحواء، والبحار والأنهار المختلفة كلها ترجع إلى ما أنزل من السماء من ماء، والعالم كله يرجع إلى وحدة الخالق
ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت .
فهذه الوحدة في العالم تحل على التفكير الصحيح والثقافة العميقة والنظر الفلسفي الروحي؛ فالقرآن من ناحية فك قيود العقل، وهذا هو العامل السلبي، ومن ناحية أخرى أخذ بيده ليشرف على العالم من مرقب عال، وهذا هو العامل الإيجابي.
ومن أجل هذا كانت الثقافة الإسلامية نتيجة العقيدة الإسلامية لا نتيجة شيء آخر، فإن هي اتجهت إلى الاستعانة بالفلسفة اليونانية والثقافة الفارسية والهندية، فلأن الدين حملها على ذلك، وطلب منها أن تتطلب العلم حيث كان، ومن أي كائن كان.
وقد بذر الإسلام في نفوس أصحابه بذورا تأصلت فيهم، فكانوا إذا اقتبسوا من الفلسفة اليونانية أو أية ثقافة أخرى لم يكونوا مقلدين تقليدا صرفا، إنما كانوا دائما يعملون العقل فيما نقلوا، ويعملون العقيدة الدينية فيما قرأوا؛ فإذا نظرنا إلى ما كتب الفارابي وابن سينا وابن رشد رأيناهم لم يقفوا موقف التلميذ فحسب، بل نقدوا وزادوا ووفقوا بين الفلسفة والدين، وأمدوا كل شيء أخذوه بروح من عندهم، فكان لثقافتهم طابع خاص وشارة تعرف بها.
حتى هذا المنطق اليوناني الذي دانت له كل الأمم زاد الغزالي في بعض كتبه فصولا عن القرآن، وابن تيمية وابن حزم وغيرهما نقدوا منطق اليونان، وعدوه منطق شكل لا منطق مادة، وكان شأنهم في كل فرع هذا الشأن تقريبا؛ فدعوى أن المسلمين في ثقافتهم كانوا حفظة للثقافة اليونانية أكثر منهم مبتكرين لثقافة خاصة، دعوى أملاها عدم الدراسة للثقافة الإسلامية دراسة وافية.
والحق أن فضلهم على المدنية الحديثة كان من الناحيتين جميعا: من ناحية حفظهم لثقافة غيرهم من الأمم، ولولاهم لضاع كثير منها، ومن ناحية ما أنشئوا وابتكروا وبثوا من روح في الثقافات القديمة.
وقد بدأ علماء أوربا يبحثون نواحي تأثير الثقافة الإسلامية في الثقافة الأوربية، وكان من آخر ما أظهروا في هذا الباب كتاب ما خلفه الإسلام (Legacy of Islam)
تناولوا فيه أثر الثقافة الإسلامية في الجغرافيا والتجارة، وفي القانون والاجتماع والفن والعمارة، وفي الأدب، وفي التصوف، وفي الفلسفة واللاهوت، وفي العلم والطب والرياضيات، وهذا البحث وإن كان آخر ما ألفوا فهو أول ما اكتشفوا من طريق يشرف على آثار قيمة ضخمة لا تزال تنتظر مكتشفين أبعد مدى، وأقوى على تحمل مشاق الطريق.
ولعلنا لكي نقرب من موضوعنا نسأل هذا السؤال: هل كان العالم يستطيع أن يقف على درجة السلم التي يقف عليها الآن لو لم تكن مدنية الإسلام؟ هل لو لم يكن في الوجود مدنية بغداد ومدنية قرطبة والحروب الصليبية، كانت المدنية الحديثة تبلغ ما بلغت الآن؟ هل كانت النهضة الأوربية الحديثة تحدث في الزمن الذي حدثت فيه لو لم ترتكز على المدنية الإسلامية؟
هذا سؤال واحد في أوضاع مختلفة، والإجابة عنه يسيرة، وهي إجابة بالنفي القاطع، ولا يعلم إلا الله كم كانت تتأخر المدنية الحديثة لو لم ترتكز على المدنية الإسلامية وتطير على عاتقها، فالمتتبع لتاريخ المدنيات يرى أنه حلقات يسلم بعضها إلى بعض، ويستفيد لاحقها بما وصل إليه سابقها، وقد كانت المدنية الإسلامية هي التي في الذروة قبيل المدنية الحديثة، ولم يكن يضارع بغداد وقرطبة مدنية أخرى في العالم في مدنيتهما وثقافتهما وصناعتهما ، ونظمهما الإدارية والحربية، ولتوضيح ذلك ننظر في أسس المدنية الحديثة ونبين علاقة هذه الأسس بالمدنية الإسلامية:
لقد بنيت النهضة الحديثة في الثقافة على أساسين؛ وهما الشك والتجربة - كانت الثقافة في القرون الوسطى تعتمد كل الاعتماد على آراء اليونان، وتقدس ما قال أفلاطون وأرسطو كل التقديس، فإذا قال أرسطو قولا فلا يمكن إلا أن يكون صحيحا، وإذا كان الحس يدل على غير ما يقول وجب أن نعتبر الحس خداعا، والحقيقة ما قال أرسطو!
لقد قال أرسطو إن الجسم إذا كان أثقل كان إلى الأرض أسرع، ولكن صعد بعضهم من مكان عال ورمى في وقت واحد كتلتين وزن إحداهما ضعف الأخرى فوصلا إلى الأرض معا، ومع هذا قالوا إن الحق ما قال أرسطو، ويجب أن يؤول الواقع، وهكذا.
وكانوا يعتمدون كل الاعتماد على القياس المنطقي وحده يؤيدون به المذاهب والآراء، والقياس المنطقي وحده وسيلة عقيمة؛ لأنه يجعلك تسلم بالمقدمات تسليما أعمى وتعنى فيه بالشكل، فجاءت النهضة الحديثة تشك في هذه المقدمات العامة، وتمتحنها، وتجري التجارب عليها، ولا تؤمن بشيء حتى تدل التجارب على صحته، وكان هذا دعامة النهضة الحديثة.
والحق أن هذه طريقة لم تكن بعيدة عن المسلمين ولا خفيت عليهم؛ فالتاريخ يحدثنا أن النظام ألف في نقد آراء أرسطو، وأن تلميذه الجاحظ في كتابه الحيوان يطلع اطلاعا واسعا على أقوال أرسطو ثم لا يمنحها هذا التقديس، بل ينقدها نقدا جريئا ويقول: قد جربنا قول أرسطو فلم نجده صحيحا، ويقول: «إن قوله هذا غريب»، وهو «قول لا يجيزه العقل»، إلى كثير من أمثال ذلك، وربما فضل على قوله قولا آخر قاله عربي جاهلي في بيت من الشعر؛ لأنه أقرب إلى العقل، فهو بهذا قد جعل عقله حكما على أرسطو؛ على حين أن فلاسفة القرون الوسطى في أوربا جعلوا أرسطو حكما على العقل.
والبيروني يحكم عقله في الرياضيات، ويقارن بين نظريات اليونان ونظريات الهند، ويفضل هذه حينا وهذه حينا في كتابه الآثار الباقية، وحينا لا يقبل هذه ولا تلك ويعتمد على عقله الصرف ، ويقف الغزالي في كتابه «المنقذ من الضلال» الموقف الذي وقفه بعد ديكارت فيقول: «إنه رأى صبيان النصارى ينشأون على النصرانية، وصبيان اليهود على اليهودية، وصبيان المسلمين على الإسلام، وإنه لم يقنع بهذا الدين التقليدي التلقيني، وطلب أن يعلم حقائق الأمور، وأن يبني دينه على يقين، وقال إنه بدأ بالشك في كل ذلك حتى يقوم البرهان على صحته، ولم يسمح لنفسه باعتقاد حتى يتأكد من صحته»، وقال: «كل ما لا أعلمه على هذا الوجه ولا أتيقنه هذا النوع من اليقين، فهو علم لا ثقة به، ولا أمان معه، فليس بعلم يقيني»،.
وابن خلدون نظر إلى المجتمع الإنساني هذا النظر الحر الطليق، فاستفاد مما قال أرسطو وغيره، ولكنه لم يتقيد به، ونظر في مجتمعات لم يصل إليها علم أرسطو، وهي القبائل العربية والدول الإسلامية، واستنتج من ذلك كله نظرياته التي كانت ولا تزال محل تقدير علماء الاجتماع والتاريخ من الأوربيين وإعجابهم.
وعلى الجملة، فهذه الأسس التي بنيت عليها النهضة الحديثة في أوربا من تحرير العقل من قيود الأوهام، ومن عبادة العظماء أمثال أرسطو، ومن وضع القوانين بعد الملاحظة والتجربة، وبعد الشك فيما اتخذه الأقدمون قضايا مسلمة، كله كان منبثا في الثقافة الإسلامية في عصورها الزهية، وكل ما في الأمر أن الذين بنوا على هذه الأسس القيمة هم الأوربيون لا المسلمون، وأن من سوء حظ المسلمين أن وضعت في سبيلهم عقبات، ليس منشؤها دينهم، حالت بينهم وبين أن يتموا ما بدأوا، وأن يشيدوا فوق ما أسسوا، ولكن من الحق أنا إذا أردنا أن نقوم بناء لا نكون سطحيين فنقوم ظاهره ولا نقوم باطنه، ونقوم أعلاه ولا نقوم أساسه.
ووجه آخر بجانب هذا، وهو أن ثقافة المسلمين لم تكن جميعها متجهة اتجاه الفلسفة اليونانية والعلوم اليونانية، فقد كانت لهم مناح في الثقافة خاصة بهم، لم يعتمدوا فيها على غيرهم إلا اعتمادا ضعيفا غير مباشر، فما أنشأوا من علوم لغتهم كالنحو والصرف والبلاغة، وأدبهم الذي رقوا به أدب جاهليتهم وساروا به على منهج خاص بهم ، لا على المنهج اليوناني، ولا على المنهج الفارسي، والعلوم الغزيرة التي أنشأوها حول دينهم من تفسير للقرآن والحديث ومن فقه، قابلوا به قضاياهم ونظامهم وحياتهم الاجتماعية الخاصة، وما أسسوا له من أصول الفقه الذي لم يجروا فيه على منوال سبق؛ كل هذه وأمثالها كانت مظهرا من مظاهر الاختراع العقلي للمسلمين، وكل هذه كانت عوامل في بناء المدنية الإسلامية التي بنيت عليها المدنية الحديثة.
وقد حفظ لنا التاريخ بعض الصلات التي ربطت بين المدنية الإسلامية والمدنية الأوربية، وأبان لنا كيف استمدت الثانية من الأولى، وكشف لنا عن بعض الجداول التي كانت تتسرب من المدن الإسلامية تصب في المدن الأوربية، وإن كان بعضها لم يزل مطمورا إلى اليوم ولم يستكشف بعد.
فقد اتصل الأوربيون بالمسلمين في الأندلس اتصالا وثيقا، واتخذ علماؤهم فلاسفة المسلمين أساتذة يتعلمون منهم ويدرسون عليهم، ونشطت حركة واسعة النطاق لنقل أهم المؤلفات العربية إلى اللغة اللاتينية، وهي لغة الأدباء والعلماء في القرون الوسطى، حتى إن كثيرا مما بقي من مؤلفات ابن رشد حفظت إلى الآن باللغة اللاتينية، ولا نجد أصلها بالعربية، وكان من أشهر من قام بهذه الحركة «ريموند»
Raymond
الذي كان مطرانا لطليطلة من سنة 1130 - سنة 1150، فقد أسس جمعية لنقل أهم الكتب الفلسفية والعلمية العربية إلى اللغة اللاتينية، فنقلوا من العربية أهم كتب الفارابي وابن سينا، وكان من أثر هذه الجمعية أن رأينا منطق أرسطو المترجم من العربية إلى اللاتينية يقرأ في باريس بعد ثلاثين سنة من عمل هذه الجمعية، وقد مرت حركة استفادة الأوربيين من الثقافة اليونانية في ثلاثة أدوار:
الدور الأول:
نقل الفلسفة اليونانية والكتب العلمية من العربية إلى اللاتينية.
والدور الثاني:
النقل من اليونانية مباشرة بعد سقوط القسطنطينية.
والثالث:
نقل الشروح العربية إلى اللاتينية.
وجاء فردريك الثاني سنة 1215، واتصل بالمسلمين اتصالا وثيقا في صقلية وفي الشام في حروبه الصليبية، واقتبس كثيرا من آرائهم وعاداتهم وعقائدهم، وقد وصفه المؤرخون بأنه كان يعجب بفلاسفة المسلمين، وكان يعرف اللغة العربية ويستطيع أن يقرأ بها الكتب الفلسفية في مصادرها الأصلية ، وأنشأ سنة 1224 مجمعا في نابلي لنقل العلوم العربية والفلسفة العربية إلى اللاتينية والعبرية لنشرها في أوربا، وبفضل فردريك ذهب «ميكائيل سكوت» إلى طليطلة وترجم شروح ابن رشد على أرسطو، وقبل ذلك كانت قد نقلت إلى اللاتينية جمهرة من كتب ابن سينا، واستعملت في باريس حول سنة 1200م.
وفي القرن الثالث عشر كانت كل كتب ابن رشد تقريبا قد ترجمت إلى اللاتينية ما عدا كتبا قليلة، منها كتاب تهافت التهافت الذي رد به على تهافت الفلاسفة للغزالي، فقد ترجمت في القرن الرابع عشر.
وكان أهم مركز لتعاليم ابن رشد في جامعة بولونيا وجامعة بادوا
في إيطاليا، ومنهما انتشرت هذه الثقافة في إيطاليا الشمالية الشرقية إلى القرن السابع عشر، واستمرت كتب ابن سينا في الطب سائدة إلى ما بعد هذا العصر.
ورجال النهضة الحديثة الذين قاموا بحركة الثورة الفكرية كانوا يدرسون على هذه الكتب، أو يتتلمذون لمن درسوا عليها، فروجر بيكون الذي سبق أهل زمنه في معارفه وطريقة بحثه أخذ ثقافته العلمية من الأندلس، ودرس فلسفة ابن رشد، والقسم الخامس من كتابه في البصريات
Optics
مستمد ومساير لكتاب ابن الهيثم في هذا الموضوع نفسه.
وطالما ارتفعت شكوى رجال الدين في الأندلس من أن المسحيين يدرسون علم العرب المسلمين، وعابوا مطران أشبيلية لأنه يدرس في جد فلسفة الكافرين؛ يعنون المسلمين.
وعلى كل، فجملة الأمر في مدنية المسلمين كما لخصها الأستاذ لكي
Lecky
خير تلخيص، إذ قال:
لم تبدأ النهضة الفكرية في أوربا إلا بعد أن انتقل التعليم من الأديرة إلى الجامعات، وإلا بعد أن حطمت العلوم الإسلامية، والأفكار اليونانية والاستقلال الصناعي، سلطان الكنيسة. •••
هذا هو موقف المسلمين أمس من المدنية، ولا بد أن نلقي نظرة على موقفهم اليوم من المدنية الحديثة، ومما يؤسف له حقا أن نقول إن المسلمين لا يشتركون اليوم في بناء صرح المدنية اشتراكا كبيرا؛ لأن حديثهم هو تقليد للمدنية الحديثة، وقديمهم هو مدنية القرون الوسطى، فهم في الصناعات والمخترعات ونظم الحكومات والإدارات، وفي كتبهم التي تؤلف في العلوم الحديثة من جغرافيا وتاريخ وطبيعة وكيمياء وما إليهما، ونظام مدارسهم الحديثة ومحاكمهم وقوانينهم، كل هذا يقلدون فيه المدنية الغربية، وكلما زاد التقليد فيها عدت أقرب إلى الكمال، وقديمهم من مثل دراسات علومهم كالنحو والصرف والفلسفة الإسلامية، ومن مثل قضائهم في المحاكم الشرعية، ومن مثل مدارسهم الدينية، ونحو ذلك، كلها على نمط مدنية القرون الوسطى؛ فهم - في ظاهر الأمر - لا يضعون أحجارا كبيرة في بناء المدنية الحديثة، ولا يلونونها بلون خاص، ولكن هل الذنب في ذلك ذنب الإسلام والمسلمين؟
إذا عرضت نفسك لتبني فمنعك صاحب البناء بالقوة، فالذنب ذنب من منع لا من منع، وهكذا الشأن في موقف المسلمين، لقد سبقهم الغربيون باستخدام العلم في قوة تسلحهم إلى أقصى حد يمكن فيه استخدام العلم، فوجهوا هذه القوى الهائلة إلى الشرق، ولم يكن قد صحا بعد من سباته الذي سببه ما فسد من عقيدته، وما فسد من سياسته، وما فسد من شئونه الاجتماعية، فسلط عليه الغرب نظرة استغلال فساعده على كل ما يفيد الاستغلال، ومنعه من عمل كل شيء يفيد الاستقلال، فهو إذا أراد أن يتثقف كما يشاء، أو يرقي شئونه الاجتماعية كما يشاء، أو أن يحكم نفسه كما يشاء، أو أن يرقي أخلاقه كما يشاء، منعه الغرب من ذلك حرصا على فائدته في هذا الاستغلال، والشرق لا يستطيع أن يقاوم إلا بالقوة، والقوة محرمة عليه؛ فهل بعد بذلك هو الذي يتحمل تبعة عدم اشتراكه في البناء؟!
إني لأرجو أن الزمن ورقي الأفكار السياسية التي تخطو هذه الأيام خطوات سريعة تجعل الغربي ينظر إلى الشرق نظرة تعاون، فيدرك أن طريقة الاستغلال ليست أصلح الطرق حتى من الناحية الاقتصادية، وأن رقي الشرقي والسماح له بالبناء يزيد في صرح المدنية ويرفع بناءها، ويسرع في علو شأنها، وكما تبين للناس أن نظام الإقطاع وتسخير الملك للعبيد لم يكن في مصلحة الملاك ولا العبيد، فحطموا هذا النظام من أساسه، وأسسوه من جديد على تحرير العبيد وتعاون الملوك والمستأجرين، وأرباب الأموال والعمال، فكذلك سيكون الشأن مع الحاكمين والمحكومين؛ يتعاونون ولا يتقاتلون، ويتفاهمون ولا يتنازعون، ويتحاكمون إلى الرأي والعقل لا إلى القوة والسلاح، وأرجو ألا يكون ذلك بعيدا.
على أن من العدل أن نقول إن التبعة في ذلك كله لا تقع على الغربيين وحدهم، فإن هناك عوامل في المسلمين أنفسهم جعلتهم في هذا الموقف الحرج؛ فهناك علماء جامدون ضيقوا العقل، وقفوا موقفا مزريا في تاريخ المسلمين، وعاقوا رقيهم وتقدمهم، فكان كلما حاول الإصلاح محاول ثاروا عليه باسم الدين؛ إن أراد إصلاح المحاكم ثاروا عليه ورموه بالمروق، وإن أراد تنظيم الإدارة الحكومية قالوا لا عهد لنا بهذا، ويجب أن نتتبع آباءنا وإنا على آثارهم مقتدون، وإن أراد تعليم المرأة قالوا ما بهذا أتى الدين!
وهكذا كانوا حجر عثرة في سبيل كل مصلح حتى عظم الخطب، واشتد الكرب، وأولو الأمر في المسلمين إذ ذاك لم يكن يهمهم إلا شهواتهم وفخفختهم الكاذبة، ومظاهرهم الخادعة، أما الاتجاه الصحيح إلى ترقية رعيتهم وتثقيفهم، وتنوير أذهانهم، ونشر العدل بينهم فكانوا قلما يأبهون له؛ فهؤلاء وأولئك كانوا السبب في أن يقف المسلمون هذا الموقف الذي شكونا منه من قبل.
ومع هذا فتنبه المسلمين اليوم، وسير حركات الإصلاح بينهم سيرا حثيثا، يدعونا أن نؤمل قرب اليوم الذي يتبوأون فيه مكانتهم اللائقة بهم، فإذا قارنت هذه النهضة الداخلية في رقي الفكر السياسي عند الغربيين، وتعديل نظرتهم نحو المسلمين كان من وراء ذلك كله نهضة جدية يبني فيها المسلمون في المدنية بناء صالحا مصبوغا بعقيدتهم وأفكارهم، فنرى إذ ذاك فلسفة خاصة وثقافة خاصة، وروحانية خاصة، قد تلون المدنية الحديثة عامة بلون خاص غير لونها الحالي.
الفصل الثاني والعشرون
المسلمون أمس واليوم
في نحو ثلاثة وعشرين عاما استطاع محمد رسول الله (
صلى الله عليه وسلم ) بما منح من قوة العقيدة، وصدق العزيمة، وبعد النظر، وتأييد الله، أن يحول العرب من جماعات مختلفة اللغة، مختلفة الدين، مختلفة الرأي، مختلفة الأهواء، تشعر بالضعة إذا قارنت نفسها بمن حولها، وبالذلة إذا رأت من في جوارها، لا يفكر الفرد فيها إلا في نفسه، فإن اتسع أفقه ففي قبيلته، فإن فكر في قبيلة أخرى ففي الانتقام والأخذ بالثأر، وشن الغارة للسلب والنهب - إلى أمة واحدة، متحدة اللغة، متحدة الدين، متحدة الرأي، يشعر الفرد فيها أنه من أمة أعزها الله بالإسلام، وفضلها به على الأنام، وجعلهم خير أمة أخرجت للناس، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالله، وليس ذلك بالكثير في تاريخ الأمم.
فإن مات محمد (
صلى الله عليه وسلم ) ولم يتعد إصلاحه جزيرة العرب، فقد أعد أمة لإصلاح غيرها، ولسيادة الناس خير إعداد، حتى إذا وجهها قادتها نحو الفتح، أتوا بما حير علماء السياسة والاجتماع والتاريخ إلى اليوم؛ بسطوا سلطانهم على جزء كبير من العالم في أقل من عشر سنين، ولم يكن فتحهم تخريبا وتدميرا، إنما كان فتحا منظما أحكمت قواعده وأصوله، واستمروا ينتقلون من فتح إلى فتح، ومن ظفر إلى ظفر، مما يجعل الباحث يقتنع بأن نجاحهم لم يكن حظا أتيح لهم، ولا مصادفة وقعوا عليها، إنما كان نتيجة مبادئ صحيحة اعتنقوها، ونفوس قوية حتمت صدورهم عليها، ومع ما عرض لهم من خلاف فيما بينهم كان من طبيعته أن يودي بأمثالهم من حروب داخلية ومنازعات سياسية وخلافات دينية، تغلبوا على كل ذلك، ولم يمنعهم من الظفر بعدوهم واستمرارهم في فتوحهم.
ثم هم ساهموا في كل شأن من شئون المدنية؛ إن نظرت إلى الدين فقد دعوا إلى دينهم فدخل الناس فيه أفواجا في هدوء من غير عنف، ولم يمض قرنان على فتحهم حتى كان أكثر البلاد المفتوحة على دينهم، ثم هو لا يزال ينتشر إلى اليوم مع انعدام الدعاة وعدم حماية الدعوة، وإن نظرت إلى اللغة رأيتهم هيئوا لغتهم لكل جديد ووسعوها - وهي البدوية الأصل والمنشأ - حتى أحاطت بكل مرافق المدنية إذ ذاك، وحتى زاحمت الفارسية في فارس، والرومانية في الشام، والقبطية في مصر، وسارت مع الدين جنبا لجنب، كلما ظفر الدين ظفرت اللغة، وكسبت لغتهم قادة الفكر في كل هذه الأمم المفتوحة، فأصبحوا يمنحونها خير أفكارهم وأفكار أممهم، وظلت اللغة العربية تسود حتى نسي كثير من الأمم لغتهم الأصلية، وأحلوا محلها العربية، ولو لم يعتنقوا الإسلام.
وإن نظرت إلى النظم والتشريع فكذلك؛ قد أقلم المشرفون أنفسهم وكانوا حيث حلوا مرنين يقفون موقف المتفهم للموجود من نظم وقوانين، ثم يقرون ما لم يتعارض وأصول دينهم، ويغيرون أصول ما تعارض، ووقف الفقهاء في كل قطر يوسعون مذاهبهم حسب الحاجة وحسب الإقليم الذي حلوه، وخلفوا من كل ذلك قوانين لا تزال إلى اليوم محل إعجاب المنصفين من المتشرعين.
وإن التفت إلى العلم رأيت أنهم في كل فرع من فروع العلم أخذوا بحظ وافر، لم يمنعهم دينهم أن يأخذوا عن وثنيي اليونان فلسفتهم، ولا عن النساطرة طبهم، ولا عن اليهود ما يروون من أخبار أنبيائهم وعلمائهم، وأبلوا في العلم بلاء لا يقل عن بلائهم في الحرب؛ فحيث حلوا رأيت علما كثيرا وجدا عجيبا، ثم خلفوا من كل ذلك ثروة فيها غاية ما وصل إليه العلم لعهدهم؛ فهموا ما كان من علم قبلهم، وتداولوه بالشرح والنقد، وضموا إليه ما أوحته نظرات دينهم من علوم إسلامية ومذاهب دينية، وزادوا في ثروة من قبلهم بما بذلوا من جهد وأنفقوا من مال ونفس.
فلم لم يكونوا سادة العالم ؟ فقد كانوا سادة في العالم، وإن لم يكونوا رأسه المفكر، فقد كانوا رأسا من الرءوس، لا عبيدا ولا أذنابا، ووقفوا في بعض أيام تاريخهم من العالم موقف المعلم؛ يرحل من أراد العلم من الأوربيين إليهم، وينقلون إلى اللاتينية كتبهم، ويدرسون في جامعاتهم علمهم، وفي السياسة العالمية وقفوا موقف الموازن، يسمع لقولهم ويحسب حسابهم، وتعقد المعاهدات المحترمة معهم. •••
ثم دار الزمن دورته وأصبح سادة الأمس عبيد اليوم، ورءوس الأمس أذناب اليوم، وشباب الأمس هرم اليوم، وقضى على حضارتهم ما قضى على حضارة اليونان والرومان والآشوريين والبابليين وقدماء المصريين، إلا فرقا واحدا، وهو أن حامل لواء الحضارة الإسلامية لا يزال حيا وإن كان شيخا فانيا، وإن الشيخ إن لم يصب بالعقم فقد يلد طفلا يمر بأدوار الحياة، ومنها الشباب، وإن الأمم إن لم تمت فلها أيام، فقد يكون للإسلام فجر، وضحى، وعصر، وغروب، ولكن لا يلبث الليل حتى ينجلي عن صبح آخر فيه كل صفات الصباح، من نور وضياء، وإشراق يدفع للحركة، ونسيم يبعث الحياة.
وبالفعل يظهر أن هذا الشيخ الفاني قد مات أو كاد، وأن الله فالق الإصباح ومخرج الحي من الميت لم يصبه بالعقم، ووهبه ما وهب زكريا
إذ نادى ربه نداء خفيا * قال رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعائك رب شقيا * وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقرا فهب لي من لدنك وليا * يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا * يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا .
ولكن إن ورث «يحيى» من زكريا علما وحكمة فإني أخشى أن يرث «يحيانا» تركة قد أثقلت بالديون وأفعمت بالمغارم، فهل من سبيل إلى أن يرث من آبائه الأبعدين لا من آبائه الأقربين؟ يحدثنا علماء الوراثة بأن ذلك جائز في قوانينهم، وأن بعض الأبناء يرث من جده الأبعد لا من أبيه الأقرب.
وإن كان ذلك كذلك فخير له؛ فإن أباه أشعث أغبر، لوحته الهموم وأحنت ظهره الأحداث، أما جده البعيد فجميل المحيا، مشرق الجبين، صارعه الدهر فصرع الدهر، وأرادت أن تنال منه الأحداث فنال منها، ولكن أنى لنا ذلك، ومربوه من جنس أبيه، فإن لم تفسده الوراثة أفسدته البيئة، وأفسده المربي، وأفسده الموالي من ورائه يكيدون له ويضعون الخطط تلو الخطط لاغتياله!
لا يكون ذلك حتى يرزق «يحيى» بالمثل الصالح والمربى الصالح، يفتح عينيه ليرى ما حوله، ويضع له البرامج ليعده أن يكون سيدا مع السادة ورأسا بجانب الرءوس، يبني صرح المدنية مع بناته، ويشيد العالم مع مشيديه، فإن كان العالم لا يسع إلا مدنية واحدة شارك فيها، وإن كان يسع مدنيتين فأكثر أسس هو مدنية تتفق وروحه، وعقليته ونفسيته، ودينه وخصائصه. •••
من نحو خمسة قرون فقد المسلمون مركزهم العالمي، وأصبحوا حيث حلوا عنوان الذل والعبودية، وحلفاء الفقر والمسكنة، ولم يكن تأخرهم راجعا إلى بيئتهم كما يذهب بعض الباحثين، فهم يسكنون بيئات تختلف حرارة وبرودة، وتختلف خصبا وجدبا، وتختلف جفافا ورطوبة، وهم مع ذلك في مستوى واحد من الضعة والتأخر، على أن الأمر لو كان يرجع إلى البيئة ما تداول عز وبؤس ونعيم وشقاء، وسيادة الأشراف وصعلكة العبيد، ولكانوا على حال واحد أبدا؛ لأن البيئة تلازمهم أبدا.
كما أن الأمر لا يرجع إلى ما يجري في عروقهم من دم؛ فدمهم الذي يجري فيهم اليوم هو من نوع الدم الذي كان يجري في عروقهم أمس، وقد بطلت نظرية أن الله اختار من عباده جميعا شعبا واحدا عهد إليه تنظيم العالم وسيادته، هو الشعب النيوتوني أو الشعب الآري، فليس من أمة إلا وهي خليط من دماء مختلفة، ولو كان كذلك لما عزوا وذلوا وعلوا وسفلوا.
وليس أمر المسلمين كذلك يرجع إلى دينهم؛ فدينهم قديما كان هو سبب سعادتهم، وهو الذي انتشلهم من بؤس وأعزهم من ذل، والدين متى كان صالحا في أسسه؛ كالإسلام، كان باعثا على الإصلاح لا الفساد، وعلى النهوض لا الانحطاط، إنما هو ككل دين يختلف باختلاف العين التي تنظر إليه، فإن صلحت العين صلح ما تنظر إليه، وإن ساءت ساء، بل قد رأينا في تاريخ الأمم عينا صحيحة ودينا مريضا استطاعت العين لصحتها أن تصلح منظره وتجمل شكله.
على أني لا أرى أن المسلمين تأخروا وانحطوا بالمعنى الحرفي الذي يفهم من الكلمة؛ أعني الرجوع إلى الوراء، بل كل ما في الأمر أنهم وقفوا حيث كانوا من خمسة قرون، وغيرهم سائرون، وناموا وغيرهم أيقاظ، فلما بدأوا ينتبهون رأوا الشقة بعيدة، واللحاق يتطلب عزما قويا وجهدا بالغا.
مظاهر هذا الوقوف - وإن شئت فسمه الركود - متجلية في كل مرفق من مرافق الحياة؛ ففي اللغة - وهي أداة الثقافة، وآلة العلم، ووسيلة الرقي العقلي - وقفنا حيث انتهى الأمر بالدولة العباسية، ولم نساير الزمن ولم نخط معه خطواته، تغير وجه الحياة، واخترعت ألوف الآلات، ومعاجم لغتنا كما هي، لا تعترف إلا بما كان، وتهمل ما هو كائن وما سيكون، فلا هي توسعت في مدلول الكلمات العربية ووضعت منها أسماء للجديد، ولا هي سمحت بالكلمات الأجنبية أن تدخل من غير تعديل أو بتعديل، والخلاف محتدم، والنزاع قائم، ومركزنا كما هو لم نتقدم فيه شبرا، مع أنا واجهنا هذا الأمر منذ احتكاكنا بالمدنية الحديثة، وحرنا في تصرفاتنا؛ فحينا ندرس كثيرا من المواد في مدارسنا بلغة أجنبية، وحينا تأخذنا العزة القوية فنحولها إلى العربية، والنقص كما هو، والموقف كما هو.
وفي التشريع تغير العالم في معاملاته، فأنتجت المدنية الحديثة أنواعا من المعاملات عديدة، وأنواعا من الجرائم جديدة، ونظما في الحكم والقضاء، فأبى رجالنا إلا أن يقفوا حيث هم، أبوا أن يفتحوا أعينهم لأنواع الشركات إلا ما نص عليه في الكتب القديمة من شركة مفاوضة ووجوه وعنان، وأبوا أن ينظروا إلى نظام الجمارك إلا ما ورد في كتب الفقه في باب العاشر، وأبوا أن ينظروا في جرائم الكيوف والاختلاس والتزوير إلا ما جاء في باب التعزير، فكان من الزمن أن تركهم فيما هم فيه، وسلب من يدهم أوسع أبواب التشريع، وهي ما يتعلق بالمسائل المدنية والعقوبات، واستمد من قانون نابليون؛ إذ أبى بالعلماء أن يمدوه بالفقه، أو لم يترك في يدهم إلا الأحوال الشخصية إلى حين.
وكان موقفنا في الأخلاق موقفنا في اللغة والتشريع؛ فالمدنية الحديثة كان لها من الأثر ما غير قيم الأخلاق، وقلب أوضاعها، وطبعها بطابع جديد؛ ذلك أن أكبر أسس المدنية الحديثة وأهم أركانها الصناعة، ومن أجل هذا قومت الأخلاق من جديد على أساس الصناعة، ورتبت قائمة الأخلاق ترتيبا يتفق والصناعة، فخير الأخلاق النظام، والنظافة، والصدق في المعاملة، والمحافظة على الزمن، والاقتصاد، وما إلى ذلك، وجعلت هذه الصفات في المنزلة الأولى، ووضع للعمال نظم لحمايتهم وترقية شئونهم من نقابات وجمعيات، وقلبت القائمة التي وضعت في القرون الوسطى رأسا على عقب؛ فالحياء والتواضع والسماحة ونحوها قل أن تعد فضائل، وإذا سمح بعدها ففي ذيل القائمة؛ لأنها لا تتناسب مع أخلاق القوة وأخلاق الصناعة؛ فليس خير الصناع أشدهم حياء وأكثرهم تواضعا، ولكن خيرهم أقواهم وأمهرهم، وأحفظهم على نظام، وأشدهم مراعاة لموعد، وهكذا.
وجاء العلم فخدم هذا النظر؛ لأنه رقى الصناعات رقيا عظيما بفضل ما يقدمه لها كل يوم من مكتشف جديد، وبجانب هذا تحكم العلم في تقويم الأخلاق، فغير الأنظار القديمة، وجعل المقياس سعادة الناس ورفاهيتهم في الحياة الدنيا، ولم يعبأ بالتقدير المأثور عن السلف، فنظر من جديد إلى الموسيقى والألعاب وسائر الفنون وحكم بالحسن على ما كان يحكم عليه من قبل بالقبح، وعد كثيرا مما كان قبل إثما وحراما وجريمة محمدة وخيرا وفضيلة، ورأى أن ما في حياة القرون الوسطى من رهبنة واعتكاف في الأديرة والتكايا ونحو ذلك، عيشة كسل وخمول لا تتفق وخير الناس «فمن لم يعمل لا يأكل».
جرى كل هذا والمسلمون حائرون بين تقاليدهم القديمة وما تقدمه المدنية الحديثة من نظر جديد، والزمن لا ينتظرهم في حل الإشكال واختيار أحد الطريقين، فلما ترددوا جرفهم طوعا أو كرها من غير أن ينظرهم حتى يبتوا فيما يتفق وأخلاق المدنية الحديثة مع تقاليدهم ودينهم وتاريخهم، وما لا يتفق.
ويطول بنا القول لو عددنا كل مرفق من مرافق الحياة وأبنا ما أصابه من ركود، فنجتزئ بما ذكرنا من أمثلة للدلالة على باقيها. •••
ثارت أوربا في التاريخ الحديث ثورات سياسية وثورات صناعية، كان من نتائجها تغيرها تغيرا كبيرا في القرن التاسع عشر؛ فمن الناحية السياسية حلت الديمقراطية محل الأرستقراطية بما يتبع ذلك من تغير في النظم والتشريع، ومن الناحية الصناعية، حلت المصانع الكبيرة والشركات والسكك الحديدية والتلغرافات والتليفونات والكهرباء محل المظاهر الساذجة من صناعات يدوية، وحمل على الخيل والبغال، واستنارة بالشمع والزيوت، وما إلى ذلك.
وهذا التغيير السياسي والصناعي هو ما نسميه بالمدنية الحديثة، وتبع هذا التغير الداخلي في أوربا تغير آخر خارجي، فقد اتجهت أفكار قادة الرأي فيهم إلى غزو آسيا وإفريقيا، وكان الباعث لها على ذلك جملة أمور:
أولها:
اقتصادي، وهي أن تجد لها في الشرق أسواقا لصناعاتها التي ذكرنا، ولتجد لها في الشرق مواد أولية لتغذية صناعتها،
وثانيها:
وطني، وهو أن كل أمة من أمم أوربا فشت فيها النزعة الوطنية، وامتلأت نفوس أهلها حمية، ودفعها ذلك لأن تتطلب كل أمة قوة المظهر داخلا وخارجا، ومن أهم ذلك، التوسع في الاستعمار وبسط النفوذ، والفخر بلون الخرائط.
وثالثها:
وهو أقل من الأولين شأنا، الدافع الديني؛ فقد دفع قوما من أوربا لنشر الدعوة المسيحية في البلاد الإسلامية، واستعانوا بالسلطة على حمايتهم.
على كل حال، حمل الأوربيون إلى آسيا وإفريقيا مدنيتهم مع فتحهم، وكان لا بد لهم أن ينظموا الحال فيهما بما يتفق والنظام السائد عندهم؛ ففي التشريع لا بد أن تسود المبادئ القانونية السائدة في أوربا؛ حتى تسهل التجارة، ويأمنوا على معاملتهم للشرقيين، ولا بد من انتشار المدنية الحديثة بآلاتها وأدواتها؛ حتى تروج في الشرق البضائع الأوربية، ولا بد أن يتعلم طائفة من المفتوحين على النمط الأوربي الحديث، وأن يكونوا هم المتولين المناصب الكبيرة؛ حتى يمكن التفاهم معهم في تسيير الشئون.
وهكذا، كان من أثر انتشار هذه المدنية بين المسلمين نتائج كثيرة؛ أهمها فيما يظهر لي أمران:
الأول:
اختلال التوازن بين الأمم الشرقية عامة، والأمم الإسلامية خاصة، وأكبر ما تمنى به أمة اختلال توازنها؛ ذلك أن المدنية الحديثة بما استتبعها من تغير في مظاهر الحياة الاجتماعية ومن تعديل في قيم الأخلاق، كانت نتيجة لثورات داخلية شبت، وآمال وآلام جاشت في صدره، وتجارب جربها وأخطأ فيها فأصلح خطأه، وهكذا كانت حركاته سلسلة متصلة تسلم حلقة منها إلى حلقة، وتسير في التدرج فيها سيرا طبيعيا.
أما في الشرق فجاءته هذه المدنية لا من داخل نفسه بل من خارجها، وفرق كبير بين ما دعت إليه الطبيعة وما دعا إليه التقليد، ولاختلال هذا التوازن مظاهر كثيرة؛ فإن نظرت إلى القضاء فقضاء شرعي في الأحوال الشخصية يطبق نظم المدنية الإسلامية، وقضاء أهلي يطبق نظم أوربا ممصرة وقضاء مختلط يخالفهما، وفي الحياة الاجتماعية، نرى قرى لم يتأثر أهلها بالمدنية الحديثة في قليل من شئونهم ولا كثير، ومدنا تأثرت إلى حد كبير بها حتى في أدق أمورها، ولعل خير ما يمثل مظاهرنا المختلفة المضطربة اختلاف ملابسنا وتعدد أشكالها، مما لا يعرف له نظير في أوربا.
وفي التعليم أنواع تتبع الأنماط الإسلامية في عصورها، وأنماط تتبع المدنية الحديثة في مظاهرها وأشكالها، وهكذا فإن أنت نظرت إلى أية أمة أوربية في كل مظاهر الحياة من لغة وتعليم وملبس ومظهر اجتماعي، رأيت فيها وحدة رغم الاختلافات السطحية، وإن أنت نظرت إلى حياة المسلمين في كل مرفق من هذه المرافق لم تجد هذه الوحدة، ووجدت الخلاف في الصميم: نرى نزعات تتجه نحو تاريخهم ودينهم ومدنيتهم القديمة، ونزعات تتجه نحو المدنية الحديثة، ولا رابطة تربط هذه النزعات.
وترى ناحية من نواحي المدنية الحديثة تطغى وتكثر ولا يماثلها ما يقابلها، فيطغى - مثلا - في الشرق لهو أوربا من خمر ورقص وحياة مترفة، وهي كثيرة في أوربا كثرة تفوق بمراحل ما في الشرق، ولكنها في أوربا تتعادل وتتوازن؛ فلهو كثير يزنه جد كثير، وإجرام يوازنه حزم، وليس كذلك في الشرق؛ فلهو لا يعد له جد، وإجرام لا يوازنه حزم، وعلى هذا النمط يختل التوازن، وتفقد الأمة قوتها الحيوية، ولا يمكن أن تصلح هذه الحال إلا إذا توافر جماعة من خير الأمة على دراسة الموقف الاجتماعي للمسلمين والشرق، دراسة عميقة مسلحة بما وصل إليه علم الاجتماع وعلم النفس والتاريخ، ثم يضعون بعد هذه الدراسة الأكاديمية خططا للسير في هذا الظرف العصيب؛ ظرف الانتقال؛ يعرفون الداء ويصفون الدواء، يعلمون مدنيتهم القديمة والمدنية الحديثة ومعايب كل، ومزايا كل، ويعلمون الحالة النفسية لأممهم وما يناسبهم وما لا يناسبهم، ويبينون «خطة الانتخاب»؛ يعرفون مناحي اختلال التوازن وأسبابها، ويرسمون طريقة إعادة التوازن.
والأمر الثاني:
من نتائج انتشار المدنية الحديثة بين المسلمين أمر يناقض الأول ويكاد يسير سيرا عكسيا معه؛ ذلك أن انتشار التعاليم الجديدة للمدنية الحديثة واضطرار الأوربيين لتأليف فرقة من المسلمين يتكلمون لغتهم، ويتعلمون مناهجهم، ويتشربون مبادئهم، أمكنت هذه الطائفة من الاطلاع على المبادئ التي تدعو إلى الديمقراطية، وتبث روح الوطنية فكان من ذلك أن أشربوا روح الثورة؛ نظروا إلى أممهم بالعين التي نظرت إلى هذه المبادئ فأيقنوا بحقهم في الحياة، وحقهم في الاستقلال، وحقهم أن يساهموا في بناء صرح المدنية، وأن يشاركوا في تحمل أعباء الإنسانية، وزادهم عقيدة في ذلك ما رأوا من أن أوربا تحكم آسيا وإفريقيا على قاعدة مختصرة موجزة واضحة طبيعية، وهي أنها تتجه في تسيير آلات الحكم إلى منفعتها هي، فحيث اتفقت مصلحة آسيا وإفريقيا مع أوربا نفذت المصلحة المشتركة، وحيث اختلفت مصلحة آسيا وإفريقيا مع مصلحة أوربا فطبيعي أن تنفذ مصلحة أوربا، وقد ينظر في تقدير المصلحة النظر الضيق القريب لا النظر الواسع البعيد.
كان من جراء هذا وذاك وجود الاصطدام وشعور الشرق بالغبن، وقيام الطائفة المتعلمة على النمط الحديث ببث روح الوطنية، وعملت هذه الحركة في النفوس سنين، وتكفل الزمن بأن يظهر كل حين وآخر حادثة تفتح عيونهم وتقوي شعورهم، فكان القلق في كل مكان في الشرق؛ في مصر، في تونس، في الجزائر، في مراكش، في فلسطين، في الشام، في العراق، في الهند، في غيرها من البلدان، قلق اقتصادي، وقلق وطني، وقلق ديني، هذا القلق أنتج وليدا جديدا هو ما وصفته قبل، ماذا ينتهي إليه هذا القلق؟ ماذا يكون شأن هذا الوليد ؟ ما تاريخه المستقبل؟ هذه الأسئلة وأمثالها خارجة من عنوان مقالنا، وهي بعنوان «المسلمون غدا» ألصق وأليق، وكل ما أعلمه الآن وأريد أن أقوله عن هذا الطفل أنه «لن يموت».
الفصل الثالث والعشرون
قوانين الحرب في الإسلام
في الوقت الذي تحمل إلينا فيه الأنباء تدمير المدن الأوربية الآهلة بالسكان
1 ، واحتمال عودة حرب الغازات السامة، وتخريب الطيارات والغواصات لكل ما تصل إليه، بكل ما تستطيع من قوة، ونحو ذلك من ويلات الحروب التي يعجز القلم عن وصف هولها - يلذ القارئ أن يعود إلى التاريخ يستعرض فيه التشريع المختلف للحرب، والأنظار المختلفة في تقدير الإنسانية.
ولعل من أروع هذه القوانين قانون الحرب في الإسلام، فمنذ ثلاثة عشر قرنا ونصف شرع الإسلام قوانين بلغت الغاية في تقدير الإنسانية، وبث الرحمة في النفوس، والدعوة إلى الرفق.
من ذلك أن لا حرب قبل الدعوة؛ لأن غرض الإسلام من الحرب ليس المال ولا الغنائم ولا الاستعمار، وإنما غرضه نشر دعوة يرى فيها الخير للإنسانية، فمن قبلها، أو قبل الخضوع لأحكامها، أو لم يمانع في سبيل نشرها، كان آمنا على نفسه وعلى ماله، وكان له ما للمسلمين وعليه ما عليهم، لا عبرة باللون من أبيض وأسود، ولا عبرة بالدم ولا بالجنسية، ولا بنحو ذلك مما تعيره الأمم الحديثة أكبر اهتمام، فالمسألة ليست حرب أجناس ولا حرب أوطان ولا حرب أمم، إنما هي في نظر الإسلام حرب مبادئ صالحة تنفع الإنسانية لمبادئ تضر الإنسانية، فالأخوة في نظره أخوة مبادئ، لا أخوة دم، ولا أخوة جنس، ولا أخوة وطن.
وكان مما أوصى به أبو بكر الجيش الذي بعثه في حروب الردة: «أن يؤذنوا إذا نزلوا منزلا، فإن أذن القوم فكفوا عنهم ... وإن أجابوكم إلى داعية الإسلام فسائلوهم عن الزكاة، فإن أقروا فاقبلوا منهم، وإن أبوا فقاتلوهم».
ولذلك لما تسرع خالد بن الوليد في قتل مالك بن نويرة بعد أن أظهر الإسلام، كان في ذلك موضع المؤاخذة، وطلب عمر من أبي بكر أن يقتص منه، ولكن أبا بكر قبل عذره وودى مالكا من بيت مال المسلمين، وأسرها عمر في نفسه، حتى إذا ولي الخلافة عزل خالدا عن الإمارة. •••
فلا تكون حرب حتى تكون دعوة، وحتى يكون رفض ممن وجهت إليهم الدعوة، فإذا وقعت الحرب فهناك قيود للجيش المحارب ينبغي ألا يعدوها، ولعل أوضحها وأجمعها ما روي أنه: «لما بعث أبو بكر يزيد بن أبي سفيان إلى الشام خرج معه أبو بكر يوصيه، ويزيد راكب، وأبو بكر يمشي، فقال يزيد: يا خليفة رسول الله، إما أن تركب وإما أن أنزل، فقال: ما أنت بنازل وما أنا براكب، إني أحتسب خطاي هذه في سبيل الله، يا يزيد، إنكم ستجدون أقواما قد حبسوا أنفسهم في هذه الصوامع (يعني الرهبان) فاتركوهم وما حبسوا أنفسهم له ... ولا تقتلوا كبيرا هرما، ولا امرأة، ولا وليدا، ولا مريضا، ولا راهبا، ولا تخربوا عمرانا، ولا تقطعوا شجرة إلا لنفع، ولا تحرقن نخلا ولا تغرقنه، ولا تغدر ولا تمثل، ولا تجبن، ولا تغلل، ولينصرن الله من ينصره ورسله بالغيب، إن الله لقوي عزيز، أستودعك الله وأقرئك السلام، ثم انصرف».
وقال عمر: «اتقوا الله في الفلاحين، فلا تقتلوهم إلا أن ينصبوا لكم الحرب»، ومر رسول الله (
صلى الله عليه وسلم ) في غزوة من غزوات المشركين بامرأة مقتولة ذات خلق، اجتمع الناس عليها، فقال رسول الله: «ما كانت هذه لتقاتل!» وسأل: «من قتل هذه؟» فقال رجل أنا أردفتها خلفي، فأرادت أن تقتلني فقتلتها، فأمر النبي (
صلى الله عليه وسلم ) بدفنها.
وروى ابن عباس أن رسول الله (
صلى الله عليه وسلم ) «كان إذا بعث جيوشه قال: اخرجوا باسم الله تقاتلون في سبيل الله من كفر بالله، لا تغدروا ولا تغلوا ولا تمثلوا، ولا تقتلوا الولدان ولا أصحاب الصوامع».
وقال رسول الله (
صلى الله عليه وسلم ) مرة: «لا تقتلوا الذرية في الحرب»، فقالوا: يا رسول الله، أوليس هم أولاد المشركين؟ قال: «أوليس خياركم أولاد المشركين؟».
من كل هذا نرى أن القانون الإسلامي حصر الحرب في دائرة من جندوا للحرب، ومنع حرب من لم يجند ، إلا أن يكون له من الوسائل ما يساوي القدرة على الحرب، كأن يكون شيخا، ولكنه يساهم في إبداء الرأي وتدبير المكايد، فإنه إذ ذاك يعد محاربا، كما فعل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بدريد بن الصمة؛ لأنه كان مع تقدم سنه يمد قومه بالرأي في الحرب، فأمر رسول الله بقتله، أما من عدا هؤلاء فقد حفظت دماؤهم، وحوفظ على حقهم في الحياة.
ويعجبني في ذلك تعليل الفقهاء لهذا الرأي بقولهم: «إن الآدمي خلق معصوم الدم ليمكنه تحمل أعباء التكاليف، وإباحة القتل عارض بمحاربته لدفع شر، فمن لم يتحقق شره بقي على أصل عصمة دمه»، بل تجاوز الإسلام حرمة المحاربين إلى حرمة ملكية الأمم المحاربة، فأمر باحترامها والمحافظة عليها؛ فمنع قطع الأشجار وهدم البنيان، وكان من وصايا أبي بكر: «لا تقطع شجرا مثمرا، ولا تخرب عامرا ، ولا تعقرن شاة ولا بعيرا إلا لمأكله». •••
ثم أمر الإسلام أمرا باتا حازما حاسما بالتزام ما يعقد من معاهدات، فقال تعالى:
يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ، و
وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا
وقال:
إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقي .
ولما عقد النبي (
صلى الله عليه وسلم ) الصلح مع قريش، وكان فيه إجحاف بالمسلمين؛ إذ قد اصطلحوا «على وضع الحرب عن الناس عشر سنين يأمن فيهن الناس، ويكف بعضهم عن بعض، على أن من أتى محمدا من قريش من غير إذن وليه رده عليه، ومن جاء قريشا ممن مع محمد لم يردوه عليه»، فارتاع بعض المسلمين من ذلك الصلح، ودخل على الناس من ذلك أمر عظيم، وصرخ المسلمون الذين ردوا إلى قريش؛ قال رسول الله: «إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحا وأعطيناهم على ذلك وأعطونا عهد الله، وإنا لا نغدر بهم».
وانظر إلى عمر لما اضطر إلى إلغاء عهد من العهود ماذا صنع؟ قدم عليه عمير بن سعد الأنصاري وقال له: «إن بيننا وبين الروم مدينة يقال لها «عربسوس»، وإن أهلها يخبرون عدونا بعوراتنا، ولا يظهروننا على عورات عدونا، ولهم علينا عهد، واستشاره في أمرهم، فقال عمر: «فإذا قدمت فخيرهم أن تعطيهم مكان كل شاة شاتين، ومكان كل بقرة بقرتين، ومكان كل شيء شيئين، فإذا أرضوا بذلك فأعطهم إياه وأجلهم واخربها، فإن أبوا فانبذ إليهم وأجلهم سنة ثم اخربها».
فالقوم هم الذين نقضوا العهد وأساءوا المعاملة، وعمر هو هو الذي رحمهم واحتال عند إلغاء العهد؛ ليكون أعدل ما يكون وأرحم ما يكون، وتاريخ العهد الأول من المسلمين مملوء بمثل هذه الشواهد.
فلم يسمع المسلمون الأولون مطلقا، ولم يخطر لهم ببال ما عبر عنه بعض الممدنين المحدثين بأن المعاهدات قصاصات أوراق، ولم يخضعوا المعاهدات - كما يفعل كثير من الممدنين - لمقياس في المنفعة، فإن كان في نقضها منفعة لهم نقضوها، وإلا احتفظوا بها، بل لم يكن العربي يفرق في التقدير، ووجوب المراعاة بين العقد يمضي، والكلمة الشفوية ينطق بها؛ كلاهما ملزم، وكلاهما واجب التنفيذ. •••
ثم دعا قانون الإسلام إلى تلبية الدعوة إلى الصلح فقال:
وإن جنحوا للسلم فاجنح لها ؛ لأن الغرض إذا تحقق كان القتال عبثا، ثم كان أساس الصلح لا يستفز عاطفة، ولا يترك في النفوس حقدا، ولا يبعث على تحفز للقتال، فكتب عمر إلى أبي عبيدة في حصاره حلب: «ومن صالحك منهم فاقبل صلحه، ومن سالمك فسالمه»، وكتب لأهل إيلياء (بيت المقدس): «هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان؛ أعطاهم أمانا لأنفسهم وأموالهم، ولكنائسهم وصلبانهم، وسقيمها وبريئها، وسائر ملتها، أنه لا تسكن كنائسهم ولا تهدم، ولا ينقص منها ولا من حيزها ولا من صلبهم، ولا من شيء من أموالهم، ولا يكرهون على دينهم، ولا يضار أحد منهم».
وجاء في عهد حذيفة بن اليمان: «هذا ما أعطى حذيفة بن اليمان لأهل (ماه دينار)؛ أعطاهم الأمان على أنفسهم وأموالهم وأراضيهم، لا يغيرون عن ملة، ولا يحال بينهم وبين شرائعهم، ولهم المنعة ما أدوا الجزية كل سنة إلى من وليهم من المسلمين، على كل حالم في ماله ونفسه على قدر طاقته، وما أرشدوا ابن السبيل وأصلحوا الطرق وقروا جنود المسلمين من مر بهم فآوى إليهم يوما وليلة، ونصحوا، فإن غشوا وبدلوا فذمتنا منهم بريئة»، وأمثال هذا كثير. •••
فليت المدنية الحديثة في القرن العشرين - وقد برعت في العلم، وتفننت في المخترعات، وتقدمت في كل مرفق من مرافق الحياة - تعود بنظرها إلى قرون عدة حيث الفتح الإسلامي، فترى قانون الحرب وقانون السلم على أسمى ما يكون من الإنسانية فتلتزمه، ولو تم ذلك لأمنت المدن البريئة من الغزوات، وأمن غير المحاربين من الغارات، وأمنت السفن التجارية من الغواصات، وأمن سكان القرى والمدن من الطائرات، ولو تم ذلك أيضا لوضع الصلح يوم يوضع على أساس القومية، ولخير العالم لا خير أمة، ولاستلال الضغائن لا لوضع بذور الضغائن.
لقد مرت على الإنسان دروس حروب كثيرة ، ولكنه لم يتعلم منها؛ نعم، تعلم في تقدمه في فن الحرب وكيفية التغلب على الخصم، واختراع المخترعات وإنشاء الاستحكامات، ولكنه لم يتعلم من ويلات الحرب كيف يقضي على الحرب، فلعل الحرب الأخيرة تكون الدرس الأخيرة، فيتعلم جاهل، ويصلح فاسد، وتتعزى الإنسانية عما يصيبها في حاضرها بالخير العام في مستقبلها.
الفصل الرابع والعشرون
المدارس الغربية في البلاد الشرقية
كانت البلاد الإسلامية تعيش على الكتاتيب المتوارثة منذ العصور الوسطى، فهي تحفظ القرآن، فإن زادت شيئا فهي تعلم طرفا من الحساب، وإذا أراد الطالب أن يتمم تعاليمه ذهب إلى الأزهر أو معاهد تشبه الأزهر، حتى غزتنا المدنية الغربية بالتعليم بعد أن غزتنا بالسيف والنار، وقد بهر الشرقيون أول الأمر بهذه المدارس الغربية؛ إذ رأوا فيها نظاما خيرا من نظام مدارسهم، ومناهج خيرا من مناهجهم، وهم يعلمون الناشئين فيها لغة أجنبية تعليما ناجحا، حتى ليقربوا من أن يكونوا كأهل اللغة أنفسهم؛ طلاقة لسان، وسهولة بيان، وهم إذا تعلموها وضعوا أعينهم على ثروة كبيرة من الآداب الأجنبية، يرون فيها كتبا ومجلات تريهم الدنيا الحاضرة لا الدنيا الماضية، فيقبلون عليها، ويأنفون من لغتهم وأدبها.
لذلك كله استقبلت هذه المدراس بالترحيب ، وتعاونت الحكومات المختلفة على التسهيل لها في مهامها؛ فهي تمنحها أراضي بثمن صوري ليقيموا عليها مدارس، وهي تعفيهم من الضرائب الجمركية على ما يأتي إليهم من أدوات وكتب، بل قد تمنحهم مساعدات مالية، وقد تقدم إليهم مدرسين ليدرسوا لغة البلاد، وتدفع لهم أجورهم، ومن مظاهر إقبال الناس عليها أن أرسل كثيرون من أعيان الناس ووجهائهم أولادهم وبناتهم إلى هذه المدارس، حتى ليرسل بعض وزراء المعارف أولادهم إليها!
وكان من مزاياها أنها خرجت كثيرا من طليعة المصلحين والزعماء، فقد تعلموا فيها، وقرأوا الكتب باللغات الأجنبية التي تمجد الحرية، وتدعو الشعوب إلى الاستقلال، فآمنوا بذلك، وحرضوا شعوبهم على المطالبة بالحريات والاستقلال، ولكن حدثت حوادث كشفت الأخطار التي تؤدي إليها هذه المدارس، فأغلبها يبشر بالنصرانية، ويخدم السياسة الاستعمارية.
فمن أوائل هذه الحوادث في مصر - مثلا - أن جماعة من المبشرين نصرت فتى مسلما، وحملته على أن يعظ الناس في المجامع والكنائس، ويدعو إلى النصرانية، فحز ذلك في نفس السيد جمال الدين الأفغاني، واتفق مع جماعة من الإيرانيين أن يخطفوه وهو يعظ في كنيسة في حي الأزبكية، ففعلوا ذلك، ووضعه السيد جمال الدين في مكان خفي، وذهب هو وتلميذه الشيخ محمد عبده ليقنعا الشاب المتنصر بالرجوع إلى دينه، وبينا له سوء فعلته، فعاد إلى الإسلام، وكان من أثر هذه الحادثة وأمثالها أن تنبه الناس إلى خطر المدارس الأجنبية من ناحيتين: ناحية الدعوة إلى التنصير، وناحية ما عرف عنها من أنها أداة من أدوات الاستعمار.
وحدث أن كان الشيخ محمد عبده عضوا في مجلس المعارف الأعلى سنة 1881، فقدم اقتراحا للمجلس بجعل جميع مدارس الأجانب في القطر المصري تحت مراقبة الحكومة وتفتيشها، فعارض أعضاء المجلس من الأجانب وأمثالهم، ولكنه فاز في ذلك بالأغلبية، غير أن وقوع البلاد بعد ذلك في يد الاستعمار جعل هذا القرار حبرا على ورق؛ فقد كان كبار ساسة الإنجليز؛ كاللورد كرومر عميد الإنجليز في مصر، ومستر دانلوب مستشار وزارة المعارف في مصر، يؤيدون المدارس الأجنبية كل التأييد، ويخدمون المبشرين ما وسعهم، حتى لأعلم أن اللورد كرومر طلب من وزير الأوقاف إذ ذاك أن يلغي مستشفى بنته وزارة الأوقاف في حي مصر القديمة؛ لأنه كان على مقربة من مستشفى هرمن، فوعد الوزير بأنه سينقل المستشفى إلى مكان بعيد عن مستشفى التبشير.
وفي الواقع، إن حكومات المستعمرين وضعت أمام أعينها إنشاء المدارس الأجنبية في الشرق لأسباب كثيرة:
منها نشر الثقافة الأجنبية، والنشء إذا تثقف بثقافة قوم أحبهم ودعا لهم؛ ولذلك تزاحم الإنجليز والفرنسيون والألمان والأمريكان على ذلك؛ ومنها الرغبة في تنصير أبناء الشرق ما استطاعوا، وقد رأوا أن خير الوسائل في التبشير أمران: التعليم في المدارس الأجنبية، والمستشفيات؛ إذ ينتهزون فرصة مرض المريض فيدسون له الدعوة إلى التنصر.
وكان أول دعاة نشر التعليم والتبشير البعثات البروتستانتية؛ فقد كانوا أول من أدركوا أن التعليم أحسن ميدان للتبشير، وإذ كانت الشعوب الأوربية والأمريكية متحمسة لنشر دينها، أمدت هذه المعاهد بالأموال الكثيرة.
قال بعض هؤلاء المبشرين: «إن أهداف المدارس والكليات التي تشرف عليها هذه البعثات هي التنصير، حتى إن الموضوعات الدنيوية التي تعلم فيها؛ كالجغرافيا والتاريخ تحمل معها الآراء النصرانية»، وقال آخر: «إن التعليم أنفع وسيلة يستغلها المبشرون لتنصير الأفراد»، واشترطوا في الأساتذة المدرسين في هذه المدارس أن يكونوا مسيحيين ما أمكن؛ لأن دين المعلم يؤثر ولو من طريق خفي في تلاميذه؛ ولذلك أيضا تحتفظ ما أمكن بوضع منهج خاص يحقق أغراضها، ولا تسير على مناهج البلاد إلا إذا شعرت بالقوة، واضطرت إلى ذلك اضطرارا.
ومن غريب الأمر أن هؤلاء المبشرين شديدو التحمس لنشر دينهم؛ فهم يتحملون من أجل ذلك كل ما يصادفهم من صعاب، ولو أدت إلى ضياع أرواحهم، ولخدمة أغراضها لم تتورع من تحريف التاريخ، فصبته في صيغة خاصة، ولونته باللون الذي يعجبها، وطعنت في أديان الشعوب الذين لا يدينون بالنصرانية، حتى تنشر نصرانيتها، وكل يوم كان يحدث في مصر مثلا - بعد أن تنبه الوعي - القومي أن يكتشف طعن في هذه الكتب في الدين الإسلامي، أو محمد (عليه الصلاة والسلام)، أو في المسلمين، فيثور الرأي العام على ذلك، ثم تجمع هذه الكتب من يد التلاميذ وتنطفئ الثورة.
ومن مكرهم أنهم رأوا أن يوجهوا أكبر همهم إلى تعليم البنات، فأنشأوا لهن المدارس الخاصة، علما بأن البنات سيكونن أمهات، فإذا كن قريبات من النصرانية، أثرن في أولادهن.
وانتشرت المدارس الأجنبية في الشرق انتشارا كبيرا، حتى كان في الشام وحدها 174 مدرسة أمريكية منبثة في المدن والقرى، وغزت أنواع التعليم كله؛ من رياض الأطفال، إلى الجامعة الأمريكية في بيروت، والجامعة الأمريكية في القاهرة، والجامعة الأمريكية في إستانبول، وأجبروا الطلبة على دخول الكنيسة في المدارس، وحضور الصلاة، فلما أضرب الطلبة قال قائلهم: «إننا نأخذ الأموال من المتبرعين بعاطفة نشر الدين، ونحن إذا أبطلنا الدين من المدارس لم نجد من يتبرع لها».
ولكن الذي حدث أن هؤلاء المبشرين لم ينجحوا نجاحا كبيرا في نشر الديانة النصرانية؛ وخصوصا بين المسلمين؛ لأن في الإسلام حصانة قوية، فاضطروا إزاء ذلك الفشل أن يحولوا مناهجهم، ويصلحوا أساليبهم، ويتساهلوا في إجبار الطلبة على حضور الصلوات في الكنائس، ولكن - مع الأسف - اكتشف أن هذه المدارس - وقد عدلت عن التبشير القوي بالنصرانية - أخذت تخدم السياسة الاستعمارية.
وممن تنبه إلى ذلك أشد التنبه الأتراك في بلادهم، فقد منعوا الأطفال المسلمين من دخول مدارس المبشرين، وجعلوا التعليم في هذه المدارس قاصرا على المسيحيين، وفي عام 1888 أغلقت الدولة العثمانية مدارس المبشرين الأمريكيين، وكان من أنشط مدارس التبشير بالنصرانية وبالسياسة اليسوعيون، فقد ضيقت فرنسا عليهم في بلادها، وشجعتهم كل التشجيع في خارج بلادها.
ومن الغريب أيضا أننا نلاحظ أن أكبر أعداء المبشرين هم المسلمون، فهم أعدى لهم من الوثنيين واليهود، لأسباب يطول شرحها؛ أهمها: أنهم ورثوا العداء للمسلمين من أيام الحروب الصليبية، وأنهم يرون الإسلام يحوط اتباعه بسياج قوي لا ينفذ إليه التبشير، وأنه دين يحارب الاستعمار والانتداب، ولا يرضى إلا أن يحكمه أهله.
وبعد، فواجب الشرق ألا يشجع هذه المدارس؛ لأنها مأوى التبشير والاستعمار معا، وهي تجعل من نفسها داعية لدين غير دين البلاد، كما تجعل من نفسها حكومة داخل حكومة البلاد ، وفي ذلك إهدار للاستقلال، ومدعاة للفساد.
إن الأمم الحية الحريصة على توحيد كلمتها وتوحيد آمالها، تصب أبناءها في قالب واحد؛ حتى يكونوا متفقين متساندين، أما هذه المدارس فتجعل أبناء البلاد شيعا، كل طائفة تصطبغ بصبغة خاصة، وإذ ذاك تتضارب الميول، وتتنازع الآمال، ويكون أبناء البلد الواحد بعضهم أعداء بعض، وفي ذلك من الفساد ما لا يخفى.
الفصل الخامس والعشرون
الأخلاق الاجتماعية
هنالك أخلاق يصح أن نسميها أخلاقا فردية، وهي التي يقصد بها أول الأمر إلى إصلاح الفرد وترقيته؛ كالصدق والعفة وضبط النفس، وإن كانت آخر الأمر ترقي المجتمع كما ترقي الفرد؛ بطبيعة أن المجتمع يتكون من الأفراد، وهناك أخلاق اجتماعية يقصد بها أول الأمر إلى إصلاح المجتمع؛ كأداء الواجب والتعاون.
ويتجلى هذا التقسيم أيضا في الغرض الذي يرمي إليه الفرد؛ فأحيانا يكون غرضه تحسين حالته الفردية ، فيصوغ أعماله وفق هذا الغرض، فقد يقصد - مثلا - إلى أن يكون غنيا، فيوجه أخلاقه وأعماله هذه الجهة، ويشكل حياته التشكيل الذي يتناسب وهذه الغاية، من جد في العمل وحسن سمعة واقتصاد، وما إلى ذلك، وقد يرمي إلى أن يكون عالما، فيتخلق بالأخلاق التي تعده لهذه الغاية من جد وصبر على البحث، وسعة اطلاع وعمق في الدراسة، وبجانب هذا قد يكون غرضه رقي مجتمعه، فيبذل المال لبناء مدرسة، أو تأسيس مستشفى، أو نحو ذلك مما يفيد المجتمع الذي يعيش فيه ويرقيه.
والذي نلاحظه على الشرق عامة أن الأخلاق الفردية تحسنت وارتقت إلى حد ما أكثر مما تحسنت وارتقت الأخلاق الاجتماعية، ولعل أكبر ما يوضح ذلك خلق التعاون، فهو في الشرق على العموم ضعيف، ويتجلى ضعفه في الأعمال التي تحتاج إلى تنظيم الجهود؛ كالنقابات والشركات والجمعيات الخيرية، وما إليها، فهي لا تنجح عادة كما تنجح أعمال الأفراد، وكثيرا ما نسمع بعشرات الجمعيات ومئات اللجان، والعدد العديد من الشركات والنقابات تتأسس ثم لا تلبث أن تفشل، وقد نلاحظ أن ما ينجح منها، وما يقدر له البقاء إنما هو في الحقيقة عمل فرد في شكل شركة، أو نقابة ، أو جمعية؛ فهي ترزق بفرد جاد نشيط أمين، يتحمل العبء كله أو أكثره، ويقوم بمهام الأعمال كلها أو أكثرها، ثم يظن أن العمل عمل جماعة، والنجاح نجاح جماعة، والحقيقة أنه عمل فردي، والنجاح نجاح فردي.
فالأخلاق الاجتماعية لم ترتق الرقي الكافي، والنظر إلى الغاية التي ترمي إلى رقي المجتمع لم يكن متوافرا في الكثير من الناس، وتتغلب النزعة الفردية على النزعة الاجتماعية، ويضعف الشعور «بنحن» عن الشعور «بأنا»، والناس قد يشعرون بحاجة مجتمعهم إلى مرافق كثيرة لعلاج الجهل والفقر والمرض، من مستشفيات وملاجئ ومؤسسات علمية ونحو ذلك، ثم لا يتحركون لإخراج هذا الشعور إلى حيز الوجود؛ لأنه يتطلب عملا تعاونيا دقيقا منظما، وهو ما لم يصلوا إليه بعد؛ ولذلك يخفون هذا النقص؛ إما بكثرة الكلام في وصف العيوب من غير عمل، وإما برمي العبء كله على حكوماتهم، ومطالبتها أن تقوم بكل شيء وهم لا يقومون بشيء.
وربما تجلى هذا النقص الاجتماعي أيضا في الأحزاب السياسية؛ فالانضمام إلى حزب والخروج منه، يبعث عليه في الغالب الأعم نظر العضو إلى مصلحته الشخصية، أكثر من نظره إلى المبادئ الأساسية التي يدعو إليها الحزب، ثم النظر إلى الزعيم؛ من هو، وما صفاته، أكثر من النظر إلى نوع الإصلاح الذي يدعو إليه الحزب، بل إن الأحزاب لا تتميز بالمبادئ وإنما تتميز بالزعماء، وقلما ترى أعمالا عظيمة أنشئت بتبرعات قام بها الأفراد لخدمة المجتمع، والقليل الذي أسس منها كان الداعي إلى التبرع له خشية ذي جاه أو سلطان، أو رغبة في التقرب إلى مدير أو رئيس حكومة أو نحوهما، أكثر من أن يكون الباعث عليه الشعور بالحاجة إلى مؤسسة تصح المريض أو تغيث الفقير.
وعلى الجملة فإن هذه الظاهرة - أعني ظاهرة عدم التعاون الاجتماعي - واضحة في كل ناحية من نواحي الحياة الاجتماعية، فتتجلى في السياسة بعدم تعاون الأحزاب السياسية حتى في الأزمات الحرجة، وتتجلى في الناحية الاقتصادية بعدم نجاح الشركات والنقابات والمصارف إلا قليلا، وتتجلى في الناحية الاجتماعية بقلة المؤسسات الخيرية.
خلق التعاون يتطلب شعورا عميقا بأن الفرد نتيجة لمجتمعه، وبأن الخير الذي يناله أتى من مجمتعه، فلولا مجتمعه ما وجد، ولولا مجتمعه ما سعد، فهذه العقيدة تؤدي إلى شعور بوجوب سداد هذا الدين، وذلك بالنزول عن جزء من ماله، أو عن جزء من جهده وصحته ونشاطه وعلمه؛ زكاة عما ناله من مجتمعه، وهذا الشعور - مع الأسف - لا يزال في حالة بدائية، وسر ما نحن فيه من متاعب هو نقص هذا الشعور، حتى إضراب رجال البوليس والممرضين وأمثالهم إنما حملهم عليه نظرهم إلى شخصهم كطوائف لا إلى الأمة كأمة.
ومن الغريب أن هذه الناحية الخلقية الاجتماعية لم ترتق رقيا سريعا واضحا كالرقي الفردي؛ فما السر في هذا؟
لعل السبب أن الشعور «بنحن» متأخر في الطبيعة وفي الوجود عن الشعور «بأنا»، شأن المجتمع في ذلك شأن الطفل، لا يشعر في أول وجوده إلا بنفسه، ويريد أن تكون الدنيا كلها له، حتى إنه ليطلب من أبويه أن ينزلا له الشمس ليضعها في يمينه والقمر ليضعه في يساره، ولا يفرق في ذلك بين ممكن ومستحيل، ولا يأتي الشعور «بنحن» إلا متأخرا، عندما تصطدم رغباته برغبات إخوته وأسرته، ثم رغباته برغبات إخوانه في المدرسة، ثم بالناس في الحياة، فيبتدئ الشعور بالغير، وينمو بالتجارب، وهذا قانون طبيعي؛ فأفراد الأمة في مبدأ حياتهم كالأطفال لا يشعرون إلا الشعور الفردي الأناني، فإذا رقوا شعروا الشعور الاجتماعي، ثم إذا زاد رقيهم زاد شعورهم، فكانت التضحية.
أو لعل السبب ما توالى على الشرق من استبداد وظلم، والاستبداد يميت النفس ويثير شعور السخط على من بيده الحكم، ويحمل الفرد على كره المجتمع الذي يعيش فيه؛ لأنه فقد فيه حريته، والظلم إذا شاع في المجتمع جعل الفرد لا يفكر إلا في أن ينجو بنفسه، ونتيجة هذا كله التفكير في النفس لا في الغير، والتخلق بالأثرة لا بالإيثار.
أو لعل السبب أن الأخلاق الاجتماعية في الغرب نشأت عما حدث فيه من الانقلاب الصناعي؛ فالآلات الجديدة والمخترعات وتقدم الصناعة احتاجت إلى كثير من رءوس الأموال، وتأسيس المصانع، وتعاون العقول التي تديرها، وتعاون الأيدي التي تعمل فيها، فكان من ذلك الشعور القوي بأن التعاون لا بد منه لنجاح هذه المشروعات الضخمة، فتعاونوا وأصبح التعاون خلقا يتوارثه جيل عن جيل؛ ولذلك بدأ التعاون يظهر في الشرق عندما بدأ يتحول من اعتماد على الزراعة وحدها إلى اعتماد أيضا على الصناعة.
أو لعل كل هذه مجتمعة هي الأسباب في ذلك، وأيا ما كان فلا نجاة للشرق من أزماته المختلفة وما يحيط به من أخطار إلا بتخلقه بالأخلاق الاجتماعية.
الفصل السادس والعشرون
ميادين القتال بين الأجناس والأمم والطبقات
أحب الحديث إلى النفوس ما وافق الظروف، فمن اللياقة أن نتحدث في الكوارث والمصائب والصبر عليها في المآتم، وأن نتحدث في السعادة والسرور والهناء في حفلات العرس، فإن أنت عكست فغنيت نغمة حزينة في عرس، أو نغمة سارة في مأتم، رميت بضعف الذوق وقلة اللياقة.
والناس الآن كلهم في حالة حرب، وحديث حرب، واستعداد لحرب، فلنختر موضوعا للكتابة يتفق وهذه الحالة النفسية، وإلا كان الكلام غثا باردا وحديثا سمجا، والكاتب كالمغني، يجب أن يساير الشعور، ويراعي العواطف، ويتخير لكل مقام مقال، ولكل موقف أنشودة، ولكن إن كان الكاتب موظفا وجب أن يبتعد عن السياسة، فهو إذا اختار موضوعا سياسيا كعنوان هذه المقالة، وجب أن يكتب فيه علميا أو أدبيا، ويترك للساسة أن يعالجوه سياسيا، فهم به أعرف، وعليه أقدر، وبحكم ظروفهم أصرح.
والعالم كله ميادين قتال؛ فحيثما التفت وجدت ميدانا، ووجدت حروبا، ووجدت ضحايا، فكأن الذي خلق الخلق سلط بعضهم على بعض، فهم في نزاع مستمر وحرب دائمة؛ إن نظرت إلى الحيوانات فهي تتناطح دائما، ويفترس القوي الضعيف دائما: ذئب يفترس شاة، وسبع يفترس ذئبا، وهكذا، وميدان قتالهم فسيح لا حد له.
وإن نظرت إلى الإنسان والحيوان وجدت ميدانا آخر للقتال بديعا: إنسان يفترس دجاجا وشياها وأنعاما، وأسد يفترس إنسانا، وميكروب يفترس هؤلاء جميعا، وإن نظرت إلى عالم الإنسان وحده وجدت ميادين القتال أروع، والحرب فيها أبرع، ووجدت ما كان في الميادين الأخرى عن غريزة ساذجة ، وانفعال فطري، هو في الإنسان وليد الغريزة والعقل معا، برز العقل في الميدان، فكان أبرع ما كان، عرف كيف يستخدم العلم والطبيعة وكل شيء في الحياة في حروبه، فكان فتكه ذريعا، وحصده شنيعا، وسلاحه مبيدا، واختراعه وبيلا.
وكل يوم يمد العقل ميادين القتال بصنوف المهلكات والمدمرات، ويعم الميادين من الأرض إلى السماء ومن البر إلى الماء، ويمعن في اختراع الآلات من حجر إلى رصاص، ومن رصاص إلى غازات، ومن غازات إلى ما لا يعلمه إلا الله خالق العقل، ثم هو لا يكتفي بما عرف عن الحيوان من قتال، بل يقاتل في المعاني كما يقاتل في الأجسام؛ فهناك ميادين للقتال في الأخلاق، وميادين في الشهوات، وميادين في النظم الاقتصادية والاجتماعية، فكانت ميادينه لا تحصى، ولا يمكن أن تستقصى!
فإن قلت إنك في كل خطوة تخطوها، وفي كل حركة تتحركها، وفي كل معاملة خلقية ومالية واجتماعية تصدرها، فأنت في ميدان حرب، وإنك كاسب في كل منها أو خاسر، وإنك تظفر بعدو لك أو يظفر بك عدوك، لم تعد الصواب، ولم تخطئ القول.
ولكن إن اتسعت الميادين بهذا الشكل لم يستطع الكاتب أن يشملها بالكتابة، وأن يعمها بالقول جملة، فخير أن يختار منها ميدانا يصفه، ويقتصر على شرحه، فلنكنف اليوم بأهم أنواع القتال بين بني آدم. (1) ميادين القتال
إذا دققنا النظر وجدنا أنها أنواع ثلاثة: القتال بين الأجناس، والقتال بين الأمم، والقتال بين الطبقات.
القتال بين الأجناس
فالعداء بين الأجناس سببه الاختلاف الطبيعي والاجتماعي بينهم؛ فالإنسان من طبيعته العطف والميل والتعصب لمن يشاركه في لونه وملامحه وشعره وملبسه، وقد جر هذا العطف إلى التعاون بينه وبين أمثاله من هذا القبيل، فتقاربوا كذلك في الأخلاق، وفي العقلية، وفي المظاهر الاجتماعية، فتأكدت بينهم الصلة، كما أن من طبيعته الكره والبغض والتعصب على من لا يشاركه في تلك الخصائص الجسمية، فجر هذا الكره إلى عدم التعاون، فتباعدوا في الأخلاق، وفي العقلية، وفي المظاهر الاجتماعية، فبعدت مسافة الخلف بينهم.
وعملت الوراثة والبيئة عملهما في توثيق الصلة بين الأولين، وشدة التنافر بين الآخرين، وأصبح الخلاف بين السود والبيض - مثلا - ليس خلافا في اللون وحده، بل خلافا في العقلية، والأخلاق، وفي الحياة الاجتماعية، وفي النظر إلى الأشياء وتقويمها، وفي الحياة الاقتصادية وغيرها.
وليس القتال بين الأجناس المختلفة الألوان مقصورا على القتال لتحصيل العيش، بل هو كذلك قتال على السيادة؛ فالجنس الأبيض - مثلا - يرى أن له من المزايا والصفات ما يؤهله أن يحكم الجنس الأسود ويسيطر عليه؛ وأكبر مظهر لحرب الأجناس المشكلة التي بين البيض والسود في أمريكا؛ فقد بدأ النزاع بينهما من القرن السابع عشر، وما تزال هذه المشكلة إلى اليوم أهم مشاكل الولايات المتحدة.
والنظريات العلمية تتنازع بينهما تنازع الجنسين أنفسهما؛ فنظرية ترى أن استعداد السود لا بأس به، وأنهم يصلون في الأعمال الاقتصادية والحكومية وفي الفنون إلى درجة ليست بالمنحطة، وأنهم إن لم يبلغوا شأو البيض، فليس لقصر في استعدادهم، وإنما هو لما أحاط بهم من ظروف، ولعزلتهم وعدم معاونة البيض لهم، ونحو ذلك من أسباب، ونظرية ترى أن استعدادهم الفطري ضعيف، وعقليتهم منحطة مهما هيئ لهم من ظروف، وأنه مهما أعينوا وسوعدوا فلن يصلوا إلى درجة البيض بحال؛ وعلى هاتين النظريتين ثارت مشاكل فرعية: هل يصح تزواج السود والبيض؟ وإلى أي حد يسمح للسود بالاشتراك في المسائل الاجتماعية والسياسية؟ إلى كثير من أمثال ذلك.
وليس النزاع بين السود والبيض في أمريكا هو المثل الوحيد في النزاع بين الأجناس، فالحقيقة أن هذا النزاع دائرته أوسع مما يظن، فحركة مصر والهند نحو الاستقلال، والعداء بين أمريكا واليابان، وحركة الأمم الشرقية جميعا نحو التحرر من الاستعمار والانتداب، من أسباب الاختلاف بين الأجناس، ولست أقول إنه هو السبب الوحيد.
وكثير من العلماء يرى أن هذا النحو من النزاع آخذ في الضعف؛ لأنه يرجع إلى العواطف الموروثة التي تبعث على الكراهية، فإذا حل محلها العقل وحسن التقدير وسعة النظر قل هذا العداء، وضبطت هذه العواطف، وأدرك الناس أن هذا النزاع ليس في مصلحة أحد المتخاصمين، ولا في مصلحة الإنسانية، وأن تعاون الأجناس خير لكل مرافق الحياة؛ سواء كانت اقتصادية، أم علمية، أم سياسية، أم اجتماعية.
القتال بين الأمم
وهذا النزاع بين الأمم يرجع عادة أيضا إلى سببين: سبب نفسي، وسبب اقتصادي؛ فالنفسي منشؤه الاختلاف بين الأمم في الأخلاق والعادات والمميزات والثقافة والتاريخ، والسبب الاقتصادي منشؤه قلة الحاجات بالنسبة إلى سعة الرغبات؛ فخيرات الدنيا أقل من شهوات الأمم؛ ولذلك يشتد النزاع وتتسابق الأمم للحصول على أكبر قسط منها، فيكون الاصطدام.
وهذا النزاع الذي بين الأمم هو بعينه الذي كان بين القبائل أيام البداوة، وبين الأشراف أيام حكم الإقطاع، فلما تكونت الأمم بحكم الظروف بدأ هذا النزاع القبلي والإقطاعي يتحول إلى نزاع أممي، وعظم شأنه بعظم المتحاربين؛ فالقبيلة قليل عددها، ضعيف دخلها، محدودة قدرتها، فلما حاربت قبيلة قبيلة أخرى مثلها كان القتال بنسبة قوتهما، فلما قوي المتحاربون، وأصبحت وحدة الجبهة هي الأمة لا القبيلة، زادت ويلات الحروب وعظم خطرها.
والغرض الذي ترمي إليه الحروب بين الأمم كذلك نفسي، واقتصادي؛ فالاقتصادي تحصيل خيرات الأمم المغلوبة وإذلالها وإخضاعها لحكمها، وهذان الغرضان كانا وما زالا يعذبان نفوس الشعوب، ويدفعان أفراد كل أمة للتعصب الشديد لأمتهم، والعداء الكامن لغيرهم.
ولكن أخذ يتجلى للناس شيئا فشيئا أن هذا القتال لا يحقق الغرض منه؛ فمن الناحية الاقتصادية قل أن تساوي نتائج الحرب ما ضاع بسببها؛ سواء في ذلك الغالب والمغلوب، وكل أمة هي في الواقع عامل من عوامل الثروة في العالم، فإذا أضعفت ضعف إنتاجها، فيتضرر العالم من ضعفها.
ومن الناحية النفسية، لا خير في هذا العداء ولا في هذا التعصب، فهو نفسه يزيد الحالة الاقتصادية سوءا، ويزيد النار وقودا، والعلماء القائلون بهذا يتفاءلون بأن العالم صائر إلى أن يفهم هذه الحقيقة فهما جليا، فتقل الحروب أو تنمحي، فكما كان في القديم إذا خاصمت أسرة أسرة حاربتها، وإذا خاصم فرد فردا بارزه، ثم ترقى الناس فأحلوا التفاهم محل القتال، وإذا لم يكن تفاهم فهناك محاكم يخضع لها المتخاصمون، فكذلك يجب أن يكون الشأن في الأمم، لا تتحاكم إلى السيف ، وإنما تتحاكم إلى العدل؛ ولكن كلما أمل المتفائلون خيرا أتت حوادث العالم فخيبت ظنهم وأقصت أملهم.
القتال بين الطبقات
كل أمة جاوزت طور البداوة نشأ فيها جماعات ممتازة، وأوضح شيء في هذا الامتياز هو الثروة أو الملكية، وهذه الثروة هي السبب في كل الامتيازات الأخرى؛ فالغنى ينشأ عنه سعة أوقات الفراغ، فليس يصرف الزمن كله في تحصيل القوت، ومتى وجد الفراغ استطاع صاحبه أن يتفرغ للعلم أو الفن، وبذلك يكبر عقله، ويرقى ذوقه، فتصبح الطبقات متميزة في الثروة والثقافة جميعا، والثروة والثقافة تسببان قوة، وهم يستخدمون هذه القوة في مظاهر مختلفة، فتتمايز الطبقات في الثروة والثقافة والقوة وما ينشأ عنها.
وهذا التمايز يورث في الأسر؛ فالأسرة ترث عن عميدها ثروة، وترث جاها وقوة، وترث ثقافة، ويمضي الزمان واستمرار الإرث يزيد الفواصل بين طبقات الأمة، فتجد طبقة من الشعب أن ليس لها من الوسائل ما يثقفها، ولا من الوسائل ما يحييها حياة طيبة صالحة، ولا من الوسائل ما يمكنها من أن تكون لها مكانة في المجتمع، وترى طبقة الأغنياء ممتعة بكل هذه الوسائل، فيكون هناك ميدان ثالث من ميادين القتال؛ فكان قتال بين ملوك الأراضي وعبيدهم، وكان قتال بين أصحاب رءوس الأموال والعمال، وكان قتال بين أصحاب الآلات الحديثة والصانعين بأيديهم.
وعلى الجملة، كان هناك قتال بين الأرستقراطيين والديمقراطيين؛ فالأستقراطيون يريدون أن يحتفظوا بثروتهم وبقوتهم وبجاههم، والديمقراطيون يريدون أن يحيوا حياة خيرا من حياتهم، وهم لا يرضون أن يكونوا عبيدا، ولا يقنعون بالفتات الذي يتبقى من موائد الأغنياء، ولا أن يعيشوا في جهل وظلام، فكان من ذلك صراع، أي صراع، يمتاز عن حرب الأجناس وحرب الأمم بأنه حرب دائم مستمر، لا يظفر أحد الجانبين ظفرا إلا ويستعد للموقعة التي تليها، وهكذا تنتهي الحياة بين حرب واستعداد للحرب وتوزيع للغنائم.
وقامت النظريات الاشتراكية وغير الاشتراكية تتنازع في المبادئ تنازع الطبقات في الحياة، وكان ظفر الديمقراطية - على الجملة - أكبر، وانتصارهم أنم وأبهر، فحسن مركزهم في الهيئة الاجتماعية، واستطاعوا أن ينالوا حظا من التربية والتعليم، وكانوا كلما ظفروا بشيء استخدموه في الموقعة التي تأتى بعده؛ فاستخدموا تعلمهم، واستخدموا القوانين المشروعة لهم في تنظيم ساعات عملهم ورفع أجورهم في المطالبة بأكثر مما نالوا، وبحقهم أن يعيشوا خيرا مما عاشوا، وحاربوا الأفكار الشائعة أن طبقة من الناس خلقت لتحكم وتنعم بالثروة، وطبقة أخرى خلقت لتحكم، وقالوا إن في كل طبقة مزاياها وعيوبها، وفي كل طبقة أناسا متميزين بفطرتهم واستعدادهم يستطيعون أن يتبوءوا أحسن المراكز ويتحملوا أشق التبعات لو أتيحت لهم الظروف، وهؤلاء موجودون بين الفقراء كما هم بين الأغنياء.
وأهم مظهر للنزاع بين الطبقات كان في تولي شئون الحكم؛ كالنزاع بين طبقة المحافظين وطبقة العمال عند كثير من الأمم، كما كان في كسب الرأي العام بعرض كل فريق حججه وأدلته، وشرح قضيته شرحا مستفيضا؛ ليكسب الناس بجانبه ويفوز بتأييدهم له.
وكان أكبر نصر نشأ من هذا النزاع بين الطبقات تقرير حقوق الإنسان، وسيادة المبادئ التي تقرر أن الحكومة إنما وظيفتها أن تخدم كل الطبقات على السواء لا طبقة خاصة، وألا تعير أي التفات إلى انقسام الناس إلى طبقات، وأن تتجه إلى الرأي العام من غير تمييز ولا تحيز، وأن تتيح الفرص في التعلم والكسب والمناصب للناس على السواء، وأن تنظم الشئون الاجتماعية على أساس المساواة لا على أساس الطبقات، وأن تفهم الناس أن قيمة كل فرد إنما هي في شعوره بالواجب وأدائه، لا في الفخر بأجداده وآبائه. (2) أساليب القتال
الصراع العقلي أليق الأساليب بالإنسان
أبنت في المقال السابق أهم ميادين القتال، وهي: الحرب بين الأجناس، والحرب بين الأمم، والحرب بين الطبقات، ووعدت القراء أن أذكر في هذا المقال أساليب القتال.
وأساليب القتال كذلك متنوعة الأشكال، متعددة النواحي، ولكن أهمها أيضا ثلاثة، فلنحصر كلامنا فيها: وهي الحرب، والصراع الاقتصادي، والجدل والمناقشة والحجج والبراهين.
الحرب
لسنا ننكر ما للحرب في تاريخ العالم من أثر كبير في تقدم الإنسان، فالحرب بين الأفراد كان لها أقوى الأثر في تقوية أخلاقهم، والحرب بين القبائل أدت إلى قوة المجتمعات، وإنشاء المدنيات، والحرب بين الأمم أدت إلى شحذ الهمم، والتسابق إلى المجد، والتسامي إلى الكمال.
فالحرب تدمر وتفني، ولكن من يبق بعدها يكن أصلح للبقاء، وأقوى على احتمال الآلام، فكم من ملايين الأرواح أكلتها، وكم من كنوز الأموال ابتعلتها، ولكنها مع ذلك كله قوت أخلاق الشعوب، وعلمتها البذل والتضحية، والأمم التي لم تساهم في الحرب ولم تتخلق بأخلاق الحرب تفنى وتموت، وقديما قالوا: «ما غزى قوم في عقر دارهم إلا ذلوا».
وكان أهم ما قدمته الحرب للإنسانية أنها علمت الشعوب النظام والخضوع لأوامر سلطة قوية تهيمن على شئونها، وتدبر أمورها، فكان من أثر ذلك أن انتقل المتوحشون من حالة همجية إلى حالة استقرار وخضوع لنظام، فتكونت الأمم، وتقدمت المدنية.
ولكن بتقدم الناس في المدنية عظمت ويلات الحروب، وصارت الموازنة بين منافعها ومضارها محل تفكير العلماء، فالحرب عمادها الفتح، وطمع الفاتح في الثروة من مال «المفتوح»، ولكن هذا الأسلوب في تحصيل الثروة - إذا نظر إليه من الناحية الإنسانية - أسلوب فاسد؛ فالثروة المشروعة هي الثورة بالإنتاج أو في مقابل إنتاج؛ كالذين يربحون من تجارة أو صناعة أو نحو ذلك، أما ثروة الحرب، فثروة من جنس ثروة الغاصب أو السارق أو المقامر، وهي كذلك تحرك في نفوس الفاتحين نزعات الطمع والقسوة والبغض وحب التدمير وغير ذلك من أوصاف تحتقرها الإنسانية، ثم هي تشغل الأمم المتحاربة وتصدها عن التقدم الحقيقي، فهي تقضي زمانها الحربي في حرب، وزمنها السلمي في استعداد للحرب وإصلاح لما أفسدته الحرب، وفي ذلك بلاء عظيم.
ولقد كانت الحرب العظمى الأخيرة مجالا صالحا لدراسة العلماء نفعها وضرها؛ إذ كانت مواد الدراسة فيها متوافرة، وكانت أسبابها ونتائجها ماثلة بين أعينهم، وكانت الدراسات الاجتماعية والاقتصادية قد تقدمت تقدما عظيما، فاستطاعوا من ذلك كله أن يلقوا ضوءا قويا على مقدار ما استفاد العالم منها وما خسر.
لقد رأوا أن خسارة العالم منها كانت أكثر من الربح بدرجة عظيمة، وأن أضرارها تفوق ما كان في الحروب السابقة، وأكبر سبب في ذلك قوة الجبهتين المتحاربتين؛ نعم، إن في كل حرب كان تدمير وخراب، ولكن هذه الحرب كانت أكثر تدميرا وخرابا؛ فقبل هذه الحرب كانت الأسس الاقتصادية لكل أمة تكاد تكون مستقلة، فإذا حاربت أمة أمة انتقلت مزايا الأمة المغلوبة إلى الأمة الغالبة في سهولة، وبقدر الغلبة، أما الآن فالأسس الاقتصادية ليست وحدتها الأمة، ولكنها مشتركة بين الأمم - كشركة النفط في العراق تشترك فيها إنجلترا وفرنسا وأمريكا، وهذا هو الشأن في أهم منابع الثروة من صناعة وتجارة؛ فالحرب لا تنقل المغانم من يد إلى يد، ولكنها تهدم البناء على الجميع؛ على الأعداء والحلفاء، وعلى الغالبين والمغلوبين، وعلى المدافعين والمهاجمين، ومن ثم كان الخراب في الحروب الحديثة أتم، والبلاء أعم، هذا إلى اتساع رقعة القتال وعدد المقاتلين؛ فلم يعد القتال بين أمة وأمة - غالبا - بل إن المصالح المشتبكة جعلت القتال بين نصف العالم ونصفه الآخر تقريبا، وبذلك كان الخراب في الأنفس والأموال لا يقاس به كل ما سبق من قتال.
لقد أحصى الأستاذ إروين (Irwin)
مقدار الخسارة المالية في الحرب العظمى، فكانت حسب تقديره 186000000000 دولار، وهذا - كما يقول هو - مقدار الخسارة المالية المباشرة، فإذا أضيفت إليها الخسائر غير المباشرة من مثل تخريب الأملاك ووقوف حركة الإنتاج، كان المجموع 337000000000 دولار، وكانت الخسارة المالية المباشرة في اليوم الواحد في السنة الأخيرة من الحرب تكلف الأمم المحاربة 240000000 دولار، وأحصى بعضهم الخسارة في الأنفس فكانت نحو عشرة ملايين من الجنود قتلى، وبين مليونين وثلاثة ملايين عجزة!
وليس يستطيع كاتب بليغ ولا شاعر مفلق أن يصف ما أصاب الناس فيها من هول وفزع وكرب، حتى كان كثير ممن نجا من القتل والجرح غير صالح نفسيا لمداومة الحياة، وكثرت بعد الحرب الوفيات، وزادت إحصاءات الأمراض، وورث الآباء القاتلون أبناءهم أعصابا مريضة، وأوصافا سيئة، ولم يقف الأمر عند هذا، بل إن الحرب هزت النظم الاجتماعية من أساسها، فبلبلت الآراء والأفكار في القانون وفي العقائد وفي الأخلاق، وأفقدت الناس ثقة بعضهم ببعض، فساءت الحالة الاقتصادية؛ لأن مبناها الثقة، فكان مصيبة الناس في تزعزع النظم الاجتماعية والمثل الأخلاقية والثقة الاقتصادية، أكبر من مصيبتهم في الأنفس والأموال.
وتحولت كل القوى من قوى بانية إلى قوى مخربة؛ فالعلماء وجهوا مجهودهم لاختراع المخربات والمهلكات، وأموال الأمم التي كانت تعد للبناء صرفت في التسلح واقتناء المدافع المدمرة والغواصات والطيارات، وانتشر الميل إلى التخريب بين أفراد الشعوب، فقد كانت الحروب الماضية حروبا بين الجنود فحسب، فأصبحت الحرب الأخيرة بين طبقات الشعوب كلها من أطفال ونساء وشيوخ، كل يعمل أعمالا حربية تلائمه، فانحل بذلك كثير من أسس المدنية؛ لأن المدنية تقوم على البناء لا على الهدم والتخريب.
أفبعد هذا يستطيع أن يؤمن منصف بخير الحروب ومزاياها؟
لا شك أن العالم الآن في حاجة قصوى إلى تغيير في الآراء السياسية، والنظم السياسية، وإلى تأسيس مشاعر إنسانية لا قومية، وعادات إنسانية لا قومية، وتفكير إنساني لا قومي، وعواطف إنسانية لا قومية، وعلاقات اقتصادية إنسانية لا قومية، وحكومات ترعى هذه المشاعر والعواطف والعادات الإنسانية لا القومية، فبذلك وحده يختتم العالم فصول الحرب، ويحل البناء والتعبير محل الهدم والتخريب، ويسير العالم إلى الرقي بخطى لم يكن لها نظير في الماضي.
الصراع الاقتصادي
وهذا هو النوع الثاني من أساليب القتال، وهو كثير الدوران بين الناس في كل ساعة وأوان؛ فالبائع يصارع المشتري، والمشتري يصارع البائع، والمستهلك والمنتج يتصارعان دائما، والعمال وأصحاب رءوس الأموال في صراع دائم، وكذلك ملاك الأرض والمستأجرون، ثم كل طائفة متحدة العمل يتصارع بعضهم مع بعض؛ فالباعة يتنازعون على المشترين، وأصحاب رءوس الأموال يتنازعون على العمال وغيرهم، والملاك على المستأجرين وهكذا.
وقد نشأ من هذا الصراع الاقتصادي نتائج كثيرة، بعضها نافع؛ كتحسين الإنتاج وتخفيض الأسعار على المستهلكين؛ إذ لو انعدم هذا الصراع لكان الاحتكار، وفي ذلك ضرر على الناس كبير؛ وبعضها ضار؛ كالذي نشاهد من النزاع العنيف بين العمال وأرباب رءوس الأموال، ومشكلة العاطلين، ومشاكل إضراب العمال، وغيرها.
ومن مظاهر الصراع الاقتصادي بين الشرق والغرب، فمن أهم أسبابه أن الغرب يريد أن يستغل الشرق إلى أقصى حدود الاستغلال، فهو يريده مزرعة والشرق يريد نفسه حرا، يريد الغرب أن يرقي الشرق، ولكن كما يرقي المالك مزارعه؛ فهو يساعد على حفر الترع وتنظيم الري وتسهيل المواصلات ونحو ذلك مما يزيد في الثروة؛ لأن هذه الثروة نتيجتها في الغالب وفي النهاية للغرب، ويريد الشرق أن يثقف أبناءه على النمط الذي يريده، ويضع لنفسه نظام الحكم الذي يتفق ومصلحته، فيأبى الغرب عليه ذلك؛ لأنه ليس في مصلحة الاستغلال، فيكون من ذلك صدام وصراع كالذي نشاهد الآن؛ نعم، إن هناك أسبابا لذلك الصراع غير اقتصادية، ولكن السبب الاقتصادي في النهاية أهم الأسباب.
وإذا تغيرت الأنظار الإنسانية التي أبناها من قبل في هذا المثال سهلت هذه المصاعب، وقل هذا الصدام، وساعد الضعفاء على حسن الإنتاج وحسن الانتفاع.
الجدل والمناقشة
وهذا الصراع أدق أنواع الحرب وأظرفها، تقوم فيه الآراء مقام الجنود، وتقوم الحجج مقام السلاح، وتقوم العقول مقام مصانع الذخائر والأسلحة، وفي هذا الصراع الخير كل الخير؛ فقد نتج عنه خير المخترعات، وخير النظريات، وخير العلوم والمعارف، وكان من أثر النزاع بين الآراء معرفة جيدها من رديئها، وصحيحها من زائفها، وكان من أثر النزاع بين النظريات التعادل بينها، وأخذ القدر الصالح من كل منها.
وهذا الجدل والمناقشة بدأ في أول أمره فوضى لا ضابط له ولا نظام، ثم دخله النظام فرقاه؛ ففي النواحي السياسية نظمت البرلمانات والأحزاب، كما نظمت المناقشات في الانتخابات، وفي النواحي الاجتماعية الأخرى نظمت جماعات الأديان وجماعات التربية، وفي المحاكم نظمت المناقشة في المحاماة وفي منصة القضاء، ونظمت المؤتمرات لتبادل الآراء، فكان هذا التنظيم داعيا لحسن التفاهم وزيادة الإنتاج العقلي؛ نعم، قد يشوه الجدل التحزب والتعصب واتهام الخصوم بعضهم بعضا ونحو ذلك، ولكن كلما رقي النوع الإنساني تضاءلت هذه الأشواك، وتجلت المناقشة في أحسن مظاهرها.
ثم هذا النوع من الصراع أليق الأنواع بالإنسان، وهو الأمل الوحيد في أن يحل محل كل نزاع وصراع، فيحل بالرأي ما كان يحل بالحرب، ويحل بالجدل والمناقشة ما كان يحل بالإضراب، وما كانت «عصبة الأمم» في أسمى أشكالها وأرقى مناهجها إلا ضربا من هذا، ونزوعا إلى تحكيم العقل بدل تحكيم السلاح، وإحلال الرأي محل السيف.
لقد كان التباهي قديما بقوة العضلات وكبر الحجم، فكانت المشاكل تحل بالقوة؛ بقوة الجسم والسلاح، ثم نمت في الإنسان قوة عليا غطت على القوة الأخرى، وهي «قوة العقل»، فلم لا يكون التحاكم إليها والقول الفصل لها؟
إنما الحرب أثر من آثار القوة المادية، ونزعة عتيقة من نزعات القرون الأولى، ولم يعد يليق بمقام الإنسان من أنواع الصراع إلا صراع الآراء والأفكار.
الفصل السابع والعشرون
النقد والتقريظ
أصل كلمة النقد من نقد الدراهم، وهو امتحانها ومعرفة الجيد منها، فهي بهذا المعنى لا تقتصر على ذكر العيوب والتشهير بها، بل تدل على استعراض الشيء والوقوف على محاسنه ومساويه.
وقد تستعمل في معنى الذم والعيب خاصة، ومنه حديث أبي الدرداء: «إن نقدت الناس نقدوك، وإن تركتهم تركوك»، فاستعمل الكلمة بمعنى العيب والذم .
وهي بهذا المعنى ضد التقريظ، فالتقريظ مدح الشيء والثناء عليه، مأخوذ من قرظ الجلد دبغه بالقرظ، وقرظه بالغ في دباغه، وسموا المدح تقريظا؛ «لأن المقرظ يحسن ويزين صاحبه كما يحسن القارظ الأديم»، وبهذا المعنى يستعملها الكتاب المحدثون، فيعنون بالنقد ذكر المساوئ، وبالتقريظ ذكر المحاسن.
ولست أعرض في مقالي هذا للكلمتين من الناحية الأدبية، فلا أعرض لمذاهب النقد الأدبي ومقاييسه، كما لا أعرض لأساليب التقريظ وألوانها، وإنما أعرض لظاهرة نفسية تلفت النظر؛ هي أن الناس على اختلاف درجاتهم في البداوة والحضارة والرقي والانحطاط، مولعون بالنقد أكثر من ولوعهم بالتقريظ، ومولعون بالبحث عن العيوب وإظهارها والمبالغة في تصويرها أكثر من ولوعهم بالبحث عن المحاسن وإظهارها وتصويرها، وهم في ذلك بين اثنين: إما ممثل على المسرح يمثل دور الباحث عن العيوب المتجسس على السقطات، يستبشر كلما عثر على خفايا الزلات، ويقيس نجاحه بمقدار ما كشف من أخطاء، وإما شاهد لهذا المنظر، أكثر ما يهتم له العيب الفاضح والسقطة الشنيعة، يطيل التصفيق لكاشف الزلل، ويمنح الإعجاب من أصاب من آخر مقتلا.
ومظاهر ذلك في الحياة كثيرة، فلا تكاد تجد عظيما بإجماع، ولكنك كثيرا ما تجد أصاغر؛ لأن النفوس ترتاح لمنظر الحقير إذ خرج من ميدان المنافسة، ونزل عن مستوى المقارنة، ويضنيها العظيم فتتلمس وجوه النقص فيه، وتخلقها إن لم تكن، وتبالغ فيها إن كانت؛ لأن العظيم يكلفها العناء في إدراك شأوه وبوغ منزلته.
ومن مظاهر ذلك، أن مجلات عديدة في العالم كله تعيش على النقد، وليس هناك - فيما أعلم - مجلات تعيش على التقريظ، وقد أدركت هذه المجلات إدراكا صحيحا هذه الظاهرة النفسية، ورأت أن رواجها يكون أتم كلما ارتفعت نغمة هجوها، وكلما كان نقدها أقذع وسهامها أنفذ، والجرائد في العالم تبذل المدح بالحبة والنقد بالقنطار، ومن آية ذلك أن الناس في كل أمة يقدرون - غالبا - جرائد المعارضة أكثر من قدرهم جرائد التأييد، فإذا تغيرت الحكومات وأصبحت جرائد المعارضة بالأمس جرائد تأييد اليوم، نزلت قيمتها من ناحية أنها لم تعد تروي رغبات الناس وشهواتهم.
ثم ، ما النقد الأدبي؟ أليس هو في الغالب إرضاء لعاطفة البحث عن الغلط والتشهير به؟ إذا مدح النقاد فبحذر وقدر، وأكثر مدحهم «طعم» يستدرجون به القراء لإقناعهم بأنهم عدول في تقديرهم، منزهون في ذمهم ومدحهم، حتى إذا اطمأن لهم القارئ بالغوا في النقد وأسرفوا في اللوم، وأكثرهم الناشئين من الأدباء يتطلبون الشهرة من طريق مهاجمة النابغين والتعرض لهم، والتسميع بهم، حتى إذا تصدوا للرد عليهم رفعوا من شأنهم؛ إذ جعلوهم في منزلتهم، وقديما حكى لنا «بشار بن برد» أنه - وهو ناشئ - هجا جريرا، فأعرض عنه واستصغره، ولو أجابه لكان - كما يقول - أشعر الناس؛ قد يكره الناس الناقد الجريء، ولكنهم يهابونه ويلتفتون إليه ويشجعونه على أن يبني نفسه من أنقاض ما هدم من غيره.
ومما نلاحظه ارتياح الناس للهازئين الساخرين، وما يصدر منهم من هزء وسخرية، على شرط ألا يكونوا هم موضع الهزء والسخرية، فأوسع أبواب الظرف والكياسة، وأشد ما يستخرج الضحك والإمعان فيه، ما لذع به الناس في أعراضهم وأخلاقهم وملكاتهم، والذي يعده الناس لطيف الروح خفيف الظل، بارع الظرف، هو من يومئ الإيماءة الفاتكة، ويرشح لسانه باللفظ يقتل به البريء الغافل، ويضحك به اللاهي الماجن.
وقد تقام حفلات التكريم للإشادة بصفات عظيم، أو التنويه بما قام به من عمل جليل، ولكن أكثرها حفلات تأبين، تقام بعد أن اختفى المحتفل به عن المسرح وغاب عن الأنظار، أو بعد أن أعجزته السن وخرج من ميدان العمل والمنافسة، أو هي حفلات تجارية أقيمت لمنفعة المحتفلين لا المحتفل بهم؛ الحق أن هذه العاطفة - عاطفة البحث عن الخطأ وإذاعته، والولوع بالنقد أكثر من الولوع بالتقريظ - عاطفة تشارك الإنسان في جميع أدواره.
وتعليلها - على ما يظهر - يرجع إلى غريزة الأثرة وحب النفس، كأن الإنسان يرى أن القول بعيوب الناس يتضمن القول بتفوقه، والتشهير بأغلاطهم إقرار سلبي بنبوغه، والعمل على تحقيرهم قد ينتج مع الزمن انفراده بالعظمة، والسخرية منهم تستتبع الاعتراف بجلاله وحده.
ولكن المدنية والحضارة، والرقي العقلي والخلقي، تهذب من هذه العاطفة كما تهذب من سائر العواطف؛ فالناقد المهذب يكتفي بالتلميح دون التصريح، وبالإشارة دون التجريح، يقول ما في نفسه، ولكن يتخير الألفاظ ويتخير المواقف، ويترفع عن ألفاظ الغوغاء وأساليبهم، والمقارنة بين الجرائد والمجلات، وأساليب النقد في الأمم المختلفة تؤيد هذا كل التأييد.
لو سار الأمر على المعقول لخف كثير مما يصدر من لوم ونقد؛ لأن أساس إمكان المسئولية، فإذا لم تكن فلا لوم، فلسنا نلوم المرضى إن لم يأتوا بأعمال الأصحاء، ولا نلوم البدوي كما نلوم الحضري، ولا نلوم الجاهل بما نلوم به العالم، ولا نلوم الطفل في المدارس الابتدائية إذا لم يحل معادلة جبرية أو نظرية هندسية.
إنما نلوم الإنسان عندما يكون في الإمكان أن يفعل خيرا مما كان، ولو قدر اللائمون تقديرا حقا ما يحيط بالملوم من حالة عقلية وجسمية وبيئة اجتماعية، ومن عوامل خفية معقدة يصدر عنها العمل، لخففوا من غلوائهم، ولطفوا من لومهم، ولعلموا أن استحقاق اللوم نسبي يرتبط بالسن، وبدرجة الثقافة والمدنية، وحالة الفرد في أمته، وموقف أمته في العالم.
ولو سار الناقد على المعقول، لوقف موقف المصلح لا موقف الجاسوس يهمه أن يرى الخطأ ليبرهن على كفايته، ويسره أن يرى العيب ليقبض على فاعله، وكلما أوغل في استكشاف العيب الدفين، وتعمق في إظهار جريمة مستورة، كان أدل على قدرته ونبوغه، ويأسف إن لم يكن عيب؛ كأنه يشعر شعورا باطنيا أنه إرهاص بأن لا حاجة إليه.
والمصلح يستكشف العيب لا ليشهر به، ولكن ليعالجه، وأقصى أمانيه ألا يكون عيب، وإذا كان فأن يداوى، ويعتقد أن مهمته تتم - مع السرور - يوم يزول المرض ويتلاشى النقص، وأنه بنقده ولومه إنما يصف دواء يستأصل الداء ويأتي عليه، وأسوأ ما نرى أن يكون الناقد كالفرس الجموح ينال من الناس بهوجه وخبطه، أو أن يقف في نقده موقف الغر يداعب بالنار، أو الطفل يلعب بالسكين.
الفصل الثامن والعشرون
عبادة الماضي
أتظن أن الناس يعبدون إلههم وحده؟ ويقيمون له الشعائر وحده؟ ويطيعونه ويعظمونه وحده؟
كلا، إن هناك معبودا آخر للناس على اختلاف أجناسهم وألوانهم، يطيعونه ويخضعون له، ويقدسونه ويصدرون عنه فيما يفعلون ويتركون، وهو الماضي الحافل بتقاليده وأفكاره وأعماله.
لئن كانت ميزة الإنسان الكبرى هي تطوره وقدرته على التغيير والتحسين والتجديد، فإن فيه عنصرا قويا موروثا من أصله الحيواني، هو عنصر الثبات والاستقرار، وبقاء القديم على قدمه.
هل رأيت القطيع من الغنم يسير أمامه حمار يهديه ويرشده، فإن سار الحمار يمينا سار القطيع يمينا، أو يسارا فيسارا، وإن قفز عقبة قفز كل القطيع وراءه، واحدة بعد أخرى؟
في الإنسان شبه كبير من هذا المنظر، فهو في أغلب أعماله لا يعمل العمل أو يتجنبه لأنه وزن منافعه ومضاره وحسب نتائجه، ولكن لأن من قبله من الناس عملوه أو تركوه، والجيل اللاحق يتبع الجيل السابق بالتقليد؛ كقطيع الغنم في سيره وفي قفزه. •••
ماذا نأكل وماذا لا نأكل، وماذا نشرب وماذا لا نشرب، وكيف نأكل ونشرب، وماذا نلبس وكيف نلبس، وكيف نحترم وكيف نحتقر، وكيف نبدأ التحية وكيف نردها، وما الأعداد التي نتشاءم منها والتي نتفاءل منها، ولم نحارب وكيف نحارب، ونظام الحكومة وكيف يكون، وأساليب الشعراء في شعرهم وبحور الشعر وأوزانها، وأساليب النثر، وآداب اللياقة، واحترام الأغنياء واحتقار الفقراء، وآلاف الآلاف من الأمثلة في الحياة المادية والسياسية والفنية والاجتماعية والعقلية والاقتصادية، لم نفعلها لأننا درسناها وعرفنا خيرها وشرها، ولكن هذا ما وجدنا عليه آباءنا، وإنا على آثارهم لمقتدون.
وليس يستطيع أن يظهر فوق لجة الماء، ويكافح ضد التيار، إلا أفراد أقل من القليل، يظهرون على توالي الأجيال، ويستطيعون أن يكفروا بعبادة الماضي، وأن يزنوا الأمور بقيمتها الذاتية، لا بالتقاليد المرعية، ويفرقوا بين السخيف والمعقول، وما يستحق البقاء وما يستحق الإعدام من النظم والأفكار والعادات؛ كم من آلاف السنين مضت قبل أن يرى الناس عبادة الأصنام سخف، وأن استرقاق الإنسان لأخيه الإنسان عار ... وكم من آلاف السنين مرت ولما يدرك قادة الأمم أن الحرب وحشية! وهكذا.
من البديهيات أن كل نظام يوضع يجب أن يكون لخير الأمة، وأنه يجب أن يبحث ليتبين خيره، وأنه إذا تبين نفعه يجب أن يبقى، وإذا تبين ضرره يجب أن يلغى، ولكن هذه البديهيات العقلية في ناحية، والعمل الذي يجري عليه الناس في ناحية أخرى، وقلما يعملون ما يعقلون، إنما يعملون ما يقلدون.
تقدم الغرب في هذا الباب خطوة، فوضع كثيرا من الأشياء المادية في «المعمل»، وأجرى عليها الاختبار والتجارب، وأصغى إلى نتيجة الاختبار والتجارب، فقلب زراعته وجعلها على أساس العلم لا على أساس التقاليد، وكذلك فعل في الصناعة، واخترع أدوات الحضارة، ولكنه لم يضع في «المعمل» النظم الاجتماعية والآراء السياسية والاقتصادية ووسائل السلم والحرب، ولم يجر عليها الاختبار والتجارب كما فعل في المادة، ولا يزال يصغي فيها إلى صوت التقاليد ولا يزال يعبد الماضي. •••
أما الشرق، فغلبت عليه عبادة الماضي في الماديات وغيرها، فلا يزال يزرع كما كان يزرع أجداده، ويصنع كما يصنع أجداده، ويخضع للنظم المالية والسياسية والاقتصادية، كما كان الشأن في القديم، إلا في القليل النادر، ومع هذا، فكل من الشرق والغرب يعبد الماضي، وإن اختلف مقدار العبادة ووجهها ... ولو وفق الناس إلى من يهديهم أن يضعوا كل شيء، وكل مشروع، وكل اقتراح في «أنبوبة الاختبار»، ويقيسوه بمقياس المنفعة العامة، لا بمقياس عبادة الماضي، لقفز العالم إلى الأمام قفزة واسعة، وحقق كثيرا مما يرجو من سعادة. •••
إن العالم الآن مختل التوازن، وسبب هذا الاختلال أنه وزن بعقله بعض الأشياء، وسار عليها بمقتضى العقل، ووزن بعض الأمور بميزان الشعور الصحيح الصادق، وسار عليها بمقتضى الشعور، ولكنه في نواحي السياسة والاجتماع والاقتصاد لا يزال مقيدا بعبادة الماضي، فكان كمن فكت يداه، ولا تزال مغلولة قدماه.
ما هذا الفزع الذي استولى ويستولي على نفوس الناس؟ ما هذه الضحايا التي بذلت في الحروب؟ ما هذه الفوضى والاضطرابات المتفشية في كل أنحاء العالم؟ لا سبب لهذا كله إلا أصنام يعبدها الناس؛ وخاصة قادة السياسة ورؤساء الحكومات وزعماء رجال الأعمال والأموال؛ وأحد هذه الأصنام وأضخمها، صنم اسمه الاستعمار والتوسع في الفتح والملكية، فالأمم الفائزة في الحرب تتسابق في عبادة هذا الصنم من غير تفكير، إلا أن السابقين عبدوه من قبل فليعبدوه هم، ولكن هل بحثوا بحق وعدل واطمئنان فوائد الاستعمار ومضاره حتى للمستعمرين أنفسهم؟
ما هي النتيجة لو حسب ما يستغله الفاتحون من أموال المفتوحين، وماذا يكلفهم ذلك من نفقات الجيوش والأسلحة في السلم والحرب، وما يكلفهم من ضحايا في الأنفس بجانب الضحايا في المال، فضلا عن الحزازات النفسية الدائمة؟ الاستعمار لهذا الغرض - والنتيجة لا محالة أن الأضرار أكبر من المنافع - أم الاستعمار للحصول على المواد الخام من الأمم المفتوحة؟ فهل حسب حساب الفروق بين احتكار المواد الخام، وجعلها عرضا مشاعا للجميع فيشتريه كل من قدر عليه، وما يسببه الحل الأول من حرب، وما يسببه الحل الثاني من سلم؟ وهل بحثت العلاقة بين الاستعمار وسعادة الأمم فرئي أن سعادة الأمة بقدر ما تستعمر؟
الحق أن هذه المسائل وأمثالها كلها تبحث في «المعامل» كما بحثت المسائل المادية، وإنما فعلها الأولون لبقايا وحشية فيهم، وفعلها الآخرون عبادة للصنم القديم. •••
وقل هذا في النظم الاقتصادية، فهي لمنفعة الأقوى لا منفعة الأحق، وهي تساعد السلاب النهاب على السلب والنهب، أكثر مما تساعد المستقيم العفيف على نيل حقه.
وإنما يمنع من تغييرها مع ظهور خطئها أنها صنم قديم يعبد، وليس من يشجع على تكسير الأصنام.
ومن عجيب الأمر أن عباد الأصنام القديمة أسعد بالا وأكثر اطمئنانا، ويصفق لهم ويرحب بهم من يشقى بنظامهم، فإذا دعا داع إلى كسر الصنم، ووزن الأمور بميزان العقل، ووضع المسائل في «المعمل» تحت التجربة والاختبار، فهو المغفل، وهو الخائن، وهو الذي يرجم بالحجارة، ومما يزيد الأمر سوءا، أن زمام العالم في يد حفنة من الناس تسيرهم النزعات القديمة وعبادة القديم؛ إما عن اعتقاد منهم أو لضغط البيئة عليهم، ودعاة «المعمل» والاختبار لا شيء في أيديهم، ودعاة الأصنام القديمة كل شيء في أيديهم.
ألا تستطيع كل الأهوال التي لقيها الإنسان في هذه الحرب - وما كان أقساها! - وما يجد الآن من وفوضى وقلق واضطراب وفزع، أن تكشف الغطاء عن بصره، فيرى أنه كان مفتونا بعبادة أصنام لا تضر ولا تنفع، وأن عبادتها سبب كل ما هو فيه من شقاء، فينتقم منها ويحطمها، ويرى أن الحق وحده - لا القديم - أولى بالعبادة؟!
هذا هو الأمل الوحيد، وإلا فويل للإنسان!
الفصل التاسع والعشرون
الأخلاق السياسية
سيطرتها اليوم وأثرها في حياة الشعوب
يخطئ من يظن أن الأخلاق السائدة في العالم اليوم هي الأخلاق التي وردت بها الأديان وقررها في كتبهم فلاسفة الأخلاق.
إنما السائد الآن نوع من الأخلاق يصح أن نسميه «أخلاقا سياسية».
وأهم فرق بين الأخلاق التي أتت بها الأديان وتعاليم الفلاسفة، وبين الأخلاق السياسية التي نتخلق بها اليوم، أن الأولى مؤسسة كلها على اشتراك الناس في الحقوق والواجبات على حد سواء، فإذا أمرت بالعدل طالبت به الناس كلهم، لا فرق بين أسودهم وأبيضهم، ولا فرق بين أفريقي وأسيوي وأوربي، ولا فرق بين أن يعامل الإنسان فردا من أمته أو فردا من أمة أخرى.
أما الأخلاق السياسية، فمحورها وأساسها نفع الأمة التي ينتسب إليها الفرد، وبعبارة أخرى: إن الأخلاق الدينية والفلسفية جعلت غايتها عالمية؛ فهي ترمي إلى حسن علاقة الناس جميعا بعضهم مع بعض، من غير نظر إلى جنس ولا إلى لون ولا إلى وطن، وتضع تعاليمها على هذا الأساس، وتجعل مثلها الأعلى أن يسلك الناس السبيل التي يرقي مجتمعهم «ككل»؛ فهي تنظر إلى العالم كعالم لا باعتبار أنه مكون من عدة أمم، وتنظر في تعاليمها إلى الناس كمجموعة واحدة، تنظم علاقاتهم، وتصلح من شئونهم، وتضع المبادئ العامة التي توصل إلى خيرهم؛ مثل المبدأ الإسلامي: «عامل الناس بما تحب أن يعاملوك به»، ومثل مبدأ (كانت): «اعمل فقط ما يصح أن يعمله كل الناس»، ومثل مبدأ مذهب المنفعة القائل: «إن العمل خير إذا سبب من اللذة أكثر من الألم لكل مخلوق»، وهكذا.
أما الأخلاق السياسية، فنظرت إلى الأخلاق نظرها إلى «القانون»؛ فكما أن لكل أمة قانونها، فكذلك لكل أمة أخلاقها، فمحور الأخلاق السياسية خدمة الأمة التي يعمل لها الساسة، بقطع النظر عن غيرها من الأمم؛ فإذا كان هناك عمل ينفع الأمة ويضر سائر الأمم، فالأخلاق العامة تنهى عنه وتحذر منه، وتجعله شرا ورذيلة، على حين أن ساسة هذه الأمة يرون الإتيان به فضيلة ونبلا، وإن تضررت منه كل الأمم!
وقد عبر القرآن عن ذلك بحكايته عن قوم من اليهود كانوا يرون أن الأمانة إنما تجب على اليهودي لليهودي لا لغيره من العرب ويقولون:
ليس علينا في الأميين سبيل .
وقد كان اليونان في أيام سلطانهم، والرومان في سطوتهم، ينظرون هذا النظر الضيق في تقويم الأخلاق؛ فالأخلاق تجب على اليوناني لليوناني لا لغيره، والناس ينقسمون إلى قسمين: يونان ومتوحشين، والفضيلة إنما وضعت عند معاملة اليوناني لمثله، إذا عامل اليوناني غيره فليس هناك فضيلة واجبة، وهكذا كان الشأن عند الرومان، ولعل اضطهاد الرومان النصرانية كان من أسبابه الكبرى ما أتت به النصرانية من نظرة أخلاقية عالمية، على عكس ما أتت به روح الدولة الرومانية، ولعل من أسباب اضطهاد اليونان لسقراط أيضا والحكم بموته، تعاليمه الفلسفية العامة، مقاوما بذلك تعاليم اليونان الخاصة كما قال الأستاذ «مكدوجل».
ولكن على الرغم من تعاليم الإسلام والنصرانية، وعلى الرغم من تعاليم فلاسفة الأخلاق، فالذي يسود أوربا الآن هو الأخلاق السياسية القومية، لا الأخلاق الدينية والفلسفية العامة؛ فالإنجليزي أو الفرنسي أو الألماني يقوم الأعمال من ناحية أمته لا من ناحية الإنسانية عامة، فإذا عقدت معاهدة لم ينظر السياسيون إلا إلى أمتهم، هل تنتفع بهذه المعاهدة فيمضوها أو لا تنتفع فيرفضوها، والأمة المقترحة والأمة المشتركة في التوقيع لا تنظر في ذلك إلا إلى نفسها، وقل أن تنظر في ذلك إلى ناحية عالمية أو ناحية إنسانية!
وعند إعلان الحرب أو عقد الصلح لا تنظر كل أمة إلا هذا النظر؛ والسبب في هذا أن مفهوم العدل عند هؤلاء الساسة مفهوم ضيق، ومثلهم مثل شيخ القبيلة الذي سئل عن معنى العدل فقال: «إذا أغرت على قبيلة أخرى واستلبت إبلها فهذا عدل، أما إن أغارت علي واستلبت إبلي فهذا ظلم»، فالعدل والظلم دائران حول المصلحة الذاتية، أو بعبارة أدق: حول المصلحة القبلية أو القومية، لا حول المصلحة العامة، وربما كان الداعي إلى هذا تغلب الروح الوطنية على الأمم، وإخضاع الأخلاق لحكمها، وأن الحكم بأن هذا الشيء في مصلحة الإنسانية أو في ضررها حكم أكثر تعقدا من الحكم بأن هذا الشيء في مصلحة الأمة، فعقول الناس إلى اليوم لم تقو على هذا السمو الذي تحكم فيه المصلحة الإنسانية فتقبل العمل أو ترفضه.
ولذلك نرى أن في كل أمة أفرادا فلاسفة - يختلفون قلة وكثرة - ينتقدون هذه الأنظار الضيقة في تقويم الأعمال، ويدعون إلى النظرات الواسعة، ولكنهم - مع الأسف - ليسوا القابضين على زمام الأمور، ولا هم المتصرفين في شئون الدول، فقلما تجد دعوتهم سميعا، والسبب في تفوق رأي الساسة على رأي الفلاسفة أن الساسة لا الفلاسفة هم ظل الرأي العام ولسانه الناطق، والفلاسفة يحتاجون إلى زمن طويل حتى تتقطر آراؤهم إلى الشعب، والرأي العام - كما لاحظ بعض الفلاسفة - أكثر أنانية وكبرا وتعصبا من الفرد.
ومن أهم شرور هذه الأخلاق السياسية - بالمعنى الذي شرحنا - ما تستلزمه من نفاق؛ وذلك أن هذا النوع من الأخلاق مؤسس - كما ذكرنا - على الشعور القومي الوطني، والأمم مهما خلت من شعورها الوطني لا يمكن أن تنسى عقلها ولا دينها ولا إنسانيتها؛ فقدر كبير من النفاق لا بد منه للساسة ليوائموا بين الشعور والفكر وبين الوطنية والإنسانية، وبين حكم العواطف وحكم العقل، وأشد أوقات الحاجة إلى ذلك النفاق الأزمات وأوقات الحروب؛ لأن الأمم في مثل هذه الأوقات تغلي مشاعرها الوطنية، وتهتاج عواطفها حفظا على كيانها، والساسة مضطرون إلى إيقاد هذا الشعور حتى تتقدم الأمة بما يجب من تضحية، ولكن في مثل هذه المواقف يستيقظ العقل أيضا فيكثر التساؤل: ما فائدة هذه الحروب للإنسانية، وماذا يكسب العالم، وماذا يخسر منها؟
وليس يمكن التوفيق بين هذه المشاعر اليقظى والعقول الصاحية إلا بضروب كثيرة من الخداع والنفاق، فتدعى الدواعي العريضة - عند ذاك - في أن الحرب لخير الإنسانية، ولنشر المدنية، ولمحاربة الهمجية، ولإذاعة الثقافة، ولتمدين الشعوب البربرية، ونحو ذلك، والغرض من هذا كله محاولة إقناع مشاعر الشعوب وعقولهم معا، وأحيانا تستغل العاطفة الدينية أيضا من هذه الناحية، فيدعى أن الحرب لنشر الدين الصحيح في العالم وهكذا، والناظر في الأدب الذي تنتجه الحروب يرى مصداق هذا في وضوح وجلاء، والتاريخ السياسي للأمم المختلفة مملوء بالدعاوى من هذا القبيل.
والمتفائلون من الفلاسفة وعلماء الأخلاق والاجتماع يرون أن العالم سائر من هذه الأخلاق السياسية التي أساسها الوطنية، إلى الأخلاق العامة التي أساسها الإنسانية، ولكن يقلل من تفاؤلهم ما يرون من أنه كلما سنحت فرصة للقرب من هذه الغاية استطاع رجال السياسة أن يحولوها لخدمة الوطنية لا الإنسانية، كما فعلوا في «عصبة الأمم»؛ فقد كانت أسسها التي رمى إليها واضعوها إنسانية بحتة، فما زال الساسة بها يعدلونها ويحورونها حتى سلبوا روحها، وقلبوا وضعها، وجعلوها حزبية لا عالمية!
وكان المتفائلون من هؤلاء الفلاسفة يرون، قبل الحرب العظمى، أن المبادئ والأفكار العامة التي انتشرت بين الناس تبعد احتمال وقوع حرب كهذه، فلما وقعت على حال أسوأ مما تخيلوا، شعروا بخيبة الأمل وبعد الرجاء، ولكنهم مع هذا كله لم يفقدوا أملهم، ولم يعدلوا عن نظريتهم، ورأوا أن هذا هو الطريق الطبيعي للإنسان، وأن ما قطعه في الماضي يدل على اتجاهه في المستقبل ، فهو من حين إلى حين يتسع أفقه؛ فقد كان لا يرى إلا نفسه، ثم صار لا يرى إلا قبيلته، ثم صار لا يرى إلا أمته، فسيأتي عليه زمن يرى عالمه، ويقوم الأخلاق تقويما عالميا لا تقويما قوميا، كما تتطلب الفلسفة والأديان.
ومشكلة المشاكل في هذا الصراع من الناحية السياسية والأخلاقية أن الأخلاق القومية والنزعة الوطنية أفادت العالم فوائد لا تنكر، فهذا التسابق إلى المجد بين الأمم، وهذا التناحر المستمر، والصراع الدائم، وحب الغلبة، كان له أكبر الفضل في المخترعات التي اخترعت، وفي النظريات العلمية التي استكشفت، وفي جميع التحسينات التي أدخلت على الشئون الاقتصادية والاجتماعية إلى غير ذلك؛ فهذه كلها إنما تقدمت هذا التقدم السريع بفضل العداء لا بفضل المسالمة، وبفضل التعصب القومي والتحزب الوطني، فلو أننا أحللنا مكان هذه النزعة نزعة إنسانية عامة، وأسسنا الأخلاق على أسس عالمية، وطالبنا الساسة أن ينظروا في قراراتهم ومعاهداتهم وجميع شئونهم إلى الناحية الإنسانية الصرفة، فهل يظل العالم في تقدمه السريع ونجاحه المستمر أو تقل الحماسة وتفتر الهمم؟
والحق أنها مشكلة كبيرة، وهي وإن كانت صعبة الحل فليست مستعصيته، وكل ما في الأمر أنها تحتاج إلى مجهود عالمي جبار يصرف في وضع التربية على أسس جديدة يكون محورها الإنسانية لا الوطنية، والعالمية لا القومية، وتكون غايتها تعويد الفرد أن يتحمس للأخلاق العامة، وأن يقيس الخير والشر بمقياس النفع للإنسانيته لا لأمته، وأن يغار على الخير للناس أكثر مما يغار على الخير لأمته، وأن يقدم في ثبات على فعل ما يضر أمته إذا كان فيه نفع للإنسانية؛ على أن الناس إذا بلغوا منزلة عالية سامية زال كثير من التعارض، ورأوا أن الخير لأشخاصهم والخير لأمتهم والخير للإنسانية شيء واحد، وأن التعارض إنما ينشأ من ضيق الأفق وقصر النظر.
الفصل الثلاثون
القوى الضائعة في الأمة
إذا نحن نظرنا إلى ماكينة من الماكينات وجدنا أنها إنما تكون صالحة وفي حالة جيدة إذا أدت الغرض منها كاملا في الزمن المعقول، وبنفقات معقولة؛ فالسيارة - مثلا - إنما تكون في حالة جيدة إذا قطعت المسافات المقررة لها بمقدار من البنزين يناسب سرعتها، ويناسب حجمها، ونحو ذلك، فإذا أنفقت بنزينا كثيرا في مسافة قصيرة دل ذلك على فسادها، وأن قوتها لم تؤد واجبها.
كذلك الشأن في الأمة، تعمل فيها قوى كثيرة: قوة لتحصيل الغذاء وتوفير وسائل العيش من زراعة وتجارة وصناعة، وقوة لتوفير الأمن والرفاهية، وقوة لأداء مصالح الناس، وقوة للتعليم والتثقيف، وقوة للإنشاء والتعمير، وغير ذلك من القوى؛ والأمة تعد راقية تمام الرقي، إذا كانت كل قواها تعمل لتحقيق أغراضها في أقصر فرصة ممكنة وبالمجهود المناسب.
فإذا عطلت بعض القوى فلم تعمل، أو أنتجت إنتاجا صغيرا في زمن طويل، أو عملت القوى أعمالا متعاكسة بعضها يهدم بعضا، أو بعضها يعوق بعضا، دل هذا على تأخر الأمة وانحطاطها.
ولم تصل أمة من الأمم إلى حد الكمال في هذا، بحيث تعمل كل قواها متعاونة متناغمة، وتعمل لتحقيق غايتها في أقرب وقت بأقل جهد، ولا يكون منها قوى تالفة أو متعاكسة، ولكن الأمم على العموم تتفاوت في هذا تفاوتا كبيرا بمقدار التآلف ومقدار التعاون أو التجاوب، ومقدار المجهود الذي يصرف والزمن الذي ينفق.
فلننظر الآن في القوى الضائعة في الأمة ...
فمن الناحية المادية، نرى أراضي كثيرة صالحة للزراعة ولم تزرع، وصحراء وجبالا ووديانا وبحارا وأنهارا مملوءة بالمعادن والزيوت والقوى الكهربية ونحو ذلك، وهي صالحة لأن تدر كثيرا من المنافع ثم لم تستخدم، فهذه قوى ضائعة، ومن ناحية أخرى نرى كثيرا من الناس يستهلكون ولا ينتجون، فأفراد الأمة الذين لم يعلموا ولو علموا لأنتجوا نتائج عظيمة، والمرضى الذين يقعد بهم مرضهم عن العمل ولو عولجوا لصحوا وأنتجوا، والذين يكسبون من الوسائل الدنيئة كالقمار والغش والخديعة ... كل هؤلاء وأمثالهم قوى ضائعة لو وجهت الوجهة الصحيحة لأنتجت نتاجا حسنا، كذلك الكسالى، والذين يكسبون من الإجرام، والذين لا يعملون ولكن يأخذون مجهود غيرهم ويتلفون في ترفهم وسرفهم وشهواتهم، والذين يدمنون على الخمر والمكيفات المختلفة من حشيش وأفيون وكوكايين مما يضعف الصحة ويضيع المال، هي قوة ضائعة.
كذلك من القوى الضائعة إتلاف المال في المظاهر التي لا قيمة لها ونحو ذلك، كلها قوى ضائعة كان يمكن استخدامها في النفع لا في الفساد.
ومن هذا القبيل الكفاءات الضائعة، ومن أمثلة ذلك: أن الطلبة في المدرسة الثانوية والعالية لا يعرفون نوع كفايتهم، وليس هناك من يوجههم، فطالب استعداده نظري ويوجه وجهة عملية، وطالب استعداده عملي ويوجه وجهة نظرية، ومن يصلح للقوانين يدرس تجارة، ومن يصلح للتجارة يدرس هندسة؛ وحسبك دليلا على ضياع هذه القوى أن تنسب إلى عدد من يتخرج في هذه المدارس العالية إلى عدد من تخلف في الطريق وضاعت كفايتهم، ولو كانوا وجهوا وجهة صحيحة لكثر لإنتاج، وكان نتاجا طيبا تبرز فيه الكفايات.
والمسئول عن ذلك أولياء أمور الطلبة، ونظام التربية الذي لا يستكشف الكفايات ولا يوجهها وجهة صحيحة، ثم ما نرى من رجال يعملون عملا غير الذي أعدوا له؛ فمتخصص في الطب يشتغل سياسيا، ورجل أعمال يشتغل موظفا في الحكومة، وذو كفاية ممتازة في الإدارة يعمل في وظيفة كتابية، إلى جانب ذلك عدد كبير يشتغل - مثلا - في المحاماة، والأمة أحوج إلى أطباء، أو عدد كبير يزدحم على مكاتب الحكومة والأعمال الحرة مقفرة ... وهكذا من آلاف الأمثلة التي تضيع فيها الكفايات، والأمة الصالحة هي التي تكتشف الكفايات وتعرف كيف تستغلها.
والذي يوجههم إلى ذلك ليس الكفايات، ولكن الرغبات الكاذبة في المنصب أو الجاه، ويوجههم إلى ذلك أيضا الرغبات الفردية لا مقدار حاجة الأمة إلى النوع.
وبالأمس قرأت لكاتب أمريكي يروي أنه راقب قطع أشجار في شارع من شوارع مصر استغرق ثلاثة أشهر، وكان يمكن أن يعمل في ساعة أو ساعتين!
ولو حسبت حساب ما تنتجه من العمل عامة، وما يصرف من الزمن، لراعك مقدار الوقت التالف، ثم لو نظرت إلى مقدار قوتهم وما يمكن أن ينتجوه لكانت النتيجة مريعة.
كم من الناس لا عمل لهم في الحياة؟
فكم من النساء لا عمل لهن في البيت ولا خارج البيت؟ وكم من المتعطلين الذين يتسكعون في الشوارع أو يقضون أوقاتهم في المقاهي والأندية؟
وكم من المتخاصمين الذين يقضون سنين في المحاكم في نزاع وخصام، ولو حكم العقل لانفض النزاع في ساعة.
إلى جانب ذلك، كم من ملايين الفلاحين يعملون في الأرض بوسائل الزراعة القديمة، ولو استخدمت الآلات الحديثة لعملت في يوم ما يعمله الفلاح في أسابيع؟
وكم من الصناع يشتغلون في الصناعات اليدوية، والآلات الحديثة تنهج أضعاف ما يعملون بأيديهم، ولو استخدمت هذه الآلات لانتفعنا بهؤلاء الفلاحين وهؤلاء العمال وهؤلاء الصناع في أعمال أخرى؟
فهذه أيضا كلها قوى ضائعة.
ومن القوى الضائعة في الأمة المنافسات الحزبية حول الأمور التافهة، والمهاترات السياسية بدون جدوى، وما يتبع ذلك من خطب واجتماعات وملء فراغ في الصحف، وإفساد لعقول الشبان وسوء توجيههم، وصرفهم عن النزعة القومية النبيلة إلى النزعة الحزبية الضيقة، فكل ما يبذل في هذا الباب قوى ضائعة.
ومن القوى الضائعة المجالس واللجان تثار فيها المسائل، فيطول الجدل العقيم حولها، ويكثر الكلام فيها، وتستغرق مناقشاتها الساعات والأيام والشهور والسنين، وكان يكفي المنطق الصحيح والعقل السليم للبت فيها بسرعة، لولا ما يحيط بها من حب للكلام، وتظاهر بالفصاحة، ولعب المصالح الشخصية الخفية في توجيه المناقشة والجدل واصطناع الحجج.
هذه بعض مظاهر القوى الضائعة في الأمة، وما أكثرها! والناظر إليها يأخذه الرعب من كثرة ما يرى من القوى مع قلة الإنتاج؛ لضياع أكثرها، فمثل الأمة في هذا الموقف مثل سيارة تستنزف كثيرا من (صفائح البنزين) لتسير بضع خطوات، أو كوابور مياه يحرق مقدارا كبيرا من البترول لاستخراج حفنة من الماء!
حتى لو قلنا إن تسعة وتسعين في المئة من قوى الأمة ضائعة أو مهملة من مثل الذي ذكرنا وأشباهه، وإنها تعيش على واحد في المئة فقط، لم نكن مبالغين ولا مجافين للحق.
الفصل الحادي والثلاثون
امتحان الحياة
إذا امتحنا الحياة الإنسانية - سواء كانت حياة فرد أم حياة مجموع - وجدناها تخضع لقانونين أساسيين:
أولهما: أن الإنسان يمثل الرواية التي تمثلها كل الكائنات: كينونة، ثم نمو ونضج، ثم تدهور وفناء، مثله في ذلك مثل كل أنواع النبات والحيوان والجماد والنجوم والكواكب.
وهو خاضع كل الخضوع للبيئة التي تحكمه وتحكم قوته، وتحدد قدرته على المقاومة؛ ولا سيما بيئته الطبيعية من جو وإقليم وما إليهما.
وقد بدأت الحياة في أرضنا متحدة متشابهة، ثم أخذت تتنوع في شكلها وحجمها وعقليتها حسب هذه البيئة، إلى أن وصلت في تنوعها إلى الإنسان، والإنسان نفسه أخذ يتنوع إلى أسود وأبيض وأصفر، وإلى بدوي ومتحضر، وإلى راق ومنحط، تبعا لكل ما يحيط به من بيئة، وكلما تقدم الزمان زاد التنوع، وكثر التحول، حتى تصير الأرض إلى غايتها في النمو والنضج، ثم تتدهور وتأخذ في البرود شيئا فشيئا فيعتري سكانها الفناء، ويأتي الفناء أولا لأرقى الأصناف؛ للطفها ورقة حالها، ثم لما هو دونها، إلى أن يأتي على آخرها رقيا.
هذه هي الطبيعة، وهذه هي الحياة؛ فالشتاء لا محالة يتبع الصيف، والهرم يتبع الشباب، والفساد يلحق الكون، وليس موجودا على ظهر الأرض اليوم أحد ممن كانوا قبل مئة وخمسين سنة على أكثر تقدير؛ خضوعا لقانون الفناء.
يخضع جسم الإنسان لقوانين الطبيعة كما يخضع الحجر، فهو خاضع لقوانين المادة والقوة خضوع الحجر لقوانين المادة والقوة، وبفعل الحر والبرد وكل أحداث الجو فيه فعلها في الحجر، وكل ما هناك من فرق أن قوانين جسم الإنسان معقدة أكثر من تعقد الحجر، لكثرة تركبه.
والجمعية البشرية خاضعة لقوانين الطبيعة ككل شيء، حتى ليمكن إرجاع كثير من المعاني إلى هذه القوانين، فاختلاف الأمم في العادات والتقاليد، واختلافهم في الغنى والفقر، وفي الخمول والنشاط، واختلافهم في الزراعة والصناعة والتجارة، واختلافهم في الآداب والفنون، واختلافهم في العقلية، بل واختلافهم في أنواع الحكومات التي تحكمهم، كل هذا يرجع - إلى درجة كبيرة - لحالة الإقليم الطبيعية التي تسيطر على الإنسان وتحكمه حكما لا مناص له منه.
ثم هو يخضع خضوعا تاما لقوانين الحياة، كما يخضع كل جسم حي من نبات وحيوان؛ فبناؤه العضوي يخضع لقوانين الجسم ذي الأعضاء، من توزع الوظائف على الأعضاء، والتعاون بينها، ونموها من داخلها، ونموها من جنسها، فبذرة الورد تنمو لتكون شجرة ورد، والطفل ينمو ليكون رجلا، والجرو ينمو ليكون كلبا، وهو يخضع ككل الأحياء لقوانين النشوء والارتقاء؛ يخضع لهذه القوانين كلها كفرد وكمجموع.
بل إن عقله يخضع للقوانين خضوع جسمه وأعضائه، فتكوين المخ والأعصاب يجعل أكثر أعمال الإنسان من شعور وغريزة تأتي عن طبيعته، وتأتي ميكانيكية كأعمال الحيوان، والعقل في كثير من شئون الحياة ليس إلا خادما مطيعا للمشاعر والغرائز، وكثير من العادات التي نظنها اختيارية ليست إلا نتيجة طبيعية لحالة المخ والأعصاب والبيئة، بل الذكاء والغباوة ونوع التفكير ونظامه راجع إلى ما منحه الإنسان طبيعيا من مجموع عصبي، وما أحاط به من ظروف. •••
وبجانب هذا القانون الأساسي: «الخضوع لقوانين الطبيعة»، هناك قانون آخر يعارض الأول ويعاكسه، وهو قانون تعديل الإنسان للبيئة واستخدامها في منفعته؛ فالإنسان منذ وجد على ظهر الأرض يحاول أن يخضع قوانين الطبيعة لأمره ، وبدأ ذلك بمحاولات قليلة ضعيفة كان يفشل في أكثرها، ولكنه تعلم من الفشل كما تعلم من النجاح؛ فكان يمتحن سر فشله ويعيد التجارب حتى ينجح، وكلما تقدم به الزمن زاد نجاحه وقوي أمله، وسيكون من بعدنا أكثر إخضاعا لقوانين الطبيعة وتعديلها منا، حتى كان من أهم مقاييس رقي الأمم وانحطاطها مقدار معرفة استخدامها لقوانين الطبيعة وتحويلها إلى مصلحتها، وما الزراعة والتجارة والصناعة في جميع أشكالها إلا محاربة لقوانين الطبيعة، أو على الأصح تعديل لها، أو بعبارة أدق: تحويل لها في خدمة الإنسان.
على هذا الأساس، وبهذه الفكرة، اتخذ له مسكنا يحتمي فيه من قوانين الطبيعة وربى الحيوانات، وعالج المأكولات، واتخذ الملبوسات، وخالف بينها صيفا وشتاء؛ لقد ضايقته قوانين الماء في البحر فاتخذ السفن يخضع بها البحر لسلطانه، وعرف قوانين الجذب فاستخدمها في مصلحته، وما المستكشفات والمخترعات وجميع صنوف المدنية إلا تحقيق لغرض واحد، هو استخدام قوانين الطبيعة لخدمة الإنسان، بل ليست الوسائل المعنوية من تربية وتهذيب وإصلاح اجتماعي ودين، إلا لتحقيق هذا الغرض، بل ليست قيمة الوسائل الفنية من أدب وموسيقى وحفر وتصوير إلا أن تزيدنا حياة وتمنحنا قوة نستعين بها على مقاومة قوانين الطبيعة والتغلب عليها.
ومقياس التربية الصحيحة والإصلاح الصحيح والدين الصحيح والفن الصحيح، هو مقدار ما فيها من قوة تجعل الإنسان أصلح لمواجهة قوانين الطبيعة، وليس عمل الأطباء ولا الصيدلة بجميع ما فيها من عقاقير إلا ضربا من ضروب محاربة قوانين للطبيعة، وكلما تقدم الطب كان معنى ذلك أن الأطباء استكشفوا القوانين الطبيعية للأمراض، وأخضعوها لمصلحة الإنسان؛ وليست التعاليم الأخلاقية ولا علم النفس إلا من هذا القبيل؛ كلاهما يعالج النفس كما يعالج الطبيب الجسم، وكلاهما يكتشف القوانين الطبيعية ويحاول إخضاعها. •••
بين هذين القانونين - قانون الخضوع لقوانين الطبيعة وقانون تعديلها - سر الحياة، وبينهما حيرة العلماء، وبينهما اختلاف أنظار الفلاسفة؛ لقد نظر قوم إلى الحياة من جانب القانون الأول وحده فقالوا بالجبر، وأن الإنسان كالريشة في الهواء، وقالوا بالقضاء والقدر، ونظر قوم إلى القانون الثاني وحده فقالوا بحرية الإرادة ، وقالوا بسلطة الإنسان، وأنكروا الحظ وأنكروا القضاء والقدر، وتفلسف قوم فنظروا إلى القانونين معا، وقالوا إن الطبيعة التي تخضع بقوانينها الإنسان قد منحت الإنسان نفسه قدرة على محاربتها والوقوف أمامها لمقاومتها.
والحق أن لا حرب ولا خصام، وأن حياة الإنسان نفسها ضرب من ضروب القوانين الطبيعية، وأن هناك التئاما بين القوانين الطبيعية والإنسان، وأن هناك «وحدة في الوجود» لا أثينية في القانون، وأن الإنسان لا يحارب الطبيعة، ولكن يندمج فيها ويعيش في وفاق معها، وكلما رقي، فهم أسرارها وقوانينها، وإذا فهمها لم يعدلها، ولكنه يعدل نفسه ليوافقها، وليكون هو وهي نغمات متجانسة لا نشوز فيها، وأن النزاع والخصومة بين الإنسان وقوانين الطبيعة سببه الجهل بها، فيكون شأنه كالطفل يلعب بالنار، والغر يتجرع السم يظنه سكرا، والمثل الأعلى للإنسان إنسان عرف كل قوانين نفسه ووفق بينهما؛ كالإناء يوفق بينه وبين غطائه، والسيف يختار له ما يوافق من غمده؛ وإذن فلا جبر ولا اختيار ولا خصومة ولا نزاع، ولكن أين هو ذلك الإنسان؟
الفصل الثاني والثلاثون
متاعب الحياة (1)1
الحق أن هناك صنفين من المتاعب: متاعب حقيقية، ومتاعب وهمية، وربما كانت الأخيرة أكثر من الأولى؛ فمن كان فقيرا لا يجد ما يسد رمقه ورمق أسرته، فهذا مصدر تعب حقيقي، ومن رزقت بزوج غير صالح فتعبها منه تعب حقيقي، ولكن هذا وأمثاله قليل بجانب المتاعب الوهمية التي يخلقها الإنسان خلقا، والتي تعود إلى حالة مرضية في نفسه، أكثر مما تعود إلى سبب خارجي متعب حقا.
ولنستعرض الآن نماذج من الناس يتعبون متاعب جمة، ومصدر تعبهم هم أنفسهم، وكان في إمكانهم أن لا يتعبوا إذا غيروا نفسيتهم، وأصلحوا من نظرتهم إلى الحياة.
هنالك الرجل الذي لا يعمل عملا إلا وأغضب من حوله، فإذا وظف أتعب زملاءه بما يجرحهم من كلام، أو ما يصدر عنه من تصرف، وإذا ساق سيارة لم يبال بما يصنع في الطريق، وإذا أشرف على أسرة لم يعبأ بزوجته ولا ولده، وإذا تصرف أي تصرف في الحياة، استطاع بقدرته العجيبة أن يحول تصرفه إلى معركة مهما كان نوع العمل بسيطا.
وهناك المرأة التي تخلق من كل شيء سببا للنزاع؛ حول ما تشتري، وحول ما تلبس، وحول ما تسكن، ولا يعجبها أي تصرف من تصرفات زوجها، ولا يعجبها أي عمل من أعمال أولادها، فهي ناقمة أبدا، ساخطة أبدا، متعبة لنفسها ولأسرتها أبدا.
وهناك الرجل الذي حطم أعصابه بسلوكه، وتوقع الفشل في كل شيء سيحدث؛ فهو إذا تزوج اعتقد أنه سيفشل في الزواج، وإذا رزق أولادا توقع أنهم لا ينجحون في مدارسهم، وإذا سار في الطريق توقع أنه ستصدمه سيارة أو ترام، وإذا عهد إليه عمل توقع أنه لن ينجح فيه، وهكذا؛ فنظرته إلى الدنيا نظرة تشاؤم مستمر، وهذه النظرة كفيلة بأن تنغص عليه وعلى من حوله معيشتهم.
وهناك العيابون والظنانون الذين لا يعجبهم العجب، فلا أسرتهم تعجبهم، ولا حكومتهم تعجبهم، ولا الجرائد إذا قرأوها، ولا المجلات إذا تصفحوها، ولا التعليم إذا عرضت عليهم أساليبه، ولا أي نظام في بلدهم يعجبهم، ثم هم يعيبون ولا يقترحون، ويهدمون ولا يبنون، فاسود العالم أمامهم، وسودوه من حولهم.
هذه بعض أمثلة من متاعب الحياة الوهمية التي أوجدها الإنسان بنفسه، وخلقها بأوهامه أو أعصابه أو تشاؤمه، ثم رمى نفسه فيها وتعب منها وأتعب من حوله بها، والعالم مملوء بهذه المتاعب الوهمية التي ليس لها علاج خارجي، وإنما علاجها ليس إلا في إصلاح النفس ونظرتها إلى الحياة.
والناس في هذه المتاعب الوهمية كلابس المنظار، فمن لبس منظارا أسود رأى الدنيا كلها سوداء، ومن لبس منظارا أبيض رأى الدنيا كلها بيضاء.
وفي استطاعة الإنسان إذا ربى نفسه تربية صحيحة أن يتغلب على المتاعب الوهمية، بل وكثير من المتاعب الحقيقية؛ نعم، إن هناك متاعب خارجة عن إرادته؛ كمتاعب الغارات الجوية، وكوارث الحرب، وبعض ما أنتجته المدنية الحديثة من شرور، ولكن هذه نادرة الحصول في الحياة العامة للإنسان.
أما المتاعب اليومية الكثيرة الوقوع فيمكن التغلب عليها بتسليح النفس وتقويتها، وأهم سلاح للنفس تستطيع به التغلب على المتاعب قدرتها على تعديل نفسها على وفق الصعاب التي تعترضها؛ فإذا كانت متاعب الحياة من قلة دخل البيت أمكن بالحكمة في الإنفاق التغلب على الصعاب، وإذا كان التعب من غضب الزوجة أو الزوج، فالعلاج أن يتعود الحلم ويقابل الإساءة بالإحسان، وكلما استطاع الإنسان أن يعدل نفسه وفق الظروف التي حوله كان أسعد حالا وأقل متاعب.
يروى أن ستة أشخاص قضت عليهم الظروف السيئة أن يحبسوا في حجرة ضيقة مغلقة ستة أشهر، ومعهم طعام قليل، وماء قليل، فأما اثنان منهم فتبرما أشد التبرم من هذه الحياة، ولم يريا بصيصا من الأمل يسري عنهما، فأصيبا بالجنون، وأما ثلاثة آخرون منهم، فنظروا إلى هذه الحياة بمنظار أقل سوادا من الأولين، فأصيبوا بنوبات عصبية متقطعة، وأما السادس، فأبعد عن ذهنه ما استطاع فكرة البؤس الذي هو فيه، والتفكير في ما سيحدث، وشغل نفسه بتأليف كتاب يستمده من أفكاره وآرائه ومعلوماته، فلما فتح عليهم الباب ليطلق سراحهم كانت حالتهم ما شرحنا، ولا فرق بينهم إلا من نجا منهم، عدل نفسه وفق ظروفه، وأما الخمسة الآخرون فلم يستطيعوا ذلك.
إن كثيرا من متاعبنا تنشأ من جبننا، واستسلامنا للمتاعب تطغى علينا وتخيفنا وتحاربنا فتهزمنا، أما من شجع قلبه وصمم على أن يتغلب على المتاعب مهما كثرت وكبرت، فإنه يغلبها ويظفر بها، وينجو من أضرارها.
إن موقف الإنسان أمام المتاعب كموقف الجنود في ميدان القتال؛ إن فروا هزموا وتغلب العدو عليهم، وإن صبروا واحتملوا وصمموا على أن يغلبوا العدو، فازوا وظفروا.
من أراد أن يعالج نفسه علاجا حقيقيا ليخفف عنه وعمن حوله ما يصدر عنه من متاعب، فليعرف نفسه أولا.
الفصل الثالث والثلاثون
متاعب الحياة (2)
حدثتكم في الحديث الماضي عن متاعب الحياة، وأن كثيرا من هذه المتاعب وهمي، وبعضها حقيقي.
واليوم أذكر لكم أن هذه المتاعب بعضها يكون مصدرها الشخص نفسه، وبعضها يكون مصدرها النظام الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والأخلاقي الذي يحيط به مما له به علاقة.
فأبدأ بذكر المتاعب التي مصدرها الإنسان نفسه؛ فقد نرى ثلاثة أشخاص أو أكثر في ظروف واحدة أو متشابهة ؛ من حيث الدخل، ومن حيث الوظيفة، ومن حيث الأسرة ونحو ذلك، وأحدهم سعيد في حياتهم، فرح مسرور مغتبط، يحمد الله على ما هو فيه من خير، والثاني شقي منقبض الصدر، كثير الشكوى متململ مضطرب، والثالث وسط بين هذا وذاك، ليس بسعيد كالأول، ولا شقي كالثاني، يبكي ويضحك، ويحزن ويفرح، ولا فرق بينهم إلا حالتهم الشخصية.
ومن الحكايات الطريفة في ذلك أن دلوين كانا مربوطين بحبل ومعلقين في بكرة على بئر، ورجل واقف على البئر يستقبل الدلو الملآن، ويفرغه في حوض، ثم ينزله إلى البئر ثانية بواسطة البكر، وفي العادة أن الدلوين يتقابلان في منتصف البئر؛ أحدهما مملوء والآخر فارغ، فلما تقابلا سأل الدلو الفارغ الدلو المملوء: لماذا تبكي؟ فقال: وكيف لا أبكي، وقد ملئت ماء رائقا، وها أنا أصعد ليفرغني الرجل ثم ينزلني قاع البئر المظلم؛ وأنت لم ترقص؟ قال الدلو الفارغ: وكيف لا أرقص وأنا أنزل أمتلئ ماء رائقا ثم أصعد إلى الجو المضيء المشمس؟
وهكذا، يعمل الدلوان عملا واحدا، وأحدهما يبكي منه، والآخر يرقص له، وفي الناس كثير من أمثال هذين الدلوين؛ يعملون عملا واحدا وظروفهم واحدة، وبعضهم يبكي، ويضحك بعضهم. •••
كل إنسان مهما صح جسمه، ومهما صح عقله، فيه نقطة ضعف جسمي، ونقطة ضعف عقلي، وليس هناك إنسان سليم الجسم سليم العقل سلامة تامة، وكلنا نألم من هذا الضعف وهذا المرض إلى حد ما.
والجسم والعقل مرتبطان ارتباطا وثيقا، فالجسم يؤثر في النفس والعقل، والنفس أو العقل يؤثر في الجسم؛ فالإنسان قد يحس قوة في جسمه فيصح مزاجه ويصح تفكيره، وقد يمرض جسمه فيسوء مزاجه ويسوء تفكيره، بل قد يأكل أكلة ثقيلة فيثقل ذهنه، ويأكل أكلة لطيفة فتنبسط نفسه وينبسط تفكيره، وقد تخجل الفتاة فيحمر وجهها، وقد يغضب الرجل فتحمر عيناه، ويكاد ينقدح منها الشرر، وتتوتر أعصابه، وقد يخاف الإنسان فترتعش أطرافه، ويقف شعر رأسه، وآلاف الأمثلة من هذا القبيل، ترينا أثر الجسم في العقل، وأثر النفس في الجسم.
وكثير من متاعب الحياة الشخصية سببه مرضه الجسمي ، أو العقلي، وعلى الخصوص هذا المرض العقلي أو النفسي.
وكثير من متاعب الحياة ترجع إلى مزاج الشخص، والمزاج هو أساس ما يصدر عن الإنسان من سلوك، وقد كان الأقدمون يقسمون الأمزجة إلى أربعة: دموي، وبلغمي أو لميفاوي، وصفراوي، وسوداوي، وقد خصصوا لكل مزاج من هذه الأمزجة صفات خاصة؛ فالدمويون يمتازون بحب الحركة، والمرح، والخفة، وسعة الأمل، والطيش، وقلة الصبر؛ والبلغميون يميزهم بطء الحركة والخمول، وقلة الجلد والوداعة، والميل إلى السكون؛ والصفراويون يميزهم الطموح والعناد؛ وحب العمل والشجاعة؛ والسوداويون يميزهم الانقباض، والحزن، والتشاؤم، والتأمل، والتواضع.
وقد قسموهم إلى هذه الأقسام بناء على أن في الجسم سوائل مخلوطة، إذا غلب سائل منها نسب المزاج إليه، والعلم الحديث لا ينكر أقسام الناس إلى هذه الأمزجة، ولكن يعللها بأسباب أخرى، ويرى أحد علماء النفس أن الناس كلهم يمرون في حياتهم بجميع الأمزجة؛ فهم يبدأون دمويين في الطفولة، ثم سوداويين في الشباب، ثم صفراويين في الكهولة، ثم بلغميين في النهاية.
وأيا ما كان، فمزاج الإنسان أو كيفية سلوكه في الحياة قد تكون مصدر سعادة له، وقد تكون هي مصدر المتاعب، والمسئول عنها هو الشخص نفسه.
استعرض كثيرا من الأسر ، وابحث سبب متاعبها، تجد أن أسرة - مثلا - سبب متاعبها ما أصيب به الزوج أو الزوجة، أو هما معا، من حدة المزاج وسرعة الغضب، فهي أو هو يغضب لأتفه الأسباب، يغضب من طبق كسر، أو قرش ضاع، أو طفل عمل عملا لا يرضاه، أو كلمة نابية صدرت من أحد أفراد الأسرة فيغضب، فإذا غضب خرج عن وعيه وأتى بأعمال جنونية أو شبه جنونية، وكثيرا ما تسبب هذه الأعمال متاعب متسلسلة يصعب حلها، وهكذا تصبح الأسرة بين أعمال شاذة ومعالجة لنتائجها السيئة، ولا سبب لهذا كله إلا مزاج شاذ.
فالمرض في أصله مرض نفسي تسببت عنه أعمال مادية شاذة أيضا، وهذه زوجة أصيبت بالإسراف فهي تستولي على مرتب الزوج في أول الشهر، وتنفقه في كماليات من فستان فخم، أو أدوات زينة، ونحو ذلك، وتظل الأسرة بعد هذا التصرف في عذاب ونزاع وعتاب ولو بقية الشهر، وهذا التبذير إذا دققت النظر فيه وجدته يرجع إلى مرض نفسي، أو إلى مزاج خاص؛ سببه إما غلبة حب الظهور عند الزوجة، أو حب التعالي على مثيلاتها، أو الاعتداد بالجمال، والاعتداد بالنفس، ويضاف إلى ذلك عدم الاكتراث بالنتائج، وعدم النظر في العواقب؛ فهي تنفعل انفعالا وقتيا، وتتصرف حسب هذه الدوافع الوقتية من غير النظر إلى النتائج.
وهذا رجل يعذب الأسرة بسقوطه في (كيف) من الكيوف وإدمانه عليه، فهو ينفق على (كيفه) أكثر ماله، ويسطو على ما لزوجته وأولاده من حقوق في هذا المال، كما أنه يفقد بهذا (الكيف) الاستمتاع الصحيح بحياة الأسرة، وأداء واجبها، وما عليه من التزامات نحو زوجته وأولاده، وهذا أيضا مرض نفسي، يرجع إما إلى وراثة ورثها عن أبيه، أو إلى تقليد لأصحاب صحبهم، أو انهيار أعصاب، حسن له بعدها أصدقاء السوء أن ينتشل أعصابه المحطمة (بكيف) من الكيوف فزادتها تحطما.
وهذه فتاة نغصت على الأسرة حياتها بمزاجها، فهي تريد أن تتزوج من لا يرضاه أهلها، أو هي متسامية جدا لا يعجبها كل من تقدم إليها، ورسمت لنفسها حياة خيالية لا يحققها الواقع، أو هي تأثرت بمناظر السينما، فأرادت نوعا من الحياة غريبا عن حياتنا الشرقية، وتقاليدنا الاجتماعية، فهي في نزاع دائم مع أسرتها؛ لا تريد ما يريدون ولا يريدون ما تريد، وهذا أيضا يرجع إلى مزاج الفتاة وسرعة تأثيره بالمحيط من غير نظر في النتائج، ومن غير تفكير عميق فيما يقلد وما لا يقلد.
وهكذا وهكذا من آلاف الأمثلة التي تدل على أن كثيرا من متاعب الحياة سببه مرض نفسي أو مزاج شاذ، فيسبب لنفسه ولمن حوله من أسرته، ومن يتصل به متاعب لا تنتهي، وقد يكفي تصرف واحد من هذه التصرفات الشاذة في متاعب سنين تستوجب من الألم المتعاقب المتسلسل ما لا يعد وما لا يحصى.
ولا يمكن التغلب على المتاعب من هذا القبيل إلا إذا عرف السبب، ثم عولج علاجا صحيحا عميقا لا علاجا سطحيا ظاهرا، وهذه هي نقطة الصعوبة في الموضوع، فكثير من الأمراض النفسية لا يمكن علاجه إلا إذا عرف أصله، وعرف تاريخه.
وفي كثير من الأحوال يرجع المرض النفسي إلى حالة الشخص في طفولته، أو حادث قديم حدث له في شخصه، أو حدث في أسرته، وعلى ذلك أمثلة كثيرة؛ فالأبوان اللذان لم يرزقا إلا طفلا واحدا، وهما على حالة جيدة من الثراء، يعتادان أن يجيبا الطفل من صغره إلى كل مطالبه، فلا يذوق ألم الحرمان، ولا يتعود شيئا من التضحية؛ وليس له أخ ولا أخت يعلمانه في البيت درس الأخذ والعطاء، والأثرة والإيثار، فينمو عنده الاعتداد بشخصه، وعدم النظر إلى شيء إلا إلى نفسه، فمال الأبوين له ولملذاته، وصحتهما ومتاعبهما لراحته، وينمو وهو مدلل، يغضب أشد الغضب إذا لم تحقق رغبته؛ هكذا هو في بيته وخارج بيته.
مثل هذا الشاب يكون مصدرا لمتاعب لا تنتهي؛ متاعب في مدرسته عند تعلمه، ومتاعب في وظيفته إذا وظف، ومتاعب في زواجه إذا تزوج، فإذا أردنا أن نعرف السبب في متاعبه لا يمكن أن يتضح إلا بالرجوع إلى حالته في الطفولة - كما رأينا، وإذا أردنا العلاج فلا يصح علاج إلا بعد معرفة سبب المرض، وهكذا لا يمكننا أن نعرف سبب المتاعب التي تصدر من بخل البخيل، وإسراف المسرف، وغضب الغضوب، وخوف الجبان، والوقوع في مصايب (الكيوف)، ونحو ذلك، إلا بالرجوع إلى أساسها الأول: كيف نشأ الطفل في بيته، وما هي الظروف التي أحاطت به، وما أصل هذه العادات السيئة، وكيف نمت، وإلام وصلت، وفي ضوء هذا كله يمكن معرفة العلاج إذا حسنت النية، وصدقت الإرادة، أما غير ذلك فإنما يكون علاجا كما يعالج الصداع بحبة من الأسبرين من غير أن يعرف السبب الحقيقي للصداع؛ فقد يكون المعدة، وقد يكون الأمعاء، وقد يكون الأسنان، وهذا ما جعل قول سقراط باقيا على الدهر وهو: «اعرف نفسك».
فمن أراد أن يعالج نفسه علاجا حقيقيا ليخفف عنه وعمن حوله ما يصدر عنه من متاعب، فليعرف نفسه أولا، في أي نقطة هو ضعيف ، وبأي مرض هو مريض، ثم يبدأ بالعلاج، وليس هذا بالأمر الهين، فمعرفة الناس لا بد لها من كشف ستائر تحيط بها، والدخول منها إلى قاعة مظلمة لا بد من تسليط الضوء عليها، وكثيرا ما يعوقه غرور الإنسان واعتقاده الكمال في نفسه، أو يعوقه جبنه وعدم جرأته على كشف هذه الستائر عن الوصول إلى حقيقة المعرفة.
ولكن على كل حال، هذا هو العلاج الوحيد للتغلب على متاعب الحياة التي مصدرها مزاج الشخص، أو حالته النفسية المريضة.
الفصل الرابع والثلاثون
الابتهاج بالحياة (1)
لقد أكثرت في أحاديثي الماضية عن متاعب الحياة، فلأحدثكم اليوم عن الابتهاج بالحياة.
والحق أنا لو قارنا بين الغربيين والشرقيين وجدنا أن الشرقيين تغلب عليهم طبيعة الحزن والاكتئاب، وهذا ما يلاحظه الغربيون على الطلبة الشرقيين الذين يتعلمون عندهم، وهذا أيضا ما نلاحظه نحن على أنفسنا، فنحن إذا حدث ما يستوجب الحزن أفرطنا فيه؛ كما يحدث في الوفيات، نبالغ في البكاء على الميت، وننغص حياتنا لفقده مدة طويلة، ونقيم التقاليد الكثيرة من مآتم وخمسان وأربعين وحفلات تأبين ونحو ذلك، على حين أن الغربي يحزن ولكن في رفق وهوادة، ويرى أن الموت يكاد يكون أمرا طبيعيا كالحياة.
وكذلك نبالغ في الحزن في النكبات؛ كالحزن عند الأمراض، والحزن عند خسارة مالية ونحو ذلك، وكثير منا إذا لم يجد سببا من أسباب الحزن خلقه، فهو وأهله في صحة، وعندهم من المال ما يكفيهم، ودنياهم سائرة على ما يرام، ولكنهم مع ذلك يخلقون أسباب الحزن خلقا؛ فيحملون هم المستقبل، وماذا سيكون فيه، أو يتنازعون على شيء تافه فيحزنون من أجله، وعلى كل حال فطبيعتنا يغلب عليها الحزن، ومن فرح بالحياة وابتهج بها فابتهاج قليل يعقبه حزن طويل، أو إفراط في مباهج الحياة يسبب تنغيصا وحزنا وألما يعقبه أضعاف ما ناله من فرح وابتهاج.
ولعل السبب في انتشار طابع الحزن علينا يرجع إلى أمور كثيرة؛ أهمها ما مضى على الشرق من عصور كان فيها ظلم الحكام شديدا قاسيا، أمات روح الناس وقلل من ابتهاجهم، وتلا هذا الاستعمار وما فيه من ظلم واستغلال وضغط على الحرية جعل الناس يألمون ويكتمون ألمهم، والألم المكتوم أفعل في النفس من الألم الظاهر، وهناك سبب آخر، وهو أن الحياة في الشرق تسودها الفوضى وعدم النظام، والفوضى في الحياة تسبب المتاعب والألم، فإذا كان البيت فوضى تعب أفراد الأسرة، وإذا كانت الوظائف فوضى تعب الموظفون، وإذا كان الترام والسيارات فوضى تعب الراكبون، وإذا كان الطباخون وسائقو السيارات والخدم لا يسيرون في حياتهم على نمط معقول تعب من يعاملهم، وهكذا.
فالإنسان في استمرار يعامل طائفة كبيرة من أفراد المجتمع، فإذا لم تنتظم الحياة معهم سببت الألم والمتاعب، وهيجت الأعصاب، وأورثت الحزن، وهكذا.
والحياة فن من الفنون، فإذا ضاع فن الحياة ضاع السرور بها، بل إن السرور بالحياة نفسه فن من الفنون، ويخطئ من يظن أن أسباب السرور كلها في الظروف الخارجية، فيشترط لأجل أن يكون مسرورا مالا وبنين وصحة ونحو ذلك.
فالسرور يعتمد على النفس أكثر مما يعتمد على الظروف، وفي الناس من يشقى في النعيم، ومنهم من ينعم في الشقاء، ومن الناس من لا يستطيع أن يشتري ساعة سعيدة ضاحكة مستبشرة بأغلى الأثمان، ومنهم من يستطيع أن يشتريها بأتفه الأثمان، وذلك لاختلافهم في الطبع والمزاج.
إننا نحتاج للابتهاج بالحياة إلى شيئين هامين؛ أولهما: تنظيم الحياة في أنفسنا وفي من حولنا؛ فالبيت إذا نظم - أعني نظمت ميزانيته، ونظمت حياة صغاره وكباره، ونظمت العلاقة بين الزوجين، وبينهما وبين الأولاد - كان أهله أقرب إلى الابتهاج بالحياة، والموظف إذا نظمت مصلحته - أعني حسنت علاقته بينه وبين رؤسائه ومرءوسيه - كان أهدأ بالا وأسعد حالا، وكذلك كل ما يتعلق بالإنسان من شئون إذا نظمت كانت مبعث سعادة وابتهاج.
والأمر الثاني الشجاعة؛ فكثيرا ما يكون سبب الحزن فقدان الشجاعة؛ يخاف من الموت، ويخاف من الفقر، ويخاف أن تنزل به كارثة، ويخاف من المستقبل، ويخاف أن يفشل في عمله، فهذا الخوف كله ينغص عليه حياته، ويجعله منقبضا غير مبتهج.
وسبب آخر، وهو عدم تنظيم أسباب السرور، وهذا أمر يحتاج إلى مهارة؛ فالزوج أو الزوجة في البيت إذا مهرا في خلق أسباب السرور جعلا البيت جنة، ونحن تنقصنا هذه المهارة في خلق السرور مع مهارتنا الكبرى في خلق المنغصات؛ فاجتماعات المنزل كثيرا ما تنتهي بنزاع، حتى الملاهي العامة كثيرا منها لا يرضي الذوق السليم ولا الفن الرفيع، وكثيرا ما تكون تافهة لا يجملها فن ولا يرقيها ذوق، ومن أجل هذا كان أشد الناس بؤسا في الحياة هنا من رقي ذوقه ونبلت نفسه.
إن الناس يختلفون في قدرتهم على الابتهاج بالحياة اختلاف المصابيح الكهربائية؛ فمنها مصباح محترق لا ضوء فيه، ومنها مصباح يضيء بقوة عشر شمعات أو خمس عشرة أو عشرين أو مئة أو مئتين، وهكذا الناس طبيعة منيرة مضيئة مشرقة، وطبيعة حزينة أسيفة مكتئبة مظلمة.
وجزء من هذا الاختلاف طبيعي في خلقة بعض الأفراد، ولكن الجزء الكبير يرجع إلى العادة، فمن السهل تعويد النفس النظر إلى الحياة نظرا بهيجا مفرحا.
ومن الملاحظ أن الذين يغلب عليهم الحزن هم الذين يكثرون التفكير في أنفسهم، والتفكير في مستقبلهم، فإذا اعتدل الإنسان في التفكير في نفسه، ووسع أفقه، وفكر في غيره، وفكر في العالم، كان أقل حزنا وأكثر ابتهاجا، وهذا الفن - فن الابتهاج بالحياة - يتطلب أن يقبض الإنسان على زمام تفكيره فيصرفه كما يشاء، فإن رأى نفسه قد تعرض لموضوع مقبض؛ كميزانية بيته، أو سوء مصلحته، أو متاعبه في وظيفته، فليحول تفكيره إلى أخرى، ويثير مسألة من المسائل التي تجلب السرور عليه.
ومن الحكمة والعقل ألا يجمع الإنسان على نفسه بين الألم بتوقيع الشر، والألم بحصول الشر؛ فليسعد ما دامت أسباب الحزن بعيدة عنه، فإذا حدثت - لا قدر الله - فليقابلها بشجاعة وحكمة واعتدال.
إن الرجل المبتهج بالحياة يزيده الابتهاج بالحياة قوة، فيكون أقدر على الجد وحسن الإنتاج ومقابلة الصعاب، من الرجل المنقبض الصدر الممتلئ بالهم والغم، وكما أن كل عادة تكتسب بالتمرين، فالصانع يكتسب صناعته من التمرين، والموظف يتقن عمله بالتمرين، والنظافة والقذارة حسب الاعتياد، والأخلاق الفاضلة أو الرذيلة حسب الاستعداد، فكذلك الشأن في مقابلة الحياة بالحزن والألم، أو الابتهاج والسرور.
وما الحياة؟ مرحلة عابرة لا تستحق أن ينغص الإنسان على نفسه فيها بكثرة الألم، وكل ما يطلب من الإنسان فيها أن يقضيها على أحسن وجه مبتهجا مسرورا فعالا للخير، يشعر بالفرح لفرح الناس، وبالخير يصلون إليه، ويبتهج بجمال الطبيعة وجمال ما فيها، فإن صادفه ما يؤلم نحاه جانبا إن أمكنه، ورضي مطمئنا بما لم يمكن تغييره، وبهذا يعيش عيشة راضية، عيشة سعيدة موفقة.
إن أردت أن تعرف شيئا صحيح هو أو فاسد؛ سواء كان هذا الشيء عادة من العادات، أو خلقا من الأخلاق، أو فنا كأدب أو موسيقى أو تصوير، فانظر هل هو مما يزيد الحياة قوة، ويكسب الحياة صحة، فاحكم عليه - إذن - بأنه عمل نافع وفن نافع، وإن كان يضعف الحياة ويجعلها مريضة فاحكم عليه - إذن - بأنه عمل ضار وفن ضار، ولا شك أن الهم والاستسلام للحزن، والخوف من توقع المكروه، والإفراط في تقدير الآلام، مما يضعف الحياة ويضعف الإنتاج، ويزيد الآلام والبؤس والشقاء.
فحارب الكآبة في نفسك، وابتسم للحياة وابتهج بها في غير إسراف، تزد حياتك قوة، وتشعر بالسعادة، وتشعر بها من حولك.
الفصل الخامس والثلاثون
الابتهاج بالحياة (2)
أكرر القول بأن حياة الناس في الشرق يغلب عليها طابع البؤس والحزن، إذا قارناها بالحياة في الغرب، وأزيد اليوم القول بأن من أسباب ذلك أن عواطفنا حادة لا معتدلة؛ فنحن نبالغ في الغضب إذا غضبنا، ونبالغ في الحزن إذا حزنا، ونبالغ في الفرح إذا فرحنا، وأسباب الحزن عندنا أكثر من أسباب الفرح؛ لذلك يغلب علينا الحزن والإفراط فيه، وقل منا من منح الاعتدال في عواطفه، وضبط نفسه عند تعرضه لأسباب الحزن أو لأسباب الفرح.
يتجلى ذلك في كل مظاهرنا؛ فخير الأكل عندنا ما كثرت فيه الأقاوية والبهارات والدسم، فإذا خلا من ذلك، أو قلت كمية توابله ودسمه عددناه أكلا تافها! والموسيقى لا ترضينا إلا إذا تناغمت مع عواطفنا الحادة؛ فكانت إما حزبية باكية أو مرحة صاخبة، والممثل لا يرضينا إلا إذا بالغ في الانفعال، وصخب في الأقوال، وأكثر من الحركات، وهكذا، ولما كانت أسباب الحزن كثيرة ونحن نبالغ فيها ونطيل زمنها، كانت أكثر أوقاتنا حزنا.
إن أسباب الحزن تقع للشرقيين والغربيين، ولكن الغربي معتدل في عواطفه، يؤمن بأن العزم وقوة الإرادة تستطيع أن تتغلب على الحزن والألم، فينجح في ذلك - أعرف كثيرا من الحوادث يظهر فيها الغربي بمظهر الجلد الصبور الشجاع المحارب للأحزان لا المستسلم لها.
كان عندنا في كلية الآداب أستاذ ألماني مستشرق شهير اسمه الأستاذ برجستراسر قضى عام دراسته في مصر، ثم ذهب لقضاء إجازته في ألمانيا، فحدثني صديق له أنه خرج يوما للنزهة يتسلق جبلا عاليا، حتى إذا بلغ القمة زلت قدمه، فظل يهوي حتى وصل إلى القاع ميتا، فأخذ إلى المستشفى وأخبرت زوجته بالحادث، وكان أبوها يزورها هذه الليلة قادما من الريف، فأبت أن تزعجه، وصممت أن يبيت عندها ليلة سعيدة هانئة، فكتمت عنه الخبر، وكانت تدخل الحجرة وحدها فتدمع على زوجها، ثم تخرج إلى أبيها تحدثه كأن لم يكن شيء، حتى أصبح الصباح فأخبرت أباها بالخبر في هدوء، وذهبت إلى المستشفى تقوم بواجب الوفاء لزوجها!
وحدث في الحرب العالمية الأخيرة أن عميد معهد علمي في بيروت، وهو أمريكي الجنس، فقد ابنه في الحرب، فذهب بعض أصدقاء الأسرة من بيروت يعزونه حينما قرأوا الخبر في الجرائد، فاستقبلهم الرجل وزوجته بالبشر والترحاب على عادتهما، وأخذ الجميع يتحدثون في المسائل العامة والجو وما إلى ذلك، كأن لم يحدث شيء، فشك الزائرون في صحة الخبر، ولم ينبسوا بكلمة في العزاء، حتى إذا انصرفوا تأكدوا من صحة الخبر!
وهكذا من كثير من الحوادث والأخبار التي تدل على اعتدال في المزاج وضبط للنفس، وأخذهم بمبدأ مات الميت فليحيى الحي، ولعل من الأسباب في ذلك أنه قد مضى علينا قرون طويلة من غير أن ندخل حربا، فأصبحنا نستعظم الموت ونبالغ في نتائجه، والأمة الحربية عادة لكثرة ما تلاقي من الشدائد وويلات الحروب ونكباتها تعتاد أحداث الموت، وتتلقى الكوارث بصبر وثبات.
إن الابتهاج بالحياة فن من الفنون جهلناه، فأصبحت حياتنا كالماكينة التي وضع جزء منها في غير موضعه، فسبب ذلك خراب الماكينة كلها وضوضاءها في سيرها وعدم انتظامها، والذنب ذنبنا لا ذنب أي شيء آخر؛ خذ - مثلا - الأسرة، فكل أسرة غالبا لها أوقات فراغ تقضيه في البيت مجتمعة، وهذا الوقت عند الأمم الراقية من أسعد الأوقات؛ يقضونه إما في حديث ممتع، أو في لعب فنية، أو نوادر طريفة، أو (فوازير) جميلة، فتنتعش بذلك النفس وتبتهج الحياة، وينسى كل فرد ما لقيه من متاعب عمله خارج البيت، فماذا نصنع نحن في مثل هذا الوقت؟ لم نتقن فن اللعب الظريف ولا النوادر اللطيفة، وإنما أتقنا فن المشادة والغضب لأتفه الأسباب، وتنغيص الحياة بما لا يحصى ولا يعد من أسباب!
إن أهم ما في الحياة معرفة طرق المعيشة، وكان من الطبيعي وقد كانت حياتنا أعز شيء علينا أن نبذل جهدا كبيرا في البحث عن أسباب سعادتها والابتهاج بها، فإذا خرجنا عن الأسرة إلى الحياة خارج البيت وجدنا الرجل يضيع أكثر أوقاته في الجلوس على مقهى ولعب شطرنج أو نرد أو نحو ذلك، أو جلس مع أصدقاء يتحدثون حديثا سخيفا في العلاوات والدرجات، وتركوا أسرتهم تضيع الوقت أيضا في توافه الأمور، فلا الرجل يفكر كيف يسعد أهله، ولا المرأة تفكر في كيف تسعد أسرتها، وقل من استفاد من الحياة كما ينبغي، فلا المناظر الطبيعية الجميلة تجذب أنظارهم، ولا القراءة اللذيذة الممتعة تستدعي انتباههم، ولا تخصيص وقت للخدمة الاجتماعية العامة تنال حظا من أوقاتهم؛ فمن أين يفرحون، وبأي شيء يبتهجون؟
فالحق أن الحياة رواية في استطاعة الإنسان أن يجعلها رواية ضاحكة مبتهجة، وأن يجعلها مأساة حزينة مكتئبة.
إن أهم سبب في الابتهاج بالحياة هو أن يكون للإنسان ذوق سليم مهذب، يعرف كيف يستمتع بالحياة، وكيف يحترم شعور الناس ولا ينغص عليهم، بل ويدخل السرور على أنفسهم، فالذوق السليم قادر على استجلاب القلوب وإدخال السرور على نفس صاحبه ونفس من حوله، وكما قال قائل: «ما تريد نيله بالتخويف والإرهاب يمكنك أن تناله بالابتسام».
تصور أسرة ساد فيها الذوق السليم؛ نرى كل فرد فيها يتجنب جرح إحساس غيره بأي لفظ أو أي عمل يأباه الذوق، بل إن ذوقه يرفعه إلى حد أنه يتخير الكلمة اللطيفة والعمل الظريف الذي يدخل السرور على أفراد أسرته؛ إن الذوق السليم في البيت يأبى النزاع، ويأبى حدة الغضب، ويتطلب النظام وحسن الترتيب، والاستمتاع بجمال الزهور وجمال النظافة وجمال كل شيء في البيت، فلسنا مبالغين إذا قلنا إن رقي الذوق أكثر أثرا في السعادة من رقي العقل.
إن الذوق إذا رقي أنف من الأعمال الخسيسة، ومن الأقوال النابية، ومن الأفعال السخيفة، والذوق السليم إذا رقي في الأمة رقى موسيقاها ورقى أغنانيها ورقى رواياتها وتمثيلاتها، وكل هذه مباهج للحياة تزيل غمومها وهمومها، ولو استطعت لجعلت جزءا كبيرا من مناهج التعليم في المدارس لتربية الذوق بجانب المناهج المكتظة بتربية العقل.
كل إنسان في الدنيا يضع على عينه منظارا حقيقيا أو مجازيا، وأكثرنا مع الأسف يلبس منظارا أسود يريه كل شيء أسود؛ فإذا نظروا إلى الأشياء نظروا معايبها ولم ينظروا إلى محاسنها، ولم يعجبهم حاضرهم، ورأوا السعادة في غير ما هم فيه؛ ولذلك يكثرون من إذا ... ولو ... ولعل ... وعسى ... ولو حصل كل ما يتمنون ما زادوا شيئا، وما تغيرت حالتهم ما دامت على أعينهم هذه النظارات، وتغييرها بنظارات بيضاء ترى الحياة على حقيقتها، وترى الدنيا مملوءة بالمسرات، مع قليل من الأحزان وكثيرا من النعم مشوبة بقليل من النقم، وهذه الأحزان وهذه النقم قليلة القيمة إذا تسلح الإنسان بالشجاعة في مقاومتها، وفي استطاعة الإنسان أن ينصب في نفسه سرادقا كبيرا، إما لمأتم كبير أو لفرح كبير.
ويخطئ كثير من الناس فيظن أن الابتهاج بالحياة معناه اللذة الحادة الجامحة، ويظنون السعادة في الإفراط في الملاهي على اختلاف ألوانها؛ إما في سكر مفرط، أو غشيان دار من دور اللهو الخليعة أو نحو ذلك، وليس هذا ابتهاجا بالحياة، وإنما هو إبادة للحياة، وهذه اللذات الحادة كنار القش تلتهب سريعا وتخمد سريعا، وقد يكون من أضرار التهابها وآلامها ما يساوي أضعاف لحظات لذتها.
إنما نعني بالابتهاج بالحياة موقف النفس إزاء الحياة، والاستمتاع بها استمتاعا معتدلا لا إفراط فيه ولا تفريط ... نريد بها حالة من أحوال النفس تهيئ ذوقا للاستمتاع بمحيطنا استمتاعا أطول ما يمكن وأقوى ما يمكن، استمتاعا يقوينا على الجد في الحياة، ويجعلنا أقدر على إسعاد أنفسنا وإسعاد من حولنا، أما اللذات الحادة الوقتية فلذات وهمية يتبعها من الألم أكثر مما تستوجب من اللذة.
إن راحة الضمير، ولذة العقل، ولذة الروح، ولذة النفس، واللذة التي يشعر لها المرء أنه مصدر للخير يشعه على الناس كما تشع الشمس ضوءها، كل ذلك ابتهاج بالحياة لا يعادله التمرغ في اللذات الدنيئة الوقتية التي تسبب لذة عارضة تعقبها حسرات دائمة.
الفصل السادس والثلاثون
استفد من تجاربي
ميزة إنسان على إنسان وأمة على أمة، هي القدرة على الاستفادة من التجارب وعدمها؛ فالحادثة تحدث أمام جمع من الناس فيستفيد منها أحدهم بمقدار مئة، وآخر بمقدار خمسين، وثالث تمر منه الحادثة على عين بلهاء، لا يستفيد منها شيئا.
عند الإنجليز مثل يقول: «إن العاقل له عينان تبصران، أما الأبله فله في وجهه تجويفان».
وكم من الناس من لهم أعين، ولكن لا يبصرون بها، وآذان ولكن لا يسمعون بها.
إنك قد تستطيع أن تفتح عينيك على كتاب وتقرأ كلماته، ولكن لا تعي منه شيئا ولا تفهم شيئا إذا كان عقلك غائبا، فلا فائدة في النظر من غير ملاحظة، ولا في التجارب من غير عقل.
وأنت في شبابك تستطيع أن تمرن عينيك وأذنيك وجميع حواسك على أن تربطها بالعقل، فتلاحظ وتجرب وتستفيد من الملاحظة والتجربة.
والفرق بين من يستفيد من التجربة ومن لا يستفيد، أن الأول يستطيع بتجاربه أن ينتهز الفرص في حينها، وأن يتجنب الخطر قبل وقوعه، على حين أن الثاني لا ينتهز فرصة، ولا يشعر بالخطر إلا بعد وقوعه.
إنك تقرأ كتب التاريخ لتستفيد من أعمال الناس، وما وقع لهم، وما صدر منهم، وما كان من نتائج أعمالهم، وتقرأ سير العظماء لتتشبه بهم ، وتدرك موضع عظمتهم، وتقرأ الطبيعة والكيمياء لتستفيد من استكشاف من قبلك لقوانين الطبيعة، فالحياة كلها تجارب واستفادة من التجارب.
إنك الآن في شبابك تختزن معلومات من كل ما تسمع وترى وتقرأ، فمن الخير أن يكون مخزنك أنظف ما يكون وأثمن ما يكون، وأن يكون أشبه «بدكان» تاجر الجواهر الثمينة، ليس فيه شيء رخيص، ولا شيء تافه، ثم اجتهد بعد ذلك أن تستخدم هذا المخزن خير استخدام. •••
والآن أقص عليك شيئا من تجاربي لعلها تنفعك:
من الدروس الأولى التي تعلمتها، أني لم أخرج إلى هذا الوجود صحيفة بيضاء، كما كان يظن القدماء، بل كثير من صفات أبوي وأجدادي وما حدث لهم قد نقشت في صحيفتي؛ سواء في ذلك الصفات الجسمية أو العقلية أو الخلقية.
ولأضرب لك مثلين، كان لهما أثر سيئ في حياتي:
أحدهما:
أني وأنا حمل في بطن أمي كانت لي أخت، فتاة في الثانية عشرة من عمرها، كلفتها والدتي ووالدتها أن تصنع قهوة لضيوفها، فما أشعلت النار في «السبيرتو» حتى التهب، وأصابها في شعرها، ثم في وجهها، ثم في ملابسها وجسمها، فصرخت، ثم أدركوها وهي شعلة نار، ولم ينفع فيها إنقاذ ولا طب ، وأسلمت روحها لخالقها، فقضيت أشهرا تعيسة في بطن أمي أتغذى بدمها الحزين، وتتكون أعصابي من أعصابها المحطمة، ويتحول بعض جسمي إلى دموع مسفوحة، وآهات مضنية، ثم ولدت في هذا الجو الحزين، لم أشاهد أول ما شاهدت ضحكة ولا ابتسامة، بل كان حزن وسكون ودموع وضنى.
هل كان لهذا الحادث أثر في نفسي؟ وهل كان ما أجد في كل حياتي من حزن عميق، وميل إلى الغناء الحزين والمنظر الحزين، وتفضيل المأساة على الملهاة، هل كان مرجع ذلك كله إلى هذا الحادث؟ قد يكون، وقد يكون أحد الأسباب غذته الأحداث والتربية التي لم تمح أثره ولم تصلح فاسده؛ ولهذا كان القدماء على حق في أن ينصحوا الحامل أن تنظر إلى الصور الجميلة، وأن تحيط نفسها بالمناظر السارة والأحاديث المفرحة.
والحادثة الثانية:
أني ورثت من والدتي (رحمها الله) قصرا في النظر، أتعبني في حياتي، وقد عالجته أخيرا بالمنظار، فلم يكن فيه الغناء الكافي، وكم فوت علي قصر النظر من فوائد، وأوقعني في مآزق، وأخجلني في مواقف، وأربكني في التصرف، وكان له أثر في أخلاقي. •••
وزاد في الحادثين سوءا أن التربية كانت عندنا - وما تزال - متروكة للمصادفة، ولو كانت تربية صحيحة لدرست فيها شئون كل طفل وشئون أسرته، وعرفت أمراضه ومنشأها، ووضعت لها طرق العلاج الصالحة لها.
لو كانت تربيتي صحيحة لاكتشفت أعراض الحزن في الحالة الأولى، وعولجت من الناحية النفسية علاجا صحيحا، وعودني المشرفون على تربيتي أن أتذوق السرور كما أتذوق الحزن، وأن أنعم بالحياة كما ينعم بها صحيح الأعصاب صحيح النفس، ولعولج قصر نظري من أول الأمر - كما يقتضيه العلم - فخفف من حدته إن لم يستطع أن يذهب بالمرض كله.
كم تستطيع التربية أن تصلح من فساد وتعالج من مرض، ولكن كل شيء عندنا متروك للمصادفة؛ زراعة الزارع، ومالية التاجر، وسياسة الأمة، القاعدة عندنا «كل شيء حيثما اتفق»، وعند غيرنا «كل شيء حسبما وصل إليه العلم الحديث». •••
استفد من تجاربي بأن تؤمن بقانون الوراثة، فتسير في عملك على وفقه، فليس يصح أن يتزوج قصير النظر من قصيرة النظر، ولا مصدور من مصدورة، ولا ضعيف القلب من ضعيفة القلب.
وأن تؤمن بالبيئة وأثرها في الإنسان، فتحيط نفسك بخير بيئة ما أمكنك، وأن تؤمن بالتربية فتعالج بها المرض، وتكمل بها النقص، فلكل داء دواء من التربية متى أجيد فهمها.
وأن تؤمن بالعلم وتحله في حياتك محل المصادفة وترك الأمور حيثما اتفق، فقد أصبح بناء كل شيء على العلم هو دعامة المدنية الحديثة وشعار التقدم الإنساني. (1) حياتنا مربى بلا خبز!
في السنين الخمس الأولى من حياتي كان يقوم على تربيتي أسرتي وحارتي، فأما أسرتي فكانت أبا وأما وإخوة وأخوات فقط، فهي من هذه الناحية من خير الأسر، فلا أهل للأب ينغصون حياة الأم، ولا أقارب للأم ينغصون حياة الأب، فليس هناك نزاع بسبب الأقارب يفسد على الأسرة سعادتها كما يحدث في كثير من العائلات.
ولكن كانت أسرتنا أسرة أبوية؛ أي إن الأب فيها هو السلطان الأعظم والحاكم المستبد، ولا شيء للأم ولا للأبناء والبنات؛ فالأب بيده المال، وبيده وضع الميزانية، بل هو الذي يتحكم فيما نأكل كل يوم وصنفه، ولا يحدث شيء في البيت من غير إذنه، والأم والأولاد ليس عليهم إلا الطاعة من غير جدال.
وكثيرا ما يحدث أن أبي وأولاده الذكور يأكلون وحدهم ويأكلون أولا، وتأكل الأم مع بناتها وحدهن ويأكلن ثانيا، وليس للأم أن تخرج من الدار إلا بإذن، وليس لأحد من الأبناء أن يتأخر عن البيت بعد الغروب، والعقوبات على المخالفات كثيرة من تأنيب وتهديد وشتم، فإذا كان الذنب كبيرا فالضرب، وقد احتفظ أبي (رحمه الله) بعصا من جريد النخل، أعدها لهذا اليوم الأغبر الذي تقع فيه جريمة كبيرة من أحدنا؛ كأن يتأخر عن الموعد، أو يدنس ملابسه، أو نحو ذلك، وحينئذ لا يصح للأم أن تتدخل بيننا وبين أبينا، وإلا نهرها وزاد في عقوبتنا. •••
والحياة كلها جافة جادة، فلا سينما إذ لم تكن سينما، ولا حديثا لذيذا على المائدة أو في مجالسنا، وإنما كانت متعتنا أن كانت لي جدة - هي أم أمي - كانت تزورنا من حين لآخر، وتبيت عندنا يومين أو ثلاثة، وكانت (رحمها الله) كنز حكايات و«حواديت»؛ فكانت تقص علينا قصصا لذيذا ممتعا طويلا، وكنا نأنس بذلك كل الأنس، ونفرح لمجيئها كل الفرح، وكان كنزها هذا لا يفنى، فما تأخذ في حكاية حتى تنظمها في أخرى إلى أن يغلبنا النوم.
وأحيانا كنا نجلس مع أمنا وأخواتنا، فيقرأ علينا أخونا الأكبر كتبا قصصية؛ كعنترة وألف ليلة، فنستمتع بقراءته، أما أبي فليس لديه إلا الجد، يعلم إخوتي ويحفظهم القرآن والنحو ويفقههم في الدين، فكان أبي جادا شديدا تخاف منه، على رحمته التي يخفيها ولا يظهرها إلا عند مرض المريض وبعد المسافر، وكانت أمي رحيمة تلطف رحمتها من شدة أبي وإمعانه في الجد.
وأحيانا نحتال فنذهب إلى ملهى على باب حارتنا اسمه «خيال الظل»، وهو الذي حلت محله «السينما» اليوم.
ولست أنسى مرة سمعت رجلا يضرب على الدف، وينشد أناشيد في مدح النبي، وكان توقيعه جميلا وصوته جميلا، وهو يتنقل في الحارات يغني ويوقع، ويستعطف الناس للإحسان عليه، فأعجبني صوته وتوقيعه، فتبعته من حارة إلى حارة حتى انتهى، فعدت إلى بيتنا بعد الغروب، فكان جزائي ضربا شديدا، ولو أنصف أبي (رحمه الله) لقبلني لعاطفتي الفنية.
هذا النوع من الأسرة، وهذا الضرب من الحياة، قد تغير الآن كل التغير، فإن بقي منه شيء ففي سبيل الفناء؛ فقد اتجهت الأسرة إلى الديمقراطية، وأصبح للأم سلطان، وللأبناء سلطان، وللبنات سلطان، ونقصت سلطة الآباء حتى أصبحت موضوع الرثاء، وخرج الأبناء والبنات إلى السينما والتمثيل، ووجدت في الأسر المباهج المختلفة والمسرات المتنوعة.
لقد كانت تربيتنا قاسية عنيفة، فكان من أثرها الذي نشعر به خجل قبيح، وضعف في الحرية الشخصية، وقلة ابتهاج بالحياة، وزهد في متعها، وعدم تفتح النفس لمسراتها، وكان أبي يكثر من ذكر الموت وحقارة الدنيا، فأكسبنا هذا لونا من الحزن والقناعة في طلب المجد، ولكن بجانب ذلك علمنا الجد في الحياة، والصبر على المكاره، والترفع عن صغائر أمور الدنيا؛ لأن كبارها قليلة القيمة.
على حين أن التربية الحديثة في الأسرة الحديثة فتحت النفس للحياة، وعلمت الاستمتاع بمسراتها، وحققت للأفراد شخصيتهم، وعودتهم الطموح للمجد، ولكن نلاحظ في كثير من الأسر ميوعة في السلوك، وقلة احتمال للشدائد، وعدم الجد في الحياة، والاستهتار في اللذائذ! فلئن كانت تربيتنا في زمننا ناقصة فالتربية الحديثة ناقصة، وما كسبناه في ناحية خسرناه في ناحية، ونحن أحوج ما نكون إلى تربية تجمع مزايا تربيتنا القديمة وتتجنب رذائلها، وتجمع مزايا الحياة في الأسرة الحديثة وتتجنب رذائلها. •••
لقد كانت حياة أسرتنا القديمة خبزا بلا مربى، فأصبحت حياة أسرتنا الحديثة مربى بلا خبز ... فمتى نستطيع إصلاحها حتى تكون مربى بخبز؟
استفد من تجاربي! (2) راحت أيام ... وجاءت أيام
أثر في - إلى جانب بيتي وأسرتي - حارتنا وكتابنا؛ فأما حارتنا فكانت من طراز القرون الوسطى وعصر المماليك، نحو عشرين بيتا يغلق عليها باب كبير. وفي هذا الباب الكبير باب صغير يفتحه البواب لمن أتى متأخرا في الليل، وكان هذا هو الغالب على حارات القاهرة، وكان الباب ضروريا للحياة الاجتماعية إذ ذاك؛ لكثرة الشغب والهجوم من اللصوص ليلا، فكانت الحارة تحمي نفسها بباب وبواب، تغلقه في المساء، وتفتحه في الصباح، وقد شهدت مصرع هذا الباب يوم انتشر الأمن، ونظم الحراس والخفراء.
كانت حارتنا مجمعا تتمثل فيه كل الطبقات، من طبقة عليا، وطبقة وسطى، وطبقة دنيا، كان يتزعم الطبقة العليا رجل ذو منصب كبير، وغنى وفير، وكانت له عربة يجرها جوادان فخمان، وذلك قبل اختراع السيارات، فكانت العربة إذا دخلت الحارة دبت الخيل بأرجلها فساد الحارة سكون ووجوم وهيبة ووقار؛ إعلانا بأن «الشيخ» حضر، فلا يصح للأطفال أن يلعبوا في الحارة، ولا يصح للنساء أن يتحدثن من الشبابيك، ولا يصح لخادم أن يضع الكناسة أمام الدار حتى لا يقع عليها نظر «الشيخ»، ولكن إذا خرج الشيخ ملكت الحارة حريتها «فزاطت» الأولاد، وتحدث النساء من الشبابيك، وأبيحت المنازعات والشتائم من الطبقة الدنيا.
والطبقة الوسطى تمثل موظفين في مصالح الحكومة، و«ملتزمين» يعيشون من أملاكهم، ونحو ذلك.
والطبقة الدنيا تتكون من بائعي فواكه على العربات، أو صناع، أو عمال.
ومع هذه الفروق كانت الحارة كلها أسرة واحدة؛ كل رجل في الحارة وكل سيدة تعرف أفراد كل بيت، وأحوالهم، ودخلهم وخرجهم، وإذا مرض المريض عاده أهل الحارة، وإذا أعوز أعانوه، وإذا أصيب عزوه، وإذا تزوج أو زوج هنئوه.
وكانت الطبقة الوسطى في حارتنا طبقة مرحة، عمادها موظف في الأوقاف اتخذ من بيته «منظرة» يجتمع فيها من في طبقته من أهل الحارة كل ليلة، فأحيانا يحضرهم فقيه حسن الصوت يقرأ لهم القرآن الكريم بصوت جميل، وأحيانا يسمرون سمرا لذيذا، وترتفع الضحكات حتى تصل إلى بيتنا.
وكان في حارتنا «عواد» ماهر، يحترف الضرب على العود في «جوقة» تشترك في الأفراح، فكان أصحابه من حين لآخر يجتمعون عنده في بيته بآلاتهم الموسيقية، وينصبون «فرحا» بديعا يوقعون ويغنون إلى ما بعد منتصف الليل، فيملئون الحارة بهجة وسرورا، ولم تكن الفونوغرافات والإذاعات.
ومن حين لآخر يتزوج أحد أفراد الطبقة الدنيا، فيقيمون الأفراح أسبوعا أو أكثر، وفي كل ليلة منظر جديد من أغان بلدية، ومواويل، و«دخول قافية»، وفكاهات ونوادر، لا يتحرج فيها أحيانا من المجون المكشوف ولا النكت اللاذعة، فكان كل هذا معرضا أمامي، استطعت أن أعرف منه حالة البلد الاجتماعية ودقائقها، من غير قصد مني، ولا وعي، ولا شعور.
وكنا أطفالا نجتمع في الحارة فنلعب الكرة على أشكال، ونلعب «البلي»، ونلعب القمار أحيانا بزهر النرد، ونتسابق في الجري، وكنا ديمقراطيين بالمعنى الصحيح، نتصادق من غير أن يفرق بيننا غنى الغني أو فقر الفقير، فمنا المتأنق في ثيابه، ومنا الحافي القدمين، ومنا مهلهل الثياب، فلا نقيم لذلك كله وزنا، وإنما نقيم الوزن للمهارة في اللعب.
ولست أنسى في حارتنا مظهر السقائين يحملون القرب على ظهورهم، ويروحون ويجيئون منادين على «الماء»، والقربة من الماء العذب بخمسة مليمات، ومن الماء المالح بمليمين، والحساب بالشهر، ولا أنسى العراك عند الحساب؛ فهي تقول إنها أخذت عشرين قربة، وهو يقول خمسا وعشرين، ونفدت كل الحيل في ضبط الحساب؛ فأحيانا يخط السقاء خطا على الباب كلما أحضر قربة، ولكن هذه الطريقة عرضة لأن تمحو الغشاشة خطا أو خطين، وأحيانا يتبع السقاء طريقة أخرى بأن يعطي للسيدة ثلاثين خرزة ويأخذ ثمنها، وكلما أحضر قربة أخذ خرزة حتى يستنفدها، فتشتري السيدة خرزا آخر، ولكن هذه الطريقة أيضا عرضة لغش من نوع آخر، وهي أن تشتري الغشاشة خرزا من الخارج وتغالط السقاء.
وظلت هذه المشكلة قائمة من غير حل حتى رأيت الحفارين يحفرون الأرض ويمدون المواسير خارج البيت وداخله، ويركبون الحنفيات، وإذا الماء في كل بيت، وإذا بالسقائين يختفون من المسرح، وتحل المشكلة باختفائهم.
وراحت الأيام وجاءت الأيام، وتركت الحارة حاملا لها أجمل ذكرى لأجمل أيام الصبا، وأنشدت مع المتنبي قوله:
خلقت ألوفا لو رجعت إلى الصبا
لفارقت شيبي موجع القلب باكيا
وسكنا في مساكن الحضارة العصرية، ورأينا الأسرة تسكن في شقة في عمارة قد لا تعرف من جاورها، ولا تتبادل معه تهنئة ولا تعزية، ورأينا المجموعة الواحدة في الحارة الواحدة، بل والأسرة الواحدة نفسها قد انحلت، ورأينا البيت مزودا بالماء وبنور الكهراباء، وبالتليفون والراديو، وبما شئت من أدوات ومخترعات؛ فهل صرنا أسعد حالا؟
الفصل السابع والثلاثون
التعب العصبي.. والخوف
من الكلمات التي دخلت اللغة العامية حديثا «النرفزة»، و«تنرفز» بمعنى هاجت أعصابه، وهي مأخوذة من الكلمة الإفرنجية (nerves)
بمعنى أعصاب، وليس معنى هذا أن النرفزة لم تكن موجودة ثم وجدت، بل هي موجودة منذ وجد الإنسان، ولكن كنا نسميها سورة الغضب، أو نحو ذلك من أسماء.
وإنما الجديد هو التسمية فقط بالنرفزة، والجديد أيضا أن حياتنا المعقدة المركبة التي خلفتها المدينة الحديثة، وزادت من أعبائها ومسئولياتها، زادت أيضا في هياج أعصابنا، بدليل أن الفلاحين في القرى ومن عاشوا عيشة بسيطة أقل نرفزة من سكان المدن، وأن الطبقة الفقيرة من سكان المدن أقل من الطبقة الوسطى والعليا لقلة مسئولياتها.
والنرفزة أو هياج الأعصاب تنشأ من المجموع العصبي عند الإنسان، والمجموع العصبي يتكون من المخ ومن النخاع الشوكي، وهو المادة الهلامية الموجودة في سلسلة العمود الفقري، ومن ملايين من الخيوط الدقيقة التي تتفرع من المخ ومن النخاع الشوكي، وتصل إلى كل خلية من خلايا الجسم، وهذه الأسلاك أو الخيوط من أهم وظائفها أنها ترسل الإشارات إلى المخ، وتتلقى منه الإشارات، فهي أكبر وأعقد من أي محطة للأسلاك التلغرافية؛ فمثلا: إذا لمس إصبعك شيئا ساخنا جدا فجذبت يدك فمعنى هذا أن خلاياك التي في الإصبع لمست هذا الشيء الساخن، وأرسلت خيوط أعصابك إشارة إلى المخ بما وجدت وما أحست، وتلقت إشارة من المخ بالانسحاب فانسحبت، وكل هذا يحدث في سرعة البرق، وهكذا إذا أردت المشي، أو تحريك يدك، أو الراحة، أو نحو ذلك.
والأعصاب من مخ ونخاع وأسلاك، شيء مادي يرى بالعين أو بالميكروسكوب، ولكن التيار الذي يجري فيها كالتيار الكهربائي لا يرى ولكن يعرف بآثاره.
وتختلف هذه المجموعة العصبية عند كل إنسان عن الآخر ، فكما أن كل فرد يختلف في ملامح وجهه، وقوة حواسه، وعضلاته، وبناء جسمه، عن الشخص الآخر قوة وضعفا، وجمالا وقبحا، فكذلك المجموعة العصبية يختلف الناس فيها قوة وضعفا، وهذا ما نشاهده؛ فنرى أشخاصا قويت أعصابهم، فهم يتحملون المسئوليات وأحداث الزمان والشدائد في صبر وثبات، وهناك على العكس من ذلك من تهزهم هزا عنيفا الأحداث الخفيفة والمسئوليات الطفيفة، بل هناك من تهزهم هزا عنيفا أيضا الأوهام المختلفة والخيالات المصطنعة، بل نرى أن الشخص الواحد يكون في حالة من الحالات قوي الأعصاب فيواجه الأحداث العظام في صبر وثبات، ثم تتعب أعصابه لسبب من الأسباب فيواجهها في قلق وجزع وثبات، ثم تتعب أعصابه لسبب من الأسباب فيواجهها في قلق وجزع واضطرب!
بل خذ مثلا الطفل إذا مشى مشيا طويلا وتعب من الحركات، عاد إلى بيته هائجا مضطربا كثير الصراخ كثير البكاء، يتلمس أي سبب للغضب، حتى إذا نام وهدأ قام كالمعتاد هادئا مطمئنا، وكذلك الرجل أو المرأة تتعب أعصابه فيغضب مما لا يغضب منه، ويثور من أجل التافه من الأمور؛ يثور من أجل كسر طبق، ومن أجل قرش صاغ في غير محله، ومن فعلة صغيرة فعلها الموظف الذي معه، ومن زوجته إذا كلمته كلمة في غير محلها، ومن ابنه إذا طلب منه مصاريف المدرسة، مع أن هذه الأحداث نفسها وأكبر منها إذا حدثت وأعصابه غير متعبة قابلها مقابلة عادية ولم يعبأ بها ولم يهج منها.
ومن أعجب ما لاحظه الأطباء في الأعصاب أن هناك سدودا للتيارات التي تمر في الأعصاب، وظيفتها أنها تقلل من قوة التيار حتى يصل إلى المخ هادئا، فإذا ضعفت هذه السدود وصل الانتباه إلى المخ في قوة تسبب اضطرابا، ومثله في ذلك مثل الأسلاك من الرصاص التي تركب في «الكوبس»، ينتقل فيها التيار من الخارج، وإذا زاد التيار احترق الرصاص ليمنع احتراق المنزل بالتيار القوي.
وتضعف هذه الأعصاب بالتعب المضني، وبالكوارث المتتالية، وبالهزات العنيفة المتتابعة، وهذا الضعف على درجات؛ فهو يبدأ بقلق وأرق، ويتدرج إلى عجز عن تركيز الفكر وإظلام نفس، ويزيد إلى يأس شديد وهيجان لأقل الأسباب، وعجز عن الراحة والهدوء، ونحو ذلك.
ومما يلاحظ أيضا أن هذا التعب العصبي يتبعه دائما الخوف، وهذا الخوف يتخذ أشكالا مختلفة حسب ظروف كل شخص، فمن نما عنده الشعور الديني تمثل خوفه في الموت، فهو يخاف الموت ويخاف العقاب بعد الموت، ويخاف الخطايا التي ارتكبها والمعاصي التي وقع فيها في شبابه، وتتجسم هذه المعاني في نفسه، وتكبر حتى تقلق باله وتعكر صفو حياته.
ومن كان شديد الشعور بالمال خاف الفقر؛ إن كان غنيا فألجأه ذلك إلى شدة الحرص والهياج عند كل قرش يصرف، والغضب الشديد عند كل ما يعرض من مطالب مالية، ومن كان رحيما شديد العطف على أولاده ظهر خوفه من هذه الناحية، فهو يخاف على أولاده من الترام والسيارات، ويقلق أشد القلق إذا تغيبوا عن البيت ساعة، وكلما قرأوا أو سمعوا عن حمى أصابت ولدا أو شابا أو شابة مات في ريعان شبابه زاد خوفهم واضطرب حالهم، ومن بلغت سن الزواج ولم تتزوج خافت أن يمر موسم زواجها، وإذا خطبت خافت أن تفشل في زواجها، وهكذا وهكذا الخوف فنون.
وقد يزيد الخوف حتى يكون خوفا من أوهام، فهو يتخيل أن دسائس تحاك حوله، وأن له أعداء يتربصون له، وأن بعض أقربائه يكيد له، وأن له في المصلحة من يفسد الأمر بينه وبين رؤسائه، وهكذا، فيخلق أوهاما يخاف منها، وفي الناس ألوان شتى من هذه المخاوف، وعددهم ليس بالقليل، وكلما عظمت المدنية زادت ضحايا ضعف الأعصاب؛ وخاصة أيام الحروب، فيقول طبيب أمريكي إنه في أوائل الحرب العالمية الثانية كان عدد سكان أمريكا 130 مليونا، وكان عدد ضحايا الأمراض العصبية يقرب من 13 مليونا بين مجنون ومضطرب ومختل التوازن، وقد كان كثيرا جدا عدد الشبان الذين يتقدمون للجندية، فيردون عنها بعد الكشف الطبي عليهم؛ لاختلال توازنهم العصبي. •••
وبعد، فما علاج هذا؟ الواقع أن علاجه في يد الإنسان أكثر من أن يكون في يد الطبيب، وأهم علاج له شيئان، يستنتجان مما وصفنا قبلا:
أولهما :
الراحة الجسمية، فقد رأينا أن الخوف يتبع التعب الذي ينال المجموع العصبي، كما ينال الشخص عقب مجهود كبير بذله، أو تفكير طويل فكره، أو حادثة جليلة هزته.
فهذه الأشياء وأمثالها تضعف المجموع العصبي، وتضعف السدود التي تحجز بعض التيار عن المخ، فإذا استرد الإنسان راحته قويت هذه السدود، كالشأن في الإنسان يتعب ثم ينام نوما عميقا، فيسترد ما فقده من خلايا؛ ومن وسائل هذه الراحة تغيير البيئة والمكان، والرياضة المعتدلة، والرحلات الخفيفة اللطيفة، ونحو ذلك؛ فإنها تفعل في النفوس ما لا تفعله الأدوية، ومن ذلك أيضا عدم التعرض لما يهيج الأعصاب، فمن عرف أن شيئا معينا يهيجه فليبتعد عنه، وليبتعد عن الأوساط التي تخلقه، وليرأف به أهله فلا يسببون له متاعب في النواحي التي يعرفون أنها تقلقه وتزيد اضطرابه، فإذا تمت راحته رأينا أنه قد زال خوفه، وتلك نتيجة طبيعية لما رأينا من أن التعب يتبعه الخوف.
والأمر الثاني:
الإيحاء الذاتي، فهو يفعل في النفوس فعل السحر، فليكرر المريض على نفسه الإيحاء بأن جسمه سليم، وأنه يستطيع التغلب على هذا الخوف، وأن يومه خير من أمسه، وأن غده سيكون خيرا من يومه، وأن ما هو فيه أوهام تزول بقوة إرادته، وليعرف منتحى خوفه فليعالجه من الناحية التي توائمه، فمن كان يخاف الموت، ويخاف ما ارتكب من المعاصي، فليكرر على نفسه أن الله غفور رحيم، وأنه يغفر الذنوب جميعها، وأن ما ورد في القرآن من آيات الرحمة أكثر مما ورد من آيات العذاب، وأن الله أحنى على العبد من الوالد على ولده، فإذا ردد هذه المعاني كلها، وكررها كل يوم، انتعشت نفسه، وأحس أنه يتقدم تقدما عظيما.
ومن كان يخاف الفقر فليكرر على نفسه فلسفة المال، وأن المال عرض من أعراض الحياة، وأنه ليس هو السعادة، وإنما هو وسيلة السعادة، وأنه لا يحق على نفسه الخوف من الفقر قبل حدوثه، وهكذا الشأن في الخوف على الأولاد وكل نوع من أنواع الخوف، فكل إنسان بقليل من التفكير يستطيع أن يكون له فلسفة تشجعه ضد خوفه، وتملأه غبطة وطمأنينة.
هذان في نظري هما العلاجان الطبيعيان للأعصاب، وهما في يد كل إنسان إذا صحت عزيمته وقويت إرادته.
الفصل الثامن والثلاثون
معركة الحياة كيف نفوز فيها ...؟
أهم نقطة يرتكز عليها النجاح، الإرادة القوية التي يصحبها التنفيذ السريع، وانتهاز الفرص، ألم يقولوا: «إن الحرب جهاد»، وبعبارة أخرى: «الحياة حرب».
وخير محارب من هاجم ولم يقتصر على الدفاع، وعمل ولم يقتصر على الحذر، ومتى سنحت له فرصة أقدم فانتهزها، ولم يتوان لحظة حتى يضيعها، ثم هو يسدد المرمى، ويحكم إصابة المرمى، ولا بأس من الفشل، فإنما يفشل لينجح.
إذا أنت أكثرت من التردد وبالغت في الحذر، ولم تقدم على عمل حتى تثق من نجاحه مئة في المئة، فقد تصلح أن تكون أديبا حالما، أو فيلسوفا في الخيال سابحا، ولكن لا تصلح أن تكون رب عمل ناجحا.
فليس يكسب المعركة القائد الجبان، ولا القائد الحذر، ولا القائد الذي لا يريد أن يضحي بشيء من جنوده، وإنما يكسبها من يفكر حسب طاقته، ولا يطيل التفكير أكثر مما يلزم، ثم يضرب الضربة في حينها، وهو يغلب النجاح وإن كان لا يتأكده، فإن فشل بعد ذلك فقد أدى واجبه. •••
إن الأخلاق الحديثة تفضل «فعل الأمر» على «فعل النهي»؛ «فاصدق» خير من «لا تكذب»، و«اعدل» خير من «لا تظلم»، والأمر بعمل الفضيلة خير من النهي عن الرذيلة؛ لأن في الأولى عملا ووجودا وحياة، وفي الثانية تركا وعدما وموتا.
كل شيء في الحياة يجاهد، الجسم يجاهد المكروبات حوله وفيه، والصحة لا تعتمد على الوقاية وحدها، وإنما خير من الوقاية «الحيوية» بالرياضة والعمل والحركة والنشاط وما إلى ذلك، وإنما يعتمد على الوقاية - والسكون وقلة الحركة والسير الدقيق على طرق العلاج - المرضى في أسرتهم، والمرضى في المستشفيات، أما الأصحاء فيعتمدون قليلا على الوقاية، وكثيرا على الحيوية والعمل؛ والعقل يجاهد الأفكار السقيمة، والخيالات السامة، وخير وسيلة للتغلب عليها حيويته ونشاطه وتفكيره المنتج، لا خنوعه واستسلامه.
وهكذا كل شيء في الحياة جهاد، والجهاد الصحيح يعتمد على الإرادة الصحيحة، والتجارب الدائمة، والعمل المستمر.
إن العالم مملوء بالحيوية، وهو في حركة دائمة، ونشاط مستمر، وقوى متفاعلة أبدا من كهرباء وقوى ذرية، وحرارة وبرودة، ورياح وعواصف ونحو ذلك؛ فالذي ينجح في هذا العالم المتحرك النشيط، إنما هو من انسجم معه بالعمل والقوة والحيوية؛ ولذلك كان السكون التام موتا. •••
وبجانب هذه القوى المادية في الحياة، قوى معنوية هي الأخرى في حركة مستمرة وجهاد دائم؛ كالنظام وعدمه، والجهل والعلم، والرأي العام وقوته وضعفه، والعدل والظلم، واختلاف رغبات الناس في التزاحم على كسب الخير لأنفسهم، ولا بد للنجاح في الحياة من تحديد موقف الإنسان أمام هذه القوى المادية والقوى المعنوية، فأمام القوى المادية لا بد أن يعرف كيف يستخدمها في مصلحته، ويسايرها ولا يعاكسها؛ فالكهرباء قد تصعقه إذا هو لم يعرف استخدامها، ولكنه يستطيع أن يستنير بها ويستدفئ بها ويسير القطارات بها إذا هو أحسن استخدامها، وكذلك كل قوة من القوى الطبيعية.
وفي القوى المعنوية يجب أن يحدد موقفه أمام التيارات المختلفة للنظم الاجتماعية، فينغمس فيها، ويكون هو نفسة قوة معها، يصلحها ما استطاع، ويستخدمها في خيره وخير الناس ما استطاع.
وكلما كان الإنسان أقوى جسما وعقلا وخلقا، كان أقدر على الانتفاع بالقوى المادية والروحية؛ فالإنسان استطاع أن يلجم الفرس ويركبه ويوجهه في خدمته؛ لأنه أكبر منه نفسا وعقلا، فكذلك هو يستطيع وسط الظروف الاجتماعية المتضاربة، أن يصرفها ويستغلها للخير الخاص والخير العام، فإذا خمل أو كسل أو أفلت زمام الأمور من يده، لم يستطع نجاحا، وساقته الظروف أكثر ما يسوقها هو.
فالإنسان إنما ينجح بتقوية ملكاته الداخلية، وعلمه بالقوى الطبيعية والاجتماعية التي حوله، ثم بانسجامه معها ومعرفته كيف يستخدمها، وإن شئت فاستعرض كل من نجح في الحياة نجاحا حقيقيا، تجد نجاحه بمقدار تطبيقه هذه القاعدة، ولو لم يحسن التعبير عنها. •••
ثم شأن الأمم والحكومات شأن الأفراد، فلكل أمة قواها الطبيعية التي حولها، وقواها المعنوية التي تحيط بها؛ فالأمة الفاشلة هي التي تكون في أرضها معادن لا تعرف كيف تستغلها، وقوى مائية لا تعرف أن تنتفع بها، وأراض زراعية لا تعرف كيف تستخرج منها أغزر ما تنتج وهكذا، ثم حولها ظروف اجتماعية ترتبك في توجيهها، وتحار في التصرف فيها، ليس لها إرادة قوية في التنفيذ، ولا رغبة صادقة في الإصلاح، تسيرها القوى الطبيعية كالريشة في الهواء، وتسيرها القوى الاجتماعية حيثما اتفق! ليست هي إنسانا يمسك بزمام فرسه، ولكنها فرس ملجمة تقاد!
أما الأمة الناجحة فكالرجل الناجح، يدرس قوى الطبيعة، ويعرف أنها لا تتغير ولا تتبدل، ولكنه كالملاح الماهر يعرف متى ينشر شراعه ومتى يطويه، وكيف يسير سفينته وإلى أي اتجاه، يعرف أنه لا قدرة له على تغيير الرياح، ولكن له قدرة على استخدامها في مصلحة سفينته؛ كذلك هذا شأن الأمة الناجحة مع القوى الاجتماعية، ترى الفوضى فتنظمها، وترى الرأي العام ضعيفا فتقويه، وترى الأضرار من بطء الآلة الحكومية فتجددها، وترى ظلما هنا وظلما هناك فتمحوه بالعدل، ولا تكتفي بالوقاية وعلاج الأمراض، بل تبعث في الأمة الحيوية والنشاط؛ وهكذا قانون الفرد وقانون الأمة في النجاح والفشل واحد.
فكر واعمل وابتكر وجاهد وغامر وانتهز الفرصة تنجح، وإلا فالموت أو شبهه.
الفصل التاسع والثلاثون
فن الصداقة
هل لاحظت مرة جماعة من الموسيقيين يوقعون قطعة موسيقية على آلات مختلفة من عود وقانون وناي ورق، فيتوافق الإيقاع ويتناغم وينسجم، حتى كأن الآلات المختلفة آلة واحدة في ارتفاعها وانخفاضها، وجهارتها ورقتها، وبدئها وانتهائها؟
وهل رأيت مرة نجارا دقيقا يصنع ما يسمى في النجارة «بالعاشق والمعشوق»، فيؤلف بين الأسنان في قطعة ومكان التحامها في القطعة الأخرى، حتى إذا تعاشقتا كونتا ما يشبه القطعة الواحدة، بل أمتن وأقوى؟
تلك هي الصداقة؛ مزاجان متناسبان ولا أقول متحدين، وغرضان متناسبان ولا أقول متحدين أيضا، فلا بد من التنوع؛ كالتنوع بين نغمة العود والقانون، والتنوع بين العاشق والمعشوق، ولكن هذا التنوع يعتمد على ذوقين متشابهين كتشابه ذوقي العواد والقانوني، ولا بد أن يدعم هذا كله بالتناسب في المركز الاجتماعي، واستعداد كل للسير على قانون الأخذ والإعطاء، لا الأخذ من جانب والإعطاء من جانب ، فهذه شروط لا بد منها في دوام الصداقة وإلا كانت عرضة للتفكك السريع. •••
ومن التناسب في الصداقة ما نرى من غضوب يصادق حليما، ومرح يصادق رزينا، ونشيط يصادق خمولا، وثرثار يصادق مقلا؛ فإن في هذا تناسبا لا اتحادا؛ كأن كلا يشعر بناحية من نواحي نقصه، أو من نواحي مبالغته، ويجد في الآخر ما يكمل نقصه، أو يحد من مبالغته فتكون الصداقة.
ونلاحظ في الحياة اليومية أن بعض الأشخاص سريع الصداقة، سرعان ما يألف ويؤلف، وأشخاصا آخرين لا يألفون إلا ببطء ولا يؤلفون إلا ببطء، ويرجع ذلك في الغالب إلى طبيعة النفوس؛ فهناك نفوس مكشوفة تعرف بمجرد النظر إليها؛ كالماء الخفيف الصافي يظهر ما تحته، ليس بين ظاهره وباطنه إلا نسيج شفاف لا يحجب ما وراءه، وهناك نفوس غامضة لا يدل ظاهرها على باطنها، وقد سترت بنسيج كثيف، أو غطيت بطبقة سميكة لا تظهر إلا بعد طول المراس، بل كثيرا ما يدل ظاهرها على خلاف باطنها، ومن هذا قد يكره الشخص ثم يحب، ويعادي ثم يصادق؛ لأن نفسه لم تنجل لأول وهلة، إنما تنجلي بالمران والاحتكاك واختلاف المواقف ومواطن الجد التي تظهر النفوس على حقيقتها .
والصداقة كالبذرة توضع في الأرض، فإن صادفت تربتها الصالحة، وغذيت الغذاء الصالح، وتعهدها صاحبها بما يناسبها، كبرت ونمت وصارت شجرة يانعة، وإلا ماتت في مهدها أو في أثناء نموها؛ كذلك الصداقة قد تكون بنت ساعة، وبنت شهر، وبنت سنة، في المواقف الحرجة، ولا شيء يسمم الصداقة كشعور الصديق بأن صديقه يستغله، ويصادقه لمنفعته هو، فيوم يأتي دور التضحية ينفض يده! وأبعد الناس عن الصلاحية للصداقة من كان أنانيا يتخذ الصداقة وسيلة من وسائل التجارة. •••
ثم هذه الصداقة درجات كدرجات السلم؛ تبتدئ بالمعرفة، ثم رابطة العمل؛ كالرابطة بين الموظفين في مصلحة أو محل تجاري، أو الرابطة بين أعضاء حزب سياسي، أو أعضاء جمعية من الجمعيات لتحقيق غرض، فإذا زال الغرض زالت الرابطة، وهكذا تتدرج حتى تصل إلى أن تصبح نفس الصديقين نفسا واحدة في جسمين، هي فوق المنافع المادية، وفوق تحقيق الأغراض، وإنما هي غذاء الروح، وسراج الحياة، وملء فراغ النفس، حيث لا يملأ بدونها.
والناس يختلفون في الاستعداد لدرجات الصداقة، وذلك بمقدار استعدادهم للتعاطف، فمن حرم التعاطف حرم الصداقة، ولم يكن له إلا معارف؛ ولذلك نرى الماديين الجشعين لا يتذوقون الصداقة، ولا يفهمون لها معنى إلا أنها وسيلة من وسائل الكسب كدفع العربون، وقبض الفوائد، وكلما أمعن الإنسان في التعاطف كان أقرب إلى تذوق الصداقة بمعناها الصحيح.
كذلك من أبعد الناس عن تذوق الصداقة المتشائمون الذين لا يرون في الوجود ما يستحق التقدير، ولا في الناس من يستحق الإعجاب، فهؤلاء لا يرون صديقا يبادلونه حبا بحب، ولكن يريدون سميعا يسمع شكواهم ووصف آلامهم، وسبهم للدنيا وما فيها، وأكثر استعدادا للصداقة من تفتحت نفسه، وتفتح العالم أمام عينيه، ورأى في الوجود شرا قليلا وخيرا كثيرا، وأنه مملوء بوسائل السعادة، وعلى رأسها الصداقة. •••
وكثير هم الذين نعرفهم، ووسائل التعارف يسيرة متعددة، في القطارات وفي المجتمعات ولأدنى المناسبات، ولكن قليلا من هذا التعارف هو الذي ينضج بكثرة الاختلاط وبمعرفة المزاج واكتشاف النفوس، فيتحول من معرفة إلى صداقة.
وأثر الصديق في الصديق كبير، وهذا الأثر يختلف باختلاف قوة الشخصية في كل من الصديقين؛ فقد يكون أثر أحدهما أكبر من أثر الآخر؛ لأن الأول أكبر شخصية والثاني أكبر تأثرا، ثم قد يكون للشخص الواحد جملة أصدقاء مختلفين كل الاختلاف، وذلك عندما يكون للشخص نواح متعددة؛ فهذا صديق تربطه به الناحية العقلية والفكرية، وهذا صديق آخر تربطه به ناحية الشعور الوطني، وهذا صديق ثالث تربطه به ناحية مادية أو ناحية الاشتراك في متعة من متع الحياة، وهكذا، وهذا هو السبب في أنه ليس من اللازم أن يكون صديق الصديق صديقا؛ لأن الصديق المشترك قد تكون صداقته مع طرف مؤسسة على غرض ليس موجودا في الطرف الآخر. •••
ثم الصداقة لا بد أن تتغذى لتدوم، فإذا انقطعت الزيارات والمقابلات والمحادثات والمكاتبات أمدا طويلا أخذت الصداقة تذبل شيئا فشيئا، حتى تنعدم أو تكاد، وغذاؤها تبادل العواطف وتبادل المشاعر، وتبادل تفتح النفس.
ولا بد لدوامها كذلك من دوام الأساس الذي أسست عليه الصداقة، فإذا أسست على ما بين الصديقين من مزاج أو عقلية أو تحقيق غرض من الأغراض، ثم زال هذا الأساس زالت الصداقة، وهذا يفسر لنا ما يعرض كثيرا من أن صديق الصبا غير صديق الشباب غير صديق الشيخوخة؛ لأن الإنسان في كثير من أحواله يتغير مزاجه، أو تتغير ثقافته، أو تتغير نظرته إلى الحياة، فيرى بطبيعته أن الرباط الذي كان يربطه بصديقه قد تحلل، وأنه محتاج إلى نمط آخر من الناس ليؤلف معه صداقة جديدة.
وبعد، فالصداقة نعمة من أكبر نعم الحياة، ومن رزق صديقا وفيا فقد رزق كنزا ثمينا هو خير من الأخ الشقيق؛ إذ لا قيمة للأخ إلا إن كان صديقا، هو نور في الظلماء، وعدة في البأساء، وأنس من وحشة، وفرجة في كربة. •••
والصداقة الصادقة علامة في الأخلاق؛ إذ هي امتزاج الأرواح، وتعانق النفوس، وفيض من إخلاص، ودرس في التضحية، ومن تهيأت نفسه للصداقة تهيأ للخير يفيضه على الناس.
وأدنى حدود الصداقة أن يسوءك ما يسوء صديقك، وأن يسرك ما يسره، وأعلاها ألا تعد نفسك شيئا بدونه، ولا يعد نفسه شيئا بدونك، وأن ينبض قلبك بما ينبض به قلبه، وأن تتناغم مشاعرك ومشاعره.
الفصل الأربعون
الحياة النيابية
ها نحن في مصر نبدأ حياة نيابية جديدة ببرلمان جديد، فمن الواجب أن نتحدث ونكثر الحديث عن هذه الحياة وواجبنا نحوها، وآمالنا فيها، وما ينتابها من عيوب، وما يصادفها من عقبات؛ وأهم ما يقوم به البرلمان أعمال ثلاثة: (1)
مراقبة الحكومة في أعمالها: فالوزراء يقومون بأعمال الدولة، ولكنهم قد يصيبون وقد يخطئون، فواجب كل حزب وكل عضو في البرلمان أن يتتبع أعمال الوزراء في وزاراتهم، ويدرس ما يعملون، ويكون رأيا في تصرفاتهم؛ أأخطأوا أم أصابوا، فإن رأى خطأ استفسر عنه وبحثه مع أهل الاختصاص، فإن اقتنع بعد كل هذا بخطأ الحكومة رفع صوته في البرلمان بنقدها؛ مثال ذلك: أن عضوا بلغه سوء حال التموين في بلد، وحصول الظلم في التوزيع، فليبحث ذلك، وليسافر إلى حيث يقع الظلم، وليتحقق مما قيل، وليجمع الأدلة والبراهين على هذا الظلم، ثم ليتكلم في صراحة، وليستمع للرأي المعارض، فإن تبين الحق بجانبه وجب على الحكومة أن ترفع هذا الظلم وإلا صوت البرلمان ضدها وأسقطها.
والفكرة الأساسية في هذا البرلمان معناه حكم الشعب نفسه بنفسه، فكل له نصيب في الحكم: هذا عن طريق العمل، وهذا عن طريق المراقبة والإشراف، فإذا شعر المنفذ أن وراءه قوة كبيرة تراقبه فتح عينيه وتحرى العدل وخشي الحساب العسير، فسارت العدالة في الأمة سيرا حسنا، وإلا تخلت الحكومة عن الحكم لمن يقوم بصالح الأمة خيرا منها. (2)
والأمر الثاني: تشريع القوانين: وذلك أن الأمم في تطور مستمر، والنظم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في حركة مستمرة، فلا بد أن يتنبه البرلمان والحكومة لكل ما يجري حولها، وتواجه كل ما يعرض من المسائل الهامة بتشريع جديد.
إن حالة الأمة كحالة السيارة يجب أن نصلحها إذا فسدت، ونغيرها إذا تلفت، ونأتي بنوع جديد منها إذا أدى أغراضا خيرا من النوع القديم، وكل أمة لها تشريع يناسبها؛ فالتشريع في البلاد الزراعية غيره في البلاد الصناعية، وفي البلاد الغنية غيره في البلاد الفقيرة، وفي البلاد التي قطعت شوطا بعيدا في المدنية غيره في البلاد نصف المتمدنة، وهكذا.
والمسئول عن التشريع الصالح في البلاد الحكومة والبرلمان معا، والمصدر دائما هو البرلمان، وواجبه أن يتعرف ما يناسب الأمة وما لا يناسب، وما هي في حاجة إليه من التشريع وكيف يكون، وهذا عمل هام من أعمال البرلمان؛ لأن كل إصلاح في الأمة يرجع إلى التشريع، كيف يوضع، وكيف يسار فيه حتى يحقق الغرض منه وهكذا؛ إن أردت مكافحة الأمية أو معالجة الفقر أو إصلاح الزراعة أو ترقية التعليم أو القضاء، وجب التشريع لكل ذلك، وكلما قطعت الأمة مرحلة من مراحلها ودخلت في مرحلة جديدة وجب أن يسايرها التشريع المناسب؛ فقد كنا ننظر - مثلا - إلى التعليم على أنه من واجب الآباء، إن شاءوا علموا أبناءهم وإن شاءوا أهملوا، ثم ارتقت الأفكار وأصبحنا نرى أن واجب الحكومة أن تزيل الأمية بتاتا، وأن من لم يطع يعاقب، فكان لا بد من تشريع جديد. (3)
الأمر الثالث: الإشراف على ميزانية الدولة: وذلك لأن المال عصب الحياة، ووسيلة الإصلاح في كل ناحية من نواحيها، فإن أردت التعليم فبالمال، وإن أردت الجيش فبالمال، وكذلك الشأن في أمور الزراعة والأشغال والتجارة وما إلى ذلك، فمن غير المال الكافي تشل حركة الحكومة، ويستحيل أي ضرب من ضروب الإصلاح، ومن أجل هذا كان من أهم أعمال البرلمان الإشراف على ميزانية الدولة، فبهذا الإشراف يتحكم البرلمان في كيف يجمع المال من الضرائب وغيرها، وكيف ينفق.
وكان للبرلمان هذا الحق لأنه يمثل الأمة، والأمة هي التي تدفع الأموال، فيجب أن تسيطر على طرق إنفاقها بواسطة ممثليها.
والبرلمان الراقي الناجح هو الذي يستطيع بثقافته ودقته وسعة إطلاعه وخبرته ودراسته أن يعرف أي النواحي أحوج إلى المال من غيرها، ومقدار ما تحتاجه كل ناحية على حسب ما يصدر عنها من خير، وكيف يفرق بين ضروريات الأمة وكمالياتها، فلا ينفق على الكماليات قبل الضروريات، فإن كان ولا بد فتجب مراعاة النسبة بين الضروريات والكماليات؛ فكما أنه من العبث أن يشتري رب البيت أزهارا إذا لم يكن عنده خبز، كذلك من العبث أن تنفق الأمة الأموال الطائلة على أنواع الزينة والترف وفلاحها لا يشرب ماء صافيا، ولا يأكل أكلا كافيا.
هذه هي الأركان الثلاثة التي بني عليها البرلمان، وما عداها فثانوي لها، وقليل الأهمية بالنسبة إليها، والبرلمان الحق هو الذي يرعى مسائله بحسب أهميتها، ويعطيها من المجهود والعناية والدرس حسب استحقاقها.
في ضوء هذا نستطيع أن نتعرف أمراضا تعتري البرلمانات، وعيوبا تشل حركتها، وتصرفها عن أهم وظائفها، ولنمثل لذلك ببعض الأمثلة: (1)
فمن أهم العيوب أن يتنحى البرلمان عن واجبه في الرقابة، ويشغل نفسه بتوافه الأمور؛ كأن ينقسم أعضاؤه إلى قسمين: قسم يهتم بتأييد الحكومة مهما أخطأت، وقسم يهتم بالعمل على إسقاطها مها أصابت، وبذلك يجعلون الأمر أمر من يتولى الحكم بدل أن يكون الأمر في وضعه الصحيح، وهو كيف توجه سياسة الحكم إلى وجهتها الصالحة، وبهذا تتبخر كل قوى الحكومة وقوى المعارضة وقوى التأييد إلى نزاع حول الحكم من يتولاه، والوظائف من يشغلها، وتضيع الدراسة الحقة والتوجيه الصالح والنقد البريء، وينقلب الأمر إلى مهاترات ومؤامرات وتهريجات، ويوجه خصوم الحكومة كل جهودهم لخلق العقبات، وتوجه الحكومة وأنصارها كل جهودها لإحباط المؤامرات، وتكون النتيجة صفرا دائما، فلا الحكومة فرغت لدراسة شئون الدولة وواجب الإصلاح، ولا المعارضة فرغت للدرس النزيه لمعرفة فوائد المشروعات المعروضة ومضارها، ويصبح الأمر كمن يبني كل يوم جديدا، وغيره كل يوم ينقض ما بناه صاحبه، فمحال أن يكون مع ذلك بناء.
ويستتبع ذلك أن تصرف الأموال هباء في سبيل خلق المؤامرات وإحباطها، وشراء الذمم بالرشا وما إليها، واستخدام الأبرياء؛ كالطلبة، والزج بهم في أهواء الحكم بين تأييد وتفنيد، وهكذا من مضار لا تحصى، ومرجع ذلك كله إلى الغفلة عن الغرض من البرلمان. (2)
جهل العضو البرلماني بواجبه الذي أشرنا إليه، وأنه أمانة في عنقه، ودرس لما يعرض عليه، وتفكير في وجوه الإصلاح ينشدها ويتقدم بالتشريع لها، وسماع صوت ضميره عند التصويت، وتحويل ذلك كله إلى وجاهة يستعملها في قضاء مآربه الشخصية، وسلعة يبيعها لمن أراد حسب الثمن الذي يعرض لشرائها، وتضييعه النهار والليل في اللف على الوزارات ومقابلة رجال الدولة، يرجوهم في نقل موظف أو تعيينه أو ترقيته أو نحو ذلك من الشئون الخاصة، وينسى بذلك أول واجب عليه، وهو أنه يمثل الأمة لا بلدته ولا مركزه ولا فلانا وفلانا. (3)
كذلك من أهم ما يفسد البرلمان لعب التيارات الخفية التي توحي باتجاهات خاصة للظروف والمناسبات والملابسات، ومحاولة صياغتها في شكل مصلحة عامة طاهرة بريئة، فالبرلمان الحق هو الذي يرعى مصلحة الأمة وحدها، ويدرس المسائل كما يدرس القاضي قضيته، كل شيء فيها على المكشوف، المدعي يدعي دعواه والخصم يفندها، والقاضي يقدر قول الخصمين التقدير القانوني العادل، وينطق بحكمه بناء على ذلك فقط، فإن هو راعى تيارات خفية من وجاهة أحد المدعين، أو أي اعتبار آخر غير ما ذكرنا، كان قضاؤه فاسدا، وبعث بذلك الفزع في نفوس المتخاصمين، فكذلك الشأن في البرلمان، ما لم يدرس مسائله على المكشوف، ولم تلعب به التيارات الخفية، وما لم يتجرد من كل اعتبار إلا مصلحة الأمة، فبرلمان مزيف.
الفصل الحادي والأربعون
مظاهر الرقي في الأمم
كل أمة في حركة دائمة وتغير مستمر؛ فهي لا تعرف القرار والثبات على حال، غير أن هذا التغير قد يكون إلى حال خير مما كانت عليه، وقد يكون إلى أسوأ، فإن كان الأول سميناه رقيا وتقدما ونجاحا، وإن كان إلى أسوأ سميناه تدهورا وتأخرا وانحطاطا.
غير أن حسبان التقدم والتأخر أو الرقي والانحطاط في منتهى الصعوبة، لأسباب عديدة؛ أهمها أمران:
الأول:
أن كثيرا من المظاهر موضع خلاف، هل هي أسباب رقي أو أسباب انحطاط، أو هي ليست أسباب رقي ولا انحطاط، وقد يكون الشيء سبب رقي؛ كالحرية والمساواة، فإذا غلت فيه الأمم، وتجاوزت حدوده، انقلب إلى سبب انحطاط، وهذا يجعل حسبان التقدم والانحطاط عسيرا.
والثاني:
أن كل أمة في الوقت الحاضر تتغير من نواح مختلفة تغيرات قد تعد بالمئات أو بالآلاف، وهذه التغيرات مشتبكة معقدة، متجهة اتجاهات متعاكسة، بعضها يعد تقدما ورقيا وبعضها يعد تأخرا وانحطاطا، فعمليات الجمع والطرح لتعرف النتائج في منتهى الدقة والصعوبة، بل العامل الواحد قد يسبب رقيا في ناحية وانحطاطا في ناحية أخرى؛ يسبب رقيا في الناحية الاقتصادية وانحطاطا في الناحية الخلقية، أو العكس؛ رقيا في الناحية العلمية وضعفا في الناحية الدينية، أو العكس؛ فحسابه إذ ذاك يكون عسيرا، والوصول إلى تصفية نتائجه في غاية المشقة، وهذا هو الشأن في عامل واحد، فكيف يكون الشأن في آلاف العوامل والمؤثرات والأسباب؟ فلأكتف الآن بجزء من الموضوع، وهو الإجابة عن السؤال الآتي:
ما أهم مظاهر الرقي في الأمم؟
لعل أهم ما يعد فاتحة لتقدم، وإرهاصا لنجاحها ورقيها، تقارب أفرادها في العقلية والعاطفة، وتوحدها في المثل الأعلى الذي تنشده، واشتراكها في العادات والتقاليد، وشعور كل فرد أنه جزء من أمة يعمل لنفسه ولها، ولخيره وخيرها؛ ذلك أن الركن الأساسي في تكوين الأمة هو وحدة المصالح، ووحدة العواطف ووحدة اللغة ... إلخ، فكلما أمعنت الأمة في هذا التوحد كانت أشد استحقاقا لاسم الأمة، ومن أجل هذا حافظت الأمم على أن يكون لكل منها قانون يعم جميع أفرادها، وتعليم متحد في الأساس يتثقف به أبناؤها، ونظم عامة يخضع لها شعبها، وأهم غرض لذلك كله تدعيم هذه الوحدة؛ فإذا كانت الأمة منقسمة انقساما كبيرا إلى بدو وحضر، أو تنازعتها الأديان المختلفة في شكل قوي واضح، أو تقسمتها صنوف التعليم؛ فمدارس فرنسية تتبع برامج فرنسا، ومدارس إنجليزية تتبع مناهج إنجلترا، ومدارس أهلية تتبع نظاما خاصا، وتعليم ديني من أول الأمر، وتعليم مدني من أول الأمر؛ أثر هذا كله في وحدتها، وخالف بين نزعات أفرادها، وأصبح تسميتها أمة مجازا لا حقيقة، وعاق ذلك رقيها وتقدمها.
قد تختلف الأمة في ثقافة أفرادها - وهذا ما يحدث بين كل الأمم الراقية - ولكن أسس الثقافة عندها واحدة، والاختلاف في الكمية فقط لا في النوع؛ كشأنها في اللباس، كل رجل فيها من فلاح إلى ملك يلبس ملبسا يتكون من «بنطلون وجاكته»، ولكن الاختلاف في نوع الصوف وجودة الصناعة وإجادة الخياط.
أما أمم الشرق، فالاختلاف في كل أمة منها في الأسس؛ تعليم ديني من أول أن يسلم الطفل للمكتبة، وتعليم مدني من يوم أن يسلم لروضة الأطفال، وتعليم أجنبي من يوم أن يدخل مدرسة الفرير أو الجزويت، فيخرج المتخرجون أنواعا مختلفة في مثلهم العليا، وفي عاداتهم وتقاليدهم، وشأننا في هذا الاختلاف أيضا كشأننا في الملابس تختلف نوعا لا صنفا فقط؛ فمعمم، ومطربش، ولابس جلبابا، ولابس لباسا إفرنجيا، إلى ما لا يعد ولا يحصى، ثم ما شئت من ضروب الاختلاف في العادات والتقاليد والمثل العليا، مما لا تجد له نظيرا في الأمم الراقية.
فالقرب إلى توحد الأمة في ذلك كله مظهر من مظاهر رقيها، والبعد عن ذلك مظهر من مظاهر انحطاطها، وكما أن توحيد الله أرقى مظاهر الديانة، وتوحيد الزواج وعدم التعدد أرقى مظاهر الأسرة ، فتوحيد الأمة - في كل ما ذكرنا - أرقى مظهر لها، ولعل هذا ما حدا بقادة الفكر في تركيا يوم عملوا على ترقية أمتهم أن يوحدوا زيهم، ويوحدوا أسس تعليمهم ونظام مدارسهم، ويوحدوا قوانينهم وجيشهم، وكل شيء لهم.
وشيء آخر من مظاهر الرقي في الأمة، أعني به انقسام الأمة إلى جماعات حسب تعدد الأعمال وتعدد الوظائف، وقيام كل جماعة بوظيفتها، على أن يكون الغرض الأخير لكل جماعة مصلحة الأمة.
لقد كانت الجماعة في حالة بداوتها، وفي حالة عيشتها القبلية، تتركز سلطتها في يد فرد واحد، وهو شيخ القبيلة، فلما تكونت الأمم وارتقت أخذت تتوسع الأعمال، وتتعدد الوظائف، ويتعدد القائمون بها؛ فبرلمان ومحاكم وجيش ورجال دين ورجال تعليم وصناع ونقابات ... إلخ، وكلما تقدمت الأمة اتسعت أعمالها وتعددت وظائف القائمين بها، وعهدت لخير رجالها تنظيمها وإدارتها.
وليس رقي الأمة الذي نعني بكثرة الأعمال وتعدد القائمين بها فحسب، بل أهم من ذلك تنظيم العلاقات بين الجماعات المختلفة العامة، حتى كأن الأمة كلها آلة ميكانيكية، وكل جماعة فيها تعمل وفقا لسير هذه الآلة، حتى تنتظم كلها في عملها، فليس كل جزء من الآلة يعمل عمله مستقلا، وإنما يعمل وفق سير الآلة كلها، وليحقق الغرض الذي ترمي إليه كلها.
وهذا ضرب آخر من ضروب التوحيد الذي أشرت إليه قبل، فإن الأمة بذلك يكون لها أغراض معينة لا تتعارض ولا تتعاكس، والقوى العامة على اختلاف أنواعها من قوى اقتصادية وأخلاقية وتعليمية واجتماعية، تعمل متساندة متفاهمة لتحقيق هذه الأغراض، أما إن هي لم تتفاهم ولم تتساند، هدم بعضها ما يبني الآخر، ونقض بعضها ما غزل الآخر، فضاعت قواها بين بناء وهدم وغزل ونقض، وكانت كما قال الشاعر:
تهتز وهي مقيمة
فكأنما هي زلزلة
ثم لكل ناحية من النواحي الاجتماعية مظهر واضح يدل على الرقي؛ فمن الناحية السياسية، مظهر الرقي تحقق العدل الاجتماعي وقربه من الكمال، وأكبر مظهر لذلك أن يحكم الشعب نفسه بنفسه، فيختار المشرعين له والمنفذين لقوانينه ونظمه، اختيارا تراعى فيه الحرية التامة، وليس هذا فحسب، بل يجب أيضا أن يفسح الطريق لكل فرد ليصل إلى هذه الوظائف السياسية ما سمحت له مقدرته وكفايته؛ أعني ألا يدخل عامل من العوامل في الرقي إلى المراكز السياسية غير الكفاية وحسن الاستعداد، فلا الغنى ولا الجاه ولا البيت الرفيع ولا المحسوبية مما يصح أن تكون عاملا من عوامل المناصب؛ فالأمة الراقية حقا من الناحية السياسية هي التي سهلت الفرص لكل الناس على السواء، وعدلت بينهم عدلا مطلقا، وأزالت كل العقبات من طريق السباق حتى يكون الفائز فيه من أعدته الطبيعة والمران ليكون الفائز.
وبمقدار قرب الأمة من هذا المثل الأعلى، وبعدها عنه، يحكم عليها بالرقي السياسي أو الانحطاط السياسي، فإن حكمها غيرها أو حكمت نفسها واستبدت بالحكم فيها طبقة خاصة تعتز بالنسب أو بالمال، واعتز ذيولها بالمحسوبية لها، فما أبعدها إذن عن مظاهر الرقي!
ومن ناحية «الثروة»، مظهر الرقي أن يتجه الأفراد والحكومات بنظرهم في تحصيل الثروة، وإنفاقها إلى الخير العام للأمة، فإذا أنفق الفرد ثروته في تقوية نفسه وأسرته فهذا من مصلحة الأمة، وإذا نظم حياته بماله تنظيما يدعو إلى رقي نفسه وأسرته؛ فعرف كيف يدخر، وكيف ينفق، وإذا أنفق أنفق في تقوية بدنه وعقله وروحه، وأسبغ على حياته وحياة أسرته القوة من جميع نواحيها، فذلك في مصلحة الخير العام، ومثل هذا إذا خصص جزءا من فضل ماله لما يرى من وجوه النفع العام التي تلائم ذوقه وتتفق مع ميوله.
أما إذا أنفق ثروته فيما يضعف نفسه وأسرته، من انهماك في نوع من أنواع اللذائذ المنهكة للقوى المتلفة للمال، من ميسر أو إدمان مسكرات أو نحو ذلك، فمظهر من مظاهر الانحطاط؛ لأنه يضعف بذلك نفسه وأسرته، وفي ذلك إضعاف للأمة؛ لأن الأسرة وحدة الأمة، وكذلك الشأن في ثروة الحكومة من حيث الدخل والخرج، فإذا راعت في فرض الضرائب مصلحة المجموع، وراعت في وضع ميزانيتها ووجوه إنفاقها مصلحة المجموع كذلك، فذلك مظهر رقيها، أما إن هي راعت في ضرائبها مصلحة فئة من الناس، وراعت في ميزانيتها طبقة من الطبقات، وأنفقت على المدن وضنت على الفلاح، وأسرفت في الكماليات وشحت في الضروريات، وبالغت في توسيع الشوارع وغرس الأشجار قبل أن يجد الفلاح ماءه النقي الذي يشربه، ومسكنه الصحي الذي يسكنه، ونوره الذي يستنير به، فمظهر من مظاهر الضعف والانحطاط.
ولتنظيم الثروة أهمية كبرى لا من الناحية المالية فحسب، بل إن أثرها يتعدى - تقريبا - كل مناحي الحياة؛ فالثروة هي عماد رقي الصحة، ورقي العقل، ورقي الروح، والرقي في تنظيمها يستتبع رقيا في جميع هذه النواحي، كما أن الانحطاط فيها يستتبع الانحطاط في جميع هذه النواحي.
وهناك نواح أخرى لا يتسع لعدها مقال، ولكن يمكننا أن نجمل القول فيها وفيما ذكرنا قبل بأن «خير مقياس لرقي الأمة أن تنظر الحكومات في تصرفاتها لمصلحة المجموع، وأن تنظر الأفراد في تصرفاتها لمصلحة الأمة».
وهذا هو مظهر الرقي من الناحية المجردة، وهناك مقياس لرقي الأمة نفسها؛ أعني أننا إذا تساءلنا هل هذه الأمة بعينها تسير نحو الرقي أو نحو الانحطاط، فبم نجيب؟
أظن أن الإجابة عن ذلك سهلة، وهي أن الأمة - في كل ما ذكرنا - إذا كانت في يومها خيرا من أمسها، وأقرب إلى المثل الذي ألممنا بوصفه، فسائرة إلى الرقي ، وإذا كانت في يومها شرا من أمسها، وكانت أبعد عن المثل الذي وصفنا، فسائرة إلى الانحطاط، وإن كانت في يومها خيرا من أمسها في بعض النواحي وشرا في البعض الآخر، وجب أن نعمل عمليات دقيقة لتقويم الحسن والقبح، وعمليات جمع وطرح دقيقة نعرف بها ما يتبقى بعد ذلك من ضعة أو كمال، ثم الحكم بعد ذلك حسب نتائج هذه العمليات.
الفصل الثاني والأربعون
مناهج الفقهاء الأئمة في التشريع
اتفقت كلمة المشرعين على أن أصول الأحكام الكتاب والسنة والإجماع والقياس، وإن اختلفوا في الاعتماد والتفسير لبعض هذه المصادر؛ فمثلا: يعتمد الإمام أحمد بن حنبل على الحديث كل الاعتماد، ويجمع في مسنده نحو ستة آلاف حديث يبني عليها أحكامه الفقهية، على حين أن أبا حنيفة لم يصح عنده إلا نحو تسعة عشر حديثا، كما يخبرنا بذلك ابن خلدون ، ويضيق الإمام مالك فكرة الإجماع ويقصرها على إجماع أهل المدينة، على حين أن غيره من الأئمة يجعل الإجماع عاما لجميع المسلمين؛ استنادا إلى قوله (
صلى الله عليه وسلم ): «لا تجتمع أمتي على ضلالة»، ويتوسع أبو حنيفة في القياس حيث يضيقه أحمد بن حنبل، وهكذا تختلف منازعهم وإن اتفقوا على الأصول الأربعة.
وعدا ذلك اختلفت منازع الأئمة في التشريع، وكان لا بد من اختلاف اتجاهاتهم؛ فإن الأحكام الواردة في القرآن والسنة أكثرها أحكام كلية؛ مثل:
لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده ، ومثل: «لا ضرر ولا ضرار»، وهكذا، وقد واجه الأئمة بعد فتح الأمصار حالات كثيرة جديدة لم تكن معروفة في جزيرة العرب؛ ففي العراق واجهوا مسائل الري الناشئة عن دجلة والفرات، واجهها أبو حنيفة، ثم من بعده تلميذه أو يوسف ومحمد، وفي مصر واجه الشافعي مشاكل الري الناشئة عن النيل، هذا إلى مشاكل المعاملات والجنايات.
ولكل قطر عاداته في المعاملات والجنايات، ومن أجل ذلك كان للشافعي مذهبان: قديم وجديد؛ قديم قبل أن يدخل في مصر، وجديد استدعته أحوال مصر؛ ولذلك أود أن يتجه بعض الناشئين الباحثين فيقارنوا بين مذهبه القديم والجديد؛ ليعرفوا إلى أي حد غيرت مصر من مذهبه القديم، ويعرفوا الحالة الاجتماعية التي استدعت ذلك.
هذا إلى أن كثيرا من الأمم التي دخلت تحت حكم الإسلام؛ كالفرس والروم، كانت لهم عادات خاصة، فلما دخلها الإسلام كان لا بد أن يعرضوها على الأئمة، ليعرضها هؤلاء بدورهم على الأصول الكلية للإسلام، ويقروها أو يحكموا ببطلانها.
وأسباب الخلافات بين الأئمة ترجع إلى عوامل كثيرة؛ منها صحة حديث عند بعض الأئمة في بعض الأقطار، وعدم صحتها عند الآخر، ومنها فهم الإمام لآية وحديث حيث لا يفهم الإمام الآخر هذا المعنى منهما، ومنها أن أحد الأئمة يشترط شروطا كثيرة في قبول الحديث حيث لا يشترطها الإمام الآخر، ومنها تأثر الإمام إلى درجة كبيرة بالبيئة التي يعيش فيها، حيث يتأثر الآخر ببيئة غيرها، ومنها ثقافة كل إمام، وإن كان كلهم مثقفين إلا أنه مهما كانت ثقافتهم فإن كلا منهم يختلف عن الآخر في نوع الثقافة ومقدارها؛ فمثلا: الإمام مالك متأثر ببيئة المدينة، حيث كان يسكن رسول الله، والصحابة الذين كانوا يعيشون حوله، وكان يقدرهم تقديرا كبيرا حتى جعل الإجماع الذي يعتد به هو إجماعهم، ووجوده في المدينة مكنه من معرفة الأحاديث الصحيحة التي اعتمد عليها في كتابه الموطأ، ولكن من ناحية أخرى، كان وجوده هذا في المدينة سببا في عدم اطلاعه على المدنيات الأخرى، ومعاملاتها وجناياتها، كالتي اطلع عليها أبو حنيفة في العراق، والشافعي في مصر.
والشافعي - مثلا - تلميذ الإمام مالك، ومتأثر به، ومطلع أكثر من الإمام مالك على المدنيات الأخرى التي رآها في مصر والعراق، ومما امتاز به اهتداؤه إلى علم الأصول ووضعه له، ثم استنباطه الأحكام على وفقه، مما لم يصل إليه إمام آخر؛ ولذلك كان مذهبه أكثر المذاهب انطباقا على المنطق، بعكس الأئمة الآخرين، فإنهم كانوا يعتمدون على فهمهم لآيات الأحكام وأحاديثها، وكان الاستنباط كالملكات في نفوسهم، فجاء الشافعي فوضع تلك الأصول والتزمها.
والشافعي - كما تدل عليه رسالته في الأصول - يقدر السنة تقديرا عظيما؛ لأنها في كثير من الأحوال مبينة للكتاب، مفصلة لمجمله، وقد نفعه في ذلك دراسته الموطأ على الإمام مالك، وملاقاته مشاهير المحدثين في بغداد ومصر.
وملخص منهجه أنه إذا عرض له أمر بحث عنه في الكتاب، فإن لم يجده بحث عنه في السنة، وإذا وجده في الكتاب مجملا، بحث عنه في السنة مفصلا؛ ولذلك يجعل الشافعي العلم بالسنة في مجموعها في مرتبة القرآن، ويعني بذلك الحديث الذي ثبتت صحته؛ إذ قيد السنة التي في مرتبة القرآن بالسنة الثانية، فإذا لم يجد الحكم في كتاب ولا سنة اتجه إلى الإجماع، فإن لم يجد إجماعا، التجأ إلى القياس؛ وقد عني الشافعي بدرس القياس وتحديده، وقد حدده بالمثال، ووضع قواعد معينة لاستعمال القياس.
أما أبو حنيفة فقد تشدد في الحديث الذي يقبله؛ ولذلك قل اعتماده على الأحاديث - كما ذكرنا - واضطره ذلك إلى التوسع في القياس؛ لأنه إذا لم يكن في المسألة العارضة حكم في الكتاب ولا في السنة، اضطر إلى أن يلجأ إلى القياس، فتوسع فيه أكثر من باقي الأئمة.
وأما أحمد بن حنبل، فقد توسع في الحديث ما شاء الله أن يتوسع، فلم يعتمد على القياس إلا قليلا، ولم يتصور إجماعا غير إجماع الصحابة. •••
وبجانب هؤلاء الأئمة الأربعة كان هنالك أئمة يتجهون اتجاهات مخالفة بعض الشيء؛ فمنهم من كان ينكر الحديث بتاتا، وقد حكى ذلك عنهم الإمام الشافعي نفسه في الأم، وأئمة رفضوا القياس بتاتا، ولم يعتمدوا إلا على النص، حكى عنهم ذلك الماوردي في كتابه «الأحكام السلطانية» كما فعل أهل الظاهر؛ فأهل الظاهر يرفضون القياس، ولا يعتمدون إلا على النصوص، ويعتبرون أن النص إذا ذكرت علته، كان أخذ الحكم من هذه العلة بناء على النص لا بناء على القياس.
ومع اعتمادهم جميعا على الأصول الأربعة، وهي الكتاب والسنة والإجماع والقياس، فإنهم واجهوا مسائل اضطروا فيها إلى الرجوع إلى العدالة، كما يقررها العقل، وهي التي كان يسميها القانون الروماني بقانون الطبيعة، وسماها كل إمام باسم خاص؛ فسماها بعضهم استحسانا، وسماها بعضهم استصلاحا، وسماها بعضهم المصالح المرسلة.
وقد تعسف بعضهم فأرجعها إلى القياس، وسماها قياسا خفيا، مع أن العقل غير المتعسف يرى أنها ترجع إلى طبيعة المشرع في تقويم العدالة، وليست من قبيل القياس المعروف. •••
فنرى من هذا أن مناهج الفقهاء تكاد تكون متقاربة؛ لأن اختلافها إنما هو في التفصيلات لا في الأسس، على أنا لا ننكر أن السياسة لعبت دورا كبيرا عند بعض الفقهاء، وأقرت في بعض آرائهم؛ فمثلا: كان الزهري المتوفى سنة 124ه رجلا كبير النفس، واسع العلم، ومع ذلك كان كثير الاتصال بالأمويين، فكان يسهل أحكامهم، ويمهد الأمور لسلطانهم، وربما كان يرى أن مسالمتهم وعدم الخروج عليهم مما يجمع أمر المسلمين ويوحد كلمتهم، وكان كثيرون يرون أن سوء العقيدة مع العمل والقوة خير من صحة العقيدة مع الضعف والظلم.
أما في الدولة العباسية فتدخلهم في التشريع ظاهر أكثر من ظهور ذلك في الدولة الأموية؛ فأولا: رويت الأحاديث الكثيرة عن عبد الله بن عباس، وأعلي شأنه كثيرا، وثانيا: ظهر في التشريعات أشياء كثيرة، تخدم سياستهم التشريعية؛ كالتشديد على النصارى بلبس الزنار، وتميزهم بالملابس الخاصة، يدرك ذلك من دقق النظر في كتاب «الخراج» لأبي يوسف، وهذا التدخل السياسي في التشريع هو الذي كان السبب في رفض كثير من الأئمة تولي القضاء، وإن عذبوا وأهينوا؛ لأنهم متى قبلوا القضاء، فقد خضعوا للسلطة السياسية، وجاروها وعملوا حسب رأيها.
على كل حال قد أفاد هؤلاء المشرعون بمناهجهم الإسلام فائدة كبيرة، والذي يريد أن يدرس فلسفة المسلمين الأصيلة وبعد نظرهم، وجدهم المضني، فليدرس المشرعين وتاريخهم وفقههم وأصولهم، فهنا يجد الأصالة التامة، حيث لا يجد ذلك في دراسة للفلسفة والفلاسفة المسلمين؛ فإنها تقليد لليونانيين، وليس فيها الأصالة ما للمشرعين، ولو ظل باب الاجتهاد مفتوحا طول العصور، لرأينا العجب العجاب من نمو الفقه وتطوره، مما يناسب كل عصر، ولكنهم - جازاهم الله على عملهم، - ضيقوا في الدين واسعا، وحرموا على أنفسهم ما أحله الله، فكان كلام الخلف ليس إلا ترديدا لما قاله السلف، حتى في الأمثلة.
وليسوا يبيحون لأنفسهم أن يواجهوا مسألة جدت ولم يكن لها في الماضي نظير، ولا أن يقدروا عمل الزمان في تغيير الأحداث والأحكام، فنحن أحوج ما نكون إلى طائفة مجتهدة تماشي العصر وتشرع للزمان.
لقد ملئ العالم بانقلابات خطيرة في الصناعة؛ كالطيارات والغواصات والقطارات والقنابل الذرية والراديوا والتلفزيون، وغير ذلك من آلاف المخترعات، وكلها تتطلب تشريعات جديدة؛ فمثلا: الطائرات تقتضي بحثا في مدى ملكية الأمة لسمائها، وهل يجوز لطائر من أمة أن يطير بطائرته في سماء أمة أخرى من غير إذنها، ونحو ذلك من مشاكل، وكثيرا ما كان الشيخ محمد عبده (رحمه الله) يستفتى في مسائل جديدة تواجه المسملمين؛ كلبس البرنيطة وإيداع المال في صناديق التوفير، وأكل ذبائح النصارى، ونحو ذلك، فكان يجتهد ويشنع عليه في اجتهاده، ولولا اجتهاده هذا لحار المسلمون في أمرهم.
أما هذا الجمود، وإغلاق العين عما يحصل، فنتيجة إهمال الساسة الفقه الإسلامي، والاتجاه إلى غيره من القوانين الغريبة ؛ كما حدث في عهد الخديو إسماعيل، فقد روي أنه طلب من جمهرة العلماء أن يجمعوا الأحكام من سائر المذاهب المختلفة، ولا يتقيدوا بمذهب واحد، وأن يعدلوا عن بعض المسائل في مذهب إلى غيرها أصلح منها في مذهب آخر، فلم يقبلوا، فاضطر إلى التشريع على أساس القانون الفرنسي وإنشاء المحاكم الأهلية، فكان ذلك ضربة كبرى على التشريع الإسلامي.
ولو كان مصطفى كمال قد رأى من علماء المسلمين مرونة واجتهادا ما التجأ إلى القوانين الأوربية ينقلها بحذافيرها من غير مراعاة لوطنه، ومن هذا نرى أننا نحتاج إلى ثورة فقهية، وثورة أدبية بجانب الثورة السياسية، والله الموفق!
الفصل الثالث والأربعون
النجاح في الحياة
كل إنسان في الوجود يأمل النجاح في الحياة؛ رجلا أو امرأة، صانعا أو زارعا أو تاجرا أو أديبا أو عالما، وإن اختلفت الصورة التي يرسمها كل لغايته في النجاح.
وهناك صفات كثيرة لا بد منها في النجاح؛ بعضها خاص بنوع العمل الذي يعمله الشخص؛ فالتاجر تلزمه صفات خاصة لنجاحه قد لا يتطلبها نجاح العالم أو الأديب، وهناك صفات عامة لا بد أن يتصف بها كل مريد للنجاح.
وقد دلت التجارب على أن النجاح في الحياة على وجه العموم يعتمد على الأخلاق أكثر مما يعتمد على العلم؛ ومن أمثلة ذلك: ما يشاهد من تجار كبار كانوا أميين أو شبه أميين بنوا لأنفسهم مجدا في التجارة، ونجحوا فيها نجاحا باهرا بجهدهم واستقامتهم وحسن سمعتهم، ومعرفتهم بالسليقة نفسية الجمهور، ثم رزقوا أولادا أرادوا أن يكونوا خيرا منهم في التجارة، فأرسلوهم إلى ألمانيا أو فرنسا أو إنجلترا، وعلموهم على آخر طراز، ونالوا الشهادات العالية في الاقتصاد وما إليه، ثم عادوا وحلوا محل آبائهم بعد وفاتهم، وكانت النتيجة أن خسرت تجارتهم، وأقفلت محالهم بعد إفلاسهم، وأصابهم الفقر بعد الغنى، وبين أن آباءهم الأميين أو شبه الأميين كانوا خيرا منهم.
وليس المسئول عن نجاح الأولين وفشل الآخرين هو الجهل أو العلم، ولكن الأخلاق؛ فالأب - على أميته - كان يحسن الأخلاق التي تتطلبها التجارة فنجح، والثاني لم يحسنها ففشل، ولو كان الابن المتعلم في مثل أخلاق أبيه الجاهل لكتب له من النجاح أكثر مما كتب لأبيه، وهكذا في كل نواحي الحياة.
قد يضرب الناس أمثلة كثيرة بقوم فاسدي الأخلاق نجحوا في الحياة برذائلهم، حيث لم ينجح كثير من الناس بفضائلهم، ولديهم أمثلة كثيرة على ذلك؛ وخاصة في أيام الحرب؛ فالتاجر المستقيم ربح بحساب أو لم يربح مطلقا، والتاجر الذاعر ربح من غير حساب، والموظف الأمين عاش على مرتبه الضئيل، والموظف الخائن حاز الأموال الطائلة حتى لم تعد تهمة الوظيفة، ثم الموظف المتملق لرؤسائه قد يرقى على أكتاف الموظف المستقيم، وهكذا.
قد يكون هذا صحيحا، ولكن لا بد أن تحسب راحة الضمير للمستقيم وقلقه عند الخائن، وتحسب احتقار الرأي العام للخائن واحترامه للنزيه، وتحسب حساب المسئولية أمام الله، وتحسب حساب أن المال الحرام قلما يفيد صاحبه وأولاده لأسباب دينية ونفسية واجتماعية، وتحسب حساب من ضبطوا في حياتهم فعوقبوا فخسروا الدنيا والآخرة، فلو حسبت حساب هذا لترددت كثيرا في تسمية هذا نجاحا، وهبه صحيحا فأغنياء الحرب الذين اكتسبوا من طريق الرذائل استثناء من الحياة العامة، ومن نجحوا في السلم عن طريق غشهم وخداعهم وملقهم استثناء من الحياة العامة، أما القانون العام في كل زمان ومكان فهو أن النجاح في الحياة يتوقف كثيرا على الأخلاق التي يستلزمها العمل من صفات خاصة وعامة؛ من اعتدال في الحياة، وضبط للنفس، وجد في العمل، وأمانة واعتماد على النفس وثقة بها، وإخلاص في العمل، وإخلاص لنفسه وللناس، وصدق في المعاملة، إلى غير ذلك من فضائل؛ وكلما رقيت الأمة كان من مظاهر رقيها نجاح الذين يعتمدون على أخلاقهم، وفشل الذين يعتمدون على رذائلهم.
وهكذا الشأن في الأمم؛ تنجح الأمة في عالم التجارة إذا أحسنت سمعتها، وحسنت معاملاتها، وحسن إنتاجها، وتفشل إذا انهارت هذه الأخلاق، وتنجح في السياسة إذا صدقت وعودها، وشرفت في معاملاتها، وخدمت الإنسانية بأغراضها، فإن نجحت بغير ذلك فنجاح مؤقت، ونجاح كنجاح الموظف الخائن، ومؤرخو الدولة الرومانية - مثلا - مجمعون على أن نجاحها في عصر ازدهارها كان مؤسسا على أخلاقها، فلما تدهورت أخلاقها تدهورت أملاكها.
ثم قد ينجح المرء في الحياة بسبب النبوغ العلمي النادر، أو الذكاء العقلي اللامع، أو القدرة الفائقة على إدارك الفرص وانتهازها ولو لم تدعمها الأخلاق الفاضلة، ولكن حتى في هذه الأحوال النادرة لو كان لهذه المزايا الفائقة مستند من أخلاق فاضلة لكان صاحبها أكثر نجاحا؛ فالأخلاق الفاضلة تقويه وتقوي نجاحه، والأخلاق السيئة تضعفه وتضعف نجاحه.
إن الذكاء اللامع والعقلية القوية والقدرة على انتهاز الفرص ونحو ذلك، لو دعمتها أخلاق فاضلة لتوجهت إلى خير صاحبها وخير الناس، وإن هي لم ترتكز على الأخلاق الفاضلة كانت عرضة لأن تتجه للعمل لشر الناس، وفي ذلك من الخطر ما لا يخفى، والنابغ والذكي أقدر على الخير والشر من الرجل العادي.
وهناك أمر لا بد من التنبيه إليه، ويقع في الخطأ فيه كثير من الناس، وهو أن الأخلاق الفاضلة التي تسبب النجاح يجب أن تصحبها اللباقة، أو الأدب في المعاملة، أو حسن المجاملة، أو ما شئت من أسماء؛ فالأخلاق الفاضلة وحدها لا تكفي في النجاح إذا هي اصطحبت بجفاف في المعاملة، أو خشونة في الطباع، أو عدم ظرف ولباقة؛ قد يكون التاجر أمينا مستقيما ولكنه خشن غير لبق، وقد يكون الموظف مستقيما أمينا جادا في عمله قائما بواجباته، ولكنه جاف غليظ سمج في معاملاته لرؤسائه وللناس، وقد يكون الأديب أو العالم مستقيما في سلوكه مخلصا لأدبه أو علمه، ولكنه غير لبق في معاملته لمن حوله؛ كل هؤلاء قد يفشلون في الحياة ولا ينجحون، ثم هم يخطئون إذ يظنون ويظن بعض الناس معهم أن فشلهم أتى من استقامتهم وجدهم وإخلاصهم، والحقيقة أن فشلهم أتى من قلة لباقتهم وعدم ظرفهم، لا من حسن أخلاقهم.
واللباقة والأدب والظرف في المعاملة لا تكرهه الأخلاق، بل تدعو إليه الأخلاق، وهذه اللباقة غير الكذب وغير الملق، فقد يكون الإنسان صادقا ومع ذلك فهو مؤدب لبق، وقد يكون الإنسان صريحا غير متملق ومع ذلك مؤدب لبق، وعدم اللباقة قد يهدم الصداقة، وقد يسبب كثيرا من العداوة، وقد يسيء إلى السمعة، وكل ذلك يعرض للفشل، وليس المسئول هو الأخلاق الفاضلة، ترى هذا في التاجر والعالم والموظف والمحامي وعضو البرلمان وجميع صنوف الناس، إذا خلوا من اللباقة سببوا لأنفسهم وأهلهم من حولهم متاعب تؤدي إلى الفشل والخيبة، مع ما قد يكون لهم من كفاية نادرة وأخلاق فاضلة، على حين أن من دونهم كفاية قد يكونون أكثر نجاحا للباقتهم وظرفهم.
وشأن المرأة من ذلك شأن الرجل؛ فالمرأة الفاضلة اللبقة أكثر نجاحا في الحياة الزوجية والحياة الاجتماعية، وقد تكون الحياة جحيما؛ وليس لذلك من سبب إلا أن المرأة مع استقامتها وسمو أخلاقها قد حرمت اللباقة والظرف، فهي تسبب بعدم لباقتها كل يوم مشكلة جديدة قد يصعب حلها.
وبعد، فالأخلاق الفاضلة مع اللباقة والظرف والكياسة عدة النجاح.
الفصل الرابع والأربعون
كيف ترقى الأمم
أعتقد أن الأمم في حركة مستمرة دائما، وهي أما حركة تقدمية أو رجعية، ولكن لا وقوف، وهذه الحركات كثيرة جدا تعد بالآلاف، وهي حركات معقدة لا تتجه اتجاها واحدا دائما، بل قد تتجه اتجاهات متعاكسة، فالحركة تكون مربحة ماليا وغير مربحة أدبيا، وقد تساعد التجارة، ولكنها تضعف الخلق، وقد تغير الرجال، ولكنها تضر النساء، والعكس وهكذا، ومن أجل ذلك فالحكم على الحركات إجمالا بالنفع أو الضر يحتاج إلى عين ماهرة فاحصة، ثم إن الحركات التي تصدر عن الأمة اليوم لا بد أن يدخل في نسيجها أعمال الأمس، بل يدخل فيها أيضا رغبات الناس في المستقبل؛ من آمال وسعادة وغنى ونحو ذلك، فهي أشبه ما تكون بالسوائل المائعة، تقبل التقدم والتأخر والاستقامة والاعوجاج في سهولة ويسر، لا كالأشياء الجامدة المتحجرة.
وهذه الحركات دائما في تغير مستمر، فكل يوم تظهر قضايا لم تكن موجودة، وتختفي قضايا كانت موجودة، والاختلاف في قضية قد يستتبع خلافا في قضايا أخرى، فالمرأة لما سفرت استتبعت تغييرا في نظام الزواج والطلاق، وتغييرا في تفصيل الملابس وخياطتها، ورواجا للقبعات بدل البراقع ونحو ذلك.
والمجتمع لديه شعور طبيعي، مجهول لنا سببه، وهو الميل دائما إلى التوازن؛ فحيث تجد حرارة في ناحية تجد برودة تقابلها في ناحية أخرى، ويتجلى ذلك في الثورة الفرنسية - مثلا - والثورة الصناعية، فقد خلقت نظاما خاصا، فاستتبع هذا النظام تغييرا في الأنظمة الأخرى تناسبه وتلتئم معه، وتكون توازنا لا بد منه.
ويحدث عادة أن كثيرا من الناس قبل البدء في الرقي تظهر عليهم أعراض السخط على الماضي، ومن هؤلاء من يزيد سخطهم فيتشاءمون، ولا يعودون يصلحون لعمل إيجابي، ولا يكون أمامهم إلا إظهار العيوب ونقدها والتحسر عليها، وبجانبهم - عادة - يكون قوم آخرون إيجابيون، يتألمون من الماضي، ولكن يحفزهم ألمهم على البحث عن طريق الخلاص منه، فيضعون برنامجا لذلك الخلاص، ويرسمون خطة للعيش اليوم في ضوء المستقبل، ويعيشون عيشة يعدلون فيها حياتهم وفق آمالهم ومثلهم العليا على قدر الإمكان.
ولكن مع الأسف لم يخلق الله شخصين متحدين في المزاج والعقلية والتجارب، حتى يضعا برنامجا واحدا للمستقبل، بل لكل إنسان برنامجه؛ نعم, قد يتفقان في الغرض؛ كأن يتفقا على القضاء على الفقر المدقع، وعلى وجوب تقارب الطبقات، وعلى أن يكون لكل فرد من الملك ما يعيش به عيشة سعيدة، ولكنهما إذا أخذا في التفاصيل اللازمة لتنفيذ هذا الإصلاح فسرعان ما يختلفان، على أنهما كثيرا ما يختلفان في الأساس نفسه؛ فقد يكون المثل الأعلى لأحدهما سعادة الأفراد سعادة مادية؛ من أكل ولبس ومسكن ونحو ذلك، على حين أن الآخر يرى المثل الأعلى في هذا أيضا، وفي السعادة العقلية والنفسية من رقي في الفنون والعلوم والأخلاق والدين ونحو ذلك.
ومهما كان الاختلاف فقد اتفق المفكرون تقريبا على أن أسس الإصلاح التي ينبغي أن تطلب وتحقق ثلاثة: النوع الأول: الإصلاح المالي للدولة، ويشتمل على أشياء كثيرة سنتعرض لها بعد، والإصلاح الثاني: تنظيم المعاهد والمرافق، وتوجيهها وجهات متعاونة لا متعاكسة، والأساس الثالث: تعديل حالة الأمة وتسييرها، مع مراعاة ما يحيط بها من ظروف خارجية وعلاقات بالدول الأجنبية، مع العلم بأن كل أساس من هذه الأسس يؤثر نظامه على الأساسين الآخرين جودة أو رداءة، فإذا حسن تنظيم أحدها ساعد على تنظيم الآخر، وإلا لا.
ونعني بالتنظيم المالي جملة أشياء: مثل تنظيم معاهد العمال ونقاباتهم وشركاتهم، ووضع ما يكفل نشاطهم وجدهم وأمانتهم في العمل وإتقانه ونحو ذلك، ومثل تنظيم المعاهد العلمية ومعاهد الأبحاث ونحو ذلك، وقد يكون غريبا أن نعد هذا من ضمن التنظيم المالي، ولكنه هو الصحيح؛ لأن الأبحاث العلمية ونتائجها قد تدر على الدولة من الأموال ما ليس له حد؛ خذ لذلك العلم الذي يبحث في معرفة الأرض، وهل فيها بترول أو لا؟ وكيفية استخراج البترول والانتفاع به ... فإن هذا يفيد الدولة اقتصاديا ما لا يفيده أي شيء آخر.
ومثل تنظيم الضرائب على الشعب، وإلى متى يتحمل، وكيف تضرب الضرائب على الكماليات أكثر مما تضرب على الضروريات، وكيف تختلس الضرائب اختلاسا حتى لا يتألم منها الجماهير ونحو ذلك، ومثل التنظيم الزراعي، ودراسة الأرض، وما تحسن وما لا تحسن، وكيف تستغل الأراضي بالآلات الحديثة، لنستخرج منها أكبر محصول بأقل مجهود، وهكذا، ومثل تعاون النقابات وكيفيته وتنظيمه، فيساعد بعضها بعضا لخير الأمة، ومساعدة الفلاحين بواسطتها حتى تسهل أمورهم ومعاشهم؛ هذه هي أهم التنظيمات المالية التي يجب أن تحققها الدولة إذا أرادت الرقي.
أما الأساس الثاني، وهو تنظيم الحياة العلمية والفنية وترقيتها، ووضع البرامج لهما، وإمدادهما بالمال اللازم لهما؛ فإنه مهما صرف عليه من المال فإنه سيعوض أضعاف ما صرف عليه، وأهم شيء في ذلك اختيار الصالحين لهذا العمل اختيارا صحيحا، وقد وزع الله الملكات على الناس؛ فمنهم من ملكته في يده، وهؤلاء يكون منهم الصانعون، ومنهم من ملكته في رأسه، وهؤلاء يكون منهم العلماء والباحثون، ومن ملكته في قلبه، ومن هؤلاء يكون الفنانون، وإنما يصلح كل شخص إذا أسند إليه عمل يناسب ملكاته، وإلا كان الشأن شأن كتاب فقه يوضع في يد أديب، وكتاب شعر يوضع في يد فقيه.
وأما الأساس الثالث، وهو معرفة الظروف الخارجية، وتسيير الأمة وفقها فأساس لا بد منه لهدوء بال الأمة، وإمكان السير في حياتها الداخلية سيرا هادئا مطمئنا، فقد تعتري الأمة هزة فظيعة من جراء جهلها بالظروف الخارجية، وقد تفوت عليها مصالح هامة من جراء جهلها أو عدم انتهازها للفرص، مما يؤثر في مجرى حياتها الداخلية.
هذه الأسس الثلاثة متى أحسن تدعيمها تقدمت الأمة بمقدار هذا التحسين، ويجب أن ننبه هنا على شيء هام، وهو أن القائمين على تنظيم هذه الأسس يجب أن يكونوا مرنين متأقلمين، لا جامدين متزمتين، فإذا ظهرت بوادر تغيير في الظروف غيروا في التنظيم، وساروا مع الأحوال الجديدة سيرا جديدا، ولا يفعلون ما يفعل الساسة الأجانب، تمر عليهم الأجيال وتتغير الأحوال، ثم هم يعاملون من يعاملونهم كأن الدنيا ما تغيرت، وكأن الزمان ما حال.
إن الفتاة الباريسية التي تتغير كل حين في بدعها (مودتها)، ولا تلبس اليوم ما كانت تلبسه بالأمس، ولا في الصيف ما كانت تلبس في الشتاء، أعقل من العلماء الجامدين ومن الساسة المتزمتين؛ إن الأمة إذا وجهت عنايتها لهذه الأمور الثلاثة، ووجهت عنايتها أيضا إلى توحيد هذه الاتجاهات التي تعاكسها، ضمن لها النجاح، ومن حسن الحظ أن الدولة الناشئة لم تثقل أكتافها التقاليد القديمة ولا الأساليب العتيقة، فهي حرة في التجديد أكثر من حرية من أثقلها الماضي وغلها بقيده، والفرق بينهما كالفرق بين فتى انفتلت عضلاته واشتد ساعده ومرن عقله، وبين شيخ أقعدته السنون وأثقلته الهموم وقيدته أحداث الزمان، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
الفصل الخامس والأربعون
رسالة المرأة العربية
لا شك أن رسالة المرأة جليلة الخطر، فلا تصلح نهضة لأمة ما لم تعتمد في أساسها على المرأة؛ لا لأنها تكون نصف الأمة فقط، ولكن لأنها هي التي تربي الأمة كلها.
وإذا كانت النساء تكثر في مؤتمراتها ودعواتها من ذكر حقوقها والمطالبة بها، فليحسن لنا أن نكثر من ذكر واجباتهن، فخير ما يمهد لهن كسب حقوقهن عنايتهن بأداء واجبهن.
وواجب المرأة العربية ورسالتها أشق وأصعب من واجب مثيلاتها في الممالك الأوربية المتمدنة؛ إذ عدد المتعلمات المثقفات في بلاد العرب قليل جدا إذا قيس بعددهن عامة، ولا تنظروا إلى عدد قليل مثقف في المدن ، فهؤلاء لا يمثل المرأة، إنما الذي يمثلها النساء الفلاحات في القرى والأرياف.
إن المرأة العربية التي تقدمت هي المرأة التي دخلت المدارس وتعلمت تعليما ثانويا أو عاليا، ولكن كم عدد هؤلاء بجانب السواد الأعظم من النساء اللاتي لا زلن على حالهن منذ القرون الوسطى، بل منذ التاريخ القديم.
إن الذي يمثل مصر - مثلا - ليس خريجات الجامعة، ولكن نساء دهشور وبوصير ونجع حمادي وشلشمون، وليس الذي يمثل مصر شوارع الأهرام «بفللها» الجميلة، ولكن أكواخ الفلاحين بجاموسها وبقرها، والذي يمثل المرأة حقا ليست ملابسها الجميلة خارج البيت ومظاهرها الأنيقة في المجتمعات، ولكن الذي يمثلها حقا هو معيشتها داخل بيتها.
فعلى هذا الأساس نرى أننا لم نتقدم كثيرا في رجالنا ولا نسائنا، فلا تزال الجمهرة من الرجال أميين، والنساء أكثر من ذلك، ولا يزال نحو هذا العدد لا يجد الماء النظيف الذي يشربه، والمسكن النظيف الذي يسكنه، والنور الصالح الذي يستنير به؛ ولقد دخلت في قرية في سويسرة بيتا لبقر فلاح، فرأيته على أتم ما يكون من النظافة، مضاء بالكهرباء، غطيت أرضه بالخشب لينام عليه البقر، وعملت فيه مجار كقنوات يجري فيها ما يخرج منه، فقلت متى يكون لفلاحينا وعمالنا وفقرائنا بيوت كبيوت البقر السويسري.
لست يائسا، فالنهضة الأوربية ليست إلا بنت ثلاثة قرون، والنهضة النسائية في أوربا ليست إلا وليدة قرن ونصف، فقد كانت المرأة في أوربا تعد سلعة من السلع، وفي بعض الأماكن كان لزوجها الحق في بيعها، وكان خير ما ينظر فيه إلى المرأة أن ينظر إليها كما ينظر إلى الطفل يدلل ويضحك منه ولا يعتمد عليه.
وتاريخ المرأة في العالم يكاد يكون قصة قصيرة واحدة في الضعف والتحول والارتقاء، فليست أوربا عجبا من العجب، أو أنها خلقت من طبيعة غير طبيعتنا يستحيل علينا بلوغ شأوها، فلدينا من الاستعداد الطبيعي والبيئة الطبيعية وموارد الثروة ما يمكننا من أن نبلغ مبلغهم في رجالنا ونسائنا، لو حفزنا الهمة، وبذلنا الجهد، وضاعفنا السير إلى الأمام في ثبات وحزم.
مرت الأسرة الأوربية بالدور الذي مررنا به، وهو نظام الأسرة الأبوية الاستبدادية التي كان فيها الأب السيد الأعظم الآمر الناهي المتصرف الوحيد في البيت وشئونه، والمرأة ليس لها حق بجانب حقوقه، بيده المال، وبيده الإدارة، وتخليق المرأة والأطفال بالأخلاق التي يراها، ثم تغيرت الظروف الاجتماعية فتغير مركز المرأة، ويرجع هذا التغير إلى أمور؛ أهمها التطور الاقتصادي، فانهدم النظام الإقطاعي وتقدمت الصناعات، والنظام الإقطاعي والمعيشة الزراعية تساعد كثيرا على تثبيت سلطة الآباء، فلما انهدم النظام الإقطاعي ورقيت الصناعات ضعفت سلطتهم؛ ومنها انتشار الثقافة بين أفراد الشعوب؛ وخصوصا نوع الثقافة الذي يشعر الإنسان بحقوقه وواجباته: من حقها أن تتعلم ومن حقها أن تكون شريكة الرجل في البيت لا خادمته.
ومن ذلك الحين اتجهت الأسرة إلى طلب المساواة وتحقيقها شيئا فشيئا، حتى كاد أن يطلب الرجل المساواة، وجاءت الحرب الماضية فساهمت المرأة الأوربية في تحمل أعبائها، فنالت بعد الحرب كثيرا من مطالبها؛ ومنها دخول الجامعات الذي لم يتم في بعض جامعات إنجلترا إلا سنة 1945، وها هي في هذه الحرب تقدمت خطوات في المشاركة فيها، فلا بد أن تتقدم خطوات بعد الحرب في الكسب.
هذه هي قصة المرأة الأوربية، وهي بعينها قصة المرأة العربية ، وإن كان جزء كبير من التقدم نشأ من العدوى أكثر من نشوئه من التطور الطبيعي للحياة الاجتماعية العربية.
ومما لا شك فيه أن تقدم المرأة في العشرين سنة الأخيرة كان تقدما عظيما، فأذكر أنه في سنة 1926 حين عينت مدرسا في كلية الآداب، لم أر مصرية واحدة تستمع لدرسي إلا بنات المرحوم الدكتور علي إبراهيم رامز، وكانت أمهن ألمانية، فتساءلت هل أعيش حتى أرى مصرية تحضر دروسي في الجامعة، وكان الأمر أسرع مما كنت أتوقع؛ فالفتيات المصريات يملأن الكليات، ويسابقن الشبان في ميدان العلم.
ولكن يؤخذ على حركة التقدم هذه أمران؛
الأول:
أنها تكاد تكون حياة محصورة في المدن لم تنتقل إلى المدن الأخرى والأرياف؛ ولذلك لا نستطيع أن نقول إن الحركة النسائية شاملة، بل وجد عندنا طبقتان متميزتان جدا؛ إحداهما في السماء والأخرى في الأرض ، وليس كذلك الشأن في الأمم الراقية؛ فهناك تقارب في التفاهم بين نساء الشعب، ومقدار لا بد منه في الثقافة لكلهن، أما الشأن في الشرق؛ وخاصة في مصر، فنظام الطبقات واضح جدا: متعلمة جدا أو جاهلة جدا، ولا قدر من الثقافة إجباري عام، فمثله مثل الغني جدا بجانب الفقير جدا، والقصر الشاهق بجانب الكوخ الحقير.
ولا تكون الحركة النسائية صادقة حتى تكون عامة وإن اختلف مقدار الثقافة، ولست أبرئ الرجال من هذا العيب، فشأنهم في مصر كذلك: فيلسوف ومن لا يعرف أن يكتب اسمه.
والأمر الثاني:
الذي يؤخذ على حركة التقدم النسائي: شعورهن بالمظهر أكثر من الحقيقة، فليس السفور معناه كشف الوجه وغشيان دور السينما والتمثيل بمقدار ما معناه ألا يكون هناك فارق في العقلية، ولا فرق في العمل بين الرجل والمرأة، فإذا جالست المرأة الرجل فالند للند، وإذا ألقي العبء على المرأة بوفاة زوجها أو عائلها استطاعت أن تعمل وتكافح في الحياة، وقد يكون المثل الصادق للسفور الحق ما قامت به النساء المصريات في مكافحة الملاريا، وجمعية مكافحة السل، والمتبرعات للتمريض ونحو ذلك، على أنه مما يبشر بالخير ما نرى من تطور طبيعي نحو شعور المرأة بمسئوليتها، ونأتي إذن إلى النقطة الجوهرية، وهي مسئولية المرأة ورسالتها.
أول رسالة للمرأة:
عنايتها بالأسرة، والأسرة تقوم بوظائف عديدة اقتصادية وسياسية ودينية، ولكن أهم عمل لها أنها مربي للطفل، ففي الأسرة يأكل الطفل، ويلبس، ويسكن، ويحافظ عليه من الأحداث، ويتعلم دروس الحياة الأولى التي تلازمه طول حياته، وما الحياة خارج المنزل؛ في المدرسة أو المصنع أو المتجر أو الجامعة أو في الحياة العامة، بعد أن يمارسها إلا نتيجة للبذرة الأولى التي بذرتها الأم في البيت، فالأم في البيت ترسم في ذهن الطفل رسما ثابتا، المثل الذي سيتبعه في حياته، فإن عدلت الحياة العامة فيه ففي العرض لا في الجوهر.
فالإصلاح الحقيقي للأمة إصلاح المرأة، إصلاح الأم، فالألماني والفرنسي والإنجليزي والروسي ليس طابعه كما نرى إلا بأمه، وأكثر العيوب التي نراها في الأمة ترجع في الحقيقة إلى البيت؛ فخصامنا في الشارع، وفي المدرسة، وفي المجتمعات، صورة لخصام الأب والأم في البيت، وعدم ضبط العواطف في المعاملة صورة لعدم ضبط عواطف الأب والأم في البيت، والكذب في الخارج من الكذب في الداخل، وجبن الابن من جبن الأم، والأنانية المفرطة في الخارج من دروس الأنانية في البيت، وهكذا وهكذا، كثرة وفيات الأطفال وكثرة أمراضهم راجع إلى البيت، إلى الأم.
في مصر الآن نحو ستة ملايين من الأطفال بين سن 21، 15، وهذه السن عادة تكون ثلث السكان، فتصوروا حالهم إذا كان كثير من أسرهم مصابين بالجهل والفقر والمرض، كيف تكون حالتهم العقلية والخلقية والجسمية، وتصوروهم وقد صلحت حال أسرهم في الثقافة والقدرة المالية والصحة الجسمية، كيف يصبح هؤلاء الأطفال نواة جيل جديد خير ألف مرة من جيلنا؟!
أكثر هؤلاء الملايين الستة يعيشون في بيوت الفلاحين القذرة الفقيرة التعيسة، وسط آباء وأمهات جهلة، يرضعونهم مع اللبن الأمراض والجهل والتخريف، ثم ليس في الأمة من يأخذ بيدهم أو يلتفت لحالهم، وجزء كبير من ميزانية الدولة يصرف فيما يعد ترفا بالنسبة لهذه الحال، وجزء كبير من مجهود المصلحين والعاملين إنما يذهب إلى العدد القليل من الأمة، وهو طبقة الأرستقراطية، فالأدب الذي ننشئه، والجرائد والمجلات التي نحررها، ونحو ذلك كله للطبقة الأرستقراطية ماليا أو علميا، والسواد الأعظم من الأمة متروك وشأنه للفقر والجهل والمرض، فلم يعمل شيء يذكر لهذه الملايين الستة الذين هم عماد الأمة في جيلها الآتي.
فلو وجهت الجمعيات النسائية جهدها إلى هذه الناحية لأتت بالخير الكثير، هي من غير شك لا تستطيع أن تقوم بإصلاح أطفال الفلاحين والصناع وحدها، ولكنها تستطيع مطالبة الرجال والحكومة بالعمل على مكافحة الأمية ورفع مستوى المعيشة، وصوتهن مسموع ما دام الرجال لا يصرخون من سوء هذه الحال.
بل إنهن يستطعن المساهمة في العمل - متى أسست الجمعيات لرعاية الأطفال - بالتطوع لتعليم الأطفال، وبإرشاد الأمهات الجاهلات في البيوت كيف يحافظن على صحة الطفل ويرعينه.
وأذكر أني قرأت مرة عن امرأة سوداء في أميركا، استطاعت أن تغير حالة السود بإنشاء جمعية من بني جنسها، كانت هي وجمعيتها تتنقل في قرى السود، فيدخلن القرى يعلمن أهلها كيف ترعى الصحة، وكيف ينظف المسكن، وكيف يرتب، ويقمن بالعمل في بيت من البيوت ليكون نموذجا، فهذا موضع للفراخ، وهذا موضع لكذا، وهذا موضع يمكن أن تنشأ فيه حديقة للمنزل، ويزرعنها فعلا، حتى إذا وضعن النموذج للقرية، انتقلن إلى غيرها، وهكذا.
هذا مثل من أمثلة السفور الحقيقي للعمل الحقيقي، إن الرجال لصوت النساء أسمع، والإصلاح على يدهن أسهل، فمتى اتجهن إلى هذه الجهة من الإصلاح خجل الرجال من أنفسهم، وضاعفوا جهودهم، ولبت الحكومة طلبهن أكثر مما تلبي طلبهم.
أليس من العار علينا أن أغلب فلاحينا - وهم السواد الأعظم - لا يجدون ماء صالحا للشرب، ولا الغذاء الضروري للقوت، ولا الكساء الضروري للملبس، في بلاد غنية كبلادنا؟! وفي هذا الوسط ينشأ الأطفال في الأسر، ومع هذا كله نفكر في توسيع شارع في القاهرة، أو غرس أشجار على جانبي الطريق، فيكون مثلنا مثل من عضه الجوع ومعه قرش فاشترى به وردة.
ما أقسى حالة الأطفال البائسين ممن يموت عائلهم ولا يترك لهم شيئا، وممن وقعوا في أسر أسر فقيرة، وممن أصيبوا بأب مجرم أو أم غير صالحة، أو ممن هدمت الأسرة عليهم بسبب الطلاق! فأين هي الحكومة، أو الجمعيات التي ترعاهم؟ وقد يكون من بينهم المجرم الذي يخسر الأمة خسارة لا تقدر بإجرامه، وقد يكون منهم النابغة الذي قد يسدي إلى الأمة من الخير ما لا يقدر.
ليس أمر هؤلاء مما يصح أن يترك، فعلى الحكومات أن تضع لهم من النظم والمال ما يكفل لهم العيشة الصالحة.
الأمر الثاني من «رسالة المرأة»:
المساهمة في الخدمة الاجتماعية، والمرأة في هذا الباب تستطيع بما منحتها الطبيعة من قوة في العاطفة وفضيلة الشفقة والرحمة والعطف وإصغاء الناس لهن أكثر مما يصغون للرجال، أن ينجحن فيه أكثر مما ينجح الرجال.
وأهم أبواب الخدمة الاجتماعية ثلاثة: مكافحة الفقر، ومكافحة الجهل، ومكافحة المرض.
والفقر في مصر عدو خطير يصيب أكثر أفراد الشعب ، في كل قرية أفراد معدودون هم الذي يستطيعون أن يعيشوا بدخلهم، والباقون لا يجدون ما يأكلون وما يلبسون، ولا يغرنكم القصور الفخمة والبيوت الكبيرة، فهي كالشعرة البيضاء في الفرس السوداء، وبعض البلاد فقرها طبيعي؛ لقلة ما تنتج، وسوء البيئة الطبيعية حولها، ولكن مصر - ولله الحمد - ليس فقرها من طبيعتها، ولكن من سوء توزيع ثروتها من ناحية، ومن عدم الاستغلال الجيد من ناحية أخرى، ومن عدم صلاحية السكان لكسب العيش من ناحية ثالثة.
وفقر الشعب هو العقبة في سبيل كل إصلاح تعليمي أو اجتماعي أو سياسي، وإذا زال الفقر في أمة صلحت وتقدمت في جميع النواحي، بل المرضين الخطيرين في المجتمع؛ وهما الجهل والإجرام، كثيرا ما يكون سببهما الفقر، وأسباب الفقر هي أسباب انحطاط الإنسانية، والفقر قد يكون سببه من الفقير نفسه؛ لضعف كفايته العقلية والفنية والجسمية، وقد يكون سببه من الخارج؛ أعني سوء الحالة الاقتصادية في البلاد، ولا أطيل في هذا؛ فالموضوع طويل معقد أوسعه العلماء بحثا.
ولكن موضوعنا ماذا تستطيع المرأة أن تعمل في هذا الباب: من قديم والفقر يعالج بالإحسان، وفكرة الإحسان مبنية على أساس أن القادر يعين غير القادر، ومن رزقه الله بسطة في المال يعين من حرمه منه، وهذا هو الشائع إلى الآن؛ يرى الرجل فقيرا مسكينا أو امرأة مسكينا فيخرج من جيبه قرشا وينتهي الأمر، ولكن هذه النظرة إلى الإحسان تغيرت، وأهم تغير فيها ناحيتين؛ ناحية أن المسألة لم تعد مسألة إحسان، والفقير ليس فقيرا بالقدر، والغني ليس غنيا بالقدر، ولكنه سوء النظام الاجتماعي.
والفقير ليس يطلب إحسانا، ولكنه يطلب حقا له على الأمة وعلى الحكومة، هو يطلب أن يضمن له معيشة هي أقل ما يطلب لإنسان، له الحق أن تكفل له الحكومة مستوى من المعيشة لا ينزل عنه في مأكله وملبسه ومسكنه ومشربه، هو العيش الضروري الذي لا يصح أن يعيش أقل منه، فإذا لم تفعل الأمة والحكومة ذلك فقد اغتصبته حقه لا أنها منعت عنه الإحسان.
ولا بد أن تكونوا قد سمعتم بمشروع بيفردج وغيره من المشروعات، مما أسس على هذه النظرة، ومن أهم وسائل تحقيق ذلك الضرائب التصاعدية.
ومع هذا فالناحية الأخرى لم تنعدم، وهي ناحية الإحسان، ولكنه الإحسان المنظم لا الإحسان الفردي، وقد قطعت الأمم الحية شوطا كبيرا في تنظيم الإحسان، وأهمه نظام «همبرج» الذي وضع للفقراء والعاطلين، ومقتضاه تنظيم مكتب رئيسي في كل مدينة للنظر في شئون الفقراء، وتقسيم المدينة إلى أقسام، وتعيين مشرف أو مشرفة على الفقراء في كل قسم وظيفته درس أسباب الفقر في كل أسرة، وإعانة العاطلين على إيجاد عمل لهم، وإنشاء مدارس صناعية لأولاد الفقراء، ومستشفيات لمرضاهم، ومن أراد الإحسان فليحسن إلى هذه الجمعيات لا إلى الأفراد ... إلخ، وقد عمم هذا النظام في أوربا كلها، وأدخل عليه تعديلات كثيرة، وأهم ما عني به هذا النظام العناية بأولاد الفقراء أكثر مما عني بالفقراء الكبار؛ لأن في إصلاحهم القضاء على الداء من أساسه.
والمرأة العربية تستطيع أن تساهم في هذا الإحسان، فتنظمه وتقوم عليه، وقد قامت «فعلا» بقسط لا بأس به في هذا الباب، فدعت المرأة إلى التبرعات للمشروعات الخيرية الكثيرة، وساهمت في الإحسان تبرعا وجمعا، ولكن ألاحظ أنها أجادت في تنظيم الدعوة إلى التبرعات أكثر مما أجادت في تنظيم الإنفاق، وحبذا لو أنشئت جمعية نسائية نموذجية تشرف على فقراء حي من الأحياء البلدية، تكون مهمتها معالجة الفقر والبؤس، حتى إذا جربت ونجحت عممت في أنحاء القطر.
أما نصيب المرأة في مكافحة الجهل فلا يزال قليلا، وشأنهن في ذلك شأن الرجال، وقد وضعت الحكومة المصرية مشروعا لمكافحة الأمية لم ينفذ بعد، وهو تحت نظر وزارة الشئون الاجتماعية ونرجو - عند البدء في تنفيذه - أن تساهم المرأة المتعلمة فيه بنصيب كبير، فماذا يمنعها أن تتطوع لتعليم بنات الفقراء وبنات الشارع، ويتفق كل ثلاثة أو أكثر على فتح مكتب لتعليم الأميات، ويطلبن من وزارة الشئون إعداد المكان لهن، وإمدادهن بكل وسائل التعليم وأدواته، فيكون لهن فضل كبير في مكافحة الأمية.
ثم هن يستطعن تأليف جمعيات تجوب البلاد وتلقي المحاضرات في الشئون النسائية، وهذا - من غير شك - يكون عملا واسع الأثر لو قامت وزارة الشئون الاجتماعية بتوزيع الراديو على القرى، إلى غير ذلك من أعمال ثقافية في استطاعتهن القيام بها، فحتى الآن لم نجد مجلة نسائية تخاطب المرأة المصرية فيما يفيدها.
أما الناحية الثالثة، وهي مكافحة المرض، فإنا - من غير شك - نرحب بما قامت به المرأة المصرية في مكافحة الملاريا، ومكافحة السل، والتمريض في المستشفيات، ولكن لا يزال أمامهن فسيحا في هذا الباب؛ وخصوصا من ناحية مرض الأطفال الذين لا يستطيع آباؤهم القيام بنفقات أمراضهم.
وليس من الحق اعتذارهن بقلة المال، فكما أن من واجبهن جمع المال من طريق التبرعات، كذلك من واجبهن مطالبة الحكومة بإنشاء ما يرين إنشاءه لمصلحة الأمة.
وبقيت مسألة أخيرة في رسالة المرأة:
وهي أنها الرسول الذي بعثته العناية الإلهية لنشر السعادة في المجتمع، وفي الحق أن ما لا يقل عن تسعين في المئة من سعادة الأمة يرجع إلى المرأة، وقد زرت أوربا مرتين زيارتين قصيرتين فتساءلت بعدهما ما الفرق بين الشرق والغرب؟ فكان الجواب كلمة واحدة: «المرأة».
تستطيع المرأة أن تكون سعادة الأسرة وسعادة المجتمعات، وبلسما لجراح الأمة، وأداة فعالة في بناء نهضتها.
المرأة هي مبعث حياة الأمة، فإذا قصرت فهي مبعث شقائها، هي مبعث الإصلاح السياسي والاجتماعي، هي روح الفن، هي التي تستطيع أن تجعل الرجال رجالا، وأن تجعل الأطفال أبناء الله لا أبناء الشيطان.
أتعلم المرأة لم خلقها الله؟ إنما خلقها لتخلق من الرجال عظماء.
الفصل السادس والأربعون
نهضتنا الفكرية ما زالت صراعا بين القديم والجديد
إذا أردنا أن نجمع أسباب النهضة من عهد محمد علي إلى الآن في كلمة واحدة قلنا إنها: «اتصال الشرق بالغرب»، فكما انبعثت شرارة من الشرق إلى الغرب في القرون الوسطى سببت نهضة الغرب، رد الغرب ما اقترضه فبعث شرارة إلى الشرق ألهبت حماسته، وأشعلت غيرته، فبدأ يقلد الغرب في مناحي نشاطه، ويتبعه في اتجاهاته، حتى ليمكننا أن نلخص «منطق» قادة الفكر في الشرق في الجملة الآتية: «إن الغرب يفعل كذا فيجب أن نفعله، والغرب يترك كذا فيجب أن نتركه»، وكلما أريد وضع نظام أو سن قانون أو بدء بمشروع تساءلوا: ماذا تفعل أوربا في ذلك؟
وكان أسبق الأمم الشرقية إلى الاقتباس من أوربا «مصر»؛ لموقعها الجغرافي أولا، ولسبقها في العمل على الانفصال من سيادة الترك ثانيا، فأخذ محمد علي يحذو حذو أوربا في جميع مرافق الحياة، من علمية واقتصادية وحربية وسياسية وغير ذلك، وإذا كان موضوعنا النهضة العلمية فلنقتصر عليها.
استعدت مصر لأخذ هذا الدرس عن الغرب من عهد حملة نابليون على مصر، فكان في حملته علماء أعلام بجانب رجاله الحربيين؛ منهم الرياضي، ومنهم الطبيعي، ومنهم الأديب، ومنهم الاقتصادي، وقد احتك بهم بعض المصريين وشاهدوا آثارهم العلمية، وقرأوا ما ألفوا، ونظروا فيما جربوا، كما يحكي ذلك الجبرتي في تاريخه.
وجاء محمد علي والنفوس على استعداد ما للسير في هذا السبيل، واستكمال ما بدأوا به من قبل، فأراد محمد علي الحركة - التي كانت بطيئة - بقوة وعنف، وأدخل عليها النظام بعد أن كانت مهوشة مضطربة، وبعد أن كانت حركة الاقتباس مقصورة على فئة قليلة جدا من المتنورين عممها حتى وصلت إلى الجندي في الجيش والعامل في الحقل، ومن أبى منهم الاقتباس أجبره عليه، وأنفذه بسلطانه؛ فقد وضع «محمد علي» كل الأسس التي بنيت عليها الاتجاهات العلمية الحديثة؛ وأهمها أمران: (1)
إرسال البعثات للتعلم في أوربا؛ حتى يكونوا نواة لتعليم المصريين على النمط الأوربي، ولينقلوا إلى العربية أهم ما ألف في الغرب، فأرسل كثيرا من الشبان إلى فرنسا، وبعضهم إلى إنجلترا، واستمرت حركة البعثات إلى مختلف البلدان الأوربية إلى اليوم، وقد حققت - إلى حد ما - الغرض الذي أسست لأجله، فقد نشر المبعوثون بين أفراد الأمة تعاليم أوربا ومناهجها، وتسلموا أهم الأعمال في المصالح المختلفة، فكانوا منارا يتلقون ضياءهم من أوربا، ويعكسونه على مصر، كما قاموا بترجمة بعض الآثار الأوربية إلى اللغة العربية.
وإن وجه نقد إلى هذه الحركة فهي أنها لم تؤد كل ما كان ينتظر منها، فقد أرسل إلى أوربا الألوف من المصريين، وعادوا بعد أن أتموا دراستهم، ونالوا أكبر الشهادات، ومع ذلك لم يكن مجهودهم في تنظيم الأعمال، وإدخال الأساليب الحديثة، ونقل المؤلفات القيمة يتفق وعددهم؛ فحركتهم في الترجمة حركة ضعيفة غير منظمة، وحسبك دليلا على هذا أنه لم يقم من المصريين بعد رفاعة (باشا) ومدرسته من يسد مسده أو يغني غناءه، ولو سار من أتى بعده على نهجه لما رأيت كتابا هاما أوربيا في مختلف العلوم والفنون لم يترجم إلى العربية، وهكذا قل في تنظيم الأعمال، وليس يصح أن تلقي كل المسئولية على عاتقهم، فبعضها يرجع إلى أن الاحتلال الإنجليزي لم يكن يشجع على هذه النهضة، بل كان يعمل على إعاقتها.
وأيا ما كان فهو اتجاه علمي أدى بعض واجبه، وخدم الحركة العلمية خدمة لا تنكر. (2)
وكان يقابل هذا الاتجاه ويكمله حركة أخرى ترمي إلى بعث الأدب القديم، وقد بدأ هذه الحركة المستشرقون، فبذلوا جهدا كبيرا في جمع الكتب القيمة في مكاتب، كما بدأوا في نشر أهمها، ثم قلدتهم مصر في هذا العمل، فبدأت مطبعة بولاق في عهد محمد علي تنشر الكتب العربية القديمة، ثم تأسست المطابع الأهلية تنشر ما لا يحصى من الكتب.
وهي مع كثرة ما تخرجه مقصرة عما يخرجه المستشرقون؛ لا من ناحية العدد، بل من ناحية المنهج؛ ذلك أن أكثر ما يطبع في مصر من الكتب القديمة ينشره التجار، أما في أوربا فينشره العلماء، وفرق كبير بين منهج العالم ومنهج التاجر؛ فالعالم الأوربي إذا نشر كتابا رجع إلى أهم النسخ الموجودة في العالم وقابل بعضها ببعض، وتحرى الأمانة في الأصل، وبذل الجهد في المراجعة، ثم فهرس الكتاب بأعلامه وبلدانه، ونحن - إلى اليوم - لم نبلغ هذا المبلغ في إخراجنا إلا في القليل النادر.
وألاحظ في هذا الاتجاه أن حركة النشر زادت في مصر وغيرها من البلدان العربية بقدر ما نقصت بين المستشرقين، وهي حالة تغتبط بها لو أضيف إليها العناية بالنشر. •••
وقد أصبح لنا من هاتين الحركتين ثروة واسعة من الأدب الغربي والعلم الغربي، وثروة واسعة من الأدب العربي والعلم العربي، ونشأ عنهما، وإن شئت فقل إنهما كانا رمزا لتيارين مختلفين.
وهذان التياران المتحاذيان أحيانا، المتعاكسان أحيانا، قسما الناس في مصر إلى أقسام، ووجهاهم وجهات مختلفة، وطبعاهم بطوابع متباينة؛ منهم المغالي ومنهم المعتدل، منهم من لم يلتفت إلى التيار الآخر أي التفات، ومنهم من اغترف منه غرفة بيده، فنشأ من ذلك تبلبل في الألسنة، واختلاف في الأفكار والآراء، وتنازع في مناهج البحث وطرق التفكير.
هذان التياران يتنازعان الشعراء والكتاب والمؤلفين، ويتنازعان مناهج التعليم، وطرق التفكير، وكل مظهر من مظاهر الحركة العلمية.
فمن الشعراء من مثله الأعلى امرؤ القيس أو بشار أو أبو نواس، ومنهم من مثله الأعلى شكسبير أو جوته.
ومن الكتاب من مثله الأعلى ابن المقفع أو الجاحظ أو الحريري، ومنهم من مثله فيكتور هوجو أو فولتير أو نحوهما.
بل مناهج التعليم في مصر مضطربة بين التيارين؛ فهي تعلم النحو والبلاغة على نمط سيبويه والسكاكي ونحوهما، وإن اختلفت عنهما ففي الأمثلة ووضوح العبارة، وتعلم الطبيعة والكيمياء والجغرافية على نمط الكتب الإفرنجية.
ومن المقننين من يرى خير مثل هو القانون الفرنسي أو الألماني أو السويسري، ومنهم من يراه الشريعة الإسلامية.
ويمثل هذين التيارين الجامعة المصرية، ومثلها الأعلى التعليم الأوربي، والجامعة الأزهرية، ومثلها الأعلى الآداب والعلوم الإسلامية، على أن الجامعة الأزهرية بذلت بعض المحاولات في إدخال عناصر التجديد.
وهذان الاتجاهان في الشرق؛ وخاصة مصر، أوضح منهما في الغرب؛ نعم، إن في الغرب محافظين وأحرارا، ولكنهما معا يدوران حول مبادئ واحدة كل فريق يرى فيها رأيا، أما في الشرق فالآراء متعاكسة، وموضوعات الاتجاهين ليست واحدة؛ ذلك أن الغرب قد نظر طويلا في التراث القديم وصفى مركزه فيه، وأخذ منه ما يستحق الأخذ، وسار به على النهج الجديد، ولم تبق للقديم دراسة إلا للتخصص فيه على أنه أثر من الآثار.
ومن عهد محمد علي إلى الآن والحرب مستعرة بين الاتجاهين، وهي حرب هادئة أحيانا، عنيفة أحيانا، تظهر في الآداب بين دعاة القديم ودعاة الجديد، وتظهر في الدين فيقوم لها الرأي العام ويقعد؛ كالثورات التي قامت على السيد جمال الدين ومحمد عبده وعلي عبد الرازق وطه حسين، وتظهر في التقنين؛ كالثورات التي قامت من قديم حول المحاكم الشرعية وتنظيمها واختصاصها. •••
وهنا يجب أن نتساءل: هل من مصلحة مصر والشرق عامة أن يظل فيها هذان الاتجاهان، أو أن تخنق القديم وتعيش بالجديد وحده؟
لقد سارت تركيا على المنهج الثاني، فأبادت القديم ولم تحفل به، ولم تعبأ برجال الدين، ولا برجال الأدب القديم، ولا بحروفها القديمة، ولا بزيها القديم، ولا بقوانينها القديمة، وعلى الجملة، فقد أرادت أن تقضي على القديم في كل شيء، وعزمت أن تسير بالأمة نحو الجديد البحت، وبدل أن يكون مثلها الأعلى مشتقا من الاتجاهين أرادت أن يكون مثلها الأعلى مقتبسا من أوربا وحدها، ونزعاتها وحدها، فهل من مصلحة الشرق أن ينهج هذا المنهج؟
أظن أن الجواب بالسلب، وأن من مصلحة الشرق بقاء الاتجاهين معا؛ ذلك أن في القديم ثروة لا تقدر، وفي الجديد ثروة لا تقدر، كما أن في كل من القديم والجديد بذورا سامة يجب إعدامها، كما أن في أجسامنا وألواننا وعقولنا نتيجة وراثتنا وبيئتنا، وهي تختلف عن القديم البحت والجديد البحت، فيجب أن يكون غذاؤنا منهما معا.
أهم واجب على قادة الرأي عملية «التنقية»؛ تنقية القديم لنعرف خيره وشره، وتنقية الجديد لنعرف خيره وشره.
ولكن يجب أن يسير المجددون أمام الجمع، وخلفهم أنصار القديم، ويجب ألا يخف المجددون خفة تدعو إلى التهور، وألا يثقل أنصار القديم ثقلا يعوق المجددين عن السير.
ثم إن أنصار القديم لا يصح أن يستمروا على نمطهم القديم بحال من الأحوال، فهم مكلفون كل التكليف أن يعرضوا قديمهم في شكل جديد؛ فالأدب القديم لا بد أن يعرض عرضا جديدا، وأؤكد أن انصراف الناس عن الأدب العربي والعلم العربي والدين، أكبر سبب له سوء العرض، فتذوق الناس الآن غير تذوقهم فيما مضى، قد كان الناس يتذوقون طريقة «الأغاني» في ترجمة امرئ القيس، فأصبحوا لا يتذوقونها ويودون عرضا جديدا، يتفنن فيه كما يتفنن في عرض الثياب في مخازن البيع، وكان الناس يتذوقون كتب الفقه على نمط حاشية ابن عابدين، فأصبحوا يمجونها، وأسلوب كتب الدين القديمة لا تجاري أذواق الناس في العصر الحاضر، فيجب أن يدخل التجديد في القديم، وهذا ما فعلته كل الأمم في تراثها، كما يجب أن يلون جديد الأوربيين عند نقله إلينا بما لنا من منطق خاص، وأسلوب في التفكير خاص.
إنا إن فعلنا ذلك نلنا الحسنيين، وأخذنا خير ما في الذخيرتين، ووصلنا إلى الغرض من غير ثورة، وأدركنا الغاية في غير عنف.
الفصل السابع والأربعون
مشاكل الشباب وكيف تعالج
من أكبر مظاهر المدنية الحديثة عنايتها بمظاهر الطبيعة، وتحليلها ودرسها درسا عميقا، ومعالجتها على أسس علمية؛ سواء في ذلك طبيعة الكون وطبيعة المجتمع وطبيعة الإنسان، فهي تؤمن إيمانا قويا بنظرية «الأسباب»، فمهما حدث في الكون فلا بد له من سبب معقول، ولا يحدث شيء ولا تتحرك ذرة ولا تسكن ولا تسقط ورقة من أوراق الشجر ولا يهب نسيم ولا تموج موجة، إلا بسبب، وغاية الأمر أن بعض الأسباب عرفناها وفهمناها، وبعضها لم نعرفها ولم نفهمها، ونحن سائرون إلى معرفتها وفهمها.
ومما اتجهوا له اتجاها بديعا نفسية الأطفال ونفسية الشبان؛ فالإنسان ككل كائنات العالم لا ينفعل ولا يتأثر ولا يؤثر إلا بسبب، وهذا السبب يمكن فهمه إذا دققنا النظر ودرسنا الإنسان على أنه جزء من طبيعة الكون، خاضع لقوانينها، سائر على مناهجها.
إذا بكى الطفل فلا بد من سبب لبكائه، وإذا مرض فلا بد من سبب لمرضه، وكذلك إذا انفعل أي انفعال، أو ساء سلوكه أو حسن، وإذا صدق أو كذب، وإذا كان هادئا رزينا، وإذا كان مرحا لعوبا، فعالم النفس يستطيع أن يعلل ذلك تعليلا معقولا، وإذا كان كذلك أمكن تربية الطفل على هذا المنهج الدقيق؛ فإن أنت أسلمت طفلا لعالم ماهر في دراسة النفوس، وقلت إني أريده على نمط كذا، أمكنه أن يخرجه لك كما تريده، كما يستطيع الصائغ أن يخرج لك السبيكة من الذهب على النحو الذي تريده، وإذا هو لم ينجح في ذلك كل النجاح فلأنه لم يبلغ من الخبرة مبلغ الصائغ؛ ولأن علم النفس لم يتقدم تقدم فن الصياغة.
نعم، إن للوراثة دخلا كبيرا في إعداد الطفل وتحديد مواهبه، ولكن عملها كعمل الطبيعة في إعداد الذهب، ثم يصوغها الصائغ كما شاء، وليس يستعصي على المربي شيء إلا لجهله ببعض قوانين من يربيه.
وإذا ثبت ذلك فالتربية التي لا يكون أساسها معرفة قوانين النفس مقضي عليها بالفشل كتربيتنا نحن لأولادنا؛ فالأبوان يربيانهم تبعا لتقاليد توارثاها لا حسب قواعد تعلماها، إذا كانت التربية حسبما اتفق خرج الطفل أيضا حسبما اتفق، وأهم فارق بين الطفل الشرقي والطفل الأوربي أن الثاني دخل العلم إلى حد كبير في تربيته، فأصلح من جسمه ومن نفسه، ولم يدخل العلم في تربية الأول إلا بقدر قليل.
بالأمس كنت أقرأ حكاية لطيفة تدل على هذه العناية، ذهبت أم إنجليزية إلى طبيب وعالم من علماء النفس، وقصت عليه أن ابنها، وهو في الثامنة من عمره، أذكى طفل في الفصل في مدرسته، وخير ولد في بيته، ولكن إذا جن الليل صرخ وبكى، وإذا نام قام فزعا، ومشى وهو نائم وترنح في مشيته، وتخيل أنه يسقط على الأرض فيصرخ، وتحاول أن تفهمه أنه نائم في سريره فلا تفلح، وإذا حكت له في نهاره ما كان منه في ليله ضحك واستغرب، ولكنه يعود في ليله إلى هذه الحالة المفزعة!
فحصه الطبيب النفسي فوجد جسمه سليما من كل مرض، وصحته على أحسن حال، ومنظره في غاية الجمال، ففكر ثم فكر، ثم سأل الأم: من الذي ربى الولد في صغره، ومن كان ينيمه؟ فقالت إنها كانت تسافر مع أبي الطفل وتتركه عند جدته، فسأل الجدة: كيف كانت تنيمه؟ قالت كانت تغنيه أغنية معروفة سمعها، فوجد فيها عنفا وفيها ريحا عاصفة تهز الأرجوحة، وقالت إنها كانت تخبط على الأرض برجلها وقت الغناء لينام، فعلم الطبيب أن هذا هو السبب في فزع الطفل ليلا، وعالجه بأن تغنيه وقت النوم أغنية لطيفة عذبة سارة، وتكررها في لطف ورقة حتى ينام، وقد نجح الطبيب في ذلك، فذهب عن الطفل الخوف، ونام في طمأنينة وأمن.
وكم مثل هذه الحالات تعرض لأطفالنا ولا نعيرها التفاتا؛ لأننا لا نؤمن أن لكل شيء سببا يمكن أن يعلم.
كذلك الشأن في شبابنا، كل ظاهرة نستحسنها أو نستهجنها فيهم لها سبب نفسي يجب أن ندرسه، والنصائح وحدها لا تغني؛ لأن الأسباب إذا ظلت باقية نتجت عنها هذه الظواهر لا محالة رغم النصائح والإرشادات، ويكون مثلنا مثل من يحارب الجيش الغازي بالدعوات، أو الأمراض الفتاكة بالرقي والتعويذات، إنما ننجح يوم نحلل هذه الظواهر إلى عواملها الأولية وأسبابها الخفية، ثم نضع العلاج لكل منها بما يناسبه.
ومن غريب الأمر أن من أكبر مشاكلنا مشكلة الشباب، ومع هذا لا نجد بحثا علميا عميقا وضع في هذه المشكلة، إنما نقتصر على شيئين: الشكوى والنصائح، وهما لا يغنيان، يشكو الأب في بيته من الشباب، ويشكو المدرس في مدرسته من الشباب، وتشكو الجامعات من الشباب، ويشكو أصحاب الأعمال وأرباب الأموال من الشباب، وتشكو الأمة كأمة من الشباب؛ وتتعدد الشكاوي وتتنوع، ولكن لا تبحث، ولا تلمس الوقائع، ولا يستفيض الحديث ويكتفي بالنصح.
فأمامنا الآن مشكلة الحب ؛ هل يسمح للشاب أن يحب؟ وهل في الإمكان نفسيا واجتماعيا ألا يحب؟ وما الحدود التي يجب أن تحد في الحب؟ وما طرق الوقاية من الغلو فيه؟ لا شيء عندنا من البحوث في ذلك إلا شكوى الآباء والأمهات ورجال الدين والأخلاق، إنما نريد بحوثا صريحة جريئة تحلل فيها الحالة النفسية للشبان، والحالة الاجتماعية للأمة، ثم يوضع العلاج بعد ذلك لا قبله.
ولدينا مشكلة السياسة والشبان؛ هل من الواجب أن يشتغل الشبان بالسياسة؟ وإلى أي حد؟ وهل يتصلون بالأحزاب أو لا يتصلون؟ وهل يتعارض واجبهم العلمي والواجب السياسي؟ وإذا تعارضا فما الموقف؟
مسائل نواجهها كل يوم ولا باحث، وإنما الأمر فوضى من جميع النواحي، ترك الأمر فيها للشبان يفعلون ما يشاءون من غير بحث، وكل ما يفعله الكتاب والأدباء هو الملق، فالشبان بنوا، والشبان أسسوا، والشبان هم عماد الأمة، ونحو ذلك من الألفاظ المعسولة، وهذا حق إلى حد ما، ولكن هناك نغمة أخرى يجب أن توقع بجانب النغمة الأولى حتى يتم التوازن، وهي نغمة إشعارهم بالواجب، وذلك لا يكون إلا بعد بحث عميق ومصارحة الشبان بالحقائق في غير مواربة ولا مجاملة.
ولدينا مشكلة الشباب العاطل، وقد اقتصرنا فيها على النصح للشبان أن ينزلوا ميادين العمل، ولكن لم نبحث جديا سبب العطل من الناحية النفسية، ومن الناحية الاجتماعية، ومن الناحية الخلقية، وكيف يمكن التغلب على البطالة.
ثم الشبان أنفسهم واقعون في أشد الأزمات ينشدون مثلا أعلى غامضا غير محدود، ويسلكون لهذا الغامض مسالك غاضمة، فلو سألت أكثر الشبان عن حالهم وجدتهم ساخطين، ثم إذا سألتهم عن سبب سخطهم لم يجيبوا إجابة صريحة واضحة، فهم يضطربون بين ما هم عليه وهو لا يرضيهم، وبين أملهم في الحياة وهو بعيد عنهم، وهم يضطربون بين قديم رأوا عليه آباءهم وطالبوهم به وحديث يرونه في السينما وفي الطبقات العالية وفي الجالية الأوربية، وهم يضطربون بين علم وسياسة، وحب وواجب، وإرضاء أهل وإرضاء أصدقاء، وكل ما فعلناه أننا تركناهم في أزماتهم يحلونها بأنفسهم من غير أن نقدم إليهم أية عناية، وقد عودهم الآباء والمعلمون والقادة ألا يصارحوهم، فلا الشاب يجد من هؤلاء رحابة صدر في أن يبثه آلامه، ويفتح له قلبه، ويشرح له أزماتهن، ولا الآباء والمعلمون شجعوهم على مثل هذا، فكان من ذلك حاجز متين بين الابن وأبيه، والطالب ومربيه، فحمل عبئه وحده، من غير أن يسعفه من هو أكثر منه تجربة؛ ولذلك كثرت الضحايا؛ لأن الأزمات فوق مقدور الشبان، وهم وحدهم الذين يحاولون حلها بأنفسهم أو بأمثالهم من أصدقائهم. •••
لا يمكن أن نتقدم في فهم مشاكل الشباب ووضع العلاج الصحيح لها إلا بأمور ثلاثة: (الأول):
توافر جماعة من الإخصائيين في علمي النفس والاجتماع على دراسة نفسية الشباب وبيئاتهم دراسة علمية عميقة تمتحن فيها الأعراض، ويرجع فيها إلى الأسباب، وتمتحن التجارب ويوضع فيها العلاج على أسس هذه الدراسة، وما لم نفعل هذا فكل علاج نضعه يكون سطحيا، ويكون شأنه شأن طبيب متسرع يكتفي بالمظهر الخارجي، ويكتب تذكرته بناء على ذلك، فيكون المريض عرضة لخطر كبير.
ونحن إلى الآن لم نكون علماء من هذه الناحية، فعندنا علماء نفس واجتماع، ولكنهم عالمون بما في الكتب من نظريات، وقد يكون لهم فيها آراء، ولكن الذي أتمناه درجة وراء هذا، وهو علماء قد درسوا هذه النظريات، ثم كان لهم معمل لتطبيق هذه النظريات على أطفالنا وشبابنا، يمتحنون ويجربون، ويرصدون النتائج ويضعون الإحصائيات، ولهم رأي شخصي بعد كل ذلك في حالتنا نحن ووسطنا نحن، لا في الحالات الأوربية والأوساط الأوربية، وإلى أن يكون هذا نظل متخبطين في طرق العلاج، نكتفي بموضوعات إنشائية ونصائح أدبية ووصفات أشبه ما تكون بالوصفات البلدية. (الثاني):
وجود عيادات للأزمات النفسية تشبه عيادات أطباء الجسم، يشرف عليها إخصائيون في النفس والاجتماع، فقيمة النفس ليست أقل من قيمة الجسم، وأمراض النفس قد تصل إلى حد أخطر من أمراض الجسم، والشبان في هذا الطور محتاجون أشد الاحتياج إلى خبراء يعرفون سر أزماتهم وكيفية دوائهم.
وقد عنى بعض الإخصائيين في أوربا بهذه الناحية، وقصوا علينا حوادث كثيرة أنقذوا بها الشبان من مشاكل بعرضهم عليهم أنفسهم، حتى في حالات يصح أن نعدها نحن حالات ترف؛ قال أحدهم: جاءتني فتاة تستشيرني، وقالت إن أمها محبة للفنون الجميلة من موسيقى وتصوير، وهي تقضي كل أوقات فراغها في ذلك، وأباها رجل عمل يصرف أوقاته في إدارة متجره وأعماله، وزادت الفتاة أنها ورثت عن أمها حب الموسيقى، وورثت من أبيها حب إدارة العمل، وهي مضطربة أشد الاضطراب بين الوراثتين؛ فهي يوما تحب أن تلبث في بيتها تعزف على آلات الموسيقى، ويوما تكره ذلك كل الكره وتريد أن تخرج تدير عملا اجتماعيا، فهي لا تستقر على حال؛ فامتحن هذا الإخصائي أي ميليها أقوى ووصف لها علاجها.
وهكذا مئات من الحوادث تحكى وتعالج، ونحن لا نعنى بهذه الناحية أية عناية. (الثالث):
ما أشرت إليه من قبل، وهو أن هناك هوة سحيقة بين أولى الأمر والشبان، بين المعلمين والطلبة، وبين الآباء والشبان. ولست أقصد أن بين هؤلاء جفاء في المعاملة، وإنما أقصد أن الشاب لا يفتح نفسه لمعلمه وأبيه، والمعلم والأب لا يفتحان نفوسهما للشاب، فإذا تحدثوا جميعا فحديث عام يتصل بالدنيا العامة والدنيا التافهة، وبجوار ذلك خزانة مغلقة يكتمها الشاب عن أستاذه وأبيه، وإنما يفتحها لخاصة أصدقائه؛ في هذه الخزانة حب وغرام، وفيها خطط سياسية، وفيها أزمات نفسية، وعلى الجملة، ففيها أخطر شيء في حياة الشاب، وهو لا يفتحها لمن هو أكثر منه تجربة، وأوفى منه عقلا، وأعرف منه بالأيام وأحداثها، لا يفتحها لعالم نفسي ولا لطبيب روحي، ولا لمعلم ولا أب، وإنما يفتحها لشاب مثله لم تعركه الأيام، ولم تعلمه الحوادث، فيشير عليه بالرأي الفاشل والفكرة الصبيانية.
وتبعة هذا الجفاء، ووجود هذه الهوة، لا تقع على الشباب وحدهم، بل لا بد أن يتقدم الآباء والأساتذة والمعلمون خطوات في ذلك، ويشعروا الشبان أنهم يقدرون ظروفهم وحدة شبابهم، وأنهم لهم ناصحون لا مسيطرون، وأنهم يسوسونهم سياسة الطبيب لمريضه، لا سياسة الضابط لجنوده.
وبعد، فلا بد من إيجاد هذه الأنواع الثلاثة من العلاج، والإسراع بها، وإلا استفحل الداء وعز الدواء .
الفصل الثامن والأربعون
حديث إلى الشباب
تفضلت «مجلة الهلال» فطلبت إلي أن أتحدث هذا الشهر إلى «الشباب»، فرحبت بهذا الطلب؛ لأن الحديث مع الشباب وعن الشباب وإلى الشباب، حبيب إلى النفس قريب إلى القلب، وكيف لا يكون كذلك وهم - كما قال أبو العتاهية - رائحة الجنة، وأيامهم خير أيام الحياة، وهي أكبر مظاهر القوة، وأكبر مظاهر الإنسانية، وهي في الأيام كالربيع في الزمان، تغنى بها الشعراء يوم كانوا ينعمون بها، وبكوا عليها يوم حرموا منها، فالشباب كان شغلهم الشاغل إذا وجد وإذا فقد، وما أكثروا من القول في الحزن على الشيب إلا لأنهم أعظموا الشباب.
ثم أين حكمة الشيوخ من قوة الشباب، فلطالما كانت الحكمة معوقة عن العمل، بما ملئت من حذر، ومن دعوى بعد النظر، بل وما الحكمة التي زعموها إلا وليدة الشباب وبفضل الشباب ، فلولا حركة الشباب الدائمة، وإقدامهم في شجاعة على الخطأ والصواب، ما كانت حكمة ولا تجارب، ولا مران ولا شيء مما يدعي المحنكون.
والحق أن لا شيء في الشيوخ يعوض ما للشبان من لمعان في عيونهم، وقوة في عضلهم، ويقظة في عقلهم، ويقين في قلبهم، ليسوا بالأطفال يصعدون ولا بالشيوخ ينحدرون، وإنما هم في الذروة التي ليس بعدها غاية؛ هم حجر الزاوية وواسطة العقد في الأمة.
طريق المستقبل
في سن الشباب «ينعقد» الإنسان ويتحدد قالبه، ويكتب بنفسه قضاءه وقدره، ويرسم خطة نجاحه وفشله، وليس له بعد الشباب إلا تنفيذ ما رسم، واستقبال ما قضى وقدر، فإن حدث شيء غير عادي فبفعل الظروف لا بفعله.
وعلى الجملة، فحياته بعد شبابه هي حركة «القصور الذاتي»، واستمرار في دفعة الشباب، وإذا كتب لكل إنسان تاريخ فكتب الناس متشابهة في أن أهم فصولها فصول شبابه، وليس بعد «فصل» الشباب إلا فصل «النتيجة»، وهل بعد صب العجين في القالب إلا التصلب؟ أو هل بعد استكمال المقدمات إلا النتائج أو بعد انتهاء الفصول إلا الخاتمة، أو بعد انتهاء المهندس من رسم البناء والموافقة عليه إلا التنفيذ؟
ولكن - وا أسفاه - يخطئ كثير من الشباب فصب نفسه في قالب غير القالب الذي يناسبه، أو يؤلف كتاب تاريخه على غير ما خلق له، أو يرسم هندسة بنائه ومساحة نفسه التي يقيم عليها البناء لا قوائم شكل البناء، فيخرج معيبا مشوها، فكثير من رجال الأعمال أضاعوا شبابهم في دراسة نظرية بحتة، وكثير ممن حسن استعدادهم للفلسفة والنظريات البحتة أضاعوا شبابهم في عمل يدوي، ففقدت الأمة نبوغ هؤلاء وهؤلاء جميعا، وكنا كأننا في مصنع يكنس أرضه المهندس، ويهندس آلاته الكناس، ويقوم بكل عمل فيه من لا يحسنه؛ وهذا أكبر سبب في ضياع الشبان وفساد الأعمال.
فنقطة البدء في حياة الشباب يجب أن تكون هي دراسة نفسه، وتعرفه موضع نبوغه، ومواضع ضعفه، واختيار العمل الذي يعمله، ونوع الدراسة التي تناسبه، وتحديد الغاية التي ينشدها؛ ولعل الطبيعة لم تخل أحدا من نبوغ في ناحية من نواحي الحياة، وإنما يميت هذا النبوغ أو يضعفه أن الشاب لا يستكشفه، فيختار ما ليس له بأهل، فتكون النتيجة المحتومة الفشل تلو الفشل، ويلصق ذلك بالقضاء والقدر، وما القضاء والقدر في هذا إلا أن بين جنبيه كنزا لم يعرف مفتاحه، وكم بين العاطلين والبائسين ومن لم يجدوا قوت يومهم من لو اتجه وجهة صالحة لأصبح نابغة فنه أو علمه، ولأتاه الرزق من كل مكان!
ولكن كم من الناس يموتون عطشا في الصحراء والماء على مقربة منهم، لم يهتدوا إليه، ولم يوفقوا إلى مكانه!
وليس يستطيع أي عالم أو مرشد أو ولي أمر أن يستكشف موضع النبوغ في الشاب كما يستطيع الشاب نفسه؛ فنفسه بين جنبيه هو أقدر على أن يقيسها ويقيس اتجاهاتها، وهو لو دقق النظر وأخلص النية في تعرف جوانبها، ولم تغره المطامع الخادعة والمظاهر الكاذبة، لعرف سر نفسه وموضع عظمته.
صعوبات الشباب
وليست هذه هي الصعوبة الوحيدة للشباب، فهناك صعوبات عدة تعترضهم وتحاربهم، وتدفعهم إلى الشر، وتصدهم عن الخير.
من أهم هذه الصعوبات «الوراثة والبيئة»؛ فهناك كثير من الشباب ورثوا الميل إلى الإجرام، والميل إلى الخمر، والميل إلى النساء ونحو ذلك عن آبائهم، وظلت هذه الجذور الموروثة كامنة فيهم مدة صباهم، حتى إذا دخلوا في دور الشباب تحركت هذه الميول بقوة وشدة، فظهرت فيهم مرعبة مزعجة.
كما أن كثيرا من الظروف السيئة تحيط بالشاب الطيب فتلتهم ميوله الطيبة، وتهدم آماله وطموحه، وتستأصل شعوره بالشرف والنبل، وتجعل على عقله غشاوة فلا يستطيع التفكير، وتجعل كل طموحه وكل أمله وكل تفكيره في شهوات وضيعة، وكل يوم تقوم لنا البراهين العدة على هذا.
فمن هذه الظروف «الصداقة السيئة»؛ فقد يكون الشاب طاهرا نقيا، فما هو إلا أن يصاب بصديق يفتح له حديث الشر، ويحيي فيه كوامن شهواته، ويقص عليه مغامراته ومغامرات أمثاله في النساء وفي الشراب، ويستدرجه من سيجارة يدخنها، إلى كأس يشربها، إلى ما هو أسوأ من ذلك، فإذا رأسه مشتعل بالشر، وإذا هو يطلق كل ما اعتنقه من مبادئ الخير، وإذا هو لا يصلح لجد ولا لدراسة، وإذ هو لا يصلح إلا لضروب الشر.
ومثل هذه الصداقة، صداقة الكتب والمجلات والجرائد التي من هذا النوع؛ فهناك أنواع من الأدب مضلة مغوية، وكم من الشباب اتخذوا مثلهم العليا من روايات السينما الداعرة الفاتكة بالعقول، الممثلة للجرائم واللصوصية، المحركة لأسفل أنواع الشهوة، وكذلك الكتب والمجلات والصحف والصور التي من هذا القبيل.
ومما نأسف له أن هذا النظر وهذا القول يعد عند بعض الشبان من أخلاقية القرون الوسطى، لا يصح أن ينطبق على عصرهم وزمنهم، والواقع أن التجارب التي أجريت والحريات التي منحت في هذا الباب دلت على صحة أخلاقية القرون الوسطى، وأصبح المعاصرون من كتاب أرقى الأمم الممدنة يخشون من تهور الشباب في هذا الباب، وأصبحوا في فزع مما يرونه من المآسي التي يرتكبها الشاب باسم الحرية.
كيف يبني الشاب نفسه
والآن نتساءل: ماذا يجب أن يكون الشاب، وكيف الوصول إلى ما يجب؟
أول واجب على الشاب أن يبني نفسه، فينظر في ملكاته واستعداداته، ويكون منها نفسه على أحسن وضع يمكن أن تكون عليه المواد الأولية، والناس كلهم مختلفون في كمية الملكات والاستعدادات وكيفياتها، ولكن كل كمية وكيفية يمكن أن يصاغ منها إنسان جيد في ناحية من النواحي، له شخصية ممتازة نوع امتياز، وليس يفسد هذا العمل إلا عدم القدرة على البناء، أو عدم الاهتداء لخير الأشكال.
يجب أن يبني نفسه جسميا وعقليا وخلقيا، فيرسم له مثلا أعلى محدودا في كل ناحية من هذه النواحي، ويرسم خطة السير للوصول إلى هذه الغاية، ولا يترك نفسه سهلا كالسفينة بلا قائد تتقاذفها الأمواج وتدفعها الرياح كما تهوي؛ ولا يتسنى له ذلك إلا إذا امتلأ عقيدة بخير هذا المثل ومناسبته له، وقد دلت التجارب على أن القلب لا العقل هو الذي يبني الإنسان ويكتب تاريخه، ويحدد مقدار نجاحه، فلا خير في عقل كبير لا قلب معه؛ وتاريخ الإنسانية يشهد أن خدمة القلوب الكبيرة لها أقوى من خدمة العقول الكبيرة.
وأهم ما يدعو إليه القلب ويتطلبه من الشاب أن يكون «رجلا»، والرجولة وصف جامع لكثير من الصفات المحمودة؛ أهمها: الجد في العمل، والشجاعة في مواجهة الصعاب، والحرص على المبادئ، وهذه الصفة نحن الشرقيين أحوج ما نكون إليها الآن، وأحق صفة لكثرة الكلام فيها؛ لأني أرى في الشباب ميلا إلى الانحدار والتحلل من الواجبات، وعدم الاكتراث بالمبادئ، والميوعة في السلوك، وهي كلها مظاهر لقلة «الرجولة» أو عدمها، وهي أكبر سبب فيما نرى من عدم نجاح الشبان في الأعمال الحرة وتهافتهم على وظائف الحكومة؛ لأن طلب العيش في الحكومة سهل يسير، أما العمل الحر فيتطلب جدا فائقا، ونشاطا كبيرا، وعملا شاقا في زمن طويل، وإعمال العقل في الابتكار والتفكير في وسائل النجاح، فإذا لم يكن الشاب مسلحا بكل هذه الخصال فشل فشلا تاما.
لماذا يفشل الشاب
ولعل من أكبر أسباب هذا الفشل وعدم هذا الخلق - خلق الرجولة - أن الآباء لم يتعودوا عندنا أن يزجوا بأبنائهم الشبان في معترك الحياة ويحملوهم عبء أنفسهم، بل يفتحون لهم صدورهم وبيوتهم وجيوبهم حتى بعد أن يتخرجوا من المدارس العالية، ويتركونهم في البيت يأكلون ويشربون وينامون وينعمون، وكل عملهم السعي في دواوين الحكومة لعلهم يجدون لهم «وظيفة».
ولم يعتد الآباء فينا هذه العادة الجيدة التي اعتادها الغربيون، وهي أنهم منذ تعليمهم يطلبون منهم أن يصطدموا بالحياة، ويلجئونهم أن يجدوا لهم عملا، وأن يبحثوا لهم عن قوت، وأنهم وقد أعانوهم على إتمام دروسهم قد أنهوا الواجب عليهم، فوجب على الشاب أن يحمل عبء نفسه، ويتعلم أن يعوم في الحياة كما يعوم في البحر، وأن يكافح الأمواج ويحارب الصعاب، ويبذل جهده حتى يجد قوته.
فهذا هو ما يبني الشاب حقا، ويستخرج منه الرجولة، أما طريقتنا التي نسير عليها فلا نتيجة لها إلا ما نشاهد من ميوعة وتسكع على أبواب المصالح الحكومية، ومبلغ قليل يكسبه من عرق جبينه وبجده وباعتماده على نفسه خير في تكوين خلقه من عشرة أمثاله يحصلها من وظيفة حكومية أو من إعانة من والديه.
إن الشاب يحب الوظيفة لأنها عمل ميكانيكي محض، عمل راتب كعمل الآلة يعقب رزقا محدودا يقبضه آخر الشهر، وأشجع منه وأكبر رجولة من يغامر ويستخرج رزقه من فم الأسد؛ فالأول تسلمه الوظيفة إلى الخنوع والاستسلام والتواكل وعدم الثقة بالنفس، على حين أن جد الآخر ومشقته في تحصيل العيش يكسبه شجاعة وجرأة وطموحا واحتمالا للصعاب.
وللوصول إلى هذا يجب أن يكون الشاب - دائما - باسما للحياة، متفائلا لا متشائما، آملا في النجاح؛ فاليأس يستلزم الفشل والخيبة، ويسمم الحياة كما يسمم «المكروب» الماء.
وأخيرا على الشاب أن يمتلئ شعورا بأنه مكلف أن يفعل ما يستطيع لتصحيح الخطأ الذي يقع فيه الناس من جرائم وشرور، فلا يكون في حياته أنانيا بحتا لا ينظر إلا إلى نفسه، بل هو مطالب بعد أن يبني نفسه أن يشترك في بناء أمته، وفي بناء الإنسانية عامة، على قدر جهده وكفاياته، بخلقه وبعلمه وبماله وجاهه.
على الشباب أن يكونوا قوة فاعلة دائمة في حياة أمتهم، ويجب أن يتحملوا في الحياة أكبر عبء؛ لأن حيويتهم في الأمة أقوى حيوية، وهم المقياس الصحيح لرقي الأمة أو انحطاطها، فإذا أردت أن تعرف هل ارتقت أمة أو انحطت، وما مقدار هذا الرقي أو الانحطاط ، فاعرف الفرق بين شباب الأمة وشيوخها، فبمقدار تفوق الشبان على الشيوخ في العلم والخلق والصحة يكون الرقي، وبمقدار ضعفهم عن الشيوخ في ذلك يكون الانحطاط.
إن كل طبقة من طبقات الأمة لها رسالة يجب أن تؤديها، وليس في كل هذا أجدى وأنفع من أن يؤدي الشباب رسالتهم.
Bog aan la aqoon