وهذا يفسر كل ما روي عن الأحنف: كان لا يعبأ بالمال، وكان لا يعبأ بالحياة، وكان يفر من الشرف والشرف يتبعه، وكان يخضع للحق إذا لزمه خضوع الذليل المستخذي، وإذا كان الحق بجانبه دافع عنه دفاع المستأسد الضاري، يقف أمام علي وأمام معاوية وأمام زياد بن أبيه، فيجهر بالحق الصريح من غير مجمجة ولا مواربة ولا يبالي ما بعده.
تولى في زمن عمر بن خطاب فتح خراسان، فدوخ الفرس وملكهم يزدجرد، ولقي من الحروب ما تشيب من هوله الولدان، ولكنه صبر وظفر، وأنجد ملك الفرس الترك وأهل فرغانة والصغد، فلم يكن فيهم أمام الأحنف وجنده غناء.
ووقف الأحنف العربي البدوي وليد الصحراء في شملته يطارد يزدجرد المتوج، ربيب النعمة، وعصارة المدنية، وسليل الأكاسرة، ونتاج الحروب المنظمة بين فارس والروم، في العدد والعديد، والجنود والبنود، فظفر التميمي بسيد فارس، وطارده حيثما حل، حتى جاوز حدود بلاده وخرج منها لا إلى رجعة وأقبل أهل فارس على الأحنف فصافحوه ودفعوا إليه الخزائن والأموال وتراجعوا إلى بلدانهم وأموالهم، على أفضل مما كانوا عليه زمن الأكاسرة.
فلما نشبت الحرب بين علي ومعاوية رأى الحق في جانب علي فانضم إليه بقومه، وأعانه بسيفه ورأيه؛ فاشترك معه في حرب صفين ونصحه ألا يكون أبو موسى الأشعرى حكما، وظل مخلصا له العمل والقول حتى قتل علي. ودانت البلاد لمعاوية، فأطاع معاوية في شمم وإباء. دخل عليه يوما فقال له معاوية: أنت الشاهر علينا سيفك يوم صفين؟ فقال له: يا معاوية لا تذكر ما مضى منا ولا ترد الأمور على أدبارها، فإن السيوف التي قاتلناك بها على عواتقنا، والقلوب التي أبغضناك بها بين جوانحنا، والله لا تمد إلينا شبرا من غدر إلا مددنا إليك ذراعا من ختر، وإن شئت لتستصفين كدر قلوبنا بصفو من عفوك، فقال له معاوية: فإني أفعل. ثم استرضاه ومن معه.
ولما أراد معاوية أن يبايع لابنه يزيد أخذ الناس يتكلمون في مدح يزيد والثناء عليه، ويمدحون معاوية على عمله، والأحنف ساكت. فقال له معاوية: ما لك لا تتكلم يا أبا بحر؟ - وكانت كنيته - فقال قولته المشهورة: «أخاف الله إن كذبت، وأخافكم إن صدقت». فكانت كنايته أبلغ من التصريح.
بعد أن قتل علي رأى من مصلحة المسلمين أن يشايع الأمويين، فإن هذا أقرب إلى الوحدة وأدعى إلى الألفة، حتى مع ما هم فيه من ظلم أحيانا وطغيان أحيانا، يدل على ذلك تاريخه وأقواله، فقد استنصر به الحسن بن علي على معاوية فلم يجبه، وقال: «قد بلونا حسنا وآل حسن فلم نجد عندهم إيالة الملك، ولا مكيدة الحرب» - وكان بينه وبين عبد الله بن الزبير جفاء، فلم يشايعه في الخروج، ورأيناه ينصح قوما من تميم أرادوا أن ينضموا إلى ابن الزبير ألا يفعلوا.
ولكنه كان يطيع الأمويين وولاتهم طاعة الحازم العاقل، ينقدهم فيما يرى ويمحضهم النصح في صدق وإخلاص؛ وله موقف مع زياد من خير المواقف أثرا في تاريخ الإسلام، فقد هم زياد أن يقتل الموالي لكثرتهم ومزاحمتهم العرب، فاستشار الأحنف فقال: إن ذلك ليس لك، إن رسول الله لم يقتل من الناس من قال: لا إله إلا الله وشهد أن محمدا رسول الله، وإنهم غلة الناس، وهم الذين يقيمون أسواق المسلمين، أفتجعل العرب يقيمون أسواقهم قصابين وقصارين وحجامين؟ فأذعن زياد لرأيه ونزل على إشارته؛ ويقول الأحنف: إنه ما بات ليلة أطول منها، خشية أن ينفذ زياد فكرته.
ووقف في البصرة موقفا بديعا يصلح بين القبائل المختلفة المتعادية من الأزد وبكر وعبد القيس، ويبذل من ماله ديات لما يقع من القتل حتى يلتئم صدعهم ويجتمع شملهم ويعيشوا في البصرة عيشة هادئة مطمئنة.
لقد عابوا عليه أنه ذكر أمامه الزبير بن العوام عندما ترك القتال يوم الجمل ومر ببني تميم، وقال: جمع الزبير بين الناس يقتل بعضهم بعضا ويريد أن ينجو إلى أهله! فتبعه رجل سمع هذا القول فقتله، فقال الناس: إن الأحنف قتل الزبير بكلامه.
كما عابوه بأنه كان سميعا مطيعا لجاريته «زبراء» حتى كان الناس يكنون عن وقوع الحرب بقولهم: «غضبت زبراء»؛ لأنها إذا غضبت غضب الأحنف، وإذا غضب الأحنف شرعت الأسنة وانتضيت السيوف.
Bog aan la aqoon