ولو شئت لعددت كثيرا من أدباء العرب والغرب، أنطقهم بالأدب حينا ألم الفقر، وحينا ألم الحب، وحينا ألم النفي، وحينا ألم الحنين إلى الأوطان، إلى غير هذا من أنواع الآلام.
نعم قد أجدت اللذة على الأدب كثيرا - لقد أنتجت لهو امرئ القيس وطرفة، وخمر أبي نواس، وفخر أبي فراس، ومجون الماجنين، وفكاهة العابثين؛ وكان غنى ابن المعتز ولذته ينبوعا صافيا لحسن التشبيهات، وجمال الاستعارات - وخلفت لذة هؤلاء أدبا ضاحكا، كما خلف الألم أدبا باكيا. خلفت اللذة أدب المسلاة (الكوميديا)، وخلف الألم أدب المأساة (التراجيديا)؛ ولكن أي الأدبين أفعل في النفس؟ وأيهما أدل على صدق الحس؟ وأيهما أنبل عاطفة؟ وأيهما أكرم شعورا؟ أي النفسين خير: أمن يبكي من رؤية البائسين، أم من ضحك من رؤية الساخرين! أمن رأى فقيرا فعطف عليه، أو هزأة فضحك منه؟! •••
على أني خشيت أن تكون اللذة التي أخرجت الأدب الضاحك ليست إلا ألما مفضضا أو علقما مبهرجا. أليست خمر أبي نواس محورها «وداوني بالتي كانت هي الداء»؟ أوليس قد هام بها فرارا من ألم الدنيا ومتاعب الحياة؟
ولو فتشت عن دخيلة ابن المعتز، لرأيت ألما قد بطن بلذة، وجحيما في ثوب نعيم. •••
ثم تعال إلى الحياة الاجتماعية، ألست ترى معي أن خير الأمم من تألم للشر يصيبه، والضر يلحق به؟ وهل تحاول أمة أن تصلح ما بها إلا إذا بدأت فأحست بالألم؟ أوليس من علامة تماثل المريض للشفاء أن يحس بالألم بعد الغيبوبة؟ ثم من هو المصلح: أليس أكثر قومه ألما مما هم فيه؟ أوليس هو أبعدهم نظرا وأصدقهم حسا! دعته رؤية ما لم يروا، وإحساسه ما لم يحسوا، أن يكون أعمق منهم ألما وأشد منهم سخطا، فلم يسعه إلا أن يجهر بالإصلاح، وأن يتحمل عن رضى ما يصيبه من ألم؛ لأن ألم نفسه مما يرى بهم، أكبر من أي ألم يناله منهم؟ - وما الوطنية؟ أليست شعورا بألم يتطلب العمل؟
ومن نعم الله أن أوجد أنواعا من الألم هي آلام لذيذة تتطلبها النفوس الراقية وتتعشقها. ولو عرض عليها أن تعوض عنها لذائذ صرفة لما قبلتها. فلو عرض على الفيلسوف المتألم لذة غنى جاهل لرفض في غير تردد، ولو خير المصلح المجاهد ينغص عليه قومه، وينغص عليه بعد نظره، وينغص عليه قوة شعوره، ما اختار من حياته بديلا - ذلك لأن آلامه سرى فيها نوع من اللذة لا يدركه إلا العارفون، وأصبح يهيم بهذا الألم اللذيذ، ويرى اللذة الصرفة لذة أليمة - وكل ميسر لما خلق له.
ديمقراطية الطبيعة
يعجبني البحر في جماله وبهائه، وجلاله ولا نهايته؛ ويعجبني كذلك في ديمقراطيته، فهو لا يسمح لأحد أن ينغمس في مائه إلا إذا تجرد من كل المظاهر الكاذبة التي خلقتها المدنية: من ملابسه التي تميز بين الغني والفقير، ومن ريائه ونفاقه ومظاهره التي اصطنعها ليجعل من الناس طبقات يتحكم بعضها في بعض. ففي البحر تتساوى الرءوس، لا غني ولا فقير، ولا ذو جاه ولا عديم الجاه، ولا عالم ولا جاهل، ولا حاكم ولا محكوم، لا يتميزون بشيء إلا بلباس البحر. وفي الحقيقة ليس هو لباس بحر، وإنما هو لباس البر، فليس للبحر لباس إلا ماؤه. ودليل أنه لباس البر أن الناس حاولوا به أن يتميز بعضهم من بعض، واتخذوا منه شعارا للغنى والأناقة واللباقة والوجاهة؛ والبحر لا يعرف شيئا من ذلك. إنما يعرف ذلك البر؛ ومن أجل هذا لا يكاد ينغمس الناس في البحر، حتى يسدل - بمائه الأزرق الجميل - ستارا على كل أثواب الرياء، فلا ترى بعد إلا رءوسا عارية لا يميز بينهما شيء من الصنعة؛ ثم هو يرسل أمواجه تداعب الناس على السواء، فتغازل الأسود كما تغازل الأبيض، وتصفع الجميل كما تصفع القبيح وتعبث بلحية العالم كما تلعب برأس الجاهل؛ وأحيانا يهيج هائجه، وتثور حفيظته، فيزفر من الغضب، حتى ليكاد يخرج من إهابه، ويطفر من ثيابه ويربد وجهه فيلفظ بالزبد، وينتفخ ويرتعد، ويرقص من غير طرب؛ وهو في هذه الحال لا ينسى ديمقراطيته؛ يأتي للباخرة الضخمة قد أخذت زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها فيبتلعها في لحظة؛ لا تغني عنه محصنات العلم القديم ولا الحديث، كما يبتلع أحيانا صبيا وديعا وشيخا ضعيفا، ليبرهن أنه لا يعبأ بقوة ولا ضعف، ولا يخشى بأس كمي، ولا يرحم ضعف أعزل؛ سواء هو في هزله وجده، سواء هو في حلمه وغضبه. ما أجمل البحر، وما أجله، وما ألطفه، وما أقساه!
على أنه يظهر لي أن الطبيعة في جملتها ديمقراطية لا أرستقراطية، ولا أرستقراطية إلا في الإنسان الكاذب؛ فالشمس ترسل أشعتها الذهبية، والقمر أشعته الفضية على الناس سواء: على المؤمن والكافر، والأسود والأبيض، والغني والفقير ، والكوخ الحقير، والقصر الكبير.
ويأتي الجو بريح سموم فتلفح وجوه الناس على السواء، لا تميز عظيما ولا حقيرا، ولا شريفا ولا وضيعا؛ ثم يأتي بريح طيبة تنعش الناس كذلك، لا يعرف في شيء من ذلك محاباة، ولا يعرف طبقات، ولا يعرف أي نوع من أنواع التفاوت التي تواضع عليها الناس؛ ويرسل في الصيف شواظا من نار فيدخل على الأمير في قصره، وعلى الفقير في كوخه، فلا يهاب عظيما، ولا يحتقر وضيعا؛ ويرسل في الشتاء برده القارس، فلا يستطيع أن يتقيه الغني بصوفه وملابسه، ولا بمدفأته وناره، كما لا يتقيه الفقير في عدمه وبؤسه؛ ثم تطلع شمس جميلة، ويعتدل الجو، فتحضن الطبيعة الناس على السواء، وتكون لهم جميعا أما حنونا مشفقة بارة. إن تحدث الباشا أو البك في نفسه بأنه فوق طبقات العامة، وأنه يستطيع في شرع العرف والعادة أن ينعم بما لم ينعموا، فتفسح له الطريق، وتخلي له السبيل، وتفتح له أبواب المجتمعات، ويعامل أولاده وأقاربه بما لا يعامل به الفقراء - فلن تحدثه نفسه أن يمتاز من الفقير في حر ولا برد، ولا نور وظلام؛ فإن أخطأ في ذلك وظن أنه يغالب الطبيعة في شيء من قوانينها صفعته صفعة آمن بعدها بالقدر خيره وشره، حلوه ومره، وأدرك أنه إن علا الناس بماله أو جاهه، وإن تلاعب بأوضاع الناس لسخف الناس، فهو أمام أوضاع الطبيعة حقير ذليل. •••
Bog aan la aqoon