ومثل الطعوم غيرها من الفنون، فالذوق العام المصري يقدر الموسيقى المصرية أكثر مما يقدر الموسيقى الغربية، بل لا يستلذها ولا يرى فيها جمالا، كما أن أكثر الغربيين لا يجد في الموسيقى الشرقية طعما، ولا يقيم لها وزنا.
وكذلك أشكال البناء وما يستجاد منها وما لا يستجاد، وأنواع الملابس وألوانها وما يستجمل منها وما يستهجن: كلها خاضعة للذوق العام في الأمة، ولكل أمة في هذه الشئون ذوقها؛ يميزها من غيرها ويضعها في درجة خاصة من سلم الرقي.
وهذا الذوق العام في كل أمة هو الذي يقوم الأدب ويتذوقه؛ وهو الذي يجعل لكل أمة أدبا خاصا؛ فالأدب المصري مثله مثل الطعوم المصرية، والغناء المصري، والبناء المصري، إنما يتذوقه المصريون بذوقهم العام، ولا يتذوقه الغربيون بذوقهم العام، كما لا يتذوقون طعومنا وغناءنا، فالنوادر المصرية التي تعجب المصري حتى تبعثه على أشد الضحك وأعمقه، قد لا تحمل الأجنبي على التبسم، والقصص و«الحواديت» المصرية التي تسترق لب المصري وتستهويه، قد لا يأبه لها الأوربي ولا يعيرها التفاتا إذا ترجمت له. نعم قد يعجب المصري بآيات من الآداب الغربية، ولكنه لا يتم له ذلك إلا بعد أن يحور ذوقه ويمرنه تمرينا طويلا على تذوق هذا الأدب، كما يمرن المصري ذوقه على استجادة الموسيقى الغربية، فيستجيدها بعد طول المران، ولكن هذا ليس من الذوق العام في شيء.
كما لا نستطيع أن ننكر أن هناك نوعا من الآداب عالميا، إذا ترجم إلى أي لغة استجيد، كنوع من القصص ونوع من الأمثال، ولكن سبب ذلك أن هناك قدرا مشتركا بين الأذواق، كما أن هناك قدرا مشتركا بين العقول، فاستجادة المصريين لبعض الأدب الغربي، أو الغربيين لبعض الأدب العربي، شأنها كشأن اشتراك الناس جميعا في استجادة بعض الطعوم أو بعض قطع الموسيقى، وهذا لا يغير فيما ادعينا شيئا من أن لكل أمة ذوقا عاما خاصا بها.
وهذا الذوق العام للأمة يستبد بالأفراد استبدادا لا حد له، فالناس جميعا خاضعون لأنواع شتى من الاستبداد، كاستبداد النظم السياسية، واستبداد العقول، واستبداد الرؤساء، ولكن هذه كلها محدودة الدائرة. أما استبداد الذوق العام فلا حد له، ولا سلطان يشبه سلطانه؛ ذلك أنه بجانب الذوق العام للأمة ذوق خاص بالفرد؛ فكل فرد له ذوقه الخاص يستجيد به بعض الأشياء ولا يستجيد بعضا، ويستحسن به ويستهجن، ويستجمل ويستقبح؛ ولكنه في كل ذلك مسلوب الحرية، خاضع خضوعا تاما للذوق العام. قد يشتد الحر فلا يطيق الإنسان نفسه، وقد يكون في نوع من الثياب ما يخفف وطأته ويكسر من حدته؛ ولكن لا بد أن يخضع للذوق العام، فيلبس الخناق أو رباط الرقبة وما إلى ذلك، خضوعا للذوق العام وخشية من استهجانه؛ فليس إنسان يلبس ما يحب ولا يأكل ما يحب على النمط الذي يحب، ولا يتكلم كما يحب على النمط الذي يحب؛ إنما هو في كل ذلك عبد أسير ذليل مقيد مغلول، في كل خطوة يخطوها، وفي كل نفس يتنفسه. لقد قيدتنا القوانين بأعمال يجب أن نعملها، وأعمال يجب أن نتجنبها، ولكنها ليست شيئا بجانب أوامر الذوق العام ونواهيه. وعقوبات الذوق العام سريعة فاتكة متنوعة، فهو يعاقب بالاحتقار والازدراء، ويعاقب بالنظر الشزر، والكلمة الجارحة القاسية، ويعاقب بالنقد والتجريح؛ وهو في كل ذلك لا يسمع دفاعا، ولا يقبل عذرا، ولا يؤجل عقوبة، ولا يقبل حكمة نقضا، ولا يعرف حكما مع وقف التنفيذ - لا شيء من ذلك كله، ولكن حكمه حكم صارم، قاس ظالم.
وكذلك الشأن في كل نوع من أنواع الفنون؛ فإذا اشتهر مغن وأعجب ذوق الجمهور فلا حق لك أن تعيبه وإذا عبته فعبه سرا، وحذار أن تجهر بذلك فيكون دليلا على فساد ذوقك وضعف حسك.
ومثل ذلك في الأدب - إذا قال الناس: إن سحبان وائل خطيب يضرب به المثل في البيان، فيقال: أفصح من سحبان، فقل مثلهم، وإن كنت لم تقف على شيء يثبت فصاحته ويبرهن على بلاغته، وإن فتشت عن كل أقواله فلم تجد إلا أسطرا ثلاثة قال فيها: (إن الدنيا دار بلاغ، والآخرة دار قرار) إلخ. ولم تستجد هذا فإنهم ذوقك وكرر قولهم: «أبلغ من سحبان».
وإذا قالوا: إن من أبلغ خطب العرب خطبة قس بن ساعدة: (أيها الناس، اسمعوا وعوا، وإذا وعيتم فانتفعوا) إلخ، فقل كما قالوا، وإن لم تتذوق.
وكذلك فاخضع دائما لحكمهم وذوقهم؛ فمن قالوا فيه: إنه إمام الأدب أو سيد الشعراء غير مدافع، أو قالوا: إنه شاعر متكلف، أو أديب متخلف، فإياك أن تحدثك نفسك بأن تقلب أوضاعهم أو تخالف إجماعهم.
هكذا استبداد الذوق العام، ولست تستطيع الخروج عليه وإعلان استقلال ذوقك عنه إلا بثورة عنيفة على الذوق، وتعرض لكل أنواع العقوبات الذوقية. •••
Bog aan la aqoon