156

Fayd Khatir

فيض الخاطر (الجزء الأول)

Noocyada

والصدق يمنح الأدب قوة؛ لأن الأديب إذا عبر عما تكنه نفسه ويختلج به قوله أقوى تأثيرا، وأشد حياة. والأديب الحق هو من تأثرت نفسه بالحياة ومظاهرها تأثرا خاصا يتفق ونفسيته ومزاجه، ثم هو يحاول بأدبه أن ينقل هذا التأثر إلى الناس، ويجعلهم يشعرون بما يشعر وينفعلون بما ينفعل؛ فإن هو لم يتأثر وحاول أن يؤثر كان أديبا زائفا، وكان الفرق بينه وبين الأديب الحق كالفرق بين النائحة الثكلى والنائحة المستأجرة.

وهذا الصدق في التعبير هو الذي يسبغ على الأدب مسحة الخلود؛ فالشعر الذي قيل في المديح والهجاء أقل قيمة وخلودا مما قاله الشعراء في وصف عواطفهم؛ فرثاء ابن الرومي لولديه أبقى من هجائه لخالد بن قحطبة، واعتداد المتنبي بنفسه في شعره أقوى من مدحه لغيره.

بل ما لنا نذهب بعيدا ونحن نرى من الكتاب المحدثين من توزع أدبهم بين أدب سياسي وأدب قومي أو عالمي؟ فأما كتابتهم السياسية فقيمتها وقتية لا تقدر كثيرا إلا في ظرفها وبيئتها وزمنها، وأما أدبهم القومي أو العالمي فكثير منه يستحق الخلود والبقاء، صالح لأن يقرأ ويردد على اختلاف الزمان والمكان. •••

كتب كاتب أمريكي فقال: «يسألني كثير من الشبان أن أضع لهم مبادىء تساعدهم في الكتابة، فلهم أقرر هذا المبدأ وهو: «اكتب في الموضوع الذي تجيد معرفته والشعور به. ثم اكتب ولا تنظر أي النظر لما تحدثه كتابتك من نتيجه وأثر، وكل ما يجب أن تعني به أن تعتقد أن ما تكتبه حق، ولتكن نتيجته ما تكون، وليكن مرشدك في كتابتك الحياة، ولا تخش من نقد يوجه إليك إلا من ناحية أنه حق أو ليس بحق».

وهذا القول صحيح كل الصحة من حيث نصحه للكاتب ألا يكتب إلا ما يعتقده الحق، ولكنه غير صحيح من حيث ألا ينظر إلى ما يترتب على عمله من نتائج. فإن أراد أن الكاتب لا يهتم بنقد ناقد له من جهة الأسلوب ومن جهة العيب عليه والازدراء به ونحو ذلك، فهذا صحيح إلى حد كبير؛ فمتى أرضى الكاتب ضميره وعنى بالموضوع بحثا ودرسا وإخراجا فلا ضير عليه من نقد الناقدين، وعليه ألا يخشى بأسهم، وأن ينتفع بما يوجه إليه من نقد صحيح. أما إن أراد هذا الناصح أن الكاتب يجب ألا يهتم إلا بقول الحق من غير نظر إلى الموضوع الذي يكتبه وما يترتب على كتابته فيه من نتائج فغير صحيح، إذ ليس كل الحق يقال، وليس يقال الحق للناس جميعا في أدوار حياتهم المختلفة؛ فالكاتب الحق أو الفنان الحق يجب أن يسأل نفسه عن مقدار العواطف التي تثيرها كتابته أو فنه؛ فهناك قوم مرضى بأعصابهم، ومرضى بشهواتهم، ومرضى بحياتهم العقلية والاجتماعية، ومن الخطر أن يغذي هؤلاء بأنواع من الأدب تزيد في هياج أعصابهم وشهواتهم، وإن كان ما يقال حقا وصدقا. فنحن إذا طالبنا الأديب ألا يقول إلا الصدق فنحن نطالبه أيضا - لا من الناحية الأدبية بل من الناحية الاجتماعية - ألا يقول إلا الصدق الذي يتفق والصالح العام.

وربما خفي هذا الرأي على بعض الكتاب، فتعرضوا لشرح مخاز اجتماعية في رواياتهم أو مقالاتهم، واحتموا بأنهم يقولون صدقا، ويصغون واقعا، أو كما يفعل بعض كتاب السياسة، لا يتحرجون من أن يقولوا كل ما يعلمون عن خصومهم، واكتفى شرفاؤهم بالوقوف عند الصدق، واعتقدوا أنهم ما لم يختلقوا فقد أرضوا ضمائرهم وبروا بأنفسهم.

وهذا وذاك خطأ بين، فكم من الحقائق لا يصح ذكرها ولا عرضها عرضا أدبيا، وإذا قيلت أو عرضت فلا تقال لكل إنسان وفي كل زمان، وخير الكتاب من لم يعرض من مظاهر الحياة إلا لما يصح عرضه، واتجه في حياته الأدبية إلى أن يصور المثل الأعلى للحياة في صورة واقعية، وسخر قلمه ولسانه وعواطفه لخدمة القومية والإنسانية .

لحظات التجلي

لكثير من الناس - وخاصة العقليين والروحانيين - لحظات تضيء فيها نفوسهم، حتى كأنها المرأة الصافية، أو الشعلة الملتهبة، كل جانب فيها مضيء، وكل العالم منعكس عليها، يراه فيها كما يرى السماء في الماء.

يحس بهذا الأديب، فتراه حينا وقد غزرت معانيه، وتدفقت عليه من كل جانب، حتى ليحار في الاختيار، ماذا يأخذ وماذا يذر، وبم يفضل بعضها على بعض، وحتى كأنه يغترف من بحر، أو يملي عن حفظ، ويصدر عنه إذ ذاك القول السلس والمعاني الغزيرة، والشعر المتدفق؛ هذه اللحظات هي «لحظات التجلي». وتأتي عليه أوقات وقد جمدت قريحته، وأجدب فكره، يعاني في البحث ما يعاني، ثم لا يأتي إلا بحمأة وقليل ماء، ويصعب عليه القول كأنه يمتح من بئر، أو يستنبط من صخر.

Bog aan la aqoon