Furashadii Carabta ee Masar
فتح العرب لمصر
Noocyada
وقد نكون على حق إذا نحن قلنا إن الأمر بقي على تلك الحال إلى العصور الحديثة، غير أن ذلك الانفصال طور متوسط في حياة الشعوب، وما كان لشعب أن يبقى على ذلك إلى الأبد؛ فإن سنة الطبيعة أن يمتزج سكان القطر الواحد، ويشتركوا في المصالح، ويشعروا بأنهم أهل وطن واحد، تجمعهم الحياة نفسها، وتقرب بينهم أواصر الجوار والاشتراك في سراء الظروف وضرائها، على أن بلوغ ذلك لا يكون إلا إذا مهدت له الظروف، وعملت على إحداثه الأحداث. والأحداث لا تخلق وإن سعى إليها الناس، بل إن الناس ينساقون فيها، وقد يؤثرون فيها بعض الأثر أثناء اندفاعهم في تيارها القوي. وقد تهيأت الظروف إلى ذلك الامتزاج منذ عهد قريب؛ فقد يمكن أن نقول - وفي قولنا كل ما يدعو إلى الوثوق - إن سنة 1919 كانت حدا فاصلا بين عهد قديم وعهد حديث؛ بين عهد لم يكن الشعب المصري يحس أنه شعب مرتبط مشترك، وعهد آخر يشعر فيه المصريون جميعا أنهم أهل بلاد واحدة. وها نحن اليوم نشهد جيلا جديدا من المصريين آخذا في الامتزاج والاشتراك على أساس وطنية صادقة، ووحدة لا تفصم عراها؛ فلو ظهر هذا الكتاب من نحو عشرين سنة لما قدره أهل مصر قدره، ولما تبينوا فيه روح مؤلفه العادل، ولما أدركوا ما في صدره من سعة، وما في عقله من رجحان، وأما اليوم فإنهم لا شك يقدرونه، ويدركون ما فيه من عدالة ونفوذ رأي؛ فمؤلف الكتاب معجب بالعربي، ومعجب بالقبطي؛ فهو يذكر حوادث التاريخ ذكر القاضي الناقد، لا يعبأ أين تميل به الحجة؛ لأنه لا يقصد إلى نصر فئة، ولا الدعاية لشعب، بل يذكر ما كان في الماضي، ويوضح ما فيه من المسائل من غير أن تكون في نفسه مرارة، أو أن يكون في حكمه زيغ؛ فهو إن رأى الحجة مع العرب أبان عنها بيانا شافيا، وإن رأى الحجة مع القبط كشف عنها كشفا صريحا، وفي نفسه سرور الباحث عن الحقيقة إذا وفق إلى كشفها؛ إذ ليس في قلبه ما يسخطه على تلك الحقيقة إذا هي تبدت في جانب دون جانب؛ فالمصريون في هذه الأيام يستطيعون أن ينظروا إلى الماضي نظرة إلى تاريخ جرت حوادثه جريانا طبيعيا، ساقتها إليه الظروف التي كان لا بد من أن تسوقها إليه، ويستطيعون إذا رأوا ما يؤلم في ذلك الماضي أن يتخذوا منه عبرة من غير أن تثور حفيظتهم؛ إذ إن الأخ لا تبعده عن أخيه ذكريات ما كان بين الجدود من إحن أو منافسات؛ فلنا أن نعتقد أن قيمة هذا الكتاب تبدو على حقيقتها اليوم، وما كانت لتظهر من قبل مثل ظهورها هذا؛ إذ كانت تتنازع القلوب عوامل الحياة نفسها، فتغلب على حكمها.
كان للمؤلف فضل التعرض لبعض مفتريات التاريخ، وكانت شائعة بين الناس يأخذونها تلقفا بغير تمحيص، وطالما كانت تلك المفتريات عضدا لمن أراد البغي على المصريين؛ إذ يسوقها حجة عليهم، عليها مظهر الصدق التاريخي، فينخدع بها القارئ.
وإليك مثلين لتوضيح ذلك؛ فقد تناول في أول بحثه مسألة طالما رددها المؤرخون، وهي اتهام المصريين القبط بأنهم كانوا دائما يرحبون بالغزاة الأجانب، فرحبوا أولا بالفرس، ورحبوا ثانيا بالعرب؛ يريدون بذلك أن يتخلصوا من نير ليضعوا نيرا آخر على رقابهم. وقد أظهر المؤلف في حادث من هذين الحادثين كذب ما ادعاه المغرضون من المؤرخين، وخلص إلى أن القبط إنما كانوا أمة شاعرة بوجودها، متماسكة فيما بينها، مستمسكة بمذهبها الديني، وقد اتخذت ذلك المذهب الديني رمزا لاستقلالها، فضحت في سبيله بكل شيء، وكانت - وهي تفعل ذلك - تحافظ على استقلالها وشخصيتها من أن تندمج في أمة أخرى، ولكن المؤلف أظهر أن تلك الأمة التي حافظت تلك المحافظة المرة على شخصيتها، لم تكن لترضى بأن تفتح ذراعيها لسيد جديد، وتقف معه في وجه السيد القديم، بل كان كل ما فعلته أن بقيت مكانها لا تحرك ساكنا برغبتها، تاركة ميدان النضال بين المتنافسين؛ إذ لم يكن لها مصلحة في الدفاع عن سيد أذاقها مر العذاب في محاولته القضاء على استقلالها. وهكذا أظهر المؤلف أمة القبط في ثوب العزة والأنفة، ورمى عنها ما كان المؤرخون قد ألقوه ظلما عليها من التهم الشنيعة بإظهارها في مظهر الدناءة والذلة.
ولكن هذه الروح العادلة التي حدت بالمؤلف إلى نصرة الحق في جانب أمة القبط، حدت به كذلك إلى نصرة الحق في جانب أمة العرب؛ فلم يحاول أن يخفي من فضائلها شيئا، أو يعكر من صفو سيرتها في مدة فتح مصر، بل كان عادلا في وصف الأفراد والمجموع. نرى إعجابه بقائد القوم عمرو بن العاص، كما نرى إعجابه بروح البساطة والطهارة التي كان عليها غزاة العرب إذ ذاك، ثم نراه تعرض لمسألة خاض فيها المؤرخون المتأخرون، ووجدوا فيها سبيلا للطعن في سيرة العرب، وهي إحراق مكتبة الإسكندرية، فأبان هناك عن الحق راجعا إلى أسانيد التاريخ، حتى أظهر أن العرب عندما غزوا الإسكندرية لم يجدوا هناك مكتبة كبرى؛ إذ كانت مكاتب تلك المدينة قد ضاعت ودمرت من قبل غزوتهم بزمن طويل.
وبعد، فإن هذا الكتاب له قيمة خاصة لسبب آخر فوق ما سبق لنا بيانه، وذلك أن تواريخ العرب وفتوحهم لم يتناولها إلى الآن كاتب حصر همه في ميدان محدود، وبحث فيه بحثا مستفيضا، كما فعل مؤلف هذا الكتاب؛ فنجد كثيرا من الكتب تصف سيرة العرب إجمالا، وتتعرض إلى فتح مصر في قول موجز لا يزيد على عشرات من الصفحات، وأكثر هؤلاء المؤرخين إنما يرجعون إلى ما كتبه العرب في دواوين أخبارهم، غير أن هذا الكتاب الذي بين أيدينا لا يتناول إلا فتح العرب لمصر، وهو في أكثر من خمسمائة صفحة، وقد رجع مؤلفه إلى أسانيد القبط والأرمن والسريان واللاتين وغيرهم، كما رجع إلى مؤلفات العرب، فكانت نظرته من غير جانب واحد؛ ولهذا نراه أقرب إلى التمحيص، وأحرى بأن يكون قد أصاب القصد.
والحق أن تاريخ الفتح في أشد الحاجة إلى ذلك التمحيص؛ فكم به من مسائل غامضة يجب على المؤرخ أن يجلو غموضها، نضرب لذلك مثلا شخصية المقوقس؛ فإنا نسمع ذلك الاسم يتردد في كتب التاريخ عند ذكر رسالة الرسول
صلى الله عليه وسلم
إلى حاكم مصر، ونجده مذكورا في أثناء الفتح عند ذكر المفاوضة بين العرب والروم، ونجده كذلك مذكورا عند تسليم الإسكندرية، وقد سماه بعضهم جورج أو جريج بن مينا، وسماه بعضهم ابن قرقب أو قرقب، وجعله بعضهم من أهل مصر، وقال آخرون إنه يوناني، وهو بين كل ذلك يلوح في وسط ظلمة من الشكوك لا يكاد الإنسان يعتقد أنه شخص طبيعي وجد حقيقة في تلك الأحداث؛ غير أن المؤلف ما زال يقارن ويناقش ويفحص، حتى خرج إلى أن المقوقس لم يكن سوى قيرس البطريرك الملكاني بالإسكندرية، الذي جمعت له ولاية الدين والدنيا معا في أيام هرقل وخلفائه، على أن المؤلف قد استدرك الأمر، فأظهر أن ذلك الاسم قد أطلقه العرب على سبيل التعميم على الذي كان بطريرك الروم قبل قيرس، كما أطلقوه على بنيامين بطريرك القبط الذي كان طريدا وعاد بعد أن استقر العرب في مصر. وقد كان يخالفه في هذا الرأي كتاب أكبرهم الأستاذ ستانلي لين بول، غير أن ذلك الأستاذ لم يسعه بعد أن اطلع على ما كتبه المؤلف في بحوثه المختلفة عن شخصية المقوقس إلا أن يذعن للحق، فكتب إليه في يوم عيد ميلاده:
وإني جاعل هديتي في عيد ميلادك شهادتي بالرجوع عن رأيي في معارضتك في شخصية المقوقس؛ إذ ثبت لدي أنه لم يكن سوى قيرس.
وقد رأينا أن نورد أبحاث المؤلف في هذا الشأن تفصيلا، فأضفنا إلى الكتاب ذيلا جديدا ضمنه ما كتبه المؤلف عن المقوقس في رسالة أصدرها بعد إصداره هذا الكتاب، وهي «معاهدة مصر في الطبري».
Bog aan la aqoon