١٤ - ما ينبغي مراعاته عند بناء المسجد
يقول السائل: ضاق المسجد الذي نصلي فيه بأهله وتداعى أهل الخير لتوسعته، ولكن تبين لهم أن المسجد قد بني بتصميم يجعل من توسعته أمرًا صعبًا جدًا من الناحية الهندسية إلا إذا هدم معظم المسجد القائم، فهل نهدم المسجد ونبنيه من جديد، أفيدونا؟ الجواب: بناء المساجد من الأمور المرغب فيها شرعًا وهو باب من أبواب الخير ومن الصدقة الجارية وقد ورد عن الرسول ﷺ أحاديث كثيرة في فضل بناء المساجد والمشاركة في بنائها فمن ذلك: عن عثمان بن عفان ﵁ قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: (من بنى لله مسجدًا بنى الله له بيتًا في الجنة) رواه البخاري ومسلم. وعن أبي ذر ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: (من بنى لله مسجدًا قدر مفحص قطاة بنى الله له بيتًا في الجنة) رواه ابن حبان والبزار والطبراني في الصغير وقال الشيخ الألباني: حديث صحيح. وهذا الحديث يدل على المشاركة في بناء المسجد لأن مفحص القطاة لا يكفي ليكون مسجدًا. ومفحص القطاة هو المكان الذي تفحصه القطاة لتضع فيه بيضها وترقد عليه. وعن أنس ﵁ أن الرسول ﷺ قال: (من بنى لله مسجدًا صغيرًا كان أو كبيرًا بنى الله له بيتًا في الجنة) رواه الترمذي وقال الشيخ الألباني: حديث حسن. وعن أبي هريرة ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: (إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علمًا علَّمه ونشره أو ولدًا صالحًا تركه أو مصحفًا ورثه أو مسجدًا بناه أو بيتًا لابن السبيل بناه أو نهرًا أجراه أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه من بعد موته) رواه ابن ماجة وابن خزيمة والبيهقي وقال الشيخ الألباني: وإسناد ابن ماجة حسن. انظر صحيح الترغيب والترهيب ص ١٠٩-١١١.
إذا تقرر هذا فإن بناء المسجد له خصوصية من الناحية العمرانية، فبناء المسجد ليس كبناء البيت، وإنما هنالك خصوصيات في بناء المسجد أذكر أهمها: أولًا: تحديد اتجاه القبلة بطريقة صحيحة، فإن استقبال القبلة شرط من شروط صحة الصلاة، ويدل على ذلك قوله تعالى: (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) سورة البقرة الآية ١٥٠، ويجب تحديد القبلة بدقة عند بناء المساجد فإذا بني المسجد، وتبين بعد ذلك أن هنالك خطأً كبيرًا في قبلة المسجد فيجب تصحيح ذلك الخطأ والتوجه إلى القبلة، [فإذا كانت القبلة إلى الجنوب، وتوجّه المصلي إلى جهة الجنوب بناءً على اجتهاده فصلاته صحيحة. فإذا ابتعد عن عين القبلة يمينًا أو يسارًا حتّى ٤٥ درجة فإنّه يظل متّجهًا إلى جهة الجنوب، فإذا زاد عن ذلك فقد بدأ يتّجه إلى جهة الشرق أو الغرب، لأنّ كلّ جهة من هاتين الجهتين تبعد عن جهة الجنوب ٩٠ درجة. فإذا وصل إلى ٤٥ درجة فقد وصل إلى نهاية الجنوب من جهة الشرق، وبدأ التوجّه إلى جهة الشرق الجنوبي. أو إلى نهاية الجنوب من جهة الغرب وبدأ التوجّه إلى الغرب الجنوبي... فالخطأ في هذه الحدود مغتفر إن شاء الله إذا حصل بعد البحث والتحري والاجتهاد] .
ثانيًا: التقليل ما أمكن من عدد الأعمدة داخل المسجد، لأن الأعمدة تقطع اتصال الصفوف، وقد قرر العلماء كراهية الصف بين الأعمدة لغير حاجة من ضيق ونحوه، وقد وردت بعض الأحاديث التي تدل على كراهية الصف بين السواري فمن ذلك ما رواه الترمذي بإسناده عن عبد الحميد بن محمود قال: (صلينا خلف أمير من الأمراء فاضطرنا الناس فصلينا بين الساريتين فلما صلينا قال أنس بن مالك: كنا نتقي هذا على عهد رسول الله ﷺ ... قال أبو عيسى – أي الترمذي -: حديث أنس حديث حسن صحيح. وقد كره قوم من أهل العلم أن يصف بين السواري. وبه يقول أحمد وإسحق. وقد رخص قوم من أهل العلم في ذلك] سنن الترمذي مع شرحه تحفة الأحوذي ٢/١٩. وعن معاوية بن قرة عن أبيه قال: [كنا ننهى أن نصف بين السواري على عهد رسول الله ﷺ ونطرد عنها طردًا] رواه ابن ماجة وابن خزيمة والحاكم وصححه ووافقه الذهبي. وكذلك لا بد من الاهتمام بقضية الصفوف في المسجد وخاصة الصف الأول فعند بناء المسجد على شكل دائري مثلًا، فإن هذا يؤدي إلى إرباكٍ في الصفوف وتقليل حجم الصف الأول وغيره، لذا لا بد للمهندسين من أخذ هذه القضية بالاعتبار عند تصميم المسجد.
ثالثًا: الاقتصاد عند بناء المسجد فليس هنالك داعٍ للزخارف الفخمة والثريات الباهظة الثمن والقباب المذهبة والمآذن الطويلة، بل يجب أن يكون المسجد في غاية البساطة مع الاتساع وتوفر المرافق المريحة للمصلين كالحمامات النظيفة ووسائل التبريد والتدفئة والإضاءة الجيدة وغير ذلك، ولا بد من التنبيه إلى أن كثيرًا من المساجد التي تبنى في أيامنا هذه يلاحظ فيها المبالغة في البناء وإنفاق الأموال الطائلة في زخرفة المسجد وتزيينه، وقد سمعنا عن بعض المساجد التي كلف الواحد منها مئات الملايين مع أن الناس يعانون من الفقر في تلك البلاد، فكان أولى أن تنفق تلك الأموال لسد حاجات الناس الضرورية. ويجب أن يعلم أنه ليس من منهج الإسلام الصحيح المبالغة في بناء المسجد ولا إنفاق الملايين عليه مباهاةً وتفاخرًا. وقد أخبر الصادق المصدوق ﷺ في الحديث عن ذلك فقد جاء في الحديث عن أنس أن النبي ﷺ قال: (لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد) رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة وأحمد وصححه ابن خزيمة وقال الشيخ الألباني: حديث صحيح. انظر صحيح الجامع الصغير ٢/١٢٣٧. وقال الشيخ الشوكاني: [أي يتفاخرون في بناء المساجد والمباهاة بها] نيل الأوطار ٢/١٦٩. وقال الإمام البخاري في صحيحه: [باب بنيان المسجد وقال أبو سعيد: كان سقف المسجد من جريد النخل. وأمر عمر ببناء المسجد وقال: أكن الناس من المطر وإياك أن تحمِّر أو تصَفّر فتفتن الناس. وقال أنس: يتباهون بها ثم لا يعمرونها إلا قليلًا] . وقال الحافظ ابن حجر قوله: [ثم لا يعمرونها: المراد به عمارتها بالصلاة وذكر الله وليس المراد به بنيانها ...] صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري ٢/٨٥-٨٦. وورد في الحديث عن الرسول ﷺ: (ما أمرت بتشييد المساجد) رواه أبو داود وابن حبان وصححه. قال الإمام البغوي: (والمراد من التشييد: رفع البناء وتطويله ومنه قوله ﷾: ﴿فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ﴾ وهي التي طول بناؤها... وقال أبو الدرداء ﵁: إذا حليتم مصاحفكم وزوقتم مساجدكم فالدمار عليكم) شرح السنة ٢/٣٤٩-٣٥٠. وقال ابن رسلان معلقًا على حديث الرسول ﷺ السابق: [وهذا الحديث فيه معجزة ظاهرة إخباره ﷺ عما يقع بعده فإن تزويق المساجد والمباهاة بزخرفتها كثر من الملوك والأمراء في هذا الزمان بالقاهرة والشام وبيت المقدس بأخذهم أموال الناس ظلمًا وعمارتهم بها المدارس على شكل بديع نسأل الله السلامة والعافية] نيل الأوطار ٢/١٦٨.
رابعًا: العناية التامة بمرافق المسجد الملحقة به، مثل دورة المياه والمتوضأ، فلا بد أن تتحقق الشروط الصحية في هذه المرافق من حيث التهوية والنظافة وتناسب الأدوات المستخدمة فيها مع طريقة استعمالها فمثلًا ينبغي أن تكون صنابير المياه من النوع الذي يسمح بعملية الوضوء بشكل سهل، وأذكر أنني رأيت متوضأً وضعت فيه حنفيات قصيرة العنق لا تسمح للمتوضئ أن يغسل رجليه، وكذلك يقال في كراسي المراحيض. وكذلك الاهتمام بوجود ساحات حول المسجد لوقوف السيارات.
خامسًا: الاهتمام بعدة أمور عند بناء المسجد، كعملية العزل لمنع تدفق المياه إلى المسجد خلال فصل الشتاء، وكذا لحفظ المصلين من حرارة الصيف، وكذا موضع الشبابيك فينبغي أن تكون في مكان مناسب من المسجد للتهوية وإدخال الضوء، وألا تكون في قبلة المصلين بشكل مباشر. وكذا العناية بأبواب المسجد بحيث تكون متناسبة مع حجم المسجد، فالمسجد الكبير الواسع لا بد له من عدة أبواب، حتى لا يزدحم المصلون عند الخروج من المسجد، وكذا لا ينبغي أن تكون أبواب المسجد في جهة القبلة لما يترتب عليه من قطع الصفوف الأولى، وكذلك لا بد من الاهتمام بالشبكة الكهربائية للمسجد من حيث الإضاءة والمراوح والمكيفات وأن تكون مفاتيح التحكم فيها في مكان خاص يضبطه موظف المسجد، حتى لا تكون عرضة لأمزجة المصلين، وكذلك لا بد من الاهتمام بأماكن وضع الأحذية، وغير ذلك من الأمور التي يجب أن تراعى عند بناء المساجد، وبمناسبة الحديث عن بناء المساجد فإنني أدعو المهندسين المعماريين لوضع أسس لبناء المسجد تكون متفقة مع ثقافة المسجد في الإسلام ولا بد من التعاون في ذلك مع أهل العلم الشرعي.
سادسًا: لا بد من الاهتمام بمصلى النساء عند بناء المسجد ابتداءً، ومراعاة دخولهن وخروجهن بطريقة مشروعة، والأخذ بعين الاعتبار حاجاتهن الخاصة.
سابعًا: عند التفكير في بناء مسجد جديد لا بد أن يكون بعيدًا عن أي مسجد قائم، فلا يجوز بناء مسجد جديد بقرب المسجد القديم ما دام أن المسجد القديم يتسع لأهل الحي، لأن من المقاصد التي بنيت لها المساجد جمع أكبر عدد من المصلين في المسجد الواحد ليتعاونوا ويتعارفوا. كما أن الله ﷾ جعل الثواب العظيم لمن يمشي إلى المسجد للصلاة ولو كان بعيدًا كما صح في الحديث أن النبي ﷺ قال: (أعظم الناس أجرًا في الصلاة أبعدهم فأبعدهم ممشى) رواه البخاري ومسلم. وإنّ بناء المسجد الجديد بجوار المسجد القديم يعتبر من باب الضرار عند العلماء لأنه سيؤدي إلى تفريق جماعة المسلمين. وقد اعتبر الإمام السيوطي أن كثرة المساجد في المحلة الواحدة من المحدثات المخالفة لهدي الرسول ﷺ. انظر كتاب الأمر بالاتباع والنهي عن الابتداع ص ٣٠٠.
وخلاصة الأمر أنه يجوز شرعًا هدم المسجد من أجل تحقيق مصلحة شرعية كإعادة بنائه أو توسعته أو نحو ذلك من الأسباب الشرعية، كم ينبغي مراعاة عدة أسس وقواعد عند بناء المساجد ذكرت أهمها.
6 / 14