Fatawa Hadithiyya
الفتاوى الحديثية
Daabacaha
دار الفكر
من الْمُفَسّرين وَغَيرهم فِي قَوْله تَعَالَى: ﴿ذَالِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾ [الْبَقَرَة: ٢] يحْتَمل أَن المُرَاد الْإِنْفَاق من جَمِيع مَا منحهم الله تَعَالَى بِهِ من النعم الظَّاهِرَة والباطنة، وَأَن لَا يخْتَص بِمَا هُوَ الْمُتَبَادر مِنْهُ من الْإِنْفَاق من النعم الظَّاهِرَة، إذْ الْإِنْفَاق كَمَا يكون من هَذِه كَذَلِك يكون من النعم الْبَاطِنَة أَيْضا كَالْعلمِ والجاه، ومِنْ ثمَّ قَالَ ﷺ فِيمَا رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة (إنَّ علما لَا يُقَال أَي يتحدث بِهِ ككنز لَا ينْفق مِنْهُ) وروى الطَّبَرَانِيّ مَرْفُوعا: (مثل الَّذِي يتَعَلَّم الْعلم ثمَّ لَا يتحدَّث بِهِ كَمثل الَّذِي يكنز الْكَنْز ثمَّ لَا ينْفق مِنْهُ) وَقد نحا بعض العارفين إِلَى مَا أَشَرنَا إِلَيْهِ حَيْثُ قَالَ: وَمعنى الْآيَة وَمِمَّا خصصناهم بِهِ من أَنْوَاع الْمعرفَة يفيضون. إِذا تقرر ذَلِك، فَقَوله تَعَالَى: ﴿ثُمَّ رَزَقَكُمْ﴾ يحْتَمل أَن يُرَاد بِهِ مَا تفضل الْحق بِهِ على عباده من نعمه الظَّاهِرَة وَهُوَ الْأَنْسَب بسياق الْآيَة، وَمَا تفضل بِهِ تَعَالَى من النعم الْبَاطِنَة أَيْضا وَهُوَ الأبْلغ فِي الامتنان الَّذِي يَصح أَن يكون من الْمَقَاصِد الَّتِي سيقت الْآيَة لَهُ أَيْضا. وَأما قَول السَّائِل: هَل هُوَ إِلَخ. فَجَوَابه: أَنه لَيْسَ المُرَاد الأول وَلَا الآخر بل يَصح أَن يُرَاد الثَّانِي، وَمن ثمَّ كَانَ أهل السّنة، على أنّ مَا تنَاوله الْإِنْسَان من الْحَرَام يُسمى رزقا كَمَا دلّت عَلَيْهِ الْآيَات وَالْأَحَادِيث وَمِنْهَا: حَدِيث ابْن مَاجَه وَغَيره عَن صَفْوَان بن أُميَّة قَالَ: (كُنَّا عِنْد النَّبِي ﷺ فجَاء عَمْرو بن فهر فَقَالَ: يَا رَسُول الله إِن الله كتب الشقاوة فَلَا أَرَانِي أُرزق إِلَّا من دفي بكفي فأْذَنْ لي فِي الغِناء من غير فَاحِشَة؟ فَقَالَ: لَا آذن لَك وَلَا كَرَامَة كذبتَّ أَي عدوّ الله لقد رزقك الله حَلَالا طيبا فاخْترتَ مَا حرَّم الله عَلَيْك من رزقه مَكَان مَا أحلَّ الله لَك من حَلَاله) وَعَمْرو هَذَا ذكره غير وَاحِد فِي الصَّحَابَة ﵃، وَفِي رِوَايَة بعد (وَلَا كَرَامَة وَلَا نعْمَة ابتغ على نَفسك وَعِيَالك حَلَالا فَإِن ذَلِك جِهَاد فِي سَبِيل الله، وَاعْلَم أَن عون الله تَعَالَى مَعَ صالحي التُّجَّار) رَوَاهُ أَبُو نعيم وَفِيه مَتْرُوكَانِ. ٦٢ وَسُئِلَ ﵁ أَيْضا: عَن ترك التَّوَكُّل هَل هُوَ كَبِيرَة أم لَا، وَعَن طول الأمل فِي هَذِه الدَّار هَل هُوَ كَبِيرَة أم لَا؟ فَأجَاب: التَّوَكُّل يُطلق وَيُرَاد بِهِ الرِّضَا بِجَمِيعِ مَا يَفْعَله الله فِي خلقه، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ بشر الحافي، أَو قطع الرجا من جَمِيع المخلوقين، أَو أنْ لَا يظْهر فِيك انزعاج للأسباب، مَعَ شدَّة فاقتك إِلَيْهَا، وَلَا نزُول عَن حَقِيقَة السّكُون إِلَى الْحق مَعَ وقوفك عَلَيْهَا، أَو طرح الْبدن فِي الْعُبُودِيَّة وَتعلق الْقلب بالربوبية والطمأنينة إِلَى الْكِفَايَة فَإِذا أُعْطِي شَكَر، وَإِن مُنِع صَبر، أَو تَرْك تَدْبِير النَّفس والانخلاع عَن الْحول والقوّة، وَإِنَّمَا يتم ذَلِك لمن يكون دَائِم الشُهور والاستحضار لكَون الله تَعَالَى يعلم وَيرى مَا هُوَ فِيهِ، أورد عَيْشك إِلَى وقتك الْحَاضِر، وَإِسْقَاط همّ غدٍ والاسترسال مَعَ الله تَعَالَى على مَا يُرِيد، أَو أَن لَا يرى مَعَ الله غير الله، أَو خَلَعَ الأرباب، وَقطع الْأَسْبَاب، وَذَلِكَ بإلقاء النَّفس فِي الْعُبُودِيَّة وإخراجها من الربوبية، والتعلق بِاللَّه فِي كل حَال بِأَن يتْرك كل سَبَب يوصله إِلَى سَبَب حَتَّى يكون الْحق هُوَ الْمُتَوَلِي لذَلِك، أَو أنْ يَسْتَوِي عنْدك الْإِكْثَار والإقلال والاستسلام بجريان الْقَضَاء وَالْأَحْكَام، أَو الِاكْتِفَاء بِاللَّه مَعَ الِاعْتِمَاد عَلَيْهِ، وَأَن لَا تَأْكُل وَفِي الْبَلَد من هُوَ أَحَق مِنْك، أَو الْعَيْش مَعَ الله تَعَالَى بِلَا عاقة، أَو السّكُون إِلَى الْوَعْد فإنْ صُحِبهُ الِاكْتِفَاء بِعلم الله فَهُوَ التَّسْلِيم، وَإِن صَحِبَه الرِّضَا بِحكمِهِ فَهُوَ التَّفْوِيض، أَو قطع النّظر عَن الوسائط هَذَا جماع مَا قيل فِي التَّوَكُّل، وَبَعضه فِيهِ ذكر حَقِيقَته، وَبَعضه فِيهِ ذكر علاماته. قيل: وَمن أحسن حُدُوده أَنه مُبَاشرَة الْأَسْبَاب مَعَ شُهُود مسببها. وعَلى كل تَقْدِير فَترك خصوصيات هَذِه الكمالات الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا العارفون فِي جَوَامِع أَقْوَالهم هَذِه لَا إثمْ فِيهِ فَضْلًا عَن كَونه حَرَامًا فضلا عَن كَونه كَبِيرَة. وَأما ترك أصل الرِّضَا بِقَضَاء الله وَقدره فَهُوَ كَبِيرَة، كَمَا يعلم من كَلَامهم فبالأولى أنَّ نَحْو لطم الخد وشق الجيب عِنْد الْمُصِيبَة كَبِيرَة، بل رُبمَا يكون ترك ذَلِك الرِّضَا كفرا وَالْعِيَاذ بِاللَّه. وَأما طول الأمل فقد يُطلق وَيُرَاد بِهِ الْغَفْلَة عَن ذكر الْمَوْت وَتَقْدِير حُصُوله فِي كل لَحْظَة، وَمن ذَلِك مَا جَاءَ فِي حَدِيث (أَن أُسَامَة بن زيد ﵄ حِبّ رَسُول الله ﷺ اشْترى شَيْئا نَسِيئَة إِلَى شهر فَبلغ ذَلِك النَّبِي ﷺ فَقَالَ: إِنَّك طَوِيل الأمل) الحَدِيث. وتَرْك هَذَا لَا إِثْم فِيهِ فضلا عَن كَونه حَرَامًا فضلا عَن كَونه كَبِيرَة. وَقد يُطلق وَيُرَاد بِهِ التسويف بِالتَّوْبَةِ عَمَّا وَقع فِيهِ من الْمعاصِي مؤملًا طول حَيَاته، وَأَنه إِذا قضى شَهْوَته وَاسْتوْفى لذَّته تَابَ وَرجع إِلَى الله تَعَالَى عَن مخالفاته وَهَذَا أَعنِي ترك التَّوْبَة من كَبِيرَة فِعْلها كَبِيرَة. وَقد يُطلق وَيُرَاد بِهِ استرسال النَّفس فِي جمع الْأَمْوَال فَإِن كَانَ من وَجه حَلَّ فَلَا إِثْم فِيهِ
1 / 77