منارة ممسى راهب متبتل
فهذا وصف حسي للمحبوبة لا نكاد نحس فيه أي انفعال للشاعر بجمال ما يصف، وكأنه يصف للوصف أو يفتن للفن، اللهم أن يكون هذا الوصف لمثل أعلى للجمال عند الشاعر وبيئته أكثر منه وصفا على الطبيعة. ومن المعلوم أن المحاكاة قد تكون لما هو كائن كما قد تكون لما يجب أن يكون أو يمكن أن يكون؛ فالشاعر يصف الحبيبة خلال مغامرة حسية بأنها بيضاء خفيفة لحم البطن، ضامرة الخصر، مصقولة الترائب كالمرآة، طويلة الجيد كالظبية في غير فحش؛ أي في غير إسراف، كما يصف شعرها الأسود الفاحم الذي يغطي ظهرها وقد عقصت بعضه فوق رأسها وأرسلت بعضه، ويصف لين ساقها وطراوته التي يشبهها بالنبات الرخص الذي ينمو في ظل النخيل ويسقيه الماء، وفي النهاية يصف عطرها وما تتقلب فيه من نعمة، يدلل عليها بأنها نئوم الضحى لا تنتطق في الصباح ملابسها الخفيفة لتعمل بل لتتخفف، كما يدلل عليها بطراوة أناملها ونعومتها شأن المترفات، وأخيرا بإشراق وجهها الذي يلوح وقت العشاء كأنه مصباح راهب متبتل في صومعته.
والذي لا شك فيه أن الشعر الجاهلي كان من أصدق الشعر في التعبير عن بيئته ومثلها العليا، نابعا عن طبع أصيل حتى لنحسبه هو والشعر الأموي خير ما أنتج العرب القدماء من شعر من الناحية الفنية الخالصة، ومع ذلك فلا يستطيع أحد أن ينكر ما كان للإسلام من أثر بالغ في تحريك وجدان الشعراء، سواء في ذلك الوجدان العاطفي الخالص أو الوجدان الديني أو الوجدان السياسي الاجتماعي على أثر الخلافات السياسية والاجتماعية التي أخذت تظهر منذ خلافة عثمان بن عفان وما تلاها من تحزب للأمويين أو للعلويين؛ فأدت إلى ظهور شعر الخوارج وشعر الشيعة ذي اللون السياسي الواضح، كما أدى إلى ظهور البيئة المترفة المرهفة المتعطلة بالحجاز بعد أن انتقلت الخلافة إلى دمشق. ففي هذه البيئة نرى شعر الوجدان العاطفي يظهر لأول مرة عند الشعراء العذريين الذين نستطيع أن نقرأ شعر الشاعر منهم كله دون أن نخرج بصورة ولو مقاربة للمحبوبة، وإنما نخرج منه بتعبير قوي حار عن لواعج الحب وآلامه وآماله في وجدان الشاعر، وشتان بين هذا التعبير الوجداني الخالص وبين الوصف الحسي الذي شاهدنا مثلا له في وصف امرئ القيس للعشيقة، وأين هذا الوصف الحسي من قول قيس بن ذريح مثلا عن حبه للبنى:
ويا قلب خبرني إذا شطت النوى
بلبنى وزالت عنك، ما أنت صانع؟
أقضي نهاري بالحديث وبالمنى
ويجمعني والهم بالليل جامع
نهاري نهار الناس حتى إذا دجا
بي الليل هزتني إليك المضاجع
فلا تبكين في إثر شيء ندامة
Bog aan la aqoon