إن هذه النتيجة مختلف فيها؛ لأنه إذا كان من الصعوبة الشديدة أن يصاغ رأي قاطع عن علل هزيمة الألمان فإن من الممكن أن يلاحظ صدورها عن عامل نفسي أساسي - لا ريب - غفلت عنه اللجنة، وهو ضياع الثقة بالنصر النهائي. وكان ضياع الثقة هذا ينشأ عن نقص بصيرة إمبراطور ألمانية الذي أدت أغاليطه النفسية إلى تدخل جيش أمريكي يزيد كل يوم، وكان الشأن الحربي لهذا الجيش الذي ارتجل على عجل في حكم المعدوم، ولكنه كان بالغ النفوذ، فلم يلبث أن قطع أمل مدنيي الألمان والجيش الألماني من نيل نصر على مثل هذا الجمع، فغلبت ألمانية في آخر الأمر بعوامل نفسية أكثر تأثيرا من المدافع. •••
ومهما يبق من نقص في المناهج التاريخية التي تشتق منها أحكامنا فإنها حققت تقدما جديرا بالذكر مع ذلك، ويشاهد هذا التقدم عند المقابلة بين الآراء الحاضرة في بعض النظم كالإقطاع مثلا، وما كان يصاغ في موضوعه من آراء منذ نحو نصف قرن من قبل كتاب كثيرين، ولا سيما المؤرخ المشهور غيزو، فقد قال: «لم تشعر الشعوب بغير الحب والشكر حينما كانت تقام الحصون الإقطاعية، فهي لم تبن ضدها بل من أجلها. وكانت هذه الحصون مركزا عاليا يقوم بالحراسة فيه حماة يترقبون العدو، وكانت مستودعا أمينا لمحصولاتها وأموالها، وكانت إذا ما وقعت غارات ملجأ لنسائها وأولادها ولأنفسها. والحق أن كل حصن قوي كان ينطوي على سلامة كورة.
وعادت الأجيال الحديثة لا تدري ما الخطر ولا الحاجة إلى النجاة.»
إذن: كان النظام الإقطاعي ضرورة في زمن ظهوره، أي في زمن الغزوات، وكانت الخدم التي يقوم بها تسوغ التكاليف المفروضة مبادلة، ولم يمقت هذا النظام إلا بعد أن صار غير نافع، فزعم أنه يحافظ على امتيازات لم يبق ما يسوغها. وقد جاء زمن أنقذ الإقطاع فيه فرنسة التي تخلت عنها السلطة المركزية، ثم جاء زمن عاد الإقطاع لا ينفع فيه لغير البغي على البلد، وهذا الذي جعله ممقوتا. •••
والتاريخ، فيما عدا الحوادث الصغيرة التي يختلف تفسيرها بكل اتجاه جديد، يتألف من آراء عامة، لا تلبث أن تستقر حول كل دور، فهذه الآراء العامة هي التي تعرفنا الكتب بها.
وقد تنوعت هذه الآراء كثيرا لفقدان روح النقد، حتى إنه يرى عند عدم النظر إلى غير الحوادث التي وقعت منذ 150 سنة، أن هذه الحوادث أدت إلى أكثر التفاسير تناقضا حول تكوينها ونتائجها. ومن أبرز الأمثلة على ذلك ما جاء في تاريخ الثورة الفرنسية التي عدت في ثلاثة أرباع قرن حادثا عجيبا لإصلاحها جميع شئون الحياة، فقد حررت فرنسة من نير الطغاة، وألغت الامتيازات، ووضعت من المبادئ الجديدة ما يكون به مختلف الشعوب سعيدا باعتناقها، وصارت المذاهب الثورية دستور العالم بفضل حرب دامت عشرين عاما في طول أوربة وعرضها.
وقد بقي هذا المبدأ، الديني حقا، عن دور من أكثر أدوار التاريخ شؤما، ثابتا لا يتزعزع، إلى أن أوجبت مناهج النقد الدقيق التي حمل لواءها مؤرخون كثير، ولا سيما تين، استبدال الحقيقة بالأوهام، وهنالك رئي أن الامتيازات التي ألغتها الثورة الفرنسية كانت سائرة نحو الزوال قبل حدوثها، وأن المساواة أمام القانون كانت توشك أن تفرض في كل مكان، وهناك رئي أيضا مقدار الوهم في الإكليل المجيد الذي كان المؤرخون الروائيون يتوجون به هذا الدور، فقد رد «غيلان العهد» إلى نسب عادلة وظهر المستوى وضيعا جدا، بعد أن ثبت أن أوهامهم كانت كبيرة وأن أحكامهم كانت حقيرة.
أجل إن الثورة الفرنسية أوجدت مساواة في حقوق المواطنين لا عهد للماضي بمثلها، غير أنها قضت على كل استقلال في الحياة الإقليمية البالغة النشاط فيما سلف، فصار لا يتصور اليوم وجود مجلس للمديرية أو وجود مجلس عام مثلا يقاوم الأوامر الصادرة عن وزارة الداخلية، وكانت مقاومة مختلف البرلمانات للأوامر الملكية - ولا سيما رفض الموافقة على ضرائب جديدة - من عادات العهد السابق اليومية، ويكفي للدلالة على ذلك أن يذكر من بين ألف مثال وضع برلمان غرينوبل الذي رفض الخضوع للمراسيم الملكية. وإليك العبارة التي ذكرت بها إحدى الصحف هذا الحادث منذ عهد قريب:
حدث في سنة 1760 أن حمل محافظ دوفينه الكونت مرسيو بالقوة على تسجيل مرسوم ملكي يفرض ضرائب جديدة، وحدث في سنة 1763 أن جرؤ برلمان دوفينه على إقامة تظاهرات تجاه السلطة الملكية، وحدث في سنة 1786 أن رفض مجددا تسجيل مرسوم، وحدث في سنة 1787 أن دعت الحكومة أعيان الولاية إلى اجتماع لإحباط عمل البرلمان، فأعلن هذا البرلمان للملك وللأمة خيانة من يشترك في ذلك الاجتماع، فأبعد القضاة في سنة 1788، وكان سفرهم سببا لعصيان الأهلين، ويجتمع الأعيان في دار بلدية غرينوبل، ويقررون الاحتجاج على تعدي البلاط، ويطالبون بحفظ امتيازات البرلمان الدوفيني.
ويذعر البلاط فيرسل كتائب، وهنالك يقيم ممثلو الطبقات الثلاث بقلعة فيزيل التي تدخل في التاريخ.
Bog aan la aqoon