Falsafadda Ingiriiska ee Boqolka Sano (Qeybta Koowaad)
الفلسفة الإنجليزية في مائة عام (الجزء الأول)
Noocyada
ولما كان تفكير ريتشي يتحرك كله تقريبا، كما هو واضح، في نطاق المشكلات والحلول المعروفة المميزة للهيجلية الإنجليزية، فربما كان العرض السريع السابق كافيا. غير أن هناك مسألة أخرى ينبغي ملاحظتها، إذ إنها تدل على خروجه على النمط المألوف؛ ذلك لأن المدرسة المثالية قد هاجمت الداروينية والمذاهب المبنية عليها، بقوة منذ البداية، وقد أعطى كتاب سترلنج عن هيجل إشارة الهجوم، وكان كثير ممن تبعوه يعدون قهر الداروينية واجبهم الخاص إزاء عصرهم وبلدهم، أما بحث ريتشي عن «دارون وهيجل»،
51
الذي جمع فيه بين هذين الخصمين معا، فقد أحدث ضجة هائلة في الأوساط الفلسفية. ومن الطبيعي أن المحاولة الجريئة التي بذلها لإظهار وجود علاقة باطنة بين فكرة التطور البيولوجية وفكرة التطور الهيجلية، وبالتالي لإدماج الداروينية في المذهب المثالي؛ هذه المحاولة كان مقضيا عليها بالإخفاق منذ البداية. أما المشكلة الخاصة التي تعرض لها ريتشي فكانت مشكلة الانتقاء الطبيعي، التي حاول أن يربطها بنظرية معقولية الواقع عند هيجل، فبقاء الأصلح يعني أن ما له قيمة معينة؛ أي قدر معين من المعقولية هو وحده الفعلي أو الحقيقي، وزوال الأضعف يناظر العلو على العامل السلبي في الديالكتيك الهيجلي. ولا جدال في أن محاولة ريتشي بعث الانسجام بين أكبر قوتين عقليتين في القرن الماضي قد انحرفت كثيرا عن الطريق السديد، غير أن اهتمامه بدارون قد جعل له مع ذلك بصيرة صادقة في نقطة واحدة، فقد رأى أن تطبيق المقولات البيولوجية على الحياة الاجتماعية للإنسان لا يمكن أن يتحقق دون بحث نقدي في العلاقات المحددة التي تسري على المجال الجديد. فمهما كان من فائدة أو أهمية تطبيق مبدأ الانتقاء، فإن من واجبنا أن نتذكر أن المجتمع البشري لا ينطوي على مجرد صراع من أجل الوجود، كذلك الذي نراه في عالم الحيوان، وإنما على صراع مخالف تماما، له ظروف أكثر تعقيدا بكثير. فنظير المبدأ البيولوجي في المجال البشري هو المنافسة الصناعية والتجارية، والتنظيم التكنولوجي لأحوال المعيشة، والظروف الاجتماعية والتعليم وما إلى ذلك، والتطور الاجتماعي يرتكز على التعاون، لا على سحق الأقوى للأضعف. وبانتهاج ريتشي لهذه الفكرة في التفكير، ارتفع فوق مستوى مذهب التطور الطبيعي إلى ما أسماه بمذهب التطور المثالي. وبهذا الاتجاه العام ساهم في التفكير اللاحق بدور أنجح كثيرا من الدور الذي ساهمت به محاولته الخاصة لتوسيع نطاق المثالية عن طريق إيجاد تلك الرابطة غير الطبيعية بين الأفكار الهيجلية والداروينية.
كانت فلسفة جونس، بقدر ما كان لها من مضمون محدد، مثالية هيجلية بالصورة التي أضفاها عليها كيرد، فمنذ اللحظة التي طلب فيها العلم على أستاذه العظيم، وهو طالب شاب وافد إلى جلاسجو من ويلز، اعتنق مذهب الحركة الجديدة وكرس نفسه لها بكل ما في طبيعته المتحمسة من قوة. وظل طيلة حياته تلميذا مخلصا لكيرد، الذي كان يدين له بكل شيء تقريبا. ولقد كان يدرك أنه ليس مفكرا أصيلا؛ لذلك عد نفسه واعيا وحارسا لكنز ثمين، هو النظرة المثالية إلى كل الأشياء، التي أخذ على عاتقه أن يذيعها بين أكبر عدد ممكن من الأذهان ويبثها فيهم. فالمثالية كانت هي اليقين الفلسفي الوحيد، الذي يتعين حفظه مصونا، على الرغم من أن أسسها يمكن أن توسع ومضمونها يمكن أن يطبق بنجاح في ميادين متزايدة للنشاط الإنساني. وكان تحقيق هذا التوسيع والتطبيق هو المهمة التي كرس لها جونس جهده، وهي مهمة حققها على أفضل وجه في الفلسفة الدينية والاجتماعية والسياسية.
وربما لم يدع أحد إلى المثالية بمثل هذا التفاني والإخلاص الجريء، والحماسة الأصيلة التي دعا بها إليها جونس؛ فقد كان أقل اهتماما بالبرهان منه بالدفاع البليغ والإقناع الحي؛ إذ إن كل فلسفة هي في نظره موقف عن الحياة وقوة روحية أكثر منها مذهبا من التعاليم النظرية. وهكذا فإن جونس قد استوعب - بحرارة التجربة الشخصية المباشرة - ما شيده كيرد وكسبه عن طريق التفكير المضني الدقيق، فحوله من بحث إلى إيمان، ومن مذهب إلى شعور، بل حوله في أحيان غير قليلة إلى حماسة خيالية أو نوع من الوجد الصوفي. فالمثالية كانت في نظره جزءا من حياة عملية، واعتناقا لإيمان وعقيدة، وشيئا عاشه وآمن به وأعلن أنه هو الأمر الوحيد اللازم. وبالاختصار فقد أصبحت الهيجلية عاطفية عند جونس، وهو نبيها وحواريها، وقد حملها كأنه رسول إلى أقصى حدود الإمبراطورية عندما دعي في 1908 إلى إلقاء محاضرات في جامعة سيدني عن «المثالية بوصفها عقيدة عملية»، وهي مناسبة فيها بعض الشبه من محاضرة هيجل الافتتاحية المشهورة في هيدلبرج سنة 1816.
وإذن فلم يكن من المستغرب أن يبحث جونس عن المحتوى المميز للفلسفة المثالية خارج المؤلفات الفلسفية المتخصصة، وأن يجده في ذلك الطابع الأخلاقي الذي تتسم به أوجه النشاط العملية للإنسان، وفي اعتناق عقيدة (ولا سيما العقيدة المسيحية)، وقبل ذلك كله، في عامل دائم خلاق هو الأعمال الأدبية العظيمة. فالشعراء يعبرون بصورة جميلة عما يصوغه للفلاسفة بلغة التصورات المجردة. ومن ثم فإن جونس قد اقتبس من كبار فناني الأدب كثيرا من العناصر التي تؤيد مذهبه وتدعمه؛ فعنده أن لسنج وجوته وورد سوث وبروننج، قد أعلنوا على طريقتهم الخاصة تلك النظرة إلى العالم التي عبرت عنها فلسفة كانت وفشته وهيجل وأتباعهم من الإنجليز بطريقة التصورات. ولقد رأى في شعر بروننج بوجه خاص تعبيرا رفيعا عن الشعور والمقصد المثالي، ووصفه، في كتاب رائع خصصه كله له، بأنه «معلم فلسفي وديني أصيل». ولهذه الأسباب ذاتها أحس بتقارب وثيق مع كارليل، الذي وجدت طبيعته التنبئية وبلاغته الدافقة تجسدا جديدا لها في شخص جونس.
ولسنا هنا بحاجة إلى الدخول في تفاصيل مضمون تعاليمه الفلسفية؛ إذ إنها لم تكد تتجاوز تعاليم الهيجليين الأوائل الذين عرضنا لهم من قبل، فنحن نصادف لديه مرة أخرى جميع العناصر المألوفة في المذهب، بعد إعادة صياغتها بطريقة بارعة ؛ كتضايف الفكر والوجود، والمثالي والواقعي، والروحي والطبيعي، والجمع بين الأضداد في وحدة «الكل» العليا الشاملة لكل شيء، والتركيب الروحي للكون، والحملة على كل أنواع الثنائية بوصفها تجريدات باطلة، واستبعاد العرضي واللامعقول، وفكرة النسق المترابط، والمطلق بكل صفاته ووظائفه المألوفة، وكمون الله في الطبيعة والإنسان، والتوحيد بينه وبين المطلق، وتشخيص الله، وتحقق الأخلاق في الدين، والتفاؤل الميتافيزيقي الساذج، وما إلى ذلك.
ولم يبق علينا إلا أن نلاحظ أن الفارق بين الاتجاهات المتقدمة والاتجاهات المتأخرة في المدرسة الهيجلية ازداد وضوحا وشدة عند جونس؛ فقد أحس مرارا وتكرارا بأنه مضطر إلى نقد تشويهات برادلي وبوزانكيت وتزييفهم للهيجلية في صورتها الأصلية. وقد حرص مرارا على إيجاد تمييز قاطع بين موقفه وبين موقف بوزانكيت بوجه خاص. وكانت نقطة الخلاف الرئيسية هي التقابل بين الواحدية والثنائية، صحيح أن الموقف الذي اتخذه برادلي وبوزانكيت يمكن قطعا أن يوصف بأنه واحدي بمعنى ما، ولكنه بدا موقفا ثنائيا واضحا من وجهة نظر أولئك الذين يمضون، مثل كيرد وجونس، في اتجاه الوحدة إلى حد استخلاص أبعد نتائجها؛ لذلك عكف جونس على تصيد مظاهر الثنائية عند برادلي، وعند بوزانكيت على نحو أوضح، وهي ثنائية المظهر والحقيقة، والمتناهي واللامتناهي، والنسبي والمطلق، والأهم من ذلك كله تلك الثنائية التي تفصم الطبيعة البشرية إلى شقين متغايرين. فجونس كان يرى أن الإنسان ليس بحاجة إلى الخروج عن ذاته ليبلغ المثل الأعلى، ولا يتعين عليه أن يغير ذاته بالاندماج في المطلق؛ إذ إن ذاته ستضيع تماما عندئذ، وإنما الواجب عليه بالأحرى أن يصبح ذاته، ويحقق الإمكانيات الكامنة فيه، وعندئذ يكون قد وصل إلى اللامتناهي بحق، بل يغدو «هو» المتناهي في عملية صيرورته.
وهكذا استعاض جونس عن العلو على الذات عند بوزانكيت بتحقيق الذات وبعث الكمال فيها، كذلك كان يرى أن المطلق ليس حالة تسكن فيها كل حركة، وتستقر في ذاتها مباركة إلى الأبد، وإنما هو عملية دينامية أزلية التقدم، يكون الزمان فيها عاملا حقيقيا، لا مجرد مظهر، وهنا نلمس التضاد بين نزوع جونس إلى الفاعلية والبرجماتية ، وهو نزوع يذكرنا كثيرا بنظيره عند فشته، وبين الموقف الأقرب إلى التأمل والسكينة عند القائلين بالمثالية المطلقة.
وهناك نقطة اختلاف أخرى، فجونس قد اعتقد أنه قد اكتشف أعراض مرض خطير في نظرية المعرفة التي قال بها برادلي وآخرون؛ إذ إن في هذه النظرية نزعة ذاتية تكاد تقرب من مذهب «الذات الوحيدة»، وهي تستتبع النظر إلى الواقع على أنه هزيل أو متلاش تماما، وهكذا آلى على نفسه أن يحاربها. ولما كان يرى أن لوتسه، الذي كان تأثيره في الفكر الإنجليزي هائلا، مسئول عن ظهور هذا المرض، فقد كرس لنقد نظرية لوتسه مؤلفا خاصا، هو واحد من أفضل كتاباته، فهو يرى أن المشكلة الرئيسية في نظرية المعرفة لا تجد حلا مرضيا في الذاتية ولا في الموضوعية، فالذهن ليس مستقلا عن الموضوعات، ولا الموضوعات مستقلة عن الذهن، وما نصادفه في المعرفة إنما هو حركة عالم موضوعي حقيقي في وسيط هو الفكر، وبدلا من أن نتصور المعرفة على أنها محاولة لاقتناص الواقع في شبكة من التمثلات والتصورات، علينا أن نتصور الواقع على أنه مبدأ فعال يكشف عن ذاته لنا في عملية التفكير. فليس ثمة حاجة إلى جلب الذات والموضوع والفكر والواقع سويا، وإنما هما مقترنان منذ البداية، بوصفهما القطبين اللذين يقع بينهما ما نسميه بعالمنا. فالمثالي والواقعي ليسا عالمين منفصلين، وإنما هما عنصران لا ينفصلان داخل كون واحد، وهكذا يسود مفهوم الواحدية تفكير جونس.
Bog aan la aqoon