وترددت قليلا ثم قلت: عن لي أن أزور قارئة الفنجان المشهورة.
فابتسمت قائلة: كما تشاء، الحقيقة اتسعت في أيامنا هذه، حتى شملت كل شيء.
وقبلت يدها، وغادرت مقامها إلى مصر القديمة، إلى مسكن المرأة التي شغل ذكرها صحفنا الكبرى. وجدت حجرة الانتظار مزدحمة، فطال انتظاري حتى أوشك صبري أن ينفد. ثم جلست أمامها على مقعد صغير مريح الوسادة، وحسوت فنجان القهوة، فلم تبق إلا الرواسب. وتناولت الفنجان وراحت تتأمله بعناية، وطال تأملها حتى قطبت كالحائرة.
ثم قالت: لا أدري كيف أقرأ مستقبلك.
فتساءلت منزعجا: أهو غامض لهذه الدرجة؟ - المسألة أن نجاتك أو هلاكك بيدك أنت. فليس عندي ما أقوله. - لي خصم عنيد مجهول. - نعم، أنت مجهول أمامه أيضا، وهو يخشاك كما تخشاه. - لم يعرفني بعد؟ - نعم، رغم أن الحياة جمعت بينكما أكثر من مرة! - جمعت بيننا؟ - هذا واضح. - أليس لديك معلومة إضافية تبل الريق؟
قلت ما عندي، والله معك.
تركتها مشتت الخاطر ينهمر فوق رأسي القلق من سماء ملبدة بالغيوم. تقول: إن الحياة جمعت بيننا أكثر من مرة، اللعنة! فهو إذن أحد سكان العمارة أو زميل في الوزارة، وربما يكون البك أو طبيب المصحة! وذهبت إلى الزهرة؛ لأتناول لقمة وأتمالك أنفاسي. سرح بي الخيال إلى عهد الطمأنينة والسلام قبل أن أطلب يد خطيبتي. وكيف نما إلى علمي أن نفرا من أهلها اقترحوا رفضي لهوان أصلي. ومع أن خطيبتي ذللت العقبات بقوة إرادتها إلا أن اقتراح الرفض آلمني جدا، ودفعني إلى النبش في الماضي؛ لعلي أعثر على أصل كريم غابر أخنى عليه دهر لا يرحم. وأهلتني دراستي الجامعية للبحث فتوغلت فيه بإصرار، وما زلت أنتقل من جد فقير إلى آخر أجير حتى اهتديت إلى جد خطير في عصره. كيف تدهور ذلك الجد العظيم؟ لقد تمرد على أبيه فحرمه من الميراث، واستقبلت ذريته تاريخا طويلا من الفقر والذل، وعرفت من التاريخ سر النزاع القديم الذي اتخذ من الثأر المتوارث وسيلة متجددة، ومقدسة فتك بها بأرواح لا تحصى من أبناء الأسرة جيلا بعد جيل، لا يعفى منها غني أو فقير. وقدرت بالحساب الدقيق أنني المرشح اليوم للقتل، لا يؤخر الأجل عني إلا أن الخصم لم يهتد إلي بعد. هكذا استوعبتني مشكلات الأصل والموت فلم تبق من حيويتي إلا القليل لمشكلات الحياة اليومية الملحة. وطبيب المصحة يرى أن تصوري لحل مشكلات مصر والعالم قادر ضمنا على حل مشكلتي المؤرقة، ولكن من يضمن لي الحياة حتى تحل مشكلات مصر والعالم؟! وتاقت نفسي للخروج من قصر التيه بأي ثمن، ولأن أحيا حياتي مهما كلفني الأمر. ودعوت خطيبتي إلى لقاء بالزهرة في أصيل اليوم التالي. ولبت كالعادة بكل حيويتها واستجابتها العذبة. وقصصت عليها حكايتي مع قارئة الفنجان منتظرا تعليقها. قالت باسمة: هذا يعني أنه يحتمل أن أكون أنا خصمك المجهول!
ثم بجدية: احذر أن تسيء الظن بالجميع، فتصبح وحيدا منبوذا.
فقلت بنبرة واضحة وقوية: لا أود أن أموت قبل أن أموت. - يسعدني أن أسمع ذلك. - وأود أن نتزوج في الحال.
فوهبتني الموافقة بنظرة عينيها ودون كلام. وإني على أتم استعداد والحمد الله. واتفقت مع مقاول من المترددين على الوزارة؛ لتجديد شقتي الصغيرة العتيقة، يغير أرضيتها ويصلح النوافذ ويدهن الجدران والأسقف، ويعيد بناء الحمام ودورة المياه والمطبخ. ولما انتهى العمل في الشقة مضوا يفرشونها بجهاز العروس تحت إشراف خطيبتي وأمها وأخيها ضابط الشرطة. ولما كلل التعب بحسن الختام إذا بحماتي تقول بنبرة ذات مغزى: لا بد من فرحة!
Bog aan la aqoon