الفجر الكاذب
نصف يوم
يرغب في النوم
الهمس
في غمضة عين
مرض السعادة
من تحت لفوق
رجل
خطة بعيدة المدى
النشوة في نوفمبر
Bog aan la aqoon
يوم الوداع
أحلام متضاربة
تحت الشجرة
ذكرى امرأة
مولانا
حوار
خيال العاشق
غدا تغرب الشمس
على ضوء النجوم
الجرس يرن
Bog aan la aqoon
وصية سواق تاكسي
الميدان والمقهى
المرة القادمة
القضية
ذقن الباشا
عندما يقول البلبل: لا
العجوز والأرض
فوق السحاب
الغابة المسكونة
في المدينة
Bog aan la aqoon
الفجر الكاذب
نصف يوم
يرغب في النوم
الهمس
في غمضة عين
مرض السعادة
من تحت لفوق
رجل
خطة بعيدة المدى
النشوة في نوفمبر
Bog aan la aqoon
يوم الوداع
أحلام متضاربة
تحت الشجرة
ذكرى امرأة
مولانا
حوار
خيال العاشق
غدا تغرب الشمس
على ضوء النجوم
الجرس يرن
Bog aan la aqoon
وصية سواق تاكسي
الميدان والمقهى
المرة القادمة
القضية
ذقن الباشا
عندما يقول البلبل: لا
العجوز والأرض
فوق السحاب
الغابة المسكونة
في المدينة
Bog aan la aqoon
الفجر الكاذب
الفجر الكاذب
تأليف
نجيب محفوظ
الفجر الكاذب
كأنما هو سباق بيني وبين قرص الشمس المائل نحو الغروب. بلغت شارع ابن ياسر المكلل بأشجار الأكاسيا على جانبيه. تستبق فوق أديمه السيارات في تيارات متدفقة، وتقوم في موقع من وسطه العمارة بمدخلها الواسع الممتد، وضوئها المشع من داخل الجدران الشفافة. رفعني المصعد إلى الدور الثامن. ضغطت على الجرس ففتحت الشراعة عن وجه الخادم. تقدمني إلى الثوي المكون من ثلاث حجرات متصلة، فجلست على مقعدي في الأعماق. أزاح الرجل ستارة وفتح نافذة، فتدفق هواء الخريف. وهلت سيدتي في فستان أزرق آية في البساطة والرقة، وشبشب أزرق مذهب السير، ترنو إلي بعينيها النجلاوين الثاقبتين، وأنا أتعجب من صفاء بشرتها. سألتني عما أحب أن أشرب، فطلبت القهوة فقالت إنها سلت بعض فراغها بصنع شيكولاتة بالبسكويت، قلت إذن أتناول واحدة. وأمرت لي بما طلبت. ونظرت في وجهي مليا، وقالت: واضح أنك لم تتقدم خطوة مفيدة.
فقلت في تسليم: هذه هي الحقيقة.
تساءلت ضاحكة: ترى أهو ذنب المشكلة أم ذنبك؟ - لا أدافع عن نفسي، ولكن لا يمكن أن أتهم بالإهمال. - كأننا لم نبدأ بعد. - وهذا ما يؤرقني.
وجاء الخادم دافعا أمامه خوانا، يحمل القهوة والشيكولاتة. وتركتني أحتسي القهوة في هدوء، ودون أن يزايلني التوتر. وقلت برجاء: لا تسيئي بي الظن. - تهمني النتائج لا النوايا أو الأقوال. - نحن في زمن عجيب، شهدنا إنسانا يهبط فوق سطح القمر، ونرى السوق ملأى بكتب عن القوى الخفية. - لا يعني هذا أن يقف الإنسان مكتوف اليدين، وهو يعلم أنه عرضة للهلاك في أي لحظة. - لم أقف مكتوف اليدين، وطالما أتعبت سعادتك معي. - أمرك يهمني كما تعلم.
فبسطت راحتي على صدري، وأحنيت رأسي شاكرا، ثم قلت: طبعا سمعت عن الذي قتل والديه؟ - والتي قتلت ابنها، وقديما سمعنا عن ريا وسكينة. ماذا تريد أن تقول؟ - يشعرني ذلك باقتراب القدر.
Bog aan la aqoon
فقامت لتغادر المكان، وهي تقول: سأحرر لك رسالة للبك.
وغابت حوالي ربع ساعة ثم رجعت، فسلمتني رسالة مطوية في مظروف مغلق، وتساءلت: هل تبقى للعشاء؟
فقمت بدوري شاكرا، وغادرت الشقة. ليل الخريف هبط بسرعته المألوفة، وأضواء السيارات المبهرة اقتحمت الأعين. وذكريات متلاطمة تفعل بإحساسي ما تفعله أضواء السيارات المبهرة، ولكنها تختفي وتضيع قبل أن أقبض عليها. فالدنيا تبدو مراوغة مثيرة للحيرة والقلق. ومضيت من توي إلى شارع البورصة، إلى مشرب الزهرة الصغير الأنيق الذي لا يتلاشى الجالس فيه. طلبت من النادل سندوتش لحم بقري وقدح شاي، وقال لي الرجل قبل أن يذهب: سألت عنك .. وستجيء لمقابلتك بعد قليل. سررت بذلك وتناولت عشائي وانتظرت.
ولم يطل بي الانتظار، فجاءت تخطر في بنطلونها بجسمها الرشيق الثري، ووجهها الأسمر الصافي المنمق، وقد ارتدت جاكتة من الجلد البني. وطلبت الشاي كالعادة وهي تنظر إلي في عتاب: لم أرك منذ أيام. - آسف، أنا غريق في مشكلتي، وأمضي من وسيط إلى وسيط. - لم يمنعك ذلك من ملاحقتي كظلي في وقت مضى. - لا يمنعني عنك إلا عذر قاهر. - ولكنك تدور في حلقة مفرغة، لا ترى لها نهاية. - لولا أنه يوجد في الدنيا أمل كالذي تعدينني به؛ لانتهيت من زمن بعيد.
استشعرت شيئا من الحياء وهي تتساءل: لماذا تصر على تأجيل زواجنا حتى تحل جميع مشكلاتك؟ - هذا هو التصور الطبيعي. - ولكن الزواج يهيئ لك نصف الأمان على الأقل؛ فأخي من كبار رجال الشرطة!
فقلت وأنا أنظر في عينيها بإشفاق: خصمي شخص مجهول. - هو أيضا لم يهتد إليك بعد، وقد يساعدك أخي على معرفته. - أتمنى أن أتزوج وأنا رائق البال. - لا عقبة في طريقنا إلا ما ينبثق من ذاتك.
عاودتني عواطف صافية من زمن مضى، فرمقتها بحنان وحب وقلت: فلنجلس لنحلم في عذوبة وهدوء، وقريبا سوف تنقشع الهموم.
وتبادلنا حبا عميقا بلا كلمة ولا حركة. وفي لحظات عابرة بدت الدنيا مراوغة، وتلاشت حبيبتي من مجلسها القريب. وعادت مرة أخرى مشرقة الوجه، فواصلنا الحب المتبادل الصامت. ولما تركتني تذكرت بزهو عنادي في مطاردتها، حتى انتزعت من صميم قلبها الاعتراف بالحب، وأمدني اللقاء بحماس جديد، فقمت لأقابل البك وأسلمه الرسالة. ذهبت إلى النادي بشارع الشط الأخضر، وجدته جالسا مع نخبة من الأصدقاء في الشرفة المطلة على الحديقة الواسعة. ولما رآني مقتربا قام مستأذنا من صحبه، وصافحني إكراما طبعا للهانم، ومضى بي إلى الثوي الأخضر. أجلسني قريبا منه، ونظر إلي بعينيه الثقيلتين وبوجه لا يعبر عن شيء، وسألني: هل من جديد؟
فقلت بأسى: أقابل أناسا وأتلقى وعودا.
وتناول مني الرسالة وأبقاها في يده المنبسطة، وتساءل: ألا يقنعك هذا؟ - أريد أن يتحقق وعد. - لكل عمل يشغله، هذه أيام الصرف الصحي، والعدوان على تونس، وخطف السفينة الإيطالية، ثم خطف الطيارة المصرية ... والدولار. - مشكلتي غاية في البساطة. - أنت تتصور ذلك، لا، انظر إلى الموضوع بعين محايدة. - لكن حياتي مهددة! - هل تعرف عدد الفلسطينيين الذين قتلهم الإسرائيليون؟ .. والفلسطينيين الذين قتلهم العرب؟ .. وضحايا العنصرية في جنوب أفريقيا .. والطائفية في لبنان، وضحايا الزلازل والبراكين، والسموم البيضاء، والمظاهرات؟
Bog aan la aqoon
فقلت وأنا أنظر بين قدمي: ما علي إذن إلا أن أستسلم للموت. - بل أعني أن تصبر وتعتمد على النفس. - أليس من الحكمة أن أستثمر علاقاتي بالرجال الكبار؟ - لن ينقذك إلا اعتمادك على نفسك، افعل ما فعله رمسيس الثاني عندما حاصره الحيثيون، وأوقعوه في الشرك ...
فقلت وأنا أداري ابتسامة: سيدي، أنا لست رمسيس الثاني. - لتكن رمسيس المائة أو الألف.
وتنبه للرسالة بين يديه، فقص المظروف وقرأها بعناية. ونادى النادل فطلب رسالة ومظروفا. وفي تلك الأثناء هفت إلى أنفي رائحة مسك فلم أستطع أن أخفي اضطرابي، فسألني عما ألم بي، فكاشفته بما تردده الشائعات عن خصمي المجهول، قلت: إنه يتطيب عادة بالمسك.
فقال الرجل بضجر: وغيره كثيرون، لا أظنه عضوا في نادينا.
وغرقت في مستنقع الهواجس على حين راح هو يكتب التوصية الجديدة، ثم سلمها إلي في مظروف مغلق. وغادرت النادي، ولما قرأت اسم الوسيط الجديد، رأيت أن أذهب إليه ضحى الغد. وذهبت إلى مسكني بشارع الجندي المجهول، غيرت ملابسي وجلست أمام التليفزيون أشاهد فيلما بطله سيارة تندفع ذاتيا، وتقتل من يصادفها من البشر. شقتي صغيرة بالية ولكن الزمن رفعها ألف درجة، وجعل منها درة لا يفوز بها إلا ذو حظ سعيد. وقد أقمت بها مع قريب على عهد التلمذة، ثم استقللت بها بعد انتهاء دراستي الجامعية وتعييني في الوزارة. ورن جرس الشقة فعاودني الشك الذي اجتاحني حين شممت رائحة المسك، ومضيت إلى العين السحرية فطالعني وجه جارتي المقيمة في الشقة المواجهة لشقتي. ماذا جاء بها دون طلب أو اتفاق؟ دخلت ملتفة في روب وردي مشرقة الوجه بالزواق، ولما رأت فتور وجهي، قالت: لا تحب أن تراني إلا وقت الحاجة؟!
وجلست على مقعد قريب من مقعدي وهي تقول: لا يوجد زبائن، فقلت: أسلي وحدتي بجلسة بريئة!
ثم بعد صمت: ماذا جرى للزبائن؟
فقلت دون أدنى اكتراث: لعلها الحالة الاقتصادية. - أنا لا أتعامل بالدولار.
وتفحصتني قليلا ثم قالت: ما زلت غارقا في همومك؟ - طبعا. - يوجد في قريتي من يصمم على قتلي، لو عثر علي ولكني لا أفكر في الغد.
فقلت بحياد: كل شيخ وله طريقة. - لكل أجله وهو يعمل مستقلا عن الأسباب.
Bog aan la aqoon
فقلت وأنا أداري غيظي: فلسفة عظيمة، أنت امرأة سعيدة. - لا .. وزني ثقيل، وهو آخذ في الازدياد، وتسبب في حرماني من تعلم الرقص. - ولكن الشهرة ليست في صالحك، وقد تدل عليك من يريد قتلك.
وانقطع حبل الحديث. ولم تجد من ناحيتي أي رغبة في وصله، فسلمت بفشل مهمتها، وانصرفت وهي تلوح لي مودعة. وأنا أهم بالنوم عاودني الإحساس بأن الدنيا تراوغني، فخيل إلي أن جارتي لم تأت لزيارتي، وخيل إلي حينا آخر أنها ترقد إلى جانبي، وفي الصباح ذهبت إلى الوزارة. هي المكان الوحيد الذي ألقى فيه الاحترام وأسمع الثناء تلو الثناء. ولي زميل غاية في الدماثة والمودة. وهو يحثني دائما على أن أعيش حياتي، وأن أستهين بالظنون والأقاويل التي لا يقوم عليها دليل مادي .. يقول لي: من منا لا يتربص به الموت؟
ودعاني ذلك الصباح إلى الاشتراك في رحلة إلى جنوب سيناء، فوعدته بالتفكير في الأمر. وعند الساعة العاشرة استأذنت في الانصراف لعذر مهم، وغادرت المؤسسة إلى شارع الوادي الجديد، حيث توجد عيادة الوسيط الجديد الذي أحمل إليه الرسالة. ورجوت التمرجي أن يوصل الرسالة إلى الطبيب فذهب بها ثم عاد بعد دقائق؛ ليأذن لي في الدخول فورا. وجدت الطبيب جالسا وراء مكتبه يطالعني بشخصية قوية وعينين نافذتين، غير أنه توكد لدي ما يحظى به صاحب الرسالة من منزلة فريدة عنده. قلت: أعتقد أني قادم إلى سعادتك بصفتك الشخصية لا المهنية.
فسألني بجدية: ما الذي حملك على هذا الاعتقاد؟ - مشكلتي، بل كل مشكلاتي، لا علاقة لها بالطب.
لكن الطب له علاقة بكل مشكلة، على أي حال ظنك في محله، وما نريد إلا أن تمكث في مصحة لي بحلوان فترة من الزمن؛ حيث يتهيأ الأمان والأمن. - ولكني بعد خروجي، سأرجع إلى ما كنت فيه. - أو يكون الوسطاء قد تمكنوا من تصفية مشكلاتك في أثناء ذلك. - ولكن المصحة ستسيء إلى سمعتي! - مصحتنا تعيش في سرية كاملة.
وترددت متفكرا فتساءل: ألا يوجد في حياتك ما تخجل منه أو تندم عليه؟ - هذه مسألة أخرى. - بل لعل كثيرا من المشكلات يرجع إليها.
فقلت بيأس: إذن فأنا ذاهب للعلاج. - لن أفرض عليك شيئا لا تريده.
وقلت بمرارة وكأنما أخاطب نفسي: كيف أعيش بين مجانين؟!
فتساءل متهكما: وهل تعتبر نفسك عائشا بين عقلاء؟!
وانفجر قلقي فقلت: معذرة يا سيدي، لن أذهب إلى المصحة.
Bog aan la aqoon
فقال بهدوء كريه: في هذه الحالة سأوصي إليك بأن يتركوك لشأنك، دون رعاية أو عناية.
فقلبت النغمة قائلا: أعطني مهلة قصيرة.
فقال موافقا: لك ذلك.
أنفقت بقية النهار متسكعا، وتجاذبتني طوال الوقت الحقائق والأحلام، ولم تبق إلا خطوة يسيرة؛ لأتساءل عمن أكون، وفي أي مكان أقيم، والزمان الذي أعاصره. ورجعت مساء إلى عمارتي، ولكني قصدت شقة الجارة لا شقتي. وخيل إلى أنها استقبلتني دون مبالاة، وربما بشيء من الجفاء، وكأنما تعاقبني على إعراضي عنها ليلة أمس. ولكن مسكنها يضفي علي شعورا بالألفة، ولا يخلو من فتور وضجر وإحساس شبه خفي بالخيبة. وهو بعيد كل البعد عما يجده الزائر المتسلل من التوتر والمغامرة. ولكيلا تتساءل عن سر غيابي الوشيك زعمت لها أني راحل إلى قريتي لمهمة طارئة. وفي الصباح أعددت حقيبتي وذهبت إلى المصحة بحلوان. وهي مبنى رائع يقع في أقصى المدينة، ويقوم على هضبة تطل على الصحراء. واخترقت حديقة واسعة لأصل إلى البناء في العمق، وقادوني إلى جناح يتكون من صف طويل من الحجرات، تفتح أبوابها على ممشى طويل يتصل بالحديقة بسلم رخامي يشغل الوسط. وتبدت حجرتي بيضاء الجدران والسقف، بها ما يلزم من فراش وصوان وخوان ومقعدين، ولبثت وحيدا، حتى جاءتني ممرضة ناضجة الشخصية والأنوثة بالغداء. سألتها عن الطبيب فأجابت بأدب: سيجيء في وقته!
وأعطتني قارورة صغيرة تشف عن أقراص بيضاء خالية من أي ملصقات، وقالت: حبة بعد كل وجبة.
فقلت محتجا: ولكنني لست مريضا.
فقالت بهدوء وهي تغادرني: ليست مصحتنا للمرضى، ولكنها للراحة والأمان.
وأخذت أشعر بالندم على المجيء، وأنتظر في ملل متصاعد. وفي تمام الخامسة مساء، انفتح الباب ودخل الطبيب. جلس على المقعد الآخر أمامي وقال: بداية حسنة، فانعم بالأمن والأمان.
فقلت بقلق: ولكني أتعاطى دواء. - ما هو إلا مهدئ وفاتح للشهية. - ومتى يستحسن أن أذهب؟ - وقتما تشاء من ناحية المبدأ، أما إذا راعينا مصلحتك، فالأوفق أن تذهب بعد أن تؤدي الامتحان. - أي امتحان يا سيدي؟ - ما عليك إلا أن تسجل على الورق أكبر مشكلة مصرية، وأكبر مشكلة عالمية، ثم تفكر في الحل المناسب لكل منهما.
فندت عني ضحكة عالية، وقلت: لا شك أنك تمزح يا سيدي.
Bog aan la aqoon
فقال بجدية وبرود: ليست مصحتي مسرحا فكاهيا.
فقلت متراجعا: معنى هذا أني سأبقى هنا إلى الأبد. - إنها محاولة لمعرفة تصورك ليس إلا، وعقب ذلك تذهب بسلام. - ولكن ما علاقة ذلك بمشكلتي أنا؟ - إذا استطعت أن تقدم تصورا لحل مشكلتي مصر والعالم، فلا شك أنك تستطيع ذلك بالنسبة لمشكلتك الخاصة. - لكن مشكلتي من نوع خاص. - ولو، لن تكون أعقد من مشكلات العالم. - أنت تعلم، ولا شك أنني مهدد بالقتل في أي لحظة. - كلنا مهددون بالقتل في أي لحظة!
وسكت مغلوبا على أمري، حتى هم بالذهاب فسألته: هل يشترط أن تكون الإجابة صحيحة؟ - لا أحد يزعم أنه يعرف الإجابة الصحيحة ليقيس عليها، حسبك أن تقدم تصورا معقولا.
وعلى أثر ذهابه جاءتني الممرضة بورقة مسطرة وقلم رصاص، ووضعتهما على الخوان. جذبتني بقوة إلى أنوثتها ونضجها دون أن تتكلف كلمة أو حركة. وانبعثت في آمال عجيبة ملأتني جرأة، وفي الوقت نفسه محت صورتها من قلبي العالق من خطيبتي وجارتي. قلت لها: إني مدين لك بحسن الرعاية.
فقالت بجدية وحياء: إني أؤدي واجبي.
ونظرت إلى خاتم الزواج في يسراها، وتساءلت: سعيدة في زواجك؟
فقالت بدهشة: سؤال غريب! - لا مؤاخذة ولكن لي هدفا. - أي هدف؟ - إذا خطر لك أن تجربي حظك من جديد؛ فإنني على أتم الاستعداد للزواج منك.
فغادرت الحجرة دون أن تنبس بكلمة. وسرت في قشعريرة إحباط وبرودة، وضقت بالحجرة، فخرجت إلى الممشى. بعض النزلاء يجلسون أمام الحجرات أو يتمشون. جاري رجل في الأربعين، حدجني باهتمام فتبادلنا التحية. واقترب مني وسألني عما جاء بي، فلخصت له الموقف في شيء من التحفظ، ثم سألته بدوري عما جاء به، فقال: لعلي الوحيد بينكم الذي جاء بلا مشكلة! - ولكن كيف؟ - أنا رجل ميسور الحال، صاحب مزاج، أحب السرور والرحلات، ولا أحمل للدنيا هما. - عظيم .. عظيم. - لي صديق مشترك بيني وبين الطبيب، هاله أن يجدني بلا مشكلة، وأصر على أن أعيش في المصحة مدة. - جئت؛ لأنك بلا مشكلة! - هذا هو الواقع. - وكيف قبلت؟ - قلت: لتكن تسلية جديدة. - وهل أديت الامتحان؟ - هذه هي مشكلتي الجديدة، فلا علم لي عن أي مشكلة في مصر أو العالم، ولا أقرأ من الصحيفة إلا الإعلانات والوفيات، وأين تذهب هذا المساء. - ما عليك إلا أن تقرأ الصحف، وستمدك بمشكلات لا حصر لها.
فتساءل ضاحكا: وكيف أقدم حلولا لمشكلات لا تهمني ألبتة؟
والحق أنه امتص مني توتري بغرابة مشكلته، وفتح نفسي للرجوع إلى حجرتي لأداء الامتحان المطلوب مني. وعند منتصف الليل آويت إلى فراشي ونمت نوما عميقا. وفي الصباح الباكر جاءتني الممرضة بالإفطار. وجاءت معها برائحة ما إن شممتها حتى ارتعدت أطرافي. ولما لاحظت تغيري سألتني عما ألم بي، فقلت بقلق لم أستطع أن أداريه: هذه الرائحة!
Bog aan la aqoon
فقالت بثقة: رائحة المسك أطيب الروائح. - من أين لك بها؟ - أهدانيها أحد زوار النزلاء. - هل يتردد على المصحة من زمن؟ - منذ أكثر من شهر، ألا تعجبك؟
فقلت متحفظا: هي مرتبطة في حياتي بذكريات غير سارة!
فقالت بمرح: فك الارتباط، وتناول إفطارك.
ونضب إعجابي بالممرضة وتبخر. ولعلها شعرت بذلك على نحو ما فتساءلت بجدية: هل فرغت من تسجيل المشكلات لآخذها إلى الدكتور؟
وفي الحال أعطيتها الورقة؛ لأتخلص منها في أقصر مدة. وجاءني الطبيب قبيل الظهر. دعاني إلى الجلوس أمامه واضعا الخوان بيننا، وألقى على ورقتي نظرة جديدة، وقال: أنت ترى أن مشكلة مصر الأولى تتركز في عدد السكان؟ - هي أم المشكلات كلها. - عظيم، أي حل تقترح لها؟ - يجب أن يهبط العدد إلى ما يتناسب مع الإمكانات المتاحة، فتحل جميع المشكلات دفعة واحدة. - وكيف نتخلص من الزائد؟ - بالهجرة الدائمة، وقتل الباقي بوسيلة رحيمة خالية من الألم! - يا لك من رجل رحيم! - كل عاقل يجب أن يعتبرني كذلك. - ومن حسن الحظ أنني عاقل .. والآن ننتقل إلى العالم، فأنت ترى أن الحرب النووية هي مشكلته الأولى؟ - نعم. - فكيف ترى العلاج؟ - أن تقوم الحرب وتقضي على العالم، وتخلصه من مخاوفه. - ولكن الإبادة ستلتهم المخاوف والخائفين معا. - أو يبقى نفر كالذين نجوا من الطوفان. - الحق أن تفكيرك لا يخلو من رحمة وكمال دائما!
وتبادلنا نظرة طويلة، ثم سألته بقلق: هل أستطيع أن أذهب الآن؟
فقال وهو يقوم تأهبا للذهاب: بيدك وحدك أن تذهب وقتما تشاء.
وفي الحال أعددت حقيبتي وذهبت. ذهبت أسوأ مما جئت، ولكن روح استهانة استحوذت علي، وأملت علي أن أمضي في حياتي دون اعتبار لأي شيء إلا الحياة نفسها. ونازعتني نفسي إلى لقاء الهانم التي لولا عطفها؛ لهلكت من زمن بعيد. وعند العصر أقبلت علي في ثوبها متلفعة بروب خفيف بنفسجي زادها جمالا وصفاء. جلسنا حول إبريق الشاي وهي تقول: لم يفتني شيء من أخبارك، وإني مسرورة بما سمعت.
فنظرت إليها بارتياب وقلت: تجربة المصحة تجربة غريبة، وفي جملتها غير سارة، وحتى هنا طاردتني رائحة المسك.
فابتسمت عن لآلئها، وقالت: الطبيب مرتاح ومتفائل، ويجب أن تطمئن إلى حكمه فهو ثقة علامة.
Bog aan la aqoon
وترددت قليلا ثم قلت: عن لي أن أزور قارئة الفنجان المشهورة.
فابتسمت قائلة: كما تشاء، الحقيقة اتسعت في أيامنا هذه، حتى شملت كل شيء.
وقبلت يدها، وغادرت مقامها إلى مصر القديمة، إلى مسكن المرأة التي شغل ذكرها صحفنا الكبرى. وجدت حجرة الانتظار مزدحمة، فطال انتظاري حتى أوشك صبري أن ينفد. ثم جلست أمامها على مقعد صغير مريح الوسادة، وحسوت فنجان القهوة، فلم تبق إلا الرواسب. وتناولت الفنجان وراحت تتأمله بعناية، وطال تأملها حتى قطبت كالحائرة.
ثم قالت: لا أدري كيف أقرأ مستقبلك.
فتساءلت منزعجا: أهو غامض لهذه الدرجة؟ - المسألة أن نجاتك أو هلاكك بيدك أنت. فليس عندي ما أقوله. - لي خصم عنيد مجهول. - نعم، أنت مجهول أمامه أيضا، وهو يخشاك كما تخشاه. - لم يعرفني بعد؟ - نعم، رغم أن الحياة جمعت بينكما أكثر من مرة! - جمعت بيننا؟ - هذا واضح. - أليس لديك معلومة إضافية تبل الريق؟
قلت ما عندي، والله معك.
تركتها مشتت الخاطر ينهمر فوق رأسي القلق من سماء ملبدة بالغيوم. تقول: إن الحياة جمعت بيننا أكثر من مرة، اللعنة! فهو إذن أحد سكان العمارة أو زميل في الوزارة، وربما يكون البك أو طبيب المصحة! وذهبت إلى الزهرة؛ لأتناول لقمة وأتمالك أنفاسي. سرح بي الخيال إلى عهد الطمأنينة والسلام قبل أن أطلب يد خطيبتي. وكيف نما إلى علمي أن نفرا من أهلها اقترحوا رفضي لهوان أصلي. ومع أن خطيبتي ذللت العقبات بقوة إرادتها إلا أن اقتراح الرفض آلمني جدا، ودفعني إلى النبش في الماضي؛ لعلي أعثر على أصل كريم غابر أخنى عليه دهر لا يرحم. وأهلتني دراستي الجامعية للبحث فتوغلت فيه بإصرار، وما زلت أنتقل من جد فقير إلى آخر أجير حتى اهتديت إلى جد خطير في عصره. كيف تدهور ذلك الجد العظيم؟ لقد تمرد على أبيه فحرمه من الميراث، واستقبلت ذريته تاريخا طويلا من الفقر والذل، وعرفت من التاريخ سر النزاع القديم الذي اتخذ من الثأر المتوارث وسيلة متجددة، ومقدسة فتك بها بأرواح لا تحصى من أبناء الأسرة جيلا بعد جيل، لا يعفى منها غني أو فقير. وقدرت بالحساب الدقيق أنني المرشح اليوم للقتل، لا يؤخر الأجل عني إلا أن الخصم لم يهتد إلي بعد. هكذا استوعبتني مشكلات الأصل والموت فلم تبق من حيويتي إلا القليل لمشكلات الحياة اليومية الملحة. وطبيب المصحة يرى أن تصوري لحل مشكلات مصر والعالم قادر ضمنا على حل مشكلتي المؤرقة، ولكن من يضمن لي الحياة حتى تحل مشكلات مصر والعالم؟! وتاقت نفسي للخروج من قصر التيه بأي ثمن، ولأن أحيا حياتي مهما كلفني الأمر. ودعوت خطيبتي إلى لقاء بالزهرة في أصيل اليوم التالي. ولبت كالعادة بكل حيويتها واستجابتها العذبة. وقصصت عليها حكايتي مع قارئة الفنجان منتظرا تعليقها. قالت باسمة: هذا يعني أنه يحتمل أن أكون أنا خصمك المجهول!
ثم بجدية: احذر أن تسيء الظن بالجميع، فتصبح وحيدا منبوذا.
فقلت بنبرة واضحة وقوية: لا أود أن أموت قبل أن أموت. - يسعدني أن أسمع ذلك. - وأود أن نتزوج في الحال.
فوهبتني الموافقة بنظرة عينيها ودون كلام. وإني على أتم استعداد والحمد الله. واتفقت مع مقاول من المترددين على الوزارة؛ لتجديد شقتي الصغيرة العتيقة، يغير أرضيتها ويصلح النوافذ ويدهن الجدران والأسقف، ويعيد بناء الحمام ودورة المياه والمطبخ. ولما انتهى العمل في الشقة مضوا يفرشونها بجهاز العروس تحت إشراف خطيبتي وأمها وأخيها ضابط الشرطة. ولما كلل التعب بحسن الختام إذا بحماتي تقول بنبرة ذات مغزى: لا بد من فرحة!
Bog aan la aqoon
لكن مدخراتي أوشكت على النفاد، وهمست بذلك، فقالت الست: لا نريد حفلا في فندق، حسبنا عشاء لائق في مطعم خلوي، وبلا رقص أو غناء!
ولبيت رغبتها على رغمي، واقتصرت الدعوة على الأهل. غير أني دعوت الهانم فشرفتنا مع هدية سعيدة متبرعة للاجتماع بفرقة «كان كان» الموسيقية. وجلسنا متواجهين حول مائدة طويلة، ورأيت بين المدعوين البك وطبيب المصحة، دون أن أدري كيف تم ذلك. وعاودني إحساسي الغريب بمراوغة الذكريات الغامضة، ولكن سعادتي بالعروس غلبت على كل شيء. وخطر لي في أثناء الطعام أن خصمي المجهول موجود حتما بين المدعوين، ولكني طردت الفكرة بإصرار وواصلت الأكل والشرب. ولما فرغنا من الطعام وقف رجل كان يجلس في الصف الآخر إلى يسار حماتي ليلقي كلمة فيما بدا. خيل إلي لأول وهلة أنني أراه لأول مرة في حياتي، ثم خيل إلي مرة أخرى أنني سبق أن لمحت هذا الجبين البارز والحاجبين الغزيرين والفكين القويين، ولكن أين؟ ومتى؟
وملت نحو الهانم الجالسة إلى جانبي وسألتها عنه، فقالت: رجل طيب يقدم نفسه في الأفراح طلبا للرزق!
وركزت عليه بصري باهتمام لا يخلو من قلق، أما هو فراح يقول بصوت جهير:
سيداتي .. آنساتي .. سادتي
للفرح يوم واحد، لا يتكرر مهما تكرر، وهو من صنع الرحمن لا البشر، من أجل أسمى غاية وهي عمران الوجود، فالزواج طاعة، والحب عبادة، إذا حاد أحدهما عن طريقه ضل إلى الأبد. وفي مثل هذا اليوم تسجل الحياة أحد انتصاراتها الرائعة، فلنهنئ العروسين، ولنحي ذكرى ربي أسرتهما النبيلة آدم وحواء، اللذين دفعا إلى دنيانا بسبب العصيان، ورفعا منها بحكم الغفران، ولندع الله أن ينصرنا على إبليس، عدو الأسرة القديم الذي لا يكف عن طلب الثأر، والعقبى لكم في المسرات.
وأحنى الرجل رأسه؛ شكرا للتصفيق الذي أعقب كلمته ثم جلس. وكاد ذكر الثأر يفسد علي ليلتي، لولا لباقة عروستي التي جذبتني لنجواها. وانفض الحفل الصغير على خير حال. ومضيت بعروسي إلى شقتي، ولكن استعصى علي أن أدخل المفتاح في عروة الباب. ماذا حدث؟! وفتحت شراعة الباب عن وجه لم أتبين معالمه. سألني قبل أن أفيق من ذهولي: من أنت؟
فصرخت فيه: من أدخلك شقتي؟
فصاح الرجل بغضب: سكران! .. مجنون! .. اذهب قبل أن أكسر دماغك.
ادعى كل منا أن الشقة شقته، وأن الآخر معتد أو معتد ومجنون، ولم أجد بدا من الاستغاثة بالشرطة. ولكن أين عروسي؟ هل بادرت إلى أخيها؟ ولم أحب أن أضيع الوقت في البحث عنها، فذهبت إلى قسم الشرطة، واصطحبني ضابط إلى الشقة، واطلع على العقد، ثم صارحني بأنه لا يستطيع أن يتعرض للرجل بسوء، وأن الأمر يجب أن يعرض على النيابة. وتكشف التحقيق عن غرائب وعجائب. أثبت الرجل أن الشقة شقته بعقد قديم، وشهد معه صاحب العمارة والبواب وكثرة من السكان. واستشهدت بعروسي وآلها الذين فرشوا الشقة بأيديهم، وأدلوا بشهادتهم القاطعة بأنهم لا يعرفونني، وأنني لم أتزوج من ابنتهم. وماذا يقول الذين لبوا دعوة العشاء وشهدوا الزفاف؟ .. ماذا تقول الهانم، والطبيب، والبك؟ .. أجمعوا على أن أقوالي ادعاءات باطلة لا أصل لها وأنهم لا يعرفونني، ولم توجد بينهم وبيني أي صلة. ولعل الوحيد الذي لم ينكرني، والذي جاء دون دعوة مني، هو صاحب الخطبة. سمعته يقول للمحقق إنه أخي الأكبر، ويرجو أن يذهب بي لأعالج من تلك الحالة الطارئة!
Bog aan la aqoon
ودخلت في شبه غيبوبة لا أدري كم غشيتني ولا متى انقشعت. ولكني أنتبه أحيانا إلى وجود أخي إلى جانبي، وأحيانا أخرى أعي إقامتي في مصلحة الطبيب بحلوان. وبعودتي إلى ذاتي أدركت أنني مريض وأنني أعالج، وأن الطبيب يعالجني بالعقاقير والكهرباء. ولما خاطبت أخي في شئوننا الخاصة هتف الرجل بسرور: الحمد لله، ها أنت تعود إلى الواقع.
ولكن علاجي امتد طويلا وجالسني الطبيب كثيرا، حتى أنست إليه وأسرني بذكائه وإنسانيته. وفي آخر مرة قال لي: أعتقد أنك على أتم ما يكون من الشفاء الآن.
فوافقته بتسليم وصبر. فسألني: ما حقيقة علاقتك بأخيك الأكبر؟
فأجبت بهدوء ويقظة ودون أي إرهاق: إني أقيم معه في شقته بالعمارة، وهو زوج وأب، وذو ميول دينية واضحة، ولا يكف عن حضي على الزواج رغم الظروف المعاكسة، ولم ير بأسا من أن أتزوج بجارتنا الأرملة، على رغم أنها تكبرني بأعوام، ولكنها تملك الشقة وبعض المال، ولم أذعن لمشيئته؛ لنفور قلبي من المرأة ولارتيابي في استقامة سلوكها، لا أنكر عطفه علي ونصاعة خلقه، ولكنه طالما وقف من سلوكي موقف الناقد طويلا بل والرافض.
ولما سألني عن عروسي ضحكت طويلا، وقلت: كانت زميلتي في الكلية، أحببتها وكأنها كانت تزن مستقبلها بميزان العقل، فأثبتت لي بمنطق واضح حاد أنني غير صالح للزواج، أي غير قادر عليه. وفضلا عن ذلك فقد صارحتني بأن أهلها يصرون على اختيار زوج لها من طبقتها.
وسألني عن الهانم فقلت: عرفتها من خلال عملي بوزارة الشئون الاجتماعية كرئيسة لإحدى الجمعيات الخيرية، بهرني جلالها وقوة شخصيتها ورقة إنسانيتها، وأقررت لها بأنها تملك من المزايا ما يؤهلها لحكم أمة حكما عادلا سعيدا، ولم أجد بها من عيب إلا زواجها من «البك»، الذي كان أدنى منها كثيرا في العلم والخلق.
وقال الطبيب: أما أنا فلا شك أنك عرفتني عن طريق التليفزيون. - بالضبط، وأعجبت بأسلوبك في معاملة مرضاك باعتبارهم ضيوفا. - تبقى مسألة القتل والثأر، فهل لك أعداء؟
فقلت ضاحكا: بدأت المسألة بالمجاز، يقول أخي لي في شتى المناسبات إنني عدو نفسي وإنه يجب أن أحذر العدو الكامن بين جوانحي، وأقول له إنه يوجد أكثر من عدو يتربصون بنا الدوائر .. وإلا فكيف تفسر هذا الانهيار الشامل؟!
وهز الطبيب رأسه وهو يبتسم، ثم قال: وفي حوارنا المتصل الطويل لمست انفعالك الشديد حول قيم كثيرة كالعلم والعمل والسعادة، أيرجع ذلك للأسباب التي ذكرتها؟
فقلت بحدة: ليس ذلك فحسب، لكني أذكر دائما دراستي الجامعية الضحلة العقيمة، وبطالتي التي أمارسها في الوزارة، والسعادة التي أحلم بها دون جدوى. - ورحت تكمل ما ينقصك بأحلام اليقظة، حتى أشرفت على الضياع الذي أنقذت منه بمعجزة.
Bog aan la aqoon
فقلت خاشعا: بفضلك يا سيدي.
وخرج أخي عن صمته فقال: وبفضل الله قبل كل شيء.
فقال الطبيب: حدثني الآن عن الدرس الذي أفدته من إقامتك القصيرة في مصحتي؟
فقلت بحماس: إن أحلام اليقظة غير مجدية!
نصف يوم
سرت إلى جانب أبي متعلقا بيمناه، جريت لألحق بخطاه الواسعة. ملابسي كلها جديدة، الحذاء الأسود والمريلة الخضراء والطربوش الأحمر. غير أني لم أسعد بالملابس الجديدة سعادة صافية، فيومي لم يكن يوم عيد، ولكنه أول يوم يلقى بي في المدرسة. وقفت أمي وراء النافذة تراقب موكبنا الصغير، فالتفت نحوها كالمستغيث بين حين وآخر. تقدمنا في شارع بين الجناين تحف به من الجانبين حقول مترامية مزروعة بالخضر والتين الشوكي وأشجار الحناء وبعض النخلات. قلت لأبي بحرارة: لماذا المدرسة؟ .. لن أفعل ما يضايقك أبدا!
فقال ضاحكا: أنا لا أعاقبك، المدرسة ليست عقابا، ولكنها المصنع الذي يخلق من الأولاد رجالا نافعين، ألا تريد أن تصير مثل أبيك وإخوتك؟!
لم أقتنع. لم أصدق أنه يوجد خير حقا في انتزاعي من بيتي الحميم، ورميي في هذا المبنى القائم في نهاية الطريق، مثل حصن هائل شديد الجدية والصرامة عالي الأسوار. ولما بلغنا البوابة المفتوحة تراءى لنا الفناء واسعا ومكتظا بالأولاد والبنات. وقال أبي: ادخل بنفسك وانضم إليهم، ابسط وجهك وابتسم، وكن مثالا طيبا.
ترددت وشددت أصابعي على راحته، ولكنه دفعني برفق وهو يقول: كن رجلا، اليوم تبدأ الحياة حقا، ستجدني في انتظارك وقت الانصراف.
مشيت خطوات ثم وقفت أنظر، أنظر ولا أرى. ثم أنظر، فتلوح لي وجوه الأولاد والبنات. لا أعرف أحدا ولا أحد يعرفني. شعرت بأنني غريب ضائع. ولكن ثمة نظرات اتجهت نحوي بدافع من حب الاستطلاع، واقترب مني ولد وسألني: من الذي جاء بك؟
Bog aan la aqoon
فهمست : أبي.
فقال ببساطة: أبي ميت.
لم أدر ماذا أقول له. وأغلقت البوابة مرسلة صريرا مؤثرا. أجهش البعض بالبكاء، دق الجرس، جاءت سيدة يتبعها نفر من الرجال، أخذ الرجال يرتبوننا صفوفا، انتظمنا شكلا دقيقا في فناء واسع محاط بين ثلاث جهات بأبنية مرتفعة مكونة من طوابق، وبكل طابق شرفة طويلة مسقوفة بالخشب تطل علينا. وقالت المرأة: هذا بيتكم الجديد، هنا أيضا آباء وأمهات، هنا كل شيء يسر أو يفيد من اللعب إلى العلم إلى الدين، جففوا الدموع واستقبلوا الحياة بالأفراح.
استسلمنا للواقع، وسلمنا الاستسلام إلى نوع من الرضا .. وانجذبت أنفس إلى أنفس. ومنذ الدقائق الأولى صادق قلبي من الأولاد من صادق، وعشق من البنات من عشق، حتى خيل إلي أن هواجسي لم تقم على أساس. لم أتصور قط أن المدرسة تموج بهذا الثراء كله. ولعبنا شتى الألعاب من أرجوحة وحصان وكرة. وفي غرفة الموسيقى ترنمنا بأول الأناشيد. وتم أول تعارف بيننا وبين اللغة. وشاهدنا الكرة الأرضية وهي تدور عارضة القارات والبلدان. وطرقنا باب العلم بادئين بالأرقام. وتليت علينا قصة خالق الأكوان بدنياه وآخرته، ومثال من كلامه. وتناولنا طعاما لذيذا، وغفونا قليلا، وصحونا لنواصل الصداقة والحب واللعب والتعلم. وأسفر الطريق عن وجهه كله، فلم نجده صافيا كامل الصفاء والعذوبة كما توهمنا. ربما تدهمه رياح صغيرة وحوادث غير متوقعة فهو يقتضي أن نكون على تمام اليقظة والاستعداد مع التحلي بالصبر. المسألة ليست لهوا ولعبا. ثمة منافسة قد تورث ألما وكراهية، أو تحدث ملاحاة وعراكا. والسيدة كما تبتسم أحيانا تقطب كثيرا وتزجر. ويعترضنا أكثر من تهديد بالأذى والتأديب. بالإضافة إلى ذلك فإن زمان التراجع قد مضى وانقضى، ولا عودة إلى جنة المأوى أبدا. وليس أمامنا إلا الاجتهاد والكفاح والصبر، وليقتنص من يقتنص ما يتاح له وسط الغيوم من فرص الفوز والسرور. ودق الجرس معلنا انقضاء النهار وانتهاء العمل. وتدفقت الجموع نحو البوابة التي فتحت من جديد. ودعت الأصدقاء والأحبة وعبرت عتبة البوابة. نظرت نظرة باحثة شاملة، فلم أجد أثرا لأبي كما وعد. انتحيت جانبا أنتظر. طال الانتظار بلا جدوى فقررت العودة إلى بيتي بمفردي .. وبعد خطوات مر بي كهل أدركت من أول نظرة أنني أعرفه. هو أيضا أقبل نحوي باسما، فصافحني قائلا: زمن طويل مضى منذ تقابلنا آخر مرة، كيف حالك؟
فوافقته بانحناءة من رأسي وسألته بدوري: وكيف حالك أنت؟ - كما ترى، الحال من بعضه، سبحان مالك الملك!
وصافحني مرة أخرى وذهب. تقدمت خطوات ثم توقفت ذاهلا. رباه .. أين شارع بين الجناين؟ أين اختفى؟ .. ماذا حصل له؟ متى هجمت عليه جميع هذه المركبات؟ ومتى تلاطمت فوق أديمه هذه الجموع من البشر؟ وكيف غطت جوانبه هذه التلال من القمامة؟ وأين الحقول على الجانبين؟ قامت مكانها مدن من العمائر العالية، واكتظت طرقاتها بالأطفال والصبيان، وارتج جوها بالأصوات المزعجة. وفي أماكن متفرقة وقف الحواة يعرضون ألعابهم، ويبرزون من سلالهم الحيات والثعابين. وهذه فرقة موسيقية تمضي معلنة عن افتتاح سيرك يتقدمها المهرجون وحاملو الأثقال. وطابور من سيارات جنود الأمن المركزي يمر في جلال وعلى مهل، وعربة مطافئ تصرخ بسرينتها لا تدري كيف تشق طريقها لإطفاء حريق مندلع، ومعركة تدور بين سائق تاكسي وزبون، على حين راحت زوجة الزبون تستغيث ولا مغيث. رباه، ذهلت، دار رأسي، كدت أجن، كيف أمكن أن يحدث هذا كله في نصف يوم، ما بين الصباح الباكر والمغيب؟ سأجد الجواب في بيتي عند والدي. ولكن أين بيتي؟ لا أرى إلا عمائر وجموعا. وحثثت خطاي حتى تقاطع شارعي بين الجناين وأبو خودة. كان علي أن أعبر أبو خودة؛ لأصل إلى موقع بيتي، غير أن تيار السيارات لا يريد أن ينقطع. وظلت سارينا المطافئ تصرخ بأقصى قوتها، وهي تتحرك كالسلحفاة فقلت: لتهنأ النار بما تلتهم. وتساءلت بضيق شديد: متى يمكنني العبور؟ وطال وقوفي حتى اقترب مني صبي كواء، يقوم دكانه على الناصية، فمد إلي ذراعه قائلا بشهامة: يا حاج .. دعني أوصلك.
يرغب في النوم
غادر التاكسي عند مدخل شارع حسن عيد. الضحى ارتفع والشمس تريق أشعة حامية من سماء باهتة، ودفقات متابعة من الخماسين، تزيد من الحرارة وتثير الغبار، وتنفث الضيق والكدر. تغير كل شيء بقوة تفوق الخيال. الطريق من محطة مصر حتى هنا يكشف قاهرة أخرى. أين ذهبت القاهرة التي عاش فيها منذ نيف وخمسين عاما؟ جنت بالزحام والسيارات والصراخ والدمامة. ليس وجهه وحده الذي عبث به الزمن. وهو متوسط القامة نحيلها، معروق الوجه، أصلع، شائب العذار والشارب. مطوق العينين والفم بالغضون، يتوكأ على عصا، ويتمتع بنشاط يحسد عليه بالقياس إلى سنه. ها هو قد رجع بعد عمر طويل فما الأمل؟ لم يرجعه عقل أو منطق، ولكن نداء خفي ملح متعب مبدد للراحة، قال له: اذهب وانظر وافعل شيئا ما، لعله يجعل نومك أعمق. وشارع حسن عيد يتراءى في تكوين جديد. حتى اسمه امحى من الوجود وحل محله اسم جديد هو الشهيد مصطفى إبراهيم، وعلى الجانبين قامت العمائر العالية، وتراصت في أسفلها الدكاكين، وماج الطريق بالزبائن. إنه سوق ولا أثر للبيوت القديمة والهدوء الشامل والذكريات المتلاشية كحلم. نداء عقيم، ساقه بلا وعي. وسيتمخض عن لا شيء. واتجه نحو العمارة الأخيرة في الجانب الأيمن، هنا قام يوما البيت القديم. كأن الشارع لم يكنس منذ جيل، والخماسين تشتد وتحمى منذرة بالمزيد من الإرهاق. وحن إلى متجره في الريف، والأولاد والبيت الذي اضطر إلى الابتعاد عنه بعد إقامة نصف قرن. بواب العمارة مشغول ببيع الفاكهة في مدخل العمارة معروضة على رف طويل تحت صناديق البريد ما بين برتقال وموز وليمون. وقعت عيناه على عينيه، فانتبه الرجل متوقعا زبونا جديدا فحياه بسرعة وقال: هل تعرف عم محمد الشماع أو أي أحد من أسرته؟
فتر إقبال الرجل، وقال: لا أعرف أحدا بهذا الاسم. - كان يقيم في البيت القديم الذي شيدت هذه العمارة محله؟ - هذه العمارة قائمة منذ أربعين عاما! - لعل أحدا بهذا الاسم في عمارة أخرى؟ - لا أظن، وعليك أن تتأكد بنفسك بسؤال البوابين.
دورة من العناء والضجر واليأس ولا أحد يعرف الشماع أو أسرته. كانوا أسرة كاملة مكونة من أب وأم وأخ وأخت. من رحل يا ترى ومن بقي؟! ونصف قرن - بل أكثر - ليس بالزمن القليل، عمر طويل دالت فيه دول وقامت دول. وهل تنسى أيام التعاسة الأولى، أيام القحط والأزمة؟ وإن يكن جيل مضى ألم يخلف جيلا جديدا؟ ألا توجد همزة وصل تصل ما بينه وبين ذلك الزمن الغابر؟ هل يرجع كما جاء؛ ليجد الذكريات فوق فراشه ترصده بنظراتها الباردة القاسية؟ ورجع إلى الشارع العمومي، فشعر بالعرق ينساب على جسده خطوطا لاذعة تحت جلبابه المخطط، واشتدت الخماسين واكفهرت وأثارت مزيدا من التراب فحجب الأفق عن الرؤية. لا مفر من الانتظار حتى المساء؛ ليعود مع قطار الصعيد. وقت طويل والتسكع لا يحلو في مثل هذا اليوم. ترى أين أصحاب الشباب ومن بقي منهم على قيد الحياة؟ لعل عند أحدهم نبأ عما يبحث عنه، ولكن أين هم؟ وهل ما زالوا يتذكرونه؟ لا. لا .. بحث عقيم عن أناس اقتلعوا تماما من وجدانه، وكأنهم ماتوا وشبعوا موتا. حتى أغاني ذلك الزمان لم تعد تطرب أحدا وتثير السخرية. وخطر له خاطر لا يدري من أين جاء، أن يزور المدفن القديم، ومن توه مضى إلى باب النصر. وجد القرافة عامرة بالسكان كما قرأ في الصحف، أصبحت في موسم دائم. ولكن حوشهم نجا لصغره؛ إذ كان يحوي قبرا واحدا، وخاليا من المرافق والمياه، ولا يكاد يتسع لواقفين أو ثلاثة. وسأل عن التربي الذي نسي اسمه تماما فجاء عجوز يسعى، في سن أبيه لو كان على قيد الحياة، ولعله ظن أنه استدعي لرزق جديد. اطمأن إلى شيخوخة الرجل، وحدس أن يعرف من خلالها أشياء. وبعد تحيته سأله: حوش الشماع؟ - نعم. - إني أسأل عنه، أو عن أي فرد من أسرته.
Bog aan la aqoon
انطفأ وميض الأمل في عيني الرجل وسأله: من حضرتك؟ - صديق قديم، ويهمني جدا أن أهتدي إلى أي فرد من الأسرة. - كنت على معرفة وطيدة بعم محمد الشماع الله يرحمه. - مات؟! - ورقد في هذا القبر منذ أكثر من خمسين عاما! - والست الكبيرة؟ - لحقت به بعد عام أو عامين. - وماذا عن الآخرين؟ - لم يفتح القبر منذ وفاة الست ... ولا علم لي عن الآخرين. - كان للمرحوم ابن وبنت. - كان له ابنان وبنت!
خفق قلبه وهو يتساءل: ابنان؟! - الابن الأصغر، ربنا يجحمه حيث يكون. - لماذا؟ - ولد فاسد شرير، كان يعمل في الدكان مع أبيه وأخيه، وفي عز الأزمة سرق الخزانة وهرب، ولم يسمع عنه خبر بعد ذلك. - أعوذ بالله، لا شك أنه تركهم لأيام عسيرة. - محنة وفقر وتسول، سرعان ما مات الرجل كمدا، ولحقت به امرأته. أنجب شيطانا، ولا شك في أن الله قد انتقم منه شر انتقام.
نظر إلى القبر مليا، ثم رفع بصره إلى السماء المغبرة، وهمس: شكرا.
فقال الرجل: ربنا يدلك على ابن الحلال ليرشدك إلى ما تريد.
وحياه وانصرف. سار كالأعمى لا يرى ما بين يديه.
الهمس
يخطر لي أحيانا أن الراحة الحقيقية لا توجد إلا بزوالهما معا، هو وهي. ولكنه مجرد خاطر يعبر القلب إذا اشتد العنت أو ادلهم الخطب. خاطر لا وزن له في الواقع، حلم يقظة أخرق. وهل تصبح الحياة حياة إلا من خلال التعامل معهما معا؟ وهل يمكن تخيل الوجود بدونهما؟ أما حيرة التردد بينهما؛ فهي قدره الذي لا مفر منه. في البدء تردد همسه بالمحاذير والدعوة إلى الاعتدال حيال بسماتها المغرية، فتحدت هي محاذيره، وهونت من ترشيداته. ويكفهر وجهه ويفجر إنذاراته. فتغضب هي وتغريني بتجاهله أو تشكك في جديته، وأنا لا غنى لي عنها ولا قدرة لي على تجاهله. في أيام البراءة لعبنا معا - أنا وهي - في نور الشمس تحت السمع والبصر، ولكن همسه يقتحمني قائلا: حافظ على نظافة ملابسك وسلامتها.
ولكن اللعب يحب الحرية، أليس كذلك؟
فيهمس: اللعب الرشيد لا يتنافر مع النظام!
وأمتعض وأتضايق. اللعب هو اللعب! لماذا يقيد لعبي بنواهيه؟ لماذا يفسد علي مذاق الأيام الحلوة؟! فلتتسخ الملابس فثمة من يغسلها، ولتتمزق فالسوق مليئة بالجديد. وهو كبير ولديه ما يشغله نهاره وليله، فلم يهدر وقته في تكدير صفوي، رغم حبنا المتين المتبادل؟ وترنو هي إلي بعينيها الصافيتين وتتساءل: أرأيت تعسفه؟
Bog aan la aqoon
ثم تواصل بحدة: لم لا يتركنا وشأننا؟ ولم تعمل كل هذا الحساب لكلمة تصدر عنه؟
ولكنه قوي، والمالك الأوحد للبيت وأدوات اللعب وكل شيء. وعلمتني التجربة أن الاستهانة به غير محمودة العواقب. ها هو يهمس أيضا: البنت ماكرة بقدر ما هي لطيفة، أنا أعرفها كما أعرفك، اسمع كلامي أنا، ولست أمانع في لعبك معها، العب معها ما شئت، ولكن عليك بالاعتدال والنظافة، وتذكر أنها تلعب مع آخرين أيضا فعاملها بالمثل، ولا تجعل منها كل شيء؛ لأنك لست لها كل شيء، إني أعرف أكثر منك فاسمع كلامي.
تمنيت أن ألعب دون قيد أو شرط ولكنني تعثرت في الخوف، ولم أنس ما سمعت عن غضبه إذا غضب أو عقوبته إذا عاقب. وتضاعف عنائي عندما حملت إلى المدرسة. والتعليم مشقة تتحدى اللهو والمرح وتلتهم الساعات بلا رحمة، فهل قضي علي أن أنفق العمر في الصراع مع الجهل؟ أما هي فلم تكن تكترث إلا بالساعة التي هي فيها. ترمق انشغالي بازدراء واستنكار، وتقول: اختر لنفسك ما يحلو.
لو خيرت لاخترت، ولكن همسه لا ينقطع عني فما حيلتي؟ ولأعترف بأنني كنت أنحرف عن الخط أحيانا، أشرد عن الدرس لأفكر فيها، أو أخلو إليها في غفلة ونأخذ في اللعب. ويسألني دائما عن مواظبتي فأتورط في الكذب. ويكفهر وجهه ويكتشف كذبي. وقلت لها: إنه لا تخفى عليه خافية. فقالت: أنت ضعيف، فيتجلى الكذب في عينيك!
ويقول هو لي مؤنبا: الكذب أرذل من الجهل.
يا له من رجل. أي ضرر يصيب العالم، إذا جهلت أن القاهرة هي عاصمة مصر؟ .. أو إذا لم أحفظ جدول الضرب؟ ويقرصني في أذني قائلا: الرجل الحقيقي يجب أن يعرف السماوات والأرض. ليست الحياة لعبا، انظر إلى النملة! هل يرضيك أن تكون أدنى مرتبة منها؟!
ويغلبني الارتباك فأقول له معاتبا: أنت الذي جئتني بها لألعب معها، فأبعدها عني.
فيقول باسما: إنك أصغر من أن تشير علي بما يجب، ولن أرتكب خطأ في حق الجيرة والقربى، وهي بمنزلة ابنتي، وليس بها من بأس كزميلة لك، فلا منع ولا إبعاد، ولكن عليك أن تعطي الدرس ما يستحقه، ولك أن تلاعبها في أوقات الفراغ.
تلك أيام مزقها العذاب وإن بدت اليوم آية في الجمال بسحر الزمن. وكان أن تغير صوتي فقالوا: ناهز البلوغ. وهمس في أذني بحزم أن الآن حرم اللعب. يا للخبر! ما شعرت برغبة في اللعب معها كما أشعر الآن.
وهي ترمقني من بعيد، ولكن جرأتها تلاشت. يتكلم لسانها بكلام، وعيناها بكلام آخر. أقول لها خلسة: لا يمكن أن نهدم في لحظة ما بنيناه في عمر مديد.
Bog aan la aqoon