فلما أتى عمر كتابه جمع رءوس المسلمين إليه، فقرأ عليهم واستشارهم، فقال له عثمان -رضي الله عنه-: أصلح الله أمير المؤمنين، إن الله تعالى قد أذلهم وحصرهم وضيق [عليهم]، وأراهم ما صنع بجموعهم وملوكهم، وقتل صناديهم، وفتح على المسلمين من بلادهم، فهم كل يوم يزدادون نقصا وضيقا ورغما، فإن أقمت ولم تسر إليهم علموا أنك بأمرهم مستخف، ولشأنهم محتقر، فلم يلبثوا إلا يسيرا حتى ينزلوا على الحكم، ويعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، وإلا حاصرهم المسلمون وضيقوا عليهم حتى يعطوا بأيديهم. فقال عمر: ما ترون، هل عند أحد منكم غير هذا الرأي؟ فقال علي: يا أمير المؤمنين عندي غير هذا الرأي. قال: ما هو؟ قال: إنهم قد سألوك، والمنزلة التي لهم فيها الذل والصغار، وهي على المسلمين فتح، ولهم غم وهم، وليس بينك وبين ذلك إلا أن تقدم عليهم، فلك في القدوم عليهم الأجر، في كل ظمأ ومخمصة، وفي قطع كل واد، وكل فج وشعب، وكل نفقة تنفقها حتى تقدم عليهم، فإذا قدمت كان في قدومك الأمن والعافية والصلح والفتح، ولست آمن لو أنهم يئسوا من قبولك الصلح، ومن قدومك عليهم، أن يتمسكوا بحصنهم، ولعلهم أن يأتيهم من عدونا منهم مدد، فيدخلون معهم في حصنهم، فيدخل على المسلمين من حربهم بلاء ومشقة، ويطول بهم الحصار، فيصيب المسلمين منهم من الجوع والجهد نحو ما يصيبهم، ولعل المسلمين يدنون من حصنهم فيرمونهم بالنشاب، ويقذفونهم بالحجارة، فإن قتلوا أحدا من المسلمين تمنيتم أنكم افتديتم قتل رجل من المسلمين بمسيركم إلى مقطع التراب، ولكان المسلم بذلك من إخوانه أهلا. فقال عمر : قد أحسن عثمان في مكيدة العدو، وقد أحسن علي في النظر لأهل الإسلام، ثم قال: سيروا على اسم الله، فإني معسكر وسائر. وخرج معه أشراف الناس وبيوتات العرب والمهاجرون والأنصار، وخرج عمر ومعه العباس بن عبد المطلب.
وخرج أبو عبيدة بالناس أجمعين للقاء أمير المؤمنين لما بلغهم قدومه، وأتوا عمر ببرذون ليركبه، فأقبل عمر على جمل له وعليه رحله، وصفه من جلد كبش حولي، فانتهى إلى مخاضة فأقبلوا يبتدرونه، فقال: للمسلمين مكانكم، ثم نزل عمر عن بعيره، وأخذ بزمام جمله، وزمامه من ليف، ثم دخل الماء بين يدي جمله، حتى جاز الماء إلى أصحاب أبي عبيدة، وإذا معهم برذون يجنبونه، فقالوا: اركب هذا البرذون يا أمير المؤمنين؛ فإنه أجمل بك، وأهون عليك في ركوبك، ولا نحب أن يراك أهل الذمة في مثل هذه الهيئة التي نراك فيها. واستقبلوه بثياب بيض، فنزل عمر عن جمله وركب البرذون، وترك الثياب، فلما هملج به نزل عنه، وقال: خذوا هذا مني؛ فإن فيه شيطان، وأخاف أن يغير على قلبي. فقالوا: يا أمير المؤمنين، لو لبست هذه الثياب، لكان أجمل وأعز. فقال: ويلكم لا تعتزوا بغير ما أعزكم الله به فتذلوا. ثم مضى ومضى الناس معه حتى أتى إيلياء فنزل بها، وقال لهم: والله لا أدع الهيئة التي فارقت عليها صاحبي، ولا أتزين للناس بما أخاف أن يشينني عند ربي، ولا أريد أن يعظم أمري عند الناس ويصغر عند الله.
Bogga 61