Diraasaad Falasafi ah
دراسات فلسفية (الجزء الأول): في الفكر الإسلامي المعاصر
Noocyada
أما اليوم فقد تغيرت الظروف، وأصبح النقل أساس العقل، ودعا الفقهاء إلى الأخذ بالنص وإن عارض العقل، وظهرت الحاكمية لله في مقابل حاكمية البشر بل ومناقضة لها. واحتد النقاش بين الإسلام والعلمانية لدرجة الخصام بل والتكفير المتبادل بين الإخوة الأعداء. كان القدماء أكثر تحررا منا، وأصبحنا نحن أكثر محافظة منهم، وتعجبنا كيف درس القدماء الجنس والدين والسلطة بلا حياء أو خوف أو مزايدة، بينما جعلناها نحن محرمات ثلاثة لا يجوز لأحد الاقتراب منها وإلا كان ملحدا في الدين منحلا في الأخلاق عاصيا لأوامر السلطان. (6)
نشأت الحضارة القديمة على التوحيد بين الوحي والمصلحة، بين الدين والدنيا، بين الشرع وواقع الناس، بين الأمر الإلهي وكرامة الإنسان. نشأت العلوم كلها تؤكد هذه القيم العامة قبل وضع مبحث القيم الغربي. لذلك وضعت القوانين، وسنت الشرائع تعبيرا عن هذه الروح؛ فالشريعة للإنسان وليس الإنسان للشريعة. بل شرع الفقهاء المصلحة أساسا للشرع، ووضعوا قواعد «لا ضرر ولا ضرار»، «درء المفاسد مقدم على جلب المصالح»؛ للاستناد إليها في الاستدلال.
أما الآن فإننا نعيش في عصر فيه الشرائع الموروثة في جانب والمصلحة في جانب آخر، وكأن الشرائع هدف في ذاتها وليست وسيلة لتحقيق المصالح العامة للناس. ظهر التصادم بين مصلحة الدين ومصلحة الدنيا، ووقع الصدام بين حق الله وحق الإنسان، بين الأمر الإلهي والحرية الإنسانية. وظهرت مسائل تطبيق الشريعة ضد الشرائع المدنية، وتحولت الدعوة العلنية إلى مقاومة سرية بين الجماعات الإسلامية والنظم الحاكمة، كل فريق يرى في الآخر اعتداء عليه وعلى شرعية وجوده: الحاكمية عدوان على الديموقراطية عند العلمانيين ، والنظم الحاكمة والعلمانية عدوان على الشريعة عند الجماعات الإسلامية المقهورة. وبدا قانون الأحوال الشخصية في حاجة إلى تعديل عند العلمانيين، وفي حاجة إلى تطبيق حرفي كما ورثناه من القدماء عند المحافظين. وانحاز النظام الاقتصادي الإسلامي إلى الاقتصاد الحر والتجارة الحرة عند ولاة الأمور والجماعات الدينية المحافظة وشركات توظيف الأموال، وأقرب إلى النظام الاشتراكي، وملكية الدولة لوسائل الإنتاج، وتحقيق أكبر قدر ممكن من العدالة الاجتماعية، وتذويب الفوارق بين الطبقات عند القوميين والتقدميين والاشتراكيين. وصراع التفسيرات هو في الحقيقة صراع اجتماعي صرف. كل فريق يأخذ سلاح النص ويقرؤه لصالحه. (7)
كانت الحضارة كلها في الفترة الأولى وحدة واحدة، تخرج من بؤرة واحدة هي التوحيد. ونشأت العلوم كدوائر متداخلة حول هذا المركز، وساهمت كلها في وضع تصور موحد للعالم بصرف النظر عن اختلاف المناهج والأهداف. وضع علم أصول الدين قواعد النظر، وعلم أصول الفقه قواعد العمل؛ الأول أشبه بالعقل النظري، والثاني بالعقل العملي. ووضع التصوف طريقا صاعدا متعاليا وهو التأويل، وآثر الأصول وضع طريق نازل عائد إلى العالم وهو التنزيل، أصول الدين وعلوم الحكمة علوم نظرية، وأصول الفقه وعلوم التصوف علوم عملية. ومن ثم ظهر موضوع «إحصاء العلوم» كموضوع رئيسي عند القدماء من أجل توحيد العلوم كلها في منظومة واحدة، واستمر ذلك منذ المحاولات الأولى في البداية حتى الموسوعات والمعاجم في النهاية.
2
أما الآن فتفككت العروة، وانزوت العلوم كل منها في ميدانها لا رابط بينه وبين العلوم الأخرى. وأصبحت مادة العلوم مزدوجة خاصة في العلوم الإنسانية بين تراث القدماء وتراث المعاصرين. أما العلوم الرياضية والطبيعية فقد انقطعت كلها عن تراث القدماء وأصبحت امتدادا للتراث الغربي المعاصر؛ لذلك لم تساهم علومنا في تكوين وحدة الفكر أو في تأسيس تصور للعالم. فاحتجنا إلى الأيديولوجيات والمذاهب السياسية لتكميل النقص وسد الفراغ. ويا ليت ذلك قد حدث باسم التخصص الدقيق والبحث عن الجزيئيات كما هو الحال في التراث الغربي المعاصر، بل حدث بسبب ضياع وحدة المصدر، والتصور الواحد الشامل المتوازن.
إن التقابل بين الفترتين في تاريخ الحضارة الإسلامية يمكن أن يستمر ويمتد إلى ميادين عديدة. وبصرف النظر عن الإحصاء الشامل، يكفي الوعي بهذا الوضع التاريخي والذي يفرض نفسه على الباحث وأستاذ الفلسفة؛ حتى يعيد بناء علوم التراث بناء على ظروف عصره.
خامسا: نشأة الفلسفة: قراءة الآخرين
من خلال الذات
إذا كان المقصود بالفلسفة والتراث هو علاقة الفلسفة الحالية بالتراث الفلسفي القديم، فإن وصف نشأة هذا التراث الفلسفي قد تساعد على فهم وظيفة الفلسفة التي أدتها في التراث، وإلى معرفة إلى أي حد استمرت هذه الوظيفة أم انقطعت. وما صلة النشأة الأولى بالنشأة الثانية؟ وهل يمكن بعث الفلسفة من جديد بنشأة ثانية تماثل النشأة الأولى ولكن مع تراث مختلف، الغربي الحديث بدلا من اليوناني القديم؟ (1)
Bog aan la aqoon