Diraasaad Falasafi ah
دراسات فلسفية (الجزء الأول): في الفكر الإسلامي المعاصر
Noocyada
وقد تغيرت الظروف الآن، وأصبحت الأمة في فترتها الثانية مهزومة بعد أن تلقت الهجمات الصليبية غربا وغزوات التتار والمغول شرقا، ثم الاستعمار الحديث غربا من جديد، بعد أن استعصى على الهجمات الصليبية غزو العالم الإسلامي برا وفي القلب، وكان من السهل الالتفاف حول العالم الإسلامي بحرا وحول الأطراف. انهزمت الأمة بعد أن كانت منتصرة، واحتلت بعد أن كانت مستقلة، وتجزأت بعد أن كانت موحدة، وتخلفت بعد أن كانت في أعلى مراحل التقدم والتنمية. أصبحت الأمة محاصرة، معتمدة على الآخر في غذائها وسلاحها، في علمها وتنميتها، تخلت عن استقلالها الذاتي إلى تبعيتها للآخر. أرضها محتلة في فلسطين وسبتة ومليلة، وبها قواعد عسكرية أجنبية أو داخلة في أحلاف عسكرية مباشرة أو غير مباشرة تحت ستار معاهدات الصداقة والتعاون. ودائعها في الخارج لتنمية القوى الغربية، ثم تستجدي المعونات وتستعطف السداد وتقليل الفوائد، وتطالب بفترات السماح. أصبح إشكال أساتذة الفلسفة أنهم يدرسون علوما نشأت في مرحلة الانتصار ويعيشون في واقع مرحلة الهزيمة. فحدث عدم تطابق بين مادة العلم التي يحملها الأساتذة ويسمعها الطلاب والواقع الجديد الذي يعيشه كلاهما على حد سواء. وبالتالي انعزلت الفلسفة ولم تجد لها آذانا صاغية. لم تعد تخاطب جمهور القراء. تحولت عند بعض الأساتذة إلى مادة للمقررات وإلى تكسب بالعلم وحمل الشهادات، ونيل الجوائز، والواقع لا يتغير، يئن من وطأة الفصام بين الثقافة في مرحلة الانتصار والواقع الحالي في مرحلة الهزيمة. وأصبح هذا الفصام أحد مظاهر نفاق العصر كله. وإذا سن القدماء: الإسلام أو الجزية أو القتال، والإسلام منتصر، فكيف بالأمة اليوم وهي غارقة في أتون الاستجداء والاستعطاف والتبعية؟ (2)
لما كانت الجيوش فاتحة والأمة منتصرة في الفترة الأولى لم يستطع خصومها النيل من قوتها أو الوقوف أمام زحفها، فالتفوا من الخلف وإلى مصدر قوتها وهو الدين الجديد وعقيدة التوحيد؛ لضربه والنيل منه. ظهرت حركات الزندقة والتشويش على العقائد للالتفاف حول الإسلام من الباب الخلفي، من باب النظر وليس من باب العمل، من باب العقائد وليس في أتون المعارك. وكان الخصوم من أنصار الديانات القديمة كالمانوية والمذاهب السائدة في الأراضي المفتوحة كالمجوسية، أو الديانات التي دخل معها الإسلام في جدال عقائدي كاليهودية والنصرانية، وبالتالي نشأت العلوم الإسلامية، العقلية النقلية، للدفاع عن العقيدة الجديدة والدخول في معارك العقائد ضد الفلسفات والمذاهب والديانات القديمة. وكان من الطبيعي أن تتصدى الحضارة لمواطن الخطر في العقائد النظرية بعد أن اطمأنت إلى سيطرتها على الأرض وتحول الجمهور إلى الدين الجديد.
أما الآن فقد تغيرت الظروف، ولم تعد الهجمات موجهة إلى العقائد باستثناء الغزو الثقافي الذي نحن على وعي به ونتحدث عنه ليل نهار، وتتناوله أجهزة الإعلام والأحزاب التقدمية، والاستشراق الذي يقوم بما قام به الخصماء الأقدمون. لم يعد أحد الآن منا يتصور الله اثنين أو ثلاثا. ليس فينا مشرك أو وثني، عابد شجرة أو نار، مؤمن بشمس أو قمر، ويبتهل لكوكب أو نجم. ولكن الخطر الآن موجه إلى الأرض والثروات ونقل الجمهور خارج أرضه في فلسطين. كما أن الخطر موجه إلى حريات الناس من نظم الاستعباد والقهر، ولكنا ما زلنا في تدريس الفلسفة ندخل في معارك الذات والصفات، والعقل والنقل، والنبوة والمعاد، والإيمان والعمل، والخلق والفيض، والفضائل النظرية والفضائل العملية وقد كسبناها من قبل، ونترك معارك الأرض والثروة والحرية والعدالة الاجتماعية والاستقلال والتبعية، دون الدخول فيها باسم الفلسفة. بل إننا لا نحاول اختيار الحلول المعاصرة للمشاكل القديمة المترسبة في أعماق العصر.
فمسألة الذات والصفات لها دلالتها المعاصرة؛ فعلاقة الزيادة تشخيص وعلاقة التساوي عدل أمام القانون. وجعل العقل تابعا للنقل، وصاية، وجعل النقل تابعا للعقل ، تنوير. والنبوة تاريخ لاستقلال الوعي الإنساني وليس لقصوره، والمعاد مستقبل الإنسان في الدنيا وليس خارجا عنها. والعمل جزء من الإيمان ومظهره الأول، كما أن العمل منبثق عن النظر في علاقة تكامل وليس في علاقة أفضلية. والفيض كتدرج قد يكون أساس البيروقراطية. والخلق قد يكون ذا صلة بالقلب والتحول من حال إلى حال، في حين أن القدم مصاحب للعالم منذ البداية فيعيش الإنسان فيه أليفا. وإذا نشأت حركات الإصلاح الديني أو الخطابة السياسية فإنها لا تكاد تستمر، بل تكبو باستمرار بسبب عدم التطابق بين العلوم المنقولة عن القدماء وواقع الأمة الحالي.
1
ثم تخلينا نحن عن مسئولية إعادة بناء العلوم القديمة التي ورثناها من القدماء بناء على ظروف عصرنا، بعد أن أنشأها القدماء ابتداء من ظروف عصرهم. (3)
نشأت الفلسفة في الفترة الأولى والإسلام قادم وليس ذاهبا، والحضارة يافعة وليست هرمة، مع ثقة في النفس وليس عن تخوف أو ضعف. وبالتالي لم تخش الحضارة الإسلامية انفتاحها على حضارة الغير. لم يحدث نتيجة للانفتاح الحضاري القديم أية زعزعة للهوية أو فقدان للذاتية أو إحساس بالنقص أمام الآخر. نشأت الحضارة في فترتها الأولى وهي في حالة هجوم على الآخر وليست في حالة دفاع عن الذات، من أجل ابتلاع الآخر في الأنا وليس من أجل ابتلاع الأنا في الآخر وذوبانه فيه. نشأت الحضارة في فترتها الأولى من مركز قوة وليس من مركز ضعف، كامتداد وانتشار وليس كانحسار ونكوص.
أما اليوم، فالفلسفة تنشأ في ظروف مخالفة تماما، والإسلام ذاهب وليس قادما، والحضارة تاريخية وليست ناشئة مع ضعف ثقة في النفس وإحساس بالنقص أمام الآخر، واتخاذ موقف التلميذ الأبدي من المعلم الأبدي. تنشأ الفلسفة اليوم مقطوعة الصلة بالهوية وانحيازا للآخر، دون معرفة بدلالات القديم وتقليد للجديد، ودون قراءة للآخرين خلال الذات، بل تهربا من الذات وفقدانا للهوية. ويطغى على الفلسفة معارك ثقافية لسنا طرفا فيها مثل المثالية والواقعية، العقلانية والحسية، الصورية والمادية، الرأسمالية والاشتراكية، الفردية والاجتماعية، البنيوية والماركسية، مجتثين المعارك من جذورها وزارعين لها في تربة أخرى. فلا هي أنبتت فلسفة في أرض جديدة، ولا هي احتفظت بحياتها في أرضها القديمة. (4)
نشأ عصر الترجمة الأول كجزء من التعرف على ثقافات البلاد المفتوحة بعد أن وجدت مؤلفات أرسطو في أديرة الشام، وقوانين فارس وحكمتها في بلاد فارس. كانت الترجمة جزءا من التعرف على المكونات الثقافية للأمة الغالبة مع احترام كامل لثقافات الشعوب المغلوبة. فالتراث الإنساني واحد، وتؤخذ الحكمة من أي جهة كانت حتى ولو كانت من أقصى الشعوب عنا. بدأت الترجمة من موقع قوة لا من موقع ضعف، تعرفا من حضارة المنتصر على حضارة المهزوم وليس نقلا لحضارة المنتصر وزحزحة حضارة المهزوم كما هو الوضع الآن. أما الترجمة الحالية التي بدأت منذ قرنين والتي ما زالت مستمرة في ظروفنا الراهنة إنما تمت من منطلق تعرف المهزوم على ثقافة المنتصر كجزء من حب الشعوب المغلوبة تقليد الشعوب الغالبة، نذهب إليه ولا يأتي هو إلينا، نتعلم منه ولا نعلمه، نأخذ ولا نعطي، ننقل ولا نبدع، فتحولت الثقافة بين الحضارات إلى مسار واحد، من الآخر إلى الأنا بعد أن كانت حوارا بين الحضارات، وجدلا بين الأنا والآخر. نشأ لدينا إحساس بالنقص أمام حضارة الآخر، وفي الوقت نفسه نقوم بتدريس النموذج القديم عندنا كأن الأنا في مركز قوة والآخر في مركز ضعف، فيحدث التعويض النفسي اللاشعوري، تعويض القديم للجديد، تعويض الماضي للحاضر، وتتحول الفلسفة إلى مجرد عزاء للنفس. (5)
نشأت الحضارة في فترتها الأولى اعتمادا على العقل الذي أكده الوحي ودعا إلى استعماله المتكلمون والنظار. فكان النظر أول الواجبات على المكلف حتى قبل الصلاة؛ فلا صلاة بلا تكليف، ولا تكليف بغير نظر. أثبت الفقهاء العقل أساس النقل، وموافقة صريح العقل لصحيح المنقول، وقال المعتزلة بالحسن والقبح العقليين. كان العقل والسمع صنوين، والفلسفة والشريعة أختين رضيعتين متفقتين بالشرع، متحابتين بالطبع والغريزة، كان الفيلسوف والنبي شخصا واحدا ، والفلسفة والدين حقيقة واحدة وغاية واحدة وإن اختلفا في المنهج والطريق. وبالتالي نشأت أزهى حضارة في أقصر مدة، بل تم تأليه العقل في كثير من الأحاديث القدسية، فكان أول مخلوق، أول ما خلق الله خلق العقل. ونشأت علوم وضعية علمية، طبيعية وإنسانية، خالية من الخرافة وهو ما حدث بعد ذلك في العلوم الغربية الحديثة بعد ألف عام وبفضل الترجمة من الأنا إلى الآخر، من الحضارة الإسلامية إلى الحضارة الغربية.
Bog aan la aqoon