Diraasaad Falasafi ah
دراسات فلسفية (الجزء الأول): في الفكر الإسلامي المعاصر
Noocyada
اعتبار الغرب ممثل الإنسانية جمعاء، وأوروبا مركز الثقل فيه. تاريخ العالم هو تاريخ الغرب، وتاريخ الإنسانية هو تاريخ الغرب، وتاريخ الفلسفة هو تاريخ الفلسفة الغربية، الغرب فيه يصب كل شيء. ما قبله بدايات التاريخ البشري كما يقول هردر، وما بعده عصر الفضاء الذي يمتلكه الغرب. عصور الغرب هي عصور الكل، فالعصر الوسيط هو العصر الوسيط لكل العالم، والعصر الحديث هو العصر الحديث لكل الشعوب، مع أن وسيطنا هو نهضتنا، وحديثنا هو تخلفنا، ومستقبل الغرب هو نهضتنا. (3)
اعتبار الغرب المعلم الأبدي و«اللاغرب» هو التلميذ الأبدي، وأن العلاقة بينهما أحادية الطرف؛ أخذ مستمر من الثاني، وعطاء مستمر من الأول، استهلاك مستمر من الثاني، وإبداع مستمر من الأول. ومهما تعلم التلميذ فإنه يكبر تلميذا، ومهما شاخ الأستاذ فإنه يظل معلما. ولن يلحق التلميذ بالأستاذ لأن معدل الإبداع أسرع بكثير من معدل الاستهلاك، فيجري التلميذ لاهثا وراء المعلم ولن يلحق به، وكلما جرى ازدادت المسافة اتساعا، حتى يدرك الصدمة الحضارية فيقع، ويدرك قدره، ويرى مصيره. (4)
رد كل إبداع ذاتي لدى الشعوب غير الأوروبية إلى الغرب؛ فكل دعوة إلى العقل ديكارتية أو كانطية، وكل دعوة إلى الحرية ليبرالية غربية، وكل نضال من أجل العدالة الاجتماعية ماركسية، وكل اتجاه نحو العلم وضعية، حتى أصبح الغرب هو الإطار المرجعي الأول والأخير لكل إبداع ذاتي غير أوروبي، كما كان الحال مع الحكماء الأولين بالنسبة لليونان، فخرج ابن رشد أرسطيا. (5)
أثر العقلية الأوروبية على أنماط التفكير عامة، وعلى كل عقلية ناهضة. فالعقلية الأوروبية هي العقلية التي تضع كل طرفي معادلة في علاقة تضاد مثل: مثالية أو واقعية؟ صورية أو مادية؟ ذاتية أو موضوعية؟ فردية أو اجتماعية؟ عقلانية أو حسية؟ كلاسيكية أو رومانسية؟ وقد أثرت فينا العقلية الأوروبية حتى نقلنا أنصاف الحقائق هذه إلى ثقافتنا وتراثنا وتحزبنا لها حيث لا أحزاب، واخترنا بينها حيث لا اختيار، وجعلنا أنفسنا أطرافا في معركة لم نخضها. (6)
تحول ثقافتنا إلى وكالات حضارية وامتداد لمذاهب غربية، اشتراكية، ماركسية، وجودية، وضعية، شخصانية، بنيوية، حتى لم يعد أحد قادرا على أن يكون مفكرا أو عالما أو حتى مثقفا إن لم يكن له مذهب ينتسب إليه، وتفرقنا شيعا وأحزابا، وضاعت الثقافة الوطنية. الكل يبحث عن الأصالة الضائعة فيهرع إلى الفنون الشعبية. (7)
إحساس الآخرين بالنقص أمام الغرب، لغة وثقافة وعلما، مذاهب ونظريات وآراء، مما يخلق فيهم إحساسا بالدونية قد ينقلب إلى إحساس وهمي بالعظمة، كما هو الحال في الجماعات الإسلامية المعاصرة، وفي الثورة الإسلامية في إيران. وليس هذا إلا ردا على مركب العظمة الدفين في الثقافة الغربية والذي لا يخلو من عنصرية ثقافية، صريحة أو ضمنية. (8)
خلق بؤر وفئات ثقافية معزولة لدى الشعوب غير الأوروبية بحيث تكون مناصرة للغرب وجسرا لانتقاله. وتنتهي هذه الفئة - إذا ما تولت الحكم - بموالاة الغرب، فيتحول التغريب الثقافي إلى عمالة سياسية مما يسبب ثورات الشعوب الوطنية على الفئة كلها؛ تأكيدا للهوية والثقافة الوطنية في جدلية تاريخية بين الأنا والآخر.
إن التراث الأوروبي في حقيقة الأمر إنما يعبر عن الوعي الأوروبي، وهو موضوع فلسفي واحد ظهر في الفلسفة المعاصرة، خاصة في الظاهريات، فلا توجد فلسفات غربية، بل فلسفة أوروبية، تعبر عن وعي أوروبي: تطورا وبناء، تكوينا ورؤية.
ويشمل تطور الوعي الأوروبي نشأته ثم بداية تطوره ثم نهايته. فمن حيث النشأة يجد الوعي الأوروبي أصوله في ثلاثة: الأصل اليوناني الروماني، والأصل اليهودي المسيحي، والبيئة الأوروبية نفسها. ولا يذكر الأصل الشرقي القديم على الإطلاق قبل الأصلين الأولين، ولا يذكر الأصل الإسلامي قبل النهضة الحديثة؛ وذلك لأن الغرب قد اعتبر اليونان أصلا عبقريا على غير مثال؛ إذ لم يسبقهم أحد، وكأن الهند لم تؤسس المنطق الصوري في البوذية، ولم تسهم في نشأة علم الحساب. وكأن فيثاغورس وطاليس لم يكونا على اتصال بالنحلات الشرقية، وكأن أفلاطون لم يدرس الرياضيات في مصر، ولما كان الغرب وريث اليونان فقد ظل نسيجا عبقريا مثله، على غير منوال.
وبالرغم من التباين والخلاف في جوهر كل من اليهودية والمسيحية - كما لاحظ سلسوس من قبل - إلا أن الأصل اليهودي المسيحي قد جمع بينهما ابتداء من الكتاب المقدس، حيث ضم العهد الجديد كخاتمة للعهد القديم، وكنهاية للنبوة واكتمال لها بالرغم من رفض اليهود. ونظرا للتآلف الطائفي العنصري بين الحضارتين اليهودية والمسيحية ضد الحضارات الأخرى، إسلامية كانت أو «بدائية»، فقد أصبحتا مصدرا واحدا. وكأن الإسلام لم يكن تحققا لصدق اليهودية والمسيحية في التاريخ، سواء من حيث الصحة التاريخية للكتب المقدسة أو من حيث التصديق بالعقائد، أو من حيث أحكام السلوك العملي لأهل الكتاب. وكأن الحضارة الإسلامية بعد ترجمتها إلى اللاتينية لم تكن أحد روافد النهضة الأوروبية الحديثة والفلسفات العقلية، وكأن الرشدية اللاتينية لم تساهم في نشأة العلم الحديث في الغرب.
Bog aan la aqoon