Diraasaad Falasafi ah
دراسات فلسفية (الجزء الأول): في الفكر الإسلامي المعاصر
Noocyada
إبراز تراث الشعب، تراث المصلحة، وهو أكبر دافع على التقدم؛ حتى لا تحدث انتكاسات للثورة أو يقع نكوص في التقدم: خطوة إلى الأمام وخطوتان إلى الخلف، وبالتالي يمكن تقوية روح الشعب، ونضال الجماهير، بإعطائهما تراثا ثوريا يكون هو البديل المؤقت عن أيديولوجيتها الثورية، يعطيها نظرية تنقصها؛ وذلك من خلال تثوير ثقافتها الوطنية. (4)
وقف التغريب الذي حدث للخاصة التي انفصلت عن التراث؛ لأنها لم تجد نفسها من خلاله، ولم تستطع تجاوز لغته القديمة أو اعتبار نفسها مسئولة عنه فلم تغير مستوياته، أو تعدل محاوره وبؤره، أو تعيد الاختيار بين البدائل. بل قبلت كضرورة لا مفر منها مزاحمة الفكر الغربي لتراث الأمة ومكونها الرئيسي حتى نشب العداء بين أنصار القديم وأنصار الجديد. يمكن إذن عن طريق هذا الموقف من التراث القديم القضاء على الازدواجية في الشخصية القومية، وهذا «الفصام النكد» في ثقافتها الوطنية. (5)
محو التفرقة بين الخاصة وبين العامة، بين ثقافة الخاصة وبين ثقافة الجماهير، وبالتالي تنتهي عزلة المثقفين وركود الثقافة الشعبية. فتتوحد اللغة، ويعاد بناء الثقافة الوطنية، أي ثقافة الأمة - خاصة وعامة - بروح العصر ولغته، فيستحيل بالتالي على أية سلطة الاستحواذ على الخاصة ووضعهم في تناقض مع العامة، وتجنيد المثقفين ضد مصالح الشعوب، ومحاصرة العامة بالخاصة، وتزييف وعي الجماهير من خلال وضع أجهزة الإعلام في أيدي مثقفي السلطان. (6)
تجنيد الجماهير، فتنزل بثقلها إلى الساحة، وتأخذ مصائرها بأيديها. فما الفائدة من تدريس فلاسفة التنوير ودورهم في إشعال الثورة الفرنسية وتحرير الأذهان بأفكار الحرية والعدالة والمساواة، حتى استولت جماهير باريس على سجن الباستيل؟ وما الفائدة من تدريس أفكار الأفغاني دون ذكر لثورة عرابي، أو أفكار الطهطاوي ولطفي السيد، دون إشارة إلى ثورة 1919م؟ ماذا أعددنا نحن للأجيال القادمة؟ كان الضباط الأحرار بلا مفكرين أحرار، ثم صاروا ضد المفكرين الأحرار من الجيل السابق ومن هذا الجيل، حتى اختفى المفكرون الأحرار من جيلنا، وأصبحنا كلنا موظفين لدى الثورة، نقف خلفها بدل أن نكون في مقدمتها، مبررين لقراراتها بدل أن نكون ناقدين لها.
12
وعلى هذا النحو يمكن حل قضايا التغيير الاجتماعي؛ ففي الشعوب التراثية لا يمكن أن يتغير شيء في الواقع ما لم يتغير في الوعي أولا. وإن أبنيتنا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية كلها لتقوم بالأساس على أبنيتنا النفسية وقوالبنا الذهنية وتصوراتنا للعالم. وقد تكون نظمنا التسلطية القائمة على الحاكم الواحد والرأي الواحد ترسبا تراثيا عند القادة، ونفسيا عند الجماهير؛ من «آراء أهل المدينة الفاضلة»، وصفات الإمام. وقد تكون الدعامة النفسية للنظم البيروقراطية هي ما ترسب في وعينا القومي من نظرية الفيض أو الصدور، وأنه كلما صعدنا إلى أعلى وصلنا إلى أعلى مراتب الشرف، وكلما نزلنا إلى أسفل صرنا إلى أدنى مراتب الشرف. وقد يكون ما يحدث بيننا في سلوكنا القومي من أفضلية للجامعات على المعاهد التطبيقية العليا والمدارس الفنية المتخصصة قائما على بناء ذهني ونفسي موروث من أولوية القيم النظرية على القيم العملية في التراث.
لا شيء أسهل من تغيير الأبنية التحتية بانقلابات عسكرية وإجراءات ثورية وقرارات إدارية، ولكن لا شيء أصعب من الحفاظ على هذه الإنجازات والإبقاء على الثورة الدائمة. إن التغيير الاجتماعي بلا تغيير مواز في الثقافة، والعمل السياسي دون منظور تاريخي مجرد ضرب في الهواء. لقد سادت الأشعرية الكلام، والإشراقية التصوف والحكمة، والصورية الفقه أكثر من ألف عام، من القرن الخامس حتى اليوم، وعاش الاعتزال الكلامي والرشدية الفلسفية ونضال الصوفية والواقعية الفقهية أربعمائة عام؛ من القرن الثاني حتى القرن الخامس، قبل القضاء على العلوم العقلية لحساب التصوف في محنة القرن الخامس. وأصبح وعينا القومي منذ ذلك الوقت غير متعادل الكفتين، ألف عام من المحافظة الدينية، وأربعمائة عام من العقلانية. وما لم تتعادل الكفتان، بضغط الألف عام إلى سبعمائة أو أقل، وإطالة الأربعمائة عام أو أكثر فسيكون من الصعب أن تقوم ثورة أو أن يعقد حوار. في هذه اللحظة فقط تبدو إمكانية الثورة، أعني حين تضغط المحافظة إلى أدنى ترسب ممكن، وتمتد العقلانية والطبيعية إلى أقصى حد ممكن. هنا فقط سيتحرك التاريخ من جديد، وتبدأ مرحلة ثالثة بعد الأولى التي اكتملت فيها من القرن الأول حتى السابع، وبعد الثانية التي حافظت فيها على نفسها من السابع حتى الرابع عشر. فيكون جيلنا معاصرا لمرحلة ثالثة وممهدا لها؛ إذ يجمع فيها بين تأويل القديم وبين إبداع الجديد.
خامسا: الموقف من التراث الغربي
لا تعني الدعوة إلى تحجيم الغرب ورده إلى حدوده الطبيعية،والقضاء على أسطورة عالميته وبيان محليته مثل أي تراث آخر، وأن عصر الهيمنة الأوروبية هو الذي أفرز هذه الهيمنة الثقافية؛ لا يعني كل ذلك أي دعوة إلى الانغلاق أو العودة إلى جنون الذات أو رفض التعرف على الغير والانفتاح على الآخر؛ فتلك لم تكن سنة القدماء الذين تفتحوا على الثقافة المجاورة، وفي مقدمتها اليونانية، وتمثلوها وعرفوها واحتووها داخل الإطار الحضاري الخاص، بل يعني أن فترة التعلم قد طالت، وأن فترة التتلمذ قد امتدت، فنحن نتعلم منذ قرنين وما زالت مرحلة الإبداع بعيدة في الأفق. إن التعلم من الغير وسيلة لا غاية، ومرحلة وليس تاريخا، ومجرد باعث ومحرك وليس بديلا عن الشيء ذاته. لقد تعلم القدماء قرنا واحدا هو القرن الثاني، وما إن أتى القرن الثالث حتى ظهر الكندي أول الحكماء بادئا علوم الحكمة. لقد كانت الدعوة إلى الانفتاح على الغرب لها ما يبررها في أوائل القرن الماضي نظرا إلى التحدي الحضاري الذي كان يمثله الغرب علما وصناعة وحرية وديموقراطية، ودستورا ونظما برلمانية، ونهضة وتقدما وعمرانا. ولكن نظرا إلى طول المدة انقلب الانفتاح إلى الضد وهو التقليد، والتعلم إلى تبعية. فنشأت ظاهرة «التغريب» في حياتنا الثقافية وفي وعينا القومي، والتي تبدو في الآتي: (1)
اعتبار الغرب النمط الأوحد لكل تقدم حضاري، ولا نمط سواه، وعلى كل شعب تقليده والسير على منواله، وقد أدى هذا بالتالي إلى إلغاء خصوصيات الشعوب وتجاربها المستقلة، واحتكار الغرب حق إبداع تجارب جديدة، وأنماط أخرى للتقدم. (2)
Bog aan la aqoon