Diraasaad ka ku Saabsan Muqaddimah Ibn Khaldun
دراسات عن مقدمة ابن خلدون
Noocyada
أمام هذه الظاهرة يجب علينا أن نتساءل: لماذا؟ لماذا هذا التفاوت في كيفية سرد الوقائع ووصف الأحوال؟
إني أعتقد أن عوامل هذا التفاوت متعددة؛ منها تفاوت المدد التي مضت بين تاريخ حدوث الواقعات وبين تاريخ ذكرها في التعريف، ومنها اختلاف شدة تأثر المؤلف من الواقعات المختلفة، ومنها تفاوت حالاته النفسية العامة عند اشتغاله بتدوين الواقعات.
من المؤكد أن ابن خلدون كتب ما كتبه عن وقائع حياته في المغرب بعد مرور مدة طويلة على حدوثها، وأما ما حدث له خلال توليه منصب القضاء وخلال ملاقاته مع تيمورلنك، فإنه كتبها بعد مدة وجيزة من حدوثها، وربما عقب حدوثها عندما كان تأثيرها في نفسه لا يزال حيا وحادا.
وفضلا عن ذلك، إن الخطة التي سار عليها في القيام بمهمة القضاء خلقت له كثيرا من المتاعب، وأثارت عليه حسد البعض ومشاغبة الكثيرين، مع أنه كان وصل عندئذ إلى منتصف العقد السادس من العمر، فكان من الطبيعي أن يتأثر من هذه المتاعب والمشاغبات تأثرا عميقا، كما أنه كان من الطبيعي أن تنعكس انفعالاته هذه على كتاباته عندما أقدم على تدوين هذه الوقائع.
وأما ملاقاته مع تيمورلنك، فكانت وقعت وهو في عتبة السبعين من العمر، ومجردا عن كل الشواغل، فلا شك في أنه كتبها فور وقوعها، ومما يؤيد ذلك أن أبحاث «التعريف» التي تلي أخبار تيمور لم تشغل إلا صحيفة واحدة. •••
إني أعتقد أن ما كتبه ابن خلدون عن الأحوال التي لاحظها، والمتاعب التي لاقاها، والمفاسد التي كافحها عندما تولى منصب القضاء يكون وثيقة هامة تصور حالة العصر أحسن تصوير بكل ما فيه من فساد وضلال وتضليل وشعوذة.
ومما يلفت النظر أن الانتقادات الشديدة التي كتبها ابن خلدون بهذه المناسبة تتناول شئون الفتيا والأوقاف أيضا.
ونظرا لأهمية هذه الانتقادات رأيت من المفيد أن أنقل فيما يلي نص ما كتبه ابن خلدون في هذا المضمار: «خلع علي (السلطان) بإيوانه، وبعث من كبار الخاصة من أقعدني بمجلس الحكم بالمدرسة الصالحية بين القصرين، فقمت بما دفع إلي من ذلك المقام المحمود، ووفيت جهدي بما أمنني عليه من أحكام الله، لا تأخذني في الحق لومة، ولا يزعني عنه جاه ولا سطوة، مسويا في ذلك بين الخصمين، آخذا بحق الضعيف من الحكمين، معرضا عن الشفاعات والوسائل من الجانبين، جانحا إلى التثبت في سماع البينات، والنظر في عدالة المنتصبين لتحمل الشهادات، فقد كان البر منهم مختلطا بالفاجر، والطيب متلبسا بالخبيث، والحكام ممسكون عن انتقادهم، متجاوزون عما يظهرون عليه من هناتهم؛ لما يموهون به من الاعتصام بأهل الشوكة، فإن غالبهم مختلطون بالأمراء، معلمون للقرآن، وأئمة في الصلوات، يلبسون عليهم العدالة، فيظنون بهم الخير، ويقسمون لهم الحظ من الجاه في تزكيتهم عند القضاء والتوسل لهم؛ فأعضل داؤهم، وفشت المفاسد بالتزوير والتدليس بين الناس منهم، ووقفت على بعضها؛ فعاقبت فيه بموجع العقاب ومؤلم النكال، وتأدى إلي العلم بالجرح في طائفة منهم، فمنعتهم من تحمل الشهادة، وكان منهم كتاب لدواوين القضاة والتوقيع في مجالسهم، قد دربوا على إملاء الدعاوى وتسجيل الحكومات، واستخدموا للأمراء فيما يعرض لهم من العقود، بأحكام كتابتها وتوثيق شروطها، فصار لهم بذلك شفوف على أهل طبقتهم، وتمويه على القضاء بجاههم، يدرعون به مما يتوقعونه من عتبهم، لتعرضهم لذلك بفعلاتهم. وقد يسلط بعض منهم قلمه على العقود المحكمة، فيوجد السبيل إلى حلها بوجه فقهي أو كتابي، ويبادر إلى ذلك متى دعا إليه داعي جاه أو منحة، وخصوصا في الأوقاف التي جاوزت حدود النهاية في هذا المصر بكثرة عوالمه فأصبحت خافية الشهرة، مجهولة الأعيان، عرضة للبطلان باختلاف المذاهب المنصوبة للحكام بالبلد، فمن اختار فيها بيعا أو تمليكا شارطوه وأجابوه، مفتاتين فيه على الحكام الذين ضربوا دونه سد الحظر والمنع حماية عن التلاعب، وفشا في ذلك الضرر في الأوقاف، وطرق الضرر في العقود والأملاك.
فعاملت الله في حسم ذلك بما آسفهم علي وأحقدهم، ثم التفت إلى الفتيا بالمذهب، وكان الحكام منهم على جانب من الخبرة؛ لكثرة معارضتهم وتلقينهم الخصوم، وفتياهم بعد نفوذ الحكم، إذا فيهم أصاغر، ببناهم يتشبثون بأذيال الطلب والعدالة ولا يكادون، وإذا بهم طفروا إلى مراتب الفتيا والتدريس فاقتعدوها وتناولوها بالجزاف، واحتازوها من غير مثرب، ولا منتقد للأهلية ولا مرشح. إذ الكثرة فيهم بالغة، ومن كثرة الساكن مشتقة، وقلم الفتيا في هذا المصر طلق، وعنانها مرسل، يتجاذب كل الخصوم منه رسنا، ويتناول من حافته شقا، يروم به الفلج على خصمه، ويستظهر به لإرغامه، فيعطيه المفتي من ذلك ملء رضاه، وكفاه أمنيته، متتبعا إياه في شعاب الخلاف، فتتعارض الفتاوى وتتناقض، ويعظم الشغب إن وقعت بعد نفوذ الحكم، والخلاف في المذاهب كثير، والإنصاف متعذر، وأهلية المفتي أو شهرة الفتيا ليس تمييزها للعامي، فلا يكاد هذا المدد ينحسر، ولا الشغب ينقطع.
فصدعت في ذلك بالحق، وكبحت أعنة أهل الهوى والجهل، ورددتهم على أعقابهم، وكان فيهم ملتقطون سقطوا من المغرب، يشعوذون بمفترق من اصطلاحات العلوم هنا وهناك، لا ينتمون إلى شيخ مشهور، ولا يعرف لهم كتاب في فن، قد اتخذوا الناس هزؤا، وعقدوا المجالس مثلبة للأعراض ومأبنة للحرم؛ فأرغمهم ذلك مني وملأهم حسدا وحقدا علي، وخلوا إلى أهل جلدتهم من سكان الزوايا المنتحلين للعبادة، يشترون بها الجاه ليجيروا به على الله، وربما اضطر أهل الحقوق إلى تحكيمهم؛ فيحكمون بما يلقي الشيطان على ألسنتهم، يترخصون به للإصلاح، ولا يزعهم الدين عن التعرض لأحكام الله بالجهل. فقطعت الحبل في أيديهم، وأمضيت أحكام الله فيمن أجاروه، فلم يغنوا عنه من الله شيئا، وأصبحت زواياهم مهجورة، وبئرهم التي يمتاحون منها معطلة، وانطلقوا يراطنون السفهاء في النيل من عرضي، وسوء الأحدوثة عني بمختلف الإفك ، وقول الزور يبثونه في الناس، ويدسون إلى السلطان التظلم مني، فلا يصغي إليهم، وأنا في ذلك محتسب عند الله ما منيت به من هذا الأمر، ومعرض فيه عن الجاهلين، وماض على سبيل سواء من الصرامة، وقوة الشكيمة، وتحري المعدلة، وخلاص الحقوق، والتنكب عن خطة الباطل متى دعيت إليها، وصلابة العود عن الجاه والأغراض متى غمرني لامسها. ولم يكن ذلك شأن من رافقته من القضاة، فنكروه علي، ودعوني إلى تبعهم فيما يصطلحون عليه من مرضاة الأكابر، ومراعاة الأعيان، والقضاء للجاه بالصور الظاهرة، أو دفع الخصوم إذا تعذرت، بناء على أن الحاكم لا يتعين عليه الحكم مع وجود غيره، وهم يعلمون أن قد تمالئوا عليه.
Bog aan la aqoon