Diinta Aadanaha
دين الإنسان: بحث في ماهية الدين ومنشأ الدافع الديني
Noocyada
وهذه أول إشارة في تاريخ الفكر إلى نشوء الآلهة عن عبادة الأسلاف. وبعد يوهيميروس ببضعة قرون قام المفكر السوري فيلو الجبيلي، في أواخر القرن الأول الميلادي، بوضع مؤلف عن تاريخ الفينيقيين لم يبق منه سوى شذرات أوردها مؤلفون آخرون، ومنها بعض مقاطع حول المعتقدات الدينية للفينيقيين، تعقب فيها فيلو الأصل الكنعاني للآلهة الإغريقية، مستشهدا بكتابات كاهن كنعاني قديم اسمه سانخونياتن، عاش قبل عصر فيلو بألف عام. ويبدو أن هذا الكاهن كان شخصية من اختلاق فيلو نفسه؛ لأننا لا نعثر له على ذكر في المراجع الأقدم. يبدأ فيلو بسرد نظرية التكوين الكنعانية وفق سانخونياتن، فنجد أن النشأة الأولى قد تمت ابتداء من حركة عناصر مادية أصلية، دون تدخل من قدرة إلهية خارقة، فيقول: «في البدء، لم يكن هناك سوى هواء عاصف وخواء مظلم، ثم إن هذا الهواء قد وقع في حب مبادئه الخاصة وتمازج؛ ذلك التمازج دعي الرغبة، وهي مبدأ خلق جميع الأشياء، ولم يكن للهواء معرفة بما فعل. وقد نتج عن تمازج الهواء «مت» الذي كان عبارة عن كتلة من الطين أو مجموعة من العناصر المائية المتخمرة، وهو بذرة الخلق وأصل الأشياء جميعا، ثم استضاء الهواء بالتهاب اليابسة والبحر، وسيرت الرياح والغيوم، وهطل المطر على الأرض مدرارا. وبتأثير حرارة الشمس انفصلت الأشياء وطارت من مكانها لتتصادم في الجو، فنشأت البروق والرعود، وعلى صوتها أفاقت ذوات الحياة مذعورة، وراحت تنتقل على اليابسة وفي البحر ذكورا وإناثا.»
2
تعطينا مقدمة فيلو الجبيلي في التكوين هذه، أول محاولة حدس علمي لكيفية خلق الكون انطلاقا من حركة مادته الأولية، دونما إرادة خالقة فاعلة. وهي تشبه إلى حد بعيد النظريات الكونية الحديثة. لنقرأ على سبيل المثال ما يقوله عالم الفيزياء الكونية واينبرغ في كتابه: الدقائق الثلاث الأولى من عمر الكون: «في البدء، حدث انفجار ملأ الفضاء كله، وهرب كل جسيم عن كل ما عداه. بعد حوالي جزء من مائة من الثانية، وهي أقدم لحظة يمكن أن نتحدث عنها بشيء من الاطمئنان والثقة، ارتفعت درجة حرارة الكون إلى ما يقرب من مائة مليار درجة مئوية، وكانت المادة المضطربة أثناء هذا الانفجار مكونة من مختلف أشكال الجسيمات الأولية، والكون مفعما بالضياء.»
3
بعد ذلك، ينتقل فيلو إلى سرد تاريخ البشرية ابتداء من الجيل الأول الذي قدس أشجار الأرض وأقام لها الطقوس، فالأجيال اللاحقة التي كان لكل جيل منها فضل اكتشاف هام في تاريخ الحضارة؛ مثل النار وتربية الماشية والزراعة والتعدين وما إليها. ثم يشرح فيلو بالتفصيل كيف بجل الناس أصحاب تلك الاكتشافات من الأفراد المتفوقين في حياتهم، وكيف قدسوهم بعد وفاتهم ورفعوهم تدريجيا آلهة معبودة.
مما لا شك فيه، أن أفكار كل من يوهيميروس وفيلو الجبيلي قد قامت على تأملات ذهنية مجردة، وحدس معرفي متفوق لم يبن على الاستقراء والدراسة الميدانية لتبديات الظاهرة الدينية عبر التاريخ ولدى جماعات مختلفة من البشر، وهو ما لا نستطيع أن نطالب به مفكري تلك الحقب البعيدة. ولكن المدهش مع ذلك، أن دارس الظاهرة الدينية في العصر الحديث، المتزود بفيض المعلومات الإثنية والتاريخ-دينية، سوف يجد أن بحثه في أصل فكرة الآلهة إنما يسير بكل منطقية ويسر إلى النتيجة نفسها، وأن عبادة الأسلاف هي المرحلة الوسيطة في تاريخ الدين، التي قادت الفكر الديني من معتقد القوة السارية إلى معتقد الآلهة المشخصة. ولسوف أتقدم فيما يأتي بوجهة نظري حول هذه المسألة، ولكن بعد أن أستعرض أهم الآراء الحديثة حولها.
في عام 1851م، نشر الفيلسوف البريطاني هربرت سبنسر مقالته الشهيرة حول دور معتقد الأرواح في تكوين الدين، وهي المقالة التي أسست لنظرية المانيزم
Manism
في تفسير الدين. لاحظ سبنسر أن الثقافات البدائية تعتقد بأن لأرواح الموتى دورا هاما في حياة أسرها السابقة، ومحيطها الذي عاشت فيه إبان حياتها الأولى، كما تعتقد بأن تحرر الأرواح من أجسادها يعطيها نوعا من القوة لا يمتلكها الأحياء، وهي قوة يمكن توجيهها للنفع أو للضر، تبعا للطريقة التي تعامل بها أرواح الموتى، والطقوس المناسبة التي تقام لها. وتتسع دائرة تأثير الروح وفق اتساع المحيط الذي كان حاملها ينشط ويتحرك ضمنه؛ فروح الفرد العادي يمكن أن تؤثر بعد الموت في دائرة الأهل والأقارب المباشرين، أما أرواح السحرة والزعماء فيشمل مجال تأثيرها الجماعة كلها. وقد قادته دراسة دور هؤلاء السحرة والزعماء في المجتمعات البدائية، في الحياة وبعد الممات، إلى الاستنتاج بأن الآلهة الأولى التي عبدها الإنسان لم تكن في حقيقة الأمر إلا زعماء أو سحرة متميزين، استمرت قواهم فعالة في محيط الجماعة بعد موتهم، وجرى تأليههم بعد أجيال من موتهم، وأقيمت لهم فروض العبادة.
4
Bog aan la aqoon