Diinta Aadanaha
دين الإنسان: بحث في ماهية الدين ومنشأ الدافع الديني
Noocyada
الكتب الإلكترونية، هبة العصر
مقدمة طبعة الأعمال غير الكاملة
فاتحة
الباب الأول: ما هو الدين؟
1 - أفكار استهلالية: مكانة الدين وتعريفه
2 - تبديات الظاهرة الدينية
الباب الثاني: بنية الدين
1 - المكونات الأساسية للدين
2 - المكونات الثانوية للدين
الباب الثالث: الأشكال الاجتماعية للدين ومستوياته الشمولية
Bog aan la aqoon
1 - من العبادة إلى الدين الشمولي
2 - نماذج من الأديان الشمولية
الباب الرابع: المعتقد أو بنية الحد الأدنى للظاهرة الدينية
1 - أفكار استهلالية
2 - عتبة الدين، اللاهوت والناسوت في معتقد الباليوليت
3 - اللاهوت والناسوت في معتقد النيوليت
4 - مانا والروح الكبرى في معتقدات الشعوب البدائية
5 - بين السحر والدين
6 - أصل الآلهة
الباب الخامس: المعتقد وبنية الحد الأدنى [تابع]
Bog aan la aqoon
1 - كامي/تاو
2 - لاو تسو والتاوية
3 - الهندوسية والبحث عن الوحدة في الوجود
4 - ما وراء اللاهوت
5 - إله المتصوفة
الباب السادس: نتيجة، ومدخل جديد
1 - نظريات في منشأ الدين: نقد وتأسيس
الباب السابع: الوعي والكون
1 - العالم الكمومي والنظرية الكوانتية
خاتمة
Bog aan la aqoon
ثبت المراجع
الكتب الإلكترونية، هبة العصر
مقدمة طبعة الأعمال غير الكاملة
فاتحة
الباب الأول: ما هو الدين؟
1 - أفكار استهلالية: مكانة الدين وتعريفه
2 - تبديات الظاهرة الدينية
الباب الثاني: بنية الدين
1 - المكونات الأساسية للدين
2 - المكونات الثانوية للدين
Bog aan la aqoon
الباب الثالث: الأشكال الاجتماعية للدين ومستوياته الشمولية
1 - من العبادة إلى الدين الشمولي
2 - نماذج من الأديان الشمولية
الباب الرابع: المعتقد أو بنية الحد الأدنى للظاهرة الدينية
1 - أفكار استهلالية
2 - عتبة الدين، اللاهوت والناسوت في معتقد الباليوليت
3 - اللاهوت والناسوت في معتقد النيوليت
4 - مانا والروح الكبرى في معتقدات الشعوب البدائية
5 - بين السحر والدين
6 - أصل الآلهة
Bog aan la aqoon
الباب الخامس: المعتقد وبنية الحد الأدنى [تابع]
1 - كامي/تاو
2 - لاو تسو والتاوية
3 - الهندوسية والبحث عن الوحدة في الوجود
4 - ما وراء اللاهوت
5 - إله المتصوفة
الباب السادس: نتيجة، ومدخل جديد
1 - نظريات في منشأ الدين: نقد وتأسيس
الباب السابع: الوعي والكون
1 - العالم الكمومي والنظرية الكوانتية
Bog aan la aqoon
خاتمة
ثبت المراجع
دين الإنسان
دين الإنسان
بحث في ماهية الدين ومنشأ الدافع الديني
تأليف
فراس السواح
الكتب الإلكترونية، هبة العصر
في عام 1970 بدأت الأفكار العامة لكتابي الأول «مغامرة العقل الأولى» تتشكل في ذهني، وعندما بذلت المحاولات الأولى لكتابتها، شعرت بحاجة إلى مراجع أكثر من المراجع القليلة التي في حوزتي، فرحت أبحث في منافذ بيع الكتب، وفي المراكز الثقافية التابعة لوزارة الثقافة السورية، وفي مكتبة جامعة دمشق؛ عن مراجع باللغة الإنجليزية فلم أجد ضالتي، فتأكدت لي استحالة إتمام المشروع وتوقفت عن الكتابة.
وفي عام 1971 قمت برحلة طويلة إلى أوروبا والولايات المتحدة دامت ستة أشهر، رحت خلالها أشتري ما يلزمني من مراجع وأشحنها بالبريد البحري إلى سوريا، وعندما عدت شرعت في الكتابة وأنجزت الكتاب في نحو سنة ونصف. بعد ذلك رحت أستعين بأصدقائي المقيمين في الخارج لإمدادي بما يلزمني من مراجع، وكانت مهمة شاقة وطويلة تستنفد المال والجهد، وكان عمل الباحث في تلك الأيام وفي مثل تلك الظروف عملا بطوليا، إن لم يكن مهمة مستحيلة.
Bog aan la aqoon
بعد ذلك ظهر الحاسوب الشخصي في أوائل الثمانينيات، ثم تأسست شبكة الإنترنت التي لعبت دورا مهما في وضع الثقافة في متناول الجميع، ووفرت للباحثين ما يلزمهم من مراجع من خلال الكتب الإلكترونية المجانية أو المدفوعة الثمن، فأزاحت هم تأمين المراجع عن الكاتب الذي يعيش في الدول النامية، ووصلته بالثقافة العالمية من خلال كبسة زر على حاسوبه الشخصي.
لقد صار حاسوبي اليوم قطعة من يدي لا أقدر على الكتابة من دونه، مع إبقائي استخدام القلم في الكتابة، لا برنامج الوورد. ولرد الجميل للإنترنت، أردت لطبعة الأعمال الكاملة لمؤلفاتي التي صدرت في 20 مجلدا، أن توضع على الشبكة تحت تصرف عامة القراء والباحثين، واخترت «مؤسسة هنداوي» لحمل هذه المهمة؛ لأنها مؤسسة رائدة في النشر الإلكتروني، سواء من جهة جودة الإخراج أو من حيث المواضيع المتنوعة التي تثري الثقافة العربية.
جزيل الشكر ل «مؤسسة هنداوي»، وقراءة ممتعة أرجوها للجميع!
مقدمة طبعة الأعمال غير الكاملة
عندما وضعت أمامي على الطاولة في «دار التكوين» كومة مؤلفاتي الاثنين والعشرين ومخطوط كتاب لم يطبع بعد، لنبحث في إجراءات إصدارها في طبعة جديدة عن الدار تحت عنوان «الأعمال الكاملة»، كنت وأنا أتأملها كمن ينظر إلى حصاد العمر. أربعون عاما تفصل بين كتابي الأول «مغامرة العقل الأولى» والكتاب الجديد «الله والكون والإنسان»، ومشروع تكامل تدريجيا دون خطة مسبقة في ثلاث وعشرين مغامرة هي مشروعي المعرفي الخاص الذي أحببت أن أشرك به قرائي. وفي كل مغامرة كنت كمن يرتاد أرضا بكرا غير مطروقة ويكتشف مجاهلها، وتقودني نهاية كل مغامرة إلى بداية أخرى على طريقة سندباد الليالي العربية. ها هو طرف كتاب «مغامرة العقل الأولى: دراسة في الأسطورة» يبدو لي في أسفل الكومة. أسحبه وأتأمله، إنه في غلاف طبعته الحادية عشرة الصادرة عام 1988، التي عاد ناشرها إلى غلاف الطبعة الأولى الصادرة عام 1976، الذي صممه الصديق الفنان «إحسان عنتابي»، ولكن ألوانه بهتت حتى بدت وكأنها بلون واحد لعدم عناية الناشر بتجديد بلاكاتها المتآكلة من تعدد الطبعات التي صدرت منذ ذلك الوقت. وفي حالة التأمل هذه، يخطر لي أن هذا الكتاب قد رسم مسار حياتي ووضعني على سكة ذات اتجاه واحد؛ فقد ولد نتيجة ولع شخصي بتاريخ الشرق القديم وثقافته، وانكباب على دراسة ما أنتجته هذه الثقافة من معتقدات وأساطير وآداب، في زمن لم تكن فيه هذه الأمور موضع اهتمام عام، ولكني لم أكن أخطط لأن أغدو متخصصا في هذا المجال، ولم أنظر إلى نفسي إلا كهاو عاكف بجد على هوايته. إلا أن النجاح المدوي للكتاب - الذي نفدت طبعته الأولى الصادرة عن اتحاد الكتاب العرب بدمشق في ستة أشهر، ثم تتابعت طبعاته في بيروت - أشعرني بالمسئولية؛ لأن القراء كانوا يتوقعون مني عملا آخر ويتلهفون إليه.
إن النجاح الكبير الذي يلقاه الكتاب الأول للمؤلف يضعه في ورطة ويفرض عليه التزامات لا فكاك منها، فهو إما أن ينتقل بعده إلى نجاح أكبر، أو يسقط ويئول إلى النسيان عندما لا يتجاوز نفسه في الكتاب الثاني. وقد كنت واعيا لهذه الورطة، ومدركا لأبعادها، فلم أتعجل في العودة إلى الكتابة، وإنما تابعت مسيرتي المعرفية التي صارت وقفا على التاريخ العام والميثولوجيا وتاريخ الأديان. وعاما بعد عام، كان كتاب «لغز عشتار» يتكامل في ذهني وأعد له كل عدة ممكنة خلال ثمانية أعوام، ثم كتبته في عامين ودفعته إلى المطبعة فصدر عام 1986؛ أي بعد مرور عشر سنوات على صدور الكتاب الأول، وكان نجاحا مدويا آخر فاق النجاح الأول، فقد نفدت طبعته الأولى، 2000 نسخة، بعد أقل من ستة أشهر، وصدرت الطبعة الثانية قبل نهاية العام، ثم تتالت الطبعات.
كان العمل الدءوب خلال السنوات العشر الفاصلة بين الكتابين، الذي كان «لغز عشتار» من نواتجه، قد نقلني من طور الهواية إلى طور التخصص، فتفرغت للكتابة بشكل كامل، ولم أفعل شيئا آخر خلال السنوات الثلاثين الأخيرة التي أنتجت خلالها بقية أفراد أسرة الأعمال الكاملة، إلى أن دعتني جامعة بكين للدراسات الأجنبية في صيف عام 2012 للعمل محاضرا فيها، وعهدت إلي بتدريس مادة تاريخ العرب لطلاب الليسانس، ومادة تاريخ أديان الشرق الأوسط لطلاب الدراسات العليا، وهناك أنجزت كتابي الأخير «الله والكون والإنسان». على أنني أفضل أن أدعو هذه الطبعة بالأعمال غير الكاملة، وذلك على طريقة الزميلة «غادة السمان» التي فعلت ذلك من قبلي؛ لأن هذه المجموعة مرشحة دوما لاستقبال أعضاء جدد ما زالوا الآن في طي الغيب.
وعلى الرغم من أنني كنت أخاطب العقل العربي، فإني فعلت ذلك بأدوات البحث الغربي ومناهجه، ولم أكن حريصا على إضافة الجديد إلى مساحة البحث في الثقافة العربية، قدر حرصي على الإضافة إلى مساحة البحث على المستوى العالمي، وهذا ما ساعدني على اختراق حلقة البحث الأكاديمي الغربي المغلقة، فدعاني الباحث الأميركي الكبير «توماس تومبسون» المتخصص في تاريخ فلسطين القديم والدراسات التوراتية إلى المشاركة في كتاب من تحريره صدر عام 2003 عن دار
T & T Clark
في بريطانيا تحت عنوان:
Bog aan la aqoon
Jerusalem in History and Tradition
ونشرت فيه فصلا بعنوان:
Jerusalem During the Age of Judah Kingdom
كنت قد تعرفت على «تومبسون» في ندوة دولية عن تاريخ القدس في العاصمة الأردنية عمان عام 2001، شاركت فيها إلى جانب عدد من الباحثين الغربيين في التاريخ وعلم الآثار، وربطت بيننا صداقة متينة استمرت بعد ذلك من خلال المراسلات، إلى أن جمعتنا مرة ثانية ندوة دولية أخرى انعقدت في دمشق بمناسبة اختيار القدس عاصمة للثقافة العربية، وكانت لنا حوارات طويلة حول تاريخ أورشليم القدس وما يدعى بتاريخ بني إسرائيل، واختلفنا في مسائل عديدة أثارها «تومبسون » في ورقة عمله التي قدمها إلى الندوة. وكان الباحث البريطاني الكبير «كيث وايتلام» قد دعا كلينا إلى المشاركة في كتاب من تحريره بعنوان:
The Politics of Israel’s Past
فاتفقنا على أن نثير هذه الاختلافات في دراستينا اللتين ستنشران في ذلك الكتاب، وهكذا كان. فقد صدر الكتاب الذي احتوى على دراسات الباحثين من أوروبا وأميركا عام 2013 عن جامعة شيفلد ببريطانيا، وفيه دراسة لي عن نشوء الديانة اليهودية بعنوان:
The Faithful Remnent and the Invention of Religious Identity
خصصت آخرها لمناقشة أفكار «تومبسون»، ول «تومبسون» دراستان الأولى بعنوان:
What We Do And Do Not Know About Pre-Hellenistic Al-Quds
والثانية خصصها للرد علي بعنوان:
Bog aan la aqoon
The Literary Trope of Return - A Reply to Firas Sawah
أي: العودة من السبي كمجاز أدبي - رد على فراس السواح.
الكتاب يشبه الكائن الحي في دورة حياته؛ فهو يولد ويعيش مدة ثم يختفي ولا تجده بعد ذلك إلا في المكتبات العامة، ولكن بعضها يقاوم الزمن وقد يتحول إلى كلاسيكيات لا تخرج من دورة التداول. وقد أطال القراء في عمر مؤلفاتي حتى الآن، ولم يختف أحدها من رفوف باعة الكتب، أما تحول بعضها إلى كلاسيكيات فأمر في حكم الغيب.
فإلى قرائي في كل مكان، أهدي هذه الأعمال غير الكاملة مع محبتي وعرفاني.
فراس السواح
بكين، كانون الثاني (يناير) 2016
فاتحة
كان يوما حارا من أيام شهر حزيران، أمضيناه داخل حرم جامع سيدي خالد نحضر لامتحانات شهادة الدراسة الابتدائية، على عادة الطلبة في تلك الأيام؛ إذ يلجئون إلى برودة المساجد وفيئها وهدوئها في أيام الامتحانات. توجهت إلى رواق الجامع قبل المغيب تفاديا لزحام ساعة الصلاة، وكان آخر سؤال طرحه علي زميلي الذي يختبر معلوماتي في الفيزياء، وهو يلحق بي: لماذا تنفجر ثمرة الكستناء إذا وضعت على النار؟ فأجبته وأنا أخطو بسرعة عتبة الباب: بسبب ضغط البخار داخل القشرة. كنا نفضل الخروج من الحرم قبل كل صلاة؛ كي لا نبقى عاكفين على الكتاب والناس يؤدون صلاتهم، أو تحاشيا لسماع كلمات التقريع من أقرب المصلين إلينا. في إحدى المرات، قبضت علي ذراع شيخ مهيب، وقادني معه إلى مقدمة المصلين حيث أجبرني على الصلاة إلى جانبه.
مشيت حافيا فوق البلاط الحجري للأرضية الدافئة التي امتصت شمس النهار، ثم افترشت حصيرا من تلك التي تفرش عادة في الأروقة الخارجية للمساجد. استلقيت متحسسا خوص الحصيرة المجدول، كان دافئا وتنبعث منه تلك الرائحة الأليفة لنبات الأسل، تحمل معها على الدوام عبق اجتماع الناس وأحاديث السمار. وعندما اتصل بصري بالقبة السماوية اجتاحني تدريجيا شعور لا يمكن إعطاؤه حقه بكلمات، كانت سيالة زرقاء تملأ الكون فتشدني إلى الأعالي، أو تهبط بالأعالي إلى حصيرتي. المآذن من فوقي تتقارب وتتلاقى، ثم تغيب في الأعماق، والأعمدة والجدران تتباعد ثم تتلاشى وراء آفاق غير منظورة ... تحسست الزرقة تحت لساني وفي الأوعية الشعرية تحت الجلد، ثم تفتت قطعا زرقاء تتطاير كندف قطن لا وزن لها، لم أعد موجودا، أو لعل من الأنسب أن أقول، لم أشعر بمثل هذا الوجود الحق من قبل، ولن أشعر به إلا مرات قليلة بعد ذلك. لا أدري كم مضى علي في تلك الحالة، وعندما أخذت الأشياء تستعيد صورتها من جديد مستجمعة شتاتها من هيولى نشأتها، تجمعت إلى أجزائي، وعدت سيرتي الأولى، تلميذا تحت الرواق يقبض على كتاب الفيزياء ويحاول النهوض في ذهول عما حوله.
كانت تجربة ساحقة ومفرحة في آن معا؛ ساحقة لأنها تغمرك دون إرادة منك أو استدعاء لها، لتذهب بأناك العزيزة وتمحو حدودها في دقائق تبدو دهرا، ومفرحة لأنك إذا داهمتك فلن تشعر بالوحشة أو الوحدة بعدها أبدا.
Bog aan la aqoon
بعد الامتحانات، التي حملت إلينا ما توقعناه من الأسئلة وما لم نتوقع، وبينها سؤال ثمرة الكستناء إياه، كنت أستعيد تجربة ذلك الأصيل تحت رواق الجامع وأتمنى لو أنها تأتي كرة أخرى. ذهبت إلى المكان، دخلت الحرم وجلست أستمع إلى شيخ يتحدث بعد صلاة العصر، مفسرا بعض سور القرآن الكريم لمجموعة تحلقت حوله، ثم خرجت إلى الرواق. استلقيت على الحصيرة ورحت أحاور السماء الزرقاء، ولكن شيئا مما حدث لي في المرة السابقة لم يحدث. وعندها، خطر لي بما يشبه اليقين أن تجربة ذلك الأصيل لم تكن إلا دعوة للصلاة. عدت إلى البيت، وأخرجت كتاب مقرر الديانة المدرسي، فراجعت مجددا قواعد الصلاة بدقة، ثم تشمرت وتوضأت ، ومددت سجادة الصلاة تحت شجرة التفاح القديمة في فناء البيت، وشرعت في الصلاة، ولكن عند السجود، ظهرت أمامي صورة الرجل الحازم ذي اللحية البيضاء الطويلة، فشعرت بالخوف وأسرعت في إتمام الصلاة. ولهذه الصورة قصة سوف أرويها فيما يلي.
كان لوالدي غرفة يدعوها مكتبة. وفيما عدا إجراءات التنظيف العادية من مسح وكنس، كان محرما على أحد ترتيبها أو حتى تغيير مكان صحيفة يومية فيها. كانت أكداس المجلات والدوريات القديمة تملأ المكان، والكتب موزعة على الرفوف القليلة، ومتجمعة عند الزوايا في أكوام غير منتظمة. في الأوقات الآمنة، كنت أتسلل إلى الغرفة لتقليب صفحات كتب مصورة أحبها، ثم أنسحب عند اقتراب الخطر. وفي إحدى المرات، تسمر بصري على لوحة تملأ صفحتين متقابلتين من كتاب حاشد بالصور الملونة الأخاذة، كتب تحتها «لوحة خلق آدم». في اللوحة شيخ مهيب سابح في الفضاء يرتدي جلبابا هفهافا ينسحب من ورائه، وهو يمد يده إلى رجل عار يجلس على الأرض في وضعية من صحا لتوه من النوم. أطبقت الكتاب وخرجت، وفي ذهني أكثر من سؤال لا يجيب عليه سوى والدي، ولكن كيف أكشف عن سر دخولي إلى الغرفة المحرمة؟
لم يطل ترددي، كنت عازما على كشف سر الصورة بأي ثمن. بعد العشاء، أوى والدي إلى غرفته، فطرقت الباب وكشفت عن سري له مشيرا إلى مكان الكتاب، ثم قبعت في انتظار ما سيجري. لم يبد عليه الغضب، اتجه نحو الزاوية وأخذ الكتاب، ثم عاد إلى مكانه ففتحه على اللوحة إياها، ثم صمت برهة، وأخذ يشرح لي ببطء مضمونها وهو يتخير كلماته بدقة وحذر؛ لأن وجهي قد تحول على ما يبدو من إشارة استفهام إلى بركان دهشة لا حدود لها. وعندما انتهى من حديثه، زودني ببعض المجلات القديمة المصورة، ونبهني إلى ضرورة استئذانه في كل مرة أريد فيها دخول الغرفة. وكان علي بعد ذلك أن أهضم فكرة التصوير الديني ووجود مصورين لا يتحرجون من رسم صورة للخالق.
لوحة مايكل أنجلو هذه صارت من أعمال عصر النهضة المحببة إلي بعد ذلك . وعندما وقفت أتملاها تحت قبة السستين في الفاتيكان، بعد تلك الصدمة بعشرين عاما، تذكرت انفعالي الأول وابتسمت، كما تذكرت كيف حالت صورة الرجل الحازم ذي اللحية البيضاء بيني وبين الصلاة في تلك الفترة المبكرة.
يتميز الجيل الذي أنتمي إليه بنزعة عقلانية مفرطة؛ فهو الجيل الذي فتح عينيه على دولة حديثة الاستقلال، تحاول أن تجد لها موطئ قدم في عالم شيمته التقدم العلمي. لم نكن نسمح لأنفسنا بالنظر إلى العالم إلا من خلال المحاكمات الذهنية الباردة، وكان السلاح الذي نشهره في وجه بعضنا هو شعار «كن علميا»، كلما آنس واحدنا من زميله بادرة لطرح لا يلتزم المنطق العلمي في أضيق أشكاله، فكان من الطبيعي أن أكف عن استثارة أحوال نفسانية لا تخضع للمفاهيم العلمية الميكانيكية؛ فإلى جانب الخوف من أن تصنف في زمرة المتخلفين، كان في داخل كل منا محكمة تفتيش منعقدة على الدوام، يصرخ قاضيها في أعماقه «كن علميا»، كلما وجد في نفسه ميلا لما هو «غير علمي» بالمفهوم السائد. ومع ذلك، فقد داهمتني حالة «الوجود الحق» كما أسميتها، مرات قليلة بعد ذلك، وعلى درجات متفاوتة من الشدة.
كنا نتجول مساء في ساحة مونمارتر وأزقتها بباريس، عندما أنذر الرذاذ الخفيف بتحوله إلى وابل ثقيل، فاقترحت زوجة صديقي أن نلجأ إلى كاتدرائية مونمارتر القريبة. كان هناك قداس من نوع ما منعقد بعد الغروب. جلسنا في الصف الخلفي، وصديقي المقيم في باريس يحاول أن يقدم شرحا عن تاريخ الكاتدرائية وعمارتها، ولكن كلماته غابت تدريجيا لتحل محلها كلمات الكاهن الذي يقود القداس. كنت وكأني أسمع لأول مرة قصة الإله الذي صار إنسانا، والإنسان الذي صار إلها. ارتفعت قبة الكنيسة، توسعت حتى تلاشت في الظلام الكوني، وتباعدت الجدران والأعمدة، تحولت الأشياء إلى كلمات، لا تنطوي كل كلمة على معنى بعينه، بل تحتوي كل كلمة كل كلمة أخرى؛ معنى واحدا يتبدى بألف لون ولون، ثم رأيتني على صليب تتطاول أذرعه نحو اللانهايات الأربع، وأنا في نقطة التقاطع.
بعد ذلك، عرفت أن حالة «الوجود الحق » يمكن استثارتها بأساليب خاصة، وكانت محكمة التفتيش في داخلي قد أخلت مكانها لهيئة محلفين من مشارب شتى، لا يمانعون في إجراء المداولات الحرة قبل إصدار القرار.
في وقت متأخر من الليل، طرق باب منزلي في دمشق جار وصديق لا يخلو من غرابة الأطوار، تعود زيارتي بين الحين والآخر. كان يحمل في يده شريط تسجيل، قال وهو يتجه نحو الزاوية التي تعودنا الجلوس فيها لسماع الموسيقى أحيانا: سأسمعك شيئا أعجبني؛ فلعله يعجبك أيضا. جلسنا أكثر من ساعة نستمع إلى فرقة معروفة بإنشاد الألحان الصوفية، حيث تعرفت لأول مرة على هذا النوع من الفن الديني. حملتني إيقاعات الدفوف إلى حلقات رقص فسيحة يدور فيها الدراويش بأذرع مرفوعة نحو الحقائق المستورة، وأرجل تلف بخفة على الأرض التي ترتفع بهم للقاء السماء. رأيت بعين خيالي كيف يتوسط الراقص بين عالمين، وكيف تمتد روحه شرارة برق تصل المنفصل وتجمع المنقطع. وفي الأمسية التالية، استمعت إلى الشريط وحيدا، وعلى إيقاع مدد، مدد. لا أدري هل درت أم دار الكون من حولي، كل الكون. اختلطت الأشياء وتمازجت ألوانها، ثم ذابت خطوطا في حلقات تتسع، حتى ضاع الشكل واللون. الإنسان في المركز، وكل المجرات حتى أبعدها عند حواف الكون تدور وتدور. صار الكون إنسانا، والإنسان صار كونا.
وبمرور الأيام، كان التساؤل القديم، الذي حملني من حصيرة رواق الجامع إلى سجادة الصلاة تحت شجرة التفاح، ينمو ويتحول من تساؤل عرضي إلى سؤال أساسي: هل تجربة ما أسميته بالوجود الحق هي تجربة دينية؟ فإذا كانت دينية، فما الفرق بينها وبين ما تحققه الصلاة المعتادة؟ لماذا يلجأ البعض إلى طقس مؤسس ومتعارف عليه، والبعض الآخر إلى طقس خارج على المألوف؟ وإذا لم تكن هذه التجربة دينية، فماذا تكون؟ ثم تبين لي تدريجيا أن معالجة هذه الأسئلة ستدور في حلقة مفرغة، إذا لم نشرع قبلها في الإجابة على سؤال أكثر أساسية يتعلق ب: ما هو الدين؟ فلكي نستطيع تصنيف أمر ما في زمرة الدين، أو نصف سلوكا ما بالديني، علينا أن نكون واثقين من أننا نعرف فعلا ما نعنيه بالدين. والحال أننا مختلفون في هذا الأمر، رغم أن كلا منا يعتقد جازما بأنه يعرف ما الذي يعنيه الدين بالنسبة إليه. وليس الفلاسفة ودارسو الأديان من شتى المشارب بأفضل حالا منا، فلدينا اليوم تعريفات للدين بعدد من تصدى لدراسته، وحاول الإحاطة بهذه الظاهرة ووضع تعريفا مرضيا لها. كيف ذلك؟ كيف لهذا المحرض الإنساني الكبير أن يكون على هذه الدرجة من الغموض والزوغان عن التعريف؟ وهل من الممكن فعلا أن يختلف الدين باختلاف الأفراد وتنوع نظرتهم إلى الحياة؟ أم إن وراء هذا التنوع الظاهري وحدة صميمية، وإن التعريفات لا تقصد إلا أن تقول شيئا واحدا، وتعبر عن تجربة إنسانية واحدة؟ •••
أما بعد، فهذا كتاب في وصف الظاهرة الدينية عند نوع من الأحياء معروف باسم الإنسان العاقل (=
Bog aan la aqoon
Homo Sapien )؛ فقد وجدنا أن الدين هو إحدى السمات الرئيسية، التي ميزت هذا النوع عن غيره، منذ اكتسابه للخصائص الإنسانية التي نحن عليها الآن قبل أكثر من مائة ألف عام من عصرنا هذا. وقد رافقته، منذ ذلك الوقت المبكر لاستقلاله التام عن بقية الأنواع الحية على هذا الكوكب، كمحرض أساسي وهام في حياة البشرية عبر عصورها. وأريد أن ألفت النظر ابتداء إلى أن المقدمة الشخصية التي ابتدأت بها لا تطرح منهجا لبقية الكتاب، وأن الفصول القادمة ليست تأملات ذاتية في مسألة الدين، بل العكس هو الصحيح تماما؛ فإذا كان لكل مشروع دافع شخصي، فإن ما يميز مشروع البحث الموضوعي عن غيره هو قدرة صاحبه على الانتقال من الشخصي إلى الموضوعي، وتعديل الأول بما يتلاءم ومعطيات الثاني.
يميز وليم جيمس، الفيلسوف والسيكولوجي الأمريكي (1842-1910م)، في كتابه:
The Varieties of Religious Experience ،
1
بين نوعين من المحاكمة في دراسة الظاهرة الدينية، يدعو الأول محاكمة وجود
Existential Judgement ، والثاني محاكمة قيمة
. في المقترب الأول، يقوم الدارس بتقصي طبيعة موضوعه؛ أي تركيبه وأصله وتاريخه، وفي المقترب الثاني يبحث في أهميته وجدواه. ويرى وليم جيمس أننا لا نستطيع اشتقاق أحد هذين المقتربين من الآخر؛ لأنهما مستقلان تمام الاستقلال، وينشأ كل منهما عن مواقف فكرية متغايرة ؛ فمحاكمة الوجود موضوعية لا تعتمد معايير موضوعة مسبقا، أما محاكمة القيمة فذاتية تعتمد معايير يقوم الدارس بتبنيها مسبقا. فدراسة كتاب التوراة مثلا، من حيث طريقة جمعه وتحريره والأشخاص الذين عكفوا على صياغته، والشروط التي أحاطت بظهور هذا الكتاب وإتمام أسفاره، هي محاكمة وجود لا علاقة لها بتاتا بالتساؤل عن قيمة الكتاب كموجه روحي، فهذه محاكمة قيمة تختلف باختلاف المعايير التي يتبناها الدارس. من هنا، فإن حكم القيمة يختلف باختلاف مشارب الباحثين ومواقفهم الفكرية المسبقة.
ولقد تبنيت في كتابي هذا المقترب الأول، ووقفت في منهجي عند الحد الفاصل تماما بين الدراسة الوصفية والحكم القيمي.
إن ما أهدف إليه هو التعرف على الظاهرة الدينية كما هي، وعلى حقيقتها، وذلك عن طريق وصفها وصفا دقيقا، وعزلها عن بقية ظواهر الثقافة الإنسانية الأخرى المتعددة، وهو أمر على قدر كبير من الصعوبة والتعقيد، على عكس ما يخطر في البال للوهلة الأولى. فعبادة الموتى لدى بعض ثقافات العصر الحجري والعديد من الثقافات البدائية، قد صنفت خارج دائرة النشاط الديني من قبل بعض الباحثين المحدثين؛ لأنها لا تتوسل إلى قوى خالقة وخارقة تقع خارج الحيز المكاني والزماني المألوف. ومثلها أيضا تلك الممارسات والمعتقدات السحرية التي تقع في بؤرة الحياة الروحية لشعوب بدائية كثيرة؛ لأنها تتوسل إلى قوى غامضة غير مشخصة تتوسط بين الأسباب ونتائجها في حركة الطبيعة، وهي قوى لا تشبه الآلهة من قريب أو بعيد. وهناك أكثر من دين واسع الانتشار لا يؤمن أهلوه بإله ما، ولا يتعبدون لشخصيات ما ورائية من أي نوع، ولا ينتظرون منها منة ولا خلاصا؛ فإلى أي حد نستطيع أن نطلق صفة الدين على هذه الطرائق الروحية المغايرة لطرائقنا؟ ومن ناحية أخرى، لدينا فلسفات كبرى كالأفلاطونية المحدثة، شاعت وانتشرت، وساهم في بنائها العديد من العقول الجبارة، جعلت من فكرة الألوهة بؤرة اهتمامها، ومن الإله الأسمى الذي تعرفت عليه قطب الرحى في بنائها الفلسفي، فكان لها من الأتباع ما لأي نحلة دينية معروفة، ولكن أحدا من مؤرخي الأديان لم ير فيها دينا ؛ فما الذي تفتقد إليه أمثال هذه الفلسفات لتغدو دينا؟
ما هو الدين؟ هذا هو السؤال الأساسي الذي سنسعى معا إلى تلمس إجابات مرضية حوله، ولكن قبل الشروع في ذلك لا بد من كلمة حول منهج البحث.
Bog aan la aqoon
لقد حاولت بشكل أساسي تجنب أمرين؛ الأول فلسفة الدين، والثاني تاريخ الأديان. فالفلسفة تبقى بعد كل شيء امتدادا لفكر صاحبها، وتعبيرا عن توجهاته ومواقفه، إنها أمر شخصي بحت، ولدينا من الفلسفات قدر ما لدينا من الفلاسفة. وبما أني راغب عن تقديم وجهة نظر شخصية في مسألة الدين، راغب في وصفه وتحديده موضوعيا، فقد ابتعدت قدر المستطاع عن فلسفة الدين وفلاسفته، وعن إقحام أي رأي شخصي، مما يمكن للباحث أن يحمله ويضطر إلى وضعه على الرف مؤقتا، فيما لو كان جادا في التعلم من بحثه في اكتناه الواقع، لا في وضع هذا الواقع ضمن إطار ذهني مرتب مسبقا. أما تاريخ الأديان، فيعتمد منهجا تاريخيا يلجأ إلى تحليل الأديان المختلفة في سياقها التاريخي؛ أي إنه يحاول الكشف عما حدث فعلا، ودون العناية بفهم عميق لما حدث، أو تقديم تركيب منظم يجمع الظواهر الدينية التي يدرسها إلى ظاهرة واحدة. في محاولتي الابتعاد عن هذين التوجهين، وجدت نفسي مع أصحاب المنهج الفينومينولوجي (= الظاهراتي).
والفينومينولوجيا، كما وضع أسسها إدموند هوسرل (1859-1938م)، هي طريقة وصفية في البحث، تبتعد عن النظريات الفلسفية، وتحاول حدس ووصف الظاهرة كما تبدو لتجربتنا المباشرة؛ أي وصف طبيعتها وطرق تبدياتها وتعبيراتها عن نفسها. ففي مقابل انشغال الفلسفة التقليدية بتحليل المفاهيم، والتركيز على العقلاني، فإن الظاهراتية تركز على كلية التبدي الظاهراتي في التجربة الإنسانية، والتوجه إلى موضوع بحثها كأمر قائم في ذاته، لا يمكن إرجاعه إلى ظاهرة أخرى تحتويه. من هنا، هاجم هوسرل الإرجاعية السيكولوجية، التي يحاول علماء النفس من خلالها إرجاع كثير من الظواهر (ومنها الظاهرة الدينية) إلى الظاهرة النفسية. هذا الموقف الرافض للإرجاعية يحرر الباحث الفينومينولوجي من المواقف المسبقة، التي لم تخضع أصلا للنقد، والتي تمنعه من الالتفات إلى الخصوصية والتنوع في الظاهرة التي يدرسها، وهذا ما يعينه على توسيع وتعميق تجربته المباشرة، ويؤمن له وصفا دقيقا لهذه التجربة، لا يختلط بالأحكام القيمية. هذا عن الفينومينولوجيا الفلسفية. أما عن الفينومينولوجيا الدينية، فإنها تطبيق لطرائق الفينومينولوجيا على دراسة تاريخ الدين؛ أي إنها تشغل مكان الوسط بين الفلسفة والتاريخ، وتطرح منهج بحث عملي، لا فلسفة بالمعنى التقليدي.
إن ما يميز الفينومينولوجيا الدينية بشكل خاص هو ميلها إلى العمومية، وتقصيها لكل ما هو مشترك وعام بين الظواهر الدينية. وهي إذ تصف وتنظم وتنمذج موضوعاتها، إنما تعمل على استقصاء البنية الجوهرية والمعنى في الظاهرة الدينية. ورغم أن الظاهراتي يتحاشى فرض أحكامه وقيمه على موضوع بحثه، إلا أنه ينطلق في الوقت ذاته من موقف متعاطف مع هذا الموضوع، وبشكل خاص مع الجانب الإنساني فيه. فهو في وصفه للكيفية التي يعي بها المؤمن إيمانه ويفهمه، فإنه يحترم القيمة المطلقة التي يعزوها هذا المؤمن لعقيدته. وهذه نقطة يتوجب علي منذ البداية أن أجعلها واضحة تماما. عن هذا الموقف المتعاطف الذي لا ينشأ عن أفكار مسبقة، يقول كارل غوستاف يونغ، منشئ علم النفس التحليلي، ما يأتي: «على الرغم من أنني كثيرا ما أدعى فيلسوفا، إلا أنني امرؤ تجريبي، وأنطلق من موقف فينومينولوجي، ظاهراتي بحت. وهو موقف يعنى بالحوادث والخبرات، وتقوم حقيقته على الوقائع لا على الأحكام؛ فحين يتحدث علم النفس التحليلي، الذي أمثله، عن الميلاد العذري مثلا، فإنه لا يعنى إلا بواقعة وجود مثل هذه الفكرة، ومن دون التطرق إلى مسألة صحة الفكرة أو خطئها. فهذه الفكرة صحيحة سيكولوجيا، من حيث إنها فكرة موجودة. والوجود السيكولوجي هو وجود ذاتي بقدر ما تخطر الفكرة على بال إنسان واحد، وهو وجود موضوعي بقدر ما يترسخ بإجماع الناس عليه. والحق، فإن أفكارا معينة تكاد توجد في كل مكان وكل زمان، وهي قادرة على أن تخلق نفسها بصورة تلقائية وفي معزل عن النقل أو التقليد. هذه الأفكار لا يصنعها الفرد بل تحدث له، حتى لتفرض نفسها على وعيه فرضا. إن ما أقوله هنا ليس فلسفة أفلاطونية، بل علم نفس تجريبي.»
2
وعلى هذا، فإن ما أضعه بين يدي القارئ، فيما يأتي من الصفحات، هو مساهمة في فينومينولوجيا الدين، تتميز، على ما آمل، بالجدة في مقترباتها ومعالجاتها ونتائجها؛ ذلك أن عملا يأتي في هذا الوقت المتأخر عن فترة ازدهار هذا النوع من البحث على المستوى العالمي، لا بد من أن يحمل معه مسوغات قوية لظهوره. وإني لأعترف بفضل اثنين من المفكرين زوداني بالإطار الفكري السليم اللازم لإنجاز هذا الكتاب، وهما: إميل دوركهايم
Emile Durkheim ، المفكر وعالم الاجتماع، الذي أعطى لدراسة الدين نكهة العلم، وفريتجوف كابرا
Fritjof Capra
الفيزيائي الذي أعطى الفيزياء الحديثة نكهة الحكمة.
الباب الأول
ما هو الدين؟
Bog aan la aqoon
مسائل أولية في المصطلح والتعريف
الفصل الأول
أفكار استهلالية: مكانة الدين وتعريفه
(1) مكانة الدين
منذ أن قال أرسطو في الإنسان إنه حيوان ناطق، والفلسفات والعلوم تأتينا بتعريفات أخرى لهذا الكائن الذي يرغب دوما في رسم حدود فاصلة بينه وبين شركائه على هذا الكوكب. ونظرا لتعدد هذه التعريفات، فإني لا أرى حرجا من أن أضيف إليها واحدا جديدا فأقول بأن الإنسان هو كائن متدين، خصوصا وأننا الآن بصدد التمحيص في ظاهرة من أهم الظواهر المميزة للجماعات البشرية منذ بدايات تكونها، بل لعلها أهم ظاهرة ميزت تلك الجماعات الأولى بعد صناعة الأدوات. إن أول ما انفرد به الإنسان عن غيره من جماعات الرئيسيات العليا هو تشكيل الأدوات الحجرية بواسطة تقنيات الشطف. وبعد ظهور الأدوات الحجرية، ترك لنا الإنسان الأول إلى جانب أدواته شواهد على وسطه الفكري، تشير إلى بوادر دينية لا لبس فيها، وتبين ظهور الدين إلى جانب التكنولوجيا كمؤشرين أساسيين على ابتداء الحضارة الإنسانية. ولا زلت إلى يوم الناس هذا لا أرى في كل نواتج الحضارة الإنسانية إلا استمرارا لهاتين الخصيصتين الرئيسيتين للإنسان؛ فكل ارتقاء مادي تكنولوجي قد تسلسل من تلك التقنيات الحجرية الأولى، وكل ارتقاء فكري وروحي قد تسلسل من تلك البوادر الدينية الأولى وتطور عنها.
كثيرا ما يقال لنا بأن الفلسفة الإغريقية قد وضعت حدا للفكر الديني والميثولوجي، وأنها بذلك قد حررت العقل من شروطه القديمة. وهذا الطرح يسير مع الفرض القائل بأن الدين هو شكل أدنى من أشكال النظر العقلي، والفلسفة هي شكله الأرقى والأعلى. واعتمادا على تكرار هذه المقولة التي لم تخضع للنقد، فإننا نقبل بالتقسيم المعتاد لتاريخ الفكر الإنساني إلى أربع مراحل، هي: السحر فالدين فالفلسفة فالعلم التجريبي. غير أن نظرة جديدة غير متحيزة على مسار الحياة الفكرية للإنسان، تظهر لنا بوضوح أن الفلسفة الإغريقية لم تكن سوى بارقة عارضة، ما لبثت أن انطفأت أمام مد الفكر الديني والأسطوري، وتراجع الفكر الفلسفي قرونا عديدة قبل أن يبعث مجددا في العصور الحديثة، متوكئا عصا عربية أبقت على قبس من الفلسفة متقد، على الأطراف الخارجية لثقافة دينية سائدة، سواء في الثقافة العربية أم في الثقافة الأوروبية الوسيطة. أما العلم، فرغم الأرضية الصلبة التي فرشتها أمامه الفلسفة مع فترة مدها الأول، فقد بقي أسير التطورات الدينية والأسطورية، إلى أن أينعت ثمار عصر النهضة في أوروبا، وجاء كوبرنيكوس بنظريته الجديدة عن النظام الشمسي، التي كانت فاتحة لاستقلال العلم عن الدين والأسطورة، وتبعه غاليلو فنيوتن، فكان لهؤلاء معا فضل وضع أسس التفكير العلمي الحديث.
إن التاريخ القريب جدا لنجاح العلم والفلسفة في ترسيخ أقدامهما، وما نراه من مقاومة عنيدة للفكر الديني في كل ثقافة من ثقافات العالم الحديث، يجعل من تقسيم تاريخ الفكر إلى مراحل أربع يتوجها العلم، مسألة نظرية لغرض الدراسة، لا أمرا فعليا يعكس واقع الحال. لقد امتص الفكر الديني صدمة انتصار العلم والفلسفة، وما زال يزاحم وبقوة على اقتسام هوى وعقل الناس في كل مكان. في مطلع القرن التاسع عشر، أنهى العالم الفلكي والرياضي المركيز دي لابلاس مؤلفه الموسوعي الضخم عن ميكانيك الفضاء، معتمدا على حسابات نيوتن وقوانينه، فسار بفكرة الآلة الكونية الجبارة التي ابتدعها نيوتن إلى نهاياتها القصوى. وعندما عرض مؤلفه على الإمبراطور نابليون بونابرت، قال له بونابرت: لقد قيل لي إنك قد وصفت في عملك هذا نظام الكون برمته، ولكن من غير أن تشير من قريب أو بعيد إلى خالقه! فأجابه لابلاس: مولاي، إن هذه الفرضية لا ضرورة لها في نظامي.
1
غير أن علماء اليوم يظهرون تواضعا أكثر من سابقيهم رواد النهضة العلمية، وهم لا يرون غضاضة في الإفصاح عن صلة الفكر العلمي بالفكر الديني السابق عليه. يقول الفيزيائي روبرت أوبنهايمر صاحب الباع الطويل في صنع أول قنبلة ذرية: «إن ما أدت إليه اكتشافاتنا في عالم الفيزياء من مفاهيم وأفكار حول طبيعة الأشياء، ليست جديدة تماما؛ فإضافة إلى كون هذه الأفكار ذات تاريخ في حضارتنا الغربية، فإنها تتمتع بمكانة مركزية وهامة في الفكر البوذي والهندوسي. ولعلنا نستطيع القول بأن الأفكار الجديدة عبارة عن وثيقة مصدقة عن الحكمة القديمة، ونسخة مشذبة عنها.»
2
Bog aan la aqoon
ويقول نيلز بوهر، وهو واحد من أهم مؤسسي فيزياء الكم: «إذا شئنا العثور على مواز للدرس الذي تعطينا إياه الفيزياء النووية، فعلينا أن نلتفت إلى تلك المشكلات المعرفية التي واجهت من قبل مفكرين من أمثال البوذا ولاو تسي، والتي تتضمن من جملة ما تتضمن وضعنا كمشاهدين وممثلين في دراما الوجود الكبرى.»
3
أما فيرنر هايزنبرغ، صاحب تفسير كوبنهاجن المشهور في فيزياء الكم، فيقول: «إن الإسهام العظيم الذي قدمته اليابان مثلا في الفيزياء النظرية بعد الحرب الأخيرة، يمكن أن يعتبر دليلا على وجود قرابة بين الأفكار التقليدية في الشرق الأقصى وبين الجوهر الفلسفي لنظرية الكم. وقد يكون التكيف مع المفهوم الكمومي للواقع أيسر، عندما ينجو المرء من تأثير الأفكار المادية الساذجة التي استمرت تسيطر على أوروبا حتى العقود الأولى من القرن العشرين.»
4
ولقد عثرت شخصيا على العديد من المشكلات المعرفية المشتركة بين الفيزياء الحديثة وفكر محيي الدين بن عربي، وذلك في غمار دراستي للفيزياء الكوانتية تحضيرا للفصل ما قبل الأخير من هذا الكتاب، ونقاط التشابه من الكثرة والتنوع بحيث تستدعي من أحد المهتمين دراسة تفصيلية مطولة.
إن ما أود التوكيد عليه هنا هو أن الدين والفكر الديني ليس مرحلة منقضية من تاريخ الفكر الإنساني، بل هو سمة متأصلة في هذا الفكر، وإذا كانت هذه السمة قد أعلنت عن نفسها زمنيا قبل غيرها ، فكان الدين مصدرا بدئيا للثقافة الإنسانية، فإن كل المؤشرات تدل على أنه ما زال حيا ومؤثرا بطريقة لا يمكن تجاهلها؛ ولهذا لن يتسنى لنا أبدا فهم الحاضر الفكري الغني للإنسان، إذا نحن أبقينا على هذا المصدر البدئي والمحرض الدائم في دائرة الظل، أو تابعنا النظر إليه بمفهوم عصر التنوير الأوروبي، باعتباره لغزا أو فوضى فكرية مرتبطة بطفولة الجنس البشري. (2) تعريف الدين
غالبا ما يبدأ المؤلفون، الذين أخذوا على عاتقهم دراسة الظاهرة الدينية، بوضع تعريف للدين؛ لأنه بدون هذه الخطوة المبدئية قد يجد الباحث نفسه وهو يلاحق ظواهر بعيدة عن الدين، أو يتابع جوانب ثانوية من الدين على حساب جوانبه الرئيسية؛ إلا أن محذور هذه الطريقة يكمن في أن التعريف قد يقود في سبل مضللة، إذا لم تكتمل صياغته عقب دراسة متأنية لتجليات الظاهرة الدينية عبر التاريخ، ولدى مختلف الجماعات البشرية؛ لأنه في هذه الحالة سوف يعكس المواقف المسبقة للباحث وإسقاطاته الخاصة، أو مواقف وإسقاطات الثقافة التي ينتمي إليها ونظرتها إلى الثقافات الأخرى. فنحن هنا أمام مأزق فعلي يتعلق بالمنهج؛ ذلك أن التعريف المسبق ضروري من أجل تحديد وتوضيح مجال الدراسة، ولكننا في الوقت نفسه قد لا نستطيع التوصل إلى مثل هذا التعريف قبل أن نقطع شوطا واسعا في دراستنا للظاهرة الدينية، ونتقدم نحو نهاياتها. من هنا يجنح بعض المؤلفين إلى وضع تعريف أولي لا يهدف إلا إلى رسم الإطار العام لدراستهم، ولا يدعي الشمول والإطلاق. يقول وليم جيمس في بداية كتابه
The Varieties of Religious Experience : «رغم أنه من غير الحكمة وضع تعريف للدين ثم المضي في الدفاع عنه في وجه كل الاعتراضات؛ فإن هذا لن يقف حائلا دون قيامي بتقديم وجهة نظر محدودة بغرض وأهداف هذا الكتاب. فمن بين المعاني المتعددة للكلمة سوف أختار معنى محددا تدور حوله هذه المحاضرات؛ فالدين الذي أعنيه هنا هو الأحاسيس والخبرات التي تعرض للأفراد في عزلتهم، وما تقود إليه من تصرفات. وتتعلق هذه الأحاسيس والخبرات بنوع من العلاقة، يشعر الفرد بقيامها بينه وبين ما يعتبره إلهيا ...»
5
ولكن بما أن مجال بحثي هنا يتجاوز المجال الذي حدده وليم جيمس لدراسته، فإنني سوف أتوقف قليلا عند بعض من أهم التعريفات المتداولة في حقل دراسة الدين، والتي طمحت في وقتها للإحاطة بالظاهرة الدينية، وذلك قبل أن أتناول الموضوع من جانبي. وقد تحاشيت، فيما يأتي، استعراض الآراء الفلسفية البحتة؛ لأن الآراء الفلسفية غالبا ما تعكس وجهة نظر شخصية نابعة من النظم الفلسفية لأصحابها، لا من دراسة شاملة للظاهرة الدينية.
Bog aan la aqoon
تقوم فكرة «فوق الطبيعي»
Supernatural
أساسا لعدد من التعريفات. والتعبير هنا يشير إلى كل ما يتجاوز حدود المعارف الإنسانية ويقع في نطاق السر والمجهول؛ فالدين هو تفكر في كل ما يتأبى على العقل العلمي والتفكير الواضح. يقول هربرت سبنسر: «إن الأديان على قدر اختلافها في عقائدها المعلنة، تتفق ضمنيا في إيمانها بأن وجود الكون هو سر يتطلب التفسير.» ولذا فإن الدين بالنسبة إليه هو: «الاعتقاد بالحضور الفائق لشيء غامض وعصي على الفهم.»
6
ويدور تعريف ماكس مولر (1822-1900م)، الفيلسوف ومؤرخ الأديان الألماني، حول الفكرة نفسها، فيقول في كتابه نحو علم للدين: «إن الدين هو كدح من أجل تصور ما لا يمكن تصوره، وقول ما لا يمكن التعبير عنه؛ إنه توق إلى اللانهائي.»
7
وهناك اتجاه في التعريف يقوم على فكرة «الألوهة». يقول م. رافيل في كتابه مقدمة في تاريخ الأديان: «إن الدين هو اشتراط الحياة الإنسانية بإحساس بالاتصال بين العقل الإنساني وعقل خفي يتحكم بالكون، وما ينجم عن ذلك من شعور بالغبطة.»
8
ويقول ف. شلرماخر
F. Schleirmacher (1768-1834م)، وهو لاهوتي ودارس أديان: «إن الدين هو شعور باللانهائي واختبار له. وما نعنيه باللانهائي هنا هو وحدة وتكامل العالم المدرك. وهذه الوحدة لا تواجه الحواس كموضوع، وإنما تنبئ عن نفسها للمشاعر الداخلية. وعندما تنتقل هذه المشاعر إلى حيز التأملات، فإنها تخلف في الذهن فكرة الله. وإن الخيال الفردي هو الذي يسير بفكرة الله إما نحو المفارقة والتوحيد، أو نحو شكل غير مشخص للألوهة يتسم بوحدة الوجود.»
Bog aan la aqoon
9
ويرى بعض الباحثين أن فكرة الألوهة إذا أخذت بمدلولها الضيق فإنها تترك كثيرا من الأديان خارج دائرة التعريف، وهي الأديان التي تضع في بؤرة معتقدها كائنات روحية من مختلف الأنواع، كأرواح الموتى والأرواح الحالة في مظاهر الطبيعة المختلفة، والتي لا تنضوي تحت مفهوم الآلهة المعتاد. من هنا يرى إدوارد تيلور (1832-1917م)، وهو مؤسس الأنتروبولوجيا في بريطانيا، أن التعريف الأشمل ينبغي أن يستبدل مفهوم الآلهة بمفهوم «الكائنات الروحية» الأكثر عمومية. يقول تيلور في كتابه
: «إن المتطلب الأول في الدراسة المنهجية لأديان الشعوب البدائية، هو وضع تعريف بدائي للدين؛ ذلك أن التوكيد على الإيمان بكائن أعلى، من شأنه أن يخرج المعتقدات البدائية من دائرة الدين؛ لأن مثل هذا الإيمان هو مرحلة متطورة من الحياة الدينية. من هنا، فإن الأفضل أن نضع حدا أدنى لتعريف يقتصر على الإيمان بكائنات روحية.»
10
والمقصود بالكائنات الروحية عند تيلور، هو كائنات واعية تمتلك قوى وخصائص تفوق ما لدى البشر. ويدخل في عداد هذه الكائنات كل أنواع الأرواح والعفاريت والجن، التي تفترض الذهنية البدائية تداخل عالمها بعالم البشر، كما يدخل في عدادها أيضا الآلهة بالمعنى المعتاد للكلمة. وبما أن هذه الكائنات ليست قوى غفلة عمياء، بل تتمتع بالوعي والإرادة، فإن العلاقة معها تتميز بمحاولة التأثير عليها واستمالتها للوقوف إلى جانب الإنسان، سواء بالكلمات المناسبة أو بالذبائح والتقدمات وما إليها. وهنا يأتي جيمس فريزر (1854-1941)، الأنتروبولوجي البريطاني المعروف، ليقدم تعريفا مكملا لتعريف تيلور. يقول في كتابه الغصن الذهبي الذي صدر في طبعته المختصرة عام 1922م: «إن صياغة تعريف واحد من شأنه إرضاء كل الآراء المتصارعة حول الدين، هو أمر غير ممكن التحقيق. من هنا فإن كل ما يستطيعه الباحث هو أن يحدد بدقة ما يعنيه بكلمة الدين، ثم يعمل على استخدام هذه الكلمة عبر مؤلفه بالمعنى الذي حدده لها منذ البداية. وعليه، فإننا نفهم الدين على أنه عملية استرضاء وطلب عون قوى أعلى من الإنسان، يعتقد أنها تتحكم بالطبيعة والحياة الإنسانية. وهذه العملية تنطوي على عنصرين، واحد نظري والآخر تطبيقي عملي؛ فهناك أولا الاعتقاد بقوى عليا، يتلوه محاولات لاسترضاء هذه القوى . ولا يصح الدين بغير توفر هذين العنصرين ؛ ذلك أن الاعتقاد الذي لا تتلوه ممارسة هو مجرد لاهوت فكري، أما الممارسة المجردة عن أي اعتقاد فليست من الدين في شيء.»
11
في كتابه
The Elementary Forms of Religious Experience ، يوجه إميل دوركهايم، الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي (1858-1917م)، نقدا شديدا للتعريف الذي قدمه فريزر؛ لأنه يقصر الدين على الممارسات التي تتضمن توسلا لكائنات ما ورائية تسمو على الإنسان. ويرى دوركهايم أن أمثال هذا التعريف تلقى قبولا في الغرب بسبب مطابقتها من حيث الأساس لمفهوم الدين المسيحي، ولكنها لا تنطبق على أديان عدة واسعة الانتشار لا تدور معتقداتها حول أرواح أو آلهة من أي نوع، أو أن هذه الكائنات لا تلعب فيها إلا دورا ثانويا جدا؛ فالبوذية مثلا قد شقت لنفسها طريقا مستقلا عن البراهمانية في الهند، انطلاقا من رفض فكرة الإله؛ فهي نظام أخلاقي بدون مشرع، وإيمان بدون إله. إن البوذي غير معني إطلاقا بمن خلق العالم وكيف، وجل همه يتركز في الكدح من أجل التحرر وتخليص روحه من سلسلة التقمصات في عالم لا يحمل إلا الألم والشقاء. وهو في كدحه هذا لا يستعين بأي كائن ما ورائي من أي نوع، بل يعتمد على قواه الذاتية وحدها. أما الآلهة، فليست، في حال وجودها، إلا كائنات أقدر من الإنسان على التحكم في عالم المادة، ولكنها أسيرة مثله في عالم بائس عليها أن تخلص نفسها منه أيضا.
انطلاقا من هذا النقد، يرى دوركهايم أن أي تعريف للدين يجب أن ينطبق على جميع الديانات، من أكثرها بدائية إلى أكثرها تطورا وتعقيدا. ولكي نستطيع صياغة مثل هذا التعريف، ينبغي لنا أن نبحث عما هو مشترك بين الديانات المعروفة جميعا، ونسقط من حسابنا تلك الأفكار والمعتقدات التي يختص بها دين دون آخر. ولما كانت القوى الفاعلة في الطبيعة ليست وقفا على قوى الكائنات الروحية المشخصة كالآلهة وغيرها (وهذه نقطة سوف نعمل على توضيحها بكثير من التفصيل لاحقا)، فإن الدين لا يمكن تعريفه انطلاقا من علاقة الإنسان بهذه الكائنات. وبدلا من التوكيد على مفهوم الألوهة ومفهوم الكائنات الروحية، يجد دوركهايم أن كل المعتقدات الدينية، بسيطها ومركبها، تنطوي على خصيصة عامة مشتركة؛ فهي تفترض تقسيما لكل الأشياء المنظور منها والغيبي، يضعها في زمرتين؛ زمرة المقدس وزمرة الدنيوي
Sacred and Profane . وهو يرى أن هذا التقسيم إلى عالمين، يحتوي الواحد منهما على كل ما هو مقدس والآخر على كل ما هو دنيوي، هو السمة الأساسية المميزة للفكر الديني، وأن كل التمثيلات الدينية ما هي إلا وسائل تعبير عن طبيعة الأشياء المقدسة وعلاقتها ببعضها أو علاقتها بالأشياء الدنيوية. من هنا يمكن أن نفهم لماذا تعتبر البوذية دينا رغم استبعادها للآلهة من معتقدها؛ فهي عوضا عن الإيمان بإله يتمركز حوله المعتقد والطقس، فإنها تؤمن بالحقائق النبيلة الأربع وما يتفرع عنها من ممارسات. إضافة إلى هذه السمة الأساسية للدين، فإن تعريف دوركهايم يؤكد على ناحية أخرى ضرورية، وهي الطابع المجتمعي للدين؛ فالمعتقد الديني الحقيقي هو على الدوام معتقد لجماعة معينة من الناس يقتصر عليها ويميزها عن غيرها من الجماعات. والأفراد الذين يؤلفون هذه الجماعة يشعرون بصلة بعضهم مع بعض، وبالترابط داخل وحدة اجتماعية خاصة بهم انطلاقا من واقعة امتلاكهم لمعتقد ديني خاص بهم. ويطلق دوركهايم على مثل هذه الجماعة المتحدة بالمعتقد اسم الكنيسة. وبناء على ذلك يصوغ إميل دوركهايم التعريف التالي: «الدين هو نظام متسق من المعتقدات والممارسات التي تدور حول موضوعات مقدسة يجري عزلها عن الوسط الدنيوي وتحاط بشتى أنواع التحريم. وهذه المعتقدات والممارسات تجمع كل المؤمنين والعاملين بها في جماعة معنوية واحدة تدعى كنيسة.»
Bog aan la aqoon
12
والموضوعات المقدسة التي يشير إليها تعريف دوركهايم لا تقتصر على المجردات والغيبيات؛ لأن مفهوم القدسي يمكن أن يشتمل على الموضوعات المادية والمعنوية في آن معا. من هنا فإنه يرى ضرورة وضع معيار للتمييز بين ما هو مقدس وما هو دنيوي في معتقدات وممارسات الجماعة، وهذا المعيار لا يعتمد على المكانة التي يشغلها المقدس في هرمية ما لنظام مؤسس للأشياء، وما تسبغه عليه هذه المكانة من قوة ونبل وما إليها، كما لا يعتمد على العلاقة الدونية التي تسم علاقة الأدنى بما هو أعلى منه؛ فهذه السمات وغيرها قد تنطبق على المقدس ولكنها لا تميزه تماما. إن ما يميز المقدس فعلا هو تغايره المطلق
Heterogeneity
عن الدنيوي، بحيث إننا لا نكاد نعثر في تاريخ الأفكار الإنسانية على زمرتين متضادتين ومتعارضتين، كحال المقدسات والدنيويات. وإلى جانب ذلك، فإن طائفة من التحريمات (= تابو) تتكاثر في طقوس الثقافات البدائية، من أجل العزل الدائم بين المقدس والدنيوي ومنع اختلاطهما، وذلك مثل التحريمات المتعلقة باللمس أو النطق أو النظر ... إلخ. ومع ذلك فإن العبور بين العالمين ممكن، ولكن من خلال نوع من الطقوس التي يدعوها الأنتروبولوجيون بطقوس التعدية (= طقوس العبور= الطقوس الإدخالية =
Initiation ).
لقد أثرت أفكار دوركهايم على كثير ممن جاء بعده من دارسي الدين. ولعل أكثر من تأثر من الباحثين المعاصرين بفكرة المقدس والدنيوي كناظم للتعرف على الظاهرة الدينية، هو مؤرخ الأديان المعروف ميرسيا إلياد، الذي أصدر عام 1956م كتابا تحت عنوان «المقدس والدنيوي»، درس من خلاله الظاهرة الدينية استنادا إلى التمييز بين زمرتي المقدسات والدنيويات؛ مما أرسى أسسه دوركهايم قبل ذلك بزمن طويل. يقول إلياد: «يتجلى القدسي دائما كحقيقة من صعيد آخر غير صعيد الحقائق الطبيعية ... ويعلم الإنسان بالقدسي لأنه يتجلى، يظهر نفسه شيئا مختلفا كل الاختلاف عن الدنيوي. ويمكننا القول إن تاريخ الأديان، من أكثرها بدائية إلى أكثرها ارتقاء، عبارة عن تراكم من تجليات الحقائق القدسية. ليس ثمة انقطاع لاستمرار الظهورات الإلهية، بدءا من تجلي القدسي في شيء ما كحجر أو شجر، وانتهاء بالتجلي الأعلى الذي يتمثل لدى المسيحي بتجلي الله في يسوع المسيح؛ إنه الفعل الخفي نفسه: تجلي شيء مختلف تماما، أي حقيقة لا تنتسب إلى عالمنا، في أشياء تشكل جزءا لا يتجزأ من عالمنا الطبيعي الدنيوي.»
13
وأخيرا، لا بد لأي حديث في تعريف الدين من أن يتوقف عند رودولف أوتو (1869-1937م)، وهو لاهوتي ألماني وباحث في تاريخ وفينومينولوجيا الدين؛ وذلك نظرا للسلطة الكبيرة التي مارسها في كتابه «فكرة المقدس» على الدراسات الدينية، منذ صدوره عام 1917م. يعالج أوتو في كتابه، وبشكل أوضح وأوسع، الفكرة التي كان قد تقدم بها شلرماخر حول وجود وعي بالقدسي مغروس في النفس الإنسانية. وهو يبدأ القول بأن القدسي قد فقد معناه الأولي وتحول إلى جملة من التشريعات الأخلاقية والتقوى السلوكية. أما الحالة الأصلية للوعي بالقدسي، فتجربة انفعالية غير عقلية هي أساس الدين. وتنطوي هذه التجربة على مجابهة مع قوة لا تنتمي إلى هذا العالم، تعطي إحساسا مزدوجا بالخوف والانجذاب في آن معا. إنها تجربة مع الآخر المختلف كليا، تأبى على الوصف بالمصطلحات والتعابير المعتادة في وصف التجارب الأخرى. وإن الانقياد إيجابيا لهذه التجربة فكرا وعملا هو الذي يكون الدين. ويطلق أوتو على الإحساس بحضور الآخر المختلف كليا تعبير الإحساس النيوميني
Numinous ، وقد نحته من الكلمة اللاتينية
Numen
Bog aan la aqoon
التي تعني تجلي الألوهة، كما تعني قوة أو إرادة الألوهة. وهو يرى أن هذا العنصر النيوميني في التجربة الدينية هو حالة أولانية
Apriori
للوعي، وتكمن في البنية الأساسية لكل التجارب الدينية.
14
ومنهج أوتو في كتابه منهج سيكولوجي ظاهراتي؛ فلقد حاول وصف البنية الأساسية للدين، ورد الفعل الإنساني على خبرة القدسي، موضحا لا جدوى المقتربات العقلانية في دراسة الدين؛ ذلك أن الدين هو جزء لا يتجزأ من الطبيعة الإنسانية، وموجود معها منذ البداية. وبينما تكون التعبيرات الظاهرية عن الدين عرضة للتغير والتبدل مع الزمن، فإن التكوين السيكولوجي الذي يجعل الدين ممكنا عند الإنسان ثابت لا يتغير.
أكتفي بهذا العدد من التعريفات التي اخترت تقديمها هنا، من أجل رصف مدخل سهل يضعنا في صلب الموضوع. ولعل الاستعراض السريع لما قدمته، يظهر الاختلاف الواسع في وجهات النظر إلى الدين. وهذا الاختلاف لا يرجع في رأيي إلى عدم قابلية الظاهرة الدينية للإحاطة والتعريف، بل إلى التباين في الأفضليات وزوايا النظر. وهذا الوضع لا يقتصر على مادة دراستنا هنا، بل إنه شأن معتاد كلما تعلق الأمر بظاهرة من ظواهر الحياة الإنسانية. فالعائلة الإنسانية مثلا تبدو لناظرها بشكل يختلف باختلاف زاوية نظره؛ فهي لعالم الاجتماع الوحدة الأساسية المكونة للمجتمع، وهي لعالم النفس التربة الخصبة للصحة أو للمرض النفسي ، وللمصلح الاجتماعي وسيلة ضبط وتنظيم جنسي وعاطفي، ولبعض أصحاب الاتجاهات السياسية الجذرية وسيلة قمع في يد الطبقات الحاكمة. وبين هذا وذاك، تبقى العائلة ظاهرة إنسانية قابلة للإحاطة والتعريف، ولكن من منطلق شمولي يهدف إلى الكشف عن ماهيتها دون معيار مسبق، ومن غير السعي إلى تقييمها وإصدار حكم أخلاقي بشأنها. وفي مجال الدين، فإني أرى أن اختلاف وجهات النظر ناجم عن عدم التفريق، غالبا، بين ثلاثة تبديات ملحوظة للظاهرة الدينية مما سأبسطه فيما يأتي.
الفصل الثاني
تبديات الظاهرة الدينية
الدين الفردي، الدين الجمعي، المؤسسة الدينية
تتبدى الظاهرة الدينية في ثلاثة أشكال يمكن وصفها، إما بالمراقبة المباشرة أو بالاستماع إلى شهادات الأفراد عن خبراتهم الشخصية. وهذه الأشكال هي: (1)
Bog aan la aqoon
الدين الفردي، وسأطلق عليه اسم الخبرة الفردية أو الحس الديني. (2)
الدين الجمعي، وهو نتاج مرشد للخبرات الدينية الفردية. (3)
الدين المؤسساتي، وهو البنية المصطنعة التي تقوم فوق الدين الجمعي في المجتمعات ذات التكوين السياسي والاجتماعي المركب. (1) الدين الفردي
في قاع الظاهرة الدينية، هنالك خبرة فردية يعانيها الإنسان في أعماق نفسه وبمعزل عن تجارب الآخرين؛ فإذا كان لكل بناء سامق أساس يقوم عليه، فإن بناء الدين إنما يقوم على هذا النوع من الخبرة الدينية الفردية. وإذا أردنا الإخبار عن هذه الخبرة الأساسية، اعتمادا على الاستبطان وعلى شهادة الآخرين ممن عبروا عن تجاربهم تلك، قلنا إنها إحساس أولاني متمكن من السيكولوجيا الإنسانية، قوامه مواجهة فريدة مع قوة شمولية منبثة في هذا العالم، تبدو متصلة به قدر استقلالها عنه. إنه المقدس الكلي وقد صار ماثلا في النفس التي تختبر حضوره بكليتها وفي معزل عن أي موقف عقلاني نقدي. وكما لاحظ رودولف أوتو، بحق، فإن هذا الإحساس هو واقعة نفسانية، لا تنشأ عن أية إرادة أو تصميم مسبق، بل العكس هو الصحيح تماما؛ ذلك أن الفرد يجد نفسه تحت سلطان هذا الإحساس، دون مقدرة منه على توجيهه أو التحكم به، فهو ضحيته أكثر منه خالقا له. ونظرا لهذا الطابع الانفعالي غير العقلاني الذي تتسم به التجربة، فإن التعبير عنها بلغة الواقع المعاش ومفردات التجارب اليومية، هو أمر على غاية من الصعوبة.
إن أكثر ما أود التوكيد عليه هنا، هو أن اختبار القدسي من خلال الحالة الانفعالية التي وصفتها، هو أمر سابق على أي تصور عقلاني لإله مشخص أو كائنات روحية متفوقة واعية. فغير العقلاني في هذه التجربة يسبق العقلاني، والتعبير الرمزي عن الكلانية الحاضرة في النفس يسبق المفاهيم. من هنا فإن شارة القدسي قد سبقت تمثال الإله المشخص، أو صورته المرسومة، في تاريخ الأديان البشرية. ولسوف أوضح بالتفصيل في فصول لاحقة، ومن خلال معالجتي الخاصة لديانات العصر الحجري القديم والحديث، كيف تقدمت الرموز التشكيلية التي تشير إلى «الألوهة» تمثال الإله، وكيف تكونت صور الآلهة نتيجة للتوتر الذي يحصل بين الخبرة الأولانية بالقدسي من جهة والأفكار المرشدة من جهة أخرى.
هذا الحس الديني، أو الخبرة الدينية الفردية، ليس ظاهرة يمكن مراقبتها ووصفها من الخارج، وإنما هو أمر ذاتي يختبر فرديا، ولا يستطيع الباحث أن يعرف عنه إلا بالتنقيب في ذاكرته وسيرته الذاتية، وبالاستماع إلى شهادات الآخرين التي ما فتئت تتالى منذ بدايات التاريخ المكتوب. وهو لا يختص بفرد دون آخر، ولا بفئة دون أخرى، بل يتعرض له الجميع وإن بدرجات متفاوتة من الشدة والوضوح، ويتعاملون معه بدرجات متفاوتة أيضا من القبول والاعتراف، خصوصا في العصر الحديث حيث يباهي معظمنا بركونه إلى العقل وبعده عن كل ما لا يمت إلى العلم التجريبي بصلة، في زمن تراجعت فيه الآلهة عن مواقعها القديمة، وباتت (على حد تعبير غوستاف يونغ) سيئة السمعة إلى حد كبير. وفي حال إفساح المجال كاملا أمام هذه الخبرة الدينية المباشرة، أو اقتحام الحس الديني ساحة الشعور وتجاوزه كل مقاومة مصطنعة، فإن الفرد غالبا ما يلجأ إلى تحويل مساره ليصب في عقيدة مؤسسة ومصاغة في قالب ثابت، تنشأ حولها طقوس معروفة للجميع، تدفع عن الفرد وطأة المجابهة المباشرة مع الإحساس بالقدسي. وحول هذا الموضوع يقول يونغ: «لقد كان هنالك منذ فجر البشرية ميل ظاهر إلى رسم حدود للتأثير فوق الطبيعي ، العاصف والتحكمي، وذلك في صيغ وشرائع محددة. وعلى مدى الألفين من السنين الماضية، مثلا، نجد الكنيسة المسيحية قد اتخذت لنفسها دور الوساطة والوقاية بين هذه التأثيرات والإنسان.»
1
في العقيدة والطقس المؤسسين اجتماعيا، تذوب الخبرات الفردية في خبرة واحدة مشتركة، هي الدين الجمعي. أما أولئك الأفراد الذين يستسلمون للخبرة المباشرة دون التماس عون من معتقدات وطقوس جمعية، فهم غالبا من طينة المتصوفة والشامانات ومؤسسي الديانات الجديدة. فعند هؤلاء تبلغ الخبرة الدينية المباشرة درجة عالية من الشدة، تنتج ما ندعوه بحالة الوحي، وهي أقصى حالات المواجهة بين الفرد المنعزل والمقدس الكلي. وأعلى درجات الوحي هي الدرجة التي تدعو إلى الفعل، إلى تغيير المعتقد السائد بدلا من الهروب إليه؛ أي إن وطأة الخبرة الدينية تدعو إما إلى تحويلها إلى مسار العقيدة الجمعية، وإما إلى تحويل العقيدة الجمعية إليها. نقرأ عن تجربة النبي إرميا في التوراة:
كانت كلمة الرب إلي قائلا: «وقبل أن أصورك في البطن عرفتك، وقبل أن تخرج من الرحم قدستك وجعلتك نبيا للأمم ... ثم مد الرب يده ولمس فمي وقال لي: ها أنا ذا قد جعلت كلامي في فمك. انظر، إني أقمتك اليوم على الأمم وعلى الممالك لتقطع وتهدم وتهلك وتنقض وتبني وتغرس.»
2
Bog aan la aqoon