Diinta Aadanaha
دين الإنسان: بحث في ماهية الدين ومنشأ الدافع الديني
Noocyada
عندما تدخل الألوهية طور الخلق، نأتي إلى تجلي الرحمانية. وهنا تتجلى الألوهة كقدرة خالقة لكل مظاهر الكون. إلا أن الخلق هنا ليس خلق صانع ماهر يشكل العالم بيديه، وإنما خلق ألوهة تنقسم إلى حق وخلق، دون أن تفقد وحدتها وتكاملها. وهذان المصطلحان اللذان يتكرران في الأدبيات الصوفية كلها يشيران إلى المظهر المزدوج للحقيقة الواحدة؛ فالوجود خلق من حيث مظاهره، وحق (أو ألوهة مولدة) من حيث جوهره. ويتطلب الخلق عند الجيلي، أولا، أن تظهر الألوهية بحقائق أسمائها وصفاتها، فتظهر أولا بالأسماء الذاتية المقتصرة على الحق، مثل الصمد والقيوم وما إليها؛ ثم تظهر بأوصافها العامة التي تشترك بها مع الخلق، مثل السميع والبصير وما إليها. يقول: «والاسم الظاهر في هذه المرتبة هو الرحمن. واختصاص هذه المرتبة بهذا الاسم من أجل الرحمة الشاملة لكل المراتب الحقية والخلقية؛ فإن بظهوره في المراتب الحقية ظهرت المراتب الخلقية، وصارت الرحمة من الحضرة الرحمانية عامة في جميع الموجودات. فأول رحمة رحم الله بها الموجودات أن أوجد العالم من نفسه؛ ولهذا سرى ظهوره في الموجودات، فظهر كماله في كل جزء وفرد، ولم يتعدد بتعدد مظاهره، بل هو واحد في جميع تلك المظاهر، أحد على ما تقتضيه ذاته الكريمة.»
4
ويشبه الجيلي في أكثر من موضع انقسام الألوهة إلى حق وخلق، وصدور المخلوقات عنها دون أن تفقد وحدتها وتكاملها، بالجليد أو الثلج الذي يتكون على أطراف البحيرة أو سطحها؛ فهذا الثلج إذا نظر إليه من حيث ظاهره بدا شيئا مختلفا عن الماء، وإذا نظر إليه من حيث جوهره بدا عين الماء؛ فاسم الثلج والحالة هذه هو اسم مؤقت لطور عابر يصير إليه الماء، فإذا ذاب الثلج عاد إلى أصله واسمه. يقول: «فكان الحق هيولى العالم؛ فمثل العالم مثل الثلج، والحق سبحانه وتعالى الماء، الذي هو أصل هذا الثلج؛ فاسم تلك الثلجة على ذلك المنعقد معار، واسم المائية عليه حقيقة.»
5
آخر مجالي الألوهة هو الربوبية، وهو المجلى الخارجي المختص حصرا بعالم الخلق، والرب اسم لهذه المرتبة. ويقع تحت هذا الاسم كل الأسماء التي يتطلبها وجود المخلوقات، مثل: المريد والملك والقهار والمجيب والمعز والمذل ... إلخ. فإذا كانت الذات تمثل بطون الألوهة المطلق وغناها الكامل عن العالمين، فإن الربوبية هي ظاهر الألوهة الذي يتجه نحو عالم الخلق ويتطلبه. يقول: «الربوبية اسم للمرتبة المقتضية للأسماء التي تتطلبها الموجودات؛ فدخل تحتها الاسم العليم والسميع والبصير والمريد والملك وما أشبه ذلك؛ لأن كل واحد من هذه الأسماء والصفات يطلب ما يقيم عليه؛ فالعليم يقتضي المعلوم، والقادر يقتضي مقدورا عليه، والمريد يطلب مرادا، وما أشبه ذلك. واعلم أن للربوبية تجليين؛ تجليا معنويا وتجليا صوريا؛ فالتجلي المعنوي ظهوره في أسمائه وصفاته على ما اقتضاه القانون التنزيهي من أنواع الكمالات، والتجلي الصوري ظهوره في مخلوقاته على ما اقتضاه القانون الخلقي التشبيهي.»
6
إن وحدة هذين التجليين للربوبية تظهر ذوقا لمن يناجيهم الحق، فيسمع المناجي خطابا لا يصدر عن جهة ولا عن جارحة: «أنت خلاصة الأكوان والمقصود بالوجود والحدثان. تقرب إلى شهودي، فقد تقربت إليك بوجودي. لا تبتعد فإني أنا الذي قلت: ونحن أقرب إليه من حبل الوريد. لا تتقيد باسم العبد؛ فلولا العبد ما كان الرب. أنت أظهرتني كما أنا أظهرتك؛ فلولا عبوديتك لم تظهر لي ربوبية. أنت أوجدتني كما أنا أوجدتك؛ فلولا وجودك ما كان وجودي موجودا.»
7
وكما أن خروج الألوهة عن كمونها يتم عبر مجال ومراتب متدرجة متتابعة، كذلك يكتشف الإنسان عالم الألوهة من خلال هذه المراتب نفسها، وبما يتلاءم واستعداد كل فرد لوطأة الصلة مع المرتبة؛ فالصلة الأولى بين عالم الناسوت وعالم اللاهوت تعقد مع المجلى الخارجي؛ مجلى الربوبية، ومع الاسم الرب الذي هو إله الشرائع. وعامة الناس يبقون عادة عند هذه المرتبة ولا يستطيعون تجاوزها في معرفة الحق. يقول: «ثم إن الله تعالى تعبد للمسلمين من حيث اسمه الرب؛ فهم مقتدون بأوامره ونواهيه؛ لأن أول آية أنزلها الله تعالى:
اقرأ باسم ربك الذي خلق ، فقرن الأمر بالربوبية لأنها محله؛ لذلك فرضت عليهم العبادات؛ لأن المربوب يلزمه عادة عبادة ربه؛ فجميع عوام المسلمين عابدون لله تعالى من حيث اسمه الرب، لا يمكنهم أن يعبدوه من غير ذلك. بخلاف العارفين؛ فإنهم يعبدونه من حيث اسمه الرحمن؛ لتجلي وجوده الساري في جميع الموجودات عليهم. بخلاف المحققين؛ فإن عبادتهم له سبحانه وتعالى من حيث اسمه الله؛ لثنائهم عليه بما يستحقه من الأسماء والصفات التي اتصفوا بها؛ لأن حقيقة الثناء أن تتصف بما وصفته به من الاسم، أو الصفة التي أثنيت عليه وحمدته بها، فهم عباد الله المحققون، والعارفون عباد الرحمن، وعامة المسلمين عباد الرب. فمقام المحققين:
Bog aan la aqoon