Diinta Aadanaha
دين الإنسان: بحث في ماهية الدين ومنشأ الدافع الديني
Noocyada
الابنة الثالثة
من منظور «التغيرات»، فإن هذه المجموعات الثلاثية هي صورة لكل ما يجري في السماء وعلى الأرض، وهي رموز لأحوال دائمة التبدل، يصير واحدها إلى الآخر بالطريقة التي تصير الظاهرة إلى الأخرى في العالم الطبيعي. وهنا نضع اليد على المفهوم الأساسي لكتاب التغيرات؛ فالأشياء ليست في حالة وجود وإنما في حالة صيرورة، والذهن ينبغي أن يركز على تحول الأمور وحركيتها، وما هذه المجموعات الثلاثية في «التغيرات» إلا تمثيلات للأشياء في نزوعها الحركي لا في ثباتها. أما عن العائلة التي تكونها هذه الرموز، فيجب ألا ينظر إليها بالمعنى الحرفي بل بالمعنى المجرد؛ لأن كل واحد منها يمثل قوة ووظيفة، لا شخصية إلهية محددة.
ثم التقت هذه المجموعات الثلاثية، كل اثنتين في واحدة تضم ستة خطوط، ونجم عن كل الاحتمالات الممكنة لاجتماعها بهذه الطريقة أربعة وستون رمزا، يحتوي كل منها على خطوط سالبة متقطعة وخطوط متصلة موجبة، وكل خط من هذه الخطوط قابل للتغير؛ فإذا انقلب خط واحد سالب إلى آخر موجب، وقع التغير في الحالة التي تمثلها المجموعة السداسية.
ويمكن للخبير بهذه الرموز أن يستخدم عددا من عيدان نبتة الألفية، فيبعثرها على الأرض لتعطيه تشكيلا للعيدان يقابل رمزا من الرموز الأربعة والستين، وهذا الرمز يقابل بدوره حالة الشخص الذي يستخير «التغيرات». غير أن هذا النوع من التنبؤ الذي يقدمه الكتاب، يتعدى وصف الحالة إلى وصف الفعل الذي يجب أن يترافق مع معرفة الحالة، قبل أن تستفحل وتغدو قضاء لا يمكن رده؛ ذلك أن نبوءة «التغيرات» هي نبوءة إيجابية لا نبوءة سلبية، وقيام المستخير بالسؤال عما يستطيع القيام به لمواجهة الأوضاع المرتقبة، يجعل من التغيرات كتابا في الحكمة لا كتابا في العرافة.
تقوم حكمة «التغيرات» على عدد بسيط من المفاهيم الأساسية؛ فبالدرجة الأولى لدينا فكرة عن التغير تشكل الأرضية العامة لفلسفة الكتاب، فكل شيء يجري ويجري دون توقف كماء النهر، على حد قول كونفوشيوس، إلا أن التغير ينبغي أن يتم فوق أرضية ثابتة غير متغيرة، وإلا لما كان هناك نظام كوني، ولانحل كل شيء في النهاية إلى فوضى مطلقة. هذه الأرضية الثابتة هي التاو
Tao ، الوحدة الجوهرية الكامنة وراء الكثرة المتبدية، والواحد الذي يعطي للمتعدد الأساس والمعنى ، إنه البداية العظمى لكل الموجودات. فمن أدرك التغير ومعانيه، صرف النظر عن الأعراض الزائلة في الأشكال المتنوعة، وثبت قلبه على المبدأ غير المتغير.
يرمز للتاو في الفكر الصيني بدائرة فارغة، هي المبدأ الأول قبل ظهور الموجودات، وأيضا بدائرة يتناوب فيها الأبيض والأسود، أو اليانغ والين، هي المبدأ الأول بعد ظهور الموجودات التي نجمت عن دوران القوتين؛ القوة الموجبة يانغ، والقوة السالبة ين.
إن الخط داخل دائرة التاو يعبر عن ظهور الأقطاب والمتعارضات إلى حيز الوجود؛ فالخط قد أحدث شرخا في الفراغ المتماثل، فقسمه إلى أعلى وأسفل، وإلى يمين ويسار، وإلى أمام وخلف، وانحلت الوحدة السابعة إلى مظاهر ذات قوى متعارضة ومتجاذبة في الوقت نفسه. إن كل ما في الكون هو مزيج من طاقة موجبة وأخرى سالبة؛ فإذا غلب اليانغ كان الشيء ذا طبيعة موجبة، وإذا غلب الين كان ذا طبيعة سالبة؛ لهذا صور القسم الظليل في دائرة التاو وفيه نقطة منيرة، وصور القسم المنير وفيه نقطة ظليلة؛ لأن اليانغ لا يتجلى في حالته الصرفة، ولا الين كذلك؛ ففي كل إيجاب شيء من السلب وفي كل سلب شيء من الإيجاب. كما اتخذ القسمان الظليل والمنير وضعا حركيا دورانيا يدل على التناوب الأبدي بينهما.
ونجد في «التغيرات» مفهوما ميتافيزيقيا أساسيا يدور حول الأفكار. فالمجموعات الثلاثية الثمانية ليست صورا وتمثيلات لموضوعات بل صور لأحوال متغيرة، وكل حادث في الكون المرئي يتم بتأثير صورة (أو فكرة) في المستوى غير المرئي. وعليه فإن كل ما يحدث على الأرض هو نسخة لاحقة زمنيا عن أمر يحدث في مستوى يقع وراء إدراكنا الحسي. والحكيم الذي يكون على اتصال مع المستوى الأعلى يتاح له الاطلاع على الأفكار من خلال حدسه المباشر؛ وبالتالي يكون في وضع يسمح له بالتدخل في الأحداث الجارية في العالم. وبهذه الطريقة، فإن الإنسان يرتبط بالسماء التي تؤلف عالم الأفكار فوق الحسي، وبالأرض التي تؤلف عالم المادة الحسي، ويؤلف معهما مثلث قوة أساسيا. إن نظرية الأفكار المتضمنة في «التغيرات» تطبق في اتجاهين؛ فالكتاب ينبئ عن صور الأحداث وأيضا عن تحققها التدريجي في الزمن؛ ولهذا فإن الاستعانة به في استبصار بذور الأمور المقبلة، تنير لنا المستقبل وتجعلنا نفهم الماضي؛ وبهذا نتكيف مع مجرى الطبيعة.
لقد عرف كونفوشيوس كتاب التغيرات وكرس قسما كبيرا من وقته لدراسته والتعليق عليه، خصوصا في سنوات شيخوخته، وهناك قسم مهم من ملاحق الكتاب التي تحتوي شروحا وتعليقات أساسية تعزى إليه وإلى بعض تلامذته. كما أن «التغيرات» كان المصدر الرئيسي لإلهام الحكيم لاو تسو، مؤسس التاوية ومعاصر كونفوشيوس، وواضع كتاب تاو-تي-تشينغ، وهو الصرح الثاني في الفكر الصيني بعد «التغيرات».
Bog aan la aqoon