وعندما يبلغ الإنسان من العمر عتيا تفرض اللحظات الأخيرة نفسها عليه، وتجعله يتساءل: يا ترى هل مر زمن لم أفعل فيه شيئا؟ هل تركت الزمن يفلت من بين أصابعي ولم أقم فيه بعملي نحو المجتمع والوطن؟ هل وأنا في المثوى الأخير أو قاربت منه على علم بما أنجزته في الماضي؟ وإلى أي حد كان نافعا للناس؟ هل أنا مستعد لحكم التاريخ علي في المستقبل؟ وقادر على الدفاع عن نفسي، دون طلب للمغفرة والرحمة؟ هل التفكير في اللحظات الأخيرة وأنا ما زلت حيا يمنعني من أن أكون سعيدا أو أن أكون قادرا على الاستمرار في العطاء والعمل؟ أكتب هذه الذكريات وأنا طريح الفراش، تساعدني قارئة الفنجان، أسمع منها، وتكتب لي وأنا أتألم من لهيب آلام الأعصاب، لا أخاف من المستقبل إذا كنت قد أديت واجبي في الماضي، وما زلت أؤديه في الحاضر.
ومع ذلك أحزن لتركي الحياة ومغادرتها دون أن أدري ماذا حققت؟ وقيمة ما حققت؟ لا أحب الشفاعة في الدنيا ولا في الآخرة؛ فأعمالي تشفع لي. وصدقي يدافع عني، وإخلاصي يمحو أخطائي الصغيرة التي يخشى منها بعض المؤمنين. هم يخشون من الصغائر، ومستقبلي مرهون بفعل الكبائر التي تبقى في الذكريات، في حين تنسى الصغائر، وهي ما سماه القرآن الكريم «اللمم».
أفكر في الموت دون أن أخشاه إحساسا مني بأنني أديت رسالتي حتى النهاية، حتى وأنا على فراش المرض كنت أعمل بفضل مساعدة القارئة، وكنت أنهي كتابي الأخير «الفكر الوطني في العالم الثالث، أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية». كنت أتصوره جزءا واحدا، ولما عز علي أن أساوي مصر والوطن العربي بباقي دول العالم الثالث، أفردت لهما جزءا ثانيا «مصر والوطن العربي والعالم الإسلامي». ولما انتهى هذا الجزء ورأيت أن الفصل الأول «نمو الوعي الوطني في مصر» والثاني «مصر المعاصرة» ورأيت الفصل الثاني قد انقسم إلى الوطن العربي، والعروبة، والإسلام، والإسلام والعروبة. أصبح هذا هو الجزء الثاني، ثم اضطررت لعمل جزء ثالث يضم الإصلاح والنهضة، والصحوة الأسيوية والثورة الإسلامية.
ولما تباطأت السكرتارية بتحويل المخطوط اليدوي إلى نص مطبوع، بدأت في الجزء الثاني من «ذكريات» عن طريق الموضوعات وليس عن طريق المراحل العمرية.
وقبل أن أختتم الجزء الثالث من كتابي الأخير، والجزء الثاني من «ذكريات» برز أمامي موضوع آخر وهو «التفسير الشعوري للقرآن الكريم». ورأيت أن «التفسير الموضوعي» يقوم على تحليل المضمون والمعجم المفهرس، والبناء العقلي للموضوعات التي تهمنا مثل: الفقر والظلم والفساد. في حين أن التفسير الشعوري يقوم على الإحساس بالآيات كتجارب حية تطابق التجارب الحية التي عشتها، ويستعمل تحليل الخبرات الشعورية في النص وفي الحياة، وقد يكون هذا آخر ما يتفرع في عقلي وفكري وذهني وقلبي من موضوعات إذا ما طال بي العمر وامتد الزمن.
ويبدو أن الأرض الطيبة، والرعاية السليمة بالمياه تنبت زرعا لا أتوقعه، كما حدث وأنا أصحح هذا الجزء الثاني من «الذكريات». برزت في ذهني دراسة أخرى عن «الثقافة الشعبية في الأغاني والأزجال والأمثال العامية» للعام القادم 2022م. فلا يوجد مثوى أخير ولا نهاية للبداية، وإنما توجد باستمرار بداية جديدة للنهاية؛ فالمثوى لا تعني بالضرورة الموت، بل قد تعني تجدد الحياة، والأخير أشبه بالطريق المستقيم الذي لا نهاية له إلا في الأفق، وعلى ضفتيه تنبت الأشجار والنخيل الذي لا تنتهي ثماره ونتاجه، وهذه حقيقة وليست مزحة أضحك بها كما كنت مع ابنتي الصغرى ونحن نسير في الطريق العام، عندما كنا في الأندلس وتمل من ركوب السيارة، وتسأل: «متى سنصل؟» وكنت أقول لها: «عند هذه الشجرة الأخيرة.» ولا تأتي شجرة أخيرة؛ فالأشجار تتوالى باستمرار ولا نهاية لها، فتعبير «المثوى الأخير» لا يعني الرقدة تحت التراب كما ينادي عبد الوهاب في أغنيته «أيها الراقدون تحت التراب» بل يعني استراحة المحارب الذي تتجدد ميادين القتال أمامه، وهو ما زال قادرا على النزال. ولا يعني هذا التعبير أي إحساس بقرب النهاية الأخيرة، بل ببداية جديدة. ولا يعني الموت النهائي، بل الحياة المتجددة. ولا يعني التشاؤم والحزن على فراق من أحب بل الأمل في المستقبل الذي لا يتحول إلى ماض أبدا، بل يصبح مستقبل المستقبل؛ فتعبير «المثوى الأخير» لا يعني نهاية الحياة بالموت ولكنه يعني بداية الحياة بالأمل.
إذا كانت البداية لها نهاية فإن النهاية قد تكون بداية جديدة؛ فالإبداع الفكري بدايات لا نهايات؛ لأن الإبداع لا ينتهي؛ فبمجرد ظهور النهايات في «المثوى الأخير» انبثقت بدايات جديدة بالرغم من ضعف الجسد. ويبدو أن ضعف الجسد يوازي قوة العقل كما لاحظ ابن سينا في البراهين على خلود النفس، فالزمان لا يتوقف؛ إن بدأ فإنه لا ينتهي. والمهم أن يشعر الوجود الزماني بمساره وتجدده وبداياته الجديدة كلما قارب على الانتهاء؛ فالزمان مسار متصل والجسد هو الذي يقطعه.
فإذا استمر الزمان عندي لكان في استطاعتي كتابة «الثقافة الشعبية في الأغاني والأزجال والأمثال العامية» لأبين أنه لا فرق بين الوحي النازل من السماء والإبداع الأدبي الصاعد من الأرض. وربما كتبت أيضا «صورة المرأة في القرآن الكريم».
الأولى: المرأة المغوية «حواء»، الثانية: المرأة الغائبة «امرأة نوح»، الثالثة: المرأة الشاذة «امرأة لوط»، الرابعة: المرأة المضحية «سارة زوجة إبراهيم» ضحت لتزوجه هاجر، الخامسة: المرأة الجميلة «بلقيس ملكة اليمن»، السادسة: المرأة المفتونة «امرأة العزيز» التي افتتنت بيوسف، السابعة: المرأة الأم «أم موسى» التي وضعت ابنها في النهر، الثامنة: المرأة المستحية «الفتاة المستحية التي استسقت موسى ليسقي لها»، التاسعة: المرأة المؤمنة «مريم أم عيسى المسيح»، العاشرة: المرأة المحبة «خديجة زوجة الرسول»، الحادية عشرة: المرأة المحبوبة «عائشة بنت أبي بكر»، الثانية عشرة: المرأة الزوجة الفاتنة «زينب».
ويتضمن الجزء الثاني أحكام الزواج والطلاق، والمهر، والخصام، وتعدد الزوجات، وملك اليمين، والسبايا والجواري والإماء، والإرث، والشهادة، واللباس وغطاء الجسد.
Bog aan la aqoon