Dowladda Cuthmaaniyiinta ka hor iyo ka dib dastuurka
الدولة العثمانية قبل الدستور وبعده
Noocyada
فلما اطمأن انطلق لسانه، وكانت زفراته أطول من عباراته، ولم نزل على ذلك الحديث إلى أن بلغ بي سفح القمة أمام الفندق الذي كنت أقصده ولا فندق سواه، بل كان في الأصل بيتا لرجل عليل من وجهاء الشام بناه لنفسه مصيفا يقيم فيه مستشفيا من مرضه ثم جعله فندقا للمصطافين. فقال لي صاحبي والزفرة تكاد تخنقه: هذا هو النزل المقصود، متعك الله فيه بالهناء والسرور أنت ورفاقك، وأما أنا ورفاقي فلقد عقدنا النية على أن نغادر لكم في الصيف المقبل هذه البلاد بما فيها، غير آسفين على أرضنا وعقارنا في هذه الجنة الحمراء، سائرين على بركات الله إلى حيث نرجو أن نكون بمأمن من ظلم هؤلاء العتاة الفجار الذين حببوا إلينا الموت. وتناول أجرته شاكرا وانصرف.
قلت في نفسي: غوثك اللهم! إذا كان هذا مبلغ اليأس والسأم من نفس هذا الفلاح وهو مالك أرضا وبيتا وله مورد رزق دائم مما يبذله رواد جنته هذه، فما الظن بالفلاح المأجور الذي لا يملك كوخا يأوي إليه ولا شجرة يتفيأ بظلها في تلك السهول المحرقة، والدرهم بعيد عن كفه بعد الرحمة عن قلوب أولئك الظلام.
وهنالك صنف آخر من أصناف المهاجرين من البلاد العثمانية لا أجد تعبيرا وافيا لوصف بؤسهم وشقائهم، وأعني بهم: جماعة الأرمن، مزيج من التجار والصناع والزراع مقيمون في بلادهم من ولايات: وان وأرضروم وطرابزون، وما والاها، وقد مرت عليهم القرون وهم عائشون بأمن مع جيرانهم الأكراد والترك وغيرهم، وإذا حصل بينهم خلاف فإنما هو سحابة صيف لا تلبث أن تنقشع، ومنهم زرافات عديدة من ذوي المناصب من كل الدرجات ومن أرباب التجارة والعقار والصرافة وسائر الحرف متوزعون في كل أطراف السلطنة، لا يقل عددهم في نفس الأستانة عن المائة والخمسين ألفا.
بدأ ثائر الشقاق يثور بين الأرمن والأكراد منذ استفحل أمر حكومة الاستبداد، أي: منذ خمس وعشرين سنة، وكانت البواعث شديدة من الداخل والخارج.
وليس هنا محل بسط تاريخ المسألة وإنما نستخرج من مذكراتنا عنها ما يقتضيه سياق الحديث.
لا يكاد الإنسان يفقه سرا لمغازي سياسة الحكومة الغابرة إذ كانت تعمل على إضعاف بل إتلاف جميع العناصر المؤلفة منها هذه الأمة، فما شعرت بهذا التنافر بين سكان أرمينيا حتى قامت توسع في الخرق، فبدلا من أن تتلافى الأمر أرسل إليهم عمال «المابين» رجالا على شاكلتهم. وكلما تعالت الشكوى زادت المغارم إلى أن كانت الفتنة الأولى في وان وموش وخربوط وأرضروم سنة 1888. فهاجر من الأرمن من هاجر، ثم خبت النار تحت الرماد ولم تزل بين شبوب وسكون إلى سنة 1895؛ حيث كانت المذبحة الهائلة، فتجاوزت أرمينيا إلى الأستانة حيث قتل في يومي 25-26 آب (أغسطس) زهاء خمسة عشر ألف نفس، وامتدت منها إلى أطراف البلاد.
وما كان اعتراض الوزراء والعلماء وبعض المشيرين ولا مروءة ذوي المروءات كفؤاد باشا - على ما تقدم في باب التعصب - لتؤثر مقدار ذرة في أفكار عمال «المابين»، فإن قوتهم إنما كانت بأضعاف جميع الخلق، فما انثنوا حتى ارتووا بما سال من دماء تلك الألوف، والذي يدلك على أن عمال «المابين» لم يصدقوا بزعمهم لدى عقلاء الأمة أنه تيار اندفع بالقسر عنهم فلم يستطيعوا أن يقفوا بوجهه أنه لم تكد تصدر الأوامر من يلدز بإيقافه حتى أصبحت جميع أنحاء الأستانة في نصف ساعة دار أمن وسلام بعد أن كانت بحرا مضطرب اليم بأمواج الدماء. ولم تنحصر البلوى بقتل تلك النفوس، فإنك تستنتج - بلا ريب - أن سيل المهاجرة اندفع يجرف كل ما لقي في سبيله، وأنه عقب ذلك مجاعة عمت تلك الأصقاع فباد فيها زهاء ما باد بالسيف والرصاص «والنبوت»، وتعطلت المزارع ودمرت البيوت وأقفرت بلاد عامرة؛ فكانت خسارة البلاد في سنة واحدة بالقتل والموت بالمرض والجوع والمهاجرة نحو أربعمائة ألف نفس.
ولا ريب أن اختلاج عواطف الحنان والإخاء في أفئدة الأحرار في الآونة الأخيرة، واندفاعهم مئات وألوفا باحتفال باهر إلى مقابر الأرمن؛ حيث كانت تنقل الجثث مكدسة على عربات المزابل إلى خلجان ترمى فيها ركاما، بعض فوق بعض، وذهابهم بالزهور والأكاليل لتلقى فيها فوق تلك الأضرحة الفسيحة؛ لأعظم دليل على أن عقلاء الأمة كانوا ناقمين ساخطين، وإن في ذلك لبلسما لجراح من بقي من أنسباء أولئك التعساء، ولكنه لا يعوض البلاد شيئا من خسارتها الفادحة.
وإن غوائل المسألة الأرمنية امتدت خسائرها إلى جميع أجزاء البلاد، خذ الأستانة مثلا تر أنه على أثر تلك الحادثة انقطعت عنها الثقة المالية من أوروبا؛ فتعطلت المتاجر وقلت الأعمال ونفد المال وأخذ التجار والصناع من أبناء جميع الملل يهجرونها إلى مصر وأوروبا. وقد شهدنا مئات منهم في مصر القاهرة وحدها من الأوروبيين واليونان والترك والعرب، ولو أحصي عدد سكان الأستانة سنة 1897 لأسفر الإحصاء بلا ريب عن نقص مائة ألف نفس بأقل تعديل.
بقيت علينا لفتة مؤلمة إلى آخر صنف من المهاجرين، وهو تلك الفئة التي كان يجب أن تكون عماد الدولة وروح البلاد، ونعني بها: فئة الأحرار ودعاة الإصلاح - بعرفنا. والخونة المجرمين السياسيين وأعداء الدولة - باصطلاح عمال «المابين.»
Bog aan la aqoon