سليم معوض (يشعل لفافة ثانية ويتابع الحديث) :
قلت إننا خرجنا من منزل جلال باشا وبولس يجدف على اسم الأغنياء والوجهاء، وأنا أجدف على اسمه في سري، وبعد ذلك هل تظنون أنه ذهب كل منا إلى منزله؟ هل تظنون أن ليلة أمس قد انتهت على هذه الصورة؟ اسمعوا وتعجبوا، تعلمون أن بيت حبيب سعادة محاذ لمنزل جلال باشا، ولا يفصلهما غير حديقة صغيرة، وأنتم تعلمون أن حبيب سعادة من عشاق المدام، والأنغام، والأحلام، وممن يعبدون هذا البعليم (مشيرا إلى بولس)
فلما خرجنا من منزل جلال باشا وقف بولس دقيقة في منتصف الشارع فاركا جبهته كأنه قائد عظيم يفكر بفتح مملكة عاصية، ثم مشى فجأة نحو منزل حبيب سعاة، وقرع الجرس بشدة، فظهر حبيب بملابس النوم، وهو يفرك عينيه، ويتمتم ويتثائب، ولكنه عندما رأى وجه بولس، ورآني حاملا العود تحت إبطي تغيرت سحنته، ولمعت عيناه كأن السماء قد انفتحت أمامه، وصرخ مسرورا مؤهلا قائلا: «ما أتى بكم في هذه الساعة المقدسة؟» فأجاب بولس قد جئنا لنحتفل بعرس ابن جلال باشا في دارك» فقال حبيب: «هل ضاقت عليكم دار جلال باشا، فجئتم إلى هذا المنزل الحقير؟» فأجاب بولس: «ليس لجدران بيت الباشا آذان تسمع رنات العود والأناشيد، من أجل ذلك جئنا إليك، فهات قنينة العرق وصحفة المازة ولا تطل الكلام». الخلاصة، جلسنا حول مائدة الشراب التي تطل على حديقة الباشا، ثم ناولني العود، وقال آمرا «هذه عصاك يا موسى فحولها إلى أفعى، ومرها أن تبتلع جميع أفاعي مصر، اضرب النهوند، واضرب طويلا واضرب جميلا. فتناولت العود، وليس على العبد إلا الطاعة، وضربت النهوند، فحول بولس وجهه نحو منزل جلال باشا، وأخذ ينشد بصوت عال. (هنا يسكت سليم دقيقة، وتزول سيمياء المزاح عن وجهه، ويقول بلهجة هادئة جدية).
أنا أعرف بولس منذ خمس عشرة سنة، أعرفه منذ كنا صبيين في المدرسة، ولقد سمعته منشدا في حالتي الفرح والشقاء، سمعته ينوح كالثكلى، ويترنم كالعاشق، ويهلل كالمنتصر، سمعته يهمس في سكينة الليل وقد نامت هذه المدينة وسكانها، وسمعته بين أودية لبنان وأجراس الكنائس البعيدة تملأ الفضاء سحرا وهيبة، نعم لقد سمعته ألف مرة ومرة، وكنت أتوهم أنني أعرف حركات روحه وسكناتها، ولكنني في ليلة أمس لما حول وجهه نحو منزل جلال باشا، وأغمض عينيه وأنشد:
كلما أشكو من غرام قلبي
وكلما أشكوا يزيد الغرام
عندما أنشد هذا الدور متلاعبا بمقاطيعه مثلما يتلاعب الهواء بأوراق الخريف، قلت في نفسي: لا ما عرفت في الماضي من روح بولس إلا القشور، أما الآن فقد بلغت اللباب، لم أسمع في الماضي غير لسان بولس منشدا، أما الآن فإني أسمع قلبه وروحه، وظل بولس يلاحق الدور بالدور، ويتدرج من نشيد إلى نشيد، حتى خيل لي أن في الفضاء طغمة من أرواح العشاق تحوم مرفرفة هامسة منادية مرددة تذكارات الماضي البعيد، ناشرة ما طوته الليالي من أماني البشر وأحلامهم، نعم يا سادتي (مشيرا إلى بولس)
إن هذا الرجل قد صعد ليلة أمس على سلم الفن حتى بلغ الكواكب، ومن العجائب أنه لم يهبط على الأرض حتى الفجر، لم يسكت حتى وضع أعدائه تحت موطئ قدميه كما جاء في المزامير! أما ضيوف جلال باشا، فلم يسمعوا صوته خارجا من منزل حبيب سعادة حتى تزاحموا في النوافذ، وجلسوا نساء، ورجالا يتأوهون بعد كل مقطع وكل نبرة تخرج من فمه، وقد خرج بعضهم إلى الحديقة، ووقفوا تحت الأشجار مغبوطين متعذبين مصغين محتارين في أمر هذا البلعيم الذي ينكيهم ويهينهم، وفي الوقت نفسه يملأ قلوبهم بخمرة علوية، وقد كان يناديه البعض مستعطفا مترجيا، والبعض متوعدا مجدفا، وقد علمت من أحد المدعوين أن جلال باشا كان يزأر كالأسد متنقلا من غرفة إلى غرفة لاعنا الصلبان، غاضبا على ضيوفه - خصوصا - على أولئك الذين خرجوا إلى الحديقة حاملين كؤوس العرق وصحف المازة بأيديهم، هذا ما جرى ليلة أمس فما قولكم في هذه النابغة المجنون؟ ما رأيكم بأطوار هذا الرجل، وأخلاقه الغريبة؟
خليل بك :
هذه حادثة عجيبة، أما رأيي فيها فهو هذا: أنا من المعجبين بمواهب بولس أفندي، ومع كل احترامي له أقول: إنه أخطأ ليلة أمس، فقد كان بإمكانه أن ينشد في بيت جلال باشا كما أنشد في بيت حبيب سعادة، ويقابل استعطاف القوم بشيء من فنه «مخاطبا يوسف مسرة» ما رأيك يا يوسف أفندي؟
Bog aan la aqoon