حفار القبور
العبودية
الملك السجين
يسوع المصلوب
على باب الهيكل
أيها الليل
الجنية الساحرة
قبل الانتحار
يا بني أمي
نحن وأنتم
Bog aan la aqoon
أبناء الآلهة وأحفاد القرود
بين ليل وصباح
المخدرات والمباضع
السرجين المفضض
رؤيا
في ظلام الليل
الأضراس المسوسة
مساء العيد
الجبابرة
مات أهلي
Bog aan la aqoon
الأمم وذواتها
فلسفة المنطق أو معرفة الذات
العاصفة
الشيطان
الصلبان
الشاعر البعلبكي
السم في الدسم
ما وراء الرداء
البنفسجة الطموحة
الشاعر
Bog aan la aqoon
الكلام وطوائف المتكلمين
حفار القبور
العبودية
الملك السجين
يسوع المصلوب
على باب الهيكل
أيها الليل
الجنية الساحرة
قبل الانتحار
يا بني أمي
Bog aan la aqoon
نحن وأنتم
أبناء الآلهة وأحفاد القرود
بين ليل وصباح
المخدرات والمباضع
السرجين المفضض
رؤيا
في ظلام الليل
الأضراس المسوسة
مساء العيد
الجبابرة
Bog aan la aqoon
مات أهلي
الأمم وذواتها
فلسفة المنطق أو معرفة الذات
العاصفة
الشيطان
الصلبان
الشاعر البعلبكي
السم في الدسم
ما وراء الرداء
البنفسجة الطموحة
Bog aan la aqoon
الشاعر
الكلام وطوائف المتكلمين
العواصف
العواصف
تأليف
جبران خليل جبران
حفار القبور
في وادي ظل الحياة، المرصوف بالعظام، والجماجم، سرت وحيدا في ليلة حجب الضباب نجومها، وخامر الهول سكينتها.
هناك على ضفاف نهر الدماء والدموع المنساب كالحية الرقطاء، المتراكض كأحلام المجرمين، وقفت مصغيا لهمس الأشباح، محدقا باللاشيء.
ولما انتصف الليل، وقد خرجت مواكب الأرواح من أوكارها، سمعت وقع أقدام ثقيلة تقترب مني، فالتفت فإذا بشبح جبار مهيب منتصب أمامي، فصرخت مذعورا «ماذا تريد مني؟».
Bog aan la aqoon
فنظر إلي بعينين مشعشعتين كالمسارج ثم أجاب بهدوء «لا أريد شيئا وأريد كل شيء».
قلت: «دعني وشأني وسر في سبيلك».
فقال مبتسما: «ما سبيلي سوى سبيلك؛ فأنا سائر حيث تسير، ورابض حيث تربض».
قلت: «جئت أطلب الوحدة فخلني ووحدتي».
فقال: «أنا الوحدة نفسها فلماذا تخافني؟».
قلت: «لست بخائف منك».
فقال: «إن لم تكن خائفا، فلماذا ترتجف مثل قصبة أمام الريح».
قلت: «إن الهواء يتلاعب بأثوابي فترتجف، أما أنا فلا أرتجف».
فضحك مقهقها بصوت يضارع ضجيج العاصفة، ثم قال: «أنت جبان تخافني، وتخاف أن تخافني فخوفك مزدوج، ولكنك تحاول إخفاءه عني وراء خداع أوهى من خيوط العنكبوت فتضحكني وتغيظني».
ثم جلس على الصخر فجلست قسر إرادتي محدقا بملامحه المهيبة.
Bog aan la aqoon
وبعد هينهة خلتها ألف عام نظر إلي مستهزئا وسألني قائلا: «ما اسمك؟».
قلت: «اسمي عبد الله».
فقال: «ما أكثر عبيد الله وما أعظم متاعب الله بعبيده، فهلا دعوت نفسك سيد الشياطين، وأضفت بذلك إلى مصائب الشياطين مصيبة جديدة».
قلت: «اسمي عبد الله وهو اسم عزيز أعطاني إياه والدي يوم ولادتي فلن أبدله باسم آخر».
فقال: «إن بلية الأبناء في هبات الآباء، ومن لا يحرم نفسه من عطايا آبائه، وأجداده يظل عبد الأموات حتى يصير من الأموات».
فحنيت رأسي مفكرا بكلماته، مسترجعا إلى حافظتي رسوم أحلام شبيهة بحقيقته. ثم عاد وسألني قائلا: «وما صناعتك؟».
قلت: «أنظم الشعر وأنثره ولي في الحياة آراء أطرحها على الناس».
فقال: «هذه مهنة عتيقة مهجورة لا تنفع الناس ولا تضرهم».
قلت: «وماذا عسى أن أفعل بأيامي وليالي لأنفع الناس».
فقال: «اتخذ حفر القبور صناعة تريح الأحياء من جثث الأموات المكردسة حول منازلهم ومحاكمهم، ومعابدهم».
Bog aan la aqoon
قلت: «لم أر قط جثث الأموات متكردسة حول المنازل».
فقال: «أنت تنظر بعين الوهم فترى الناس يرتعشون أمام عاصفة الحياة؛ فتظنهم أحياء، وهم أموات منذ الولادة، ولكنهم لم يجدوا من يدفنهم، فظلوا متطرحين فوق الثرى، ورائحة النتن تنبعث منهم».
قلت: وقد ذهب عني بعض الوجل «وكيف أميز بين الحي والميت، وكلاهما يرتعش أمام العاصفة؟».
فقال: «إن الميت يرتعش أمام العاصفة أما الحي فيسير معها راكضا ولا يقف إلا بوقوفها».
واتكأ إذ ذاك على ساعده؛ فبانت عضلاته المحبوكة كأصول سنديانة مملوئة بالعزم، والحياة، ثم سألني قائلا: «أمتزوج أنت؟».
قلت: «نعم وزوجتي امرأة حسناء وأنا كلف بها».
فقال: «ما أكثر ذنوبك ومساوئك - إنما الزواج عبودية الإنسان لقوة الاستمرار، فإن شئت أن تتحرر؛ طلق امرأتك وعش خاليا».
قلت: «لي ثلاثة أولاد كبيرهم يلعب بالأكر، وصغيرهم يلوك الكلام ولا يلفظه، فماذا أفعل بهم؟».
فقال: «علمهم حفر القبور، واعط كل واحد رفشا، ثم دعهم وشأنهم».
قلت: «ليس لي طاقة على الوحدة، والانفراد، فقد تعودت لذة العيش بين زوجتي، وصغاري فإن تركتهم تركتني السعادة».
Bog aan la aqoon
فقال: «ما حياة المرء بين زوجته، وأولاده سوى شقاء أسود مستتر وراء طلاء أبيض، ولكن إن كان لا بد من الزواج؛ فاقترن بصبية من بنات الجن».
قلت: مستغربا «ليس للجن حقيقة، فلماذا تخدعني؟!».
فقال: «ما أغباك فتى! ليس لغير الجن حقيقة، ومن لم يكن من الجن كان في عالم الريب والالتباس».
قلت: «وهل لصبايا الجن ظرف وجمال».
فقال: «لهن ظرف لا يزول، وجمال لا يذبل».
قلت: «أرني جنية؛ فأقنع».
فقال: «لو كان بإمكانك أن ترى الجنية، وتلمسها لما أشرت عليك بزواجها».
قلت: «وما النفع من زوجة لا ترى، ولا تمس؟».
فقال: «هو نفع بطيء ينتج عنه انقراض المخاليق، والأموات الذين يختلجون أمام العاصفة ولا يسيرون معها».
وحول وجهه عني دقيقة، ثم عاد وسألني قائلا «وما دينك؟».
Bog aan la aqoon
قلت: «أؤمن بالله، وأكرم أنبياءه، وأحب الفضيلة، ولي رجاء بالآخرة».
فقال: «هذه ألفاظ رتبتها الأجيال الغابرة، ثم وضعها الاقتباس بين شفتيك، أما الحقيقة المجردة؛ فهي أنك لا تؤمن بغير نفسك، ولا تكرم سواها، ولا تهوى غير أميالها، ولا رجاء لك إلا بخلودها، منذ البدء والإنسان يعبد نفسه؛ ولكنه يلقبها بأسماء مختلفة باختلاف أمياله، وأمانيه فتارة يدعوها البعل، وطورا المشترى، وأخرى الله».
ثم ضحك فانفجرت ملامحه تحت نقاب من الهزء، والسخرية، وزاد قائلا: «ولكن ما أغرب الذين يعبدون نفوسهم، ونفوسهم جيف منتنة!». •••
ومرت دقيقة وأنا أفكر بأقواله؛ فأجد فيها معاني أغرب من الحياة، وأهول من الموت، وأعمق من الحقيقة، حتى إذا ما تاهت فكرتي بين مظاهره ومزاياه، وهاجت أميالي؛ لاستعلان أسراره وخفاياه، صرخت قائلا: «إن كان لك رب فبربك قل لي من أنت».
قال: «أنا رب نفسي».
فقلت: «وما اسمك؟».
قال: «الإله المجنون».
فقلت: «وأين ولدت؟».
قال: «في كل مكان».
فقلت: «وأي متى ولدت؟».
Bog aan la aqoon
قال: «في كل زمان».
فقلت: «ممن تعلمت الحكمة، ومن ذا الذي باح لك بأسرار الحياة، وبواطن الوجود؟».
قال «لست بحكيم، فالحكمة صفة من صفات البشر الضعفاء، بل أنا مجنون قوي أسير فتميد الأرض تحت قدمي، وأقف فتقف معي مواكب النجوم، وقد تعلمت الاستهزاء بالبشر من الأبالسة، وفهمت أسرار الوجود، والعدم بعد أن عاشرت ملوك الجن، ورافقت جبابرة الليل».
فقلت: «وماذا تفعل في هذه الأودية الوعرة، وكيف تصرف أيامك ولياليك؟».
قال: «في الصباح أجدف على الشمس، وعند الظهيرة ألعن البشر، وفي المساء أسخر بالطبيعة، وفي الليل أركع أمام نفسي وأعبدها».
فقلت: «وماذا تأكل، وماذا تشرب، وأين تنام؟».
قال: «أنا، والزمان، والبحر لا ننام؛ ولكننا نأكل أجساد البشر، ونشرب دمائهم، ونتحلى بلهاتهم».
وانتصب إذ ذاك مكبلا ذراعيه على صدره، ثم أحدق بعيني، وقال بصوت عميق هادئ «إلى اللقاء، فأنا ذاهب إلى حيث تلتئم الغيلان، والجبابرة».
فهتفت قائلا: «أمهلني دقيقة فلي سؤال آخر».
فأجاب، وقد انحجب بعض قامته بضباب الليل «إن الآلهة المجانين لا يمهلون أحدا، فإلى اللقاء».
Bog aan la aqoon
واختفى عن بصري وراء ستائر الدجى، وتركني خائفا، طائشا، محتارا به وبنفسي.
ولما حولت قدمي عن ذلك المكان سمعت صوته متموجا بين تلك الصخور الباسقة قائلا: «إلى اللقاء إلى اللقاء».
وفي اليوم التالي طلقت امرأتي، وتزوجت صبية من بنات الجن، ثم أعطيت كل واحد من أطفالي رفشا، ومحفرا، وقلت لهم: «اذهبوا وكلما رأيتم ميتا واروه في التراب».
ومن تلك الساعة - إلى الآن - وأنا أحفر القبور، وألحد الأموات، غير أن الأموات كثيرون، وأنا وحدي وليس من يسعفني.
العبودية
إنما الناس عبيد الحياة، وهي العبودية التي تجعل أيامهم مكتنفة بالذل، والهوان، ولياليهم مغمورة بالدماء والدموع.
ها قد مر سبعة آلاف سنة على ولادتي الأولى - وللآن - لم أر غير العبيد المستسلمين والسجناء المكبلين.
لقد جبت مشارق الأرض، ومغاربها، وطفت في ظل الحياة، ونورها، وشاهدت مواكب الأمم والشعوب سائرة من الكهوف إلى الصروح، ولكنني لم أر - للآن - غير رقاب منحنية تحت الأثقال، وسواعد موثوقة بالسلاسل، وركب جاثية أمام الأصنام.
وقد اتبعت الإنسان من بابل إلى باريس، ومن نينوى إلى نيويورك، ورأيت آثار قيوده مطبوعة على الرمال بجانب آثار أقدامه، وسمعت الأودية، والغابات تردد صدى نواح الأجيال والقرون.
دخلت القصور، والمعاهد، والهياكل، ووقفت حذاء العروش، والمذابح، والمنابر، فرأيت العامل عبدا للتاجر، والتاجر عبدا للجندي، والجندي عبدا للحاكم، والحاكم عبدا للملك، والملك عبدا للكاهن، والكاهن عبدا للصنم، والصنم تراب جبلته الشياطين، ونصبته فوق رابية من جماجم الأموات.
Bog aan la aqoon
دخلت منازل الأغنياء، الأقوياء، وأكواخ الفقراء الضعفاء، وقفت في المخادع الموشاة بقطع العاج، وصفائح الذهب، وفي المأوى المفعمة بأشباح اليأس، وأنفاس المنايا، فرأيت الأطفال يرضعون العبودية مع اللبن، والصبيان يتلقنون الخضوع مع حروف الهجاء، والصبايا يرتدين الملابس مبطنة بالانقياد، والخنوع، والنساء يهجعن على أسرة الطاعة، والامتثال.
اتبعت الأجيال من ضفاف الكنج، إلى شاطئ الفرات، إلى مصب النيل، إلى جبل سينا إلى ساحات أثينا، إلى كنائس رومية، إلى أزقة القسطنطينية، إلى بنايات لندن، فرأيت العبودية تسير بكل مكان في موكب العظمة، والجلال، والناس ينحرون الفتيان والعذارى على مذابحها، ويدعونها إلها، ثم يسكبون الخمور والطيوب على قدميها، ويدعونها ملكا، ثم يحرقون البخور أمام تماثيلها ويدعونها نبيا، ثم يخرون ساجدين لديها ويدعونها شريعة، ثم يتحاربون ويتقاتلون من أجلها ويدعونها وطنية، ثم يستسلمون إلى مشيئتها ويدعونها ظل الله على الأرض، ثم يحرقون منازلهم ويهدمون مبانيهم بإرادتها، ويدعونها إخاء ومساواة، ثم يجدون ويجاهدون في سبيلها، ويدعونها مالا وتجارة ... فهي ذات أسماء عديدة، وحقيقة واحدة، ومظاهر كثيرة لجوهر واحد، بل هي علة أزلية أبدية تجيء بأعراض متباينة، وقروح مختلفة يتوارثها الأبناء عن الآباء مثلما يتوارثون نسمة الحياة، وتلقي بذورها العصور في تربة العصور، مثلما تستغل الفصول ما تزرعه الفصول. •••
وأغرب ما لقيت من أنواع العبوديات، وأشكالها:
العبودية العمياء:
وهي التي توثق حاضر الناس بماضي آبائهم، وتنيخ نفوسهم أمام تقاليد حدودهم، وتجعلهم أجسادا جديدة لأرواح عتيقة، وقبورا مكلسة لعظام بالية.
والعبودية الخرساء:
وهي التي تعلق أيام الرجل بأذيال الزوجة التي يمقتها، وتلصق جسد المرأة بمضجع الزوج الذي تكرهه، وتجعلهما من الحياة بمنزلة النعل من القدم.
والعبودية الصماء:
وهي التي تكره الأفراد على اتباع مشارب محيطهم، والتلون بألوانه والارتداء بأزيائه، فيصبحون من الأصوات كرجع الصدى، ومن الأجسام كالخيالات.
والعبودية العرجاء:
Bog aan la aqoon
وهي التي تضع رقاب الأشداء تحت سيطرة المحتالين، وتسلم عزم الأقوياء إلى أهواء الطامحين بالمجد، والاشتهار؛ فيمسون مثل آلات تحركها الأصابع، ثم توقفها، ثم تكسرها.
والعبودية الشمطاء:
وهي التي تهبط بأرواح الأطفال من الفضاء المتسع إلى منازل الشقاء حيث تقيم الحاجة بجانب الغباوة، ويقطن الذل في جوار القنوط، فيشبون تعساء، ويعيشون مجرمين ويموتون مرذولين.
والعبودية الرقطاء:
وهي التي تبتاع الأشياء بغير أثمانها، وتسمى الأمور بغير أسمائها، فتدعو الاحتيال ذكاء، والثرثرة معرفة، والضعف لينا، والجبانة إباء.
والعبودية العوجاء:
وهي التي تحرك بالخوف ألسنة الضعفاء؛ فيتكلمون بما لا يضمرون، ويصبحون بين أيدي المسكنة مثل ثوب تطويه، وتنشره.
والعبودية الحدباء:
وهي التي تقود قوما بشرائع قوم آخرين.
والعبودية الجرباء:
Bog aan la aqoon
وهي التي تتوج أبناء الملوك ملوكا.
والعبودية السوداء:
وهي التي تسم بالعار أبناء المجرمين الأبرياء.
والعبودية للعبودية نفسها:
هي قوة الاستمرار. •••
ولما تعبت من ملاحقة الأجيال، ومللت النظر إلى مواكب الشعوب والأمم، جلست وحيدا في وادي الأشباح، حيث تختبئ خيالات الأزمنة الغابرة، وتربض أرواح الأزمنة الآتية: هناك رأيت شبحا، هزيلا يسير منفردا محدقا بوجه الشمس فسألته: «من أنت وما اسمك؟».
قال: «اسمي الحرية».
قلت: «وأين أبناؤك؟».
قال «واحد مات مصلوبا، وواحد مات مجنونا، وواحد لم يولد بعد» ثم توارى عن عيني وراء الضباب.
الملك السجين
Bog aan la aqoon
خفف عنك أيها المليك الأسير؛ فلست في سجنك أشد بلاء مني في جسدي، اربض، وكن متجلدا يا أبا الأهوال، فالاضطراب أمام النوائب حري ببنات آوى، ولا يجمل بالملوك المسجونين سوى الاستهزاء بالسجن والسجان.
سكن روعك يا فتى، العزم وانظر إلي، فأنا بين عبيد الحياة مثلك بين قضبان القفص، وما الفرق بيننا سوى حلم مزعج يجاور روحي، ولكنه يخشى الاقتراب إليك.
كلانا منفي عن بلاده، بعيد عن أهله وأحبابه، فخفض عليك جأشك، وكن مثلي صابرا على مضض الأيام والليالي، ساخرا بهؤلاء الضعفاء الذين يتغلبون علينا بعددهم، لا بعزم أفرادهم.
وما عسى ينفع الزئير، والضجيج، والناس طرش لا يسمعون؟!
لقد صرخت قبلك في آذانهم، فلم أستوقف غير أشباح الدجى. وتفحصت مثلك طبقاتهم، فلم أجد بينهم سوى جبان يستبسل متجبرا أمام المقيدين بالسلاسل، وضعيف يتوقح متصلبا أمام المسجونين في الأقفاص. •••
انظر أيها المليك الجبار، انظر إلى هؤلاء المحيطين بسجنك الآن، تفرس في وجوههم؛ تجد في ملامحهم ما كنت تراه في سحنات أدنى رعاياك وأعوانك في مجاهل الصحراء، فمنهم من يشبه الأرنب بضعف قلبه، ومنهم من يماثل الثعلب باحتياله، ومنهم من يضارع الأفعى بخبثه، ولكن ليس بينهم من له سلامة الأرنب، وذكاء الثعلب، وحكمة الأفعى.
انظر، فهذا كالخنزير قذارة، أما لحمه فلا يؤكل، وهذا كالجاسوس خشونة، أما جلده فلا ينفع، وذلك كالحمار غباوة ولكنه يمشي على الاثنتين، وذلك كالغراب شؤما ولكنه يبيع نعيبه في الهياكل، وتلك كالطاووس تيها وإعجابا، أما ريشها فمستعار.
وانظر أيها السلطان المهيب، انظر إلى تلك القصور والمعاهد، فهي أوكار ضيقة يسكنها الإنسان مفاخرا بزخارف سقوفها التي تحجبه عن النجوم، مغتبطا بصلابة جدرانها التي تفصله عن أشعة الشمس. هي كهوف مظلمة تذبل في ظلالها أزاهر الشباب، وتترمد في زواياها جمرة الحب، وتتحول في فضائها رسوم الأحلام إلى أعمدة من دخان، هي سرادب غريبة يتمايل فيها سرير الطفل بجانب فراش المنازع، وينتصب فيها تخت العروس بقرب نعش الميت.
وانظر أيها الأسير الجليل، انظر إلى تلك الشوارع المنفرجة، والأزقة الضيقة فهي أودية خطرة المعابر، يتربص اللصوص بين منعرجاتها، وتختبئ الخوارج بين جنباتها، هي ساحة قتال مستتب بين الرغائب، والرغائب تتنازل فيها الأرواح متضاربة، ولكن بغير السيوف، وتتصارع متناهشة، ولكن بغير الأنياب، بل هي غابة الأهوال تسكنها حيوانات داجنة المظاهر، معطرة الأذناب، مصقولة القرون، لا تقضي شرائعها ببقاء الأنسب، بل بدوام الأروغ والأحيل، ولا تؤول تقاليدها إلى الأفضل والأقوى، بل إلى الأخبث والأكذب. أما ملوكها فليست أسدا نظيرك، بل هم مخاليق عجيبة لهم مناقد النسور، وبراثن الضبع، وألسنة العقارب، ونقيق الضفادع. •••
فدتك روحي أيها المليك السجين، فقد أطلت الوقوف لديك، وأسهبت بالكلام أمامك، ولكن هو القلب المخلوع عن عرشه يتعزى بالملوك المخلوعين، وهي النفس السجينة المستوحشة تستأنس بالسجناء، والمستوحشين، فسامح فتى يلوك الكلام متسليا به عن الطعام، ويرتشف الأفكار مستعيضا بها عن الشراب.
Bog aan la aqoon
إلى اللقاء أيها الجبار، المهيب فإن لم يكن اللقاء في هذا العالم الغريب، فسيكون في عالم الأشباح حيث تجتمع أرواح الملوك بأرواح الشعراء.
يسوع المصلوب
كتبت يوم الجمعة الحزينة
اليوم، وفي مثل هذا اليوم من كل سنة، تستيقظ الإنسانية من رقادها العميق، وتقف أمام أشباح الأجيال ناظرة بعيون مغلفة بالدموع نحو جبل الجلجلة؛ لترى يسوع الناصري معلقا على خشبة الصليب ... وعندما تغيب الشمس عن مآتي النهار تعود الإنسانية وتركع مصلية أمام الأصنام المنتصبة على قمة كل رابية وفي سفح كل جبل.
اليوم تقود الذكرى أرواح المسيحيين من جميع أقطار العالم إلى جوار أورشليم، فيقفون هناك صفوفا قارعين صدورهم، محدقين بشبح مكلل بالأشواك باسط ذراعيه أمام اللانهاية، ناظر من وراء حجاب الموت إلى أعماق الحياة ... ولكن لا تسدل ستائر الليل على مسارح هذا النهار حتى يعود المسيحيون ويضطجعون جماعات جماعات في ظلال النسيان بين لحف الجهالة والخمول.
وفي مثل هذا اليوم من كل سنة يترك الفلاسفة كهوفهم المظلمة، والمفكرون صوامعهم الباردة، والشعراء أوديتهم الخيالية، ويقفون جميعهم على جبل عال صامتين متهيبين مصغين إلى صوت فتى يقول لقاتليه: «يا أبتاه، اغفر لهم، لأنهم لا يدرون ما يفعلون» ... ولكن لا تكتنف السكينة أصوات النور حتى يعود الفلاسفة، والمفكرون، والشعراء، ويكفنون أرواحهم بصفحات الكتب البالية.
إن النساء المشغولات ببهجة الحياة المشغوفات بالحلي، والحلل يخرجن اليوم من منازلهن يشاهدن المرأة الحزينة الواقفة أمام الصليب، وقوف الشجرة اللينة أمام عواصف الشتاء، ويقتربن منها؛ ليسمعن أنينها العميق، وغصاتها الأليمة.
أما الفتيان والصبايا الراكضون مع تيار الأيام إلى حيث لا يدرون، فيقفون اليوم هنيهة ويلتفتون إلى الوراء؛ ليروا الصبية المجدلية تغسل بدموعها قطرات الدماء عن قدمي رجل منتصب بين الأرض والسماء، ولكن عندما تمل عيونهم النظر إلى هذا المشهد، يتحولون مسرعين ضاحكين.
في مثل هذا اليوم من كل سنة تستيقظ الإنسانية بيقظة الربيع، وتقف باكية لأوجاع النصارى، ثم تطبق أجفانها، وتنام نوما عميقا، أما الربيع فيظل مستيقظا مبتسما سائرا حتى يصير صيفا مذهب الملابس معطر الأذيال.
الإنسانية امرأة يلذ لها البكاء والنحيب على أبطال الأجيال، ولو كانت الإنسانية رجلا لفرحت بمجدهم وعظمتهم.
Bog aan la aqoon
الإنسانية طفلة تقف متأوهة بجانب الطائر الذبيح، ولكنها تخشى الوقوف أمام العاصفة الهائلة التي تهصر بمسيرها الأغصان اليابسة، وتجرف بعزمها الأقذار المنتنة.
الإنسانية ترى يسوع الناصري مولودا كالفقراء، عائشا كالمساكين، مهانا كالضعفاء، مصلوبا كالمجرمين، فتبكيه، وترثيه، وتندبه وهذا كل ما تفعله لتكريمه.
منذ تسعة عشر جيلا، والبشر يعبدون الضعف بشخص يسوع، ويسوع كان قويا، ولكنهم لا يفهمون معنى القوة الحقيقية.
ما عاش يسوع مسكينا خائفا، ولم يمت شاكيا متوجعا، بل عاش ثائرا، وصلب متمردا، ومات جبارا.
لم يكن يسوع طائرا مكسور الجناحين، بل كان عاصفة هوجاء تكسر بهبوبها جميع الأجنحة المعوجة.
لم يجئ يسوع من وراء الشفق الأزرق، ليجعل الألم رمزا للحياة، بل جاء ليجعل الحياة رمزا للحق والحرية.
لم يخف يسوع مضطهديه، ولم يخش أعدائه، ولم يتوجع أمام قاتليه، بل كان حرا على رؤوس الأشهاد جريئا أمام الظلم والاستبداد، يرى البثور الكريهة فيبضعها، ويسمع الشر متكلما فيخرسه، ويلتقي بالرياء فيصرعه.
لم يهبط يسوع من دائرة النور الأعلى، ليهدم المنازل ويبني من حجارتها الأديرة والصوامع ويستهوي الرجال الأشداء ليقودهم قسوسا ورهبانا، بل جاء ليبث في فضاء هذا العالم روحا جديدة قوية تقوض قوائم العروش المرفوعة على الجماجم، وتهدم القصور المتعالية فوق القبور، وتسحق الأصنام المنصوبة على أجساد الضعفاء المساكين.
لم يجئ يسوع ليعلم الناس بناء الكنائس الشاهقة والمعابد الضخمة في جوار الأكواخ الحقيرة والمنازل الباردة المظلمة، بل جاء ليجعل قلب الإنسان هيكلا، ونفسه مذبحا، وعقله كاهنا.
هذا ما صنعه يسوع الناصري، وهذه هي المبادئ التي صلب لأجلها مختارا. ولو عقل البشر لوقفوا اليوم فرحين متهللين، منشدين أهازيج الغلبة والانتصار. •••
Bog aan la aqoon