هكذا قال، وظل من ساعتها يقولها لنفسه.
ولكن الناس بدأت تقول أشياء أخرى تماما.
لا تقولها نطقا أو كتابة أو حتى همسات إشاعة، وإنما تقولها بعينيها، بتبادل نظراتها، بالعيون التي لا تطرف أو ترتعش مطرقة كلما واجهت عينيه، إلى عيون الند للند أصبحت أقرب، بل ربما عيون القاضي إلى من يحويه القفص، وقد أدانه ولم يبق سوى النطق بالحكم. وكان كلما أدرك بذكائه هذا أحس أنه يتعرى تماما، والفأر الذي في أعماقه يرفع رأسه، ويجعله يتردد ويتلجلج، وينتهي إلى لا قرار، أو يؤجلها بأي حجة إلى وقت مناسب، ولا يجيء الوقت المناسب أبدا، وهكذا حين وجد أن منصبه يحتم عليه في كل وقت أن يأخذ قرارا، قرر أن يخرج عن المنصب، بل وعن القانون نفسه، وأن يذهب إلى عزوته وبلده، ويكون عصابة رجال، ويصبح أبا رجال، ومن خلال درع العصابة يخيف الناس، فيبدو كما لو أن قراره اللاقرار، قرار.
الحادثة التي جرت كانت وكأنما خبأها له القدر في اللوح المحفوظ، مارا هو في عصرية عيد يمشي ساقيه وينفرد بنفسه بعد كثرة ما استقبل من زوار ومهنئين بالعيد، عادته السنوية التي لا تتغير حين يقضي أيام العيد الثلاثة في قريته يذكر ويتذكر، ويرى الزمن يغور بآثاره في الوجوه، ويستمتع بالأنوف الشامخة التي لم تكن تحفل به أو بأبيه، وقد أصبحت تدين بالولاء المطلق، وتتدلى كالأغصان المرتخية فيما يشبه الذلة والمسكنة طالبة منه رضا أو نظرة إدراك وتعرف، سائرا في العصرية يطوف بالحقول المحيطة بالقرية، حيث كانت مرتع طفولته ومكمن ذكرياته، لمحه يقود «النورج» وهو جالس على أريكته الخشبية التي لم تتغير من أيام الفراعنة، يقرأ في كتيب نصف مطوي، أصفر الأوراق باهتها. كان الطريق يؤدي بالضرورة إلى الجرن الذي فيه الولد والنورج والقمح المصنوع دائرة واسعة يدرس. ويمهل كلما اقترب من الشاب الفلاح الجالس بالسروال والصديري المتآكل الوجه المهلهل في يوم العيد هذا يدرس القمح والكل في إجازة، ويقرأ من الكتاب الدفتر مع أن الفلاحين معظمهم أمي، بمهل يتقدم حتى أصبح ما بينه وبين الولد أقل من مرمى طوبة دون أن يحس الولد بوجوده، أو إن كان قد أحس لم يعط لهذا الوجود أهمية تستحق أن ينتفض هابطا من النورج قادما مهرولا مقبلا الأيادي منحنيا إلى الأرض أمام عمه «السلطان» كما تعود أن يفعل الناس جميعا من أكبر كبير إلى أصغر صغير، ولكن البهائم ظلت تسير وعجلات النورج المسنونة تعوي وتئن والشاب جالس كأنما لا يدري بما حوله، وسلطان واقف مذهول مما يحدث، إذ هو لأول مرة يحدث. - وله!
شخطته التي يعرف الجميع بصماتها انطلقت، وجعلت الكتاب يكاد يهوي من يد الشاب، وهو يحدق ناحيته، يحدق فقط، دون أن يفعل شيئا آخر. أخيرا بعد لأي يقول: يلزم خدمة؟ - خدمة في عينك قليل الأدب ما اتربتش، أنت اسمك إيه يا ولد، ابن مين يا بن الكلب؟ - يا فندي ما تغلطش فيه لحسن أغلط فيك، أنا مش خدام عندك.
وعلى الزعقة والشخطة والوقفة، كان نفر من المارين قد هرولوا إلى حيث الجرن، وكان أكثر من رجل منهم قد اندفع إلى الشاب يجره من فوق النورج، ويتطوع بزغده ولكمه، وهو يقول له: مش عارف عمك السلطان يا حمار يا بن الحمار.
فعلا كان واضحا أنه لا يعرفه ولم يسبق أن رآه، ولكنه ما أن ذكر اسمه حتى اصفر وجه الولد، وأحس أنه وقع في محظور سبحان المنجي منه.
وارتد الرجال إلى السلطان يعتذرون، وكأنهم هم الذين أخطئوا، ويشبعون الولد سبابا ولكما طالبين منه أن يذهب ويقبل يد عمه السلطان ويستصفحه، ولكن السلطان أشار لهم أن لا داعي، فقط أعاد سؤاله: أنت ابن مين يا ولد؟ - أنا أحمد بن محمد الطحان يا سعادة الباشا. - الطحان؟! بتقول الطحان؟!
وكأنما انفرجت أسارير الدنيا كلها إذ بدأ الباشا السلطان يقهقه، والجميع يقهقهون، والولد حائر يحملق فيهم، ولا يفهم شيئا بالمرة، فمن الواضح أنه كان لا يعرف عن حكاية عمه شاهين الطحان المخنث شيئا. - وريني بتقرا في إيه يا بن الطحان.
وحالا كان الكتيب ينتزع من يد الولد أحمد، ويقدم إلى السلطان في اعتذار واضح عن قدمه وتهرؤ صفحاته. باشمئزاز قلب السلطان الصفحات إلى أن وصل إلى الغلاف المتهالك المصنوع من ورق اللحمة ووجد مكتوبا عليه: موال أدهم الشرقاوي.
Bog aan la aqoon