كيف حدث ما حدث؟
كيف وجد الرجل فيه ينكمش، والخوف وإجراء الحسابات داخله يتكاثر، وطال سكوته أو طال تردده إلى أن بدأت الهمسات تترى، وسحابة شك كثيفة تحجب وجه الشمس ووجه القوم ووجهه، وبدلا من زعقته المشهورة: اضرب يا ولد، اضربي يا بنت، نحيلا خرج صوته وكأنه صوته حين كان صبيا لم يراهق أو يخشوشن صوته، كأنه صوت عيل، أو رجل آثر أن يكون قراره قرارا عياليا، وصوته ينطق به وكأنه صوت خنثى: أنا رأيي أننا نفوتها عليهم المرة دي ونرضخ، ونختار نحن بعد هذا وقت المواجهة ومكانها، مع أن الجميع وهو على رأسهم يعلم أن هذه، هذه الساعة من الظهيرة بالذات، وقد تذكرها الآن تماما، هي أنسب وقت، والاحتشاد للمواجهة لحظتها هو أقوى احتشاد، وأن معنى التأجيل ليس تفويت الفرصة، أو تأجيل المعركة، ولكنه على بلاطة الخوف والتراجع والهرب.
وساعة طويلة ظل يحدثهم عن أهمية الوقت المناسب والمكان المناسب، واحتمال الهزيمة المؤكدة إذا لم يتم هذا بدقة.
وانصرف بعضهم وهو لا يزال يتكلم، مع أن شيئا كهذا أبدا ما حدث، ولا أحد كان يتصور حدوثه، فالحديث تام الوضوح أنه تبرير في تبرير، وأنه في داخله خائف يرتعش، وأنه هذه المرة ليس بسلطان، وإنما هو إلى بهلوان السلطان ومضحكه أقرب.
حتى الأنداد وقفوا مذهولين يسمعون ما لم يخطر على قلب أيهم أو أحد، فقد كانت هجمتهم هجمة يائسين ظهورهم إلى الحائط، وموتا بموت فعلوها وهم مدركون تماما أن الهزيمة المنكرة هي ما ينتظرهم، هزيمة وهم يتصورونها، ويرونها واقعا وحقيقة، لم تكن بمرارة أية هزيمة أخرى تجاه أي خصم آخر، فالهزيمة أمام سلطان ليست ذلك العيب المخزي الذي يتحدث به الناس ليالي وأياما، إنما تكاد تكون نوعا من الشرف، يكفي المهزوم فخرا أن الذي هزمه هو سلطان، وأن جرأته وصلت حد أن يقف أمامه ندا، فلو هزم - ومن المعروف أنه بالتأكيد مهزوم - فيكفيه فخرا أن هازمه هو من لا يجرؤ أحد على منازلته.
زعيم صار، صاحب الرأي والكلمة المسموعة والقرار. حين جاء وقت الجد والقرار يتحداه في عقر داره وعقر مذهبه تحول إلى صعلوك من البشر، فولى الأدبار، وإن حاول أن يبدو قراره قرار حكمة وروية، وهرولته الداخلية يفعلها بتؤدة ووقار الملك يستعرض في خطو الأباطرة العظام حرس الشرف، ولو كان قد أطلق العنان لما كان يحسه حقيقة ويود حقيقة فعله، لوضع ثوبه في أسنانه، وانطلق يجري جري الأرنب المذعور. كيف يتمطى الجبل ويلد في النهاية فأرا؟ أم أن الفأر فيه كان هناك طوال الوقت؟ إنما كان ينفش نفسه ويضخم صوته، وغلظة جسده وحديثه ليخفي نفسه وحقيقته.
أيام وليال وبضع سنين ظل يحلل ويفتش خبايا نفسه، وبخبث يستدرج محدثيه وندماءه ليعرف لماذا في رأيهم فعل ما فعل، لماذا خاف وارتعش وولى الأدبار، وفي معظم الأحيان كان يسكت بكل ما يملك من قوة الرغبة في السؤال والإجابة عن التساؤل إذ يكاد يواجه بما يشبه مر الحقيقة العلقم، أنه أبدا لم يكن ذلك الجبار الذي صنعوا حوله الهالة، ولا ذلك الشجاع الذي ترتعش لمرآه النفوس، إن الخارج فقط هو ما يظهره هكذا، أما الداخل فكأنه كان طوال الوقت أجوف فارغا، مجرد طفل أعجبته صورة أبيه ورجولة أبيه وشجاعة أبيه، فمضى يقلدها أو يحاول، وأنه رغم الجهد الجبار العظيم لم يتعد أبدا طور المحاكاة والتقليد، وأنه مجرد كذبة، الكارثة العظمى أنه صدقها، ومن شدة إيمانه بها صدقه الآخرون. ساعة اللظى من ذلك اليوم الصيفي الحار ماذا حدث؟ وكأن لظاها أذاب هيكل الأسد، وكأنه كان مصنوعا من شمع أو صلصال، وكأن جلبابه قد فرغ من المضمون ومنه وتبدى الفأر حين خاف حقا؛ لأنه لأول مرة ووجه في حياته بناس اعتقد أنهم لا يخافون منه، وفعلا ممكن أن يفعلوها ويضربوه، ذاب مظهره الرهيب وتبدى الأسد على حقيقته فأرا مذعورا، ولا شيء غير فأر مذعور.
10
ولكن المسألة لم تتم هكذا ببساطة كالمعادلات، تردد في قرار أو حتى قرار خاطئ، أو فلنصل بالأمر إلى نهايته ونقول لحظة خوف حين جاءت ومرت، فإذا بها تتركه نتفا ومزقا.
إذا كان الليل قد مر عليه مرور وابورات الزلط فإنه في الصباح كان ذلك الرجل الآخر، بالأدق ذلك الأصل، الأسد، إعصار الترنح الهزيل مضى، واستعاد القوام واعتدل. أنا أنا، ما كنته وما سوف أبقى عليه، مجرد خطأ في الحسابات جرى، ولكن الله سلم.
Bog aan la aqoon