200

لننتقل الآن إلى ذكر الكتاب الذي بعث به الأمين إلى أخيه مع رسله الذين بعثهم للدعوة وإثارة رجالات المأمون قبل كل اعتبار، فهاكه: «أما بعد، فإن أمير المؤمنين الرشيد وإن كان أفردك بالطرف، وضم ما ضم إليك من كور الجبل تأييدا لأمرك، وتحصينا لطرفك، فإن ذلك لا يوجب لك فضلة المال عن كفايتك، وقد كان هذا الطرف وخراجه كافيا لحدثه، ثم يتجاوز بعد الكفاية إلى ما يفضل من رده، وقد ضم لك إلى الطرف كورا من أمهات كور الأموال لا حاجة لك فيها، فالحق فيها أن تكون مردودة في أهلها ومواضع حقها، فكتبت إليك أسألك رد تلك الكور إلى ما كانت عليه من حالها؛ لتكون فضول ردها مصروفة إلى مواضعها، وأن تأذن لقائم بالخبر يكون بحضرتك يؤدي إلينا علم ما نعنى به من خبر طرفك، فكتبت تلط دون ذلك بما إن تم أمرك عليه صيرنا الحق إلى مطالبتك، فانثن عن همك أنثن عن مطالبتك، إن شاء الله».

ورد الكتاب على المأمون، وقرأه المأمون وجماعته، فسرعان ما رد المأمون وحزبه عليه بهذا الكتاب: «أما بعد، فقد بلغني كتاب أمير المؤمنين، ولم يكتب فيما جهل فأكشف له عن وجهه، ولم يسأل ما لا يوجبه حق فيلزمني الحجة بترك إجابته، وإنما يتجاوز المناظران منزلة النصفة ما ضاقت النصفة عن أهلها، فمتى تجاوزها متجاوز، وهي موجودة الوسع، لم يكن تجاوزها إلا عن نقضها واحتمال ما في تركها، فلا تبعثني يا ابن أبي على مخالفتك وأنا مذعن بطاعتك، ولا على قطيعتك وأنا على إيثار ما تحب من صلتك، وارض بما حكم به الحق في أمرك أكن بالمكان الذي أنزلني به الحق فيما بيني وبينك، والسلام».

ثم انظر إلى نعومة المأمون السياسية - ونثق أنها ستروقك كثيرا، وأنك ستشهد بعلو كعب صاحبها في الفنون السياسية - فإن التاريخ يحدثنا أنه أحضر رسل أخيه وقال لهم: «إن أمير المؤمنين كتبت إليه في أمر كتب إلي جوابه، فأبلغوه الكتاب، وأعلموه أني لا أزال على طاعته، حتى يضطرني بترك الحق الواجب إلى مخالفته»، فأراد أعضاء الوفد الأميني أن يذهبوا في أفانين القول، وأرادوا المحاجة والمدافعة، وأرادوا المفاوضة والمناقشة، ولكن المأمون السياسي المتيقظ جبار العقل قطع عليهم سبيل القول وسبيل التفكير؛ إذ جابههم بقوله: «قفوا أنفسكم حيث وقفنا بالقول بكم! وأحسنوا تأدية ما سمعتم، فقد أبلغتمونا من كتابنا ما لا عسى أن تقولوه لنا».

انصرف أعضاء الوفد ولم يستطيعوا أن يثبتوا لأنفسهم حجة قبل المأمون، ولم يوفقوا إلى حمل خبر يؤدونه إلى صاحبهم، ورأوا من المأمون وجماعة المأمون كما يقول الطبري: «جدا غير مشوب بهزل في منع ما لهم من حقهم الواقع بزعمهم».

وصل الخبر إلى الأمين فأرغى وأزبد، واستمرت الحرب الكلامية على حدتها بين الأخوين بشأن المال الذي تركه الرشيد وبشأن غير المال، مما يصح الاطلاع عليه، وعلى ما رواه سهل بن هارون وأضرابه وصفا لذلك في مظانه.

على أنه يجدر بنا هنا أن نشير إلى ما كان من نصيحة قدمها للأمين أحد رجالات عصره المشهود لهم بالحزم ونضوج الرأي، وهو يحيى بن سليم، حينما عزم على خلع أخيه ، لعلاقتها بما نحن في سبيل القول فيه من ناحية، ولأنها تساعدنا فوق ذلك على تفهم «الدبلوماتيقية العباسية» في ذلك العصر من ناحية أخرى ، وأخيرا لأنها تبين لنا فرق ما بين الأمين والمأمون في تقدير المشورة والأخذ بالنصيحة.

قال يحيى بن سليم للأمين حين مشاورته له في خلع المأمون: «يا أمير المؤمنين، كيف بذلك لك مع ما قد وكد الرشيد من بيعته، وتوثق بها من عهده، والأخذ للأيمان والشرائط في الكتاب الذي كتبه؟» فقال له محمد: «إن رأي الرشيد كان فلتة شبهها عليه جعفر بن يحيى بسحره، واستماله برقاه وعقده، فغرس لنا غرسا مكروها لا ينفعنا ما نحن فيه معه إلا بقطعه، ولا تستقيم لنا الأمور إلا باجتثاثه والراحة منه» فقال: «أما إذا كان رأي أمير المؤمنين خلعه فلا تجاهره مجاهرة، فيستنكرها الناس ويستشنعها العامة، ولكن تستدعي الجند بعد الجند، والقائد بعد القائد، وتؤنسه بالألطاف والهدايا، ونفرق في ثقاته ومن معه، وترغبهم بالأموال وتستميلهم بالأطماع، فإذا وهنت قوته واستفرغت رجاله أمرته بالقدوم عليك، فإن قدم صار إلى الذي تريد منه، وإن أبى كنت قد تناولته وقد كل حده وهيض جناحه، وضعف ركنه وانقطع عزه» فقال محمد: «ما أقطع أمرا كصريمة! أنت مهذار خطيب، ولست بذي رأي، فزل عن هذا الرأي إلى الشيخ الموفق والوزير الناصح، قم فالحق بمدادك وأقلامك».

ونرى من المستصوب، بعد هذا الاستطراد، أن نشير هنا إلى ما رواه الطبري من أن الفضل بن سهل كان قد دس قوما اختارهم ممن يثق بهم من القواد والوجوه ببغداد؛ ليكاتبوه بأخبار الأمين وجماعته يوما فيوما. وكان التجسس لذلك العهد فنا منظما متقدما، فكان للأمين، وهو ولي عهد، على والده الرشيد عيون، وكان لأخيه حين ذاك عيون، وكان للخليفة على ولاته وعماله وأولاده عيون، ولولاته وعماله عليه عيون، وكان للوزراء والكبراء والزعماء وغيرهم مثل ذلك من العيون والأرصاد بعضهم على بعض، وكانت روح العصر تساعد على ذيوع الجاسوسية واستفحال أمرها، فمن المعقول إذا شاور الأمين أو الفضل بن الربيع أحدا وقال بما فيه مصلحة القضية المأمونية، أن يصل خبر ذلك من فوره إلى المأمون، فيقف بذلك المأمون وجماعته على جلية الخبر وحقيقة الحال عند خصومهم السياسيين. ونكاد نرجح من ناحيتنا أن لتقدم فن الجاسوسية عند المأمون أثره العظيم في غلبته وظهوره على أخيه.

ولننتقل الآن إلى أخبار سنة خمس وتسعين ومائة، ولننظر في حوادثها الجسام نظرة عجلى فيما يهمنا مما نحن في صدده من بحوثنا هذه، فنجد أن الخصومة السياسية بين الأخوين حملت الأمين على أن يأمر بإسقاط ما كان ضرب لأخيه عبد الله المأمون من الدنانير والدراهم بخراسان في السنة التي قبلها؛ وذلك لأن المأمون كان أمر ألا يثبت فيها اسم محمد، وقال بعض المؤرخين: إن تلك الدنانير والدراهم كانت لا تجوز في بعض الأحايين، وكانت تدعى بالرباعية.

وقد سبق لنا القول: إن الأمين أمر بالامتناع عن الدعاء لأخويه: المأمون والقاسم، وإنه أمر بالدعاء لنفسه ولطفله الصغير من بعده، وإنه صدر في ذلك كله عن رأي الفضل بن الربيع وجماعة الفضل بن الربيع، مما كان من نتائجه نشوب الحرب الكلامية بين الأخوين، وإنذارها بوقوع شر مستطير بين الأميرين. (5) نفور الرأي العام واستمرار الوفود السياسية

Bog aan la aqoon