151

واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، ولقد علمت أن الله تبارك وتعالى بعث محمدا

صلى الله عليه وسلم

وعمومته أربعة، فأجابه اثنان أحدهما أبي، وكفر به اثنان أحدهما أبوك. فأما ما ذكرت من النساء وقراباتهن، فلو أعطين على قرب الأنساب وحق الأحساب لكان الخير كله لآمنة بنت وهب، ولكن الله يختار لدينه من يشاء من خلقه ...»

غير أن ذلك لم يكن ليمنع أن الميل إلى الإيجاز له في نفوس القوم مقامه، وفي قلوب البلغاء عزه وسلطانه، لا سيما ما كان من قبيل التوقيع من أمير أو وزير أو ذي جاه وسلطان، فقد رفع إلى المنصور شكاة من أهل الكوفة لاعوجاج في عاملهم، فوقع عليها: «كيفما تكونوا يول عليكم»، وكتب جعفر إلى عامل شكي له منه: «قد كثر شاكوك وقل شاكروك، فإما اعتدلت وإما اعتزلت.»

وقد أجمع الرواة أن الحال قد بقيت على ذلك من المتانة وحسن الإشارة، ولطف المدخل، وفراهة المعنى، وحسن الابتداع، حتى خلف من بعدهم خلف ضعفت فيهم ملكة اللغة، وأعوزهم البيان، فمالوا إلى الألفاظ وصناعتها، والأسجاع «وزخرفتها»، وبقيت الكتابة تتقلب في أكفهم وتدور حول نفسها حتى مال رأسها مع رأس العباسيين في القرن السابع الهجري. (4) مجالس الخلفاء والمناظرة

للخلفاء العباسيين - بحكم طبيعة دعوتهم السياسية واستفحال أمر المدنية في أيامهم - مجالس حافلة بالأدباء والشعراء والمغنين والمنادمين قد أترعت بذكرها كتب الآداب، واستوعب الشيء الكثير منها أبو الفرج الأصفهاني في أغانيه.

وكانوا يجلون العلماء كما بينا لك في موقف الرشيد مع أبي معاوية الضرير، ويعتنون بالشعر واللغة، ويحرصون على تعليم أولادهم بوساطة نخبة من رجالات عصرهم، فالمنصور ضم الشرقي بن القطامي إلى ابنه المهدي، وأوصاه أن يعلمه أخبار العرب ومكارم الأخلاق وقراءة الأشعار، والرشيد عهد بتعليم ابنه الأمين إلى الأحمر النحوي ثم الكسائي، وعهد بتأديب المأمون إلى اليزيدي وسيبويه وغيرهما، وللرشيد وصية يقال إنه أوصى بها الأحمر حينما عهد إليه بتأديب الأمين، ونحن نثبتها هنا لتقف منها على نوع التربية التي كان يتطلبها خلفاء ذلك العصر لأبنائهم، ولأنها تدل في الوقت نفسه على مبلغ التحول الذي وصلت إليه المدنية العربية في العصر العباسي، وكيف استفادت من نظم اليونان والفرس وغيرهم ممن وقف العرب على آرائهم ومؤلفاتهم.

أما الوصية فهي:

يا أحمر، إن أمير المؤمنين قد دفع إليك مهجة نفسه، وثمرة قلبه فصير يدك عليه مبسوطة، وطاعته لك واجبة، فكن له بحيث وضعك أمير المؤمنين، أقرئه القرآن وعرفه الأخبار، وروه الأشعار، وعلمه السنن، وبصره بمواقع الكلام وبدئه، وامنعه من الضحك إلا في أوقاته، وخذه بتعظيم مشايخ بني هاشم إذا دخلوا عليه، ورفع مجالس القواد إذا حضروا مجلسه، ولا تمرن بك ساعة إلا وأنت مغتنم فائدة تفيده إياها، من غير أن تحزنه فتميت ذهنه، ولا تمعن في مسامحته فيستحلي الفراغ ويألفه، وقومه ما استطعت بالقرب والملاينة، فإن أباهما؛ فعليك بالشدة والغلظة.

وكانوا يعنون بالمسائل اللغوية واللفظية عناية عظيمة، كما كانوا يعنون أيما عناية بحفظ الأشعار وروايتها، ويعتبرون عدم حفظها مصيبة وكارثة، فقد روى الهيثم بن عدي عن ابن عياش قال: لما مات جعفر المنصور بن الأكبر، مشى المنصور في جنازته من المدينة إلى مقابر قريش ومشى الناس أجمعون معه حتى دفنه، ثم انصرف إلى قصره، ثم أقبل على الربيع فقال: يا ربيع، انظر من في أهلى ينشدني:

Bog aan la aqoon