يوم الآزفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع * يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ،
واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت . حصنوا إيمانكم بالأمانة، ودينكم بالورع، وصلاتكم بالزكاة، وإياكم والأماني؛ فقد غرت وأردت وأوبقت كثيرا حتى أكذبتهم مناياهم، فتناوشوا التوبة من مكان بعيد، وحيل بينهم وبين ما يشتهون، فرغب ربكم عن الأمثال والوعد، وقدم إليكم الوعيد، وقد رأيتم وقائعه بالقرون الخوالي جيلا فجيلا، وعهدتم الآباء والأبناء والأحبة والعشائر باختطاف الموت إياهم من بيوتكم، ومن بين أظهركم، لا تدفعون عنهم ولا تحولون دونهم، فزالت عنهم الدنيا، وانقطعت بهم الأسباب، فأسلمتهم إلى أعمالهم عند الموقف والحساب:
ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى .
وإن نظرة عجلى إلى النخب الصغيرة التي اخترناها لك عن المنصور والمهدي والرشيد تعطيك فكرة صحيحة؛ بأنا لم نعد لباب الصواب فيما ذهبنا إليه من «أتوقراطيتها» و«بابويتها» في طبيعة منحاها، وطلاوتها وبلاغتها في مبناها. •••
على أن الخطابة العباسية لم تستمر على القوة التي كانت عليها في صدر تلك الدولة حينما استقرت ورسخت، إذ فترت عند ذلك الدواعي، وهدأت الدوافع، وأخذت حالتها في الاضمحلال لاشتداد اختلاط العرب بالأعجام، ولأن الشخصيات البارزة في الدولة كانت، في الغالب، من الفرس وغيرهم من الموالي الذين لم تنجرد ألسنتهم بالخطابة لما يصيبها أحيانا من لكنة العي، وحصر العجمة وإن سمت معلوماتهم، وارتقت في البلاغة أساليبهم.
وربما كان من المعقول أن نقول: إن الخطابة في العصر العباسي كانت بوجه عام أقل منها في العصر الأموي من ناحية البلاغة والأسلوب، مع وجود بعض خطباء مصاقع لا يقلون عن إخوانهم الأمويين بلاغة واقتدارا، بيد أنها كانت متعددة الأبواب؛ لتشعب ما بيناه لك من الوجوه والمناحي. (3) الكتابة
جرت الكتابة في العهد الأول من عصر العباسيين على ما كانت عليه عند بني أمية من جودة اللفظ، ومتانة الأسلوب، وجلاء المعنى، ووضوح القصد وبساطته، فلم يكن القوم ليمعنوا في التصور والتفكير، أو ينظروا إلى السماء فيستوحوها، أو إلى الطبيعة فيستنطقوها، أو يستشفوا ما وراء العالم، فإن الأفكار كانت لا تزال سهلة يرمون فيها عن حاضر البديهة وعفو الخاطر، فلم يشاركوا الحكماء في تفكيرهم، ولا المناطقة في حججهم، إذا استثنينا نفرا قليلا أمثال ابن المقفع، وإنما كانوا يدورون حول ما ترك آباؤهم من بيت بديع، أو مثل سائر، أو حكمة رائعة، أو فكرة سامية، أو معنى يصل إلى القلب بلا استئذان، وأوغلوا في ذلك حتى صاروا فصحاء الناس وأمراء البيان، فكان الأديب منهم يرسل الرسالة أمام مقصده، فتعمل في النفوس ما لا تعمله الأسنة والرماح ، وناهيك بما كانت تفعله تلك الرسائل في نفوس القوم.
فلما حفلت بغداد، وأقبلت الدنيا، واتسع السلطان وامتدت أطرافه، وضمت الدولة إلى أحضانها أبناء الفرس والسريان، وكانوا يحملون تراث آبائهم وطرف علمائهم، وأوسع الخلائف رحابهم لكل ذي فضل من رجال الدولة، وعرفوا للعلم مقامه فرفعوه، وللأدب صولته فأكرموه، وقربوا العلماء والأدباء، وعقدوا مجالس للمناظرة والمنادمة، كما سنبين لك، وأكب الناس على العلم والتأليف والترجمة، وتكشف كل ذلك عن علوم وفنون لا عهد للعربية بها، فنقلوا إليها الطب والسياسة والحكمة والفلك والمنطق والتنجيم، وألف المسلمون في الفقه والنحو والحديث والتفسير، كان لكل ذلك أثره في أخيلة الكتاب، وأسلات الأقلام، ووحي القرائح، فتعددت الأغراض، ونوعت الأساليب، ومال الكتاب إلى السهولة في العبارة، والتأنق في اللفظ، والجودة في الرصف، وأطالوا في المقدمات، ونوعوا البدء والختام والألقاب والدعاء، ومالوا إلى الغلو والمبالغة، وهاك مثلا ما كتب ابن سيابة إلى يحيى بن خالد من رسالة يقول فيها: «للأصيد الجواد، الواري الزناد، الماجد الأجداد، الوزير الفاضل، الأشم البازل، اللباب الحلاحل، من المستكين المستجير، البائس الضرير، فإني أحمد الله ذا العزة القدير، إليك وإلى الصغير والكبير، بالرحمة العامة، والبركة التامة. أما بعد، فاغنم واسلم واعلم، إن كنت تعلم، أن من يرحم يرحم، ومن يحرم يحرم، ومن يحسن يغنم، ومن يصنع المعروف لا يعدم، قد سبق إلي تغضبك علي، واطراحك لي، وغفلتك عني بما لا أقوم له ولا أقعد، ولا أنتبه ولا أرقد، فلست بحي صحيح ولا بميت مستريح؛ فررت بعد الله منك إليك، وتحملت بك عليك ...»
أما الإطناب في الكتابة، فكان صفة غالبة في كل ما شمل بيعة أو عهدا أو احتجاجا أو انتصارا، أو تقريرا لمذهب أو استهواء، أو دفعا لشبهة، أو طلبا لنعمة، أو ما يقوم نضالا، أو ما يدعو نزالا. وستجد طرفا من رسائل القوم في ذلك العصر الزاهي الزاهر في باب المنثور بالكتاب الثاني من المجلد الثاني.
وقد بالغوا في تمداح ممدوحهم وذم مذمومهم، وحسبك من ذلك أن ترى ما دار بين المنصور العباسي والنفس الزكية؛ فقد جاء مما كتبه الأول قوله: «أما بعد، فقد أتاني كتابك وبلغني كلامك، فإذا جل فخرك بالنساء؛ لتضل به الجفاة والغوغاء، ولم يجعل الله النساء كالعمومة، ولا الآباء كالعصبة والأولياء، وقد جعل العم أبا، وبدأ به على الوالد الأدنى، فقال جل ثناؤه عن نبيه عليه السلام:
Bog aan la aqoon