ذكر أبو حفص الكرماني أن محمد بن يحيى البرمكي حدثه قال: بعث الهادي إلى يحيى ليلا، فأيس من نفسه وودع أهله وتحنط وجدد ثيابه ولم يشك في أنه يقتله، فلما أدخل عليه قال: يا يحيى، مالي ولك؟ قال: أنا عبدك، يا أمير المؤمنين، فما يكون من العبد إلى مولاه إلا طاعته، قال: فلم تدخل بيني وبين أخي تفسده علي؟ قال: يا أمير المؤمنين، من أنا حتى أدخل بينكما، إنما صيرني المهدي معه، وأمرني بالقيام بأمره، فقمت بما أمرني به، ثم أمرتني بذلك فانتهيت إلى أمرك، قال: فما الذي صنع هارون؟ قال: ما صنع شيئا ولا ذلك فيه ولا عنده، قال: فسكن غضبه. وقد كان هارون طاب نفسا بالخلع فقال له يحيى: لا تفعل، فقال: أليس يترك لي الهنيء والمريء، فهما يسعانني وأعيش مع ابنة عمي؟ وكان هارون يجد بأم جعفر وجدا شديدا، فقال له يحيى: وأين هذا من الخلافة؟ ولعلك ألا يترك هذا في يدك حتى يخرج أجمع. ومنعه من الإجابة.
وذكر الكرماني أيضا عن خزيمة بن عبد الله قال: أمر الهادي بحبس يحيى بن خالد على ما أراده عليه من خلع الرشيد، فرفع إليه يحيى رقعة: إن عندي نصيحة، فدعا به، فقال: يا أمير المؤمنين، أخلني. فأخلاه، فقال: يا أمير المؤمنين، أرأيت إن كان الأمر - أسأل الله ألا نبلغه وأن يقدمنا قبله - أتظن أن الناس يسلمون الخلافة لجعفر وهو لم يبلغ الحلم، ويرضون به لصلاتهم وحجهم وغزوهم؟ قال: والله ما أظن ذلك، قال: يا أمير المؤمنين، أفتأمن أن يسمو إليها أهلك وجلتهم مثل فلان وفلان، ويطمع فيها غيرهم، فتخرج من ولد أبيك! فقال له: نبهتني يا يحيى. قال: وكان يقول: ما كلمت أحدا من الخلفاء كان أعقل من موسى، قال: وقال له: لو أن هذا الأمر لم يعقد لأخيك أما كان ينبغي أن تعقده له؟ فكيف بأن تحل عقده وقد عقده المهدي له؟ ولكن أرى أن تقر هذا الأمر يا أمير المؤمنين على حاله، فإذا بلغ جعفر وبلغ الله به أتيته بالرشيد فخلع نفسه وكان أول من يبايعه ويعطيه صفقة يده ، فقال: فقبل الهادي قوله ورأيه، وأمر بإطلاقه.
ولما ولي الرشيد الخلافة قلد يحيى بن خالد الوزارة وقال له: قد قلدتك أمر الرعية، وأخرجته من عنقي إليك، فاحكم في ذلك بما ترى من الصواب، واستعمل من رأيت، واعزل من رأيت، وأمض الأمور على ما ترى. ودفع إليه خاتمه، ففي ذلك يقول إبراهيم الموصلي:
ألم تر أن الشمس كانت سقيمة
فلما ولي هارون أشرق نورها
بيمن أمين الله هارون ذي الندى
فهارون واليها ويحيى وزيرها
وليس في مقدورنا أن نصور شخصية يحيى بن خالد بن برمك بأحسن من إثباتنا رأيه في الأخلاقيات، فقد قيل له: أي الأشياء أقل؟ قال: قناعة ذي الهمة البعيدة بالعيش الدون، وصديق كثير الآفات قليل الإمتاع، وسكون النفس إلى المدح، وقيل له: ما الكرم؟ فقال: ملك في زي مسكين، وقيل له: ما الجود؟ فقال: عفو بعد قدرة، وقال مرة: إذا فتحت بينك وبين أحد بابا من المعروف فاحذر أن تغلقه ولو بالكلمة الجميلة، وقال: «أحسن جبلة الولاة إصابة السياسة، ورأس إصابة السياسة العمل بطاعة الله، وفتح بابين للرعية؛ أحدهما: رأفة ورحمة وبذل وتحنن، والآخر: غلظة ومباعدة وإمساك ومنع.»
ويروي لنا «ياقوت الرومي» في «معجمه» عنه، أنه لما كان الفضل بن يحيى واليا على خراسان، كتب صاحب البريد إلى الرشيد كتابا يذكر فيه: أن الفضل تشاغل بالصيد واللذات عن النظر في أمور الرعية، فلما قرأة الرشيد رمى به ليحيى وقال له: يا أبت، اقرأ هذا الكتاب، واكتب إلى الفضل كتابا يردعه عن مثل هذا. فمد يحيى يده إلى دواة الرشيد وكتب إلى ابنه على ظهر الكتاب الذي ورد من صاحب البريد:
حفظك الله، يا بني، وأمتع بك، قد انتهى إلى أمير المؤمنين ما أنت عليه من التشاغل بالصيد ومداومة اللذات عن النظر في أمور الرعية ما أنكره، فعاود ما هو أزين بك، فإنه من عاد إلى ما يزينه لم يعرفه أهل زمانه إلا به، والسلام.
Bog aan la aqoon