عالي الصوت لم يزل
رأيته شابا يافعا في أروقة حزب الأحرار الدستوريين. لم تكن سنه قد بلغت العشرين بعد. وكان متحمسا للحزب حماسا جنونيا مندفعا، حتى لقد كان رجالات الحزب لا عمل لهم معه إلا كبح جماحه والحد من اندفاعه. وكان في الاجتماعات هو دائما البادئ بالهتافات، وكان يظل يهتف حتى يضطر الخطيب إلى أن يرجوه أن يعطيه فرصة ليكمل خطابه.
حتى إذا انتهى الخطباء تجده وقد بح صوته حتى لا تستطيع أن تسمع منه كلمة إلا إذا ملت بأذنك حتى تلتصق بفمه.
وفي هذا السيل الجارف من التحمس المندفع المتدفق عرفنا أنه يذهب إلى الهيئة السعدية، وأنه يبدي من الحماس لمبادئها نفس ما يبديه لمبادئ حزب الأحرار الدستوريين، وأنه يهتف لزعماء الهيئة السعدية كما يهتف لزعماء حزب الأحرار الدستوريين.
وكان الحزبان مؤتلفين في الوزارة وأغلب الأمر، بل من المؤكد أن أعضاء الهيئة السعدية عرفوا أمر اتصاله بحزب الأحرار الدستوريين، كما عرف حزب الأحرار أمر اتصاله بالهيئة السعدية.
ومن المؤكد أيضا أن رجالات الهيئة كانوا يكفكفون من غلوائه ويعقلون المندفع من تهوره.
ظل هذا حاله حتى سقطت الوزارة المؤتلفة، وتألفت الوزارة الوفدية. وكان الفتى قد أصبح في الجامعة، فإذا هو في سهولة ويسر يهجر حزب الأحرار الدستوريين والهيئة السعدية جميعا، وينقل تحمسه إلى الحزب الوفدي؛ فهو عضو في لجان شبابه، وهو هو المتزعم للهتاف حتى يبح صوته، وهو هو المتصدر في احتفالات الحزب - وما أكثرها - يوزع الأدوار على الهاتفين، ويؤلف كلمات الهتاف ويخص كل وزير من الوزراء بفيض من الثناء، ويغمر كلا منهم بموفور من المديح.
والفتى مرن على الهتاف مرانا قل أن يجيده أحد في مثل سنه، وتلك ميزة ليست قليلة الشأن في مكان توجد به تجمعات أو اجتماعات أو خطباء.
وكان الفتى يستفيد من هتافاته هذه فوائد ليست بالهينة الشأن ولا الضئيلة العائد؛ فهو قد حصل على مدى سنوات هتافه على كل الإعانات التي تقدمها الوزارات لمن ضاق عليهم الرزق.
نال من وزارة الأوقاف ومن وزارة الشئون الاجتماعية، وعمل في كل صحف هذا الزمان لا كمحرر؛ فلا شأن له هو بالتحرير، وإنما عمل كمورد للإعلانات من الحكومة. وناهيك بإعلانات الحكومة من مورد لا ينقطع سيله، ولا ينضب غمره، ولا يغيض ماؤه.
Bog aan la aqoon