Waxaan Ka Hadlayaa Xorriyadda
عن الحرية أتحدث
Noocyada
ولك أن تزور زيارة فاحصة لمتحف الفن اليوناني الروماني بالإسكندرية، لترى كم كانت مصر في فترة الحكم اليوناني الروماني، مبدعة في إطار ما قد وفد إليها من الغزاة، وجاء بعد ذلك العصر المسيحي في مصر، وكما هي العادة دائما مع الديانات، يبدأ الأمر بإيمان مطلق، لا يريد أن يقف من موضوع إيمانه موقف التحليل الذي كثيرا ما ينتهي بأصحابه إلى التشعب في مذاهب مختلفة، ثم تذهب مرحلة الإيمان المطلق هذه لتليها مرحلة التحليل والتمذهب، فلما جاءت هذه المرحلة الثانية وحدث فيها اختلاف في التأويل ووجهة النظر، بين مصر وغيرها، كان للمسيحي المصري وجهة نظره التي تميزت بما تميزت به مصر دائما، على تعاقب عصورها، واختلاف المجالات والمواقف، وأعني روح الاعتدال.
وجاءها الإسلام، فأسلمت، وتعربت مع إسلامها، أعني أنها استبدلت بلغتها اللغة العربية، ولنتذكر أنه ليس كل من أسلم تعرب في لغته كذلك، فهناك من البلاد الإسلامية التي لم تغير لسانها. أمثلة كثيرة: تركيا، وإيران، وباكستان، وإندونيسيا، وكثير من الأقطار الأفريقية. ولقد أراد الله بالإسلام وباللغة العربية خيرا، حين أسلمت مصر وحين تعربت؛ إذ أصبحت مصر على امتداد تاريخها بعد ذلك هي الحصن وهي المنارة، التي لا ينازعها في ذلك منازع، ونحن إذ نقول اليوم في أحاديثنا العابرة شيئا عن «التراث» الإسلامي والعربي، فإنما نشير بهذا القول - في الحقيقة - إلى تلك الجهود الجبارة، التي اضطلع بها علماء مصر من رجال الأزهر الشريف؛ إذ إليهم يرجع جزء كبير من الفضل في التجميع والترتيب والتبويب، فيما لو ترك بغير تلك العناية لتبعثرت أجزاؤه، ولما عرفت في وضوح إلى أي شيء تشير وأنت تتحدث عن «التراث».
هكذا يا مصر كان دورك الريادي في عصورك المبدعة الأولى أولا، ثم فيما جاء إليك من خارج حدودك، إلا هذه المرحلة الأخيرة يا مصر! فلقد فتحت أبوابك في بداية القرن الماضي - منذ مائة وثمانين عاما - مستقبلة لثقافة جديدة تولدت عن حضارة جديدة وصحيح أنك ما لبثت إلا مدة لم تطل أكثر من ثلث القرن، حتى بدأت تعبين من ذلك الجديد عبا: ترسلين البعثات إلى الغرب، وتستقدمين العلماء من الغرب، وتقرنين ذلك بالترجمة عن الغرب جنبا إلى جنب مع ما تحبينه من تراثك الإسلامي والعربي، وأخذت الثمرة من ذلك كله تتفتح زهورها، وتزداد نضجا عقدا من السنين بعد عقد، فكان ما رأيناه من ثورات تلاحقت، كلها يطلب الحرية، ثم يطلب مزيدا منها، ثم يطلب مزيدا من المزيد: ثورات أحمد عرابي، وسعد زغلول، وجمال عبد الناصر.
وكذلك كان ما رأيناه من طموح في ميادين التعليم، والأدب، والفن، والاقتصاد، والصناعة، وغيرها، وإنه ليستحيل على المتتبع للحياة المصرية منذ أواخر القرن الماضي، وإلى أن قامت ثورة 1952م وما بعد قيامها بنحو عشرين عاما ألا يشهد في معظم الميادين خطوات تخطو بنا إلى أمام، ولا بد لنا عند كلمة «أمام» هذه من السؤال: ماذا نعني عندما نزعم في مجال معين أننا نسير فيه إلى «الأمام»؟ ولست أجد إجابة مقنعة عن هذا السؤال، إلا أن نقول إن الحركة إنما تكون متجهة إلى أمام إذا هي تحركت نحو صيغة من الحياة اندمج فيها التراث مع الوافد الجديد من حضارة العصر وثقافته، اندماجا يعطيه مذاقا فريدا نستطيع معه أن نقول هذه هي مصر المعاصرة.
كانت الحركة إذن تسير بنا إلى «الأمام» - بالمعنى الذي حددناه لهذه الكلمة - حتى أوائل الخمسينيات وخلال الستينيات كذلك، مع شيء من النقص ساير تلك الحركة طوال الطريق، وهو أننا فيما كنا نأخذه عن الغرب كنا نقطف الثمار جاهزة، دون أن نعنى بأن نبث في عقولنا روح «المنهج» الذي أدى بأصحابه في الغرب إلى إنتاج ما أنتجوه، فنتج عن ذلك أن لبثنا نأخذ دون أن نكتسب القدرة على العطاء لما هو مصري أصيل في دنيا العلم وما ينتج عنها من صناعات ومهارات.
لكننا مع هذا النقص الذي تحفظنا فذكرناه كنا نسير إلى «الأمام» بصفة عامة، إلى أن حلت بنا هزيمة 1967م، فأصبحنا حتى اليوم شيئا آخر، وهو موقف يتطلب منا في تحليله ومعالجته كل ما في قلوبنا وصدورنا من نزاهة وإخلاص، وإنه لمن الطبيعي الذي لا يثير سؤالا، أن يتصرف المهزوم بما يتناسب مع هزيمته، وذلك بأن ينكمش ويكمن، لائذا بالعناصر القوية في مقومات شخصيته، فيجترها حتى تقوى رجلاه على حمله من جديد، والأغلب في هذه الحالة أن يلتمس مصادر القوة في ماضيه، فمن أبطال الماضي يعيد إلى نفسه الإحساس بالبطولة، ومن مجد الماضي يحفز ملكاته لإعادة ذلك المجد، ومن هنا لم يكن أحد ليدهش في أثر الهزيمة أن يرى اتجاها قويا نحو الاحتماء في السلف، حتى لا نظن في أنفسنا أننا ممن جاءوا تحت سقيفة التاريخ الحضاري بمحض مصادفة عابرة.
فالموجة السلفية - إذن - كان لها ما يبررها في أثر هزيمة 1967م، لكن الذي يرفع أمامنا علامات استفهام هو - أولا - لماذا لم يكن لانتصارنا في حرب 1973م ما يرد عنا الشعور بالهزيمة وما قد ترتب عليه من آثار؛ إذ جاءنا ذلك النصر وذهب، لتعود روح الهزيمة إلى نفوسنا حيث كانت. و- ثانيا - (وهو الأهم) لماذا نعيش الهزيمة النفسية بالكلام والكتابة، ولا نعيشها في حياتنا العملية بنفس المقدار؟ بعبارة أخرى: ما هي العلاقة بين الهزيمة وأثرها من جهة، ومن جهة أخرى هذه الازدواجية الرهيبة التي تشق حياتنا شطرين: جعجعة متشنجة باللسان وبالقلم، تصرخ صراخ الهوس منادية بالعودة إلى حياة السلف حرفا بحرف، كما وردت فيما تركه لنا ذلك السلف من توجيهات في طريقة العيش، بل وفي طريقة التفكير ذاتها؟ إنه لمن حسن الحظ (في هذه الحالة) أن نتكلم ونكتب في ناحية، وأن ننشط ونسلك من ناحية أخرى، فنحن - بحمد الله - ماضون في البناء الحضاري بقدر مستطاعنا، نقيم المصانع على أحدث طراز، وندخل الميكنة في الزراعة، ونعد للكهرباء مصادرها المختلفة من مساقط الماء إلى المحطات، ونسلح قواتنا العسكرية بأكثر الأسلحة تقدما وهكذا وهكذا. ثم ترى أشد الدعاة إلى العودة السلفية تحمسا يحيا هو نفسه من أول حياته اليومية إلى آخرها، مستعينا ومستمتعا بما أنتجته حضارة الغرب، فها هو ذلك المسئول الكبير، الذي تقدم بمذكرة رسمية إلى هيئة رسمية، يقول بين ما يقوله فيها إنه يطالب بالزيادة في تحفيظ شبابنا القرآن الكريم؛ ليستطيعوا مقاومة الحضارة القائمة. مفارقة تستوقف النظر، فالقلم الذي كتب به المسئول الكبير مذكرته أنتجته الحضارة القائمة، والمطبعة التي طبعت له المذكرة صنعتها الحضارة القائمة، ومكبر الصوت الذي تحدث أمامه المسئول الكبير ليسمع الحاضرون قوله هو كذلك من إنتاج الحضارة القائمة، والمصابيح الكهربائية التي تومض بأضوائها في سقف القاعة لتمكنه من قراءة مذكرته، هي مما اخترعته الحضارة القائمة، والسيارة التي انتقل بها سيادته من مكتبه إلى مكان الاجتماع أمدته بها الحضارة القائمة، والله أعلم بمن نسج له قماش ثيابه التي يرتديها، فهي حتى لو كانت صناعة مصرية، فهي إنما صنعت بآلات اشتريناها من أصحاب الحضارة القائمة. وإنه لفخر لنا أن نتابع حضارة العصر في إنتاجها، فبأي معنى - إذن - وفي أي جانب من جوانب الحضارة القائمة يريد المسئول الكبير لحافظ القرآن الكريم أن يقاوم تلك الحضارة؟ ولماذا يقاومها؟ ألم يكن الأصوب أن نحمل حافظ القرآن على التزود بقوته ليتمكن من المشاركة في البناء الحضاري، حتى لا نظل إلى الأبد عالة على أصحابها؟
نعم، كان من الطبيعي بعد الهزيمة أن نكمن في ركن من أركان ماضينا المجيد حتى نستعيد قوانا، ونسترجع الثقة في أنفسنا، لكنه أبعد ما يكون عن الطبيعي أن نستطيب الإقامة في ذلك الركن، فنرقد بين جدرانه رقدة الموت.
أليس من الحكمة أن نستعرض في هدوء عاقل ما صنعته بلاد «الجنس الأصفر» اليابان أولا، فالصين ثانيا، فكوريا ثالثا، وقد يكون هنالك غيرها من ذلك الجنس الأصفر تقدم بمثل ما تقدمت به الثلاثة المذكورة، أقول: أليس من الحكمة أن ندرس في أناة وموضوعية ونزاهة، ما صنعته تلك البلاد لتنهض ذلك النهوض القوي، مما لم نصنع نحن مثله فلم نتقدم بمثل ما تقدموا؟ لتكن نتائج هذا ما تكون، لكني أرجح أن يكون من أهم تلك النتائج أن أبناء الجنس الأصفر لم يقعوا في مثل الازدواجية المخيفة التي وقعنا فيها نحن، فالكلام والكتابة في ناحية، والحياة العملية في ناحية أخرى. وقد يسألني سائل قائلا: وماذا يضيرك فيما نقوله وما نكتبه، ما دامت حياتنا العملية تسير في إنشاءاتها ومشروعاتها في الطريق الذي تريد لنا أن نسير فيه؟
الإجابة عن هذا السؤال لها شقان: أولهما أن هؤلاء الذين يتكلمون ويكتبون في اتجاه مضاد للتاريخ إنما هم في الحقيقة من صفوة من أنفقت مصر على تعليمهم ما أنفقت، فلو أنهم تكلموا وكتبوا في الاتجاه الحضاري، لكنا بمثابة من استثمر المال الذي أنفقناه في تعليمهم؛ لأنهم كانوا سيصبحون قوة دافعة إلى الأمام، بدل أن يكونوا كما هم الآن قوة تسير إلى الوراء فتؤدي إلى «فرملة» السرعة التي كنا نتمنى أن نتقدم بها، وأما الشق الثاني من الإجابة فهو أن هؤلاء الألوف ممن يعيشون على دعوتهم الرجعية، كان يمكن أن يكونوا هم أنفسهم من البناة الذين يشيدون المنشآت الحضارية، فهم على كلا الشقين قوة مهدرة على أقل تقدير، إن لم يكونوا إلى جانب ذلك قوة معرقلة، ولك أن تضيف إلى شقي الإجابة المذكورين أن تلك الفئة الكبيرة التي تنفق حياتها في كلام وكتابة لا يعينان أحدا على عمل إيجابي، نشيد به مسكنا، أو نخبز به رغيفا من الخبز أو ننسج به ثوبا . أقول إن تلك الفئة بما تقوله وتكتبه قد تؤثر في بعض شبابنا تأثيرا هداما كهؤلاء الشباب الذين يبلغ بهم التطرف حدودا نعرفها جميعا، وننكرها جميعا، ونقيم لها في وسائل الإعلام ندوات بعد ندوات، لعلنا نفلح في أن نمحو من أذهانهم ما كنا نحن أنفسنا الذين حفرناه في أذهانهم بما قلناه وما كتبناه.
Bog aan la aqoon