Waxaan Ka Hadlayaa Xorriyadda
عن الحرية أتحدث
Noocyada
الفصل الثالث
وهكذا انسابت خواطري
عن الحرية النزيهة أتحدث
كانت الساعة في قلب الضحى، وكنت فيها أهدأ ما يكون إنسان! نوافذ الغرفة زجاجها مزدوج، فلا أسمع إلا همهمة خفيفة من صخب الطريق. كانت السحب قد أفرغت ماءها، فراقت السماء وشف الهواء وامتدت الرؤية خلال زجاج النافذة إلى أقصى مداها. جلست مسترخيا لا أفكر في شيء، بل ولا أريد لشيء أن يشغلني فأفكر فيه، فلقد جئت هنا لأستريح، أحسست في جلستي تلك كأنني وعي صاف مجرد لا يستند إلى بدن؛ إذ تحولت بانتباهي إلى باطن نفسي عندئذ، لم أكن أرى سابحا على تيار ذلك الوعي الصافي ، سوى ما يشبه البقايا التي تخلفها وراءها عاصفة عاتية، ولقد كانت بالفعل عاصفة هوجاء ظالمة، لا عقل فيها ولا عدل، تلك التي مرت فطفت في تيار الوعي تلك البقايا.
كنت منذ ساعة واحدة، قبل تلك الجلسة المسترخية الهادئة، قد هممت بالكتابة عن فكرة ألحت وتريد أن أعبر بها البرزخ الحاجز بين الداخل والخارج، ولكني شعرت بالقلم يثقل حمله بين أصابعي، وكانت علة ذلك أني رأيت تلك البقايا السابحة على تيار الوعي في جوفي، فهي التي حملتني عندئذ على أن أسائل نفسي: أتكتب لمن يوشكون أن يطالبوك بأن تقسم لهم بأن السماء تكون زرقاء إذا صفت، وبأن في البحر ماء يضطرب بالموج إذا هبت الريح؟ أتكتب لمن جعلوا قلة الأدب برهانا على قوة الإيمان؟ لكني لم ألبث إلا دقائق حتى هدأت النفس واطمأن الفؤاد، فقد كان الشاتمون في غير أدب، وكان المعتدون في غير حق ولا عدل، هم أهلي، ولا حيلة لي في أهل بيني وبينهم صلات الرحم.
وفي أثر ذلك كانت تلك الجلسة المسترخية الهادئة، ومددت يدي إلى منضدة صغيرة بجانب مقعدي، والتقطت مذياعا أصغر حجما من الكف، وأدرت ترسه الصغير في أعلاه، فإذا بحديث لمتحدث يحسن صياغة الكلمات، ويجيد النطق إجادة تستبد بالسمع، فلا تستطيع لنفسك فرارا إذا أردت الفرار، وكان الحديث لمراسل الإذاعة في كوريا الجنوبية، يصف للسامعين ما قد بلغته كوريا من تقدم في علوم العصر وصناعته، حتى لقد باتت منافسة خطيرة، فهي إن لم تكن يابان أخرى، فهي بغير شك توشك أن تكون.
أعدت المذياع الصغير إلى حيث كان، ومررت بأصابعي على جبهة أخذت تند بالعرق الخفيف برغم هبوط الدرجة في حرارة الصيف، وذهب الهدوء عن النفس الهادئة، ولم يعد الفؤاد على طمأنينته التي كانت، وخرجت من شفتي آهة حزينة، يتبعها صوت يتعجب وهو يقول: كوريا! كوريا! لقد تعجبنا بالأمس أن يقال لنا عن اليابان وتقدمها ما يقال، ثم ألفنا أن تكون اليابان في طليعة الطليعة من دول العالم القوية الغنية العالمة المبدعة الصانعة، ثم تعجبنا بعدها أن يقال عن الصين وتقدمها، وهي التي ترزح أرضها تحت عدد من أبنائها زاد عن ألف مليون، ونحن الآن على وشك أن نألف أن تكون الصين قوة جبارة لا يجرؤ أحد على الاستهانة بها، ولكن كوريا! من الذي يستبعد بعد الآن أن يكون دور الجنس الأصفر في حمل مشعل الريادة في حضارة الإنسان الحديث قد دنا؟
وأنت يا مصر، أين أنت في معمعة الريادة الحضارية يا مصر؟ ألم يطرق العصر الجديد أبوابك منذ مائة وثمانين عاما؟ لقد فتحت له الأبواب مرحبة به، قبل أن تفعل اليابان ذلك بثمانين عاما، بل قبل أن تفعل ذلك روسيا! وقبل أن تحلم الصين مجرد الحلم أن تفعل ذلك، وها هي ذي كوريا تكاد تلحق بأختيها، وكأن نبوءة بسمارك قد اقتربت من التحقيق، إذ تنبأ - منذرا - وهو على فراش مرضه الأخير، قائلا لمن حوله: حذار من الجنس الأصفر، فهو على حافة اليقظة والوثوب!
وأنت يا مصر! افتحي صحائف التاريخ واقرئي، إن كنت قد نسيت، اقرئي لتعلمي أنه ما من حضارة شهدها التاريخ - قبل حضارة عصرنا هذا - إلا وكنت أنت منها في مكان الريادة، إنني إذ أقول ذلك أعرف معنى ما أقول، فحتى بعد أن ذهبت عنك ريادة المبدع الأصيل بذهاب العصور الفرعونية - ولا يغيبن عنك أن مداها في ذلك الإبداع الأصيل قد بلغ أربعين قرنا في أقل تقدير، بينما عصر الإبداع في الغرب الحديث مدته أربعة قرون - أقول إنه حتى بعد أن ذهبت عنك ريادة الإبداع الأصيل، فقد كان دأبك بعد ذلك أن تجيء إليك من خارجك ثقافة وحضارتها، فلا تلبثين طويلا حتى تتمثلي هذا الذي جاء إليك من خارج حدودك، لا لتكوني بهذا التمثل واحدة من الأتباع؛ بل إنك لتتمثلينه لتصبحي فيه الطليعة الرائدة، وهذا هو المعنى الحقيقي للعبارة التي نكررها بصدق، وأعني القول بأن مصر كانت دائما مقبرة لغزاتها، إنها لم تكن لهؤلاء الغزاة مقبرة بمعنى أنها تقاتلهم فتقتلهم فتقبرهم تحت ترابها، بل كانت مقبرة لهم بمعنى أنها تسود في ثقافتهم وفي حضارتهم، حتى أصبحت تشق الطريق أمامهم وهو يتبعون.
سقطت شعلة الفكر من أيدي اليونان القديمة، فالتقطتها الإسكندرية، لا لتحاكي ما قد أخذته محاكاة الولد لوالده، أو محاكاة التلميذ لأستاذه؛ بل لتتمثله ثم تضيف إليه من روحها، فإذا هو نتاج جديد لم تشهد له الدنيا مثيلا قبل ذلك، فما هو ذلك الذي التقطته الإسكندرية من اليونان؟ كان في الأساس علوما وفلسفة، فإذا بجامعة الإسكندرية يومئذ تدفع إلى الأمام ما تلقته من العلوم «العلوم الرياضية منها بوجه خاص»، ثم تنفث في الفلسفة المنقولة روحا دينية من روحها التي تدينت منذ فجر الزمان، وإذا بالناتج ضرب من فلسفة متصوفة لها طرازها الفريد، وهي التي اغترف منها العرب بعد ذلك إبان مجدهم ما اغترفوا، غير أنهم كانوا على ظن بأنهم إنما يغترفون من إناء اليونان، ولم يفرقوا في وضوح بين ما كان مصدره اليونان، وما كان مصدره مصر.
Bog aan la aqoon