لقد كان يزعم لنفسه أنه قد سلا وانقطع ما بينه وبين ماضيه وبلاده وأهله، ثم برز له أركماس في بعض دروب القاهرة ذات يوم شاهرا في وجهه السيف ليثأر منه لأبيه، فرده إلى ذلك الماضي بعنف وبسط لعينيه صحيفته، ولكن القدر لم يمهل أركماس حتى يبلغ غايته، فطواه الجمل الهائج تحت خفه ونجا الغوري. وعادت الأيام تسدل الستار بينه وبين ماضيه وبلاده وأهله، حتى أوشك أن ينسى، وابتسمت له الأيام بعد عبوس، فراح يرقى في سلك المماليك درجة بعد درجة، حتى بلغ المنزلة التي تنازعه فيها نفسه إلى العرش، كأن لم يكن يوما ذلك الشريد الأفاق المطلوب بالثأر من أقصى بلاد الأرض ...
ثم ... ثم ها هو ذلك الماضي ينبعث ثانية أمام عينيه كأنه حادثة اليوم، وها هو ذا فتى من بلاد الكرج - كان في ذلك التاريخ البعيد ذرة سابحة في صلب أبيه - قد جاء يرده إلى ذلك الماضي البعيد، يريه منه ما يرى الواقف على حافة بئر من قاعها العميق المظلم: لا يرى شيئا مما في القاع، ولكنه يرى أوهامه ...
وكان الفتى لا يزال يتحدث إلى مولاه ومولاه في غفلة من ذكرياته، قال طومان: ولم أر أبي؛ لأنه ذهب قبل أن أخرج إلى الدنيا ...
وانتبه الغوري فقال: لم تر أباك!
قال طومان: نعم، اختفى ذات مساء حيث لا يعلم أحد، وتظن أمي أنه راح يطلب ثأرا قديما، فلم يعد ...
واعتدل الغوري في مجلسه، وقال وفي وجهه أمارات الاهتمام والقلق: ولم تحدثك أمك أين راح أبوك يطلب الثأر؟
قال طومان: نعم، فإنها هي لم تكن تعرف، فقد كان ذلك سر أركماس وحده! كذلك كانت تقول لي أمي!
شحب وجه الغوري وهو يردد في صوت خافت: أركماس! أركماس.
وبلغ صوته أذن الفتى، فكف عن الحديث ورفع عينيه إلى وجه مولاه؛ ليرى الشحوب وأمارات القلق بادية في وجهه، كما لم يرها في وجه إنسان قط ...
فهتف في لهفة: سيدي! أنت تعرف أبي أركماس؟
Bog aan la aqoon