لنكونن إذن من أنصار اللا شهادة ما بقينا في هذه الفوضى الإطنابية. غير أننا لا يسعنا إلا الإعجاب بقلم يعالج الشعر والآداب في لغات ثلاث.
لا يذهلنا الآن أن يتكلم الشخص الواحد بثلاث لغات أو أربع، وأن يتكلم باعة الدكاكين وغلمان البواخر والمقاهي والفنادق بما يربو عليها، لعلمنا أنهم لا يستعملون إلا الكلمات المألوفة التي تفي بالأغراض السطحية. لا يذهلنا ذلك لتتابع الاحتكاك والاختلاط بين الأمم. بيد أنه ندر حتى بين مشاهير الشعوب من الأفذاذ من عرف أكثر من لغتين معرفة عبقرية. •••
عبقرية اللغات عبقرية مستقلة. هي حذق عميق رشيق ينفذ في أرواح الشعوب ويأوي إليها، ثم يتحول اتساعا وعلوا فيشملها. كأن الفرد الموهوب يتقمص في كل شعب يدرس لغته فيتوحد وإياه حيا بحياته ، ناطقا بلهجته، مدركا منها الخصائص والمستعصيات . ويفسر الروحانيون هذه الموهبة بما يفسرون به المواهب الأخرى والعبقريات. أعني نظرية الأعمار المتكررة بالتناسخ والتجسد بين شعوب مختلفة.
وقبل الإلماع إلى الشعر العربي والكلام عن شعر عائشة أعلم أن قولي لن يرضي أنصار القديم ولا أنصار الجديد. ولما كنت من ألين الطبائع عريكة كنت مستعدة لتغيير فكري بشرط أن يقنعني السادة المثقفون. وبعد فلنبدأ متوكلين على الله.
ليس أعسر من تعريف الملكة الشعرية وتحديد الشاعر. أصحيح أن الشعر كله رقة وعذوبة وإحساس وموسيقى دون تفكير ومعرفة وبحث وقوة؟ أم هو مزيج من كل ما تفنيه الحياة وتولده من المدركات والمحسوسات، سبك في قوالب متعددة وفقا لأنظمة بديهية تتملص كالشعر نفسه من حظيرة التفهم والإدراك؟
الشعر أحد أساليب التعبير عن خواطر وعواطف وحاجات ما فتئت الإنسانية تستوحيها وتنفعل بها. قليلة هي تلك المعاني الأساسية. بيد أن شعبها ومناحيها تذهب كل مذهب وتضرب من أعماق البحار إلى أقطاب الأرض، إلى فسيح السموات، إلى رحبات الزمن في الأزل منها والسرمد.
ولقد بدأت الهمهمة الشعرية عند كل قوم بوسيلة من الوسائل. عن طريق العبادة، أو تعظيم الأبطال، أو شكوى الآلام وبث الغرام. ويظهر أن الداعي إليها عند العرب هو سير الأظعان في البوادي وانتقال القوافل في وحدة القفار فاهتدوا إلى الحداء مستحثين الإبل في مستعر الرمضاء. فخفت الإبل سيرا وانتعش منها النشاط، وارتاح الحادون إلى النشيد يجدون فيه ملهاة عن المشقة وتسلية التعب والضجر. وتطرقوا بعدئذ إلى تنويع الموضوعات فتغنوا بمزايا المحبوب وشبهوه بما يعجبهم من خصائص الحيوان في الفلوات التي يجتازون. ووصفوا وحشة المضارب المتنقلة والآثار العافية، ومرارة الوداع والفراق. وعددوا مفاخر القبيل والنسب ولذائذ العشق والحرب والغزو والتطعين والإخضاع.
وكان من ثروة اللغة في الألفاظ والاستعارات «لكثرة القبائل المتكلمة العربية» مساعد على التزام البحر والقافية في تنظيم الحداء. فأوجد هذا في الشعر العربي طلاوة وغنى في الوتيرة الواحدة. وجزالة ونكهة بدوية ودقة لفظية تغرد بها دون غيره. ومنه كذلك جميع العيوب التي يسبح فيها شعرنا إلا القليل كما في بحر طام .
يصمم أكثر شعراء العرب على تقليد هذا الشاعر أو ذاك من القدماء بدلا من أن يجروا وراء سليقتهم الفردية، فينجم لنا «طبعات» جديدة مشوهة من الشاعر المقلد. ويخاطبوننا بلغة عصور خلت ونحن اليوم في عصر الحيرة والتردد والثورة الكبرى. فمن الإعجاب بالجزالة البدوية جاء حب النسخ والتقليد، وعنه نجم الفقر في الخيال العربي، والتقيد باللفظ دون المعنى، وجمع الفكرة في كل بيت بمفرده، والخلل في اتساق الخواطر، والقصور في تنظيم أجزاء الخطاب. حتى إنك كثيرا ما ترى وجوب جعل آخر القصيدة أولها ومنتصفها آخرها.
وعن التقليد نتج حصر الشعر في أبواب المدح والهجو والرثاء والحماسة والفخر والنسيب، والحكمة أحيانا. وعند ترتيب الدواوين على الحروف الأبجدية لأن التواني وشيوع الموضوع يفقدان كل قصيدة عنوانها كما يفقدان كل ديوان فهرسه. وعنه خصوصا نجم إهمال التاريخ في قصائد الشاعر ومؤلفات الكاتب. كأن نمو الفكر ومماشاة التطور دورا بعد دور شيء لا يلتفت إليه. مع أن معرفة التاريخ ليست دون معرفة الحوادث والمؤثرات وألسن البيئة أهمية في تفهم فصل أو كتاب. •••
Bog aan la aqoon