فالرجل الذي اختار يوم الهجرة بدءا لتاريخ الإسلام قد كان أحكم وأعلم بالعقيدة والإيمان ومواقف الخلود من كل مؤرخ وكل مفكر يرى غير ما رآه.
لأن العقائد إنما تقاس بالشدائد ولا تقاس بالفوز والغلب: كل إنسان يؤمن حين يتغلب الدين وتفوز الدعوة، أما النفس التي تعتقد حقا ويتجلى فيها انتصار العقيدة حقا فهي النفس التي تؤمن في الشدة وتعتقد ومن حولها صنوف البلاء.
وليس يوم أحق بالتأريخ إذن من اليوم الذي هجر فيه النبي بلده؛
إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم (التوبة: 40).
ليقل من قال إن التوقيت بما قبل الهجرة وما بعدها كان توقيتا معروفا على عهد النبي
صلى الله عليه وسلم ... وليقل من قال إن دخول المدينة هو المقصود بالتأريخ من الهجرة، وهو يوم عظيم ... ليقل من قال هذا أو ذاك، فإن تاريخ النصر في القرآن إذ هو «ثاني اثنين» في الغار.
وإن ابن الخطاب لنبيل ملهم الفؤاد - سواء كان هو المقترح أو مجيب الاقتراح - حين نظر إلى غار «ثور» ولم ينظر في التأريخ إلى نصر المدينة ولا إلى نصر بدر ولا إلى نصر أحد ولا إلى نصر فارس، ونظر إلى تلك «الجنود التي لم تروها» وقد نراها نحن الآن.
يوم الدعوة لم يكن يوم الإسلام الأول، لأن الدعوة كلمة يستطيعها كل إنسان ويستطيع النكول عنها بعد قليل أو كثير.
ويوم ميلاد النبي لم يكن يوم الإسلام الأول، لأن ميلاد محمد لم يكن معجزة الإسلام كما كان ميلاد عيسى معجزة المسيحية، ولأن محمدا بشر مثلنا في مولده. ولكنه سيد الرسل يوم دعا ويوم نجا بالدعوة إلى حيث تنجو وحيث تسود، وحيث يكون امتحانها الأول في قلب صاحبها وقلب صاحبه الصديق، وهما اثنان في غار.
كذلك تؤرخ العقائد والأديان؛ بالشدة تأريخها وليس بالغنائم والفتوح، وإنها لشيء في القلوب فلنعرفها إذن حين لا تكون إلا في القلوب، وحين يكون كل شيء ظاهر كأنه ينكرها وينفي وجودها، وهي يومئذ من الوجود في الصميم.
Bog aan la aqoon