وكان القائد ددف جالسا في خيمته وسط معسكر الجيش خارج أسوار مدينة منف، يطلع على خريطة لشبه جزيرة سيناء وسورها الكبير، والطرق الصحراوية المؤدية إليها، وكانت تشمل المعسكر حركة حياة صاخبة؛ فالخيل تصهل والعجلات تصلصل، والجند تذهب وتجيء، ويغشى الجميع نور الفجر الأزرق الهادي.
وقد دخل الضابط سنفر على القائد وحياه باحترام وقال: أتى رسول من لدن صاحب السمو الفرعوني الأمير رعخعوف، ويطلب الإذن بالدخول على سعادتكم.
فبدا الاهتمام على وجه ددف وقال: دعه يدخل.
فغاب سنفر لحظة ثم عاد يتقدم الرسول ثم غادر الخيمة، وكان الرسول يرتدي ثياب الكهنوت الفضفاضة التي تغطي الجسم من المنكبين إلى رسغي القدمين، ويضع على رأسه قلنسوة سوداء، ويرسل لحيته الكثة إلى ثغرة صدره، فعجب ددف لمرآه؛ لأنه كان يتوقع أن يلقى وجها مألوفا لديه من الوجوه التي يراها عادة في قصر ولي العهد، وسمع صوتا - خيل إليه رغم خفوته أنه لا يسمعه لأول مرة - يقول: جئت يا صاحب السعادة في أمر خطير، فأرجو أن تأمر بإسدال الستار على الباب، وبمنع الدخول إلى الخيمة بغير إذن.
فنظر ددف إلى الرسول نظرة فاحصة، وكاد يخالجه التردد، ولكنه هز منكبيه العريضين استخفافا واستهانة، ونادى سنفر وأمره بإسدال الستار على مدخل الخيمة، وبعدم السماح لإنسان بالدنو منها، وصدع سنفر بما أمر، وحين خلا المكان نظر ددف إلى الرسول وقال له: هات ما عندك.
ولما اطمأن الرسول إلى خلو الخيمة رفع عن رأسه قلنسوته السوداء، فبدا شعر أسود غزير هفت خصلاته فسقطت على المنكبين في ترنح ورسمت هالة حول رأس بديع، ثم امتدت يد الرسول إلى لحيته فأزالها برشاقة، وفتح عينيه اللتين كان يضيقهما بمشيئته، فسطع وجه مشرق تلألأ نورا في جو الخيمة مع أول شعاع أرسلته الشمس في فضاء الصحراء.
وطار قلب ددف في صدره، وهتف بصوت متهدج: مولاتي مري سي عنخ!
خف إليها كالطير المذعور، وجثا عند قدميها، ولثم أهداب ثوبها الفضفاض، وكانت الأميرة ترسل بناظريها إلى الأمام في خفر واستحياء، وينتفض جسمها اللدن كلما أحست بأنفاس الشاب الحارة تتسلل من نسج سروالها، وتهب على ساقها المعطرة ... ثم لمست رأسه بأناملها، وهمست بصوت خافت: «قم.» فقام الشاب تلمع عيناه بنور فرح بهيج، لم يسلس قط لبيان، وجعل يقول: أحقا هذا يا مولاتي؟ أحقا ما أسمع؟ وحقا ما أرى؟
فرنت إليه بنظرة استسلام كأنها تقول له: «غلبت على أمري فجئت إليك.» فقال الشاب: إن آلهة الأفراح جميعا تشدو في قلبي هذه الساعة، وقد أنساني شدوها عذاب الشهور وتسهيد الليالي، ورحضت أنغامها قلبي من مرارة القنوط وظلمات اليأس، رباه! من يقول إني أنا الذي هانت عليه الحياة بالأمس؟!
فبدا على وجهها التأثر، وقالت بصوت خافت كتغريد اليمام: أهانت عليك الحياة حقا؟
Bog aan la aqoon